تجديد وتنوير

غارس شجرة الأنسنة أركون / ظافر محسن غريب

صاحب دعوة مواجهة تردي الفكر العربي الإسلامي بعد حياة حافلة في حقل الدراسات الفلسفية الإسلامية.

 

وكان أركون قد أمضى نصف العقد الأخير من حياته في البحث في الفكر والتراث الإسلاميين، منادياً بضرورة تنوير العقل العربي وإبدال شتائه بربيع ساد العصر الإسلامي الذهبي حتى القرن 13هـ.

 

عام 1928م، ولد "محمد أركون" في في بلدة تاوريرت ن ميمون(آث يني) بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، لترحل أسرته سريعا به إلى بلدة عين الأربعاء، التي تتلمذ فيها المرحلة الابتدائية. أمضى المرحلة الثانوية في وهران، ثم دراسة الفلسفة في العاصمة "الجزائر" وجامعة السوربون الفرنسية. عام 1968 بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفلسفة عين أركون محاضراً في جامعة السوربون ودرّس لأكثر من ثلاثين السنة في "السوربون"، ترقى فيها إلى أستاذ في التاريخ الإسلامي والفلسفة بالجامعة المرموقة. تعد لندن والعاصمة الألمانية "برلين" من محطاته الأكاديمية. ومنذ عام 1993م في الأولى لندن شغل أركون منذ عام 1993م حتى وفاته منصب عضو في مجلس إدارة معاهد الدراسات الإسلامية.

 

رغم كون جل مؤلفات أركون صدرت باللغة الفرنسية، إلا أن الإقبال الواسع عليها دعا إلى ترجمتها إلى عدد من اللغات العالمية. تناول أركون في أبحاثه مسألة التعامل مع الإرث الثقافي والحضاري للشرق والغرب والنظر إليهما دون انفصال، معتبراً أن مهمته الأساس الوساطة بين الفكرين الإسلامي والأوروبي. نقد النظرة الغربية السلبية تجاه المثقفين المسلمين عامة، رغم انتقاد هؤلاء لمظاهر التشدد الديني.

 

تعرض أركون بسبب مواقفه المتحررة، خصوصاً الداعية إلى قراءة حضارية جديدة للقرآن، إلى انتقاد عنيف من قبل التيار الإسلامي الأصولي، وأيضا من مستشرقين فرنسيين.

 

بين في كتابه (الإسلام- أوربا- الغرب، ص 101،126 ،45،139،105 ،106): أن العرب لم ترض عنه رغم ما قدم لهم وتآمر معهم على دينه وبني قومه، تحدث عن عصر التنوير الأول، و ما يسميه بـ"الانسانوية العربية"، ما مثّل نظرة رومانسية إلى الماضي، أو كما قال حسن حنفي، المجال العربي الإسلامي لم يعرف لا مفهوم الإنسان ولا مفهوم التاريخ؟

 

عصر التنوير. إنها الكلمة التي يطلقها الأوروبيون على الثورة السياسية والثقافية التي تحققت في القرن 18م في أوروبا والدول الأوروبية الكبرى مثل بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وهولندا. والعلاقة بين هذا العصر وما سبقه، هي علاقة يطبعها الاستمرار والقطيعة.

 

لأول مرة منذ انشقاق الكنيسة الإنجليكانية عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر يقوم حبر أعظم بزيارة دولة لبريطانيا، إذ أستهل "البابا بنديكتوس 16" اليوم الخميس 16 أيلول 2010م رحلة تستغرق أربعة أيام تشمل كلاً من مدن إدنبره وغلاسكو في اسكتلندة، ولندن وبيرمنغهام في إنجلترا. ومن المقرر أن يلتقي البابا في اليوم الأول من زيارته الملكة إليزابيث 2 التي ترأس الكنيسة الإنجليكانية. يحيي البابا في غلاسكو قداساً في الهواء الطلق تحضره الجموع الكاثوليكية التي تسكن اسكتلندة، وتشارك فيه المغنية الكاثوليكية الإسكتلندية سوزان بويل، التي اشتهرت عن طريق برنامج تلفزيوني لاكتشاف النجوم. يشارك نحو 400 ألف شخص في القداديس والصلوات التي سيحييها البابا خلال زيارته لبريطانيا. تهدف هذه الزيارة التقريب بين الكنيستين، بعد فضائح القساوسة الكاثوليك الذين اعتدوا على أطفال جنسياً في بريطانيا، وصدور تقرير تضمن مخالفات جنسية عديدة للقساوسة في بلجيكا. وقد صرح الممثل الإقليمي الأعلى لليسوعيين في ألمانيا "شتيفان كيشله" لصحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" الألمانية اليوم الخميس: أن هناك اقتراحاً بأن تصل قيمة التعويض إلى 5000 يورو لكل ضحية. ويتخذ اليسوعيون هذه الخطوة بشكل مستقل عن الفاتيكان أو مؤتمر أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا. الرهبانية اليسوعية في ألمانيا أعلنت عن تقديمها لتعويضات مالية لضحايا الاعتداءات الجنسية التي وقعت في مدارس تديرها، في أول بادرة لمؤسسة تابعة للكنيسة الكاثوليكية للتعامل مع تبعات هذه الفضائح. وكانت أخبار قد طفت في الأشهر الأخيرة عن اعتداءات جنسية لرهبان يسوعيين على طلاب مدرسة تشرف عليها الرهبانية في ثمانينات القرن الماضي. ويبلغ عدد الضحايا حتى الآن نحو 200 شخص!.

 

فالله كما يقول القرآن، "هو الذي أخرجكم من الظلمات إلى النور" من ظلمات الجهل إلى نور معرفته. إن كلمة التنوير استعارة قديمة يمكن أن نعود بها إلى الديانة المانوية. لكن أنوار القرن الثامن عشر سيتم استغلالها من طرف البورجوازية الصاعدة من أجل بدء مشروعها الاستعماري، وهو مشروع ينحرف عن الهدف الأساسي للأنوار التي كانت رسالة إلى البشرية بأكملها. والتنوير ليست قطيعة راديكالية مع الماضي، بل إنها فلسفة تستعمل مفاهيم استعملت في السابق من طرف الدين، لكنها من ناحية أخرى تقول بأن العقل لن يخدم من هنا فصاعدا الدين، بل إنه سيخضع الكلام الإلهي نفسه للدرس العلمي، وهذا هو الجديد. إذن الأمر يتعلق بقطيعة واستمرار. لكن منذ البداية هناك استغلال سياسي لرمزية عصر التنوير من أجل استعماله لأغراض التوسع السياسي والاقتصادي.

 

ما اصطلح عليه في الأدبيات الإستعمارية "الرسالة التحضيرية". ما عصر التنوير العربي؟

 

لا بد من الإشارة بدءا بأن الحضارة العربية تميزت بالتعدد. بغداد كانت مدينة عالمية. لقد كانت بالنسبة للقرون الوسطى مدينة كبيرة جدا، تطور فيها ما نصطلح عليه اليوم التعدد الثقافي، وتطورت بها شروط تنوير للعقل وبناء عقل نقدي. كانت هناك أنوار، لكنها أنوار لا يمكن مقارنتها بما حدث في أوروبا خلال القرن الثامن عشر. فالقرن الثامن عشر استفاد من إنجازات القررن الوسطى في مجال العلوم الفلسفية والدينية، بل داخل هذه الأنوار نفسها يمكن الحديث عن حقب فكرية متعددة، فابتدءا من النصف الثاني للقرن التاسع عشر جاء ماركس لينتقد العقل المثالي ويؤسس لعقل جدلي، ونيتشه الذي انتقد القيم وعبادتها واعتبرها بنت محيطها، وأنها تتغير بتغير المحيط الاجتماعي، دون أن ننسى فرويد واكتشافه لحياتنا الداخلية. إنها إذاً آفاق أخرى للأنوار، لكني أتساءل إن كنا مقبلين اليوم على حقبة تنويرية جديدة تتضمن تحريرا للأنوار من قبضة النزعات الاستعمارية للبرجوازية.

 

عنف عصر التنوير، ما عنف الخطاب الأصولي. الانحراف الأيديولوجي، نزعة تغيير العالم؟

أعتقد بأنها رؤية مبتسرة لمشكلة العنف. ذلك أن العنف بعد أنثروبولوجي للكائن الإنساني وللكائن الحي عموما. فالعنف موجود منذ وجود المجتمعات البشرية والعنف محدد للسلوك البشري. الأحزاب السياسية مثلا هي أركسترا للعنف. ولم نحاول أن نظهر العلاقة بين العنف وبين قوى أخرى لم يستطع الإنسان التحكم بها، وهذه القوى التي تعمل داخل كل مجتمع هي المقدس والحقيقة. الحقيقة التي يتضمنها النظام الديني القائم على الاعتقاد واللا اعتقاد. ذلك أن اللااعتقاد هو ما سيحدد هوية الدين الجديد. وهكذا يتأسس الدين منذ البداية على مظاهر عنف يتم التعبير عنها عن طريق الحقيقة. وهذه الحقيقة تقوم على العنف. تقول لأتباع الدين بأنه لا وجود إلا لعقيدة واحدة وإله وحيد. هذا مثال من الدين، وهذا مثال من الايديولوجيا: لينين يستولي على السلطة باسم البروليتاريا وكل الآخرين يجب أن يخضعوا لسلطة البروليتاريا التي تمتلك الحقيقة، وهذا يحدث في قلب عصرنا. لهذا أعتقد بأننا نحتاج إلى أنوار جديدة تقول للجميع بأن هناك حقائق كثيرة، وتنزع صفة المقدس عن الحقيقة. والمقدس وظيفة الدين، الذي سيخلع القداسة على ما يقوله، ليتحول إلى أمر غير قابل للنقاش. والحقيقة أيضاً في النظام المعاصر تتسم أيضا بالقداسة، وعملية خلع صفة المقدس على الحقيقة تتم عن طريق الأعياد والاحتفالات الرسمية والبنايات... إن هذا ما أسميه بالمثلث الأنثروبولوجي. وما قلته عن هذه القوى الثلاث: العنف، الحقيقة، المقدس، نجده في المجتمعات القديمة كما نجده في المجتمعات الأكثر عصرية.

 

صعود أصولي! ما العمل؟

أنا جزائري، وعشت حرب التحرير كما عشت بألم كبير الحرب الأهلية الأخيرة، والتي أعرف بأنها نتاج استقلال مصادر من طرف نظام الحزب الوحيد. يجب أن نعرف الأصول التاريخية لنظام الحزب الوحيد والذهاب أبعد من ذلك إلى دراسة النظام السلطوي في كل الدول التي لم تعرف تنويرا. يجب أن نبدأ أولا بطرح أسئلة على القرآن وعلى الطريقة التي يقرأ بها القرآن، خصوصا من طرف هؤلاء الأصوليين الذين عاشوا في مدرسة الاستقلال والحزب الوحيد. وبالنسبة للشق الثاني من السؤال، فالإشكالية التي نعيشها منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 إشكالية معقدة، يجب أن نعالجها بعقل نقدي، إلا أن ردود الفعل حول هذا الحدث ظلت في أغلبها عاطفية وإيديولوجية، الخير والشر، الرب والشيطان.. حتى في الخطاب الأميركي. لا يجب أن ننسى بأن الرئيس الأميركي أول من استعمل مثل هذا المعجم وسمح لنفسه، بعد أن تم طي صفحة الاستعمار، بغزو بلد، محاولا إجباره على الدخول في النظام الديمقراطي، رغم أنه لا يملك وسائل تسمح له بذلك. إنه إنحراف. فكيف نفرض نظاما ديمقراطيا على بلد لا تملك الأسس الأولية التي تحدد النظام الديمقراطي، وعاشت لأكثر من ثلاثين سنة تحت حكم ديكتاتور أشبه بـ"الغول". لكن من جهة أخرى كيف نطلب من الولايات المتحدة أن لا تتدخل مادام الأمر يتعلق بمثل هذا النظام الديكتاتوري؟ إن هناك واجبا للتدخل. الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران يقول بأن واجب عدم التدخل يتوقف إذا ما كان الآخر يتعرض لخطر ما. أنا مع التدخل إذا تعلق الأمر بأنظمة ديكتاتورية. لكن من خلق هذه الأنظمة؟ لا غرو أن هناك تورطا للدول الكبرى، لكن هناك إسبابا داخلية، الأسس الدينية والثقافية لهذه الدول المارقة.

 

يقول "جورج طرابيشي" في كتابه "من النهضة إلى الردة"، ص 133-134:"إن محمد أركون، بعد نحو من عشرة كتب وربع قرن من النشاط الكتابي، قد فشل في المهمة الأساسية التي نذر نفسه لها "كوسيط بين الفكر الإسلامي والفكر الأوروبي" . فأركون لم يعجز فقط عن تغيير نظرة الغرب "الثابتة"، "اللامتغيرة" إلى الإسلام، وهي نظرة "من فوق" و"ذات طابع احتقاري" ، بل هو قد عجز حتى عن تغيير نظرة الغربيين إليه هو نفسه كمثقف مسلم (!) مضى إلى أبعد مدى يمكن المضي إليه بالنسبة إلى من هو في وضعه من المثقفين المسلمين في تبني المنهجية العلمية الغربية وفي تطبيقها على التراث الإسلامي، يقول أركون : ( على الرغم من أني أحد الباحثين المسلمين المعتنقين للمنهج العلمي والنقد الراديكالي للظاهرة الدينية، إلا أنهم – أي الفرنسيين - يستمرون في النظر إليّ وكأني مسلم تقليدي! فالمسلم في نظرهم –أي مسلم- شخص مرفوض ومرمي في دائرة عقائده الغريبة ودينه الخالص وجهاده المقدس وقمعه للمرأة وجهله بحقوق الإنسان وقيم الديموقراطية ومعارضته الأزلية والجوهرية للعلمنة... هذا هو المسلم ولا يمكنه أن يكون إلا هكذا!! والمثقف الموصوف بالمسلم يشار إليه دائماً بضمير الغائب: فهو الأجنبي المزعج الذي لا يمكن تمثله أو هضمه في المجتمعات الأوروبية لأنه يستعصي على كل تحديث أو حداثة) .

 

ويبدو أن واقعة بعينها هي التي أوصلت "سوء التفهم" هذا إلى ذروته. ففي 15 آذار 1989م نشر أركون في صحيفة "اللوموند" الفرنسية مقالة حول قضية سلمان رشدي أثارت في حينه "لغطاً كبيراً ومناقشات حامية الوطيس". وقد طورت ردود الفعل التي استتبعتها شعوراً حقيقياً بالاضطهاد لدى أركون. وعلى حد تعبيره بالذات، كانت (ردود فعل هائجة بشكل لا يكاد يصدق) سواء في الساحة الفرنسية أو الأوروبية، و(كان الإعصار من القوة، والأهواء من العنف، والتهديدات من الجدية بحيث أن كلامي لم يفهم على حقيقته، بل صُنِّف في خانة التيار المتزمت! وأصبح محمد أركون أصولياً متطرفاً!! أنا الذي انخرطت منذ ثلاثين سنة في أكبر مشروع لنقد العقل الإسلامي أصبحت خارج دائرة العلمانية والحداثة).

 

ولا يكتم أركون أن تلك الهجمات العنيفة قد أشعرته (بالنبذ والاستبعاد، إن لم أقل بالاضطهاد... وعشت لمدة أشهر طويلة بعد تلك الحادثة حالة المنبوذ، وهي تشبه الحالة التي يعيشها اليهود أو المسيحيون في أرض الإسلام (!)عندما تطبق عليهم مكانة الذمي أو المحمي)..

 

إن تلك الحادثة كانت شديدة الإيلام لمحمد أركون إلى حد أنها حملته على الكلام عن العلاقة بين الغرب والإسلام على نحو ما يتكلم حسن حنفي مثلاً، أو حتى محمد عمارة. وعلى هذا النحو نجده يقول: (إن مقالة اللوموند كلفتني غالياً بعد نشرها. وانهالت عليّ أعنف الهجمات بسببها. ولم يفهمني الفرنسيون أبداً، أو قل الكثيرون منهم، ومن بينهم بعض زملائي المستعربين على الرغم من أنهم يعرفون جيداً كتاباتي ومواقفي. لقد أساءوا فهمي ونظروا إليّ شزراً... ونهضوا جميعاً ضد هذا المسلم الأصولي(!) الذي يسمح لنفسه بأن يعلن أنه أستاذ في السوربون، ويا للفضيحة!! لقد تجاوزت حدودي، أو حدود المسموح به بالنسبة لأتباع الدين العلمانوي المتطرف الذي يدعونه بالعلماني، ولكني لا أراه كذلك. وفي الوقت الذي دعوا إلى نبذي وعدم التسامح معي بأي شكل، راحوا يدعون للتسامح مع سلمان رشدي. وهذا موقف نفساني شبه مرضي أو ردّ فعل عنيف تقفه الثقافة الفرنسية في كل مرة تجد نفسها في مواجهة أحد الأصوات المنحرفة لبعض أبناء مستعمراتها السابقة. إنها لا تحتمله، بل وتتهمه بالعقوق ونكران الجميل... فنلاحظ أن اكتساب الأجنبي للجنسية الفرنسية في فرنسا الجمهورية والعلمانية يلقي على كاهل المتجنس الجديد بواجبات ومسؤوليات ثقيلة.. فالفرنسي ذو الأصل الأجنبي مطالب دائماً بتقديم أمارات الولاء والطاعة والعرفان بالجميل. باختصار، فإنه مشبوه باستمرار، وبخاصة إذا كان من أصل مسلم".

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=9086

http://www.youtube.com/watch?v=C8GLISffWaY

http://www.youtube.com/watch?v=JCsOi4hNe5I

 

أهم مؤلفاته: "الفكر العربي"، "نقد العقل الإسلامي"، "أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟"، "الإسلام والعلمانية"، و"الفكرلا الإسلامي: قراءة علمية" أو "قراءات القرآن".

 

وضع أركون كتبه باللغة الفرنسية أو بالإنجليزية وترجم منجزه إلى العديد من اللغات بينها العربية والهولندية والإنجليزية والإندونيسية ومن مؤلفاته المترجمة إلى العربية:

 

الفكر العربي

الإسلام: أصالة وممارسة

تاريخية الفكر العربي الإسلامي أو "نقد العقل الإسلامي"

الفكر الإسلامي: قراءة علمية

الإسلام: الأخلاق والسياسة

الفكر الإسلامي: نقد وإجتهاد

العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب

من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي

من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟

الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة.

نزعة الأنسنة في الفكر العربي

قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟

الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي

معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية.

من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني.

أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟

القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني

تاريخ الجماعات السرية

الجوائز التي حصل عليها

 

من الجوائز التي حصل عليها:

 

ضابط لواء الشرف

جائزة بالمز الأكاديمية

جائزة ليفي ديلا فيدا لدراسات الشرق الأوسط في كاليفورنيا.

دكتوراه شرف من جامعة إكسيتر عام 2002.

جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2003.

 

(*) بيان أركون بمناسبة منحه جائزة ابن رشد:

 

سيداتي وسادتي

زملائي وأصدقائي

لست أدري من أين أبدأ لأقول لكم وأعبّر عما أحس به هذا اليوم. أود أولاً أن أشكر وأهنئ الزملاء والأصدقاء الذين بادروا بإنشاء هذه المؤسسة تحت اسم مفكرٍ يفتخر به العالَم، إنهم أدركوا حاجة جميع الشعوب والمجتمعات العربية الماسّة إلى الحرية والتنوير وأيضاً المجتمعات والشعوب التي تنتمي إلى الفكر الإسلامي الذي لا ينفصل عن اللغة العربية. والعالم الإسلامي يكاد يمزج بالعالَم كلّه.

وأود أن اشكر أخي وصديقي Stefan Wild الذي عبّر تعبيراً صحيحاً أُحسّ به في أعماق قلبي وعقلي، وهو الأول الذي أشار كباحثٍ إلى الكتاب الذي أصدرته عام 1984 بعنوان "نقد العقل الإسلامي". أقول هذا لإنصاف الزملاء الباحثين في الغرب، ولا أود أن أسمّيهم المستشرقين لأنّ كلمة المستشرقين والاستشراق تُعبّر عن جدلٍ وجهلٍ لما قام به من يجب أن نسمّيهم بالباحثين العلماء بالغرب الذين اعتنوا بالتراث العربي والإسلامي منذ القرن التاسع عشر واعتنوا به بالمناهج والأطر الفكرية العلمية التي برزت بأوروبا وظهرت بأوروبا ولم تظهر بأي ثقافة أخري في العالَم. أعني بذلك ما نسمّيه الحداثة.

الحداثة ظاهرةٌ فكريةٌ علميةٌ ثقافيةٌ سياسية حقوقيةٌ ظهرت بهذه المنطقة من الكرة الأرضية التي نسمّيها أوروبا ولم تظهر بمنطقة أخرى. أقول هذا كمؤرخ تاريخي، والمؤرخ هو الذي يُعلمنا بما يجب أن نتشبث به فيما يتعلق بالمسيرة الفكرية للعقل البشري. المؤرخ لا يعتني بلغته وثقافته ووطنه ودينه فقط، طبعاً هو يعتني بتلك الأشياء لأنه ينضج من تلك الأشياء وبتلك المرجعيات الأولية. لكن المؤرخ يخترق إذا كان مؤرخاً مفكراً، لا مؤرخاً حاكياً، راوياً لما حدث في الماضي فقط، لأنّ هناك أنواع ومواقف فيما يخص الحركة والعمل التاريخي كعلمٍ شاملٍ أو كعلمٍ مخصص لسرد الحوادث كما حدثت في ماضٍ من الماضيات في الثقافات العديدة.

إذاً أبدأ بهذا لأقول أن الفكر الغربي سنحت له الفرصة أن يتطور تطوراً شاملاً ويتبنى جميع التيارات الفكرية المتواجدة في فضاء البحر المتوسط. والأديان هي التي كونت الذهنيات البشرية في هذا الفضاء الجغرافي التاريخي وألحّ على هذا المفهوم كمفهوم يجب علينا أن نستعمله في تدريسنا للتاريخ، تاريخ الفكر والتاريخ السياسي والتاريخ الثقافي الذي لعب الدور الذي نعرفه وأدّى بنا إلى الوضع التاريخي الذي نعيشه اليوم. هذا ما أسمّيه " بالإسلاميات التطبيقية"، لا نُدرّس الإسلام كإسلامٍ على حدته، لا ندرس الفكر الإسلامي على حدته ونقدّمه كالفكر الذي قدّم دين الحق للأنامي كما يقول التيار الإسلاموي ولا أسميه الإسلامي، وهذه تسمية سوسيولوجية وليست بتسمية جدلية. وعندما أقول إسلاموي أمام جمهورٍ إسلامي يغضب عليّ ويقول أني أعاديه.

وإني أتكلم كعالِِِمٍ اجتماعي ينظر ماذا يوجد في المجتمع، التيارات التي تبرز في المجتمع ولم تبرز من قبل، التيارات التي نشاهدها اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية لم نسمع بها قط في أي بلدٍ عربي. قبل الستينات والخمسينات من القرن الماضي كان الفكر العربي يتكلّم عن الثورة العربية الاشتراكية، لم يتكلم عن الإسلام لتأييد هذه الثقافة. هذا ظهر من بعد.

إذاً أرجع الآن إلى ابن رشد، أشكركم على اختيار هذا الاسم لأن هذا الاسم يُمكّننا من أن نقدّم تاريخ الفكر إسلامياً عربياً كان أم لاتينياً أوروبياً مسيحياً كتيارات متكاملة متناقشة متفاعلة في فضاء البحر المتوسط والحدود الأنتروبولوجية والفكرية بين فضاء البحر المتوسط والأديان والتيارات الفكرية والثقافات التي توجد وراء نهر إندوس في الشرق الأقصى بآسيا. هناك تجد تفكيراً آخر، آفاق أخرى للحقيقة لإنارة وإرشاد حياة البشر، حياة الإنسان. وهذه النظرة ما وراء نهر إندوس أيضاً داخلة في تاريخ الفكر في فضاء البحر المتوسط.

