تجديد وتنوير

إرهاصات اللحظة اللوثرية في العالم الأسلامي

هل يقف العالم الاسلامي اليوم على عتبة حركة إصلاحية كبرى تبدأ بالفكر ويكون لها امتداداتها في السياسة والمجتمع والمعرفة الدينية؟

ما يعطي هذا التساؤل مشروعيته هو ان الظروف التي يمر فيها العالم الإسلامي اليوم على شتي الأصعدة شبيهة بتلك التي كانت سائدة في أوروبا مباشرة قبل حركة الإعتراض اللوثرية التي أعطت زخماً كبيرا - جلّه غير مقصود - للحداثة العقلانية والتي توّجت فلسفيا في القرن الثامن عشر بعصر الأنوار .

تتلخص هذه الظروف بالأمورالتالية:

1- إحتكار تفسير النص الديني من قبل شريحة من المجتمع وما يستتبع ذلك من إمتيازات معرفية ومعنوية و... وَمِمَّا يتعلق بهذا الأمر شيوع الإنطباع لدى عموم المسلمين أن النص القرآني لا يمكن ان يُقارب إلاّ عبر وسيط يمتلك المعرفة والقداسة مع أن النص التأسيسي في الإسلام واضح في دعوته الى التفكر والتعقل والتدبر لكل شرائح المجتمع، بل للبشرية جمعاء.

2- إدعاء امتلاك الحقيقة كاملة لدى كل فرقة من فرق المسلمين، خصوصاً الفرقتين الأساسيتين، وما يؤدي اليه ذلك من تفسيق وتضليل وتكفير وسفك دماء.

3- الأوضاع المزرية في العالم الإسلامي على شتى الأصعدة، خصوصاً السياسية والأمنية والمعيشية، حيث ترزح بلدان العالم الإسلامي في أسفل السلّم وفقاً لكل مؤشرات التنمية رغم امتلاكها لموارد وثروات هائلة.

4- تفشّي الخطاب الديني الممعن في الغيبيات والأسطرة في عصر أدّى فية النفوذ الثقافي للحضارة الغربية إلى احياء التيار العقلاني في العالم أجمع وعدم قبول الأمور لدي كثير من الناس دون حجة منطقية أو إثبات علمي.

الأوضاع المذكورة أعلاه بشكل مقتضب تؤدي بالطبقات المستنيرة والمتدينة في اّن معا في العالم الإسلامي إلى رفض الوصاية على الفكر وإعطاء نفسها حق مقاربة النص الديني مستفيدة من الفتوحات المعرفية في مجال العلوم الانسانية والذي يشكل منهجي تحليل الخطاب والهرمنوطيقيا جزءً أساسيا منها، والتي تهدف أساساً الى دراسة أنظمة المعنى الحاكمة على الفكر والتي أدّت الى مفاهيم خاطئة في مجال السلطة السياسية، وحرية الضمير والنظرة الى المرأة. غنّي عن القول ان أنظمة المعنى تلك خاضعة لمسلّمات المجتمع القبلي والأبوي واللذان اذا تمّ التفكيك بينهما وبين النص الديني ينفتح هذا النص على التساؤلات والإشكاليات الحديثة، الأمر الذي من شأنه ان يفتح الباب لدخول المسلمين في العصر.

هذه الشرائح المستنيرة في العالم الإسلامي، بالإضافة الى ملايين المسلمين المقيمين في الغرب، يَرَوْن ان تجربة الحداثة الغربية التي تُوّجت بفصل الدين السياسية أدّت الى النتائج المهمة التالية:

1- إن الإدارة العقلانية للمجتمع وما يستصحب ذلك من شفافية ومساءلة ووجود احزاب المعارضة وحكم القانون وإستقلالية القضاء وسطوة الإعلام ... هذه الأمور مجتمعة، أدّت الي وجود تجربة سياسية سليمة الى حد كبير حيث منسوب الفساد والرّشوة والمحسوبيات قليل، وليس هذا فحسب بل ان السياسيين الذين يستغّلون مناصبهم لأمور شخصية او يتقبلون الرشى يحاكمون كغيرهم ويدخلون السجن اذا ما ثبتت التهم ضدهم. ويحق للغرب ان يفتخر بهذه التجربة. والعكس عندنا هو الصحيح.

