دراسات وبحوث

كمال الإنسان وإنسان الكمال عند الغزالي

ميثم الجنابي"إن الانسان على صغر حجمه جمع في ذاته

ما يكاد يوازي عجائب كل العالم"(الغزالي)

إن الثقل المرهق لإشكالية الإنسان في ثقافة الخلافة، لم يكن نتاجاً تأملياً للفكرة القائلة باستخلاف الإنسان للنبوة والإلوهة، بقدر ما أنه كان الاستمرارية المعقدة لتداخلهما، أي الانعكاس الثقافي لوحدة التاريخي واللاهوتي في فرق الإسلام وعقائدها. وهي النتيجة التي جعلت التوحيدي يقرّ بأنه لا شيء أشكل على الإنسان من الإنسان نفسه. وهي المفارقة التي شكلت في صيغتها المبسّطة الاستيعاب الفلسفي والأدبي الأعمق للروح الباحث عن معنى يقف خارج حيثيات العادة والتقليد. وهي ذات المفارقة الكبرى في الفكر الإسلامي حتى زمن الغزالي. بمعنى التركيز الهائل على عوالم الإنسان والولوج إلى أدق هواجسه دون أن تفرد له مع ذلك، استقلاليته الذاتية في تصوراتها ومنظوماتها.

فقد احتل الإنسان في ثقافة الإسلام موقعه المناسب لتصورات القرآن الأولى، وأحكامه المتنوعة عنه. وبغض النظر عن تباينها، إلا أنها حاصرته فيما بين الديني والدنيوي، الدنيوي والأخروي، بين ذاته والله. مما أعطى للمسافة القائمة بينهما ومضامينها المختلفة هيئة الانعكاس النموذجي لرؤية العلاقة الواجبة والمثال الحي بين الإنسان والمطلق. أي كل تلك العلائق المترامية في وجوده بين «أعلى عليين وأسفل سافلين». أو نماذجه العديدة لتفسير وتبرير وجوده في منظومة العلاقة الواقعية والمثالية، والتي تبدعها الثقافة عن ذاتها في ذواتها.

فقد شدد القرآن على قيمة الخلق الإلهي في الإنسان باعتباره الكائن الذي سجدت له كيانات الوجود جميعاً، كما في الآية "لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين"[1]. وكذلك في أمثالها العديدة المصورة لخلق الإنسان وقضائه أجلاً مسمى[2]. والآيات التي تكشف عن جوهرية الفعل الإلهي في الإنسان. فالأخير لم يخلق عبثاً، وإن مرجعه النهائي إلى الله[3]. وإن موقعه في الكون، الأكثر رفعة لأن الله أكرمه وحمله في البر والبحر ورزقه الطيبات وفضله على أكثر ممن خلقه تفضيلا[4]. غير أنه شأن كل ما في الوجود عرضة للزوال. إذ لا وجود حق في نهاية المطاف إلا لوجود الحق (الله). مما حدد في نماذج الإدراك الإسلامي المختلفة المذاق الخاص لمقامه ومعنى وجوده وقيمته الجوهرية بمعايير الحياة والموت جميعاً. أو الوحدة المرنة في الآيات القائلة، بأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الإنسان يبلى في الحياة فتنة له، تماماً بالقدر الذي يعني ذلك رجوع الأعيان إلى خالقها. وليس ذلك في محتواه الواقعي سوى التعبير الديني للمعنى الأزلي في المصير الوجودي للفرد والجماعة، والصيغة الأكثر غائية في أخلاقيتها.

وقد ظلت هذه العناصر المتناثرة في القرآن والموحدة على خلفية الوحدانية الإسلامية تلبي متطلبات الانقسامات الجديدة في وحدة الخلافة الدولتية والاجتماعية. فقد وحدت الدولة عالم الإله الإسلامي وربوبيته العقائدية ضمن حدودها العسكرية، وفسحت المجال لاحقاً أمام المحاولات الجريئة لإعادة النظر بها (الوحدة) في عالم السياسة الديني. وهي الملامح التي نعثر على بداياتها في مساعي القوى المتصارعة البحث عن مثالها في آيات القرآن المتنوعة. فالخوارج سعت لتذليل الانقسام والفرقة من خلال تضحيتها بأفرادها وذاتها. وبهذا تكون قد سعت لتذليل الانقسام الديني السياسي بمعايير الروح الفردي وتضحياته في تماهيها الذاتي في "الشراة"، أي كل ما طابق حقيقة الإنسان مع قدرته الدائمة للتضحية بالنفس من أجل المبدأ الأعلى. مما جعلها ترمي بعالم الإنسان الفردي إلى ما كان يترادف في الذاكرة التاريخية لأسلافها ببعد عاد وثمود. انطلاقاً من أن الله نفسه قد اشترى من المؤمنين أنفسهم. ولهذا لم تتحسس الخوارج واقع هذه العلاقة بمعايير التجارة القرشية، بل بمعيار من إذا دعاه الأجل كان من فرسانه. فقد غيّبت الذات الإنسانية وراء فعل المبدأ، ورفعت الأخير إلى مصاف المطلق. وهو كل ما نعثر عليه في غلوّهم حتى منعوا تحكيم الرجال!! أما تاريخياً فقد كان فعل الخوارج في مسعاه الأخلاقي- العملي لإعادة لحمة الذات للفرد والجماعة، هو مسعى التجزئة العميقة في صيرورة الروح الثقافي. ولهذا رفعت الكل الأخلاقي وطابقته في الوقت نفسه مع ميدان معاركها الجسدية.

بينما عمّقت الشيعة هذه العملية من خلال رفعها الإنسان وشأنه إلى مصاف المطلق الإلهي. بتركيزه بالإمام والأئمة. بمعنى تعميقها للروح الأخلاقي، ولكن في عالم السياسة. فقد انتقدت هي الأخرى، شأن الخوارج، رذائل العقل الماكر، ولكنها استعاضت عنه ببدائل العصمة الإمامية. غير أنها لم تطابق هذه العصمة مع جدوى معاركها المباشرة، رغم تضحياتها الجسام وضراوة غلوها الفكري في أفعالها، بل مع روحانية العصمة الإمامية. وبهذا تكون قد عمّقت مكونات الفكر الإسلامي في مواقفها من الإنسان، رغم انزوائها العميق في خيالات الباطنية وفرضياتها المقدسة عن أخطاء الأدلة والبراهين (العقلية). ولهذا بحثت في أعيان الموجودات وصيرورة الأكوان عما يؤيد فرضياتها عن حقيقة الإنسان – الإمام. بحيث نظرت إليه كما لو أنه الذروة الحاكمة والمحكومة فيه. ودفعت بعالمه إلى نهايته اللامتناهية لكي تكتشف في هذه المفارقة اللامنطقية منطق الوحدة المعقولة في باطنية التأويل وتجسيدها الأمثل في الإنسان – الإمام، باعتباره البؤرة الروحية المشعة لحقائق الكلّ الإلهي- الإنساني. وهي الصيغة الموازية في حوافزها ومظاهرها لما في قطبية الصوفية، رغم اختلافهما الهائل.

ساهمت المدارس العقلانية واللاعقلانية جميعاً في بناء الهيكل الثقافي الإسلامي لملامح الإنسان النموذجي كما جسدته مدارس الكلام والفلسفة والتصوف، تماماً بالقدر الذي تزاحمت في صيرورته أذواق العلوم وقيمها من لغة وأدب، وطب وفلك. وكل ما تداخل في مكونات الرؤية المتراكمة عن حقيقة الإنسان وإشكالات وجوده التاريخي والميتافيزيقي. فقد أبرزت المعتزلة قيمة العقل والفعل في الإنسان، بينما شددت الأشعرية على شمولية القدرة الإلهية وماهية الإنسان الفاعلة في وحدانية الفعل المكتسبة، في حين وّحدت الفلاسفة تصورات الكلام وعمقت أحكامه في منطقها عن الوجود والميتافيزيقيا والنفس الإنسانية، بينما ولع الفقه في ربط الإنسان بحقوق العادات. في حين بعثر الشعر والأدب عواطف الإنسان ووّحدها في ديوان هجائه ومديحه، ووصفه وغزله. بينما دوّن التاريخ صعوده وإخفاقه، خيره وشره، فضائله ورذائله، حكمته وجهالاته، قدرته وعجزه، ونشرها على حبال القضاء والقدر تارة وعلى إرادته تارة أخرى. وأرّخ للأخلاق والروح في السياسة، وروحن التاريخ وأخلقه في الوعي والذاكرة. ووراء كل ذلك تلألأت عوالم الإنسان المتشظية، التي أعطى لها المتصوفة وحدة البريق الخاطف للروح في الجسد، والخالد في العابر. ولم يكن ذلك معزولا عن انطلاقهم من كل ما هو عرضة للزوال، والبحث فيه عن آن الأبد، باعتباره تجلياً لوحدانية الحق. مما حدد بدوره قواعد سلوكهم الأولية في قلب معايير الآن الزائل (الأجل) واكتشاف حقيقة الحق. ومن هنا مخالفتهم للنفس وتذليلهم للأعراض والأعواض والعوائق والعلائق من خلال تحويلهم المساعي العملية الأخلاقية صوب إدراك معنى العظمة في المذلة، والغنى في الفقر، والمعرفة في الجهل، والقوة في الضعف. لكنهم وضعوا قواعد سلوكهم في مخالفة النفس أمام حاكمية المطلق ومعاييره الدائمة. ولم يسعوا من وراء ذلك لتذليل جانب ما معين على حساب آخر، بل في وحدة الكلّ.

وقف الغزالي أمام هذه الحصيلة، كما هو جليّ في (المنقذ من الضلال). فهو يشير إلى أنه وقف وقفة الشجاع الجسور أمام التنوع الهائل لإبداع ثقافة الخلافة في قرونها الخمسة السابقة له في تصوراتها وأحكامها عن الإنسان وعالمه الاجتماعي السياسي والأخلاقي. ولم تعن شجاعته الجسورة تحدياً ما معنوياً لإنجازاتها، بل وتأثراً عميقاً لما في كلّها الفكري. وبهذا تكون قد تضمنت العناصر الأساسية للوجود والمعرفة كآنيات دائمة. إذ ليس الوجود الحقيقي والمعرفي، أو الجمال والكمال الحقيقيين سوى التجلي الحقيقي للأخلاق المطلقة ومثالها في الله. وهو المعيار الذي قاس به ماهية الإنسان وغاية وجوده.

ومما هو جدير بالاهتمام هنا كون الغزالي لم يتطرق إلى قضايا الإنسان إلا في مرحلة تصوفه. إذ لا نعثر على مواقف واضحة له بهذا الصدد للمرة الأولى إلا في (ميزان العمل). أما (إحياء علوم الدين) فقد كان في جوهره وغايته هو إحياء الإنسان والأمة في إدراكهما لحقائق وجودهما المادي والمعنوي، المعرفي والأخلاقي. وإذا كانت (عاداته) و(عبادته) (الأرباع الضرورية لوجوده المادي، فإن (مهلكاته) و(منجياته) هي الأرباع المكملة لوجوده الروحي.

فهو يشير في (ميزان العمل) إلى أن الإنسان على صغر حجمه جمع في ذاته ما يكاد يوازي عجائب كل الدنيا، حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم[5]. وبغض النظر عن أنه لم يطابق بينهما، إلا أن للمقارنة مقدماتها المنطقية في نظرته عن كمال المخلوقات في الإنسان وحقيقة الرحمة الإلهية السارية في الوجود، أي إبداع كل ما هو موجود على أفضل كمال. إذ لا يمكن لحقائق الكمال أن تتباين في حالة إدراكها الحق. من هنا تأسيسه النظري العميق لمعرفة النفس باعتبارها أسلوب معرفة الله والعالم.

إن الشبه القائم بين الإنسان والعالم، حسب نظر الغزالي، يقوم في كل شيء. فرأسه مشابه لسماء العالم من حيث أن كل ما علا فهو سماء. وحواس الإنسان تشبه الكواكب والنجوم من حيث أن الأخيرة أجسام مشعة تستمد نورها من نور الشمس فتضيء بها. وأن الحواس هي الأخرى أجسام لطيفة تستمد من الروح أضواءها فتضيء سلك المدركات. وروح الإنسان تشبه الشمس. فضياء العالم ونوره وحياة الحيوان والنبات تظهر بمساعدة الشمس وفضلها، وكذلك روح الإنسان، به يحصل ظاهر نمو أجزاء بدنه ونبات شعره وحلول حياته. وإذا كانت الشمس وسط العالم تطلع في النهار وتغيب في الليل، فكذلك الروح موقعها وسط جسم الإنسان، تغيب بالنوم وتطلع باليقظة. ونفس الإنسان تشابه القمر من حيث أن القمر يستمد من الشمس، وكذلك النفس تستمد من الروح. والقمر خالف الشمس والروح خالف للنفس. والقمر والنفس آيات ممحوة، ومحو القمر في أن لا يكون ضياؤه منه، أما محو النفس فيكون في أن ليس عقلها منها. ويعتري الشمس والقمر خسوف وكسوف، والروح وسائر الحيوان غيبوبة وذهول. وإذا كان في العالم نبات وأنهار وجبال وحيوان، ففي الإنسان نبات هو شعره، وأنهار هي عروقه ودمه، وجبال هي عظامه، وحيوان هي هوام جسمه[6].

وعلى الرغم من إدراكه لظاهرية هذه المقارنة، إلا أنه وجد فيها تشبيهاً لذوي العقول ومعنى منعه عن الاستفاضة به واقع، إنه "لما كانت أجزاء العالم كثيرة، ومنها ما هي لنا غير معروفة ولا معلومة، لذا كان في استقصاء مقابله جميعها تطويل"[7]. ومع ذلك لم يقف الغزالي عند حدود المقارنة الظاهرية بين العالم والإنسان. ولهذا أوّل الحديث (الموضوع) القائل بأن "الله خلق آدم على صورته" بالصيغة التي جعل من الضمير في صورته صورة العالم الأكبر بجملته[8]. وبهذا المعنى يكون آدم (الإنسان) مخلوقاً على مضاهاة صورة العالم الأكبر، ولكنه مختصر صغير. ولم يعد هذا الاختصار نسخة وجودية خالصة فحسب، بل ومعرفية أيضاً.  وهي المشابهة المعقولة في حالة النظر إلى قسمة الإنسان والعالم بمفاهيم الظاهر والباطن، والمحسوس والمعقول، والملك والملكوت والجبروت، والمحسوس والمعقول وتوليفهما.

فقد قّسم الغزالي العالم إلى ما هو ظاهر وهو عالم الملك (عالم المادة المحسوس) وإلى ما هو باطن وهو عالم الملكوت (عالم المعقول والحدس). وينطبق هذا بالقدر ذاته على الإنسان من حيث انقسامه إلى ما هو ظاهر محسوس كالعظم واللحم وسائر جوارحه المحسوسة، وإلى ما هو باطن كالروح والعقل والعلم والإرادة والقدرة وما شابه ذلك. وإذا كان العالم ينقسم بقسمة أخرى إلى عالم الملك (الظاهري المحسوس) وعالم الملكوت (الباطن المعقول)  وعالم الجبروت (الوسط التوليفي بينهما أو المركب)، فإن الإنسان ينقسم هو الآخر إلى ما هو محسوس مشابه لعالم الملك (كاللحم والعظم) وما هو معقول مشابه لعالم الملكوت (كالعقل والروح) وإلى ما هو وسط توليفي ومرّكب مثل الإدراكات الموجودة في الحواس والقوى الموجودة في أجزائه[9].

وقد فسحت فكرته هذه عن مشابهة الإنسان للعالم والعالم للإنسان، المجال ضمنياً أمام بلورة العناصر الجوهرية لنظرية الإنسان الكامل. حقيقة إن الغزالي لم يصغ هذه الفكرة في منظومة واضحة المعالم لها أسسها المستقلة، لكنه سعى لكشف العلاقة الجوهرية بين الإنسان والعالم من خلال تشريحهما الوجودي، عبر  وضعهما في علاقة التداخل الضرورية، أي تحول الإنسان إلى جزء من العالم، تماماً بالقدر الذي كان هو بحد ذاته عالماً صغيراً محاكياً للعالم الأكبر. ذلك يعني، أنه لم يؤكد على تطابقهما أو أن أحدهما هو هو نفسه. الأمر الذي تضمن في ذاته إمكانية تعميق المعرفة الذاتية باعتبارها وسيلة إدراك العالم كما هو، وإمكانية مطابقتهما الوجودية والمعرفية. وقد سار الغزالي  ضمن سياق الاتجاه الأول، بينما سيسير ابن عربي والجيلي لاحقاً ضمن سياق  الاتجاه الثاني.  غير أننا نعثر عنده أيضا على هذين الاتجاهين بأقدار متفاوتة من الانضباط والترابط المنطقيين.  بمعنى أنه لم يدفعهما إلى النهاية بهيئة منظومات مستقلة ومترابطة في الوقت نفسه. بمعنى ربطه في كل واحد العالم والإنسان في تشابههما الوجودي والمعرفي، كما هو جلي في مقارنته بين الظاهر والباطن والمحسوس والمعقول، وثلاثية الملك والملكوت والجبروت في العالم والإنسان، وبين فكرته عن أنه ليس بالإمكان إبداع أفضل من صورة هذا العالم.

فإذا كان العالم بنظره هو صورة الكمال، انطلاقاً من أنه لا أظهر من الوجود وجوداً وكمالاً، وأن الإنسان يحاكي في مكوناته ووجوده مكونات العالم ووجوده، لهذا فإنه يحمل في ذاته صورة الكمال. بمعنى كماله الوجودي، باعتباره وجوداً أو الكمال في ذاته، والذي لا يمكن إدراكه دون معرفة حقيقته كما هي.

وبهذا يكون الغزالي قد وحّد في آن واحد  الطابع الوجودي والمعرفي في الإنسان، ولكنه غلّب الثاني على الأول في الأخلاق. ففي الأخلاق يتمايز الإنسان عن الطبيعة، بسبب ما فيه من عالم الروح الإلهي أو الأمر الرباني. أما الوحدة القائمة بين الإنسان والعالم، فإنها لا تلغي التباين في درجات الكمال. على العكس. إنها تستلزمه في إطار وحدته انطلاقاً من أن لكل شيء كماله الخاص به. وكمال العالم في وجوده، بينما الإنسان في معرفته. وكلاهما يؤديان إلى الإقرار بوحدة الكلّ، باعتباره إبداعاً لله. فهي المعرفة السائرة من العالم إلى النفس، ومن النفس إلى العالم، ومنهما إلى الكلّ، ومنه إلى الله. وأدى هذا الاستنتاج بالغزالي إلى مهمة البحث عن أخلاق التجانس وتأسيسه في علاقة الإنسان بالله، أو معالم المطلق الأخلاقي، باعتبارها الصيغة الأكثر تجريداً لهذه العلاقة. لهذا السبب وقف موقف المعارض من نزعة التشبيه التي حاولت الحشوية دسّه في تأويلها للحديث القائل بأن الله خلق آدم على صورته، من خلال إبراز تشابه الصفات أو نفيها. بمعنى وقوفه في آن واحد ضد إمكانيات الحلول والتجسيم أو التعطيل، أي نفي الصفات. وهي الفكرة التي حاولت أن تكشف عما هو مشترك بين الله والإنسان استناداً إلى الصفات الإلهية التقليدية بالنسبة للكلام الإسلامي عن قدرة الله وسمعه وبصره وعلمه وإرادته وكلامه وحياته، تماماً كما أن للإنسان قدرة وإرادة وسمع وبصر وإرادة وكلام وحياة. حيث وجد فيها عجزاً عن رؤية وإدراك ما أسماه بحقيقة النسبة. لهذا أكد في (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) على أن كون هذه الصفات جميعاً موجودة عند الله والإنسان، لا تستلزم المماثلة والتشبيه. إذ لو كان الأمر كذلك لكان الجميع مشبّهة، إذ لا أقلّ من إثبات المشاركة في الوجود[10].

وبهذا المعنى يكون الغزالي قد فسح المجال أمام الاعتراف الجزئي بمشابهة الإنسان لله. لكنه  تشابه اللفظ لا الحقيقة والمعنى. فإذا كانت صورة الإنسان محسوسة مكنونة مخلوقة مقدّرة بالفعل، فإنها لله مضافة باللفظ. وقد أدرك ما في هذه العبارة من إمكانية مؤدية لنفي الصفات، من هنا تشديده على أن مقصده ليس نفي الصفات، بل الإشارة إلى التباين ما بين الصورتين بأبعد وجوه الإمكان[11]. انطلاقاً من أنه ليس لله صورة على أية حال. وبالتالي  لا تعني خلقه الإنسان على صورته إلا ما سبق للشبلي وأن عبّر عنه بعبارة "خلقه على الأسماء والصفات لا على الذات". وهي الفكرة التي عمّق في (مشكاة الأنوار) بعض ما وضعه في (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)  عن إمكانية بلوغ الإنسان لمرتبة الملائكة، استناداً إلى رقيه المعرفي وسموه الأخلاقي. بمعنى إمكانية الاقتراب غير المتناهي للإنسان من الله. وهي ذاتها عملية ارتقاء الإنسان من عالم الحس إلى عالم العقل المجرد[12]. وهي العملية التي تكشف عن نماذجها غير المتناهية التي لا يخلو أي منها عن محاكاة لا ترتقي إلى ذروة المساوقة، ولكنها تفطننا إلى إدراك معنى وحقيقة القول المأثور بأن الله خلق آدم على صورته[13]، أي كل ما سيضعه في شروحه للأسماء الإلهية في (المقصد الاسمى في شرح أسماء الله الحسنى).

مما سبق يبدو واضحاً، بأن تشديد الغزالي كان منصباً على رفض الحشوية المباشرة وغير المباشرة. ولهذا السبب رفض التأويلات التي قدمها ابن قتيبة في فكرته القائلة، بأنه "صورة لا كالصور"، لأنه وجد فيها تناقضاً من حيث الأسلوب والغاية. فقد كان بحث الغزالي يسير في اتجاه الكشف عما أسماه بحقيقة المعنى في حقيقة النسبة المعقولة. إذ لولاها لكان من الصعب على الإنسان معرفة الله ومعرفة العالم، انطلاقاً من أنه لا يعرف الشبيه إلا الشبيه. في حين أن الشبه القائم بين الإنسان والطبيعة، الظاهر والباطن، المحسوس والمعقول، هو الأسلوب الضروري لوجود الأشياء وحالاتها. بينما لا حالة محددة لله. وبهذا يكون قد حاول حل إشكالية المنطق الثنائية من خلال تذويبها في وحدة العابر والمطلق في عملية المعرفة والأخلاق. فهي الحالة التي تحل ّفي ذاتها إشكاليات الثنائيات المذكورة أعلاه، من خلال تحويل وجود الإنسان إلى الوسط الحقيقي، أو الجبروت القائم بين الملك والملكوت. استناداً إلى فكرته القائلة بأن الإنسان هو في آن واحد نسخة مختصرة من هيئة العالم، يتوصل من خلال تأملها ومعرفتها إلى معرفة الله. أما في منظومة الوجود ككل، فإنه يمثل رتبة ما بين البهيمة والملك[14]. بمعنى وجوده الدائم بين العوالم المادية والروحية، العابرة والخالدة، والتي يمكن توحيد حقيقتها بحقيقته في المعرفة المتخلِّقة بأخلاق الله، أو ما أسماه أحياناً بالمشاركة.

فهو يؤكد في (ميزان العمل) على أن للإنسان جملة من الصفات والقوى المشابهة للبهيمة. وفي مظهره لا يختلف كثيراً عما هو في الطبيعة. إلا أن ما يميزه عنها هو خاصية العقل ودرك حقائق الأشياء.. وبهذا المعنى، فإنه يشبه الملائكة. وهي الصيغة التي تجعله قادراً وجديراً بأن يسمى ملكاً وربانياً[15]. فالملك في نهاية المطاف هو "عبارة عن موجود لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه، بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه القرب والبعد. إذ القرب والبعد يتصور على الأجسام"[16]. إضافة لذلك أن الملك منزّه عن الشهوة والغضب. وإن دواعيه الدائمة هو التقرب الى الله[17]. وقد تطابقت هذه الفكرة في آرائه مع نظرته لحقيقة العقل أو المعرفة الأخلاقية المجردة. في حين أن الإنسان هو الكيان المتوسط بين هاتين الدرجتين، كما لو أنه "مرَّكب من بهيمية وملكية"[18].  وإذا كانت الصفات البهيمية هي الطاغية على الإنسان في بدايته، فلأنها النتيجة الطبيعية لسيطرة الحواس بفعل كونها وسيلة بلوغه المحسوس والقرب منه. أما تطوره اللاحق، فإنه يتوافق مع إمكانية بلوغه الأشياء الملموسة والمجردة بالعقل دون البدن والأعضاء. آنذاك يكون كالملائكة في إدراكها الأمور المقدسة عن قبول القرب والبعد بالمكان، أي إدراك الأمور العقلية كما هي. فإذا كانت خاصية الحياة هي "الإدراك والعقل"، وإليهما يتطرق النقصان والتوسط والكمال، لهذا كان التشبه بهاتين الخاصتين (الإدراك والعقل) يعني الاقتراب من الملائكة والابتعاد عن البهيمية. وبما أن الملك قريب من الله، فإن القريب من القريب قريب[19]، أي بلوغ تلك الحالة المعرفية الأخلاقية، التي تجعل الإنسان مشاركاً لله في أوصافه لا مماثلاً له. إذ لا مماثلة لله، لأنه ليس كمثله شيء. وبالتالي فإن بلوغ الإنسان درجة المشاركة لا تعني المماثلة ولا تستلزمها. انطلاقاً من أن المشاركة لا تستلزم المماثلة. فالأضداد تتشارك ولا تتماثل، كما هو الحال بالنسبة للسواد والبياض في اللون. فالمشاركة خارجة عن الماهية، بينما المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية[20].

وقد فسح ذلك المجال أمام الغزالي لتدقيق أفكاره السابقة وتعميقها. إذ أخذ يركز أكثر فأكثر على الطابع المعرفي الأخلاقي للتشابه استناداً إلى عدم تناهي الصفات والأسماء الإلهية بالنسبة للعارف في مساعيه صوب الحق. وهي الفكرة التي عبّر عنها في (مشكاة الأنوار) على مثال الترقي في منازل العارفين. إنه حاول الكشف عن أن الصورة الإلهية هي مثال وحدة القلم واللوح واليد والكتاب في ترتيبها المنظوم. ولا يعني ذلك في اصطلاحات الصوفية سوى وحدة المعرفة في تجلياتها الحسية البسيطة وصيغتها العقلية المعقدة في إدراكها لوحدة العالم ونظامه المرتب وشبهه بالإنسان. لهذا أكد على أنه إن "كان يوجد للصورة الإنسية ترتيب منظوم على هذه الشاكلة (وحدة ترتيب القلم واللوح واليد في مثال الصورة) فهي على صورة الرحمن[21]. في حين ضمّن مفهوم الرحمة في الرحمن في أولى درجاتها "العطف على العباد بالإيجاد"[22]، أي الوجود الذي يمتلك وحدته في الكمون باعتباره مقدمة إدراك حقيقة الكلّ. مما جعله يضع للمرة الأولى فكرة الكون الجامع في الإنسان. وكتب بهذا الصدد قائلا، بأن "الله أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع ما في العالم، حتى كأنه نسخة ما في العالم، أو هو نسخة العالم ولكن بشكل مختصر"[23]. وهي الصورة المختصرة الجامعة المكتوبة "بالخط الإلهي"، أي وجودها به وظهور آثاره وفعله بها، باعتبارها رحمة. إذ لولاها لعجز الآدمي "عن معرفة ربه. إذ لا يعرف ربه إلا من عرف نفسه. فلما كان هذا من آثار الرحمن، كان على صورة الرحمن، لا على صورة الله"[24]. ولم يتعد الغزالي هنا ما سبق وأن بلوره في آرائه السابقة. كل ما في الأمر، أنه بحث عن مستويات جديدة تعكس ذات الفكرة الجوهرية، التي حاول البرهنة عليها. إنه أراد حصر المسألة بين الوجود واللانهاية، والخلافة والمطلق، والسّر واليقين، والفطرة والحق. وبالتالي سعى صوب المطلق بالصيغة التي جعل منه معيار العلم والعمل الأخلاقيين. فإذا كان الإنسان هو الكون الجامع في مقارنته ومشابهته للوجود، فإنه يكون بذلك قد تضمن في ذاته ووجوده صورة الرحمن الإلهية غير المتناهية، أو كل ما يتطابق في نهاية المطاف مع معرفة الله والسعادة الأبدية. وبما أنه الكون الجامع في وجوده، فإنه الموِّحد في ذاته للعالم العلوي والسفلي، أو عالم الملائكة (المعرفة) والبهيمة (النفس الحيوانية)، أو وحدة الإنساني والحيواني (النفسي البهيمي والمعرفي العقلي). وذلك لأنه بالنور الإنساني السفلي، كما يقول الغزالي، "ظهر نظام العالم السفلي"[25]. وهو المقصود به بعبارة إن "الإنسان خليفة الله في أرضه" كما في الآيات (وهو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)[26]، و(يستخلفنهم في الأرض)[27]، و(يجعلكم خلفاء الأرض)[28]، و(إني جاعل في الأرض خليفة)[29].(يتبع....)

 

ا. د. ميثم الجنابي

.............................

[1] القرآن: سورة الاعراف، الاية11.

[2]  القرآن: سورة الانعام، الاية 2.

[3] القرآن: سورة المؤمنون، الاية 115.

[4] القرآن: سورة الاسراء، الاية 70.

[5] الغزالي: ميزان العمل، ص25.

[6] الغزالي: الإملاء عن إشكالات الإحياء، ص31-32.

[7] المصدر السابق، ص32.

[8] المصدر السابق، ص38.

[9] المصدر السابق، ص38-39.

[10] الغزالي: المقصد الاسمى في شرح أسماء الله الحسنى، ص 49.

[11] الغزالي: الإملاء عن إشكالات الإحياء، ص32.

[12] الغزالي: المقصد الاسمى في شرح أسماء الله الحسنى، ص48؛ مشكاة الأنوار، ص49.

[13] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص49.

[14] الغزالي: ميزان العمل، ص25، 30.

[15] الغزالي: ميزان العمل، ص31.

[16] الغزالي: المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، ص47-48.

[17] الغزالي: المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، ص48.

[18] الغزالي: المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، ص48.

[19] الغزالي: المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، ص48.

[20] الغزالي: المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، ص48-49.

[21] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص98-99.

[22] الغزالي: المقصد الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، ص63.

[23] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص99.

[24] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص99.

[25] الغزالي: مشكاة الأنوار، ص77-78.

[26] القرآن: سورة هود، الابة61.

[27] القرآن: سورة النور، الاية55.

[28] القرآن: سورة النمل، الاية62.

[29]  القرآن: سورة البقرة، الاية30.

 

 

في المثقف اليوم