ابن رشد أذكركم من ناحية أخرى، عاش بالأندلس وكان من معاصريه ابن ميمون اليهودي الذي توفي في 1204 بينما توفي ابن رشد 1198 أي انهما كانا معاصرين. بعدهما سيأتي مفكر آخر من أوروبا اللاتينية توماس الإكويني الذي توفي 1274. هذه الأسماء الثلاثة تعاصروا وتواصلوا فكرياً. ابن ميمون كتب باللغة العربية وهو يهودي ويفكر في الأطر التي تكونت في القرون السابقة في الفلسفة من جهة وفي علم الكلام من جهة أخرى. وإننا اليوم نميّز بين الفلسفة وعلم الكلام وندرّس هذين العلمين في شعبتين مختلفتين. هنا في ألمانيا تعترف الدولة بتدريس اللاهوت، أما في فرنسا فالدولة لا تعترف بتدريس اللاهوت في الجامعات العمومية الرسمية. هذه أيضاً ملاحظة مهمة جداً بالنسبة لتاريخ الفكر الشامل كما أحاول أن أذكره. المفكرون الثلاثة أنتجوا ما أنتجوه في إطارٍ فكريٍ يصفه المؤرخون اليوم بإطارٍ فكريٍ وسْطَوِيْ -ينتمي للقرون الوسط- وهي مرحلة من مراحل تطور الفكر في فضاء البحر المتوسط. وهذه المرحلة ستصبح مرحلة ذات قيمة تاريخية فقط، لا يمكننا الاعتماد عليها كمرجعية فكرية معرفية للتعرف على الأديان مثلاً بعد ظهور الحداثة في أوروبا كما أشرت. هذه نقطة مهمة جداً، أعني بهذا أننا نفتخر بابن رشد كمرجعية لأنه وقف أمام مفكر مسلم آخر أنتج أيضاً مؤلفات مؤثرة ومهمة جداً وهو الغزالي. ويكفي أن أذكركم بقيمة المناظرة التي وقعت بين المفكريْن في إطار الفكر الذي يُعبّر عنه باللغة العربية في القرون الوسطى. الغزالي أصدر كتاباً بعنوان "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" ونحن اليوم في الإسلام والزندقة، نحن اليوم نعيش في الإطار التفكيري الذي تقيّد به الغزالي في كتابه. إذ الغزالي في كتابه كان قادراً أن يقول كمفكر هذا مسلم حقيقي نعترف بإسلامه وهذا غير مسلم خرج عن دين الحق. وهذا كلام وتفكير خاص بنوع من ممارسة التفكير اللاهوتي. وردّ عليه ابن رشد بعد ثمانين عاماً بكتابه المشهور "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال". هذا عنوان يدل على إطار تفكيري مختلف لأنه يُعلن للقارئ أنّ المؤلّف سينظر إلى الجهتين وينظر بإلحاحٍ وبموقف نقدي للجهتين: الحكمة والشريعة. وهنا يقارب ابن رشد المشكل مقاربة تسائلية لا مقاربة حاسمة ليقول هذا حق يجب أن نتقيد به ونتبعه وهذا باطل ... الموقف الفلسفي لا يتبنى هذا النوع من فصل المقال. وفي هذا الموقف نجد عِبرةً نحتاج إليها اليوم حاجةً ماسة في الفكر الذي يصف نفسه بالإسلامي. وألحّ على هذا التعبير لا لأقول أني أعرف الإسلام، بل لأصف فقط المواقف الفكرية التي نشاهدها اليوم في الساحة العربية الناطقة باللغة العربية كما ينطق بها ناطقوها اليوم. أقول اليوم لأن اللغة العربية انفصلت عن معجمها الفكري النقدي الفلسفي، أصبحت لغة طغى عليها الخطاب الإيديولوجي والموقف الإيديولوجي.

تنظرون كيف يمكننا أن نربط بين الموقف الفكري الذي نلتمسه في هذه المناظرة وما يجب علينا أن نقوم به لتطبيق هذه التجربة الفكرية لما نعاني منه اليوم كفكرٍ عربي وكفكرٍ إسلامي. الموقف النقدي يعتمد على معرفة تاريخية مدققة محكمة بالوسائل الفيلولوجية التي تعلّمناها كلنا من الفكر الألماني ومن الباحثين الألمان. والمنهاج الفيلولوجي بدأنا نسمع به في الفكر العربي في عهد ما أسميناه النهضة. طه حسين تعلّم المنهاج الفيلولوجي في السوربون وطبّقه على دراسة "الشعر الجاهلي" وشاهدنا ماذا وقع لهذا الكتاب لأن علماء الأزهر لم يسمعوا بهذا المنهاج في حياتهم قط. والمنهاج الفيلولوجي ظهر في إطار الحداثة، لم يظهر في إطار الفكر التاريخي وكتابة التاريخ في القرون الوسطى. هناك طبعاً من يتسائل عن الوثيقة التي يقرأها إذا هي صحيحة تاريخياً أم مختلقة. المؤرخون يعرفون ذلك. هذا يختلف عن المنهاج الفيلولوجي الذي يرتبط بالموقف التاريخي الذي يُؤرخ للفكر خارج السياج الدغماتي الذي يتبناه ويعمل به الفكر اللاهوتي. واليوم الفكر اللاهوتي تغيّر وتبنى المناهج التاريخية، ولكن ليس كل اللاهوتيين حتى اليوم في ألمانيا يتبنون هذا المنهاج الفيلولوجي خاصة إذا طبّقناه لما نسميه بالنصوص الدينية المقدّسة التي لا يمسّها إلا المطهّرون.

ومع هذا أود أن أشير إلى جانب آخر مهم جداً: أرجو أن لا تكون هذه المؤسسة، "ابن رشد للفكر الحر"، أن لا تكون على نفس التيار الذي يقول : يكفينا أن نرجع إلى المفكرين القدماء حتى نحيي الفكر الإسلامي ونعتمد عليه كما نقلناه عن تلك الكتب ومن هؤلاء الكُتّاب.

لا، هناك ظاهرة الحداثة والتي لا بد من الدخول فيها، لا بد من تبنّيها كإطار فكري، وليس مجرد تطبيقها دون تسائل ودون التعرّف على التاريخ والتقديم التاريخي النقدي لجميع التراث العربي. لذلك لا يمكنني أن اكتفي بكيفية الاستدلال الذي نجده في فصل المقال مثلا عند ابن رشد لأعالج اليوم قضايا الشريعة وأعالج اليوم نفس الموضوع الذي عالجه في العلاقات بين الحكمة والشريعة. وهذا يؤدينا إلى نقد العقل الإسلامي اليوم وهذا ما يربطني بتجربة ابن رشد.

ولكن أود هنا إلى أن أشير أيضاً أن ابن رشد ليس الوحيد الذي أشير إليه وأتفاعل مع فكره. هناك عقول أحبّها والتقيت بها عندما كنت أعمل في أطروحتي التي قرأتموها بالعربية "نزعة الأنسنة في الفكر العربي في القرن الرابع الهجري" ومن المفكرين العرب الذين أحبهم وأحْييهِم ليكونوا معنا في هذه الحداثة أخي الحميم أبو حيّان التوحيدي لأنه كان مفكراً ثائراً لأنه يثور ثورة فكرية وصابرة بعيدة كل البعد عن العنف وعن الجدل العقيم. وكُتُبِ أبو حيّان تشهد شهادة قوية ملحّة على أن الفكر العربي بدأ يفتح فضاءً للفكر الذي يتبناه كل عقل بشري وهو ما نسمّيه "الأنسنة" أي Humanismus. انظروا يا اخوتي أُجبِرتُ إلى أن أجد اصطلاحاً عربياً لأترجم تياراً عربياً موجوداً حياً في اللغة العربية وكان لهم مفهوم لفظي يدلّ على مفهوم Humanismus وهو مفهوم الأدب. كان يكفيني أن أقول نزعة الأدب في الفكر العربي في القرن الرابع الهجري. ولكن لو اخترت هذا العنوان يُفكّر القارئ وكأنني أعني فرع الأدب في كلية الآداب مثلاً وهذا بعيد كل البعد عن المقصود. وهناك مفهوم عربي موجود حي ولكن مات، مات، لم يعد صالحاً لتغذية الفكر اليوم وللتعبير عن شيء أساسي بلغة الفكر العربي في القرن الرابع الهجري، واختفى تاريخياً هذا التيار كما اختفى الفكر الفلسفي كله بعد وفاة ابن رشد. هذه أيضاً ظاهرة تاريخية لم يُؤرّخ لها بعد المؤرخون. هناك دراسات عديدة ولكن ليست دراسات بهذا الذهاب والإياب إذا صحّ التعبير. من القرون الوسطى وما حدث في القرون الوسطى إلى يومنا هذا وظروفنا هذه التي نعيش فيها ونعاني منها في الفكر العربي المعاصر والمجتمعات العربية المعاصرة.

وهذا المثل "الأدب" الذي نحتاج إلى إيجاد اصطلاح له واصطلاح "الأنسنة" جديد للقارئ الذي يتسائل لماذا لا يقول الكاتب مثلاً الفكر الإنساني، هذا الأستاذ أركون يُعقّد كلامه ولا نفهم ماذا يقول فلا نقرأ كتبه. بحرٌ من المصطلحات كما يقول أحد النقّاد... نعم ...بحرٌ من المصطلحات، نحتاج إلى ذلك البحر من المصطلحات. ولكن الطّامة الكُبرى أن الفكر العربي المعاصر منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي لم ينقطع فقط من الفكر العربي الكلاسيكي من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر الميلادي، بل انقطع الفكر العربي المعاصر من التفكير الذي ورد في القرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الثانية. تلك الفترة التي وصفها العلماء بالفترة اللبيرالية وهي فترة النهضة كما نسميها. انظروا الفرق بين المواقف الفكرية لمحمد عبده وتفتّح محمد عبده وفكره البرغماتي حتى فيما يخص الإفتاء في الشريعة ومواقف من نسميهم اليوم بالإسلاميين، يتشبث بهم ويخضع لهم ويسجد لهم ملاين من المسلمين. انتقل الفكر الليبرالي إلى فكرٍ شعبَويٍٍ كما أقول إسلاموي. هذا تعبير سوسيولوجي. وطبعاً التفكير السوسيولوجي يفتح أبواباً وآفاقاً للنقد الفلسفي.

كما تعلمون لي كتاب فيه عناوين استعملتها باللغة العربية ولم استعملها باللغة الفرنسية وكل عنوان يشير إلى ميدان واسع من البحوث والتفكير. والعنوان الذي أشير إليه هو " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل". هذا عنوان متحدٍ جداً وكثير من القرّاء العرب حتى الذين نصفهم بالمثقفين لا يُدركون ما أعنيه باستحالة التأصيل، لا من جهة الفكر الإسلامي المبني على التأصيل، تأصيل الشريعة في النصوص القرآنية ونصوص الحديث. طلب الأصل لاجتهاد طلب الأصول ووجود الأصول التي تُستنبط منها الأحكام الشرعية. هذا يعني أن الموقف التأصيلي أصيلٌ في الفكر العربي الإسلامي. وكان المفكرون المسلمون في القرون الوسطى يعتقدون أن عملية التأصيل كما مارسوها، كما مارسها جميع من ألّف كتباً في أصول الفقه وفي أصول الدين كان أمرا ًقد يكون سهلاً بشرط فقط أن تتبع قواعد النحو وتعرف معاني الألفاظ المستعملة في القرآن أو الحديث بدون أي معجمٍ تاريخي صحيح يُعتمد عليه. يقومون باستدلالاتهم لبراهينهم ويقررون أنّ هذا الحديث صحيح وهذا الحديث مُختلق، أنّ هذه الآيات تُفهم على هذا النحو. هذا هو التأصيل. هذا النوع من التأصيل يُعلََّمْ ويلقّنْ في المدارس.

ولكن بعد القرن الثالث عشر والرابع عشر بطل حتى هذا التمرين للعقل لكي يتدرّب على كيفية الاستدلال الصحيح الذي يُعترف به. وبقينا هكذا على شيء أصبح خيالياً، أن هناك شريعة مؤصلة وهذه العملية قام بها الأئمة المجتهدون وأيدها الأئمة الإثنا عشر حيث الإمام المعصوم هو الذي يؤيد ويقرر وكفانا بذلك فليس هناك حاجة إلى أن يُجدّد النظر في عملية التأصيل. "بداية المجتهد" مثل آخر لأقول أنه لا يمكن أن نعتمد على ابن رشد مع احترامنا له، إن بداية المجتهد كتاب في المذهب المالكي وما كان يُناظر المذاهب الأخرى في طرق التأصيل، هذا كلّه لا يعتني به أحد.

واليوم بعدما قام به العقل في تطوير ما نسمّيه الحداثة، أقرؤوا فلاسفة اليوم هنا في ألمانيا، في فرنسا، في إنجلترا وحتى وأقول حتى في أمريكا لأن أمريكا طبعاً لها فلسفة ولكن فلسفة إذا نظرنا إلى تلك الفلسفة اللبرالية البرغماتية وقارنّاها بفلسفة كانت وهيجل واللذين مارسوا فلسفة على طريقة أخرى ومستوى آخر لا بد أن نرى الفرق الكبير كما قلت. إذا قرأنا الفلاسفة اليوم الذين يتسائلون كيف نؤصّل مثلاً حكماً أخلاقياً، الأخلاق؟ ما هي أسس الأخلاق؟ على أي قيم ومبادئ يمكننا اليوم أن نفرض على عقول اليوم في مجتمعاتنا الديمقراطية موقف أخلاقي يتشبث به ويعترف به ويخضع له العقل الراهن؟. كنت عضواً في فرنسا بلجنة التفكير عن تطبيق الأخلاق في ميدان العلوم البيولوجية التي تحصر جميع تصوراتنا للإنسان ولوضع البشر. وعندما نجلس لنفكر معاً كلجنة في قضية من القضايا التي تَطرح متى يمكننا أن نعتبر الإنسان إنساناً من حيث التعريف البيولوجي للإنسان قبل أن ننتقل إلى حكم أخلاقي كما نسميه، يجب أن نبدأ من الأساس وهو أساس بيولوجي وليس منزّلاً من السماء وغير مرتبطٍ بالنصوص. هذا يطرح القليل مما قدّمته هنا في هذه المناسبة. ما يُطرحُ لدينا ليست قضية الأديان مع أن الأديان أصبحت تلعب في مجتمعاتنا دوراً من الأهمية بمكان ولكنّه دورٌ سياسيٌّ ملبّس بالمعجم الديني.

وكيف إذاً مشكلة المشاكل فيما يخص الفكر العربي خاصة فكر اليوم؟ وجب علينا أن نتسائل عن الظاهرة الدينية وهي مفهوم أنتروبولوجي لا بد من طرحه، لا بد من البحث حتى يُصبح هذا المفهوم هو المنطلق لنقول شيئاً يقبله العقل فيما يخص بدين الإسلام الذي هو دين من بين أديان أخرى متعايشة متواجدة لدينا وتتخاطب بالإرهاب، الدين الهندوسي بالهند يخاطب الإسلام بالإرهاب، والدين الإسلامي يخاطب ما يسميه الغرب بالإرهاب. العنف، العنفُ في هذه المرحلة التاريخية من تاريخ البشر. العنف ظاهرةٌ كأنها ظاهرة جديدة لدينا، كأنها لم توجد في جميع المجتمعات من لدن الخليقة، والعنفُ بعدٌ مكوِّنٌ للحياة البشرية، بعدٌ عريقٌ بيولوجياً في جسدنا ونظامنا العصبي، ومغذى فكرياً بما نلقنه لأبنائنا في المدارس وهم صغار لا يمكنهم أن يردوا على معلمهم ويقولوا له أنت جاهل تعلمنا الجهل، والمعلّم عندنا لا يزال يقمع التلميذ والطالب حتى يسمع لجهله لأنه يعلم الجهلَ. ولا سبيل إلى أن نربي الأجيال الطالعة على التعرف، تعرّف علمي على ظاهرة العنف، لأن العنف أصبح قيمةً سياسيةً لا مفر منها. الثورات التي مررنا بها بعد الحرب العالمية الثانية في جميع العالم، الثورات والحروب التحريرية مبنية على العنف، وهكذا أصبح العنف يُنتج الأبطال، يُنتج الزعماء الذين يترأسون الشعوب. والمجتمعات تعرف أن هذا العنف ينقلب، من كونه والاعتماد عليه كقيمة سياسية لا بد منها يفرضها التاريخ علينا، ينقلب هذا العنف إلى قيمة أخلاقية، إلى قيمة وطنية يؤمن بها الجميع ويحتفل بها الشعب. أنظروا أين نحن من زمن ابن رشد بقرطبة، أين نحن من الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية والقيم الدينية التي كانت قائمة حينذاك. وإن التعريف الانتربولوجي للعنف لم يكن ممكناً التفكير فيه في ذاك الوقت.

هكذا نفهم وجود تلك المصطلحات التي نستعملها فيما أكتب ما لا يمكن التفكير فيه. عندما أقول ما لا يمكن التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر، أقصد أولاً الفكر الفلسفي الذي أصبح تاريخياً مرفوضاً وفي الميدان الذي لا يمكن التفكير فيه لأسباب دينية ثقافية وسياسية. وعندما نرفض ما يمكن التفكير فيه كالمعتزلة أيضاً في موضوع "خلق القرآن" كان مما يمكن التفكير فيه، إذ تناقش فيه وفكّر فيه الكثير من المفكرين. وبعد الخليفة القادر الذي أصدر في العقيدة القادرية أن من قال بخلق القرآن فدمه حلال، أصبح التفكير في قضية مهمة كخلق القرآن لا يمكن التفكير فيها. أذاً هذا مفهوم يرجعنا إلى التاريخ ، يرجعنا إلى سوسيولوجية الفكر، الكثير يعتقدون أن هذه فلسفة، لا، هذا ليس بمصطلح فلسفي. إني أصف وضع الفكر والمُفكِّر في مجتمع من المجتمعات.

واليوم مثلاً لي أفكار، لي مواقف لا يمكنني أن أعبّر عنها أو أعلنُ عنها أمام الجمهور، لأنّ الجمهور لا يمكنه أن يفهم فوراً ما أقصده، أما مع الطلاّب فعندنا وقت لنبني هذه المفاهيم. أما في محاضرة أو في كتاب فالمعذرة فلا أستطيع قول أو كتابة ذلك وهذا أيضاً يربط كلامنا مع تجربة ابن رشد حيث كان الفقهاء المالكيين يهاجمونه، لم يرضوا باعتنائه بالعلوم الدخيلة والتي تعني الفلسفة.

واليوم كفّرني الشيخ محمد الغزالي بالجزائر يا سيدي سفير الجزائر وأنت عليم بذلك، نعم وتعرف الأسباب وكان ذلك أمام الجمهور الجزائري في ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر العاصمة سنة 1987 وكنت أشرح جملة كتبتها في كتابي عن الفكر العربي وذكرتُ فيه "القرآن خطاب Mythos " وقد ترجم الأستاذ عادل العوّا سابقاً كلمة Mythos بكلمة أسطورة بالعربية، في وقت لم يكن معروفاً حتى في فرنسا الفرق بين الأسطورة والقصص، فأصبح الاصطلاح " القرآن خطاب أسطوري" وهذه هي الطّامة الكبرى. أنظروا اللغة العربية، إنّ اللغة تجعلنا أسرى فلا يمكن أن نتحرك، تضع حدوداً. إنّ هذه المصطلحات في اللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية ليس فيها مشكلة لأنها كلها تنتمي إلى أصول اللغة اليونانية. والمشكلة حدثت لأني اكتب بالفرنسية. طبعاً يمكنني أن اكتب بالعربية التي أتقنها، ولكني إذا كتبت مجلداً واحداً في الفرنسية سيصبح ثلاثين مجلداً بالعربية وذلك لنقص المصطلحات المناسبة لكل ما أقوله بالفرنسية. ولكن المشكلة ليست عند عادل العوا أستاذ الفلسفة في دمشق، بل أن معظم الكتاب والمدرسين العرب يستعملون كلمة أسطورة لشرح كلمة Mythos . ومفهوم ميثوس هو مفهوم أنتروبولوجي وليس تاريخي، هي مقولة من مقولات العقل البشري، لا يمكن أن تقول هذا جائنا من أرسطو وأفلاطون فقط. والميثوس متواجد دائماً مع اللوغُسْ لا نفرق بينهما ولا يزالان يتصارعان في كل خطاب ينتجه العقل البشري في كل لغة وفي كل ثقافة. وأنا ماذا اعمل لأني مسلم ولأني عربي؟ أربط هذه الكمية العظمى من المفاهيم وأضعها في لغة قرآنية كانت هي كخطاب القرآن قد أدركتْ وميّزتْ تميزاً دقيقاً بين الأسطورة والقصص. يقول القرآن في صورة يوسف " إنا نقصُّ عليك أحسن القصص".

لذلك كافحتُ ولا أزال أكافح لمحو الترجمة الجارية على اللسان العربي. ولكن المشكل هي مع الشعوب العربية ومع الصحافة ومع خطاب الشارع، والمدرسة لا تساعد أبداً فهي متماشية مع الخطاب الشعبوي، المدرسة تستعمل الخطاب الشعبوي وهذا هو الواقع.

أرجو أن أكون قد وضّحتُ ماذا يربطنا بعقل ابن رشد وبشجاعة ابن رشد وبصمود ابن رشد أمام الحملة الفقهية، الفقهاء الذين كانوا ممن نسميهم اليوم المثقفين العضويين، يعني يعملون في النظام السياسي وفي النظام المعرفي أيضاً الذي تكوّن بالفكر التأصيلي كما وصفته والذي يختلف عن التفكير الفلسفي. هذا كله يربطنا بابن رشد، ونحتاج إلى ابن رشد وإلى الفارابي وإلى ابن سينا وإلى جميع المفكرين الذين أقاموا هذا البعد الفكري من الفكر البشري ولكن في نفس الوقت يجب أن نتسلّح بأسلحة أخرى لنقوم بأعمال أخرى جديدة طارئة كل يوم وكل يوم تتجدد وتتفاقم فكرياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً كما نشاهد ذلك يومياً مع الهجرة الإسلامية في المجتمعات الأوروبية. نعرف ذلك في ألمانيا وفي فرنسا وفي إنجلترا.

الاصطدام ليس باصطدام الحضارات كما قال أحد القائلين الذي لا أسميه باسمه لأنه أصبح نبياً لكثيرٍ من الناس الذين يستشهدون به. هناك اصطدامات بين منظومات من الجهل المؤسس. الجهل المؤسّس مفهوم تاريخي، مفهوم لغوي ومفهوم أنتروبولوجي. ليس هناك مجتمعاً، ليس هناك فكرأ، نظاماً فكرياً لا يستتبع في منظومته وممارسته إنتاج جهله، لا نستشعر به أنه جهل فيما ننطق به وهذا ما يحدث في جميع المجتمعات العربية منذ خرجنا من ملامح النهضة ودخلنا في معارك الإيديولوجيا المميتة للفكر الحر وهذا ما جمعنا هنا.

أشكر مرة أخرى الذين جعلوا هذا اللقاء ممكناً وأرجو للمؤسسة حياة طويلة وتوسع في طموحاتها حتى تكون مؤسسة في كل بلد عربي وأقول هذا بحضور الممثل للجامعة العربية وصار لي الشرف أن التقي بعمر موسى أمين عام الجامعة العربية في القاهرة في 25/9/2001 وقلت هذا أمامه وقد وعدنا أنه سيتابع العمل لوضع أسس لكي نبني عليها كما نرجو أن نبني بهذه المؤسسة. وشكراً لكم.

 

ظافر محسن غريب

  [email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1519 الجمعة 17/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم