دراسات وبحوث

الفارابي.. فيلسوف اللغة العربية

محمود محمد علييعد "الفارابي" من أوائل الفلاسفة العرب الذين أدركوا قيمة اللغة وضرورة الإحاطة بها لامتلاك ناصية العلوم المختلفة. وعرف الباحثون والمهتمون بالفكر الفلسفي الإسلامي "الفارابي"، وأدركوا مكانته وأثره في علم الخالدين من أسلافنا بما ترك لنا من مآثر في التراث الفلسفي العربي في مجالاته ومناحيه من فلسفة إلهية، وطبيعية وسياسية وأخلاقية ومنطقية، لكنهم لم يعرفوه كعالم لغوي استطاع أن يطوع اللغة لسائر الأغراض المنطقية والفلسفية والعلمية .

ارتحل "الفارابي" من موطنه إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، عندما بلغ الأربعين من عمره عام 300 هجرية، وكانت بغداد آنذاك مركزاً للحضارة العربية، فعكف على دراسة الطب والموسيقى والفلك والرياضيات وتعلم اللغة العربية وتبحر في النحو والبلاغة وتتلمذ على يد "ابن السراج "، المعروف بتوفيقـه بين مدرستي الكوفة والبصرة في النحو واتصل بالأدباء واللغويين في عصره كالتوحيدي والسجستاني، وأتاح له ذلك ثقافة لغوية عميقة انعكست آثارها على ما تركه لنا من مؤلفات طوع فيها العربية لأنماط مختلفة من المعرفة، بحيث باتت مفرداتها لا يستعصي عليها معنى من المعاني في علوم عصره ومعارفه .

كما تلقى الفلسفة والمنطق على يد جهابذة هذا العصر أمثال "يوحنا بن جيلان"، و"متـي بن يونـس"، اللذين ترجما أكثر كتب التراث اليوناني، حتى تمخضت حياته في عاصمة الخلافة عن نشاط فكري لامع في حقول التأليف والشرح والترجمة في شتى فروع الحكمة والمنطق والسياسة والأخلاق، ليس هذا فحسب، بل إن مصنفاته الفلسفية والمنطقية يبدو فيها الأثر الواضح للعلم اللغوي ككتاب "الألفاظ المستعملة في المنطق"، و كتاب "التنبيه على السعادة "، وكتاب "أيساغوجي"، وكتاب "القياس الصغير"، ثم كتاب "الحروف"، الذي يعد موسوعة لغوية عميقة المعنى .

حاول الفارابي أن يقوم بدور المصلح ما بين المناطقة والنحاة، فقد سمع بالجدل الذي دار بين "متي بن يونس" و" أبو سعيد السيرافي"، عن الادعاءات الكونية التي أفصح عنها مؤيدوا المنطق حينما أعطوا للنحو مكانة ثانوية، حيث كان في بغداد في ذلك الوقت، وكان يعرف مناصري ذلك الجدل: وقد درس معه "يحي بن عدي" تلميذ "متي"، وكانت تربطه علاقة علمية وثيقة مع شيخ "أبو سعيد السيرافي" وهو " أبو بكر بن السراج "، حيث كما ذكرنا من قبل أن الفارابي "كان يتلقى عليه النحو، وأنهما اتفقا علي ضرورة الاستفادة من قواعد المنطق في خدمة النحو " ، قال ابن أبي أصيبعة:" وفي التاريخ أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج فيقرأ عليه صناعة النحو وابن السراج يقرأ عليه المنطق ..". وحسب أحد المصادر أخطأ ابن السراج في جمهرة من النحويين وعنفه صاحبه بشدة: " فقال قد ضربتني يا أبا اسحق وأدبتني وأنا تارك ما قد درست مذ قرأت هذا الكتاب يعني كتاب سيبويه، لأني تشاغلت عنه بالمنطق والموسيقي، والآن أنا أعاود" .

ومهما يكن صدق هذه الرواية، فليس من شك في أن النحويين كانوا ينظرون للمنطق والنحو علي أنهما متضادان، بينما حاول الفارابي أن يؤسس العلاقة بين العلمين، وقد ساعده علي ذلك معرفته الواسعة باللغة العربية واطلاعه علي اللغة الإغريقية جعله يعي الفروق بين اللغات، وقد اشتغل فعلاً بمقارنتها مع بعضها من وجهة نظر عالم المنطق، حيث إن المعاني التي تعبر عنها اللغات المتنوعة كونية، بيد أن الطريقة التي تعبر لغة معينة عن هذه المعاني تكون مختلفة .

علاوة علي أن مصاحبته لابن السراج النحوي كانت تمثل جزءاً أساسياً من برنامجه، الذي كان يهدف إلي عقد المصالحة بين العلمين وتجنب الأخطاء التي اقترفها "متي بن يونس" في جدله مع " أبي سعيد بن السيرافي"، وعندما سأل "أبو سعيد " "متي بن يونس"، عن معاني حرف الجر " في " في اللغة العربية، فإن جهله بالعبارات المتنوعة التي يستخدم فيها الحرف "في" في اللغة العربية قد أبطل ادعاءاته بالمصداقية الكونية للمنطق .

وكان الفارابي يود أن يبين أن ادعاءات الفلاسفة له ما يسوغه طالما أن نفاذ بصيرتهم إلي قواعد العبارات، ربما أسهم في دراسة اللغة العربية . ولكي يؤسس لهذا الادعاء وهو ملائمة المنطق لدراسة النحو، فقد طور نظرية أصل اللغة من وجهة نظر عالم المنطق، وقد كشف فيها عن إدراكه للفروقات ذات العلاقة بين اللغات بوجه عام، وبين اللغة الإغريقية واللغة العربية بوجه خاص . وبخلاف " متي بن يونس"، الذي كان يرغب في الاستحواذ علي الحقل المعرفي الجديد ذي الأصول الإغريقية، كان هدف الفارابي أن يدمج الحقلين ببعضهما بمستوي أعلي . وترتبط هذه السمة في تفكير الفارابي من غير شك بمبدأ الكونية لديه وقناعته بأن المنطق لا بد أن يتعامل مع شئ ما يتخطي مجال أية لغة معينة ويكون مشتركاً بين جميع اللغات.

ومن بين الأسئلة اللغوية التي كانت تشغل بال الفارابي، كما كانت تشد اهتمام مفكري عصره، تلك الأسئلة التي عكستها المناظرة التي كانت بين "أبي سعيد" و"متي بن يونس ". ولم تكن هذه المناظرة التي انتصر فيها "أبو سعيد " علي "متي" مناسبة لبلوغ الصراع أشده بين البيان منهجاً ورؤية وبين المنطق الوافد علي الثقافة العربية الإسلامية، منهجاً ورؤية . إنها كانت إعلاناً عن بلوغ الصراع أوجه بين منطق البيان ومنطق البرهان . لقد كان لا بد إذاً من بناء تصور شامل يتم في إطاره، وبالاستناد إليه ترتيب العلاقة بين المنهجين والرؤيتين: بين النحو والمنطق من جهة، وبين الفلسفة والملة من جهة أخري، وتلك هي المهمة المضاعفة التي اجتهد الفارابي في القيام بها .

وهنا راح الفارابي  يجيب في العديد من مؤلفاته علي الأسئلة التي لم يتمكن "متي  بن يونس" من الإجابة عنها أو أجاب عنها إجابة غير مقنعة، لذلك وجدنا "أبو نصر"، يثير في أكثر من مناسبة علاقة النحو بالمنطق، ويتعرض في كتاب (الحروف) لمعاني الحروف ومواقعها، وأصل اللغة ونشأتها، وعلاقتها بالفلسفة والملة، ونشأة علوم اللسان والصنائع العملية والقياسية، ومسألة الترجمة ونقل المعاني من لغة إلي أخري، واختلاف اصطلاحات اللغات ومواضعاتها، ودلالة الألفاظ علي المعاني، وعلاقة الشكل اللفظي بالمعني العقلي يدحض بكل ذلك ما ادعاه "أبو سعيد" من أن المنطقيين لا يصرفون عنايتهم إلي اللغة التي يتحاورون بها ويدارسون أصحابها بمفهوم أهلها .

ونجد أكثر المعالجات انتظاماً للعلاقة بين المنطق والنحو في كتاب آخر للفارابي وهو " إحصاء العلوم"، حيث يضع الفارابي النحو ضمن منظومة العلوم . وحسب رأيه فإن للنحو دوراً مهماً يؤديه، وربما ليس من قبيل المصادفة أن نجد في تصنيفه للعلوم أن يحتل النحو الموقع الأول، ثم يتبعه المنطق، وعلي الرغم من أنه لا يخفي أفكاره المتعلقة بكونية المنطق مقارنة بخصوص النحو، إلا أن الفارابي لا يقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه "متي بن يونس "، عندما قلل من شأن النحو والنحاة، بل إن للعلمين مكانتهما الخاصة التي لا يمكن إنكارها .

ومن هنا أخذ الفارابي يولي الألفاظ بالأسبقية على المعاني، فيقول:" إن صناعة النحو التي تشتمل على أصناف الألفاظ الدالة لابد أن تكون مقدمةً أو مدخلاً في الوقوف والتنبيه على أوائل هذه الصناعة (المنطق)، بل وينبغي على المنطقي أن يتولى بحسن تعديد أصناف الألفاظ التي من عادة أهل اللسان الذي به يدل على ما تشتمل عليه هذه الصناعة، إذا اتفق إن لم يكن لأهل ذلك اللسان صناعة تعدد فيها أصناف الألفاظ التي هي لغتهم" .

ولم يكتف بذلك، بل يصرح أن اللغة أسبق من الفكر، فيقول: "إن علم اللغة يعتبر مدخلاً أساسياً حتى لعلم المنطق ذاته "، ومن ثمَّ يضع علم اللغة أول العلوم، وقد سماه "علم اللسان"، ثمَّ يليه علم المنطق، ثمَّ باقي العلوم الأخرى". ويُعد الفارابي بشهادة بعض الباحثين "أول من رأي أهمية علم اللغة لدراسة المنطق، وهو يشير إلى علم اللغة بفروعه المختلفة من نحو، وصرف، وكتابة، وقراءة، ويعطي مبحثًا في أنواع الألفاظ، وقواعد كل نوع ".

ولذلك خصص الفارابي القسم الأول من كتابه " إحصاء العلوم" لتعريف علم اللسان فيقول:" علم اللسان في الجملة ضربان: أحدهما حفظ الألفاظ الدالة عند أمة ما وعلم عليه شئ منها، والثاني علم قوانين تلك الألفاظ، وعلم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمي: علم الألفاظ المفردة، وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركب، وقوانين تصحيح الكتابة، وعلم قوانين تصحيح القراءة، وقوانين الإشعار " .

ما يهمنا من هذا التعريف أنه كان النواة التي انطلق منها الفارابي ليبين التناسب القائم ما بين صناعة المنطق وصناعة النحو، فهو يشير في التعريف إلي (الألفاظ) و( القوانين)، وإن العلاقة بينهما بما فيها من تلازم وتكامل تمثل العلاقة بين صناعة النحو وصناعة المنطق التي تعتمد علي التداخل وتبتعد عن التعاند والتنافر، يقول:" فصناعة المنطق تعطي بالجملة القوانين التي من شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات . وهذه الصناعة تناسب صناعة النحو، ذلك أن نسبة صناعة المنطق إلي العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلي اللسان والألفاظ، فكل ما يعطينا علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات، وتناسب علم العروض، فإن نسبة علم المنطق إلي المعقولات، كنسبة العروض إلي أوزان الشعر" .

والنتيجة أن النحو ضروري في ميدانه كما أن المنطق ضروري في ميدانه، يقول الفارابي:" قول من زعم أن المنطق فضل لا يحتاج إليه إذا كان يمكن أن يوجد في وقت ما إنسان كامل القريحة لا يخطئ الحق أصلاً من غير أن يكون قد علم شيئاً من قوانين المنطق كقول من زعم أن النحو فضل إذ قد يوجد من الناس من لا يلحن أصلاً من غير أن يكون قد علم شيئاً من قوانين النحو، فإن الجواب في القولين جميعاً واحد " .

إن هذا الكلام هو رد مباشر علي ما ادعاه "أبو سعيد السيرافي" في مناظرته مع "متي بن يونس"، من أن المنطق لا حاجة إليه، وأن المعرفة باللغة العربية ونحوها تغني عنه . لذلك رأي الفارابي أن حل هذه المشكلة يكمن أولاً في ترتيب العلاقة بين النحو والمنطق من حيث علاقة كل منهما باللفظ والمعني، وهذا الترتيب سيؤدي إلي حسم النـزاع، وقد لجأ الفارابي إلي معالجة المسألة من زاوية الخصوص والعموم . فالنحو خاص لأنه يتعلق باللغة، واللغات عديدة مختلفة، وبالتالي فإن لكل لغة نحوها . أما المنطق فهو عام لأنه يتعلق بالعقل، والعقل واحد لدي الناس جميعاً، يقول: " المنطق يشارك النحو بعض المشاركة بما يعطي من قوانين الألفاظ، ويفارقه في أن علم النحو إنما يعطي قوانين تخص ألفاظ أمة ما، وعلم المنطق إنما يعطي قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها ".

ويبرر الفارابي ذلك بأنه " توجد في ألفاظ الأمم أحوال مشتركة من جهة أن الألفاظ منها مفردة ومنها مركبة، ومنها موزونة وغير موزونة .أما ما يخص كل لسان فمثاله أن الفاعل في العربية مرفوع وأن المضاف إليه لا يدخل فيه ألف ولام التعريف، وهكذا نجد في كل لغة ما يميزها من غيرها من اللغات ".

علاوة علي أن النحو والمنطق يشتركان في ناحية الموضوعات: فالمنطق موضوعه المعقولات من حيث تدل عليها الألفاظ، أما النحو فموضوعه الألفاظ من حيث هي دالة علي المعقولات، لذلك فعندما يتعرض المنطق للألفاظ فإنه يبحث في أحوالها العامة ويترك الأحوال الخاصة لعلم النحو . ويؤكد الفارابي هذا التشابه بين العلمين في كتابه " التنبيه علي سبيل السعادة "، حيث يقول: " وبين صناعة النحو وصناعة المنطق تشابه ما  وهو أن صناعة النحو تفيد العلم بصواب ما يلفظ به والقوة علي الصواب منه بحسب عادة أهل لسان ما، وصناعة المنطق تفيد العلم صواب ما يعقل والقدرة علي اقتناء الصواب فيما يعقل، وكما أن صناعة النحو تقوم اللسان حتي لا يلفظ إلا بصواب ما جرت به عادة أهل لسان ما، كذلك صناعة المنطق تقوم الذهن حتي لا يعقل إلا الصواب من كل شئ " .

هذا عن التشابه بين العلمين، وإذا وجد في النحو شئ من العناية بالأحوال العامة فذلك عائد إلي طبيعة اللغة التي يبحث النحو قوانينها:" فعلم النحو في كل لسان إنما ينظر فيما يخص لسان تلك الأمة وفيما هو مشترك له ولغيره لا من حيث هو مشترك، لكن من حيث هو موجود في لسانهم خاصة ، فهذا هو الفرق بين نظر أهل النحو في الألفاظ وبين نظر أهل المنطق فيها:... [لأن] المنطق فيما يعطي من قوانين تشترك فيها ألفاظ الأمم ويأخذها من حيث هي مشتركة، ولا ينظر في شئ بما يخص ألفاظ أمة ما، بل يوصي أن يؤخذ ما يحتاج إليه من ذلك عن أهل العلم بذلك اللسان " .

ويوضح الفارابي ذلك بنص يفيد أن النحويين العرب قد قسموا الكلام في العربية إلي اسم وفعل وحرف، أما أهل النحو في اليونان فقد قسموا أجزاء القول إلي اسم وكلمة وأداة، فهذا الاشتراك في التقسيم موجود في اللغة العربية واليونانية وربما في غيرها من الألسنة، فأهل النحو العربي يدرسونه علي أنه في لغتهم، واليونانيون يدرسونه علي أنه في اليونانية ، وفي هذا يقول الفارابي:" وما وقع في علم النحو من أشياء مشتركة لألفاظ الأمم كلها، فإنّما أخذه أهل النحو من حيث هو موجود في ذلك اللسان الذي عمل النحو له، كقول النحويين من العرب: إنَّ أقسام الكلام في العربية اسم وفعل وحرف. وكقول نحويي اليونانيين: أجزاء القول في اليونانية اسم وكلم وأداة. وهذه القسمة ليست توجد في العربية فقط، أو في اليونانية فقط، بل في جميع الألسنة. وقد أخذها نحويو العرب على أنها في العربية، ونحويو اليونانيين على أنها في اليونانية " .

إنَّ نظرية الفارابي هذه في أصالة علم العربية، في ألفاظها ونحوها وصرفها ونثرها وموزونها لا تنفي مطلقاً استخدام اللغويين والنحاة علم المنطق من حيث هو أداة التفكير الصحيح، شأنهم في ذلك شأن العلماء الآخرين في شتى مجالات المعرفة. فقد استخدم النحاة المتأخرون المنطق كما استخدمه الفقهاء والمتكلمون والعلماء الآخرون في بحوثهم العلمية والجدلية ..... دون أنْ يمسّ ذلك موضوع أصالة تلك العلوم .

علاوة علي أن الفارابي قد أرسي دعامة العلاقة العضوية بين الفكر واللغة، وجعل منها جزءاً أساسياً من نظرته الكلية لعلم اللسان. فالمنطق، على حدّ تعبيره، مشتق من النطق. وهذه اللفظة تقال عند القدماء على ثلاثة معانٍ: أحدها القول الخارج بالصوت، وهو الذي به تكون عبارة اللسان عما في الضمير. والثاني: القول المركوز في النفس، وهو المعقولات التي تدل على الألفاظ. والثالث: القوة النفسانية المفطورة في الإنسان، التي بها يميز التمييز الخاص بالإنسان دون ما سواه من الحيوان. وهي التي بها يَحْصَل للإنسان المعقولات والعلوم والصنائع، وبها تكون الروية. وبها يميّز بين الجميل والقبيح من الأفعال. وهي توجد لكل إنسان حتى في الأطفال، لكنها نزرة لم تبلغ بعد أن تفعل فعلها .

ومن هنا نجد أن الفارابي ما فتئ يؤكد العلاقة الحميمة بين المنطق بمفهومه العقلي وبين النطق والقول، ويذهب في ذلك إلى البحث في الجذور التاريخية لمعاني هذه المصطلحات. ويعود إلى هذه الفكرة في أماكن متعددة من مؤلفاته في "إحصاء العلوم"، وفي رسالته "التنبيه على سبيل السعادة" وغيرها ، ويمكننا أن نستبين معالم فلسفته العقلية في نظرته إلى علم اللسان، لا سيما في مجال النطق الذي اشتهر به، إذ يقول:" وأما موضوعات المنطق، وهي التي فيها تُعطى القوانين، فهي المعقولات من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات. وذلك أن الرأي إنَّما نصححّه عند أنفسنا بأن نفكر ونروِّي ونقيِّم في أنفسنا أموراً ومعقولات شأنها أن تصحح ذلك الرأي". ثم يواصل حديثه حيث يقول: " ..... بل نحتاج في كلّ رأي نلتمس تصحيحه إلى أمور ومعقولات محدودة، وإلى أن تكون بعددٍ ما معلوم، وعلى أحوال وتركيب وترتيب معلوم. وتلك ينبغي أن تكون حالها وألفاظها التي بها تكون العبارة عنها، عند تصحيحها لدى غيرنا. فلذلك نضطر إلى قوانين تحوطنا في المعقولات وفي العبارة عنها، وتحرسنا من الغلط فيها. وكلتا هاتين أعني المعقولات والأقاويل التي بها تكون العبارة عنها يسميها القدماء "النطق والقول". فيسمون المعقولات القول، والنطق الداخل المركوز في النفس والذي يعبّر به عنها القول.

ويعود الفارابي إلى هذه الفكرة الأساسية في نظريته اللغوية فيقول في رسالته "التنبيه على سبيل السعادة": "فاسم العقل قد يقع على إدراك الإنسان الشئ بذهنه، وقد يقع على الشئ الذي به يكون إدراك الإنسان. وهذه الصناعة تفيد الخير والسعادة بهدين الأمرين جميعاً، وبها يتقومان. والأمر الذي به يكون إدراك الإنسان – وهو أحد الأمرين اللذين يقع عليهما اسم العقل. – قد جرت العادة من القدماء أن يسموه النطق. واسم النطق قد يقع أيضاً على التكلم والعبارة باللسان. وعلى هذا المعنى يدل اسم "النطق" عند الجمهور وهو المشهور من معنى الاسم .

وأما القدماء من أهل هذا العلم، فإنَّ هذا الاسم يقع عندهم على المعنيين جميعاً. والإنسان قد يصدق عليه أنه ناطق بالمعنيين جميعاً، أعني من طريق أنه مُعبِّر، وأنَّ له الشئ الذي به يدرك، غير أن القدماء يعنون بقولهم في الإنسان إنّه ناطق أنّ له الشيء الذي به يدرك ما قصد تعرفه .

ويعزو الفارابي اللبس في فهم العلاقة بين المنطق وعلم اللسان بعامة وعلم النحو بخاصة، إلى عدم تحديد مفهوم هذه المصطلحات في مسيرتها التاريخية، وأن مفاهيمها قد اختلفت، لا سيما فيما يتعلق بدلالات "النطق" و"المنطق" و"القول" و"الأقاويل" ... إذ يقول:"ولما كان اسم النطق والمنطق، قد يقع على العبارة باللسان، ظن كثير من الناس أن هذه الصناعة قصدها أن تفيد الإنسان المعرفة بصواب العبارة عن الشئ، والقوة على صواب العبارة. وليس ذلك كذلك. بل الصناعة التي تفيد العلم بصواب العبارة والقدرة عليه هي صناعة النحو. وسبب الغلط في ذلك هو مشاركة المقصود بصناعة النحو المقصود بهذه الصناعة في الاسم فقط، فإنَّ كليهما يسمى باسم المنطق، غير أن المقصود في هذه الصناعة من المعنيين اللذين يدل عليهما اسم المنطق هو أحدهما دون الآخر .

ثم يعود الفارابي إلى توضيح العلاقة بين النحو والمنطق بمفهومه العقلي الذي وضع تعاليمه ونهَّج مسالكه وقرّب موارده إلى المتعلمين. وهو في ذلك لا يخرج عن القواعد التي أصَّلها في فهم علم النحو. يقول أبو نصر الفيلسوف: "... لكن بين صناعة النحو وبين صناعة المنطق تشابه ما، وهو أن صناعة النحو تفيد العلم بصواب ما ننطق به، والقوة على الصواب منه بحسب عادة أهل لسان ما، وصناعة المنطق تفيد العلم بصواب ما يُعْقَل والقدرة على اقتناء الصواب فيما يعقل. وكما أنّ صناعة النحو تقوّم اللسان حتى لا يلفظ إلا بصواب ما جرت به عادة أهل لسان ما، كذلك صناعة المنطق، تقوّم الذهن حتى لا يعقل إلا الصواب من كلّ شئ. وبالجملة فإن نسبة صناعة النحو إلى الألفاظ هي كنسبة صناعة المنطق إلى المعقولات .

والخلاصة، فإننا نجد أنفسنا أمام نظرية لغوية متكاملة وضع الفارابي الخطوط الرئيسة لبنيتها الأساسية. فقد تحدث عن "علم اللسان" العام وعن أصوله العلمية التي تشترك فيه ألسنة الأمم المختلفة. ونظر إلى اللغة نظرة كلية ومتكاملة. وإن هذه العمومية التي رآها في بنية علم اللسان العام قد وجدت طريقها في منهجه العلمي عندما تحدث عن الأجزاء السبعة العظمى التي رأى أن علم اللسان ينقسم إليها. وتوقف وقفة متأنية وعميقة عند "علم النحو"، سواء ما كان منه عاماً ومشتركاً بين ألسنة الأمم المختلفة أم ما كان نحو لسان من الألسنة لأمة من الأمم. وكان تأكيده العلاقة العضوية بين اللغة والفكر وبين الألفاظ ومدلولاتها سمة مميزة لنظريته اللغوية، وربما لا نعدو الصواب إذا قلنا: إننا نلمس عنده أصول النظرية الحديثة التي مؤداها أن الإنسان يفكر من خلال اللغة وأن وضوح اللغة دليل على وضوح الفكرة وبالتالي فإن سلامة اللغة ودقة التعبير ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بسلامة التفكير. وكان الفارابي في كل ذلك يبحث عن أمثلته في اللغة العربية، ويشير أيضاً إلى نظائرها في اللغة اليونانية، من أجل توضيح الفكرة وتقريبها إلى أذهان المتعلمين .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم