تجديد وتنوير

ملاحظات فكرية في شروط النهضة / قاسم خضير عباس

التي مرّت بها أوروبا!! وتم التنظير وفق (ثقافة الغرب ومناهجه)، فماذا كانت النتيجة؟! النتيجة كانت حصاداً مراً وسنوات من الإحباط والفشل والمآسي التي لحقت بالأمة.

لهذا تنبه بعض المفكرين العرب إلى حجم الكارثة بعد تحليلهم للمعوقات، التي برزت إثر تطبيق (نماذج مستوردة) لا تمتّ لمجتمعاتنا بصلة، ومن هذه المعوقات ظهور (ظاهرة تخلف التنمية) الملفتة للنظر. ومن خلال متابعة دقيقة للمقولات الجديدة، نلمس أنها اعترفت بعض الشيء بالخطأ الفكري، الذي وقعت فيه سابقاً، لكنها لم تتخلص كلياً من أسر (المنهج الغربي)، وهذا ما نراه في ممارساتها الحالية وتطبيقاتها الفكرية.

وعليه أتصور أن (التوجه التغريبي) عند بعض المثقفين العرب قد انقسم في الآونة الأخيرة إلى تيارين:

الأول: أصر بشدة على بقاء الأسس الفكرية والتنظيرية السابقة، لكي تتناغم وتنسجم مع (توجه الغرب ومنهجه) .

الثاني: تبنى مواقف تنتقد التوجهات القديمة، وتدعو للعودة إلى الذات، واكتشاف العناصر الخاصة في المجتمع، التي غيبت نتيجة (التغريب الفكري). ولكن هذه العودة المتأخرة لاكتشاف الذات، والبحث عن الأصالة والتراث لم تكن موفقة للأسف الشديد عند هذا التيار، لأنه استند في تنظيره الجديد إلى نفس الأولويات والمبادئ الغربية، مما أدى إلى الوقوع في أخطاء وإشكاليات جديدة.

ويعد الدكتور (عابد الجابري) مثالاً على ذلك حيث اعترف باستحياء بالأصول والتراث، بعد سنوات من القطيعة والرفض، والولع المطلق بـ(النموذج الغربي)، والإيمان الأعمى بـ(المعجزة اليونانية)، التي وصفها بأنها: (عقل محض)!! ولكن عودة الدكتور (الجابري) إلى الذات والخصوصية رافقها تشويه ومغالطات، لأنه نادى بـ(تأصيل الأصول)، لا من أجل تعميق المعرفة بها، بل من أجل تغييرها كلياً لتتلاءم مع العصر!! وهو في ذلك يستند إلى نفس (المبادئ الفكرية الغربية)، التي تم التنظير وفق أسسها سابقاً، مما يدل على جهل (الجابري) بماهية الذات ومقوماتها الضرورية لنهضة المجتمعات العربية، وكذلك جهله بالأصول والثوابت، التي إذا (أصّلت) وفق (المنهج الغربي)، ستؤدي إلى نشوء (حالة هجينة)، منفصلة تماماً عن واقع مجتمعاتنا، لأنها لا تقود إلى تحقيق الأهداف التي يتطلع إليها (المنهج الأصيل)، عند وضع أصوله ومبادئه الثابتة.

لهذا فإن (الأسلوب التوفيقي) للدكتور (الجابري) غير قادر على التعبير عن نفسه، إلا من خلال (ثقافة الغرب وفلسفته وتطبيقاته الفكرية)، فـ(الجابري) يعتقد بضرورة تعميق المعرفة لصالح التغيير، لكنه يخطئ في تشخيص نوعية المعرفة، ونوعية التغيير المطلوب، ونوعية الأساليب والآليات المؤدية إلى هذا التغيير. وانا اتفق مع (الجابري) بأهمية الأطر المعرفية لتجاوز الإشكاليات، لكني اعتقد بان التغيير لا بد ان يستند إلى مشروع حضاري يتغلغل في أعماق الأمة، ويمثل ضميرها ووجودها وذاكرتها،والانطلاق يكون من جعل الإنسان يتحرك بوتيرة متصاعدة تتلاءم مع الأصول والثوابت، وتستلهم تطور العصر وتقدمه لتذيبه في منهج متميز خاص يستفيد من المناهج الاخرى لكنه لايقلدها،  لخلق حضارة تعبّر عن ذاتها وفكرها وكيانها بأمانة وصدق.

ونفس (مفاهيم الجابري) تجدها عند الدكتور (زكي نجيب محمود)، الذي انتقد بسخرية لاذعة التراث والأخلاق والروح، ووصف اللغة العربية بأنها: لغة غير علمية تصلح للشعر والأدب!! لكنه رجع عن كثير من توجهاته، وبرر ذلك بسبب عدائه للاستعمار، أما أسسه الفكرية، ومتبنياته الثقافية العامة فقد ظلت مرتبطة بـ(الغرب ومنهجه الفلسفي). ويصوّر (زكي نجيب) الصراع النفسي الذي عاشه وهو في الثمانينات من عمره فيقول في كتابه (عربي بين ثقافتين): (ووجدت ضالتي بين مجموعة من أخوات لها، كنت قد جمعتها معاً في كتاب جعلت عنوانه (الكوميديا الأرضية)، وقرأت المقال القديم فإذا بالشعور الغريب يغمرني فيصور لي نفسي في أوائل أربعينياتها، وكأنها شغلت عما كنت بصدد البحث عنه، لأتعرف إلى شيء آخر هو المقارنة بين الرجل الواحد في لحظتين من عمره... كيف كان يكتب حينئذ عن (التراث) ونشره وكيف يكتب الموضوع نفسه اليوم؟).

ويضيف: (الروابط الحميمة التي تربط كاتب هذه السطور، وهو في ثمانينياته، بذلك الكاتب الأربعيني لتجعله على يقين من صدق النوايا عند سلفه الأصغر، لكن حسن النوايا لا يحول الخطأ صواباً، وسر الوقوع في مثل هذا الخطأ عند صاحبنا وأمثاله ـ وهم كثيرون ـ هو الحكم على قضية كبرى كقضية التراث العربي وإحيائه، وكأنهم يحكمون على سطر واحد من صفحة واحدة في كتاب واحد).

وعلى الرغم من أنّ (زكي نجيب) اعترف بخطئه، الذي خدع به الكثيرين،  إلا أنه لم يتبنّ منهجاً فلسفياً مغايراً (للمنهج الغربي)، الذي ظل ينهل منه في تعامله مع القضايا الجوهرية والحساسة... وهذه الازدواجية التي يقع فيها (زكي نجيب) تجدها واضحة وجلية عند أكثر الكتّاب المنتمين إلى (تيار التغرب)، فهم بسبب تشتتهم الفكري، وإحباطاتهم النفسية لا يثبتون على قضية واحدة أبداً، فارتباطهم بـ(فكر الغرب ومناهجه وقيمه) أثّر في سلوكهم وتفكيرهم، وجعلهم يتيهون بمتاهات فكرية خطرة، ازدادت معدلاتها نتيجة التناقض بين ولائهم لمجتمعاتهم وبين ولائهم للغرب.

 

قاسم خضير عباس

كاتب وباحث ثقانوني متخصص

في القانون الدولي العام

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2262 الخميس 01 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم