دراسات وبحوث

ابن السيد البطليوسي.. العالم النحوي الذي نشأ معية الفلاسفة

محمود محمد عليذكر ابن طملوس الأندلسي في كتابه "المدخل لصناعة المنطق" بأن كتب أبو حامد الغزالي وجدت قبولا عظيما لدي أهل الأندلس بسبب تبني أبو بكر بن العربي (صاحب العواصم القواصم) وتبني محمد بن تومرت لفكره أثناء تواجدهما خلال رحلة العلم إلي المشرق، فنقلو كتب الغزالي كما يذكر ابن طملوس " واختفي ما كان عساه أن يشكل شقاً لمعارضته بشدة، كما حدث بالمشرق؛ بل قد راجت كتبه، وأخذ الناس في قراءتها وأعجبوا بها وبما رأوا فيها من جودة النظام والترتيب الذي لم يروا مثله قط في تأليف، ولم يبق في هذه الجهات من لم يغلب عليه حب كتب أبي حامد الغزالي ".

ومن بين تلك الكتب كتبه في المنطق، ويظهر أن كتب المنطق قبلها لم تصل بلاد المغرب إلا نادراً، كما يفهم من كلام ابن طملوس؛ حيث يقول:" فلما أردت مطالعتها (أي كتب المنطق) لم يكن يبدي قبلها كتاب أنظر فيه، غير أني عندما تصفحت كتب أبي حامد رأيت من تلويحاته وإشاراته، التي تكاد أن تكون تصريحاً أن له فيها تأليف، فأطلعت علي هذه الكتب المذكورة من كتب أبي حامد

بعد هذه التهيئة النفسية والذهنية لتقبل المنطق وإدخاله في الدراسات الفقهية والنحوية التي استغرقت ما يقارب القرن، أصبح المنطق أحد العلوم التي تؤخذ من المشرق، حينما يرتحل أهل المغرب إليه لأجل الدراسة، وأصبح النحاة يدرسونه كسائر العلوم التي يدرسونها، وربما تكون البادرة الأولي البارزة في ذلك ما تمثل لابن السيد البطليوسي الذي تميز بثقافة فلسفية إلي جانب ثقافته اللغوية النحوية، وقد ألف في هذا الباب كتابه " الحدائق في المطالب العالية الفلسفية " وذكرت له المصادر أيضاً كتاب " شرح الخمسة المقالات الفلسفية "، وكذلك " إصلاح الخلل الواقع في الجمل" وفي هذا الكتاب الأخير تناول ابن السيد مسائل نحوية كثيرة واستخدم فيها معرفته المنطقية وتصدي بهذا النهج لكثير من علماء النحو والمنطق؛ حيث أورد تعريفات أبي القاسم الزجاجي وغيره إضافة إلي تعريفات بعض المناطقة للاسم والفعل والحرف وغيرها، واعتبر كثيراً من التعريفات قاصرة عن تحقيق الغاية لأنها لا ترقي إلي درجة التعريف بالحد وعدها من ثم تعريفات بالرسم "، ومثال هذا أن الزجاجي قد عرف الاسم بأنه ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً أو دخل عليه حرف من حروف الجر، ويعلق ابن السيد علي هذا التعريف وغيره بأن القوم قد: "حدوا الاسم بحدود لا تستغرق أقسامه " .

كذلك تناول ابن السيد تعريفات المناطقة الاسم، فاستعرضها ورأي أنها قاصرة أيضاً عن الإحاطة بأقسام الاسم، ومثل ذلك تعريف " أبي يعقوب الكندي (185هـ-256هـ)" وجماعة من المنطقيين الذين ذهبوا إلي أن الاسم:" صوت موضوع بإتقان لا يدل علي زمان معين، وإن فرقت أجزاؤه لم تدل علي شئ من معناه ". ويقول ابن السيد:" إن هذا التعريف غير صحيح لأنه ينطبق أيضاً علي الحرف .

أما ابن المقفع فقد حد الاسم في كتابه الموضوع في المنطق بأنه " الصوت المخبر الموضوع غير المؤقت الذي لا يبين الجزء منه عن شئ من المسمي "، ويري ابن السيد أن هذا غير واضح . فإذا ما وصلنا إلي الفارابي وجدنا ابن السيد يوافق علي التعريف ويقول:" لم نر فيه لأحد من المنطقيين حداً أحسن ولا أثقف من تحديد أبي نصر الفارابي فإنه قال: الاسم لفظ دال علي معني يمكن أن يفهم بنفسه وحده من غير أن يدل ببنيته لا بالعرض علي الزمان المحصل الذي فيه ذلك المعني " . ومن هنا يقدم ابن السيد تعريفه الخاص للاسم فيقول:" الاسم كلمة تدل علي معني في نفسها غير مقترن بزمان محصل يمكن أن يفهم بنفسه ".

