دراسات وبحوث

عبد الأمير كاظم زاهد: التداخل بين الدين والتاريخ

عبد الامير كاظم زاهد مقدمة تأسيسية: المدخل: لا يختلف اثنان على أن الأديان منذ عصور النشأة تسهم في تكوين التاريخ البشري وتصوغه على وفق معاييرها ومقاساتها، وتنطبع حركة الانسان بالموجهات الدينية فتصطبغ الافعال الانسانية بمضمون الاوامر، وتختفي الظواهر التي جعلتها الاديان في دائرة التروك فالدين والتاريخ حقيقتان متلازمتان من جهة صيرورة التاريخ وكونه الحاضن للتفكير الديني على طول الأزمان وإن تأثير الدين على التاريخ حقيقة لا يعتريها الشك، فهي ناتج استقراء تامل احدى حقائق الوجود الاساسية لكن الاشكالية في تأثير التاريخ على الحقائق الدينية وتسرب قضايا تاريخية لكي تصبح عقيدة دينية، وهذا هو محل الخلاف في هل للتاريخ تأثير على الدين؟ بحيث تتسلل بعض مقولاته ووقائعه لتكون جزءاً من منظومة الدين، ويضفي عليها القداسة التي يتمتع بها الدين نفسه لتكون جزءاً من منظومة العقائد والقوانين الدينية.

عن هذه الاشكالية يتركز هذا البحث وازاءها ينقسم الباحثون إلى اتجاهات وآراء، فمنهم من لا يرى ذلك الاندماج من حيث الافتراض ذلك لأن الأديان السماوية من عند الله والتاريخ من صنع البشر، لكنه يُقّر بإن الواقع والفكر الديني يتداخلان، فالوقائع التاريخية تداخلت مع القضايا الدينية، وحسب هذا الافتراض فإن بعض الوقائع حينما تتحول الى جزء من المضمون الديني فإن ذلك يعني أن ما هو من صنع الإنسان اندمج مع التصورات الدينية.

في حين: ترى مجموعة اخرى أن الجانب التطبيقي للنص الديني (التجربة البشرية) وإن عكست المضمون الديني إلا أنها تبقى جزءاً من التاريخ لذلك تعامل على أنها النزعة البشرية الموجودة في التطبيقات من دون أن تتحول إلى قضايا دينية ولعل هذه الإشكالية ليست حصراً في التجربة الدينية الاسلامية إنما كانت ملازمة لأغلب التجارب الدينية[1]

فقد وجد بعض الباحثين في الفكر التلمودي محاولة الغاء الفروق بين تاريخ الجماعات اليهودية كسلوك جمعي وبين الدين اليهودي، وعليه فان الأعراف الدينية اليهودية تصر على أن تاريخ اليهود كله مقدساً لأنه – على تعبيرهم –ليس من صنع الانسان انما تعبير عن ارادة الله الكامنة في القدرات البشرية، ولأن اسرائيل (الرب) يتدخل في صنع التاريخ لصالح شعبة المختار وإن ملوك اليهود هم نواب الله في الارض[2] .ناهيك عن ان فكرة الحلول تفضي الى زوال الثنائية بين الخالق والمخلوق وهنا يتداخل المطلق مع النسبي، فيتداخل الثابت من النصوص الدينية مع المتغير التاريخي بحيث يظهر ذلك بصورة اندماج بين الفعل الإلهي المقدس، واحداث التاريخ الانساني.

ويجد المتابعون فكرة تذكر في الأدب العبري ان ما حل باليهود كما يوردها الفكر التلمودي هو عقوبة على ما ارتكبوا من الإثم، وهذا يعني ان التاريخ يصنعه الله وما يصنعه الله يكتسب القداسة[3]  فالهزائم الحربية عند أحبار اليهود تحمل مغزىً دينياً ولها تأويل لاهوتي[4] ، من ذلك صار مفهوماً أن قداسة الشعب اليهودي ليس بسبب (الإله) الذي (اجتباهم) كما تورده النصوص التوراتية فقط إنما في حقيقة الأمر بسبب تقديسهم للتأريخ الذي اعتبروه من فعل الله،وكما يقدّس (المتدينون) في كل الأديان العصور الاولى لتجربتهم الدينية ويعتبرونها العصور المؤسسة لمعيارية الصحة، تجدهم يفترضون (نهاية خلاصية وحتمية) لمجريات الأحداث تعيد (الرؤية الدينية الاولى إلى واقع الحياة) في يومها الأخير ضمن قوانين الحتمية المطلقة التي تدخل ضمن البلاغات الدينية، من دون أن يكون للفعل الانساني دور في هذه النهاية ومثال ذلك (الاستخالوجيا) في الفكر المسيحي أو فكرة الماشيح في الفكر اليهودي، فهي نهاية فردوسية تتحقق بتدخل الاله في نهاية التاريخ وهذا التدخل يلغي التاريخ البشري وما حققه النشاط الانساني[5] .

وفي المسيحية ايضاً تجد مضامين تاريخية كثيرة مرتبطة بالدين، بحيث تحولت تلك الوقائع الى دراما دينية في فصولها الاولى سقوط آدم في الخطيئة ودخول الله في صناعة التاريخ في اسفار الانجيل وشروحاته.

لقد ظهر القديس اوغسطين (354م) بوصفه واحداً من ابرز مفكري المسيحية الذي رفض فكرة التعاقب الدوري في التاريخ، فلجأ إلى تقسيم التاريخ الى سبع حقب، تبدأ بآدم ثم ابراهيم ثم داود، ثم عصور الأسر اليهودي، وولادة عيسى وعصره، ثم عصر (القيامة الثانية للمسيح) وهي نهاية التاريخ التي يصنعها الإله. وبذلك يفصل اوغسطين بين المدنية الالهية، والمدنية الارضية (الحضارات) لكن جديده انه يقر بانهما خطان متوازيان يسيران لهدف واحد[6] . ان هذا التمازج بين التاريخ والدين في الأديان الكبرى يؤدي الى القول بأن منطق الفكر الديني بعامة منطقاً واحداً، وهو ما يتحقق في عموم التجربة الدينية على الرغم من أن الحقيقة الجوهرية تؤكد ان النص الديني ثابت ومعزول عما هو تاريخ.

ومثل ما وجدنا في اليهودية والمسيحية فان المفكرين المسلمين تعاملوا مع التاريخ ايضاً ضمن خط سير يبدأ من بدء الخليقة (آدم) مروراً بالامم السابقة والانبياء ومعجزاتهم الى الدولة الالهية العادلة (دولة المنقذ الالهي)، لكن المسلمين ينفردونبان التاريخ – من منظور قرآني – يخضع للسنن الكونية الثابتة[7] أي انه ناتج صيرورة لقوانين فاعلة وثابتة. وبهذه السنن يمكن القول إن الاسلام يمنح الانسان دوراً مهماً في حركة التاريخ طالما بذل جهداً في إطار تلك القوانين لقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم.... )[8]  ونجد في ثنايا النص الديني عشرات الشواهد التي تقرر ضرورة الاعتبار بمآلات الامم السابقة ودراسة تاريخها بوصفها أفعال انسانية وصلت إلى خواتيمها ولكن طبقاً للقانون الكوني، ونجد في القرآن الكريم رؤية للزمن الممتد إلى نهاية التاريخ بالخاتمية الدينية ومفهوم الهيمنة القرآنية على النصوص الدينية السابقة ومقولة نسخ الأديان بالاسلام، مع ملاحظة ان التاريخ الديني السالف قد ذكره القرآن للاعتبار به والتأسي وليس للاعتقاد بتكراره، وإنه أوكل للانسان صنع مدنياته المتعددة تحت المفهوم القرآني للاستخلاف وأتاح للعقل البشري أن يشرّع لمنطقة الفراغ ويملأ ما سكت عنه النص من خلال الممارسة العقلانية.

التقارب التاريخي مع النصوص التأسيسية للدين:

اختار جمع من الباحثين الحديث عن تاريخ النزول القرآني فقسموه (زمنياً) إلى ما نزل قبل الهجرة وما نزل بعدها وقد سميّ فيما بعد المكي والمدني، ولوحظ في النزول القرآني ايضاً عبارة عن ارتباط النص بالوقائع والافعال التاريخية التي سميت أسباب النزول، وهي تعني أحداثاً محددةً موجودةً فعلاً نزل النص الديني بما يجعل لها حكماً ووصفاً دينياً، فالعلاقة بين النص الديني والتاريخ علاقة مسببة وتوصيفية غير اندماجية كما أن افعال النبي الأكرم واعماله الادارية والسياسية انما صارت نصوصاً دينية فلأن القرآن أعطاها صفة العصمة وعدم احتمال صدور الخطأ والسهو عنه فكان حكمها حكم النص القرآني وإن كانت من حيث الصدور ذات سمة بشرية، ومن ذلك بناء أول مدينة في تاريخ العرب وإنشاء مجتمع المدينة المحاط بدستور المدينة المنورة [9] .بحيث تعد تلك التجربة محاولة تأسيسية لإقامة الدولة المثلى أو النموذج المثالي الذي يعلو على كل النماذج اللاحقة، وعند تعريف السنّة المطهرة: نرى أن كتب علم الاصول تذكر ان أفعاله أما جبلية فلا تجب المتابعة وأما خاصة فهي له وأما بيان للشرع كالحج والصلاة [10] لأن أفعال النبي الأكرم (ص) وتصرفاته وإن كانت فعلاً إنسانياً فإنها تعد فعلاً دينياً فأفعاله إمضاءٌ أو إقرار على صحة سواء على جوازه وأحياناً على وجوبه على الناس مثل أفعال الحج وأفعال الصلاة وتفاصيل العبادات الأخرى وغيرها، أما مواقفه العملية فإن أهل العلم اختلفوا في ثباتها على أقوال:

الأول: إنها أفعال إلهية لا يمكن اعتبارها متغيرة زمنياً، والثاني فرّق بين الفعل النبوي المراد به التدبير والسياسة وبين أفعاله المراد بها ايصال الأوامر الإلهية الثابتة للناس عن طريق أفعاله، وعليه فإنه يجب الاقتداء به في هذه البلاغات النبوية عن الله، والاستئناس بأفعاله وسياساته التدبرية[11] .

وهناك فريق ثالث يخلص إلى ان الاصل في كل أفعاله انها تبليغ إلا ما قام الدليل على أنه تدبير زمني، بينما يرى فريق رابع أن طبيعة الواقعة ونمط فعله أو قوله (ص) حول الواقعة هو الذي يحددها من جهة الثبوت والتغير، فإذا كانت الواقعة ثابتة ودائمة فهي تبليغية، أو حكمها ثابت بثبات موضوعها – دون أن يتغير – وإذا كانت (زمنية) فالأصل ان الحكم يتغير بتغير الموضوع، وعلى كل حال فإن التجربة العملية للنبي الأكرم (ص) على الرغم من أنها تاريخ فالحكم عليها من حيث كونها تتحول الى دين لكنه مرتبط بمعايير الثبات والتغيّر، فالمتغيّر لا يعد ديناً أو تبليغاً إلهياً ثابتاً، إنما يعد اجتهاداً صائباً ومسدداً من الله تعالى لكنه صالح لزمن ما، ولا يفرض على الأزمان الأخرى، وللأزمان الاخرى أحكامها طبقاً لطبيعة الموضوع المتغير جوهرياً أو المتغيرة بعض سماته كما انه طبقاً للقواعد الكلية عامة.

التداخل بين التأريخ والدين في فهم القرآن الكريم:

في النظر في آيات الكتاب المجيد نجد مجموعة من الآيات التي تشرّع الأحكام لها معطيات زمنية تاريخية قد انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقوال:

أ/ ما يرى أن النص والتفسير والتموضع الزماني والمكاني والممارسة التاريخية كل ذلك دين يتعبد به، ويعد من المقدسات غير القابلة لاعادة النظر او المراجعة بناءً على معطيات التطورات الاجتماعية والمدنية هؤلاء هم أغلب المفسرين والفقهاء.

ب/ ويرى آخرون: إن هذه النصوص تحمل في ثناياها حقائق قانونية جوهرية يمكن أن يطبق الجوهر (كمعايير أساسية) على كل الأزمان والأحوال كل بحسبه تطبيقاً كلياً لا تفصيلياً بما لا يتصادم مع الحركة الطبيعية لتطور الإنسان ولا يحصل الاعتناء بما التصق بالنص من قضايا زمنية.

ج/ من يعتبر النص، والمفهوم الفكري من النص كله تاريخ زمني منحصر في الماضي وعليه يلزم التعامل معه على أنه (تراث تاريخي)، يمكن أن تتم الاستفادة منه كسوابق تطبيقية للنص ويعتمد.

وكمثال على ذلك: لنتابع موضوع غنائم الحرب الذي ورد في القرآن الكريم حكمها (اعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه....)[12] ، فهذه الآية تاولها المفسرون الشيعة على (مطلق الكسب المالي) سواء بالسلم أو الحرب وركزت تفاسير السنة على أنها في غنائم الحرب، وفي هذا الصدد نرى ان الآية في مقام بيان حق الدولة في الغنائم، وليست في مقام بيان حقوق الأفراد فهي تشرّع واجباً للدولة، ولا تتحدث عن حقيقة واقعية وهي امتلاك المرء لنواتج عمله، لأن هذا من البديهيات إلا أن صرفها – لغنائم الحرب – عند مفسري المدارس الاسلامية الأخرى من غير الإمامية، جعلهم يفكرون في التقسيم الحسابي للمتبقي من الغنائم فجعلوا خمسها لمن حددتهم الآية، واربعة أخماسها للمقاتلين لأنهم السبب المباشر في تحصيلها.

وقد كان واقع الحال آنذاك ان المجاهد الذي يلتحق بالجيوش المدافعة عن الكيان الاسلامي هو الذي كان يتحمل– وحده – تجهيز نفسه بالدرع والسلاح والزاد والمؤونة له ولعيالهِ، وليس له إلا العطاء العام الذي تعطيه الدولة للناس كافة حاله حال القاعدين، لذلك اعتبرت الغنائم حقاً له فجعل له اربعة أخماسها، زيادة على أن العرب عند بدء التجربة الاسلامية كانوا اُمة تمارس الغزو ضد بعضهم وكانت الغنائم حافزاً من حوافز القتال، لذلك فإن تفسير الآية المزدوج (الكشف عن حق الدولة والكشف عن حقوق الغانمين) مرده أمران التأثر بالوضع التاريخي والاجتماعي لتلك الأجيال، والاستجابة للوضع التنظيمي لسرايا الجهاد آنذاك، بيد أن هذا الفهم قد تحول إلى فقه أو قانون شرعي اكتسب الصفة الدينية، والتزمت به الدولة والناس وامتلأت به كتب الجهاد والمغازي والسير والاحكام السلطانية، حتى عاد التفكير بمراجعته واعادة النظر فيه مسالة تحتاج الى شجاعة كبيرة وموجب لمواجهات حادة، لأنه خروج عن مألوف صار مستقراً في أذهان الناس لأكثر من ألف عام بحيث تحول إلى (حقائق دينية ثابتة)، ولأجل التوثيق فقد أسندوها إلى إجماع الفقهاء ليكتسب سمة دينية.

ومن ذلك: ما تتفق عليه أغلب كتب السير من أن العالم يقسم إلى دارين دار الاسلام ودار الحرب، وقد ظهر بعد فترة تقسيم جديد ثلاثي سمي فيه (دار العهد) كأنه حالة وسطى بين الدارينويترتب على كلٍ منها مجموعة من الآثار والأحكام والتداعيات بعضها تداعيات مهمة وعلى درجة من الخطورة داخلياً واقليمياً وعالمياً، بيد أنه الاساس لهذا الرأي هو (انصياع الفقهاء) للسائد التاريخي آنذاك، إذ أن العالم في عصر الفقهاء الأوائل (القرنين الثاني والثالث الهجريين) كان مقسماً على أساس ديني، وليس على أسس قومية أو كتل اقتصادية أو أساس جغرافي.. كما هو حال الدول اليوم، فهل تقسيم العالم إلى دار الحرب ودار الكفر أو دار الاسلام هو أصل ديني أو هو حقيقة اجتماعية تاريخية أمضاها الفقهاء فتحولت إلى (رؤية دينية)، ومثل ذلك موضوع السبي والاسترقاق، بسبب الأسر في الحروب.

وهذه أمثلة من التطبيقات الفقهية التي عرّفها التراث بانها جزء من تطبيقات القرآن الكريم، والحق: إن الآيات التي تستند عليها هذه التطبيقات ليست نصاً في هذه الممارسات، وقد تقدم القول في آية الغنيمة، من جهة اخرى أجد انتقالات تاريخية إلى حيز الدين لم أظفر بنص ديني فيها مثل تقسيم العالم إلى الدارين، كما انني لا أجد النص المستند اليه في الاسترقاق نصاً قاطعاً في مشروعيته فقوله تعالى (فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى اذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فاما من بعد واما فداء، حتى تضع الحرب اوزارها)[13]  لا يفيد أكثر من الحث على القتال مع المعتدين فإذا وقع بيدكم أسرى بدلالة (الوثاق) فأما أن تطلقوا سراحهم أو تفادوهم بأمثالهم.

ويلاحظ الرازي ان الحصر لا يجوّز القتل ولا الاسترقاق انما يصرح بالمن والفداء، ولا يرى صحة الاستدلال بان ذكر العام جائز في سائر الأجناس، ويجد نفسه مضطراً للاشارة إلى أن النص قدم المَن على الغداء[14] .

لكننا نجد ان عموم الفقهاء قد وضعوا مدونات في أحكام الاسير الذي يسترقه (الفاتحون) ويجعلونه عبداً إذا كان من الرجال، أما النساء والصبيان فهم ذراري وسبي يتملكهم الغانمون ملكاً مطلقاً ويتصرفون بهم كأنهم مال، وبالتتبع ربما نجد ان هذه الاحكام (الفقهية) هي استجابة للوضع التاريخي السائد آنذاك، بل هي جزء من مبدأ المعاملة بالمثل الذي كان الوضع فيه آنذاك يقتضي إجراء الامور بحسب الأعراف.

يقول السرخسي في المسيوط (ان ابا بكر هو أول من سبى النساء والذراري من بني حنيفة)[15]  ثم يقول فاذا جاز ذلك في المرتدين كان في المشركين أولى.

ويقول الشافعي (واذا اسبيّ الرجال والنساء والولدان، ثم اخرجوا الى ديار الاسلام فلا بأس ببيع الرجال من أهل الحرب وأهل الصلح والمسلمين)[16] . وهكذا نجد ان الاسترقاق بالأسر تحول من معطيات تاريخية إلى قضايا فقهية ذات طبيعة دينية.

ومن الأمثلة على المستوى الفقهي نجد إن أحكام التداول السلعي وشروط صحة البيع نجد نهي الرسول الأكرم عن ربا البيع التفاضلي في الأصناف الستة (الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والزبيب) مما اضطر بعض الفقهاء توسيع هذا النطاق باستخدام القياس إلى ما يناظره من حيث الخصائص الذاتية (للسلع) وليس من حيث حاجة الناس لتلك السلع حتى يرد النص بالتبادل المتماثل بالكم فالوقوف عند هذه السلع معناه تحول التاريخ الى دين ثابت.

إن كل الأمثلة مما تقدم هي في الفقه ويمكننا أن نجد الوقائع التاريخية التي تسللت إلى نطاق الدين في مضمار العقائد واضحة فعندما نقف على مقالات الاسلاميين للأشعري فإننا نراه (يقول: اختلف المسلمون عشرة أصناف) وبعد أن عدّد تلك الأصناف وجعل يعدد مقالات كل صنف[17] ، نجده يذكر أن حركة الخوارج عبارة عن (تمرد بتأويل) على السلطة الشرعية، وقد تحول ذلك التأويل ذات المرجعية التاريخية والغطاء النصي إلى دين عند الخوارج اقتضىقتل (مرتكب الكبيرة) لأنهم اعتبروه كافراً، إذا كانوا يرون ان دار مرتكب الكبائر دار كفر (اي مخالفيهم)[18] ، فيجوز فتحها وتدميرها. واذا كانت محنة ابن حنبل مع المعتصم العباسي قد أعطت لابن حنبل مكانة كبيرة في نفوس الناس البسطاء إذ اعتبروه المتمسك بالسنة والتدين الصحيح المنطبق على ما كان عليه السلف فإنهم قد تحولوا به من رجل صاحب رواية للحديث إلى رمز أنتج مجموعة مفاهيم عقائدية، ومع تغيّر الأحوال عندما تولى المتوكل فقد أعطاه واصحابه حق اعادة تشكيل الرؤية الفكرية وكانت اللحظة التي ظهر فيها الترادف المقصود أي التساوي بين (اصحاب الحديث وأهل السنة) بحيث ظهر لأول مرة مصطلح أهل السنة وهذا المصطلح لم يكن قبل عصر ابن حنبل، وهم تاريخياً يرون ان (طبقة السلف) هم اصحاب الفضائل وهم الرعيل الاول المميزون برضا الله، وقد اضطرتهم وقائع التاريخ الذي سجل نزاعاتهم أن يقرروا ضرورة الامساك عما شجر بين الصحابة ثم يسلسلون بعض الصحابة بالأفضلية بحسب توليهم الخلافة، وقد تبنى أهل الحديث تاريخياً الصلاة بالعيد والجماعة مع كل إمام بر أو فاجر. وكانوا يرون وجوب الدعاء للسلاطين بالصلاح ولا يخرجون عليهم بالسيف فكل تلك المواقف عبارة عن معطيات تاريخية، بسبب قوة الدولة، لكنها تحولت إلى عقائد دينية.

وتعد واقعة السقيفة (تاريخياً) واقعة ذات وجوه الأول كونها المبرر لمشروع التفضيل المستند على اختيار قادة مراكز القوى للخلفاء ويتحولون إلى رموز دينية ويتحول سلوكهم وقراراتهم إلى مستند ديني، والثاني وهو عند الشيعة ويعني الركون الى ارادة الناس المضادة لإرادة الله على أساس ان تنصيب الإمام علي (ع) كان بأمر الله ونصه عليه، وهنا تقاطع التاريخ مع النص فكانت الغلبة للأساس التاريخي الذي سرعان ما تحول إلى دين من خلال حصانة الصحابة، والسكوت عما أخطأوا فيه، وعدم الولوغ في شجاراتهم وتفضيلهم والدعوة إلى عدالتهم جميعاً عدالة مطلقة. ويلاحظ ان اغلب معتقدات الصوفية التي اتخذت من بعض النصوص القرآنية والنبوية غطاءً لها كانت ثقافات مجتمعية[19] وانعكاسات تاريخية وهكذا نجد في جوانب العقائد والقيم العامة والفقه ما تسلل من التاريخ إلى حيز الدين فأصبح ديناً يتعبد به الناس.

لقد ظهر لدى (اصحاب الحديث) القول بأفضلية الأزمنة الايجابية المنتجة للمعرفة الدينية، وتعد تلك المعرفة هي المعرفة الصحيحة مطلقاً، بل هي معيار صحة الاجتهادات اللاحقة زمنياً، فما وافقها فهو صحيح وما خالفها فهو باطل، وبناءً عليه ظهر مفهوم (السلف). وعقيدة السلف وفقه السلف، وظهرت الموجة السلفية التي اخضعت الحاضر الاسلامي بكل خصائصه الى وضع زمني تاريخي له ايضاً خصائصه وتطوراته المدنية، فتحول الموضوع من مفهوم لمرحلة تاريخية إلى مفهوم عقائدي ايديولوجي يتخطى المراحل الزمنية وكان من تداعياته انه صار مفهوماً تمييزياً واقصائياً لأنه يعتمد المقولة الثنائية (أهل السنة مقابل أهل البدعة) ويتحول بعدئذ إلى مشروع للتطرف بسبب الاعتقاد (الجازم) بانه يمتلك الحقيقة.

 

أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد

................

[1] ويد جيري: التاريخ وكيف يفسرونه 1/149

[2] عويس: عبد الحليم: فلسفة التاريخ /75

[3] للتفاصيل: المسيري: عبد الوهاب موسوعة اليهود ص10

[4] الشرقاوي: عفت: ادب التاريخ /117

[5] المسيري: عبد الوهاب: موسوعة اليهود 71

[6] اوغسطين، مدينة الله، ص177

[7] محمد باقر الصدر: السنن التاريخية

[8] الرعد /11

[9] وثيقة المدينة

[10] الآمدي 1/148

[11] السرخسي: الاصول، 3/86

[12] سورة

[13]

[14] الاشعري: مقالات 1/2

[15] م.ن 1/22

[16] ....: نشوء الحضارة الاسلامية 1/262

[17] الرازي: مفاتيح الغيب

[18] السرخسي: المبسوط 6/165

[19] الشافعي: الام 4/408

 

في المثقف اليوم