٢- فصل الدين عن السياسة أدّى ايضا إلى تحقيق الوئام الاجتماعي في الغرب بحيث لا يكفّر الكاثوليكي البروتستانتي ولا العكس، ولا البوذي الهندوسي ولا المتديّن الملحد... الخ. وليس هذا فحسب بل إن القانون يضمن لكلّ منهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية. ٣- عدم وجود ايديولوجيا دينية حاكمة في الدول الغربية أدّى إلى ارتفاع مستوى الصدق في المجتمعات الغربية بحيث لا يشعر الانسان انه بحاجة الى ان يراءي او يتزلف او يغالي في دينه لقاء منافع معنوية او مادية فهو حرّ في ان يكون مُتديّنا او خلاف ذلك ولا تترتب على تدينه او عدمه اية منافع معنوية او مادية . اذا أضفنا الى ذلك حالة الرخاء النسبي التي تعيشها المجتمعات الغربية، فالوظائف متوفرة بشكل مقبول، والذي لايجد فرصة عمل يتكفل به نظام الضمان الاجتماعي الذي يؤمن له الاحتياجات الاساسية لمعاشه، وهذا ما يُشعرالانسان باستقلاليته وكرامته فمعيشته وقوت أطفاله ليسا مرتبطان بالتصفيق لذلك الزعيم او إكالة المديح لذلك النافذ او تضخيم شخصية ذلك الثري وهذا ما يشجّع على حريّة الضمير وقول الحق بحيث نجد ان مستوى الصدق في المجتمعات الغربية أعلى بكثير ليس فقط من نظيره في المجتمعات العربية والإسلامية بل في مجتمعات المتدينين أيضاً.

هذه الأمور المذكورة أعلاه لا تنفي حقيقة ان الغرب في تعاطيه مع الشعوب الأخرى في اغلب الاحيانٍ ظالم ومتغطرس واستئصالي أيضاً. الحديث أعلاه هو عن التجربة داخل المجتمعات الغربية. وينبغي التفريق بين هذين الجانبين من أجل التوصل لفهم صحيح للحضارة الغربيه.

وَمِمَّا يزيد الأمور تعقيدا في مسألة علاقة الإسلام بالحداثة أننا لا زلنا لا نملك تصورا واضحا عن كيفية التعاطي مع التساؤلات الرئيسية للحداثة بالرغم من مرور قرنين من الزمن على إشتغال مصلحين ومفكرين كبارعلى هذاالموضوع.

تتلخّص إشكاليات الحداثة الاساسية عبر التساؤلات التالية: 

1- هل العقل مستقل أم أنه خاضع للوحي؟ ويتفرّع عن هذا السؤال إمكانية خوض المغامرة الفكرية الحرّة في العالم الإسلامي دون الإنطلاق من مسلّمات فكرية وعقدية وإسلاس الزمام للعقل المؤطّر باءطار العلم.

2- هل يمكن تحقيق النموذج الحداثي في الحكم (الديمقراطية) دون المرور بمرحلة العلمنة الثقافية؟

3- ما هو التصوُّر الإسلامي الصحيح لمفهومي الذاتية والرشد اللذان يمثلان الركيزتين الإساسيتين لمشروع الحداثة (الذاتية هنا تعني نمو الذات العاقلة-، المستقلّة، الناقدة، الفاعلة في المجتمع، المهتمة بحقوقها اكثر من اهتمامها بواجباتها، والرشد يعني عدم إعطاء الآخرين حق التفكير بالنيابة عن نفسك - وهذا المفهوم الأخير اعتبره الفيلسوف إيمانويل كانت أهم مبادئ فلسفة الانوار)؟

ويتلخّص الإلتباس في التعاطي مع موضوع علاقة الإسلام بالحداثة في العالم الإسلامي اليوم حسب اطلاعي بالامور التالية:

الخلل في فهم بعض المكوّنات الرئيسية لظاهرة الحداثة وما يحدثه ذلك من تشوّش بإدراك علاقة هذه الظاهرة بالإسلام (طه عبدالرحمن)، أو إسقاط المشاريع الأيدلوجية على واقع المسلمين او بعض نتاجهم الفكري في فترات زمنية معيّنة من أجل إثبات تناغم مزعوم بين الإسلام ونزعة الأنسنة او بين الاسلام والعقل السيادي المستقل (محمد أركون ومحمد عابد الجابري)، أو الوقوع تدريجيا في فخ العلمنة الثقافية (عبد الكريم سروش ومصطفى مالكيان) .

يتلخّص المشروع الفكري لطه عبد الرحمن بفهم للعلاقة بين الحداثة الغربية والإسلام مفاده أن روح الحداثة تتفق مع الدين الاسلامي في حين أن تطبيقاتها (في الغرب اساسآ) تختلف معه. والسؤال الأساسي الذي يمكن أو يُوجّه الى هذه الأطروحة هو التالي: كيف يمكن لروح الحداثة ان تتفق مع الإسلام في حين ان هذه الروح مرادفة للإتجاه الإنسانوي الذي أراد ان يُحلّ الانسان مكان الله وان يستمد المعرفة بشكل حصري من عقل الإنسان ويستمد المعاير القيمية حصرياً من عقل الانسان أيضا؟ وأما الجابري وأركون فقد حاولا البرهنة على ان التجربة العربية - الإسلامية في ما مضى اختزنت مبادئ الحضارة الحديثة الأول عبر الإيحاء بأن إبن رشد هو الذي أرسى دعائم العقلانية السيادية، أو القائمة بذاتها، والتي استفادت منها أوروبا لاحقا لدى تأسيسها للحداثة، والثاني عبر التركيز على تيار فكري انتشر في التاريخ العربي في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين وهمّش لاحقاً، سادت فيه نزعة الأنسنة التي تعتبر روح الحضارة الحديثة . ولكن الدراسات الجادّة في هذا المجال تظهر أن الإتجاه العقلانى لدى ابن رشد لم يكن منفصلاً عن الوحي ولا مؤسساً للقطيعة معه أو الاستقلالية عنه بل كان يهدف إلى إيجاد نوع من التناغم معه وأن نزعة الأنسنة تلك كانت تتفاعل ضمن منهج فكري مؤطر بإطار النظام العقدي الإسلامي والتي لم تهدف إلى جعل الانسان مركز الكون ومصدر المعرفة والقيم. والخطير في مشروع أركون انه لم يكن مقتصرا على محاولة تحطيم السياجات الدوغمائية التي احاطت بالنص المقدّس من أجل التوصّل إلى مقاربة اكثر راهنية له بل أراد التشكيك بهذا النص بالذات خصوصا عبر الغمز في ما شاب عملية تحوّل هذا النص من نص شفاهي الى نص مدوّن وذلك ما عبّر عنه مواربة ب" اللامفكر فيه" أو " ما لا يمكن التفكير فيه ". أما عبد الكريم سروش فقد طرح نظرية معقولة لتحريك الفكر الإسلامي اسماها " قبض وبسط المعرفة الدينية" ومفادها أن أيّ نص، بما في ذلك النصّ الديني، لا يمكن أن يقارب إلاّ من خلال المعارف والتصورات والمفاهيم القبلية المتاحة بنِسَب متفاوتة في كل عصر وهذه تشكل بمجموعها النظارات التي ينظرمن خلالها إلى النص .وبما ان معارف العصر متغيّرة ومتطورة وتخضع لقبض وبسط فأن ذلك يلقي بظلاله على فهم هذا النص. وغنيٌ عن القول أن هذه المعرفة بشرية ونسبية، فلا توجد قراءة للنص يمكن ان نعتبرها صحيحة أو منزهة عن الخطأ، وهذا ما يفتح الباب أمام مشروعية التعددية في فهم النص الديني ويؤدي إلى إثراء الفهم وانفتاح النص على الإشكاليات الحديثة . وعندما حاول سروش ان يطبق هذه النظرية على موضوع السلطة السياسية اجترح مفهوم " الحكومة الدينية الديمقراطية" الذي ادعّى من خلاله أن الحكومة تتألف من ثلاثة أقسام : القيم الأخلاقية والإدارة العلمية للمجتمع والفصل بين السلطات، فأذا استلهمنا القسم الاول من التراث الإسلامي واستعرنا القسمين الآخرين من الحضارة الغربية يمكن ان نؤسس حكومة ديمقراطية دينية ونوجد توافقا بين الإسلام والحداثة . وغني عن القول ان التنظير أعلاه غاية في التبسيط . ولعل سروش فطن إلى هذا الأمر لاحقا فتوجّه إلى نوع من العلمانية الشاملة بطرح مفاده ان القبض والبسط لا يصيب الفهم الديني فقط بل إنه يمسّ الدين ذاته وذلك عبر كتابه (بسط التجربة النبوية) الذي ادّعى فيه ان حقيقة الوحي هي من الله ولكن اخراج الوحي لفظاً وأحكاما هو من مختصات النبي (ص)، فكأن الوحي ينزل معانٍ ومفاهيم كليّة على قلب النبي ويتفاعل هذا المضمون مع وجدانه ثم يخرجه النبي كلاماً واحكاما . وفِي عملية التفاعل والإخراج هذه يخضع النص القرآني لكل العوامل والمؤثرات التي تعتمل في وجدان النبي كبشر من انقباض نفسي أو انشراح أو حزنٍ أو سرور أو همّة أو فتور. وهذا ما دعى المؤسسة الدينية لمخالفته وانتهى به الأمر ان اختار السكنى خارج وطنه. ولقد أدّت المسيرة الفكرية لمصطفى مالكيان الى الوقوع تدريجيا في نفس الاشكالية وذلك بما انتهى اليه من نتائج من ان وعود الدين ومنافعه يجب ان تتحقق في هذه الحياة ومدعياته أيضاً يجب ان يبرهن عليها في هذه الحياة أيضا لا ان ينتظر الناس ليوم القيامة من اجل اكتشاف حقانية الدين من عدمها وفِي المحصّلة انه تبنّى منهجا ما بعد حداثوي يقر بنسبية الحقيقة والعلاقة الهلامية بين الفكر والواقع وهذا ما يطول المجال في تفصيله. ولكن بالرغم من كل ما تقدّم وبالرغم من وجود اتجاهات مختلفة للإجابة على تحدّي الحداثة في العالم الإسلامي والتي قد يناقض بعضها بعضاً احيانا نظراً للتنوع الهائل في هذه الاستجابات فأنه يمكن رصد الظواهر التالية التي سوف يكون لها تأثير مهم على بزوغ حركة إصلاحية كبرى في العالم الإسلامي يكون لها امتدادات في شتى الميادين، وتتلخص في الأمور التالية:

١) نشؤ كُتل مثقفة وواعية على امتداد العالم الاسلامي تتحلّى بالتدين والحس النقدي في آن معا والمنشغلة بطرح الأسئلة الجريئة فيما يتعلق بالمعرفة الدينية وسيادة الانسان على ضميره وخياراته الحياتية والسياسية مما يؤدي في نهاية المطاف إلى بلورة مفهوم سيادة الأمة على نفسها . هذه الكتل منهمكة أيضاً في تطوير قدراتها والمشاركة الفعالة في شتي ميادين الحياة الحديثة وهذا ما يمثل تنمية نوعية للذاتية التي تؤدي في أغلب الأحيان إلى تبيئة مبدأ الرشد . 2) التجسير التدريجي بين مجالي العلوم الانسانية والمعارف الدينية فهذه العلوم، بشتى فروعها، بدأت تطرق إبواب الحوزات العلمية والمعاهد الدينية. وَمِمَّا يعزّز عملية التفاعل هذه وجود آلاف المتخصصين في العلوم الانسانية في العالم الإسلامي الذين يطرحون الأسئلة والإشكاليات الحديثة على النص الديني ويستنطقونه في راهن القضايا التي يعيشها المسلمون ووجود أيضا ثلة من كبار علماء الحوزة الدينية المتخصصون في أمهات المعارف الإسلامية والمنكبون بجدية على قراءة واستيعاب النتاج الفكري والفلسفي الحديث .

٣) سطوة الحضارة الغربية في شتىى الميادين، الأمر الذي أشير اليه سابقا، وما تعنيه هذه الظاهرة من سيادة المنهج العقلاني إذ ان من أهم تعريفات الحداثة " تفشّي العقلانية في شتى مجالات الحياة وإعتبار العقل مصدر المعرفة ومعيارالقيم" . هذا الانتشار للعقلانية على نحو واسع يطرح على المسلم الواعي أسئلة صعبة تتعلق بالموروث الديني وإلى الإلتفات إلى نسبيته والظروف السياسية والاجتماعية التي نشأ فيها، وهي ظروف محض بشرية، وإذا كانت المواجهة مع الحداثة تؤدي إلى نتيجة " كل ما هو صلب يتبخرّ في الهواء " فأن هذه العملية تطال التراث الديني ولا تطال الدين نفسه، وقد بدأت فعلياً عملية تفكيك الموروث لكي يصل الانسان الى الدين ويتعاطى معه بشكل خلاَّق، يتجاوب فيه مع الإشكاليات الراهنة وليكون له دوره اللائق في حياة الانسان. فهل تشهد العقود القليلة المقبلة انبثاق وعي جديد يؤسس لحركة إصلاحية شاملة في العالم الإسلامي ؟

 

د. عماد بزي

 

في المثقف اليوم