وننتقل إلي الفعل حيث يعترض ابن السيد علي تفسير الزجاجي للفعل، وذلك حين قسم الأفعال إلي قسمين: ماضي ومستقبل، ورأي ابن السيد في هذا مغالطة وإنكار للفعل الحاضر وتشبهاً بدعوي السوفسطائية الذين شككوا في الحقائق، ومن جملة ما شككوا فيه " الزمن " حين رفضوا وجود الحاضر، ويقول ابن السيد:" أن يقال لقائل هذا: هل أنت موجود الآن أو غير موجود فإن قال إنه موجود ولا يمكنه أن يقول غير ذلك. قيل له: أفي زمان ماضي أنت الآن، أم في زمان مستقبل ؟ فإن قال إنه في احدهما قيل له: فأنت إذن معدوم موجود في حال واحدة . ويجب أن يقال له إذا كنت موجوداً كلمناك في هذه المسألة لأنك الآن معدوم، وإن قال: ليت في ماض، ولا مستقبل أثبت واسطة بينهما، وناقض .

ويري ابن السيد أن الفرق بين الماضي والمستقبل دقيق للغابة، فالفعل الحاضر يتمتع بالديمومة، ومن ثم لا يلبث أن ينقلب إلي المستقبل ليصبح جزءاً منه ماضياً . فالزمن عنصر سيال لا يثبت علي حال ولا يجمد عند طرف .

ويقسم ابن السيد الزمان إلي قسمين: (أ) زمان نحوي: وهو القسمة المعروفة: ماضي وحاضر، ومستقبل . (ب) زمان فلسفي تكون فيه الحدود غير دقيقة إذ يتمتع بالديمومة وعدم الثبات بحيث يصير الزمان بعناصره الثلاث كانه كتلة واحدة متلاحمة الأجزاء، يصعب الفصل بينهما فيلتبس علينا وجود الحاضر، إذ يصعب استخراجه من تيار الزمن العام .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي أن ابن السيد يري أن المنطق وثيق الصلة بالنحو، ذلك أن "بين الصناعتين مناسبة من بعض الجهات "، ولا ينبغي أن تقودنا هذه الصلة إلي اعتبارهما متماثلين، فلكل صناعة قوانينها الخاصة، ويقص علينا ابن السيد في هذا الصدد حادثتين، الأولي: عن مسألة تنازع فيها مع الفيلسوف " ابن باجة " (المتوفي سنة 522هـ أو 523هـ ) الذي كان معاصراً حيث أخبره ابن باجة بأن قوماً من نحويي سرقسطة اختلفوا في قول "كثير":

وأنت الذي حببت كل قصير          إلي وما تدري بذلك القصائر

عنيت قصيرات الحجال ولم أرد       فصار الخطأ شر النساء البحاتر

فقال بعضهم " البحاتر" مبتدأ و" شر " خبره، وقال بعضهم يجوز أن يكون " شر النساء" هو المبتدأ و" البحاتر " خبره. وأنكرت هذا القول وقلت لا يجوز إلا أن يكون " البحاتر" هو المبتدأ و" شر النساء" هو الخبر (ضمير القول عائد لابن باجة)، فقلت له الذي قلت هو الوجه المختار، وما قاله النحوي الذي حكيت عنه جائز غير ممتنع فقال: وكيف يصح ما قال وهل غرض الشاعر إلا أن يخبر أن " البحاتر شرالنساء" وجعل يُكثر من ذكر الموضوع والمحمول ويورد الألفاظ المنطقية التي يستعملها أصحاب أهل البرهان، وكان رد ابن السيد عليه أنه لا يجوز إدخال صناعة في صناعة أخري، وفي صناعة النحو " مجازات ومسامحات لا يستعملها أهل المنطق، وهناك خصوصيات نحوية لا مكان لها في المنطق .

وصناعة النحو قد تكون فيها الألفاظ مطابقة للمعاني وقد تكون مخالفة لها إذ ا فهم السامع المراد فيقع الإسناد في اللفظ إلي شئ وهو في المعني مسند إلي شئ آخر " فجيز النحويون في صناعتهم " أعطي درهم زيداً، ويرون أن فائدته كفائدة قولهم: أعطي زيداً درهماً " فيسندون الإعطاء إلي الدرهم في اللفظ وهو مسند في المعني إلي " زيد" فهذه الألفاظ غير مطابقة للمعاني، لأن الإسناد فيها إلي شئ، وهو في المعني إلي شئ آخر . أما في القضايا المنطقية فالأمر مختلف عن هذا، فهناك قضايا تنعكس فيصير موضوعها محمولاً ومحمولها موضوعاً، والفائدة في الحالين واحدة، وصدقها وكيفها محفوظان عليها فإذا انعكست القضية ولم يحفظ الصدق والكيفية سمي ذلك انقلاب القضية لا انعكاسها مثال المنعكس من القضايا قولنا:" لا إنسان واحد بحجر "، وعكسها " لا حجر واحد إنسان" . وهذه القضية قد انعكست موضوعها محمولاً، ومحمولها موضوعاً والفائدة في الأمرين واحدة . ومن القضايا التي لا تنعكس قولنا:" كل إنسان حيوان "، فهذه القضية صادقة إذا صيرنا المحمول موضوعاً أصبحت: "كل حيوان إنسان" فعادت قضية كاذبة .

وهنا يري ابن السيد أن علم النحو تظهر فيه اختلافات ومسامحات واجتهادات ليست موجودة في علم المنطق الذي ينبني علي قواعد ثابتة مؤتلفة لا مجال لتجاوزها، وهي المشكلة التي أثارها مع ابن باجة، فبينما يريد ابن باجة أن يوحد بين قواعد النحو والمنطق، دلل ابن السيد علي أنه لا يمكن الأخذ بذلك لأنه لا يجوز إدخال قوانين صناعة في صناعة أخري، ولأن لعلم النحو خصوصية وتميز ليست لعلم المنطق، فقواعد النحو خاصة مرنة، بينما قواعد المنطق ثابتة عامة، وهذا هو نفس ما أكد عليه من قبل "أبو سليمان السجستاني (ت:380هـ) ".

وهذه الثقافة المنطقية الواسعة التي تميز بها ابن السيد قد ألقت بظلالها علي الكثير من نحاة الأندلس، ومن هؤلاء "ابن سيده"، وهو يعد أكبر عقلية أندلسية عملا في فن المعاجم، كان ممن عني بعلوم المنطق عناية طويلة؛ حيث أثرت الفلسفة والمنطق في نشاطهم العلمي.قال القاضي صاعد:"وألف فيها تأليفاً كبيراً مبسوطاً ذهب فيه إلي مذهب متي بن يونس، وهو بعد هذا أعلم أهل الأندلس قاطبة بالنحو واللغة والأشعار وأحفظهم لذلك حتي إنه يستظهر كثيراً من المصنفات فيها، كغريب المصنف، وإصلاح المنطق " .

ويتحدث ابن سيدة في معرض الفخر بما يحسنه من العلوم فيقول:" وذلك إني أجد علم اللغة أقل بضائعي وأيسر صنائعي إذا أضفته ما أنا به من علم حقيق النحو وحواشي العروض وخفي القافية وتصوير الأشكال المنطقية والنظر في سائر العلوم الجدلية التي يمنعني من الأخبار بها نبو طباع أهل الوقت، وما هم عليه من رداءة الأوضاع والمقت .

وكان أبو الوليد الوقشي الطليطلي " من المقننين في العلوم المتوسعين في ضروب المعارف من أهل الفكر الصحيح والنظر الناقد والتحقق بصناعة الهندسة والمنطق  وكانت لسعيد بن الأصفر أحد علماء اللغة مشاركة في المنطق . ولا ننسي أبا الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني فإنه كان عالماً في اللغة مشتغلاً بعلوم الأوائل وبخاصة المنطق، وكانت تجري بينه وبين ابن حزم مناظرات في بعض الموضوعات الفلسفية وعليه أطلق ابن حزم صفة الملحد.

ولا تحدثنا المصادر بشئ عن ثقافة ابن الأفليلي المنطقية الفلسفية، ولكنها تقول أن ابن الأفليلي لحقته تهمة في دينه مع آخرين من الأطباء فأخذ وسجن . ويدل نص ابن بسام حين يقول:" ولحقته تهمة في دينه "، علي أن الأمر كان متصلاً بشئ من دراسة الفلسفة والمنطق . وهؤلاء الذين يسميهم ابن بسام الأطباء لا يمكن أن نفهم سبب تتبعهم إلا أن فهمنا أن اللفظة تعني الفلاسفة أو المشتغلين بعلوم الأوائل، إذ لم يحدث أبداً أم كان الأطباء محط تهمة أو هدفاً لاضطهاد الحكام . ولا بد أن تكون هذه التهمة كذلك، أعني ذات صلة بالدراسات الفلسفية، وإلا لما استطعنا أن نوفق بين معني التهمة في الدين وبين قول فقيه محدث مثل ابن بشكوال في الثناء علي ابن بشكوال في الثناء علي ابن الافليلي:" وكان صادق اللهجة حسن الغيب صافي الضمير حسن المحاضرة مكرماً لجليسه".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم