دراسات وبحوث

دور المنطق في تجديد الخطاب العقدي عند الأشاعرة (5)

محمود محمد علينعود في هذا المقال الخامس ونكمل حديثا عن الطرق التي عالج بها كبار المتكلمين الأشعريين موضوعا المنطق اليوناني، وفي هذا نقول: ويجدر بنا أن نشير إلي الطرق التي انتهجتها مدرسة الأشاعرة، لتناول موضوعات، فعلي سبيل المثال استعمل الغزالي في تفصيله للمعاني وشرحه لألفاظ المنطق "المنهج التحليلي" الذي يرتكز علي ما أسماه المناطقة المسلمين "مباحث الاستدلال"، وهي تقوم علي أسس تحليلية طبقها الغزالي لتقصي معالم المنطق الارسطي وأبعاده . ولقد درج شراح أرسطو علي هذا المنهج، وبخاصة الفلاسفة المسلمون، أمثال الفارابي وابن سينا عندما تناولوا المنطق الصوري وفسروه .

وها نحن نذكرها هنا لنبين كيف تناول الأشاعرة  هذا المنهج، وذلك فيما يلي:

السبر والتقسيم:

اتبع مفكرو علماء الكلام، هذا المسلك في عرضهم وشرحهم لمختلف قضايا الفلسفة والكلام والشرع، فقد استعمله في كتابه " البرهان في أصول الفقه"، بقوله:  وهو أن يبحث الناظر عن معاني مجتمعه في الأصل ويتتبعها واحدا واحدا، ويبين خروج آحادها عن صلاح التعليل، إلا واحدا يراه ويرضاه" .

ولقد ساير الغزالي أستاذه الجويني في هذا المسلك، فقد تكلم عنه في معيار العلم، ثم في كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد "، عندما عرض لمناهج الأدلة بقوله معرفاً هذا المسلك:" هو أن يحضر الأمر في قسمين، ثم يبطل أحدهما، فيلزم منه ثبوت الثاني ".

وهذا ما فعله أيضا الفخر الرازي، كلما كانت تطرح أمامه مشكلة فيحللها من جميع جوانبها متتبعا دقائق معانيها، إلي أن يخرج برأي ينتقيه أفضل برهان يفند رأي المتكلمين، أن يثبته، ثم يصل في النهاية إلي الاستنتاج، وبهذا تنحل الحيرة فيكون قد طرح الحل النهائي بعد سبر جميع الحلول وتقسيمها .

2- المقابلة والحذف:

ويستعملها كبار علماء الكلام أيضاً في عرضهم لمنهجية تلخيص المنطق اليوناني، حيث نراهم يقابلون بين رأي " الفارابي وابن سينا "، فيحذفون منها البرهان الأضعف، ليحتفظوا بالأجدر والأفضل، ويظهر ذلك واضحا، حين يعرض الفخر الرازي لقيمة علم المنطق، حيث يعرض لرأي" الفارابي "، ثم رأي " ابن سينا"، ثم يحللهما ويقابل بينهما، وأخيرا يختار الرأي الذي يراه صحيحا، يقول " كان الشيخ " أبو نصر الفارابي " يسميه رئيس العلوم، وكان الشيخ " أبو علي (يعني ابن سينا) ينكر هذا الرئاسة . ويقول: إنه كالخادم للعلوم، والآلة في تحصيلها . وهذا البحث أيضا لفظي . فإن الرئيس إن كان هو الذي ينفذ حكمه علي غيره، ولا ينفذ حكم غيره عليه .فالمنطق رئيس العلوم بأسرها لأن حكم المنطق ناقد في كل العلوم، وشئ من العلوم لا يجري حكمه فيه وأن كان شرط كونه رئيسا أن يكون مقصودا لذاته، فالمنطق ليس كذلك .

وهناك وجه آخر لهذه الطريقة هي " طريقة القابلة " بين الآراء والنقاش الذي جري حول مسائل المنطق الأرسطي، فنجد " الفخر الرازي" في كتاباته المنطقية يقيم حوارا غير مباشر يمر عبره بين أرسطو وشراحه المسلمين أو بينه وبين هؤلاء الشراح، مستندا إلي ما كتبوه حول منطق أرسطو، ويبدو ذلك واضحا حين يناقش ويحاور المناطقة في قضية تعريف اللفظ والمركب حيث يقول:" اعلم أن الحكيم " ارسطاطليس " قال:" اللفظ المفرد هو الذي لا يدلنا جزء منه علي شئ أصلاً . فأوردوا عليه سؤالاً . وقالوا: هذا يشكل بقولنا " عبد الله " فإنه لفظ مفرد، مع أن له جزئين، وكل واحد منهما دال علي معني . وأجاب المناصرون لقوله عن هذا السؤال بجواب حق . فقالوا إن قولنا " عبد الله " قد يذكر ويراد به جعله اسم علم .وقد يذكر ويراد به جعله نعتا وصفه . فإن أردنا به الأول، فهو لفظ مفرد، ولكن لا يبقي لشئ من أجزائه دلالة أصلا . لأن العلم هو اللفظ الذي جعل قائماً مقام الإشارة إلي ذلك الشخص المعين، من حيث أنه ذلك المعين، ولهذا قال النحويون "أسماء الأعلام" لا تفيد فائدة في المسميات البتة، بل هي قائمة مقام الإشارات، وإذا كان كذلك، فقد ظهر أن " عبد الله " إذا جعل اسم علم، فإنه لا يكون لشئ من أجزائه دلالة علي شئ أصلاً أما إذا أردنا أن نجعل قولنا " عبد الله" نعتا وصفه . فهو بهذا الاعتبار مركب لا مفرد . وهذا جواب عن السؤال المذكور:

ومن الناس من ترك تعريف اللفظ المفرد بذلك الوجه، بل هذا: هو الذي لا يدل جزء من أجزائه، علي جزء من أجزاء معناه . وهذا القائل إنما اختار هذا الوجه فرارا من ذلك السؤال . فإن قولنا " عبد الله " إن كل واحد من جزئه علي شئ، لكنه لم يدل شئ من أجزاء هذه الكلمة علي شئ من أجزاء هذا المعني . لأن هذا اللفظ إذا جعل اسم علم، كان مسماه هو ذلك الشخص ولا يمكن أن يقال: إن قولنا " عبد" يدل علي بعض أجزاء ذلك الشخص . وقولنا " الله" يدل علي نعته الآخر . فثبت أن قولنا " عبد الله" لا يفيد شئ من أجزائه شيئا من أجزاء معناه . وأعلم أن اختيار الشيخ الرئيس ( يعني ابن سينا)  في "الشفاء " و" الاشارات" هو الوجه الأول، واختياره في هذا الكتاب هو هذا الثاني . ولا منافاة بين القولين، لأن لكل أحد أن يفسر لفظه بما شاء .

مما سبق يتضح لنا الكيفية التي عالج بها الأشاعرة موضوعات المنطق اليوناني، وقد تأثروا فيها بفلاسفة المسلمين .

وهنا ننتقل إلي معالجة نقطة أخري مهمة مهي، كيف نشأ المنطق عند الأشاعرة في ظل شروح الفلاسفة المسلمين، وبخاصة " ابن سينا " علي الاورجانون الأرسطي، خاصة بعد أن رأينا  كيف نشا الفقه عند الأشاعرة من خلال المذهب الشافعي الذي كانوا يعتنقونه، ثم عرضنا بعد ذلك لكيفية دخول المنطق الأرسطي في الفقه عند الأشاعرة عن طريق الغزالي، ثم اتضح لنا كيف كان الإمام الجويني يمثل حلقة الوصل بين طريقتين: طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين . وفيما يخص طريقة المتقدمين نلاحظ أن قلة ما وصل إلينا حتي اليوم من مؤلفاتهم المنطقية تخول لنا القول بشئ من الحذر أنه لم يكن لدي أصحابها فيما بين أيدينا اليوم من هذه المؤلفات اهتمامات منطقية بشكل واضح، وإنما يغلب علي طريقتهم الأسلوب الجدلي الذي أخذت مبادؤه من نفس طرق البحث والتفكير والاستدلال المتبع في الفقه والنحو، بمعني أن طريقة المتقدمين ترفض الاستغاثة بالمنطق الأرسطي في أبحاثهم واستنباطاتهم الفقهية . أقول هذا لأن بعض المتقدمين أمثال " أبا الحسن الأشعري " و" أبي بكر الباقلاني " و" ابن فورك" ( ت: 406هـ) لم تصل بعض أعمالهم الفقهية عند هؤلاء المتقدمين من الأشاعرة، ولم يكتب لها البقاء ومازلنا نفتقدها حتي اليوم .

أما طريقة المتأخرين، فقد حال أصحابها ربط بحوثهم الفقهية بالمناهج والأقيسة الأرسطية .

ونريد هنا في هذا الفقال، عرض قضية العلاقة بين المنطق والفقه عند كبار الأشاعرة بأبعادها المختلفة، وبيان موقف كل من هؤلاء، من هذه القضية ليتضح لنا مدي اسهاماتهم في توثيق هذه العلاقة وإثرائها عبر القرون المتلاحقة .

ونبدأ فنتكلم عن  العلاقة بين المنطق والفقه عند الجويني  وفي هذا يمكن القول: إن مرجعيتنا في الحديث عن طبيعة العلاقة بين المنطق والفقه عند الجويني، تتمثل في كتابه المعروف " البرهان في علم أصول الفقه "، الذي وقف فيه موقفاً وسطاً بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين ؛ فهو يتحدث عن الأقيسة الفقهية التي وردت عند المتقدمين والمتأخرين، ومن بين هذه الأقيسة علي سبيل المثال لا الحصر:-

1- قياس الشبه: ويعني تشبيه الشئ لأشياء خاصة يشتمل عليها من غير التزام كونها مخيلة مناسبة . ثم يقسمه الجويني إلي قياس من الأعلي إلي الأدني، وقياس من الأدني إلي الأعلي .

2- قياس المعني: وهو الذي يرتبط الحكم به في معني مناسب للحكم مخيل مشعر به .

3- قياس الطرد: وهو الذي لا يناسب الحكم، ولا يشعر به، ولو فرض ربط نقيض الحكم به لم يترجح في مسلك الظن، قبل البحث عن القوداح النفي علي الإثبات .

4- قياس العكس: ويعني انتفاء الحكم لانتفاء العلة، ويذكر الجويني، بأن الأصوليين استدلوا بأن الغرض الأقصى منه النظر، والمباحثة عن العلل غلبة الظن، وهذا المقصود يظهر جداً فيما يطرد – من غير انتقاص – وينعكس وكأن الحكم يساوقه إذا وجد وينتفي إذا انتفي، ولذا غلب علي الظن تعليق الحكم المتفق عليه في الأصل المعتبر ؛ بمعني فلم يبطل كونه عله بمسلك من المسالك، فقد حصل الغرض من غلبة الظن، وعدم الانتقاض وينزل ذلك منزلة الإحالة السليمة لدي العرض علي الأصول.

6- قياس العلة: وهو عكس قياس الدلالة، ويعني استنباط المعاني المخيلة المناسبة من الأحكام الثابتة في مواقع النصوص والإجماع، ثم إذا وضح ذلك علي الشرائط الفقهية، وثبتت تلك المعاني في غير مواقع النص، سلمت عن المبطلات ؛ فهذا القسم يسمي قياس العلة، وهو علي التحقيق بحر الفقه ومجموعه، وفيه يتنافس النظار .

7- السبر والتقسيم: ومعناه علي الجملة أن الناظر يبحث عن معاني مجتمعه في الأصل، ويتتبعها واحدا واحدا، ويبين خروج آحادها عن صلاح التعليل به، إلا واحدا يراه ويرتضاه  .

هذه هي الأقيسة التي ذكرها الجويني عند المتقدمين والمتأخرين، ونلاحظ هنا أن الجويني متأثر بالنزعة المنطقية التي كانت توجد لدي الإمام الشعري، وإن كان ينتقد طرائق المتقدمين عليه في الاستدلال، ويظهر ذلك في عرضه لبعض الطرق الاستدلالية التي كان يستعملها المتكلون والأصوليون قبل أخذهم بالمنطق اليوناني، ومن بين هذه الطرق الاستدلالية:

- قياس الغائب علي الشاهد .

- إنتاج المقدمات للنتائج .

- الاستدلال بالمتفق عليه علي المختلف فيه .

- السبر والتقسيم .

يقول الجويني:" رتب أئمتنا أدلة العقل ترتيباً ننقله، ثم نبين فساده ونوضح مختارنا فنكون جامعيين، بين نقل تراجم المذاهب، والتنبيه علي الصواب منها . قالوا: أدلة العقول تنقسم أربعة أقسام: أحداها: بناء الغائب علي الشاهد، والثاني: إنتاج المقدمات النتاج، والثالث: السبر والتقسيم، والرابع: الاستدلال بالمتفق عليه المختلف فيه " .

ويشرح الجويني كل قسم من هذه الأقسام علي حده، ثم يعقب بنقده عليه، فيقول:" فأما نحن فلا نرتضي شيئاً من ذلك . فأما بناء الغائب علي الشاهد فلا أصل له، فإن التحكم به باطل وفاقاً والجمع بالعلة لا أصل له، إذ لا معلول ولا عله عندنا، وكون العالم عالما هو العلم بعينه . والجمع بالحقيقة ليس بشئ، فإن العلم الحادث مخالف للعلم القديم، فكيف يجتمعان في الحقيقة مع اختلافهما ؟

ويستطرد الجويني فيقول:" والقول الجامع في ذلك: أنه إن قام دليل علي المطلوب في الغائب فهو المقصود ولا أثر لذكر الشاهد، وإن لم يقم دليل علي المطلوب في الغائب، فذكر الشاهد لا معني له، وليس في المعقول قياس. اما المقدمة والنتيجة فلست أري في عد ذلك صنفا من أدلة العقول معني، وحاصل للفصل بين النظري، إذ العلوم كلها ضرورية . والاستدلال بالمتفق علي المختلف لا أصل له، فإن المطلوب في المعقولات العلم ولا أثر للخلاف والوفاق فيها . وأما السبر والتقسيم فمعظم ما يستعمل منه باطل، فإنه لا ينحصر في نفي وإثبات كقول من يقول لو كان الإله مرئيا لرأيناه الآن، فإن المانع من الرؤية القرب المفرط أو البعد المفرط أو الحجب إلي غير ذلك مما يعدونه، وهذا الفن لا يفيد علما قط،ويكفي في رده قول المعترض: بم تنكرون علي من يثبت مانعاً غير ما ذكرتموه فلا يجد السابر المقسم من ذلك محيصاً ".... وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم