دراسات وبحوث

شبهة تكفير الأنظمة والمجتمع عند سيد قطب

بدر الدين شيخ رشيدانتقد كثير ممن بحثوا إشكالية الحاكميّة على سيد قطب بأنه المغذي لحركات العنف والتطرف، وبالتالي فهو يغذي أصحاب النظرة التكفيرية، بينما نجد من يدافع عنه محتجا لذلك، أن منتقدي سيد قطب، لم يفهموا مقصوده من الحاكميّة، وهي مشكلة أشار إليها جمال سلطان على هذه الرؤية، حيث يقول: «مشكلة التعاطي مع تراث سيد قطب ومنهجه هو مشكلة قُرّائه؛ لأن كل قارئ كان يأخذ من الرجل ما يشتهي»[1]، بل يصفه فكر سيد قطب بأنه «اللحظة الفارقة في تاريخ الفكر الإسلامي والعربي الحديث، بحيث يمكن أن يؤرخ المؤرخون للفكر العربي والإسلامي الحديث بهذه اللحظة، ما قبل سيد قطب وما بعد سيد قطب»[2].

وينبغي أن نشير إلى أن أهمية فهم مفهوم الحاكمية عند سيد قطب، يحتاج إلى لمّ وجمع أطراف كلامه، ثم استنتاج مغزى مراده من الحاكمية بعد ذلك، وأظن أن المشكلة أخذت أبعادا مختلفة في النقاش حول إشكالية الحاكميّة بسبب إشكالية الدولة المطروحة لدى النخب الفكرية في العالم الإسلامي، وبالتالي تباينت وجهات النظر فيما بينهم، فهناك من يبرر الدولة القومية، وهناك من يدعو إلى الدولة الديموقراطيّة والليبرالية، وهناك من يدافع على الأوضاع الراهنة بحجة ما يترتب بالخروج على المستبدين من المفاسد، بالإضافة إلى وجود من ينادي بإعادة الخلافة الإسلاميّة.

علاوة على ذلك، ينبغي أيضا أن ندرك أن الكلام دائما يحكم على حسب سياقه الكلامي والزماني، فسيد قطب في أي عصر عاش وفي أي لحظة كتب كتاباته؟. لا شك أنه كتب في عصر صراعات الأيدلوجيات المعادية للإسلام، فهو يحكم بالجاهلية على تلك الأيدلوجيات، لا على أشخاص ولا فئة ولا جماعة بعينها، إذن، فهو يحكم بالجاهليّة على الأنظمة التي قامت في العالم الإسلامي بعد الخلافة العثمانية.

ومن خلال هذا الصراع ظهرت الحاكمية، كبديل يجاري الأيدلوجيات الأخرى، كالقومية، والاشتراكية، والديمقراطية، والوطنية، والعلمانية، واليبرالية، وغيرها من المفاهيم الأخرى التي ظهرت أخيرا كالعولمة.

كما أننا سنناقش شبهة التكفير وإشكالية الحاكمية عند سيد قطب من أربعة جوانب:

التحكام إلى غير ما أنزل الله.

الجاهلية لا تستلزم الكفر.

عبارات سيد قطب الموهمة بالتكفير.

شهادات بعض المفكرين الذين دافعوا عن سيد قطب.

مناقشة جوانب شبهة التكفير عند سيد قطب:

الأول: التحاكم إلى غير ما أنزل الله:

اعتبر سيد قطب التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أعمال الجاهلية التي تؤدي إلى الكفر، ومفهوم الكفر عند أهل السنة له اعتبارات مختلفة، فيقال: كفر عملي وكفر اعتقادي، كما يقال: كفر دون كفر، وكفر يخرج صاحبه من الملة، فالتحاكم إلى غير ما أنزل الله عند سيد قطب يدخل تحت دائرة الكفر العملي، أو كفر دون كفر، وليس الكفر الذي يخرج صاحبه من الملة، ويدل على ذلك إطلاق سيد قطب التحاكم إلى غير ما أنزل الله من الجاهلية، أو من المنكرات، ويظهر ذلك جليا في تفسير هذه الآية: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[3]،

يقول سيد قطب في تفسير الآية المتقدمة: فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله ، فالمنكر الأكبر فيها والأهم، هو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات.. وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة[4]، ويفهم من إطلاق سيد قطب المنكر على التحاكم بغير ما أنزل الله، أنه كفر أصغر لا يخرج صاحبه من الإسلام، وهو المنهج الذي سار عليه سلف هذه الأمة كابن عباس حبر هذه الأمة، حيث فسّر قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[5]، أنه كفر أصغر لا يخرج صاحبه، قال إبن عباس: إنه ليس بالكفر الذى تذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل صاحبه عن الملة بل هو كفر دون كفر[6]، وبهذا المعنى فسّر طاووس، وعطاء[7]، كما نقل الشيخ أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني عند تفسير قوله تعالى:﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[8]، أن أهل السنة لا يكفرون بترك الحكم بما أنزل الله[9].

وعلى هذا الأساس، يمكن لنا أن نستفيد من تفسير الصحاية والتابعين حول دلالة الآية، على أن التحاكم إلى القونين الوضعية لا يؤدي إلى الكفر.

علاوة على ذلك، يشبه إطلاق الكفر في هذه الآية مثل: إطلاقات كثيرة وردت في السنة على بعض الأفعال، كقوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)[10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)[11]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهنا أو عرافا فقد أشرك وفي رواية فقد كفر)، وقوله صلى الله عليه وسلم، في شأن تارك الصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) [12].

فهذه الإطلاقات بالكفر لا تدل على الكفر الحقيقي المخرج صاحبه عن الملة، كما قال العلماء، فمثلا: القتال الذي يقع بين المؤمنين أنفسهم لا يؤدي إلى الكفر، بدليل قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾[13].

فهذه الآية لم تنف صفة الإيمان عن الطائفتين المقاتلتين، رغم أن الحديث قال: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، حيث أطلق القتال بين المسلمين بالكفر، وكذلك، الروايات التي وردت في شأن الإتيان بالكاهن والعرّاف وتارك الصلاة، فكل هذه الأفعال لا تطلق على الكفر الحقيقي، بدليل تفسير الشيخ بدر الدين العيني الحنفي في شرح الحديث: (من ترك الصلاة فقد كفر)، يقول:«فإنما هو توبيخ لفاعله وتحذير له من الكفر، أي سيؤديه ذلك إليه إذا تهاون بالصلاة، ولم يرد به الخروج عن الدين»[14].

ومن هنا فرق العلماء بين المعاند الجاحد بقلبه في التحاكم إلى شريعة الله وغيره، وقالوا: فمن أنكر التحاكم إلى شرع الله بقلبه وجحد بلسانه فهو الذي يحكم بخروجه عن الدين، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاد الإسلام، فلا يلزم دخوله تحت قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[15]، وبهذا القول رجّح الإمام الرازي في تفسير هذه الآية[16].

الثاني: الجاهلية لا تستلزم الكفر:

الجاهلية هي نسبة إلى الجهل وهي ضد العلم والحلم، وقد ورد لهما شواهدفي كلام العرب، فالجهل الذي هو ضد العلم، كقول الشاعر:

سلي إنْ جهلت الناس عنا وعنهم فليس سواءً عالمٌ وجهول.

أما المعنى الثاني الذي هو ضد الحلم فهو، كقول الشاعر :

ألا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا[17].

فالجاهلية تكون اسما للحال وهو الغالب في الكتاب والسنة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ( إنك إمرؤ فيك جاهلية)[18]، وكقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني نذرت نذراً في الجاهلية)[19]، وكقول عائشة رضي الله عنها:(كان النكاح في الجاهلية أربعة)[20]، وقد تكون الجاهلية اسماً لذي الحال فتقول: طائفة جاهلية، وشاعر جاهلي، نسبة إلى الجهل وهو عدم العلم أو عدم اتباع العلم[21].

هذا، وقد أطلق سيد قطب الجاهلية على مجتمعات متعددة، من بينهم المسلمون، وهذا الإطلاق لا يستلزم وسم الكفر على المجتمع المسلم؛ إذ يوصف شخص أو مجتمع بالجاهلية، بسبب بعض الأعمال المخالفة للإسلام، بغض النظر عن اعتقاده، ويدخل مفهوم الجاهلية عند سيد قطب المجتمعات الوثنية واليهودية والنصرانية والمجتمع المسلم، حيث ذكر أن كل مجتمع من تلك المجتمعات يتصف بالجاهلية بمعنى من معانيها.

فتدخل مثلا الجاهلية المجتمعات الشيوعية من جهة الالحاد في وجود الله وإنكار كينونته أصلا، إضافة إلى ذلك، إقامة نظام العبودية في الحزب، لا لله سبحانه وتعالى.

أما المجتمعات الوثنية فتدخل فيه الجاهلية من ثلاثة جهات:

الأولى: التصور الاعتقادي القائم على تأليه غير الله.

الثانية: تقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها.

الثالثة: إقامة أنظمة وشرائع المرجع فيها لغير الله وشريعته.

أما المجتمعات اليهودية والنصرانية، فتدخل فيه أيضا من ثلاث جهات:

الأولى: التصور الاعتقدادي المحرّف الذي لا يفرد الله بالألوهية.

الثانية: الشعائر التعبدية المنبثقة من التصورات الاعتقادية المحرفة.

الثالثة: الأنظمة والشعائر التي لا تقوم على العبودية لله وحده، وكذلك، بعدم الإقرار له وحده بحق الحاكميّة واستمداد السلطان من شرعه.

أما المجتمع المسلم فيدخل في إطار المجتمع الجاهلي من جهة نظام حياتها، فهي لاتدين بحاكمية الله، ومن ثم تتلقى نظامها، وشعائرها، وقيمها، وموازينها، وعاداتها، وتقاليدها بغير حاكميّة الله[22].

وبناء على هذا، فالجاهلية حالة تتجزء يتصف بها المرء وهو مسلم، أو يتصف المجتمع بها وهو مسلم، فكما أن المعاصي لا تنفي الإيمان عن المسلم، كذلك الجاهلية لا تخرج المجتمع ولا الشخص عن الإسلام.

ويدل على ذلك، وصف الله سبحانه وتعالى نوحا عليه السلام بالجاهلية، وذلك بسبب طلبه عليه السلام، نجاة ولده من الغرق، فسمى الله تلك المسألة من أعمال الجاهلية، ونوح عليه السلام، هو نبي من أنبياء الله، ولم تبطل نبوته بذلك الطلب وتلك المساءلة.

أيضا، مما يدل على ذلك، وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالجاهلية على أبي ذر رضي الله عنه عند ما عيّر عبده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:( يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية)[23]، أي خصلة من الجاهلية، ويفيد هذا الحديث أن المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك؛ لأن أبا ذر صحابي من كبار الصحابة، لذلك، فإن الوصف على المجتمع بالجاهلية لدي بعض مفكري الحركة مثل حسن الهضيميّ، لا يعنى تكفيره[24]، بدليل وصف النبي صلى الله عليه وسلم الأوس والخزرج بالجاهلية، وذلك، عند ما تذكّرا ما جرى بينهما في الجاهلية من حروب، فهمّا القتال، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أو بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)[25].

ويدل أيضا، على أن الجاهلية لا تستلزم الكفر قوله تعالى:﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾[26].

فمفهوم الآية يفيد على أن التبرج من أعمال الجاهلية، وأنه سيحصل في هذه الأمة، ولم يقل أحد من العلماء أن السفور والتبرج يخرج المرءة عن الإسلام.

كما أن هناك أمورا من أعمال الجاهلية، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا تدعها، منها: (الطعن في الأنساب والنياحة على الميت، ومطرنا بنوء كذا،) وكذا: العدوى[27]، وفي رواية: (اثنتان فى الناس هما بهم كُفْرٌ، الطَّعْنُ فى الانساب والنِّياحة على الميت)[28]، فهذه الأعمال كما فسر القرطبي هي من خصال أهل الكفر[29].

كما أن ألفاظ الجاهلية كألفاظ الضلال، والعصيان، والفسوق، والظلم من حيث الاستعمال في القرآن، لا يعنى بالضرورة الخروج على أحكام الدين خروجا يصل إلى حد الخروج عن الملة[30].

ومن هنا يتبين لنا، كما ذكر الدكتور مصلح معيض مصلح، أن فكرة سيد قطب في مفهوم الجاهلية في كتاباته ليست لها علاقة بالتكفير، وهو واضح لمن قرأ فكر سيد قطب بعمق ودراية وموضوعية[31].

وسيد قطب نفسه صرح ذلك في كتابه: «لما ذا أعدموني» ، حيث قال:«لم نكفر الناس وهذا نقل مشوه، إنما نحن نقول: إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة، وعدم تصور مدلولها الصحيح، والبعد عن الحياة الإسلامية، إلى حال يشبه حال المجتمعات في الجاهلية، وأنه من أجل هذا لا تكون نقطة البدء في الحركة هي قضية إقامة النظام الإسلامي، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة والتربية الأخلاقية الإسلامية، إذن، فالمسألة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية، أكثر مما تتعلق بالحكم على الناس »[32].

الثالث: عبارات سيد قطب الموهمة بالتكفير:

الناظر إلى أسلوب سيد قطب في التعبير يجد أن أسلوبه شديد اللهجة، وقد عرف هذا الأسلوب منذ أن بدأ النقد الأدبي مع كبار الأدباء في عصره، وأسلوبه في النقد يشبه نقد ابن حزم في عصره مع خصومه، ومن هذا المنعطف أصبحت عبارات سيد قطب بعد ما تحول إلى إسلامي أصولي شديد اللهجة، رغم أن بعض من درس أفكاره الرادكالية يعتبرونه أنه كان نتيجة لتعذيبه في السجن.

وعبارات سيد قطب التي يستدل بها من يرى أنه يكفر المجتمع والحكومة هي عبارات ليست دلالتها قاطعة، بل هي عبارات مجملة تقبل التأويل؛ لأنك إذا بحثتها تجد أنه لايطلق على المجتمع والحكومة بكلمة "الكفر " أي لا يقول مجتمع كافر أو حكومة كافرة، وعلى فرض ورودها فإنه قد يقصد بها بعض الأعمال التي تصدر عن شخص، أو عن الحكومة والتي تتنافي مع مبادئ الإسلام وقيمه، فهذه كما سبق أن أشرنا تعتبر كفرا عمليّا لا يخرج صاحبه عن الدين.

ومن تلك العبارات مثلا، قوله في وصف المجتمعات الجاهلية: «تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة»[33]، وكذلك قوله: «نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام، أو أظلم»[34].

فهذه العبارات وأمثالها لا تدل على الكفر الصريح، بل هي كما قلنا: عبارات تقبل التأويل، فمثلا التعبير الأول استخدم سيد قطب كلمة زعم، وهي تفيد معنى الادعاء والظن، وبالتالي فليست صريحة في الدلالة على الكفر في المجتمع الإسلاميّ.

وأيضا استخدامه لعبارة الجاهلية لا تفيد التكفير في المجتمع الإسلامي، بل غاية ما يستفاد منها أن الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي تشبثت بأفكار الغرب بشقيه الرأسمالي والشيوعي، إضافة إلى أفكار القومية العربية، فسيد قطب يطلق الجاهلية على تلك الأنظمة من حيث التصورات العقائدية، والعادات، والثقافة، والفنون، والقوانين[35].

وليس سيد قطب وحده هو الذي أطلق الجاهلية على تلك الأنظمة، سواء كانت قوميّة عربية، أم مادية غربية، بل تجد بعض كبار مفكري العالم الإسلامي قد أطلقوا عليها بالارتداد، فضلا عن الجاهلية، فالشيخ محمد الغزالي، يصف القومية العربية بالارتداد، وذلك بسبب قطع ولائها الإسلاميّ وأواصر الأخوة العقدية، وجعل القومية العربية محور نشاطها وعلاقاتها، وهكذا، يعتبر أنها ارتداد«أنكى من الارتداد الذى قام به مسيلمة»[36]، معلا ذلك بكونها تجرد القومية من الإسلام، كما تجرد محمد من النبوة، وتفسرها الصبغة الإسلامية في التاريخ الإسلامى بثورة عربية بحتة، وهذا النهج- والكلام للشيخ محمد الغزالي- أحط تزوير عرف فى تاريخ العالم، ولا يعدو أن يكون تمهيدا لجاهلية حديثة أسوأ من الجاهلية الأولى[37].

الرابع: شهادات بعض المفكرين الذين دافعوا عن سيد قطب:

هناك عدد من الأشخاص المعتبرين الذين عاشوا مع سيد قطب قد نفوا عنه شبهة التكفير في المجتمع، من بينهم- كما نقل الأستاذ أحمد التلاوي- المرشد الثالث للإخوان المسلمين عمر التلمساتي، والداعية زينب الغزالي، والأستاذ عبد الحليم خفاجي، والأستاذ سيد نزيلي، والأستاذ أحمد عبد المجيد، والدكتور محمود عزت عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، والأمين العام السابق لها[38].

فقد ذكر أحمد التلاوي أن الذين يرمون سيدا بتكفير المجتمع قرءوا أدبيات سيد قطب بصورة مجتزئة من السياق التَّاريخيِّ لها، بحيث أن الأفكار التي توصف بأنها تكفيريَّة جرت دراستها بشكل منفصل، وليس في إطار المشروع الفكري لسيد قطب بأكمله[39].

كذلك، ذكر الكاتب السوري الدكتور معتز الخطيب، أن مجموعة من الحقائق، تؤكد أنَّ الكثيرين يقرءوون ويفهمون فكر سيد قطب بمعزل عن سياقاتها الزمانية والمكانية[40].

كما أشار الأستاذ طارق البشري أن سيد قطب بشكلٍ عام، لم يكن من مدرسة المغالاة[41].

كذلك، نفى الدكتور يحيى فرغل فكرة التكفير عن سيد قطب، وهو ينطلق من زاوية فكرية وفقهية في دفاعه عن سيد قطب، فيشير إلى أهمية الدور الذي لعبه سيد قطب في مواجهة التيارات التغريبية، ضد المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، ويرى أن التجهيل لا يعني تكفير المجتمعات، أو الحكم بكفرها صراحةً، بل يعيب فرغل على المفكرين الإسلاميين، حيث أنهم لم يناقشوا أفكار قطب كما وردت في كتابه:«معالم في الطريق»، من وجهات النظر الشرعية، والسياسية، والاجتماعية، والتاريخية، والحركية المختلفة، بعيدًا عن الآراء الشخصية، أو القطوف التي يتم اجتزاؤها من كتابات وأفكار سيد قطب[42].

إن دفاع فرغل عن سيد قطب ينطلق من زاوية فكرية وفقهية، كما أن دفاع الدكتور سلمان فهد العودة عن سيد قطب ينطلق من زاوية أخلاقية مفادها: »أن فكر قطب أخذ الكثير من النقاشات ما بين مؤيد ومعارض، ولكن يجب الالتفات إلى حقيقة مهمة مفادها أن سيد قطب في النهاية بشر ومفكر له اجتهاداته التي يمكن الأخذ منها بعضها، والرد على البعض الآخر«[43].

من جهة أخرى حاول الدكتور عبد الله أبو عزة أن يرد على ما جاء به سيد قطب من أفكارٍ توحي بالتكفير من خلال التأكيد على فكرة زيادة الإيمان ونقصانه، والقول بأنَّ وجود بعض العوار في إيمان الإنسان لا يعني ذلك خروجه عن الملَّة، مستشهدًا في ذلك بعددٍ من الأحاديث النبويَّة الصحيحة التي وردت في صحيح البخاري في باب الإيمان[44].

هذا، وأوضح سالم البهنساوي أنه لا يحكم بأن سيد قطب كفّر المجتمع، بل أضاف أن الخطأ الجسيم الذي يقع فيه بعض من يقرأ كتب الدعاة، هو اعتبار أقوال هؤلاء أحكاما شرعية، كالتي يصدرها القضاة، أو أحكاما فقهية قد صدرت عن الفقهاء المختصين في الفتوى، وهؤلاء لم يقصدوا إصدار أحكام على المسلمين، بل إن الشهيد سيد قطب قد صرح أكثر من مرة، أنه من رغب في معرفة الحكم الشرعي في المسألة، فليرجع إلى كتب الفقه، وأعلن أنهم دعاة وليسوا قضاة[45].

وعلى هذا الأساس، أشار الدكتور صبري محمد خليل من أن طبيعة الخلاف بين سيد قطب والإخوان المسلمين و جمال عبد الناصر، كان صراعا سياسيا ولم يكن دينيّا، مستدلا بذلك على نظرية أهل السنة في الإمامة القائمة على كونها من الفروع، كما اعتمد على اقرار عدد من الكتّاب الإسلاميين من أن الصراع كان سياسيا.

وهناك ثلاثة من كبار شخصيات الإخوان أفادوا طبيعة الخلاف بين الإخوان وجمال عبد الناصر، فحسن دوح ذكر أن تصوير خلافنا مع عبد الناصر على أنه جهاد بين جماعة مسلمين وجماعه كافرين تصوير خاطئ، بل الأولى أن يقال: إنه كان خليطا، لعب جانب العقيدة فيه دورا تمثله جماعة الأخوان المسلمين ولعب الجانب الحزبي فيه دورا آخر، ولم يخل من الجانب الشخصي.

ويقول ناجح ابراهيم: أصل الخلاف بين الإخوان وعبد الناصر هو اعتقاد كل منهما أنه الأجدر والأحق بالسلطة والحكم في مصر، فعبد الناصر ومن معه كانوا يرون أنهم الأجدر بالسلطة والحكم باعتبار أن الثورة ثورتهم وأنهم الذين تعبوا وغامروا بحياتهم فيها، وأن الإنجليز لن يسمحوا للإخوان بحكم مصر، أما الإخوان فكانوا يرون أنهم أصحاب فكرة الثورة من الأصل، وأن عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر وغيرهما كانوا من الإخوان المسلمين الذين بايعوا على المصحف والسيف. وأن هؤلاء الضباط صغار لا يصلحون للحكم... وأن الإخوان هم القوة الرئيسية التي وقفت مع الثورة، وهم الأجدر بالحكم والسلطة، ولذلك نشأ الخلاف بينهما وازداد وتوسع، ولم يكن الخلاف أساسا على الدين أو الإسلام أو حرية الدعوة، ولكنه انحصر أساسا في ظن كل فريق منهما أنه الأجدر بالحكم[46].

ويقول د. عبدالمنعم أبو الفتوح، عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين: ورغم أن نظرتي تغيرت تماما عن جمال عبد الناصر، فلم تصل يوما إلى تكفيره، فقد كنت أرى أنه من الصعب أن نقول: إن جمال عبد الناصر كان ضد الإسلام أو عدوا له كما كتب البعض، ومازلت أرى أن الصراع بينه وبين الإخوان كان صراعا سياسيا في الأساس بدليل أنه استعان بالعديد من رجالهم في بداية الثورة كوزراء مثل: الشيخ الباقورى والدكتور عبد العزيز كامل[47].

وينصف أحمد أمجد إبراهيم في غاية الإنصاف في فكر سيد قطب بحيث يرى ضرورة قراءة كتابات الشيخ سيد قطب من خلال تتبع المراحل التي مر بها في تطوره الفكري، وبالتالي فإذا كانت لغته قد اتجهت إلى الحدة في كتاب :«معالم في الطريق» ، فقد كان متوازنًا في كتابات أخرى كثيرة مثل «الإسلام والسلام العالمي»كما أن أي قارئ منصف لعمله الرئيسي «في ظلال القرآن»لا يملك إلا أن يعترف ببراعته الشديدة كأديب وفيلسوف[48].

عموما، فالمنصفون هم الذين تعاملوا مع فكر سيد قطب بمنهجية وموضوعية ، فلم يبالغوا في تقديره إلي مرحلة التقديس وادعاء العصمة وقبول كل حرف كتبه ولم يغالوا في التعصب ضده ومجافاته ومهاجمته ، كما فعل الآخرون من الإسلاميين من بعض السلفيين وبعض الإخوان المسلمين، وهؤلاء المتزنون طبقوا فكر سيد قطب على الميزان الإسلامي العادل في النظر والتقويم ، ووزنوا هذا الفكر بالحق المتمثل بالكتاب والسنة، فأخذوا ما وافق هذا الحق وهو كثير، ورفضوا من فكره ما خالف الحق، وهو قليل نادر، ومثلوا لهذا الوسطية الإسلامية الواعية، والإنصاف الإسلامي المطلوب، كما أن المتزنين المنصفين هم الِقطَاع الكبير من دعاة الإسلام الملتزمين، ومن جمهور المثقفين، المحبين للإسلام، الداعين إليه، وهم كثيرون من وسط الأمة[49].

فخلاصة القول كما قال فادي شامية:«إن وصمة الجاهلية التي استعملها مفكروا الحركة ابتداء بالأستاذ المودودي في كتابه:"المصطلحات الأربعة في القرآن"، ثم في كتابه:"الإسلام والجاهلية"، أو الأستاذ سيد قطب، خصوصا في تفسيره "في ظلال القرآن"، أو في كتابه:"معالم في الطريق"، أو الأستاذ محمد قطب في كتابه: "جاهلية القرن العشرين"، لم يقصدوا من خلالها تكفير المجتمع تكفيرا عاما مخرجا عن الملة»[50].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد إبراهيم

.........................................

[1] - جمال سلطان، سيد قطب.. قراءة جديدة، ( تاريخ النشر، 15- 9- 2003م)، أنظر الرابط:

http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-42-3162.htm

[2] - المصدر السابق، أنظر الر ابط:  http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-42-3162.htm

[3] - سورة المائدة، آية:44.

[4] - سيد، قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط2/1997م، ج2/ص408.

[5] - سورة المائدة، آية:44.

[6] - محمود أبو الفضل الألوسي، روح المعاني، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان، (بدون تاريخ الطبع) ج6/ص146.

[7] - إسماعيل بن عمر ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم، تحقيق، سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، السعودية، ط2/1999م، ج3/ص120.

[8] - سورة المائدة، آية:44.

[9] - منصور بن محمد السمعاني، تفسير القرآن، تحقيق، ياسر بن إبراهيم، [وآخر]، دار الوطن، الرياض، السعودية، ط/1997م، ج2/ص42.

[10] - أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، الهند، ط1/1344ھ، ج8/ ص20.

[11] - يحيى بن شرف النووي، شرح صحيح مسلم، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط2/1392ھ، ج2/ص55.

[12] - أحمد بن شعيب النسائي، سنن النسائي، تحقيق، عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، سوريا، ط2/1986م، ج1/ص231.

[13] سورة الحجرات ، آية:9.

[14] - بدر الدين العيني الحنفي، عمدة القاري بشرح صحيح البخاري، تحقيق، أسامة بن الزهراء، ط/ 2006م، ج9/ص263.

[15] - سورة المائدة، آية:44.

[16] - محمد بن عمر الرازي، تفسير مفاتيح الغيب، دار احياء التراث العربي، بيروت، لبنان، (بدون تاريخ الطبع)، ج1/ص1663.

[17] - تقي الدين علي بن عبد الله الحموي، خزانة الأدب وغاية الأرب، تحقيق، عصام، شعيتو، دار مكتبة الهلال، بيروت، لبنان، ج1/ص423.

[18] - أحمد بن علي ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط/1379ھ، ج10/468.

[19] - محمد بن يزيد أبو عبد الله القزويني، سنن ابن ماجه، تحقيق، محمد فؤاد عبد الباقي، ( بدون تاريخ الطبع والناشر)، ج1/ص687.

[20] - جمال الدين المزي، تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، تحقيق، عبد الصمد شرف الدين، المكتب الإسلامي ، والدار القيّمة، ط/1983م، ج12/ص110.

[21] - يحيى بن إبرهيم اليحيى، مدخل لفهم السيرة، اعداد، علي بن نايف الشحود، ضمن: موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ج11/265.

[22] - سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، مصر، ج1/1981م، ص98-101.

[23] - محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع المسند الصحيح، تحقيق، محمد زهير بن ناصر، دار طوق النجاة، بيروت، لبنان، ط1/1422ھ، ج1/ص15.

[24] - حسن الهضيمي، دعاة لا قضاة، دار التوزيع القاهرة، مصر، (بدون تاريخ الطبع)، ص240-241.

[25] - جمال الدين الزيلعي، تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزمخشري، تحقيق، عبد الله بن عبد الرحمن السعد، دار ابن خزيمة، الرياض، السعودية، ط1/1414ھ، ج1/ص209.

[26] - سورة الأحزاب، آية:33.

[27] - محمد بن جرير الطبري، تهذيب الآثار، تحقق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، مصر، ط3/(بدون تاريخ الطبع)، ص10.

[28] - الإمام أحمد ابن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل ، تحقيق، شعيب الأرناؤوط و[آخرون]، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط2/199م، ج16/ص270.

[29] - أحمد بن عمر القرطبي، المفهم لما أستشكل من تلخيص كتاب مسلم، ص182.

[30] - فادي شامية، الدولة، تقديم المستشار الشيخ فيصل المولوي PDF، ، (تاريخ النشر، 21-08-2005م) ، أنظر الرابط:  http://www.daawa-info.net/books1.php?id=6547&bn=234&page=38

[31] - د. مصلح معيض مصلح، ليس فاعا عن سيد قطب، (بدون تاريخ النشر)، أنظر الرابط:

http://www.odabasham.net/show.php?sid=29182

[32] - سيد قطب، لما ذا أعدموني، (PDF)، تقديم، هشام محمد علي حافظ، (بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص21.

[33] - سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط1/1981م، ص101.

[34] - المصدر السابق، ص21.

[35] - المصدر السابق، ص21

[36] - محمد الغزالي، الحق المر، ط/ 1996م، (بدون الناشر)، ص26.

[37] - محمد الغزالي، جهاد الدعوة بين عجزل الداخل وكيد الخارج ، دار القلم، دمشق سوريا، ط1/1991م، ، ص76؟

[38] - أحمد التلاوي ، دراسة عرض على كتاب: سيد قطب والتكفير ...أزمة أفكار أم مشكلة قراء؟ للدكتور معتز الخطيب، (بدون تاريخ النشر) أنظر الرابط: http://www.hadielislam.com/arabic/index.php?pg=articles

[39] - المصدر السابق، أنظر الرابط : http://www.hadielislam.com/arabic/index.php?pg=articles

[40] -المصدر السابق، أنظر الرابط: http://www.hadielislam.com/arabic/index.php?pg=article

[41] - المصدر السابق، أنظر الرابط: http://www.hadielislam.com/arabic/index.php?pg=articles

[42] - المصدر السابق، أنظر الرابط: http://www.hadielislam.com/arabic/index.php?pg=articles

[43] - المصدر السابق، أنظر الربط: http://www.hadielislam.com/arabic/index.php?pg=articles

[44] - المصدر السابق، أنظر الربط: http://www.hadielislam.com/arabic/index.php?pg=articles

[45] - المستشار سالم البهنساوي، فكر سيد قطب في ميزان الشرع، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع- المنصورة، دراسة عرض في موقع إخوان أون لين، ( تاريخ النشر13-06-2004م)، أنظر الرابط:

http://www.ikhwanonline.com/Article.aspx?ArtID=7093&SecID=270

[46] - د. صبري محمد خليل، سيد قطب- قراءة منهجية لأفكاره، (تاريخ النشر، 16-4- 2012م)، أنظر الرابط:

http://drsabrikhalil.wordpress.com

[47] - المصدر السابق، أنظر الرابط :   http://drsabrikhalil.wordpress.com

[48] - أمجد أحمد جبريل، أزمة الدولة والقومية أم أزمة الفكر الإسلامي، (تاريخ النشر، 6-1- 2005م)، أنظر الرابط: http://www.onislam.net/arabic/madarik/politics/90572-2005-02-06%2015-32-29.html

[49] - أحمد عبد المجيد سيد قطب بين مؤيديه ومعارضيه، دراسة عرض، أنظر الرابط: http://www.ikhwanwiki.com/index.php?title=

[50] - فادي شامية، الدولة، تقديم المستشار الشيخ فيصل المولوي، ( PDF)، (تاريخ النشر، 21-08-2005م) ، أنظر الرابط: http://www.daawa-info.net/books1.php?id=6547&bn=234&page=38

 

في المثقف اليوم