دراسات وبحوث

دور المنطق في تجديد الخطاب العقدي عند الأشاعرة (4)

محمود محمد عليعرضا في المقال السابق التمييز بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين وتوصلنا إلي أن طريقة المتقدمين إلي أن المنطق فيها كان منطقا عربياً خالصا وتقوم علي فكرة الأخذ بقياس الغائب عن الشاهد، في حين كانت طريقة المتأخرين وتقوم علي الأخذ بالقياس الأرسطي المنطقي القائم علي الصلة الضرورية بين المقدمات والنتائج .

أما في هذ المقال الرابع فنتاول الطرق التي عالج بها كبار المتكلمين الأشعريين موضوعا المنطق اليوناني، وفي هذا نقول :  إذا كان الإسلام بعد فتحه العظيم للبلدان، قد واجه نحلا ومذاهب كثيرة، فإن تلك النحل والمذاهب كانت قد فلسفت مبادئها عشرات اللاهوتيين والفلاسفة، ولم تكن مجابهتها ومناقشتها أمراً سهلاً، إن مجرد حفظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتفسيرهما علي ظاهرهما المتلو، لم يكن كافيا لمواجهة المسارب العقلية الصحيحة والملتوية، وإثارتها لمئات من الأسئلة والقضايا الفكرية وكانت الحاجة ماسة إلي عقلية واعية ومنطق جديد يفهم كتاب الله وسنة رسوله، ويغوص في معانيهما ومقاصدهما ومراميهما، ويستخلص منهما ما أثاره أعداء الإسلام من البلبلة الفكرية والشكوك المطروحة والشبهات الكثيرة، ولا سيما أنها تجد أعوانا وعقولا ومسارب في حياة المسلمين .

كانت هذه هي الحاجة الفعلية التي دفعت معظم متكلمي وفقهاء الأشاعرة من أمثال " ابي الحسن الأشعري" و" الباقلاني" و" الجويني" و" الغزالي" و" الرازي" و"المدي" وغيرهم من أعلام المتكلمين، كي يواجهوا هذا الخطر الداهم بعد الجهد الذي بذله رجال المعتزلة الأوائل .

لذلك كله، استطاع الأشاعرة، وخاصة المتأخرون منهم، أن يرتبوا عقائدهم الدينية علي أصول عقلية، وأن يوجدوا لأنفسهم كلاما منطقيا مدققا، وأن يتقنوا المجادلة والمناظرة، حيث وجدوا أنهم لن يتمكنوا من مجاراة مخالفيهم من المسلمين وغير المسلمين، ولن تتهيأ لهم الغلبة عليهم إلا أن يهدموا مثلهم إلي دراسة الفلسفة والمنطق، ويستعينوا بها في دعم حججهم وتوقية آرائهم، فالأدلة النقلية بظاهر نصوصها الدينية وحدها، قد تكون أحيانا غير كافية لإفحام الخصوم وإلزامهم الحجة، وما لم تضع هذه الأدلة صياغة عقلية، فإنها تظل تفتقر إلي البراهين العقلية التي تسندها وتظهر صحة القضايا التي وضعت البراهين لإثباتها 

وهكذا أقبل الأشاعرة علي دراسة الفلسفة والمنطق، كيما يتأتى لهم أن يحاربوا خصوم الدين الإسلامي بنفس سلاحهم، ويخاطبوهم باللغة التي اعتادوا عليها وألفوها.

ولعل هذه الحاجة الماسة إلي المنطق، هي التي دفعت الغزالي إلي ربط المنطق بالدراسات الكلامية، ومن مظاهر ربطه المنطق بالدراسات الكلامية كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد"، والفكرة الرئيسية التي يدور حولها هذا الكتاب، هي وجوب استخدامنا لعقولنا عند فهمنا لنصوص الشرع، وذلك بأن نلتمس بين الطرفين ( أعني المنطق والفقه) طريقا تصان فيه أحكام الدين وأحكام العقل معاً، فلا يصح، من جهة أمن نجمد النصوص جمودا يجعلنا في تناقض مع منطق العقل .

كما لا يصح من جهة أخري أن نذهب مع منطق العقل إلي حد خروجنا علي النصوص الدينية، ولقد ختم الغزالي كتابه بفقرة تلخص موقفه هذا إذ قال في تلك الفقرة الخاتمة لكتابه :" ولنختم الكتاب بهذا، فقد أظهرنا الاقتصاد في الاعتقاد، وحذفنا الحشو والفضول المستغني عنه، الخارج عن أمهات العقائد وقواعدها وقواعدها، واقتصرنا من أدلة ما أوردناه، علي الجلي الواضح الذي لا تقتصر أكثر الأفهام عند دركه .

وكان من أهم العبارات دلالة ومن أقواها توضيحا لموقفه، هي كذلك من أهداها لنا نحن في عصرنا هذا، الذي أخذنا نتخبط فيه بين غلو المتطرفين وإسرافهم في تضييق الخناق علي أنفسهم وعلي الناس جميعا، هذه العبارات :" فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن، مثاله مثل المتعرض لنور الشمس، مغمضا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور علي نور " .

وهكذا أخذ الغزالي في كتابه هذا، يعاود القو مرة بعد مرة في وجوب التوفيق بين نصوص الشرع من جهة، وبين مقتضيات العقل أو المنطق من جهة أخري، وإذا كان الغزالي قد ربط المنطق بالدراسات الكلامية، فإن هذا المنطق لم يكن إلا المنطق الصوري القائم علي القياس لا المنطق المادي القائم علي الاستقراء ؛ فقد تحدث الغزالي عن نقاط الضعف في الاستقراء مبينا عدم صلاحيته في المباحث العقلية، فبدأ بتعريفه بأنه " تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها علي أمر يشتمل تلك الجزئيات "، ثم  نسبته لجزئيات أخري لم تكن في نطاق البحث مما يجعل نتيجته ظنية  ؛ وذلك لأنه لا يصلح في المباحث الإلهية، نظراً لاختلاف طبيعة كل من الغائب والشاهد، وقد عبر عن هذا المعني بوضوح تلميذ الغزالي وهو الآمدي، إذ يقول :" فلا يخفي أن ما حكم به علي أحد المختلفين غير لازم أن يحكم به علي الآخر، لجواز أن يكون من خصائص ما حكم به عليه، دون الأخذ وذلك كما إذا كمنا علي الإنسان بأنه ضاحك مثلا أخذ من استقراء جزئيات نوع الإنسان، فإنه لا يلزم مثله في الفرس لمخالف له في حقيقته" .

غير أن مثل هذا الاستقراء غير ممكن في مجال الإلهيات، إذ كيف يتناول البحث والنظر هذا (الغائب) المتعالي علي وسائل الإدراك العادية ؟ وحين يقدر لنا إدراك حقيقته فما أغنانا عندئذ عن تتبع أي جزئيات أخري في الواقع (الشاهد)؛ أي أن الآمدي يريد أن يقول أن هذا المنهج فيما يتصل بالمباحث الإلهية غير ممكن وغير مفد أيضاً، وحتي ولو كان ممكنا ( ولو قدر أن ذلك غير محال، فالاستقراء إما أن يتناول الغائب أو ليس، فإن تناوله فهو محل النزاع ولا حاجة إلي استقراء غيره وإن لم يتناوله، بل وقع لغيره من الجزئيات فهو لا محالة – استقراء ناقص، وليس بصادق كما بيناه، وهذا لا محيص عنه " .

وقد كرر الآمدي هذه الوجوه من النقد في مواضع عديدة من كتابه " غاية المرام في علم الكلام ".

وبعد هذا النقد الدقيق للاستقراء، يتوجه الغزالي إلي المنطق الصوري القائم علي التصورات والتصديقات، أعني المنطق الذي يكون مستقلا عن كل مضمون للمتكلم والفقيه والمحدث والمناظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات، لأن مهمته الوقوف علي كافة الحقائق وتمييزها من الأباطيل .

ومن أجل ذلك اتجه معظم مكلمي وفقها الأشاعرة، بعد الغزالي إلي إدخال بعض التعديلات علي موضوع المنطق، وحذف بعض كتب " الاورجانون العربي"، حتي يصلوا إلي المعني الصوري الخالص، حيث تكون عنايته متجهة نحو دراسة صور الفكر.

وقد عبر ابن خلدون عن هذا الأمر بوضوح في الذي عقده عن المنطق في مقدمته، حيث قال :" .. ثم جاء المتأخرون، فغيروا اصطلاح المنطق وألحقوا النظر في الكليات الخمس ثمرته، وهي الكلام في الحدود والرسوم نقلوها من كتاب البرهان، وحذفوا كتاب العبارة الكلام في العكس، لأنه من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه، ثم  تكلموا في القياس، من حيث إنتاج المطالب علي العموم لا بحسب مادته، وحذفوا النظر فيه بحسب مادته، وهي الكتب الخمسة : البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة، وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما، وأغفلوها كأن لم تكن، وهي المهم المعتمد في الفن، ثم تكلموا فيما وصفوه من ذلك كلاما مستبصرا ونظروا فيه، من حيث أنه فن برأسه، لا من حيث أنه آله للعلوم فطال الكلام فيه واتسع، وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب (الرازي)، ومن بعده أفضل الدين الخونجي وعلي كتابه معتمد المشارقة لهذا العهد، وله في هذه الصناعة كتاب " كشف الأسرار "، وهو طويل، واختصر فيه مختصر " الموجز"، وهو حسن في التعليم، ثم مختصر " الجمل " في قدر أربعة أوراق، وأخذ بمجامع الفن وأصوله، فتداوله المتكلمون لهذا العهد، فانتفعوا به، وهجرت كتب المتقدمين، كأن لم تكن، وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته " .

من هذا النص نستطيع أن نتبين موقف المتأخرين، فبينما أخذ الفلاسفة المشاؤون المسلمون (أعني الفارابي وابن سينا) المنطق علي أنه صوري ومادي معاً، نقول بينما كان موقف الفلاسفة المشائيين " المتقدمين " هو هذا، وهو أمر يمكن استنباطه من هذا النص، كان موقف المتأخرين مناقضاً لذلك، فقدوا أخذوا يدخلون بعض التعديلات علي موضوع المنطق، ويحذفون بعض محتويات الاورجانون، حتي يصلوا بالمنطق إلي المعني الصوري الخالص ؛ حيث تكون عنايته متجهة نحو دراسة صور الفكر.

ولهذا السبب غير المتأخرون اصطلاح، عما كان عليه عند المتقدمين وحذفوا الكتب التي كانت تتحدث عن المنطق بحسب مادته ولم يبقوا إلا علي تلك الكتب التي تؤدي إلي إنتاج المطالب علي العموم .

وهكذا اصطبغت الدراسات المنطقية بالصبغة الصورية الخالصة علي يد المتأخرون، وهو أمر كان له أثره علي طبيعة الدراسات المنطقية في الإسلام، إذ بدأ واضحاً لدي المتأخرين تحرير الدراسات المنطقية من الفلسفة، فالمنطق ليس جزء من الفلسفة، بل آلة للبحث العقلي بوجه عام، وهو آداه تعليمية ضرورية لجميع النظم المعقولة .

ونجد في مقدمة ابن خلدون وصفا لعملية الاستئناس الديني للمنطق ذكره نيقولا ريشر في كتابه "تطور المنطق العربي "؛ حيث قال :" إن علماء الكلام الحاليين منذ الغزالي، قد اعتبروا أفكار المناطقة عن التوافق العقلي أفكارا صحيحة، ولذلك قرروا أن المنطق لا يتعارض مع العقائد الإيمانية، حتي رغم أنه يتعارض مع بعض الحجج القائمة عليها، والواقع أنهم قد وصلوا إلي أن مقدمات علماء الكلام التأمليين كانت خاطئة لأن حجج علماء الكلام الـمليين علي القواعد الإيمانية استعاضت عما ثبت صحته من الحجج الأخرى بالتأمل، أو بالتفكير التمثيلي ( أي القياس)، وأقروا بأن هذا لا يتعارض مع أي وجه مع القواعد الإيمانية السلفية، وهذا ما قال به فخر الدين الرازي ومن قبله الغزالي، ومن تابعهم من معارضتهم .

ولقد قيل أن الفلسفة ليست وحدها التي هي بحاجة إلي المنطق، بل تحتاجه الرياضيات ويحتاجه الطب، بل يحتاجه حتي القانون وعلم الكلام ذاته، وكان هذا الأمر واحدا من الموضوعات لكتاب "ابن رشد (ت: 595هـ)"، وهو "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، ولقد أصح الرأي القائل بأن المنطق هو أداة يمكن تطبيقها بصورة شاملة لتمييز طرق التفكير الصحيحة من الطرق المغالطة، رأيا شائعا علي نطاق واسع، ومعترفا به من ثقاة الكتاب والباحثين والمؤرخين، من أمثال " ابن خلدون"، ولكن مما لا نزاع فيه أن أهم عامل منفرد أدي إلي الاعتراف بأهمية المنطق، وقبوله من الناحية الدينية، كان تدعيم الغزالي لهذا الرأي، فقد أكد أن المنطق هو آلة الفكرة، فهو لا ينطوي علي أي محتوي مذهبي من أي نوع، وبالأولي فليس فيه خطر علي الدين، فهو في الواقع الأداة التي يمكن وضعها لخدمة الأغراض الدينية، فلا وسيلة هناك للوصول لعلم إلا بالمنطق، فالمنطق ليس مقبولا من الناحية الدينية فحسب، بل هو في الواقع أمر جوهري .

إن فصل المنطق عن الفلسفة جعل منه علما آليا ؛ بمعني أنه ليس من علم القاصد، بل من علوم الوسائل التي لا ينبغي التوسع في دراستها علي حد تعبير ابن خلدون .

فقد ميز ابن خلدون بين صنفين من العلوم " علوم مقاصد "، وهي مقصورة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، وعلوم آلية وكون وسيلة لعلوم المقاصد، كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة، وربما كان آلة لعلم الكلام، ولأصول الفقه علي " طريقة المتأخرين".

ويري ابن خلدون :" بأنه لا حرج من التوسع والتفريع في علوم المقاصد، أما العلوم الآلية، فلا ينبغي أن ينظر فيها، إلا من حيث هس آلة، لأن المتكلمين اهتمامهم بعلوم المقاصد أكثر من اهتمامهم بوسائلها، فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل، فمتي يظفرون بالمقاصد ".

والان، قد نستطيع بنظرة شاملة في طريقة الأشاعرة في المنطق أن نقول بأنه مما لاشك فيه أن متأخري الأشاعرة، وبخاصة الغزالي، قد اهتم اهتماما كبيرا بالدراسات المنطقية، ولكن يبدوا أنه منذ نهايات القرن السادس الهجري، بدأ الحماس للتأليف والشروح يفتر شيئاً فشيئاً، وبدأ الاهتمام بالدراسات المنطقية الجادة، يفقد الكثير من الأنصار والمدافعين، ويبدو أن الذين كان عليهم الاهتمام بالمنطق في ذلك الوقت، وكانوا كثيرين، قد وجدوا أمامهم تراثا ضخما، من الترجمات والشروح تكفل به الأجداد، فما كان منهم , إلا أن راحوا يلخصونه، ويكتبون مادته المنطقية بغية حفظها، وبذلك افتقدنا الدراسات الجادة التي كنا نراها عند الغزالي .

ولا ينبغي إغفال الدور الهام الذي قام به الفخر الرازي في القرن السادس الهجري، حيث حاول أن يعيد إلي الأذهان أمجاد مدرسة الغزالي المنطقية، إلا أن الحال لم يستمر بعده، ولم تجد الدراسات من يواصل هذا الاتجاه في شكل متطور... وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم