دراسات وبحوث

فلسفة الاتصاف بصفات الحق عند الغزالي

ميثم الجنابيانطلق الغزالي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) من أن الصفات هي ليست الذات، بل زائدة على الذات. وإن صانع العالَم عالِم بعلم وحي بحياة وقادر بقدرة[1]. وإن الاختلافات الممكنة هنا بين الصفات يعود إلى تباين الذوات بأنفسها. إذ لا يمكن أن يكفي الواحد منها وينوب عن المختلفات. فوجب أن يكون العلم غير القدرة، وكذلك الحياة والصفات السبع. وأن تكون الصفات غير الذات من حيث المباينة بين الذات الموصوفة وبين الصفة، اشد من المباينة بين الصفتين[2]. لكنه لم يضع الذات والصفات في تعارض، بقدر ما انه وجد في هذه العلاقة النموذج الفاعل للوحدانية في صفاتها الكبرى. فعندما نقول "الله" فإننا بذلك نكون قد دللنا على الذات مع الصفات لا على الذات بمجردها[3]. فالصفات كلها قائمة بذاته. ولا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته سواء كان في محل أو لم يكن[4]. وقد حدد ذلك قِدَم الصفات كلها. ففي حالة كونها حادثة، كان القديم محلا للحوادث. وهو الذي حدد انتقاده لآراء الجهم بن صفوان من خلال محاولته حل معضلة القِدَم والحدث في الصفات بواسطة إظهار الوحدة الدائمة والمطلقة بين الصفات والذات. ونظر إلى هذه القضية من خلال ما يمكن دعوته بالوحدة الخفية للمستقبل والحاضر والماضي في علم الله. فالله في الأزل عالم بوجود العالم في وقت وجوده. وهذا العلم صفة واحدة. مقتضاها في الأزل، والعلِم بأن العالِم يكون من بعد، وعند الوجود، العلِم بانه كائن وبعده العلِم بلإنه كان. وهذه الأحوال تتعاقب على العالِم ويكون مكشوفا لله تلك الصفة وهي لم تتغير، وانما المتغير أحوال العالِم[5]. وهي نفس الأفكار التي استعرضها في (قواعد العقائد) و(إحياء علوم الدين). فقد انطلق من أن جميع الصفات قديمة قائمة بذاته، لا تتغير بل يجب للصفات من نعوت القِدم ما يجب للذات. فلا تعتريه التغيرات. ومن هنا فهو عالِم بعلم ، حي بحياة، قادر بقدرة. أما قول القائل بانه عالِم بلا علم، كقوله غني بلا مال، وعلِم بلا عالِم، وعالِم بلا معلوم، فإن العلم والمعلوم والعالم متلازمة كالقتل والمقتول والقاتل[6].

وعندما تناول في (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) قضية الأسماء الإلهية، فإنه أفرد فصلا في (بيان وجه رجوع الأسماء الإلهية الكثيرة إلى ذات وسبع صفات على مذهب أهل السنّة)، أي معالجة فكرة الكيفية التي يمكن إرجاع هذه التسميات العديدة إلى سبع صفات من خلال حلها على أساس الوحدة الفكرية للذات والصفات والأفعال. فإذا كانت الذات واحدة، والصفات سبع، والأفعال كثيرة، والإضافات والأسلوب كثيرة فإن من الممكن التركيب الدائم بين الصفات بالإضافة والسلب، مما يؤدي إلى سعة إمكانيتها التوليفية. وقدّم عشرة أقسام أساسية. الأول منها ما يدل على الذات (مثل الله). والثاني ما يدل على الذات مع السلب (مثل القدوس والسلام والغني) والثالث ما يرجع إلى الذات مع إضافة (مثل العلي والعظيم والأول والآخر). والرابع ما يرجع إلى الذات مع سلب وإضافة (مثل الملك والعزيز)، والخامس ما يرجع منه إلى صفة (مثل العليم والقادر والحي)، والسادس ما يرجع منه إلى العلِم مع إضافة (مثل الخبير والشهيد). والسابع ما يرجع منه إلى القدرة مع زيادة وإضافة (مثل القهار والقوي). والثامن ما يرجع منه إلى الإرادة مع إضافة أو مع فعل (مثل الرحمن والرحيم). والتاسع ما يرجع منه إلى صفات الفعل (مثل الخالق والبارى). والعاشر ما يرجع منه إلى الدلالة على الفعل مع زيادة (مثل المجيد والكريم). فالأسماء جميعها لا تخرج عن هذه الأقسام العشرة مع رجوعها، كما يستنتج الغزالي، إلى هذه الصفات المحصورة المشهورة[7].

لكن ماذا يعني رجوع هذه الأقسام وانحصارها في الصفات المشهورة؟ إنها تعني أولا وقبل كل شيء بقاء الغزالي في الاطار السنّي العام وتوليفته العقلية الإصلاحية  تجاه المستوى العقائدي للعوام. كما هو جلي في (الاقتصاد في الاعتقاد) و(الرسالة القدسية). إضافة لذلك أنها تشكل الأرضية العامة لتقاليد الكلام في قضايا العقائد، أي كل ما أدرجه في منظومته الفكرية كمستويات معقولة ومشروعة تختزل في طابعها الإصلاحي والعملي وحدة المعقول والمنقول.

و يمكننا العثور على الصيغة العقلية المباشرة لموقفه هذا في الفصل المدموج في نهاية (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) والذي اعتبره اضافيا إلى ما في كتابه. فقد استعرض فيه بصورة وجيزة فكرة إرجاع الصفات والأسماء كلها إلى ذات واحدة على مذهب المعتزلة والفلاسفة. أما إنكار المعتزلة والفلاسفة للصفات وإثباتهم ذاتا واحدة، فلا يعني إنكارهم الأفعال ولا كثرة السلوب والإضافات. فالصفات السبع المشهورة ترجع عندهم إلى العِلم، والعِلم إلى الذات. مما جعله يعلّق في النهاية على أن من الممكن الرجوع في انتقاده هذه الآراء إلى ما سجله في (تهافت الفلاسفة)[8].

لكن ما هو الاستنتاج العام الذي ميز (تهافت الفلاسفة) في افضليته في هذا المجال ولِمَ لم يرسل القارئ إلى (الاقتصاد في الاعتقاد)، أو (الرسالة القدسية في قواعد العقائد). فكتاب (تهافت الفلاسفة) لا يحتوى على ردود إيجابية. بمعنى انه تعامل مع آراء الفلاسفة والمعتزلة حسب تقاليد الجدل الكلامي وشكوكه العقلية. في حين كانت ايجابية آرائه في (الاقتصاد في الاعتقاد) و(الرسالة القدسية في قواعد العقائد) موجودة أيضا في (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) وبالأخص في الفصل المتعلق (ببيان وجه رجوع هذه الأسامي الكثيرة إلى ذات وسبع صفات على مذهب أهل السنّة). وبغض النظر عن الطابع اللاهوتي المدرسي في نقاشه لفكرة الأسماء التسع والتسعين، إلا انه مع ذلك لم ينظر إليها نظرته إلى مبدأ ما أو منظومة لها قيمتها الخاصة. لهذا أشار إلى انه قد جرى في شرح الأسماء وعددها على العادة المتبعة في ذلك[9]. وأكد في احد استنتاجاته من أن "المعاني الشريفة لأسماء الله بلغت هذا المبلغ، لا لأن العدد مقصود، ولكن وافقت المعاني هذا العدد، كما أن الصفات عند أهل السنّة سبع وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. لا لأنها سبع، ولكن صفات الربوبية لا تتم إلا بها"[10]. غير ان هذا الاستنتاج يطوي في ذاته احتمال مقارنته بما ينسب للنبي محمد قوله "مئة إلا واحدة. والله وتر يحب الوتر". وعندما قارن هذه الفكرة بفكرة الصفات، كتب قائلا "إن صفات الله سبع، ليس لأنه وتر يحب الوتر، بل ذلك لذاته وإلهيته. والعدد فيه غير مقصود"[11]. وكان ذلك يعني فسحه المجال أمام الحرية الأوسع في التعامل مع الأسامي والصفات المطلوقة على الله. فعندما ناقش مسألة ما إذا كانت هي بالتوقيف أو تجويزها بالعقل، فإنه مال إلى حاكمية العقل. وهو  موقف عريق في تقاليد الأشعرية، التي مثلت في ميدان الكلام والعوام تقاليدها الأوسع. فالباقلاني، على سبيل المثال، وقف بصدد هذه القضية إلى جانب جوازه، إلا ما منع منه الشرع أو أشعر بما يستحيل معناه على الله. في حين وقف قبله الأشعرى إلى جانب التوقيف. بمعنى عدم الإجازة بإطلاق التسميات إلا بما فيه إذن من الشرع. أما الغزالي، فإنه أكد على أن كل ما يرجع إلى الاسم فذلك موقوف على الإذن، وما يرجع إلى الوصف فذلك لا يقف على الإذن، بل الصادق منه مباح دون الكاذب[12]. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تمييزه بين الاسم (باعتباره اللفظ الموضوع للدلالة على المسمى) والوصف، فإن مقصده النهائي يصبح أكثر وضوحا. فهو ينطلق من أن لكل فرد ولاية التسمية لذاته (كالأب والابن) وإن وضع أسم لإنسان لا يرغب فيه أو تغييره عادة ما يؤدي إلى اثارة حفيظته، فكيف يا ترى الأمر مع الله. لكنه أكد أيضا على أن ما يقوله هنا هو مجرد نوع قياس فقهي تبنى على مثله الأحكام الشرعية[13]. أما إباحة الوصف فهو لكونه خبر عن أمر. والخبر أما كاذب وأما صادق. والشرع حرّم الكذب إلا بعارض، ودل على إباحة الصدق إلا بعارض. فمثلما يحق لنا القول في زيد "انه موجود" كذلك في حق الله ورد به الشرع أو لم يرد[14]. وفي حالة صعوبة إطلاق لفظ ما عليه، فإنه يجوز اطلاقه في حالة اقترانه بلفظ آخر. فإننا لا نقول على الله "يا زارع يا حارث"، في حين يجوز ان يقال "من وطئ فأمنى فليس هو الحارث، وإنما الله الحارث، ومن بث البذار فليس هو الزارع، إنما الله هو الزارع، ولا نقول لله يا مذلّ! بل نقول يا معزّ يا مذل. فإنه إذا جمع بينها كان وصف المدح، لأنه يدل على أن طرفي الأمور بيديه[15].

لقد أراد الغزالي بذلك إظهار وحدة الكلّ من وراء تعدد الصفات. إلا أن هذه القضية ظلت في اطارها التصنيفي العام تبدو كوحدات متباينة في مفاهيم الذات والصفات. ولم يعن ذلك في الواقع، سوى وحدة الكثرة، ووحدة العابر والدائم، والنسبي والمطلق. انه سعى إلى اظهار التباين المطلق بين ذات الله وصفاته من جهة، وذات الإنسان وصفاته من جهة أخرى. والكشف عن الوحدة والتطابق النسبيين بينهما. لهذا شدد على أن "بين صفات الله وصفات الخلق من البعد ما بين ذات العزيز وذواتهم". وكما أن ذوات الخلق جوهر وعرض وذات الله مقدس عنه، ولا يناسب ما ليس بجوهر وعرض الجوهر والعرض، فكذلك صفاته لا تناسب صفات الخلق[16].

تعكس هذه الصيغة المكثفة مراحل رؤيته لقضايا الصفات والذات واستيعابه النقدي لثقافة الكلام ككل بمعايير السلوك الصوفي. فإذا كان  في بداية الأمر يدافع عن الرؤية الكلامية في مواقفه من الصفات السبع، فانه شدد مع ذلك على خلاف العقل والنقل في التسمية، وتطابقهما في المعنى. بمعنى انه جوّز تسمية الجوهر وإطلاقه على الله من حيث المعنى ومنعه من جهة الشرع. وينطبق هذا بالقدر ذاته على تسميات أخرى  إضافية. وهو الخلاف الذي يصعب تذليله خارج الطريق الأخلاقي المعرفي. مما يعني الإبقاء عليه باعتباره البقية المجهولة أمام سلوك السائر في تذليل الخلاف، مما اصطلحت عليه المتصوفة بتسمية التخلق بأخلاق الله. إذ ليست أخلاق الله هنا سوى صفاته وأسمائه أو التوحيد الحق. لهذا شدد في (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) على ما اسماه بحظوظ الإنسان من أسماء الله، وأبقى في الوقت نفسه على هوة التباين. فعندما تناول الاسم الإلهي (القدوس)، فإنه وصفه بالمنّزه عن كل وصف من أوصاف الكمال الذي يظنه أكثر الخلق كمالا في حقه. وذلك لأن الخلق نظروا إلى أنفسهم وعرفوا صفاتهم وأدركوا انقسامها إلى ما هو كمال، ولكنه في حقهم مثل علمهم وقدرتهم وسمعهم وبصرهم وكلامهم وإرادتهم واختيارهم، ثم كان غايتهم في الثناء على الله ووصفه أن وصفوه بما هو أوصاف كمالهم من علم وقدرة وإرادة وسمع وبصر. والله منزه عن أوصاف كمالهم. وانه لولا ورود الرخصة والإذن بإطلاق هذه الصفات لم يجز إطلاق أكثرها[17].

إن التشديد على عدم تناسب صفات الحق وصفات الخلق هو أسلوب إظهار تناسب المطلق والنسبي، والمجرد والملموس. وبالتالي نموذجه المتكامل في الكلّ (الإلهي والإنساني)، أو ذات الله المقدسة والإنسان الكامل. وهو ذات الحل الذى يؤسس لنفسه ويشق طريقه في الوقت نفسه في ميدان تذليل عدم تناسب الشريعة والحقيقة. من هنا فكرته القائلة، بأن إدراك النفي الشامل لمفهوم الصفات والأسماء، لا يعني في منظومته الفكرية، سوى وحدة تجليات الوجود باعتبارها وحدة تجليات الصفات النابعة من الذات المطلقة. واختزل هذا هو المسار الوجودى الأخلاقي في مكوناته الجديدة عناصر اللاهوت العقلاني. وهذا بدوره ليس إلا الاختزال الأسمى لتقاليد اللاهوت الإسلامي في إدراكه حقيقة الله. فعندما يناقش مسألة تفاوت الناس في محبة الله، نراه يؤكد على اشتراك المؤمنين في أصل الحب، وتفاوتهم في درجاته في الوقت نفسه، بفعل تفاوتهم في المعرفة وحب الدنيا، استنادا إلى أن الأشياء تتفاوت بتفاوت أسبابها[18]. مما اعطى له إمكانية التفريق بين النسبي والمطلق في التعامل مع حقيقة الحب استنادا إلى مستوى المعرفة والمصلحة. فأغلب الناس ليس لهم من الله إلا الصفات والأسماء، التي قرعت سمعهم فتلقوها وحفظوها. وربما تخيلوا لها معان يتعالى عنها الله، وربما يطلعوا على حقيقتها. في حين هناك من يتخيل لها معان فاسدة. فمن يحب الله مثلا لكونه محسنا إليه منعما عليه، ولم يحبه لذاته ضعفت محبته، اإ تتغير المحبة بتغير الإحسان. فلا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرضاء والنعماء. أما العارفون بالحقائق، فإن حبهم لله مبني لا على الصفات والأسماء أو لعلاقة والمصلحة، بل على حقيقة المعرفة لكل ما هو موجود وخالقه. فكل ما في الوجود هو صنع الله وتصنيفه. والعارف لا يعرف بالجملة، بل يطالع تفاصيل صنع الله فيه. وكلما ازداد المرء إطلاعا على أعاجيب صنع الله ازداد له حبا. وهي العملية غير المتناهية بفعل عدم تناهي الموجودات[19]. إذ لم يعن تجاوز الصفات والأسماء سوى التحلي الحق بصفات الحق، أو تمحور الحق في اسمائه، باعتبارها معالم الكينونة المثالية للعارفين. وتنفي هذه العملية في ذاتها حصيلة التجربة العقلية الفردية والاجتماعية، والتاريخية والثقافية من خلال تحويلها إلى عناصر القوة الفاعلة في تربية الإرادة. وليس ذلك في الواقع سوى رؤية حدود المعقول في الاتصاف بصفات الحق من زاوية الارتقاء الصوفي في مسالك الطريق غير المتناهية.

***

ا. د. ميثم الجنابي

...............................

[1] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص60.

[2] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص63.

[3] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص64.

[4] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص65.

[5] الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، ص69.

[6] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص110.

[7] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص157-159.

[8] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص162.

[9] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص165.

[10] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص170.

[11] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص172.

[12] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص173.

[13] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص174.

[14] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص175.

[15] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص175.

[16] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص25.

[17] الغزالي: المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى، ص175.

[18] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص319.

[19] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص320.

 

في المثقف اليوم