ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: كلير جيا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت بكين تعجُّ بالأمل. طوال خريف ٢٠٠٧، كانت "ليان" و"وينيو" تمران بجوار القرية الأولمبية تحت الإنشاء بالحافلة  وهما في طريقهما إلى المدرسة، وشيئًا فشيئًا كانتا تشاهدان ارتفاع ملعب حفل الافتتاح، تلتحم أجنحته المعدنية معًا لتصبح على شكل عش الطائر المنحني. كل لوحة إعلانية ومحطة حافلات كانت تحمل صورًا لرياضيين مبتسمين يحتسون "باد لايت" ويقودون "بنتلي"، بينما تتصارع العلامات الغربية على جذب الانتباه في شوارع المدينة الصينية: "ليو تشانغ" بزي نايكي، و"تشانغ ينينغ" بزي أديداس. سينتزعون الذهب مدعومين برفاهية أمريكية، تاركين الأمريكيين الأصليين في البرد القارس.

أحست "ليان" بحماس المدينة، وحولته إلى طاقتها في تقديم طلبات الالتحاق بالجامعات. مثل رياضية أولمبية، ستكون ممثلة لبلدها في الخارج؛ ستعود بالميدليات الذهبية، وسط حسد وإعجاب كل من تركتهم خلفها.

في المقابل، وقعت "وينيو" في الحب. بدأ ذلك في سنتهما الثانية. كان الحبيب ذلك الفتى المتمرد في الصف، يتدلّى على عينيه، يرفض ارتداء الزي المدرسي، ويظهر بدلاً منه بملابس فضفاضة بألوان صارخة.. بينما كانت ليان تحدق في المرآة، تتدرّب على تعبيرات وجهها، وتصقل مهاراتها استعدادًا لمستقبلها، كانت وينيو تتسلل من حصص التحضير الدراسي بشكل متكرر لتنفّذ مقالب طفولية مع حبيبها الجديد. تراجعت درجات "وينيو" في الترتيب. تحولت سرقات المتاجر الصغيرة في طفولتهما إلى تحدٍ أكثر صلفًا. فجأة، لم تعد "ليان" شريكة "وينيو" الرئيسية في المشاكسة؛ فقد أصبح صديقها أكثر جرأة. بل إنه كان يسرق أشياء أكبر وأخطر — أحذية، ملابس، مشغلات إم بي ثري — دافعًا "وينيو" إلى تحد جديد. أصبحت الآن هي المُتأثرة بدلًا من المؤثرة. وعندما تسببت حماقات الصبي في فصل "وينيو" للمرة الأولى في شتاء سنتهما الثانية، واجهتها "ليان" وتوسلت إليها أن تعيد ترتيب أمورها:

- لماذا تربطين نفسك ب مثل هذا الأحمق؟

أجابت وينيو بحدة وغضب:

- هو أذكى فتى قابلته في حياتي. مقدر له العظمة. يمكنه أن يكون أي شيء يريده. انتظري فقط. فقط لأنه لا يغوص في الكتب ليل نهار مثلك، لا يعني أنه ليس بنفس ذكائك. بل أذكى على الأرجح. وهو لا يحتاج إلى الذهاب إلى أمريكا الغبية ليثبت ذلك.

صرخت ليان:

-  وماذا عن حلمنا؟

ردّت وينيو ببرود لاذع:

- أي حلم؟ كان ذلك مجرد لهو.

لكن في النهاية، لم تكن "ليان" هي من ذهبت إلى "أمريكا الغبية.

في صباح بارد من ديسمبر خلال سنتهما الأخيرة، ظهرت "وينيو" عند باب "ليان" تحمل كوبين من الآيس كريم، يبدوان وكأنهما يتحدّيان قسوة الشتاء ببرودهما القاطع.  كانت ليان منهمكة في كتابة مقال للالتحاق بجامعة هارفارد. "لماذا هارفارد؟" لم لا؟ لطالما رغبت في الإجابة. إنها أفضل جامعة في العالم. من منا لا يرغب بالأفضل؟ فتحت الباب وهي غارقة في أفكارها، والعبارات الإنجليزية لا تزال تتدلى على شفتيها.عادت إلى مكتبها بينما ألقت "وينيو" بنفسها على السرير، وأمسكت مجلة بيد بينما تمسك بكوب الآيس كريم  باليد الأخرى. ثم، ومن دون تمهيد، قالت وينيو بجملة واحدة سريعة غيّرت كل شيء:

- سأنتقل للعيش في  كاليفورنيا.

لم تستطع "ليان" فهم ما تسمعه. استدارت وفمها مفتوحًا على اتساعه.

- صديق أبي يعيش في سان خوسيه، لذا سيدخلوني في مدرسة ثانوية هناك. أليس هذا مثيرًا يا ليانليان؟

قالت ذلك  وكأنها اكتشفت للتو أن فرقتهما المفضلة ستأتي إلى المدينة، أو أن مقهى الشاي المفضل لديهم أصبح يقدم نكهة الليتشي. ليس بنبرة من يخبر صديقته المقربة أنها ستنتقل إلى الجانب الآخر من العالم.

- ظننتُ... ظننتِ أنكِ تكرهين أمريكا...

كان هذا كل ما استطاعت "ليان" قوله.

هزت "وينيو" كتفيها:

- لمجرد أنكِ تحبينها لا يعني أنني أكرهها.

قلبت صفحة المجلة وأخذت قضمة باردة من الآيس كريم. كاد أن يسيل السائل الأبيض أن يسيل على أغطية وسائد ليان النظيفة. قالت وينيو ببرود:

- لن يسمحوا لي بتقديم امتحان القاوكاو. فُصِلتُ من المدرسة مرات كثيرة. فطلب والدي من صديقه أن يساعدني، واتضح أن لديهم غرفة إضافية في منزلهم، وهكذا كان الأمر..

أجابت ليان بصوت خافت، وكأنها تردد صدى كلمات لم تستوعبها تمامًا:

-  هكذا إذًا... حسنٌ، هذا أمر جيد على الأقل...

لقد كان هذا ما تخشاه على وينيو دومًا: أن تنحدر درجاتها إلى حدّ تغلق فيه الأبواب كلها في وجه مستقبلها. لكنّ ما لم تكن تتوقعه هو أن الطريق الوحيد المتبقي سيقودها إلى أمريكا.

اعتدلت وينيو في جلستها وقالت، بابتسامة خفيفة:

- ربما ننتهي كلتانا في كاليفورنيا! نشتري قصرين على شاطئ البحر!

قالت ليان بصوت أقوى، تحاول مجاراة حماسها:

-   نعم، بالتأكيد!

لكنّ شعورًا غريبًا كان يجلدها من الداخل، كريح باردة تهبّ من حيث لا تدري.

كان رحيل وينيو بدافع الضرورة؛ حلمها، محاولتها الأخيرة واليائسة. عادت إلى كتابة مقالها، وفكت غلاف الآيس كريم  بسرعة. شعرت بطعمه حامضًا في فمها.

بعد أسبوعين، وقفت "ليان" في غرفة "وينيو" تشاهدها وهي تحشر الملابس الداخلية والقمصان والفوط الصحية في حقيبتها. كانت وينيو تخشى ألّا تجد فوطًا صحية في كاليفورنيا — فبحسب ابنة عمّها الكبرى، الأمريكيات لا يستخدمن سوى السدادات القطنية.  كان في تصرفات وينيو توتر محموم، طاقة متخبطة. ارتدت أفضل فستان لها لرحلة الطائرة. كان من المفترض أن تغادر إلى المطار خلال ساعة، لكنها لا تزال في حيرة: هل تأخذ معها حذاء المطر أم لا؟. سألت :

- هل تمطر كثيرًا في سان خوسيه؟

سألت، دون أن توجّه السؤال لأحد بعينه.لم تكن أيٌّ منهما تعرف الجواب. ظنت ليان أن وينيو ربما خائفة، لكنها بدت منشغلة بتفاصيل تافهة - كالسدادات القطنية، والمطر - ولم تستطع ليان أن تجد الشجاعة الكافية لتسألها عمّا يدور في داخلها. سألت "وينيو" مرة أخرى، مثبتة عينيها في عيني "ليان":

- أراكِ في كاليفورنيا، أليس كذلك يا ليانليان؟  ستانفورد ستخطفك فورًا.

ردت ليان، وقلبها يخفق بقوة.

- بالطبع!.

حاولت وينيو أن تحشر دمية دورايمون القماشية في الحقيبة، لكنها قفزت مجددًا إلى الخارج، رافضة أن تنضغط.استدارت وينيو وقدّمت دورايمون إلى ليان، عيناها الكرويتان بالأبيض والأسود تحدّقان بها بثبات.قالت:

- اعتني بها.

في النهاية، نصحت "ليان" "وينيو" أن تترك حذاء المطر. لم يكن هناك مساحة كافية في الحقيبة، ويمكنها دائمًا العودة لأخذه لو تبين أن سان خوسيه مدينة موسمية ممطرة. لكنها لم تكن كذلك، ولم ترَ "ليان" صديقتها مرة أخرى.

لم تأتِ رسائل الرفض في سربٍ كما في كوابيسها، بل تسللت واحدة تلو الأخرى في مظاريف نحيلة، تقرض حلمها شيئًا فشيئًا. همست لنفسها مثل تايتانك والجبل الجليدي الخفي"، لم تكن هناك تفسيرات، فقط اعتذارات مبتذلة بأن عدد المتقدمين المؤهلين كان كبيرًا هذا العام.

طوال ذلك الربيع، كانت تفكر في وينيو، وهي تتحول بثبات إلى "فتاة كاليفورنيا".

ذهبت "وينيو" للعيش مع صديق والدها، الذي كان لديه ابنان. غارت "ليان" من أن “وينيو" حصلت على أخوين جاهزين، وكانت "وينيو" ترسل لها أخبارًا عن تصرفاتهما الغريبة، وألعاب الفيديو الصاخبة التي يحبانها ، وقمصان "المتحوّلون" التي كانا يرتديانها باستمرار.

أرسلت “وينيو" ملاحظاتها المباشرة عن الأشجار الغريبة، والمتاجر الضخمة، وعصا الزبدة المقلية التي جربتها في مكان يسمى "المعرض". في البداية، ردت "ليان” بحماس، ضاحكة مع "وينيو" على غرابة التقاليد الأمريكية. تبادلت الفتاتان عبارات الاشتياق، وأخذت "وينيو" تعد الأيام على أحر من الجمر حتى تلتحق بها "ليان" في كاليفورنيا.

كان صديق والد "وينيو" يأخذها في جولات بالمدينة لتذوق عينات الشوكولاتة من متجر "جيرارديلي"، وليتمشيا على جسر "جولدن جيت".  بينما كان حلم "ليان" ينهار، زاد اقتناعها بأنهما قريبًا ستجولان معًا في سان فرانسيسكو.

عندما جاء الرفض الأخير من "بيركلي"، شعرت "ليان" بالراحة تقريبًا. لن يكون هناك "هي ووينيو" في كاليفورنيا، ولن ينقسم حلمها الأمريكي بينهما. الآن، يمكنها أن تكرس نفسها كليًا لامتحان "القوكاو". ستجلس مع آلاف زملائها، تتعرق في فصلٍ حارٍ في يونيو، وستتفوق عليهم جميعًا. ستسلك الطريق التقليدي، الطريق الذي كان متوقعًا منها دومًا أن تبرع فيه. ستلتحق بجامعة من الدرجة الأولى في وطنها، ولن يلومها أحد.

وفعلت ذلك بالضبط. اجتازت امتحان القبول في جامعة بكين للمعلمين، إحدى أعرق الجامعات في البلاد. بينما دخلت "وينيو" جامعة حكومية في كاليفورنيا، وقد أرسلت لها ليان رسالة تهنئة.

لكن ببطء، أصبحت رسائلهما متباعدة. تحولت أخبار "وينيو" من كاليفورنيا فجأة إلى تباه مفرط، وكبرياء زائف، كأنها تلقّي بوجه "ليان" بكل المغامرات التي لن تسنح لها أبداً. وفي النهاية، توقفت "ليان" عن الرد. التقت برجل ذكي وطيب. حصلت على وظيفة مرموقة في شركة أمريكية قبل حتى تخرجها. ألهمت عشرات الطلاب الذين يحملون أحلامًا مثل أحلامها. تناقشوا في الأدب والسينما والسياسة والتاريخ. بينما عاد أصدقاء آخرون من أمريكا يحكون عن العنف المسلح والعنصرية ونظام صحي معطل. لم تكن تلك أرض أحلامها. أقنعت نفسها أن أمريكا كانت أنسب لـ"وينيو" منذ البداية: أرض بلا قيود أو خجل، مكان لا يحترم التقاليد أو الأعراف. كانت ساذجة لأنها ظنت يومًا أنها مناسبة لها؛ أمريكا كانت دومًا لـ"وينيو"، الفتاة التي سرقت وصرخت وتمردت لأنها لم تكن راضية أبدًا عما منحته لها الحياة. أما "ليان" فاستطاعت أن تكون سعيدة. ستكون سعيدة. لذا ركزت على مسارها الخاص: مهنة، زوج، شقة فاخرة.

وبالفعل، بعد اثني عشر عامًا، حققت كل هذا تقريبًا. لم تكن بحاجة إلى عودة "وينيو" المدوية لتذكيرها بأمنية دفنتها منذ زمن بعيد.

التقت رجلًا ذكيًا وحنونًا.

حصلت على وظيفة ذات راتب مرتفع في شركة أمريكية حتى قبل تخرجها.

أثّرت في العشرات من الطلاب الذين حملوا أحلامًا تشبه أحلامها.

كانوا يتحدثون عن الأدب، والسينما، والسياسة، والتاريخ.

كما عاد أصدقاء آخرون من أمريكا ومعهم حكايات عن العنف المسلح، والعنصرية، ونظام رعاية صحية منهار. لم تكن أمريكا أرض الأحلام.

أخبرت نفسها أن أمريكا كانت دائمًا أنسب لوينيو: بلد بلا قواعد، بلا خجل، مكان لا يقدّس التقاليد أو الأعراف.

كانت ساذجة حين ظنت أن ذلك المكان قد يلائمها يومًا؛ أمريكا كانت دومًا لوينيو، تلك الفتاة التي سرقت، وصرخت، وتمردت، لأنها لم تكتفِ يومًا بما منحها إياه العالم.

أما ليان، فبإمكانها أن تكتفي. كانت ستكتفي. لذا ركّزت على طريقها: الوظيفة، الزوج، الشقة الفاخرة في ناطحة سحاب. وبالفعل، بعد اثني عشر عامًا، كانت قد حققت كل ذلك تقريبًا.ولم تكن بحاجة إلى عودة وينيو العاصفة إلى حياتها، لتذكّرها بأمنية دفنتها منذ زمن بعيد.

***

...................

* مقتطف من رواية الرغبة (Wanting) للكاتبة كلير جيا.

الكاتبة: كلير جيا /Claire Jia كاتبة من ولاية إلينوي. ظهرت أعمالها في عمود الحب الحديث (Modern Love) بصحيفة نيويورك تايمز، وفي ذا رامبس (The Rumpus)، وريداكتريس (Reductress)، وغيرها من المنصات. تكتب أيضًا للتلفزيون وألعاب الفيديو، بما في ذلك لعبة We Are OFK الفائزة بجائزة بيبودي لعام 2024. تعيش جيا حاليًا في لوس أنجلوس مع صديقاتها.

 

بقلم: فرجينيا فاينمان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما أخبرتني أمي أن خالتي كلوديا قادمة من المكسيك، شعرت بالتوتر. كان الزلزال الأخير قد أثّر عليها، وكانت بحاجة لرؤية عائلتها. أكلتُ كثيرًا تلك الليلة. تقريبًا كل البيتزا. لم تلاحظ أمي ذلك، ولم تلحظ عدد المرات التي ذهبتُ فيها إلى الحمّام وعدتُ، وفي النهاية قلتُ لها:

- أتخيّل أنهما لن يناما هنا، صح؟

أجابت وهي ترمش

- لا... ـ ـ أعني، نعم، هي وحدها... العم لن يأتي.

هدأت، لأنني في النهاية كنت أحب خالتي، وكنت أشعر بالأسى لأنها تأثرت كثيرًا بالزلازل، وربما أيضًا لأنني، رغم مرور ألف عام، كنت في قرارة نفسي ما زلت أترقّب اعتذارًا. شيئًا ما.

كانت ستبقى أسبوعًا. فقلت لأمي ألا تقلق، وأنني سأجهّز وجبة ترحيب خفيفة: مخبوزات، وقُصاصات محشوة بالحليب المكثف المحلّى والكاسترد، أشياء غير متوفرة لديهم هناك.أومأت أمي موافقة.وقالت لي:

-  يالها من فكرة لطيفة ـ

كانت الخالة كما هي دائمًا. بشعر أشقر طويل، رغم أنها كانت الآن امرأة كبيرة في السن.

قالت لي، رغم أنني أيضًا كنت سيدة كبيرة في السن. وربّتت على رأسي قليلاً :

- أدريانيتا ـ أنتِ دائمًا هنا.

جلسنا. فرشتُ مفرش الطاولة المصنوع من نسيج جوز الهند، وأحضرتُ أيضًا المفارش التي كنت قد طرزتها عندما كنت صغيرة في المدرسة. قالت أمي إنها لا تتناسب مع المفرش.

قلتُ لها:

-   فكّرت في ذلك، لكنني رغبت في وضعها.

نظرت إليّ قليلاً، لكنها تركتها. وذهبت إلى المطبخ.

كانت الخالة تمرّر يدها فوق تطريز الزهور البارزة، الزرقاء والبرتقالية، وتنظر عبر النافذة الكبيرة. عادت إليّ بنظرها، مركّزة عليّ:

-    أدريانيتا، أما رغبتِ يومًا في العيش بمفردك؟

-  بلى ـ

بدأت أضع القطع المحشوة بالحليب المكثف في طبق، جميعها مصطفّة باتجاه واحد ـ.   أضفت:

- لكنني لم أستطع. كنت خائفة.

قالت، وقد أومأت برأسها مرارًا:

-  طبعًا، هذا مفهوم.

- أليس كذلك؟ كنت أريد. حتى إنني أحببت مرة. لكن بعدها بدأت تنتابني نوبات هلع. وهكذا أصبح الأمر صعبًا.

قالت الخالة:

-   طبعًا.

- ربما لو كنت فعلت، لكان لي زوج... وأولاد، لكن لا بأس، أنا مرتاحة.

- نعم، عزيزتي ـ

كانت تبتسم وتنظر إليّ.

جاءت أمي. قدّمت الشاي لنا نحن الثلاثة، وسألنا الخالة عن حالها. كانت في حال سيئة جدًا. لم تعمل صفارات الإنذار الخاصة بالزلازل لأن الزلزال لم يأتِ من البحر، بل من تصدّع في الأرض. شعرت هي بالاهتزاز وبدأت تنزل عبر السلم. اتّضح أن المقاول كان فاسدًا، والسلم لم يكن مثبتًا، بل مستندًا فقط. كان أول ما انهار. لحسن الحظ كانت قد خرجت إلى الشارع.

- الذي عانى أكثر هو العم.

نظرت إلى أمي.

-  العم !

تابعت خالتي بعينين شاردتين ـ بقي وحده في الأعلى. السلم كان قد انهار بالفعل، ولم يكن يعرف كيف ينزل. المصاعد ممنوعة. ثم اهتزّ المبنى من جديد، لعشرين ثانية إضافية، وكان العم ما يزال في الأعلى. ثم اضطر إلى الانتظار حتى وصل أفراد الإنقاذ، لأنه كان من الخطر النزول وحده، كما أن القوانين لا تسمح...

قلتُ:

- عشرون ثانية؟

- نعم،  مسكين العم ...

- فقط عشرون ثانية؟

نظرت إلي أمي. تنهدت وكأنني أضحك.

- مسكين العم بسبب عشرين ثانية؟

قالت الخالة وعيناها دامعتان

- نعم ـ ـ، أترين؟ مسكين...

جمعت الصحون بسرعة. مسحت كلًّا منها بمنشفة ورقية بقوة قبل غسلها. فتحت الماء على أقصى درجة حرارة، وبدأت أفرك الصحون جيدًا بالإسفنجة والصابون. دخلت أمي.

- أخذتها لتنام القيلولة، يجب أن ننزل بطانية، أنتِ أطول...

-  أمي، ألم تتحدثي معها؟

- نعم، لكنها متعبة جدًا.

- ليس الآن. قبل ذلك.

- قبل الزلزال؟

- لا، عندما كلمتك، عندما كلمتك عن العم.

فتحت أمي عينيها كبيضتين مسلوقتين وأغلقت الباب الذي يفصل المطبخ عن غرفة المعيشة.

- أنا...

بقي فمها مفتوحًا قليلًا، ثم نظرت إلى صنبور الماء وقالت:

- أغلقيه إذا انتهيتِ.

-   قلتِ لي إنك أخبرتِيها، وإنها بكت. قلتِ إنك أخذتيها إلى حانة وأخبرتيها، وإنها بكت.

-  لمّحتُ لها.

-  كيف؟

- أننا كنا نثق به، وأننا تركناك معه ليعتني بك.

- و... لا شيء غير ذلك؟

جفّفت أمي يديها، رغم أنها لم تكن قد بللتهما، بمنشفة مطبخ وخرجت. قالت شيئًا عن الزمن، وأن الزمن قد مضى.قلت لها:

–    لقد أخبرتك عندما تذكّرت!

لكن أمي كانت قد أغلقت باب المطبخ عند خروجها.

تركت الماء يجري. ثم أغلقت الصنبور بغضب.

كانت الخالة جالسة على الأريكة تنظر من النافذة الكبيرة. كانت قد ارتدت روبًا منزليًا لأمي، لونه أزرق سماوي. تدخّن ببطء شديد، والدخان يبقى قريبًا منها. قلت لها:

-  صباح الخير، هل ترغبين في شرب شاي الماتيه ؟

-  نعم، يا حبيبتي، صباح النور.

أحضرت الأعشاب وبدأت أجهز الشاي.

- ما أجمل أظافرك يا خالتي.

- نعم .

مدّت يدها الحرة وأبعدتها قليلًا لتنظر إليها .

- هناك يعرفون كيف يعتنون بها جيدًا.

-   تعلمين، البارحة، عندما ذكرتِ العم...

- نعم.

- ظننت أن أمي قد تحدّثت معكِ. منذ زمن. قبل أن تسافرا.

كانت الخالة تبتسم ووجهها محاط بالدخان. كانت تهز رأسها بالإيجاب.

-  حسنًا، إذًا هي أخبرتكِ. بما حدث. عندما كنت صغيرة.

-  نعم، كنتِ جميلة جدًا.

- عندما كان العم يعتني بي.

أمسكت الخالة بيدي وبقيت تمسكها. كانت يدها دافئة وناعمة، وشعرت برغبة في البكاء.

-  لا تتصورين كم كان صعبًا عليّ أن أخبرها، خالتي، ثم...

- هل ترغبين في أن تعملي أظافرك مثلي؟ توجد هنا مانيكورة جاءت من المكسيك.  لقد أعطتني بطاقتها حين أكون في بوينس آيرس. إنها رائعة.

–   لا...

سحبت يدي منها برفق.

-  ستبدين رائعة بها.

ركّزت في تحضير الشاي، لكن غيمًا خفيفًا غطى عينيّ. مسحت عينيّ. واصلت الخالة التدخين والنظر من النافذة الكبيرة.

ذهبت إلى المطبخ وفتحت علبة المخبوزات المتبقية من أمس. أكلتُ الكرات المحشوة بالحليب المكثّف، واثنتين من القطع بالكاسترد، و تشوروس محشوة. تركتُ قطعة مربعة، نصفها كاسترد والنصف الآخر جيلي السفرجل. أردتُ أن أترك شيئًا. أكلتُ جزء الكاسترد فقط. ثم ثم جيلي السفرجل. وتركت القطعة الصغيرة في المنتصف. لففتها. ثم فتحت العلبة مجددًا وأكلت القطعة الصغيرة أيضًا. رميت الورق في سلة المهملات. دخلت الحمام وأغلقت الباب. قالت الخالة:

- هذا أستور، كلبٌ لطيف. في بيت الكلاب، أطلقوا عليه اسم والدورف أستوريا، هل يُعقل؟ لقد غيّرنا اسم بيت الكلاب. لحظة، انتظري، ريثما أجد الكلب الذي أردتُ أن أُريكِ إياه.

كانت جالسة أمام حاسوب أمي المحمول، تحرّك الفأرة بصعوبة فوق مفرش قماش جوز الهند، قالت لها أمي:

–  إنه يتجعّد، سأجلب لكِ شيئًا.

بدأت الخالة تبحث بينما كانت تقول:

- ها هي، ها هي. هذه "ديلي".

كانت أمي تمشي ويداها ممدودتان، تنظر إلى الأسفل وإلى الجانبين. بقيتُ واقفة في مكاني؛ فكادت أن تصطدم بي.

–  ماما.

-  آه، ألا تعرفين أين يمكن أن أجد شيئًا أضع عليه الفأرة حتى لا تتعطل بسبب المفرش؟ لوحًا صغيرًا، أو...

- لا، لا أعرف .

وتحركتُ لأستلقي على الأريكة.

كانت الخالة تقول:

-  في المزرعة أطلقوا عليها اسم "ديليريو" (هذيان). نحن غيّرناه. العم هو من اقترح "ديلي"، حتى تظل تستجيب. ديليريو – ديلي، ليس فرقًا كبيرًا.

قلتُ من مكاني على الأريكة.

- خالتي، ألا تعلمين أنه لا يجب شراء الحيوانات؟ من الأفضل تبني تلك التي في الشارع.

عادت أمي من المطبخ بلوح تقطيع ووضعته تحت فأرة الخالة. قالت إن كل الحيوانات طيبة، وكلها تستحق الحب. وإن كل شخص يفعل ما يراه صائبًا. فذهبتُ إلى الحمام من جديد.

ظلت الخالة عدّة أيام وهي ترتدي ذلك الروب الأزرق السماوي. كانت تدخن كثيرًا، وتقول إن السرير يتحرك تحتها أثناء الليل، كما حصل وقت الزلزال. وأنها هي والعم لم يتمكنا من النوم بسلام منذ ذلك الحين. كانا يتناولان الحبوب. حتى أستور وديلي كانا في حال سيئة.   وكان الخال يعطيهما زهور باخ لتهدئتهما. وكانا يصعدان إلى السرير معهما، لكن إذا تحرك غصنٌ في الخارج، كانا يبدآن في النحيب.

في تلك الليلة كانت الخالة تقطع الخضار في المطبخ.

- يسلّيني هذا. مثل المسلسلات. وأنتِ بما أنكِ تبقين في البيت كثيرًا، فستعجبكِ. ألم تقرئي شيئًا لفلورنسيا بونيلي؟ تمزج الحب بعلامات الأبراج، بالعاطفة، بالرومانسية.

-  لا، لا أحب هذه الأشياء.

كانت تقطع الجزر إلى شرائح رقيقة جدًا. أنهت واحدة وأخذت أخرى وبدأت بتقطيعها بنفس الطريقة.

-  مرة وقعت في الحب، خالتي. هل تذكرين عندما قلتِ لي؟

كنتُ أنظر إليها، لكنها كانت تنظر إلى الجزرة .

- هل تذكرين عندما سألتيني؟ وقلت لكِ إنني مرة أحببت؟ كان شابًا يعمل في كشك على بُعدين من هنا، كنت أراه عندما أذهب للتسوق.

-  نعم.

-  بدأنا نتحدث. أحيانًا كنت أبقى في الكشك أساعده، أو أستمع إلى الراديو معه.

كانت الخالة تقطع الجزر إلى شرائح متقنة. وكان وجهها يشبه من يستمع إلى موسيقى كلاسيكية. قالت لي:

-  كم هو جميل، أدريانيتا

ودَفعت الشرائح بسكينها إلى قدرٍ أمامها.

–  ذات يوم قبّلني.

- جميل، حبيبتي .

وبحثت عن مزيد من الجزر.

- بدأ جسمي كله يرتجف. وانغلق حلقي. وأصبح كل شيء حولي أسود.

-  نعم، هذا من شدة العاطفة. هذا ما أقوله لكِ عن الروايات، أنها ستعجبكِ.

-  لم أستطع أن أتنفس، وكأنني على وشك الإصابة بنوبة قلبية. كنت أختنق.

اقتربت الخالة بيدها من طبق الجزر لتتابع تقطيعه، لكنني سبقتها وأمسكت به. أخذت كل الشرائح. قالت لي

–  هذا للمرق...

- كنت أعتقد أنني سأموت. لم أكن أستطيع التنفس.

-  أعطيني إياها، حتى أطبخ.

-  كنتُ أريد تقبيله، لكن لم أستطع...

وقفت العمة ممسكة بالسكين في يدها، تنظر إلى الجزرة التي كنت أقبض عليها. بقوة.

-  قلتُ له إن كان يمكنه أن ينتظرني قليلاً... إنني عندما كنتُ صغيرة، حصلت لي مشكلة.

- هل تعطيني الجزر؟

- قلت له إنني عندما كنت صغيرة، حصلت لي مشكلة.

اقتربت مني.

-    هل تعطيني إياها، أدريانيتا؟

أعطيتها الجزر.

لم أرغب في أكل شيء من اليخنة. انتظرتُ حتى ذهبا للنوم ورميتُ ما تبقى. صنعتُ خليطًا من الحليب المجفف والمربى والماء، وأكلتُه من العلبة. ثم أكلتُ عدّة أرغفة خبز بالجبن، وبعدها فتحتُ علبة أخرى من الحليب المجفف. أضفتُ إليها ماءً وسكرًا، وأكلت الخليط حتى أصبتُ بتسارع في نبضات القلب. بعدها ذهبتُ إلى الحمّام.

بدأت الخالة تتحسن. أصبحت ترتدي ثيابها، وتنام طوال الليل. في أحد الأيام جهزت حقيبتها وقالت إنها مستعدة، وإنها ستعود إلى المكسيك. أخرجت وشاحًا حريريًا ورديًا بنفسجيًا ولفته حول عنقي.

- يليق بكِ جدًا.

قالت أمي:

- يليق بها جدًا  وتحتاج لشيء أكثر أنوثة.

حمل كل واحدة منّا حقيبة، ورافقناها إلى الأسفل حتى وصول سيارة الأجرة. بدأت تشكرنا. قالت إنه لولا دعم العائلة لما كانت تمكنت من تجاوز الأمر. نحن كنّا ملاذها، مصدر عاطفتها، حبلها الذي يربطها بالأرض. تذكرت أمي علبة حليب الدُّلسي دي ليتشي من ماركة شيمبوتي التي أرادت أن تهديها لها. يبدو أنها كانت تخبئها عني. طلبت أن نصبر ثانيتين حتى تصعد وتحضرها. وعندما أُغلِق المصعد، سارعتُ بالكلام.

- خالتي، أريد أن أقول لك شيئًا.

- نعم، حبيبتي، لا تتصورين كيف أثر فيَّ الزلزال. لا زال صداه يتردد في رأسي.

- عندما كنتُ صغيرة، أنتما كنتما تذهبان إلى العمل...

كان  هناك رجل يطرق زجاج باب العمارة. ركضت الخالة إليه. ثم استدارت وقالت لي إنه سائق سيارة الأجرة. حملتُ الحقيبتين إلى الباب. الرجل حمّلهما وألقى إحداهما فوق الأخرى في صندوق السيارة.

-  اسمعيني .

حاولت إيقافها.

صعدت إلى السيارة وأغلقت الباب. وصلت أمي وفي يدها علبة حليب شيمبوتي، وناولتها للخالة من النافذة. أبعدتُ يد أمي، وأدخلتُ رأسي داخل السيارة، وأمسكتُ بيدي الخالة. قالت الخالة:

- حبيبتي، من وقت الزلزال وأنا ضائعة.

أغلق سائق السيارة صندوقها بعنف.

- كان العم يقول لي إنني حبيبته.

–  مسكين العم… حاله مثل حالي.

-  قال إنني حبيبته، هل تفهمين؟

- بالكاد نستطيع التركيز، بالكاد نتحدث.

وعندما بدأت السيارة تتحرك، قالت لي إنها سترسل له تحياتي.

***

........................

الكاتبة: فيرجينيا فاينمان/ VIRGINIA FEINMANN  (بوينس آيرس، الأرجنتين، 1972)   صدرت لها رواية بعنوان كل أنواع الأشياء الممكنة (Mulita، 2016)، ومن المقرر صدور كتابها التالي عن دار Emecé. تم تحويل العديد من قصصها القصيرة جدًا إلى برامج إذاعية، ومسرحيات، وعروض سرد شفهي.

قصة: فرانز كافكا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كنت في حيرة شديدة: كانت تنتظرني رحلة عاجلة؛ مريض بحالة خطيرة كان في انتظاري في قرية تبعد عشرة أميال؛ عاصفة ثلجية شديدة كانت تملأ الفراغ الواسع بيني وبينه؛ كان لدي عربة، خفيفة، ذات عجلات كبيرة، تمامًا كما يلائم طرقنا الريفية؛ وقد ارتديت معطفي المصنوع من الفرو، وحملت حقيبة الأدوات بيدي، ووقفت جاهزًا للرحيل في فناء الدار؛ لكن الحصان كان مفقودًا، الحصان. حصاني الخاص نفق الليلة الماضية، نتيجة للإرهاق الشديد في هذا الشتاء القارس؛ وكانت خادمتي تجوب القرية الآن، تحاول استعارة حصان؛ لكن الأمر كان ميؤوسًا منه، كنت أعلم ذلك، وكنت أقف هناك بلا جدوى، يغمرني الثلج أكثر فأكثر، وأصبح عاجزًا عن الحركة. عند البوابة ظهرت الخادمة، وحدها، تلوّح بالفانوس؛ بالطبع، من الذي سيعير حصانه الآن لمثل هذه الرحلة؟ مشيت مرة أخرى في أرجاء الفناء؛ لم أجد أي حل؛ وبانزعاج وتشوش، ركلت بقدمي باب الزريبة المهترئة التي لم تُستعمل منذ سنوات. انفتح الباب وتحرك على مفاصله يفتح ويغلق. انبعث منه دفء ورائحة تشبه رائحة الخيول. تمايل فانوس إسطبل ذو ضوءخافت معلق بحبل في الداخل. ثمة رجل منحني داخل الحظيرة المنخفضة أظهر وجهه المكشوف بعينين زرقاوين.

"هل أُعِدُّ الجياد؟"

سأل وهو يزحف على أربع ليخرج. لم أعرف ما أقول وانحنيت فقط لأرى ما يوجد أيضًا في الإسطبل. وقفت الخادمة بجانبي.

"لا يعرف المرء ما يخبئه بيته من أشياء، "

قالت ذلك فضحكنا نحن الاثنان. صاح الرجل:

"هيًا، أيها الأخ، هيًا أختي!"

ثم ظهر حصانان، حيوانان ضخمان قويان، يتقدمان الواحد خلف الآخر، بأرجل ملتصقة بأجسادها، ورؤوسها المُشَكَّلة بدقة تنحني مثل الجمال، لا تخرج من فتحة الباب إلا بقوة التواءات جسديهما، ملأته بالكامل. لكنهما سرعان ما وقفا منتصبين، بقوائمها الطويلة، تبعث من جسديهما أبخرة كثيفة. قلت:

"ساعديه، "

فأسرعت الخادمة المُستعدة لتناول لجام الخيل إلي الرجل. لكن بالكاد وصلت إليه حتى ضمها وضغط وجهه على وجهها. صرخت وفرت إليَّ؛ ظهرت على خد الخادمة آثار صفين من الأسنان محفورة باللون الأحمر. صرخت غاضبًا:

"أيها الحيوان! أتريد أن تذوق السوط؟

لكني تذكرت فورًا أنه غريب؛ لا أعرف من أين أتى، وهو يساعدني طواعيةً بينما يعجز الجميع. وكأنه يعرف أفكاري، لم يتأثر بتهديدي، بل التفت نحوي مرة واحدة، وهو منشغل بالخيل. قال بعد ذلك:

"اصعدا، كل شيء جاهز. "

لم يسبق لي أن قدت عربة بخيول بهذا الجمال، كما لاحظت، فصعدت فرحًا. قلت:

"لكنني سأقود أنا، فأنت لا تعرف الطريق، "

أجاب:

"بالطبع، لن أصحبك، سأبقى مع روزا. "

"كلا!"

صرخت روزا وركضت إلى المنزل، وكأنها تشعر مقدَّرًا بحتمية مصيرها؛ سمعت صوت سلسلة الباب تُغلق والتي وضعتها للحماية؛ سمعت القفل ينغلق؛ ورأيتها في الممر ثم وهي تندفع عبر الغرف تُطفئ كل الأضواء كي لا يُعثر عليها. قلت للرجل:

"ستصحبني، وإلا سألغي الرحلة، مهما كانت ملحة. لا يخطر ببالي أن أدفع الخادمة ثمناً للرحلة. "

"هيًا!"

صفق سايس الاسطبل بيديه؛ فانطلقت العربة كأنها خشبة في تيار الماء؛ ما زلت أسمع باب منزلي ينكسر ويتحطم تحت ضربات الحطاب، ثم امتلأت عيناي وأذناي بطنين متواصل يخترق كل حواسي. لكن ذلك لم يدم إلا لحظة، لأنه، وكأن فناء مريضي انفتح أمام بوابة منزلي مباشرة،

وصلت على الفور؛ وقفت الخيل بهدوء؛ توقف تساقط الثلج؛ أضاء القمر المكان؛ هرع والدا المريض خارج المنزل؛ تتبعهما أخته؛ كادوا يرفعونني من العربة؛ لم أفهم شيئًا من كلماتهم المضطربة؛ في غرفة المريض، كان الهواء بالكاد قابلًا للتنفس؛ موقد الحطب المُهمَل ينفث دخانًا؛ قررت فتح النافذة؛ لكني أردت أولاً رؤية المريض.

كان الفتى نحيلا، لا يعاني من الحمى ولا البرد ولا الدفء، بعينين خاويتين وبدون قميص، عار تقريبا، نهض الفت تحت الفراش، تعلّق بعنقي، وهمس في أذني:

"دكتور، دعني أموت. "

نظرت حولي؛ لم يسمعه أحد؛ كان والداه واقفين بصمت، منحنين إلى الأمام، ينتظران حكمي؛ وأخته قد أحضرت كرسياً لحقيبتي الطبية. فتحت الحقيبة وأخذت أبحث بين أدواتي؛ كان الفتى يمد يده باستمرار من السرير نحوي، ليذكّرني برجائه؛ أمسكت بملقط، فحصته على ضوء الشمعة، ثم وضعته جانبًا. فكرتُ بسخرية، نعم، في مثل هذه الحالات، تتدخل الآلهة، ترسل الحصان المفقود، وتضيف، بسبب العجلة، حصانًا ثانيًا، وتمنحني، زيادة على كل ذلك، سايس الخيل" —

عندها فقط تذكرت روزا من جديد؛ ماذا أفعل؟ كيف أنقذها؟ كيف أخلّصها من تحت هذا السايس، وأنا على بُعد عشرة أميال منها، والحصانان الجامحان أمام عربتي؟

الآن فقط تذكرت روزا مرة أخرى؛ ماذا أفعل، كيف أنقذها، كيف أُبعدها عن ذلك السايس، وأنا على بعد عشر أميال منها، وأمام عربتي حصانان جامحان؟ تلك الخيول التي أفلتت عُقُدها بطريقة ما؛ والنوافذ، لا أعرف كيف، انفتحت من الخارج؛ يخرج كل حصان رأسه من نافذة، دونما اكتراث بصرخات العائلة، ينظر إلى المريض. فكرت، "سأعود فورًا، " وكأن الخيل تُطالبني بالرحيل، لكني سمحت للأخت، التي ظنت أن الحرارة أذهلتني، أن تنزع عني معطفي. أُحضر لي كأس من الروم، والعجوز يربت على كتفي، كأن تخلّيه عن كنزه يبرر هذه الألفة. هززت رأسي؛ في أفق أفكاره الضيق سأشعر بالغثيان؛ ولهذا السبب فقط رفضت أن أشرب.

تقف الأم عند السرير وتشير لي؛ اتبعتُها ووضعت رأسي على صدر الفتى، الذي ارتعد تحت لحيتي المبتلة بينما صهل أحد الخيول بصوت عالٍ نحو سقف الغرفة. تأكد لي ما أعرفه: الفتى سليم، فقط دورته الدموية ضعيفة قليلًا، وقد أغرقته الأم القلقة بالقهوة، لكنه سليم والأفضل انتزاعه من السرير بدفعة. لستُ مصلحًا للعالم، فتركته مستلقيًا. أنا موظف لدى الدائرة الصحية، وأؤدي واجبي إلى أقصى حد، حتى الحد الذي يكاد يكون مفرطًا. براتب ضئيل، إلا أني كريم ومستعد لمساعدة الفقراء.

لا يزال عليّ أن أقلق على روزا، ثم ربما كان الفتى محقًا، وربما أرغب أنا أيضًا في الموت. ما الذي أفعله هنا، في هذا الشتاء الذي لا نهاية له؟ لقد نفق حصاني، ولا أحد في القرية مستعد لإعارتي حصانه. اضطررت لاستخراج فرسي من حظيرة الخنازير؛ ولو لم يكونا، بالصدفةً، حصانين، لوجب عليّ السفر بخنازير! هكذا الأمر.

وأومأت برأسي للعائلة. هم لا يعرفون شيئًا من هذا، ولو عرفوا، لما صدّقوا. كتابة الوصفات أمر سهل، كتابة الوصفات الطبية أمر سهل، لكن التواصل مع الناس في كل ما عدا ذلك صعب. حسنًا، ها قد انتهت زيارتي، لقد أزعجوني مرة أخرى دون داعٍ، وهذا أمر اعتدت عليه. جرس الليل يُعذبني بطلبات من كل أنحاء الدائرة، لكن أن أضطر هذه المرة إلى التضحية بروزا أيضًا، تلك الفتاة الجميلة التي عاشت في بيتي سنوات دون أن ألاحظها تقريبًا — هذه التضحية كبيرة جدًا، ويجب أن أبررها لنفسي بتعقيدات ذهنية مصطنعة، لكي لا أنفجر في وجه هذه العائلة، التي، حتى لو أرادت بكل حسن نية، لا يمكنها أن تعيد لي روزا. / ويجب أن أبررها لنفسي بحيل ذهنية ما كي لا أنقض على هذه العائلة، التي حتى لو أرادت بأحسن نية، لا تستطيع إعادة روزا لي.

ولكن حين أغلقت حقيبتي ولوّحت بطلب معطف الفرو، وكانت العائلة مجتمعة، الأب يشمّ الكأس التي في يده ويشمّ رائحة الروم، والأم، التي قد يكون خاب ظنها بي – نعم، ما الذي يتوقعه الناس؟ – تعضّ شفتيها باكية، والأخت تلوّح بمنشفة ملطخة بالدم بشدة، شعرتُ أنني، في ظل هذه الظروف، مستعدّ، بشكل ما، لأن أُقِرّ بأن الفتى قد يكون مريضًا حقًا. أتجه إليه، فيبتسم لي وكأني أحمل له ألذ حساء! — آه، الآن يصرخ الحصانان؛ يبدو أن الضوضاء، بتوجيه من قوى أعلى، مُعدة لتسهيل الفحص — وهنا اكتشفت: نعم، الفتى مريض بالفعل. في جانبه الأيمن، عند مفصل الورك، انفتح جرحٌ بحجم راحة اليد، وردي اللون بتدرجات متعددة، غامق في العمق، فاتح عند الحواف، ذو ملمس ناعم، مع تجمعات دم غير متساوية، مفتوح كمنجم على سطح الأرض. هكذا يبدو من بعيد. أما عن قرب، فالمشهد أكثر إثارة للاشمئزاز. من يستطيع رؤية هذا دون أن يصفر من الدهشة؟

ديدان، بسمك إصبعي الصغير وطوله، وردية بطباعها، ومرشوشة بالدم أيضاً، تتلوى في عمق الجرح، مثبتة برؤوسها البيضاء وأرجلها الكثيرة، تخرج نحو الضوء. يا ولدي المسكين، لا أمل في شفائك. لقد اكتشفت جرحك الكبير؛ هذه "الزهرة" في جنبك ستودي بحياتك.

العائلة سعيدة، تراني منهمكاً في عملي؛ تنقل الأخت الخبر للأم، والأم للأب، والأب لبعض الضيوف الذين يدخلون على أطراف أصابعهم، وهم يمدون أذرعهم لتحقيق التوازن، عبر ضوء القمر الساطع من الباب المفتوح. يهمس الولد باكياً، مأخوذاً تماماً بالحياة التي تعجّ في جرحه:

"هل ستنقذني؟"

هكذا أهل قريتي: دائماً يطالبون الطبيب بالمستحيل. لقد فقدوا إيمانهم القديم؛ القسيس يجلس في بيته يمزق ثياب القداس واحداً تلو الآخر؛ بينما يتوقع الجميع من الطبيب أن يحقق المعجزات بيده الجراحية الرقيقة! حسناً، كما تشاؤون: أنا لم أتطوع لهذا؛ إذا كنتم تستخدمونني لأغراض مقدسة، فسأسمح بذلك أيضاً. ماذا أريد أكثر من ذلك، أيها الطبيب الريفي العجوز، بعد أن سُلبَت مني خادمتي! وها هم يأتون - العائلة وشيوخ القرية - ليجرّدوني من ملابسي؛ وتقف جوقة مدرسية بقيادة المعلم أمام المنزل، يغنون لحناً بسيطاً جداً بكلمات تقول:

" جردوه من ثيابه فيشفيكم،

وإن لم يُشفِكم فاقتلوه!

إنه مجرد طبيب، مجرد طبيب. "

ثم جردوني من ثيابي، فوقفت وأنا أعبث بلحيتي، ورأسي منحنٍ، أنظر إلى الناس في هدوء. كنت مستعداً تماماً، متفوقاً عليهم جميعاً، وظللت كذلك رغم أن ذلك لم ينفعني بشيء. إذ أخذوني من رأسي وقدمي وحملوني إلى السرير. ألقوا بي بجوار الجرح عند الحائط. ثم خرج الجميع من الغرفة؛ وأُغلِق الباب؛ واختفى صوت الجوقة؛ وحجبت السحب ضوء القمر؛ دثَّرني الفراش الدافئ؛ وتمايلت رؤوس الخيول كالأشباح في فتحات النوافذ.

سمعتُ صوتًا يهمس في أذني:

" أتعلم؟ ثِقتي بك ضئيلة جدًّا. أنت مجرد غريب مطرود من مكان ما، لم تأتِ على قدميك. بدل أن تساعدني، تضيّق عليَّ فراش موتي. وما أشد رغبتي في اقتلاع عينيك!"

قلت:

"صحيح إنها مهانة. لكنني طبيب. ماذا عساي أن أفعل؟

"صدقني، الأمر ليس سهلاً عليَّ أيضًا. "

"وهذه هي الأعذار التي يجب أن أكتفي بها؟ آه، لا بد لي من ذلك، دائمًا يجب أن أكتفي بالقليل. لقد وُلدت بجرح جميل؛ كان ذلك كل ما أملك. "

قلت:

" يا صديقي الشاب، خطؤك هو أنك لا ترى الصورة كاملة. أنا الذي زرت كل غرف المرضى في هذه النواحي، أقول لك: جرحك ليس بالسوء الذي تظن. مِن صنع ضربتين بفأس، بزاوية حادة. كثيرون يُقدِّمون جنوبهم، ولا يسمعون حتى صوت الفأس في الغابة،

فما بالك باقترابها منهم!"

"أحقًا هذا ما تقول، أم أنك تخدعني في هذياني؟"

"حقًا، خذها كلمة شرف من طبيب القرية الرسمي. "

فأخذها، وسكت.

لكن الآن حان الوقت لأن أفكّر في خلاصي. ما زال الحصنان ثابتين في مكانهما.

جمعت ملابسي، ومعطف الفرو، وحقيبتي بسرعة؛ لم أرغب في تضييع الوقت في ارتداء الملابس؛ فإذا أسرعت الخيول كما فعلت في الذهاب، فقفزتي من هذا السرير إلى سريري الخاص ستكون مضمونة.

انسحب أحد الخيول من النافذة طائعًا، رميتُ الحزمة في العربة، لكن الفراء طار بعيدًا،

لم يُمسك به إلا كمٌّ عالقٌ بخطاف. جيد بما فيه الكفاية. قفزتُ على صهوة الحصان. الأحزمة مرتخية، حصان بالكاد مربوط بالآخر، العربة تترنّح وراءهما والمعطف آخر ما تبقى، يجرّه الثلج.

قلت:

"انطلقا!"

لكن الانطلاق لم يكن نشيطًا؛ سار الحصنان ببطء كالعجائز، عبر صحراء الثلج، بينما ترددت خلفنا أنشودة الأطفال الجديدة، الخاطئة:

"ابتهجوا أيها المرضى،

فقد ألقي بالطبيب في فراشكم!"

لن أعود إلى بيتي أبدًا بهذه الطريقة؛ ممارستي الطبية التي كانت مزدهرة، ضاعت؛ خلفني خليفة يسرقنيلكن عبثًا، فهو لا يمكنه أن يحلّ مكاني، وفي منزلي يعيث السايس القذر فسادًا؛ روزا ضحيته؛ لا أريد حتى أن أتخيّل ذلك.

أنا، العجوز العاري، اترنح معرّضاً لصقيع أتعس العصور، بعربة أرضية وخيول ليست من هذا العالم. بينما معطف الفرو يتدلّى خلف العربة، لكنني لا أستطيع الوصول إليه أبدًا، ولا أحد من هذا القطيع المتنقل من المرضى يحرك إصبعًا لمساعدتي. خُدعت! خُدعت! لقد أجبتُ نداء جرس الليل المضلل مرة واحدة - ولا سبيل لإصلاح ما حدث أبداً.

(النهاية)

***

..................

المؤلف: فرانز كافكا (3 يوليو 1883 - 3 يونيو 1924) كاتب تشيكي يهودي كتب بالألمانية، رائد الكتابة الكابوسية. يُعدّ أحد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة تُصنّف أعماله بكونها واقعيّة عجائبية. عادةً ما تتضمّن قصصه أبطالاً غريبي الأطوار يجدونَ أنفسهم وسطَ مأزِقٍ ما في مشهدٍ سرياليّ، يُعزى ذلك للمواضيع النفسية التي يتناولها في أعمالِه مثل الاغتراب الاجتماعي والقلق والذعر والشعور بالذنب والعبثيّة. أكثر أعماله شُهرةً هي رواية المسخ، والمحاكمة، والقلعة. وقد ظهر في الأدب مصطلح الكافكاوية رمزاً إلى الكتابة الحداثية الممتلئة بالسوداوية والعبثية. ولد كافكا في 3 يوليو 1883 في براغ التي كانت آنذاك جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية لعائلة ألمانية من الطبقة الوسطى تنحدر من أصول يهودية أشكنازية. عمل موظّفاً في شركة تأمين حوادث العمل، مما جعله يُمضي وقت فراغه في الكتابة. على مدار حياته، كتب كافكا مئات الرسائل للعائلة والأصدقاء المقربين، بما في ذلك والده، الذي كانت تربطه به علاقة متوترة وسيئة. خَطب بضعة نساءٍ لكن لم يتزوّج أبداً. توفي عام 1924 عن عمر يناهز الـ40 بسبب مرض السل. نشر خلال حياته بعض الكتابات، تشمل الكتابات المنشورة مجموعة قصصية تحت اسم تأمل وأخرى بعنوان طبيب ريفي، وقصص فرديّة هي المسخ التي نُشرت في مجلّة أدبية ولم تحظَ باهتمام. نُشِرت باقي الأعمال بعد موته على يد صديقه المقرب ماكس برود، الذي لم يستجب لطلب كافكا بإبادة كل كتاباته.

بقلم: وينج تيك لوم

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: قصيدة (حملة النقالات)

عند بلوغنا منتصف

الطريق

الواقعة أسفل التل

اكتشفنا بأن رفيقنا المحمول

على نقالة الجرحى

قد فارق الحياة

فأنزلناه

ودحرجناه

بعيدا عن الشجرة المهشمة

على مضض

رغم رغبتنا في إعادة جثمانه

إلى الوطن

ليتسنى لنا إخلاء

أحد جرحانا

في طريقنا نحو أعلى التلة

لقد آلمنا الأمر

ولكن لا يهم

فقد انتقل رفيقنا

إلى العالم الآخر

و كان لابد لنا

أن نواظب على الأمر

***

ثانيا: (قصائد هايكو)

(1) - قميصي مخضب بالدم

كأنه دم شخص غيري

ما زلت على قيد الحياة

***

(2) - نلجأ إلى استخدام خوذهم

لم تزل الخوذة التي بحوزتي تسرب الماء

ثقب رصاصة نظيف

***

(3) - أجفف قدمي المبللة

المتورمة

آن لي أن أقلم أظفارها

***

.......................

- وينج تيك لوم: شاعر أمريكي من أصل آسيوي. ولد عام 1946 في (هونولولو) في هاواي. خريج جامعة (براون) 1969 ويحمل شهادة في الهندسة. حاصل على شهادة الماجستير في اللاهوت 1973. نشر معظم أعماله الأدبية في مجلة (نيو يورك الفصلية). منح عدة جوائز أدبية في الولايات المتحدة الامريكية، منها جائزة ديسكفري ذا نيشن 1970 وجائزة الكتاب الأمريكي 1988 وجائزة إليوت كايدز للأدب 2013.من مؤلفاته (شرح النقاط المشكوك فيها 1987، مذابح نانجينغ – 2012). للاطلاع على المزيد من شعر الحرب العالمي ينظر (قبلة أخيرة قبل الذهاب إلى الحرب: مختارات من شعر الحرب العالمي) للمترجم، مطبعة بشوا، أربيل – العراق 2022. 

شعر: عزت گوشه گیر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما يُرَشُّ الدَّمُ

على الباب، على الجدار، على التربة، على الهواء،

تكون السذاجةُ

هي أن نرى فقط طَرَفَ أنوفنا.

سنينَ طويلةً في زنازين أبراج إمبراطوريّاتِ الخرسانة،

وراء الأبواب الموصَدة،

قُلوبُ البشر والمباني

مثل فراشاتٍ في شرانقَ

مُثَبَّتةٌ بدبابيسَ على خرائطَ جدرانٍ.

الإمبراطورياتُ

تعرِفُ جيدًا صوتَ كلِّ ساعةٍ،

لحظةَ شروق الشمس،

تواضعَ الغروب،

وغموضَ الليل،

وتعرِفُ كيفَ تحَقنِ بأيِّ دواءٍ

لتحوِّلُ الفراشاتَ إلى خفافيش.

*

عندما يُباع جوهرُ الإنسان الداخلي

بِحَفْنَةٍ من ذهبٍ،

بِسيارةٍ،

بِفيلا،

وبِدَلوٍ مملوءٍ بالكريمة والشوكولاتة،

فالإمبراطورياتُ تعلمُ

أنها بهذا الشكلَ

قد مزجتِ الخوفَ

بِرغبةِ الهيمنة.

يا للسذاجةِ أن نعتقدَ

أننا بحاجةٍ إلى مُنقِذٍ

لنرى طيرانَ الحمامِ،

أو نسمعَ زقزقةَ العصافيرِ،

أو نشمَّ عبقَ الياسمينِ الأزرقِ،

أو نُقبِّلَ شعرَ مَن نحبُّ،

أو نتذوَّقَ رغيفَ خبزٍ طازجٍ

في هواءٍ غيرِ مُحتلٍّ!

فنستندَ في راحةٍ زائفةٍ

إلى أكتافِ مَنْ

حلموا لسنواتٍ بدوسِ قصائدِ شعرائنا،

واغتصابِ بيتِ أسطورتنا،

والسيطرةِ على الجذورِ المدفونةِ في أعماقِ ترابنا.

ما هي الجذورُ؟

ما هي إلا لحمٌ ودمٌ وعظمٌ

لآبائنا وأمهاتنا وإخوتنا،

دمُ الأشجارِ والديناصوراتِ والكلابِ والقططِ،

دمُ الطيورِ،

الممتزجُ ببعضه،

في رطوبةِ سوائلِ أجسادهم

التي انتصرتْ على الغزاةِ في حروبِ القرونِ والألفيات،

أو هُزمتْ في مواجهتهم.

نحنُ نُمجِّدُ الذين صمدوا،

ونحفظُ دماءهم.

بتكريمِ حكمتهم وقوتهم نستمدُّ العزةَ.

لذلكَ نحفظُهم في الذاكرةِ دوماً،

ونردِّدُ:

"قويٌّ مَنْ كانَ عالماً، بالعلمِ يُشبَعُ القلبُ الفتى!"

أحياناً ننسى أن ناصرَ خسرو، شاعرَ القرنِ الخامس، قال:

"حينَ تمسكُ السيفَ، لا تستطيعُ قتلَ الناس...

رأى عيسى في الطريقِ قتيلاً مُلقىً،

فأُخذَتْهُ الدهشةُ، وَعضَّ على إصبعهِ،

وقال: 'مَنْ قتلتَ حتى تُقتَلَ هكذا بائساً؟

سيأتي مَنْ يقتلُ قاتلكَ!'"

أولئكَ الذينَ وقفوا على الأرضِ

قهرُوا ريحَ السلطةِ والعواصفَ

بأغصانهم وأوراقهم،

فهم يعرفونَ ما تعنيهِ الشجرةُ،

وما تعنيهِ الريحُ والعاصفةُ!

وقد طردوا الريحَ،

وطردوا العاصفةَ،

بقوةِ أغصانهم المكسورةِ.

يا لسذاجتنا!

نسينا أن نقرأَ الشعرَ،

شعرَ عظمائنا،

وشعرَ مجهولينا،

الذينَ شاركونا أفكارَهم ورحلاتِهم

بلا طلبِ مجدٍ أو ثناءٍ.

نسيناهم بسهولةٍ!

ونسينَا حِكَمَنا!

وما أعظمَ قولَكَ:

"ما الفرقُ بينَ الحميرِ والزعفرانِ؟!"

بدونِ الشعرِ،

الإنسانُ الجشعُ يمزقُ الآخرَ بلا رحمةٍ

لأجلِ رغيفِ خبزٍ،

أو طبقِ أرزٍ،

أو دلوِ كريمةٍ وشوكولاتةٍ،

أو أيِّ شيءٍ يتلهَّفُ عليه!

ما أفظعَ أن يمزقَ الإنسانُ الجشعُ صدرَ آخرَ،

وينتزعَ قلبَه من جسدِه،

ليأكلَه نيئاً،

فقط ليسمعَ

خطواتِ غرباءَ على أسفلتِ شوارعِ أرضٍ

رَضِعَ فيها الحليبَ

من ثديِ أمٍّ أرضعتْهُ،

أو شربَ حليبَ البقرِ والغنمِ والماعزِ

من زجاجةِ الرضاعةِ،

وتعلَّمَ المشيَ،

ونطقَ بلغاتٍ: "مرحباً.. سلاماً!"

مَنْ يُمْكِنُهُ أنْ يُفَتِّحَ ذراعيهِ

لِوُلاةِ الأمْرِ

الذينَ يُجيبونَ على تَحِيَّاتِهِ بِكَلِماتٍ غريبةٍ

بِاسْتِعلاءٍ: "سَلامٌ.. سَلامٌ!"

لِأَجْلِ رَغيفِ خُبزٍ،

أَوْ صَحنِ أرُزٍّ،

أَوْ دَلوٍ مِنْ كريمةٍ وَشوكولاتةٍ،

أَوْ فيلا،

أَوْ.. مَاذا أَعلَمُ! لِأَيِّ شَيءٍ يَهْفو قَلْبُهُ!

"فُرُوغ"ُ الحَيَّةُ الَّتي تَنامُ تَحْتَ التُّرابِ

قالَتْ قَبْلَ سِنينَ:

"أَنا أَعرِفُ أَسرارَ الفُصولِ،

وَأَفْهَمُ لُغَةَ اللَّحَظاتِ،

الْمُنْقِذُ نائِمٌ في القَبْرِ."

ما أَحْمَقَ الحَياةَ حينَ يَكونُ الإِنسانُ تابِعاً فَحَسْبُ،

ويَنتَظِرُ مُنْقِذاً

ليَكونَ صَوتَهُ الزَّائِفَ!

مَنْ هُوَ المُنْقِذُ؟

إِلّا ذاكَ الَّذي يَكونُ في اللِّسانِ صَديقاً،

وفي الفِعلِ،

يَحْبِكُ حَبْلَ المِشْنَقَةِ!

"فُرُوغ"ُ العَظيمةُ قالَتْ:

".. هَذا العالَمُ كَعُشِّ الأَفاعِي،

وَهُوَ مُمْتَلِئٌ بِأَصْواتِ خُطُواتِ قَوْمٍ

يُقَبِّلونَكَ بَينَما

يَحْبِكُونَ حَبْلَ إِعدامِكَ في أَذْهانِهِمْ!"

يا لِلسَّذاجَةِ أنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَستَطيعُ

أَنْ يُسْكِتَ أَصْواتَ كُلِّ أُولئكَ

تَحْتَ التُّرابِ وَفَوقَهُ،

كُلَّ أُولئكَ المَسْجونينَ خَلْفَ الأَبْوابِ المُوصَدَةِ،

كُلَّ الأَطْفالِ بِلا أَيْدٍ وَلا أَرْجُلٍ،

كُلَّ النِّساءِ وَالرِّجالِ وَالعُجُزِ،

كُلَّ الجِياعِ وَالمَشْدودينَ بِالبَرْدِ وَالحَرِّ،

المَلْدُوغينَ بِالعَقارِبِ وَالحَيَّاتِ،

أَنْ يَحْبِسَهُمْ في صُنْدوقٍ وَيُقْفِلَهُ بِإِحْكامٍ!

فَما هُوَ الصَّوْتُ إِذاً،

هذا الَّذي يَتَسَرَّبُ خارِجاً

ويَعْصِفُ في أَعْماقِ الرِّيحِ؟

وما هِيَ الأَحْلامُ؟

وما النَّوْمُ؟

وما الكَوابيسُ؟

وَالأَحْلامُ جانِباً،

ما البَصَرُ؟

ما التَّخَيُّلُ؟ ما الفَنُّ؟

ما الكَلِمَةُ؟ ما الغِناءُ؟ ما الأَلْحانُ؟

يا لِلسَّذاجَةِ أَنْ يُغَرِّقَ الإِنسانُ رَأْسَهُ في الثَّلْجِ

أَوِ التُّرابِ أَوِ الهَواءِ أَوِ الماءِ

لِكَيْ لا يَرَى الحَقيقَةَ!

ما قُدِّرَ أَنْ يَحْدُثَ،

سَيَحْدُثُ.

وَالصَّمْتُ وَالدَّهْشَةُ،

وَالصُّراخُ وَالاسْتِنْكارُ،

هِيَ بَدايَةُ رَدِّ فِعْلِ الإِنسانِ!

*

خِيارُ الضَّغْطِ،

وَالتَّشَتُّتُ وَالتَّرَكُّزُ،

وَانتِشارُ الحادِثَةِ،

قَانُونٌ فِيزِيَائِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ فِي حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ!

حِينَ يَحمَرُّ اللِّسَانُ فَجْأَةً،

تَتَفَرَّقُ الجُزَيئَاتُ المُتَرَاكِزَةُ،

فَتَنْتَشِرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ،

وَتُطرَدُ مِنْ نُقطَةٍ فِي العَالَمِ إِلَى نُقطَةٍ أُخرَى.

هَذَا هُوَ بِدَايَةُ التَّحَوُّلِ.

بِدَايَةُ الدَّمَارِ.

وَالدَّمَارُ لَا قَرْنَ لَهُ وَلَا ذَنَبَ!

الدَّمَارُ هُوَ الدَّمَارُ!

هُوَ أَنْ يُذْرِيَ اللِّسَانُ الأَحْمَرُ الأَخْضَرَ فِي الرِّيحِ!

هُوَ أَنْ تَصِيرَ رُوحُكَ بِلا قِيمَةٍ.

وَأَنْ لَا تَكُونَ أَنتَ سِوَى أَدَاةٍ!

*

أستطيعُ أن أتحدثَ ساعاتٍ

عن أناسٍ وقفوا منذ ألفياتٍ

أقوياءَ كأشجارِ السيكويا الألفية،

يترنّمونَ بالشِّعر.

ولكنّها قد تكونُ سذاجةً إن فتحتُ فمي لأتحدثَ عن المستقبل.

لا أرى المستقبلَ القريبَ سهلاً.

ويخبرني حدسي

أنّ في ثنايا جسدِ العالم،

هناكَ من يعيدُ ولادةَ "جنينِ الدين"،

ذاك الذي نُقِعَ لسنواتٍ في الخلِّ والملح.

وحروبٌ صليبيةٌ جديدةٌ في الطريق.

وفي هذه اللحظات،

يتضايقُ قلبي كصماماتِ القلبِ المتشنِّجة،

حزناً على قبيلتي،

على إخوتي وأخواتي، وأطفالِهم وأحفادِهم،

على كلِّ تلك العظامِ تحت التراب

التي كانت تمشي وتأكلُ وتتشاجرُ وتحبُّ قبلَ إعدامها...

على كلِّ تلك العيونِ التي مزَّقها الرصاصُ المعدني،

وتلك الوجوهِ الباسمةِ التي أذابها الحمض،

على كلِّ مَنْ هم قبيلتي..

وهنا، في هذا الجزء من العالم،

أشتاقُ أيضاً إلى ماركس،

إلى سيمون دي بوفوار ومارجريت أتوود،

وأسترجعُ فجأةً في ذهني روايةَ "حكاية الجارية".

إذا سلبوني عينيَ وأذنيَ ولساني وفضولي،

فما عسايَ أكونُ إلا جثةً شبهَ حيةٍ على التراب،

تحتضرُ كدجاجةٍ مذبوحة!

يا لسذاجةِ الظنِّ بأن "مارييت"،

صديقتي المسيحية الفلسطينية التي فقدت أخبارها منذ سنوات،

ربما تذكرني هذه الأيام!

إن تذكرتني حقاً،

فستغرقُ في شعورٍ متناقض.

ربما أخبرتها خلال صداقتنا التي دامت بضع سنوات،

قبل أكثر من عشرين عاماً،

أنّي حين كنتُ في الخامسة عشرة،

امرأةٌ فلسطينية مهاجرة

طلبت مني ماءً في طريق المدرسة،

لرضيعها الملفوف بخرقة سوداء،

في حرّ شهر مايو في خوزستان.

قالت: "ماء.. ماء"،

بشفتين يابستين كتربة الطريق المتشققة بين الأهواز والخرمشهر.

وربما أخبرتها أني في الأيام الأولى للحرب العراقية الإيرانية،

في شهري سبتمبر وأكتوبر،

تركتُ ابني الصغيرَ في أزقة طهران،

لأعالجَ جرحى الحرب في المستشفيات الميدانية بشادكان والأهواز.

كان ابني يناديني في الأزقة،

مرتعباً،

وحيداً،

مذعوراً.

كنت أسمع صوته تحت النخيلِ المقطوعة الرؤوس،

بين أصوات النساء والفتيات العربيات

اللاتي كنّ يخاطبنني بعيونهنّ بالعربية.

وربما أخبرتُ "مارييت"

أنّي كلما سمعتُ ابني ينادي: "ماما"،

أتناثرُ ألفَ قطعةٍ من شعوري بالذنب!

ربما أخبرتها...

دمُ عشتار يجري في عروقي

هدوءاً.. ذعراً..

وأحفادُها العربُ عبر ستة آلاف عامٍ

يتناغمونَ معَ قلبي.

يَحْتَلُّونَ تحتَ جفوني.. فوقَ عينَيَّ.

ربما أخبرتُها

كم أفهَمُ ألمَ كونها فلسطينية.

ولا أدري إن كانت في غزة أم في القدس،

حيّةً أم ميتةً.

لكنني أعلمُ أنني لم أخبرها

كيفَ علقَ ألمُ تلكَ المرأةِ الفلسطينيةِ المسلمةِ

في عظامي إلى الأبد.

لا أدري إن كانت أختي الكبرى

وأطفالُها وأحفادُها

أحياءٌ أم أموات.

ولا أدري إن كانت أختي الصغرى

حيّةٌ أم ميتة.

ولا أدري عن إخوتي الأربعة،

ولا عن كل أبناء العمِّ والخالةِ والعمةِ والخال،

ولا عن قبيلتي كلها،

ولا عن أصدقائي،

ولا عن جيراني،

ولا عن كل أناسِ الحاراتِ والشوارع،

ولا عن شعبي..

أحياءٌ هم أم أموات.

شعبي..

الذي اسمُ كلِّ فردٍ فيهَ: إيران.

التاسع عشر من يونيو عام 2025

***

...........................

الشاعرة: عزت گوشه گیر/ Ezzat Goushegir: كاتبة مسرحية، وقاصة، وناقدة سينمائية، وشاعرة. حصلت على شهادة في الكتابة المسرحية والأدب الدرامي من كلية الفنون الدرامية في طهران، وعلى درجة الماجستير في الفنون الجميلة من قسم المسرح بجامعة آيوا.نُشر لها حتى الآن أربعة عشر كتابًا باللغة الفارسية، من بينها مجموعات قصصية مثل: تلك المرأة، تلك الغرفة الصغيرة والحب، ووفجأة صرخ النمر: امرأة؛ وتلك المرأة التي ودّعت دون أن تقصد. كما نشرت مجموعة شعرية بعنوان الهجرة إلى الشمس، ومجموعتين من المسرحيات بعنوان التحوّل وحمل مريم.وقد قُدمت أعمالها المسرحية من قبل فرق مسرحية مختلفة، من بينها مسرحية حمل مريم التي فازت بجائزة "ريتشارد مايباوم"، وكذلك مسرحية من وراء الستائر (المستوحاة من حياة قرة العين)، والتي فازت بجائزة "نورمان فلتون".وحاليًا، تقوم عزت گوشه‌گیر بتدريس كتابة القصة والشعر الكلاسيكي في جامعة ديبول في شيكاجو – إلينوي. 

بقلم: آلي سميث

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في غيابك أتخيلك.

عائدة إلى البيت بعطلة عيد الميلاد، من أجل تلك السخافات التي تكرهها حتى الآلهة، باستثناء أنها ليس سخافات أبدا، لأنك بدون ذلك الهراء المستمر.. الأمان والدفء والاستقرار.

تقولين في داخل رأسي: مستقرة. ها نحن نبدأ. ولذلك ستكون قصة عيد ميلاد.

نظرت من الجزء الأعلى، الجزء الذي يسمح بالرؤية، وهو نافذة الحمام. كان صباحا مشرقا في منتصف فصل الشتاء. الوقت باكر. السماء صافية ليلة أمس، وكما أرى، كل أسطح الأكواخ والمرآبات، وكل أسطح العليات والاستوديوهات، وأسطح البيوت، بيضاء يغطيها الجليد. الأشجار راكدة وعارية من الأوراق. والأعشاب رقيقة وهشة في الحدائق الخلفية. ولكن نعم، هي جميلة.

قلت لي: يظهر عليك الكثير من هيئة عيد الميلاد.

الناس، الحشود، والمرأة المسكينة على الحمار، منهكة، وعلى وشك أن تضع مولودا؟.

النجمة، الرعاة، الملوك؟. هذا العام؟ أعياد ميلاد سعيدة بعد حقيقية، أعياد ميلاد بيضاء (سوبرمانية)، وخمس وستون مليون شخص يعبرون عالما بلا شواغر في فنادق أعياد الميلاد، مع أمنية عيد ميلاد سعيد منا جميعا لثماني عائلات من سوريا! (لهذا السبب العديد من اللاجئين تأخذهم هذه المدينة ذات سقوف بيوت عيد الميلاد الأبيض، وعليهم أن يتلاءموا مع التعليمات، ويكونوا لاجئين مستحقين قبل قبولهم، مهما كان معنى ذلك). بعيدا في معلف بلا سرير من أجل حلب، ولكنه عيد ميلاد فيس بوك سعيد، عيد ميلاد يو تيوب، وعيد ميلاد غوغل. أخطار موت تويتر الفصلية المرحة انطلقت فعلا. في الليلة السابقة على عيد الميلاد، روح عيد الميلاد، عيد ميلاد صغير بهيج، في منتصف شتاء مخيف. رياح جليدية. أنين. حديد. حجر. أوراق العشب تبرق قدر ما تشاء. ويحصل ذلك بسبب البرد، وهذا كل شيء.

في هذا التوقيت من العام المنصرم شاهدنا معا السنة القديمة تنصرف، ورحبنا بالجديدة فتناولنا الشمبانيا وأطلقنا الألعاب النارية كالعادة. وبدأنا مع السنة كائنات بشرية، والآن ننهيها مثل شيء ينتمي لأحد طرفي الفاصل العريض جدا والذي جعل الوادي الكبير يبدو مثل شيء يمكن التحكم به. شكرا 2016 لهذه التجديدات التي يتخذها الفلك. هذا عام مؤخرة الحصان.

غادرت البيت. ولم أكلف نفسي عناء إقفاله مرتين.

لن أهتم إذا اقتحمه أحد.

في طريقي إلى العمل اندلعت أغنية عيد ميلاد من تسجيلات باوند لاند. أغنية تجمع بينغ كروسبي مع دافيد بوي. بوي مات ورحل، ولكنه ها هو بكل حال، موجود في هاي ستريت، لم أكن أحب هذه الأغنية كثيرا، لأنها دائما تجعلني أفكر بقصيدة توماس هاردي. وفيها يلقى بجثمان الصبي هوج قارع الطبل المشارك بحرب مرت عليها عهود، على ضريح، ودون تابوت. ميت وشاب ولا شيء فوقه سوى كواكب تلمع بعيون غريبة. هوج المسكين. يمكنه أن ينتهي من بوي، أمير النظرات العجيبة، والعارف بغربتنا، والرجل الذي جعلنا جميعا غرباء ولكن حقيقيين، في فيلمه عن القزم الضاحك، حينما قدم برنامج "أفضل الأغاني الشعبية"، وكان قاسيا وملونا ومضحكا وغريبا وجعل فتاة من مدرسة أمك تدخل بنوبة صرع، وتنقل إلى المستشفى. بوي الحامل لخط متعرج على وجهه جعل بطريقة ما شارعي، وكل شارع في الضواحي، بألوان الآخرين، حافلا باحتمالات مجهولة، وأغنيته عن الفتاة ذات شعر الجرذان، الذاهبة إلى السينما، جعلتنا نرى أين نحن حقا - كأن ستارة الصالة القديمة المغبرة المتحركة التي تغطي عيوننا قد ارتفعت ببساطة.

نسيت أن بوي سجل تلك الأغنية، ومع بينغ كروسبي من بين جميع الآخرين.

أعادتني، وأنا في الطريق إلى العمل، في هذا الصباح من كانون الثاني، إلى الوقت الذي انفصلت به عن أولى حبيبة، كان ذلك في عيد ميلاد عام 1982، الهواء بارد ومنعش،

وسقوف المدينة التي كنا نعيش فيها، بيضاء يتخللها علامات سوداء خلفها ذوبان الجليد حول المداخن. استأجرت معها شقة صغيرة رطبة ومتجلدة فوق متجرين بطابقين، متجر للرقائق وآخر للتسجيلات، وكانت تفوح من متجر الرقائق روائح الدسم بغض النظر عن الوقت من يوم العمل، أما متجر التسجيلات فقد كان يعزف ويكرر على ما يبدو، وطيلة الوقت كنا منفصلتين (كل الوقت نواصل الصمت سواء صاعدتين أو هابطتين على السلالم المغطاة بالموكيت، أو إحدانا جالسة في المكان الخاص الوحيد هناك، وراء باب موصد لمرحاض خارجي مكانه على منعطف السلم، ودائما تلاحظ أن أحدهم صنع في وقت ما دائرة رمادية محترقة خلفها ثقب حريق سيجارة على الستارة المعلقة على الباب الخلفي)، وتأتي أغنية بوي وبينغ با.. روم.. با.. بوم.. بوم، مع الأغنية الأخرى، والتي يعزفها الشاب مالك المتجر طيلة الوقت، وهي: حصان بلا اسم للفرقة المعروفة باسم أمريكا.

لم تعجبني معزوفة بوي/كروسبي، وقل إعجابي بها لأنه تعين علي أن أسمعها باستمرار حين لا أكون سعيدة، مع أن اتجاه فرقة "أمريكا"، يميل للقديم منذ عام 1982، وهناك أغنية جعلتنا نتفق، كلتانا، معززة الشعور بالتباهي قليلا - بلحظة نادرة، بومضة ضوء، مثل شق في بساط متسخ، ومن خلاله أمكننا أن نكون متحضرتين أمام بعضنا البعض، أقصد بين تمزيقها للصفحات الأخيرة من كتبي (وهو أسوأ ما تضمره لي، وبين أسوأ ما أستطيع أن أضمره لها - الأمر الذي جعل متجر التسجيلات في الأسفل، تحت شقتنا، يبدو عمليا جيدا تماما. لكن بوي وكروسبي وغناؤهما معا، ما اعتبرناه حينها من المسلمات، كان بوضوح طرفة، انحراف، ومن الظاهر أن بوي يلوم عيد الميلاد، ويرى أنه علامة بلا معنى. أخيرا انفصلنا. ومنذئذ لم أبدل أسلوبي بالاستماع لأي من الأغنيتين ثانية.

في هذا الصباح أذرع بخطواتي شوارع عيد ميلاد بائسة، وذلك بعد أكثر من ثلاثين عاما، وربما استغرقت ثلاثين عاما لأستوعب ذلك، ولكنني أسمع شيئا غير متوقع، شيئا مثيرا، في أغنية أرى أنها بديهية مستقرة فينا، ولا أبذل أي جهد للانتباه إليها، كان بوي يفتتح الأغنية بينما يتابعها كروسبي، وفي غضون ذلك يبدأ ذلك الجزء المتوائم والمحلق، ويخلف كلاهما الأغنية وراءهما، أو يتخللها غناء أغنية مختلفة.

جميل.

ثم تذكرت شيئا نسيته منذ فترة بعيدة، وتعبرني الذكرى، كما أفترض، إذا جاز القول، مثل مرور الأشباح. كنت في بواكير سنوات المراهقة، في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة. تموز. حر في الخارج. أمي تقرأ أخبار الهاي لاند وهي على طاولة الإفطار. طوت قفا الصفحة الأولى نصفين وقدمتها لي.

قلت: ماذا؟.

قالت: عن أصدقائك. أليس كذلك؟.

كانت صورة لبناتنا. بنات المدرسة كما اتضح لي. وكلهن من صفوف أعلى من صفي. تلك هي شونا. وتلك جانيس. عرفتهما فقد كان بيننا تحيات وسلامات. وأعرف اثنتين إضافيتين. وكن واقفات في الصورة بحلقة صغيرة وعلى ما يبدو في حقل فارغ. ودون أي ابتسامة. تراجيديا بنات تفكرن بحصان. ذكرت الصحيفة قبل أسبوعين أن البنات ذهبن إلى مزاد وإحداهن (شونا جايلز، 16) اشترت حصانا بنقود وفرتها من عملها في يوم عطلة السبت في حانة "كاسل سناك".

وكنت أعلم أنها توفر لتتمكن من شراء حصان في أحد الأيام. وكل من عرفها يعرف هذا عنها. وكنت أعلم أن حانة "كاسل سناك" تدفع لمن يعمل هناك مبلغا سخيفا فعلا لقاء ساعات عمل طويلة. وذكرت الصحيفة أنها ذهبت إلى ساحة المزاد لترى كيف يبدو، لأنها لم تشاهد مزادا ولأنها ذات يوم ستشتري حصانا توفر المال لأجله. وقررت بقية البنات مرافقتها. أول حصان ظهر أمام جمهور مواشي يوم الجمعة كان رماديا، هزيلا ومسكينا، نحيفا، عجوزا، القوائم متعبة، الظهر محني، عين سوداء والثانية ضبابية. ولكن حالما رأته، ولاحظت أن الجزار المحلي يساوم عليه، ولا يوجد مشترون آخرون، رفعت شونا يدها في الهواء.

سألها منظم المزاد عن عمرها. وسألها هل هي متأكدة مما تريد. ونصحها أن لا تتابع. ولكنها رفعت يدها في الهواء. وتركتها مرفوعة حتى هزمت عرض الجزار بخمسين بنسا كاملة.

جلست في المطبخ أقرأ الصحيفة وأفكر، أين ستحتفظ بحصان؟. فهي تعيش في حي مثل حينا. وهم مثلنا، عائلتها، لا يمتلكون شيئا من قبيل حقل أو ما شابه. وكل ما لديهم لدينا مثله، ولا يمكننا إيواء حصان، ولا حتى أي حصان صغير، حتى في حديقة خلفية من مساكن البلدية.

ذكرت الصحيفة: أن مزارعا في السوق، عرض عليها استعمال حظيرة صغيرة مجانا على أرضه حتى تجد مكانا، فأقرضتها بقية البنات بعض نقودهن لتدفع لشخص يمكنه تسليم الحصان في المزرعة. وغادرن جميعا، وشاهدنها من البوابة وهي تقود حصانها الجديد العجوز فوق الوحل والأعشاب.

ثم بعد شرائه بأسبوع بالضبط، ذكرت الصحيفة أن شونا ذهبت إلى المزرعة للاطمئنان على حصانها، ولكن كانت الحظيرة فارغة. ثم شاهدت قوسا رماديا على الأرض. وتبين لها أنه حصانها الميت مرميا على جانبه في وسط الحظيرة.

وقال المزارع لأخبار هاي لاند أن هذا متوقع وحتمي. وكل من لديه منطق وشاهد الحصان توقع ذلك. وهذا ما أشعر به للأوانس. كان ذلك هدرا للنقود. ونقلت الصحيفة أنه تكفل بالتخلص من بقايا الحصان.

نظرت إلى الصورة ثانية. كانت صورة البنات على ما أفترض مأخوذة في الحظيرة الفارغة حاليا، ما لم يكن الصحافيون قد نقلوهن إلى حقل قديم من أجل الصورة لتبدو مثل الحقل الذي مات فيه الحصان.

أعدت الصحيفة لوالدتي.

قلت: ولكنهن لسن صديقاتي.

كان الوقت في شهر تموز. كن محظوظات. لأننا لو كنا نداوم في المدرسة حينما نشرت الصحيفة الخبر، ستمر البنات بكل تأكيد بوقت سيء لعدة أسابيع. ومع ذلك انشغل الناس بهن لفترة طويلة. وحالما يحين وقت المدرسة بعد خمس أسابيع من الآن، سيمحو النسيان الحكاية.

كأنك تضرب حصانا ميتا بالسوط.

قضية صغيرة وتافهة.

وبدأت أفكر: كن حينها بنات حلوات.

راهنت البنات الحلوات بكل نقود يوم السبت على حصان عجوز، ولكن ضاع كل شيء حينما دقت الساعة المشؤومة.

عندما أعمل أعلق معطفي على مسند الكرسي، وأحمل أحد الكومبيوترات المحمولة، وإحدى السماعات، وأتسلل إلى دورة مياه السيدات، وأغلق على نفسي في المكان المخصص لذوي العاهات، وأضع السماعة في أذني، وأفتح صفحة البحث الخاصة على الشاشة.

في دورة مياه السيدات عام 2016، كان بوي عام 1977 تقريبا، غير واضح، متهكما، رقيقا، من فصيلة الهررة، الجميلة والمؤنثة. وحوله جو مشحون قليلا، وتمثيلي. وكروسبي عام 1977 تقريبا كان كبيرا بالعمر كما نتوقع، والخطوط مرتسمة على وجهه كأنه طوي عدة مرات. وكان تقريبا مهذبا بشكل مبالغ به، وصغيرا على نحو غير متوقع، وصدره نحيف.

نهاية قرن تلتقي مع قرن آخر. هل كان بوي يعرف شخصا تتكرم عليه بقرش؟ هل سمع كروسبي أي شيء عن الأبطال؟.

تبع الواحد الآخر على طول طريق عيد الميلاد الإنكليزي التقليدي، مرورا بشجرة عيد الميلاد حتى البيانو. وتبادلا في الطريق كلاما جاهزا. بوي قال لبينغ إنه يعيش في نهاية الشارع. وأخبره بطرفة عن الطابق الأعلى والأسفل، وقال له إنه غالبا يأتي إلى هنا لاستعمال البيانو حينما يكون سيد البيت غائبا. وتظاهر أنه لا يعرف من هو بينغ. وتظاهرا أنهما يقلبان أوراق نوطة موسيقية على البيانو. واختارا أغنية. وهي "الطبال الصغير".

لاحقا، وعلى ما يظهر، أخبر بوي شخصا يجري معه لقاء، أنه أقام العرض لأن أمه تحب بينغ كروسبي. وحينما وصل إلى الأستوديو، وأخبروه أنه عليه أن يغني "الطبال الصغير"، انسحب بالحال تقريبا. وقال إنه يمقت فعلا تلك الأغنية، ولن يغنيها. ولمنعه من مغادرة الأستوديو، حينها، أضافوا لها عدة سطور جديدة. وحينما عزفوا الإضافة أومأ بالموافقة. ثم تمرنا وسجلا الأغنية كلها بحوالي ساعة من الوقت.

على كل طفل أن يفهم، وأن يهتم، وأن يمنح الإنسان، كل الحب الذي بالإمكان.

مات كروسبي بعد أقل من خمس أسابيع من الحفل. وعرض الاسكتش في عيد الميلاد، عام 1977، هناك في أمريكا، وهنا في المملكة المتحدة.

وأطلقت الأغنية في عيد الميلاد، بتسجيل منفرد، بعد خمس سنوات، عام 1982.

كانت غير متوقعة. وتشبه المستحيل. وتفوقت على نفسها. وأصبحت الأغنية القديمة كأنها جديدة.

نزعت السماعة من أذني. وأعدت الشاشة إلى الصفحة الرئيسية. غادرت مقعد دورة المياه. غسلت يدي. وضعت الكومبيوتر تحت ذراعي وعدت إلى المكتب.

كان الجميع متعبين. وأنا أمر بالطاولات ابتسم معظمهم لي فابتسمت بالمثل.

****

هذه قصة عيد ميلاد، في خاتمة المطاف. ثنائية. وبجزئين، فقرة للصيف وفقرة للشتاء.

هل تصغين لي؟ هل تسمعينني؟.

أحدها عن الدماثة اليائسة. حصان هدية.

وها هي الثانية: كان عيد ميلاد في الجنة. جرس الباب يدق. نظف بينغ كروسبي يديه في الصالة ثم ذهب ليفتح الباب.

كان دافيد كروسبي هناك على العتبة المثلجة وذراعاه ملفوفان حوله مثل كل من يشعر بالبرد، ولكن كان تمثيل الفيلم في أيلول عام 1977. والجو غير بارد على الإطلاق.

هذه كذبة.

هذا تزييف.

هذا تمثيل.

وكلاهما جعلانا ندرك ذلك، وهما يعلمان بالأمر أيضا.

ثم غنى لنا كلاهما أغنية عيد الميلاد.

***

..............................

* آلي سميث Ali Smith روائية إسكوتلاندية تجريبية. من جيل ما بعد الحداثة.

بقلم: دورثي أليسون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في نُزْهة في مزرعة خالتي، المرة الوحيدة التي تجمّعت فيها العائلة بأكملها، طاردت أنا وأختي بيلي الدجاج إلى حظيرة المواشي. اندفعت بيلي مباشرةً عبر الباب المفتوح وخرجت منه مجدداً، بينما توقفتُ أنا، مأخوذةً بظلّ يتحرّك فوقي. ابن عمي تومي، ذو الثماني سنوات مثلي تماماً، كان يتأرجح تحت أشعة الشمس بوجهٍ أسودَ كحذائه - الحبل المشدود حول عنقه يمتدّ نحو السقف المشمس للحظيرة، مشهدٌ يخطف الأنفاس ويقشعرّ له الأبدان. ألم يكن يسبقنا في الجري؟ اقترب أحدهم من خلفي. بدأ أحدهم بالصراخ. أمسكتْ بي أمي برأسي وحوّلتْ نظري بعيداً.

أنا وجيسي عشاقتان منذ عام الآن. تحكي لي قصصاً عن طفولتها، عن والدها الذي يذهب يومياً إلى الجامعة، وعن والدتها التي كانت تخيط كل فساتينها، وجدتها التي كانت تفوح منها رائحة خبز الشبت والفانيليا. أنصت إليها وفمي مفتوح، غير مصدّقةٍ لكنني متعطّشة، تتألم روحي للحكاية الخيالية التي تظنّ أنها حياة الجميع.

" وبم كانت تشبه رائحة جدتك؟"

أكذب عليها كما أفعل دائماً، كذبةً مسروقةً من كتاب. "كرائحة الخزامى"، بينما تتقلّب معدتي لذكرى العرق الحامض والنشوق.

أدرك فجأةً أنني لا أعرف حقاً كيف تكون رائحة الخزامى، ويتملّكني خوفٌ للحظة أن تسأل شيئاً آخر، سؤالاً قد يفضحني. لكن جيسي انزلقت لتعانقني، وتضع وجهها على أذني، ، وتهمس:

"كم هو رائع أن تكوني جزءاً من عائلة كبيرة بهذا الشكل."

أعانقها بدوري وأغمض عينيَّ. لا أستطيع النطق بكلمة واحدة.

وُلدتُ بين أبناء وبنات العم الأكبر سنًّا والأصغر سنًّا، في فجوةٍ زمنية بين دفعات الأطفال، ولهذا كنت دائمًا خارج الدائرة، أراقب فقط. ذات مرة، قبل موت تومي بزمن طويل، دُفعتُ إلى خارج المنزل وجلستُ على الدرج بينما كان الجميع واقفًا يُنصت إلى ابنة عمي باربرا.كانت صرخاتها تتصاعد وتنخفض في الجزء الخلفي من البيت. أحضرت ابنة عمي كورا دلاءً مملوءة بخرقٍ دامية لتحرقها. ركض بقيّة أبناء العم للّهو بالشرر أو لنبش النار بعصيّ خشب الدوغوود. أما أنا فجلستُ على الشرفة أؤلف كلمات على وقع الصيحات من حولي. لم أكن أفهم ما الذي يجري.بعض أبناء العم الأكبر سنًّا كانوا يفهمون، ملامحهم الغريبة كانت تتشقق بضحكات أغرب.كنت قد رأيتهم وهم يُساعدونها على صعود السلالم، والدم الكثيف ينهمر على ساقيها.وبعد وقت، صار الدم على الخِرَق خفيفًا، مائيًا، ورديًا تقريبًا.رمت كورا الخِرَق في النار، ووقفت ساكنة وسط الدخان الكريه الرائحة.

قال راندال وهو يمرّ إن هناك طفلًا سيُولد، كبيضة مكسورة تُرمى مع الخِرَق، لكن لم يكن هناك شيء. راقبت المشهد بدقة، ولم أر شيئًا سوى الدم، يتناقص بيأس، والبيت يغرق تدريجيًا في الصمت. ساعات من الصراخ تحولت إلى أنين واهن، مكتوم تحت سحابة الدخان. خرجت خالتي رايلين إلى الشرفة، وكادت تسقط فوقي، لم ترني، لم تر شيئًا. راحت تضرب أحد أعمدة الشرفة بقبضتيها حتى تركت فيه حفراً بحجم المفاصل في الطلاء المتقشر، تضربه كأنه يملك إحساسًا، تسبّه وتسبّ نفسها، وتلعن كل طفل في الفناء، تئن بصوت مرتجف صاعد وهابط: "اللعنة، اللعنة على تلك الفتاة... بلا عقل... اللعنة!"

لديَّ هذه الصور التي أعطتني إياها أمي – مطبوعاتٍ بُنيَّة مُلوَّثة لساحات ترابية عارية، وشُرُفاتٍ من الألواح الخشبية، وصفوفٍ لا تنتهي من الأطفال – أبناء العم، والأعمام، والعمات؛ ألغاز. اللغز هو كم منهم لم يعد أحد يتذكرهم. أعرضهم على جيسي دون أن أذكر من هم، وعندما تضحك على الأسنان المكسورة، والملابس الممزقة، والتراب، أشُدُّ أسناني على ما لا أريد أن أتذكره ولا يمكنني نسيانه. كنا كثيرين لدرجة أننا كنا بلا عدد، ومثل شراغيف الضفادع، إذا اختفى واحد منا بين الحين والآخر، فمن كان ليهتم؟

كانت لديَّ جدةٌ عظيمة من طرف أمي أنجبت إحدى عشرة ابنةً وسبعة أبناء؛ وجدتي أنجبت ستة أبناء وخمس بنات. كلُّ واحدٍ منهم أنجب ستة على الأقل. وبعضهم أنجب تسعة. ستة في ستة، أحد عشر في تسعة. استمروا يتكاثرون كجدول الضرب. ماتوا ولم يُفتقدوا. أنا من عائلة ضخمة ولا أستطيع أن أحكي نصف قصصهم. وبطريقة ما، دائمًا ما بدا الأمر وكأنهم قتلوا أنفسهم: حوادث سيارات، بنادق صيد، حبالٌ متربة، صراخ، سقوط من النوافذ، أشياء بداخلهم. أنا قمة هرم، أنزلق للخلف تحت ثقل الذين جاءوا بعدي، ولا يهم أني مثلية، التي لن تنجب أطفالًا .أحكي القصص فيخرج الأمر مضحكًا. أشرب البوربون وأُجبر نفسي على الإطالة، وأحكي كل تلك القصص القديمة المضحكة. دائمًا ما يبدو أن هناك من تسألني: "مَن كان ذلك؟" أُريهم الصور فتقول:

"ألم تكن هي تلك التي في قصة الجسر؟"

أُخفي الصور، أشرب المزيد، ودائمًا ما يجدها أحدهم، ثم يقول:

"يا للهول! كم كان عددكم بالضبط؟"

لا أجيب.

كانت جيسي تقول: "لديكِ هذا الانجذاب الغريب نحو العنف. لديكِ كل هذه القصص المروعة." قالتها بفمها الناعم، وذقنها الذي لم يُصفع قط، وأنا أحب ذلك الذقن، لكن حين قالت جيسي ذلك، ارتجفت يداي ولم أرغب في شيء بقدر ما رغبتُ في أن أحكي لها قصصًا مروعة. صنعتُ قائمةً وقلتُ لها: تلكَ فقدت عقلها – وضربت أخاها الصغير بقضيب معدني؛ هؤلاء الثلاثة شقّوا أذرعهم، ليس عند المعاصم بل عند العروق الأكبر قرب المرفق؛ أما هي، فقد خنقت الشاب الذي كانت تضاجعُه وأُرسلت إلى السجن؛ وتلكَ شربت الغسول الكاوي وماتت تضحك بلا صوت. في عامٍ واحد، فقدتُ ثمانية من أبناء عمومتي. كان العام الذي هرب فيه الجميع. أربعةٌ اختفوا ولم يُعثَر عليهم أبدًا. واحدٌ سقط في النهر وغرق. وواحدٌ صُدم وهو يطلب توصيلةً شمالًا. وواحدٌ أُطلق عليه الرصاص وهو يعدو عبر الغابة، بينما غريس، الأخيرة، حاولت السير من غرينفيل إلى غرير لسببٍ لا يعرفه أحد. سقطت من الجسر العلوي على بُعد ميلٍ من مستودع سيرز آند روبك، وبقيت هناك تموت من الجوع والحر والعطش.

فيما بعد، وأنا بين النوم واليقظة، وجدتُ يديّ تحت ذقن جيسي. تقلبتُ بعيدًا، لكنني لم أبكِ.أنا بالكاد أسمح لنفسي بالبكاء.

في أغلب الأحيان، كنا نتعرض للاغتصاب، أنا وأبناء عمومتي. وكان ذلك نوعًا من المزحة أيضًا.

'ما هي العذراء في كارولاينا الجنوبية؟'

" فتاة في العاشرة تستطيع الركض بسرعة.'"

لم يكن الأمر مضحكًا بالنسبة لي وأنا في سرير أمي مع زوج أمي؛ ولا لابنة عمي بيلي في العليّة مع عمي؛ ولا لوسيل في الغابة مع ابن عم آخر؛ ولا لداني مع أربعة غرباء في موقف سيارات؛ ولا لـبامي، التي وصلت قصتها إلى الصحف. قرأتْها كورا بصوت عالٍ:

مرارًا وتكرارًا على يد أشخاص مجهولين." وبقوا مجهولين، لأن بامي لم تنطق بكلمة بعد ذلك.ثقوب، وجروح مفتحة، وكدمات، ورضوض. سمعتُ كل الكلمات... كلمات كبيرة، كلمات صغيرة، كلمات مُروعة لدرجة لا تُصدَّق.

"ميتة بفعل فاعل."

والقضيب لا يزال بداخلها...

مقشة المكنسة، وغصن الشجرة، ومسدس الشحوم...

أشياء، أشياء لا تُعقَل...

زجاجات ويسكي، وفتّاحات علب، ومقصات العشب، زجاج، معدن، خضروات...

تقول جيسي:

" لا يُعقل، لا يُعقل. لديكِ موهبة في الكلمات."

أتوسل إليها:

"لا تتحدثي .. لا تتحدثي."

وهذه المرة، احتضنتني بصمتٍ مُبارك.

أخرجتُ الصور، حدّقتُ في الوجوه. أيّها كنتُ؟ أعلم أن الناجين يكرهون أنفسهم، من فرط حبّهم الشديد لأنفسهم، لا يفهمون أبدًا، ويتساءلون دائمًا: "لماذا أنا وليس هي، وليس هو؟" هناك غموضٌ كبيرٌ في الأمر، وقد كرهتُ نفسي بقدر ما أحببتُ الآخرين، وكرهتُ حقيقةَ بقائي. بعد أن نجوتُ، هل يُفترض بي أن أقول شيئًا، أو أفعل شيئًا، أو أكون شيئًا؟

كنتُ أحب ابن خالتي "بوتش". كان له رأسٌ كبيرٌ عجوز، وشعرٌ أشقر خفيف، وعينان واسعتان زائغتان. كل أبناء خالتي كانوا كذلك، لكن رأس بوتش كان الأكبر، وشعره الأبهت. أما أنا، فكنت الوحيدة ذات الشعر الداكن. بدا بقية العائلة كنسخ باهتة من بعضهم، بدرجات مختلفة من الأشقر، لكن لاحقًا تحول شعر الجميع إلى البني أو الأحمر، ولم أعد أبدو مختلفة كثيرًا. لكن بوتش وأنا كنا مميزين – أنا لأني كنت سريعةً وسوداء الشعر، وهو بسبب ذلك الرأس الكبير والأفعال المجنونة التي كان يفعلها.كان بوتش يتسلق خلف شاحنة عمي لوسيوس، يفتح خزان البنزين ويمد رأسه فوقه، يتنشق بعمق، يختنق، يتقيأ، ثم يعاود التنفس. كان الشعور يغوص فيك حتى يُنمّل أصابع قدميك. تسلقتُ خلفه وجربتُ ذلك بنفسي، لكني كنت صغيرةً جدًا على أن أتحمله طويلاً، فسقطت على الأرض بثقل، أشعر بالدوار وأنا أضحك. أما بوتش فكان يستطيع الصمود، يغمس يده في الخزان ويخرج كفًا مجوفًا مليئًا بالبنزين، يستنشق بعمق ويضحك. ثم ينزل بخفة، يتأرجح من مقبض الباب، يترنح وهو يضحك، تفوح منه رائحة البنزين الكريهة.

لكن أحدًا رآه ذات يوم. أحدهم ألقى عود ثقاب.

" سأعلمك الدرس."

وهكذا، بكل بساطة، انتهى قبل أن تفهم.

أستيقظ في الليل وأنا أصرخ: "لا، لا، لن أفعل!"

مياه قذرة ترتفع في مؤخرة حلقي، لغة سائلة من رعبي وغضبي.

"عانقينى. عانقيتى."

تتدحرج جيسي فوقي؛ يداها تمسك بعظام وركي بقوة.

تكرر:

"أحبك. أحبك. أنا هنا"

أحدق في عينيها الداكنتين، حائرة، خائفة.آخذ نفسًا عميقًا، وأرسم ابتسامة باهتة على وجهي.

أضحك، وأتدحرج بعيدًا عنها.

"هل خدعتكِ؟"

تلكمني جيسي بمزاح، وأمسك بيدها في الهواء.

"حبيبتي"،

تهمس، وتلتف حولي، وتغمض عينيها.

أرفع يدي أمام وجهي وأراقب المفاصل، والأظافر وهي ترتعش، وترتعش.

أراقبها لفترة طويلة بينما هي نائمة، دافئة وساكنة بجواري.

فقد جيمس بصره.

أحد الأعمام ألقى الكحول محلي الصنع على وجهه.

تسلقت لوسيل من النافذة الأمامية لمنزل العمة رايلين وقفزت.قالوا إنها قفزت. ولم يقل أحد لماذا.

كان العم ماثيو يضرب الخالة رايلين.تعهد التوأم مارك ولوك بمنعه، جرّاه إلى الفناء ذات مرة، يرميانه بينهما ككيس رخو من الحبوب.صرخ العم ماثيو كخنزير يُساق للذبح.

أدخلت أختاي إلى سقيفة الأدوات لأحفظهما، لكنني بقيت أراقب. خرج الصغير بو مسرعًا من المنزل، قافزًا من الشرفة، مباشرة بين ذراعي والده. بدأ العم ماثيو يلوح به كمنجل، يطارد الولدين الكبيرين، ورأس بو يصطدم بأكتافهما، وأفخاذهما. بعدها، زحف بو في التراب، والدم يسيل من أذنيه ولسانه متدلٍ من فمه، بينما نجح مارك ولوك أخيرًا في إسقاط أبيهما. مر وقت طويل قبل أن أدرك أنهم لم يخبروا أحدًا بما حدث لبو.

حاول راندال أن يعلمني ولوسيل المصارعة.قال:

" ارفعي يديكِ".

كانت ساقاه متباعدتين، وجذعه يهتز لأعلى وأسفل، ورأسه يتحرك باستمرار. ثم لمعت يده تجاه وجهي.رميت بنفسي إلى التراب، وبقيت ساكنة.التفت إلى لوسيل، لم يلاحظ أنني لم أقم.

لكمها وهو يضحك.لفت يديها حول رأسها، وانحنت حتى لامست ركبتاها حلقها. صرخ.

" لا، لا!"

"تحرّكي مثلها".

التفت إليّ:

"تحرّكي".

ركلني.تكومت كالكرة، وتجمدت.

" لا، لا!"

ركلني مرة أخرى.تأوهت، ولم أتحرك.التفت إلى لوسيل.

" أنتِ".

أسنانها كانت تصطك، لكنها بقيت ساكنة، ملفوفة على نفسها كشرائح اللحم المقدد.

صاح.

" تحرّكي!"

لكن لوسيل فقط ضمت رأسها بقوة وبدأت تنتحب. تمتم راندال، وهو يمشى بعيدًا.

"أولاد العاهرة"، لن تنجحا أبدًا في شيء".

وقفنا ببطء، محتارتين، تنظر إحدانا إلى الأخرى. كنا نعرف.إذا قاومت، سيقتلونك.

كانت أختي في السابعة من عمرها. كانت تصرخ. حملها زوج أمي من ذراعها اليسرى، أدارها إلى الأمام والخلف. فانخلع المفصل.تعلقت الذراع بشكل مرتخٍ. واستمرت في الصراخ فحسب. لم أكن أعلم أنه يمكن كسرها بهذه الطريقة.

كنت أجري في الرواق. وكان خلفي مباشرة.

"ماما! ماما!"

أطبقت يده اليسرى - كان أعسراً - على حنجرتي، ودفعتني نحو الحائط، ثم رفعني بهذه الطريقة. ركلت، لكنني لم أستطع الوصول إليه. كان يصرخ، لكن الضجيج في أذني كان شديداً لدرجة أنني لم أسمعه.

"أرجوك يا أبي. أرجوك يا أبي. سأفعل أي شيء، أعدك. أي شيء تريده يا أبي. أرجوك يا أبي."

لم يكن بإمكاني قول ذلك. لم أستطع الكلام بسبب قبضته على حنجرتي، لم أستطع التنفس. استيقظت عندما سقطت على الأرض. نظرت إليه.

"إذا عشت طويلاً بما يكفي، سأقتلك بحق الجحيم."

رفعني من حنجرتي مرة أخرى.

"ما خطبها؟"

"لماذا تلاحقك دوماً؟"

لم يكن أحد يريد إجابات حقاً.

زجاجة فودكا كاملة ستقتلك عندما تكون في التاسعة من عمرك والزجاجة من حجم الكوارت. كان ابن عم ثالث هو من أثبت ذلك. تعلمنا ما يمكن لهذا وأشياء أخرى أن تفعله. كل عام كان هناك شيء جديد.

" أنت تكبرين. فتاتي الكبيرة."

كان هناك مورفين في الخزانة، ودواء باراجوريك لأسنان الطفل، وويسكي، وبيرة، ونبيذ في المنزل. جيني أحضرت إلى البيت مادة إم دي إيه، وبي سي بي، وحمض (إل إس دي)، بينما جلب راندل الحشيش، والسبيد، والميسكالين. كل ذلك كان يُخفف من حدة الأمور، ويقتل الوقت.

كانت السرقة وسيلة لقتل الوقت أيضا. أشياء نحتاجها، وأشياء لا نحتاجها، بدافع التحدي، أو الغضب، أو الحاجة. "أنت تكبر"، كنا نقول لبعضنا. ولكن عاجلاً أم آجلاً، سيقبض علينا جميعاً. ثم جاء دور "متى ستتعلم؟".وعندما نُقبض علينا، تحدث الكوابيس. "يائس مثل الخنزير البري" كان تشخيص الرجل في مزرعة المقاطعة حيث أُرسل مارك ولوك في سن الخامسة عشرة. حلقوا رؤوسهما، وقطّعوا شحمة أذنيهما.

" ما مشكلتك يا فتى؟ ألا تستطيع تحمله؟"

أما جان، فقد أُلقي القبض عليها في السادسة عشرة وأُرسلت دار رعاية الفتيات في مقاطعة جيسوب، حيث تم تبني الطفلة، وقامت بقطع معصميها بزنبرك السرير.

أُلقي القبض على "لو" في السابعة عشرة واحتُجز في مركز الشرطة وسط المدينة، واغتُصبت على أرضية زنزانة الاحتجاز.

"أأنت صبي أم فتاة؟"

"على ركبتيك، يا صغير، هل تستطيع تحمله؟"

أُلقي القبض على "جاك" في الثامنة عشرة وأُرسل إلى السجن، وعاد بعد سبع سنوات بوجه خالٍ من التعبير، لا يفهم شيئًا. تزوج فتاة هادئة من خارج البلدة، ورُزق بثلاثة أطفال في أربع سنوات. ثم عاد جاك إلى المنزل ذات ليلةً من مصنع النسيج حاملاً إحدى تلك المقابض الكبيرة لآلة المغزل عالية السرعة. استخدمها لضربهم جميعًا حتى الموت، ثم عاد إلى العمل في الصباح.

تزوجت ابنة العم ميلفينا في الرابعة عشرة، وأنجبت ثلاثة أطفال في سنتين ونصف، وأخذتهم الرعاية الاجتماعية جميعاً. هربت مع ميكانيكي سيرك، وأنجبت ثلاثة أطفال آخرين قبل أن يتركها من أجل بهلوان دراجات نارية. أخذتهم الرعاية الاجتماعية أيضاً. لكن الطفل التالي كان مصاباً باستسقاء الرأس، طفلاً صغيراً "برأس مائي" تركوه معها، وكذلك الثلاثة الذين تبعوه، حتى ذلك الذي كانت تكرهه بشدة - الذي أنجبته بعد سقوطها من الشرفة ولم تتذكر من أبوه. سألتها:

"كم طفلًا لديكِ؟"

أجابت:

"أتعني الذين عندي، أم الذين كانوا لي؟ أربعة، أو أحد عشر."

****

حاولت عمتي، التي سُميتُ على اسمها، أن تذهب إلى أوكلاهوما. كان ذلك بعد أن فقدت أصغر بناتها وأخبروها أن "بو" لن يصبح أبدًا "طبيعيًا". حزمت البسكويت والدجاج البارد والكوكا كولا؛ والكثير من الملابس الفضفاضة؛ و"كورا" وطفلها الرضيع "ساي"؛ وأصغر أربع بنات. انطلقوا من "جرينفيل" في الظهيرة، على أمل الوصول إلى أوكلاهوما بحلول نهاية الأسبوع، لكنهم لم يصلوا إلا إلى "أوجستا". وهنال انهار الجسر تحتهم. قال عمي.

" قضاءٌ وقدرٌ"

زحفت عمتي و"كورا" إلى خارج النهر، وظهرت اثنتان من البنات بين الأعشاب، تصرخان بصوت عالٍ بما يكفي ليتم العثور عليهما في الظلام. لكن إحدى البنات لم تخرج أبدًا من تلك المياه المظلمة، و"نانسي"، التي كانت تحمل "ساي"، وُجدت ما زالت ملتفة حول الرضيع، في الماء، تحت السيارة. قالت عمتي:

" قضاءٌ وقدرٌ، لدى الرب حس فكاهي لعينٌ جدًا."

أنجبت أختي طفلها في سنة سيئة. قبل ولادته، كنا قد تحدثنا عن الأمر. سألتها:

"هل أنتِ خائفة؟".

أجابت، غير مدركة قصدي، متحدثة بدلًا من ذلك عن الخوف الآخر.

"سيكون بخير .. أليس لدينا تقليدٌ في إنجاب الأطفال غير الشرعيين؟"

كان بخير، طفلٌ صغيرٌ قويٌ قبيحٌ تقليدي بتلك الخصلة البيضاء التي تميز الكثيرين منا. لكن بعد ذلك، جاءت تلك السنة البائسة مع إصابة أختي بالتهاب الجنبة، ثم التهاب المثانة، وبدون عمل، بدون مال، واضطرارنا للعودة إلى المنزل مع زوج أمي قاسي العينين. كنت أعود لرؤيتها، من عند المرأة التي لم أستطع الاعتراف بأني كنت معها، وأحمل ابن أختي الهش للغاية وأضمه، أهزه، وأهز نفسي.

ذات ليلة، عدت إلى المنزل لأسمع صراخًا — الطفل، أختي، لا أحد آخر هناك. كانت واقفة بجانب السرير الصغير، منحنية، تصرخ بوجه أحمر.

"اصمت! اصمت!"

مع كل كلمة، كانت قبضتها تضرب الفراش قرب أذن الطفل.

"لا تفعلي ذلك!"

أمسكت بها، جذبتها للخلف، محاولة أن أفعل ذلك بألطف ما يمكن كي لا أكسر غرز جراحتها. كان ذراعها الآخر مضغوطًا على بطنها ولم تستطع المقاومة أبدًا. استمرت في الصراخ.

"ذلك الوغد الصغير لا يتوقف عن الصراخ. ذلك الوغد الصغير. سأقتله."

ثم استوعبت الكلمات، ونظرت إليّ بينما استمر ابنها في البكاء وركل قدميه. بجانب رأسه، كان الفراش ما زال يحمل أثر قبضتها.

"أوه لا"، أنت، "لم أكن لأصبح هكذا. لقد وعدت نفسي دائمًا."

بدأت تبكي، تمسك ببطنها وتنتحب.

"لسنا مختلفين. لسنا مختلفين."

تلف جيسي ذراعها حول بطني، وتضغط بطنها على ظهري. أسترخي بين ذراعيها.تسألني:

"هل أنت متأكدة أنكِ لا تستطيعين إنجاب الأطفال؟ أود حقًا أن أرى كيف سيكون أطفالك."

أتصلب، وأقول:

" لا أستطيع إنجاب الأطفال. لم أرغب بالأطفال أبدًا."

فتقول:

" مع ذلك، أنتِ جيدة جدًا مع الأطفال، لطيفة جدًا."

أفكر في كل المرات التي انقبضت فيها يداي إلى قبضتين، عندما كدت أفقد السيطرة. أفتح فمي، أغلقه، لا أستطيع الكلام. ماذا يمكنني أن أقول الآن؟ كل المرات التي لم أتكلم فيها من قبل، كل الأشياء التي لم أستطع إخبارها بها، الخجل، وكراهية الذات، والخوف؛ كل ذلك يقف بيننا الآن — جدار لا أستطيع هدمه.

أودُّ أن أستدير وأتحدث معها، وأقول لها... "في رأسي نهرٌ من الغبار، نهرٌ من الأسماء يتكرر بلا نهاية. يتصاعد هذا الماء القذر في داخلي، كل أولئك الأطفال يصرخون بحياتهم في ذاكرتي، فأصبح شخصًا آخر، شخصًا حاولتُ جاهدة ألا أكونه." لكنني لا أقول شيئًا، وأعلم، كما أعلم أنني لن أنجب طفلًا أبدًا، أن صمتي هذا يُديننا، وأنني لا أستطيع الاستمرار في حبك وكرهك بسبب حياتك الخيالية، لعدم سؤالك عما ليس لديك سبب لتتخيله، بسبب تلك البراءة ذات الذقن الناعمة التي أحبها

تضع "جيسي" يديها خلف رقبتي، تبتسم وتقول: "أنتِ تروين أطرف القصص."

(تمت)

***

........................

الكاتبة: دوروثي أليسون / Dorothy Allison (11 أبريل 1949 – 6 نوفمبر 2024) كاتبة أمريكية نسوية ركزت كتاباتها على الصراع الطبقي، والإساءة الجنسية، وإساءة معاملة الأطفال، والنسوية، وقد اشتهرت بروايتها السير ذاتية الأكثر مبيعًا:"ابنة غير شرعية من كارولاينا" (Bastard Out of Carolina.ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان:نفاية (Trash ( وُلدت دوروثي أليسون في الحادي عشر من أبريل عام ١٩٤٩ في غرينفيل، بولاية ساوث كارولينا، لأمٍّ تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، تُدعى روث جيبسون أليسون. عاشت طفولةً صعبةً اتسمت بالفقر والاعتداء الجنسي والجسدي والعاطفي. تخرجت من المدرسة الثانوية، ثم حصلت على درجة البكالوريوس من كلية فلوريدا المشيخية (كلية إيكارد حاليًا) بدعم من منحة الاستحقاق الوطنية. حصلت على درجة الماجستير في الأنثروبولوجيا من المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك.وقصة (نهر الأسماء) المترجمة اليوم هي القصة الأولى من تلك المجموعة نفاية / Trash( الطبعة الثانية 2002 )

بقلم: ليزا ثورنتون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كنا نشاهد الشرائح المعروضة على جدار غرفة المعيشة عندما تمطر أو لا يكون هناك شيء جيد على التلفزيون. كان والدي يقلب الصور بإبهامه، ينتقل بجهاز العرض من ذكرى إلى ذكرى. كانت أخت أمي المتوفاة تَظهَر في الصور مع الجميع أمام شجرة الكريسماس الخاصة بجدّيَّ. كان ابن عمي الذي وجدوه مُعلقًا في الكافتيريا واقفًا خلفي، ويداه على كتفي.

كانت اللقطات من كيب تاون مليئة بالرياح والرمال. قصب يهب هنا وهناك خلف والديّ وأختي، عندما كانت رضيعة ولم أكن قد ولدت بعد. كنت أحب أن أنظر إلى عائلتي قبل أن أكون فيها. كنت أحاول أن أتبين: هل كانت أمي متعبة قبل مجيئي؟ هل كان أبي لا يزال شجاعًا آنذاك - هل كان يثق بصوته؟ هل كانت أختي مليئة بعدم الأمان، أم أنني أنا من جلب ذلك لهم؟

ضحكنا على صورة أختي وهي تجلس على البطانية الخضراء التي أحضرها والدي من الجيش. تلك التي كنا نلف بها الدمى ونحن نحملها عبر عواصف خيالية ونهرب من اضطهاد خيالي، ونجلس عليها لمشاهدة الألعاب النارية بجانب البحيرة. شعرتُ بخدشها الصوفي على مؤخرة ساقيّ بينما كانت تومض على الجدار.

امتدت ساقا أختي الصغيرتان أمامها على البطانية، ومفاصل ركبتيها كخرزات بلاستيكية من السبعينيات بألوان الأحمر والأصفر والأزرق الزاهية، وخيوط قبعة الشمس مربوطة بإحكام تحت ذقنها. ارتفعت الكثبان الرملية خلفها. تخيلت أمي منزوية، ذراعها على أهبة الاستعداد في حال بدأت صغيرتها البكر في السقوط

كان أبي يردد في كل مرة تتضح فيها هذه الصورة: "يا إلهي، ها هو ذا" ، "ها هو الرجل تحت البطانية." برز حذاء كونفيرس أسود من القماش الأخضر، تركه أبي بلا شك، وهو يركض نحو الأمواج. كانت الزاوية التي التُقطت بها الصورة تجعل الحذاء يبدو وكأن هناك رجلًا ممددًا تحت الرمل، تحت البطانية، تحت أختي. قدم واحدة فقط ظاهرة. كانت أمي تضحك. "آه، ذلك الذي دفنّاه!" "ذلك الرجل على الشاطئ."

وكانت أختي تبتسم لصورتها العملاقة بخديها الورديين، وكنت أغمض عينيّ نصف إغماضة لأزيد من هذا الشعور: ذلك الذي اجتاحني عندما فكرت في عائلتي تقتل شخصًا على الشاطئ، غريبًا، وتدفنه تحت أختي. تحت بطانيتهم المفروشة. عندما أفكر في عائلتي تضحك على جريمتها بعد سنوات، أمي تقضم حبّات الفشار من أكبر وعاء في البيت، وأبي يقهقه وهو ينتقل إلى الصورة التالية.

(تمت)

***

....................

الكاتبة: ليزا ثورنتون/ Lisa Thornton: كاتبة وممرضة. لها أعمال في مجلات SmokeLong Quarterly وBending Genres وHippocampus وPithead Chapel وغيرها من المجلات الأدبية. رُشِّحت لجائزة باث للقصص القصيرة وجائزة بريدبورت للقصص القصيرة. فازت بجائزة WestWord في فئة القصص القصيرة عام ٢٠٢٣، ورُشِّحت لجائزة Pushcart وجائزة Best of the Net. ليزا خبرة في الصحافة المحلية، وحاصلة على بكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة ولاية كولورادو، وبكالوريوس في التمريض من جامعة لويزيانا في لافاييت. تعمل كمحررة مساعدة في قسم القصص القصيرة في مجلة JMWW،

 

بقلم: لوسيل كليفتن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

أ لن تحتفلوا معي

بما قمت بتشكليه

كنوع من انواع الحياة؟

لم يكن عندي نموذج أحتذيه.

بعد ان ولدت في بابل

ليس بيضاء وايضا امرأة

ما الذي شاهدته يتكون سوى ذاتي؟

انا الذي خلقتها

هنا فوق هذا الجسر

بين ضوء النجوم والطين،

احدى يديّ تمسك

بالأخرى بقوة؛

تعالوا واحتفلوا معي بأن كل يوم

يحاول شيء ان يقتلني

ويفشل.

***

..........................

* لوسيل كليفتن (1936-2010) شاعرة أميركية من مواليد مدينة نيويورك. يتميز شعرها باحتفائه بالتراث الأميركي الأفريقي، وبتناول قضايا المرأة وحقوقها ومساواتها مع التركيز على الجسد الأنثوي. نشرت أول مجموعة شعرية لها بعنوان (زمن حسن) عام 1969 أدرجتها صحيفة نيويورك تايمز ضمن قائمها لأفضل عشرة كتب لذلك العام. نشرت بعد ذلك مجموعتها الثانية بعنوان (أخبار جيدة عن الأرض) عام 1972 ثم (امرأة عادية) في 1974 توالت بعدها مجاميعها الشعرية التي كان آخرها بعنوان (أصوات) عام 2008 ، فضلا عن تأليفها مجموعات قصصية عديدة وكتبا في أدب الأطفال. حازت كليفتن على جوائز عديدة ورشحت مرتين لنيل جائزة البوليتزر.

قصة: أليسا ناتينج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

النص التالي مأخوذ من مجموعة أليسا ناتينج "وظائف غير نظيفة للنساء والفتيات". تحكي المجموعة قصص 17 امرأة وفتاة منبوذات يعملن في وظائف غريبة منتشرة عبر الزمان والمكان ومستويات مختلفة من الواقع. أليسا ناتينج أستاذة مساعدة في اللغة الإنجليزية بكلية جرينيل. وهي مؤلفة روايتي "تامبا" و"مصنوعة للحب".

***

أفضل صديقاتي، جارلا، عارضة أزياء من مكان ما يشبه السويد؛ عندما يحاول الناس تحديد أصلها، تصرخ فقط: "فودكا!" أو إذا كانت في مزاج أفضل: "فودكا، فهمت؟" مما يوحي بأنها ربما روسية، لكنها في الحقيقة تريد فقط أن تشرب. أينما كانت، تعيش جارلا الآن في فقاعة عالم عارضات الأزياء. أتمنى لو عشت هناك أيضًا، لكن أقرب ما يمكنني الوصول إليه هو التسكع مع جارلا، وهو أشبه بقضاء عطلة في شقة مشتركة في ذلك العالم.

تعرفنا عليها في حفلة في تشيلسي ذهبت إليها بقفزة غير مدروسة. بالتأكيد لم أُدعَ. ذهبت مع صديقة أصيلة إلى حفلة غير ممتعة، ثم غادرت مع صديقتها إلى حفلة أفضل، حيث قابلت غريبة أخذتني إلى حفلة مشتعلة. هناك قبلت المصور الذي اصطحبني إلى حفلة جارلا. لم تكن هي المضيفة، لكنها كانت حاضرة، وأينما تذهب جارلا تصبح الحفلة حفلتها.

أعتقد أن السبب الوحيد الذي جعلني أراها مرة أخرى هو أنني كنت ثملة بما يكفي لأقول لها الحقيقة. كانت تجرب ملابس غريبة — كان هناك رداء يبدو فضائيًا لكنه طبي، مثل الثوب الذي قد ترتديه لإجراء مسحة عنق رحم على المريخ. ثم ارتدت فستانًا مكرمش بطريقة توحي بوجود تورم غريب في جانب رقبتها الأيسر، ثم تمايلت نحوي. كنت أمسك رأسي جيدًا بجوار النافذة، عسى أن ينعشني الهواء بما يكفي لأتمكن من المشي إلى نهاية الغرفة، حيث قد أستعيد وعيي بما يكفي للوصول إلى المرحاض والانبطاح على الأرض. هناك، ربما، قد يتصل بي أحد المعارف عبر ضغط خدي على هاتفي ليرتب لي سيارة ويضمن ألا تنتهي رحلتي الحياتية في هذه الليلة. لكني لم أكن متأكدة، وعندما رأيت جارلا أمسكت رأسي بقوة أكبر، لأنها بدت وكأنها تتجه نحوي لتمزيقه.

قالت:

"أنتِ"

قمت بتهذيب وقفتي كتلميذة مدرسة. تقيأت في فمي لكنني لم أفتح شفتي لأسأكبه على الأرض.

"هل يعجبك هذا؟"

ثم أدت دورًا أنيقًا ومبتكرًا، مستحيل التقليد بالنسبة للحضور، لكنه بالنسبة لها كان مجرد حركة خرجت منها عفوية كريح صغير.

قلت:

"يجعلك تبدين حاملاً في ظهرك"

مستخدمة فم زجاجة الجعة لحك ظهري، حيث تنتفخ خياطة فستانها بلا سبب. عبست وولّت مسرعة. ظننت أنها شعرت بالإهانة حتى عادت تحمل وعاءً مموهاً بمفاتيح سيارات الضيوف.

قالت: "

"استعملي هذا للقيء"

ثم أضافت:

"خُذي الهاتف"

وألقت جهازًا مرصعًا بالكريستال في حقيبتي. أعتقد أنه في تلك اللحظة، ظهر كلبان رماديان كبيران بجانبها كما لو كانا سحرًا، وانطلق الثلاثة نحو المطبخ. قلت لنفسي: "أنتِ تحبين الكلاب ولديكِ ميل لتخيلها"، بينما كنت أتعثر نحو الحمام. نظر الضيوف الراقون برعب بينما أتمسك بالأثاث والنباتات لأثبت خطواتي نحو غرفة صغيرة فيها أرضية باردة وحوض. فكرت: "لماذا دائمًا أكون غريبة الأطوار في الحفلات؟ أنا في الثلاثينيات من عمري، وكان عليّ أن أتعلم على الأقل" كيف أتظاهر؟

المشكلة في حمامات الحفلات أنها لا تبقى حمامات؛ تبدأ كذلك، ثم تتحول إلى غرف تقبيل أو غرف شم كوكايين أو غرف استحمام جماعي. عندما اندفعت إلى الداخل وأنا أمسك بطني، بدا أن ثنائيًا نحيلًا يستخدم الغرفة كـ"غرفة انتظار قبل ممارسة الجنس الفموي المتبادل"، يشربان نبيذًا أحمر قاتم ويجلسان على حافة البانيو، يرسمان بأصابعهما على السيراميك الأبيض. أثار صوت القيء "بررراب" فضولهما. كانا في العشرينيات من العمر، وشعرت بنظراتهما الحقيقية والثاقبة. لم تكن نظرة شفقة بقدر ما كانت فضولًا؛ بدا أنهما يتساءلان كيف يمكن لشخص أن يفقد السيطرة بهذا الشكل. قال الشاب:

"لا أفهم لماذا يستخدم الناس القيء في الفن"

فردت الفتاة:

"لكن الأمر ليس هكذا عندما يفعلون"

أي ليس مثلي، بل مثل جارلا وهي تتقيأ طلاءً ورديًا على تمثال راكون من السيراميك الفيروزي.

تمتمت:

" أحتاج إلى تاكسي "

فتعاطف الشاب لكنه كان حازمًا:

"لن ألمسك."

أكدت:

" لا بالطبع، سأوصل نفسي إلى الباب".

استغرق ذلك وقتًا طويلاً. في لحظة ما تساءلت إن كان عليّ البحث عن جارلا لإعادة الهاتف، لكنني رأيت وميضًا عبر غرفة المعيشة فإذا بها هناك، فلاش الكاميرا يرتد عن فخذها المدهون، وقدمها داخل حوض الأسماك الاستوائي للمضيف. الجميع أرادوا تصوير حذائها الجلدي المربوط وسط المرجان الصناعي: الهواتف المحمولة والكاميرات الاحترافية والأجهزة الرقمية الرقيقة مرفوعة في الهواء. كانت جارلا تقول للجميع: "أسماك مداعبة!" مما أثار ضحكات متتالية من الحضور. لم يكن بإمكاني مناداتها وجذب كل ذلك الانتباه نحو جسدي. بالإضافة إلى أنني لم أكن أرغب حقًا في إعادة الهاتف. هاتف عارضة أزياء! كنت كالفضلات في جوف من ابتلع خاتم خطوبة بالخطأ: رغم أنني لاشيء بذاتي، إلا أنني أحمل الآن شيئًا فريدًا.

سقطت بسهولة على الدرج، وقبل أن أتمكن من النهوض، وقد فاجأني تمامًا، وصل التاكسي. صرخت: "شكرًا!" نحو الثنائي في الحمام، لكنها خرجت كغرغرة، وكانا على الأرجح مشغولين بالاستعداد لاستخدام شبابهما وجمالهما لمنح بعضهما النشوة المتبادلة بلا نهاية فكرت: "لماذا دائمًا أكون غريبة الأطوار في الحفلات؟ أنا في الثلاثينيات من عمري، وكان عليّ أن أتعلم التحمل على الأقل.

احتفظت بالهاتف على مكتبي عدة أيام وأنا أتساءل ماذا أفعل به. كان هناك خطب ما فيه؛ لم يرن. هاتف جارلا كان سيرن، أليس كذلك؟

لم يرن حتى اليوم الرابع. "مرحبًا، وومان." كانت جارلا. بدأت أشرح كيف أنني نويت إعادة الهاتف، وكيف أنني بالتأكيد لم أتصل بمتاجر الرهونات لمعرفة سعره (كذبت!)، لكنها قاطعتي:

"هذا هاتفك، مني. سأتصل بك عليه" .

كان بإمكاني قول الكثير، مثل أن لدي هاتفًا بالفعل، أو أنني خائفة جدًا من أن أُقتل بسبب هذا الهاتف المرصع إن رآني أحد أتحدث به في حيّي، لأنني لست غنية ولا أي من جيراني، لكن كثيرين يحتاجون المال بشدة، والضرورات تبيح المحظورات.

قالت:

"سآخذكِ لعرض أزياء، الليلة السابعة والنصف".

بدافع من كبرياء ما، أردت التأكد أنها لا تقصد أنني سأشارك في العرض، وأن الأمر ليس مزحة حيث يتنافس "الجميلون" على اختيار "القبيحة" الأبشع وتزيينها للفوز.

سألت:

"تقصدين أن أذهب لمشاهدته معكِ؟"

فقالت:

" ها"

ثم بدا وكأنها أشعلت سيجارة أو شيء ما وقالت:

"ها. ها. أعني هذا"

وأخبرتني أين ألقاها.

منذ تلك الليلة، تغيرت حياتي بطرق عديدة. ما زلت لا أحد، إلا عندما أكون مع جارلا، فأصبح "مرافقة جارلا"، هوية جديدة مثيرة تجعل كل شيء تقريبًا ممكنًا، إلا أن أكون جذابة بذاتي. إلا أن أكون مهمة عندما لا أكون معها.

في بار الأكسجين، صفعتني جارلا ثلاث صفعات قوية على خدي. دائمًا ما تتحرر بجرأة جادة في مثل هذه التصرفات. قالت: "سأضعكِ في نعش خاص"، وهي كلمة تدليل منها لكنني لا أعرف معناها بالضبط. أحب أن أعتقد أنها إشارة إلى بياض الثلج، وأنني عزيزة عليها لدرجة أنها تريد حفظ جسدي في صندوق زجاجي بجانب أريكتها، نائمة إلى الأبد. رغم أنه قد يعني أيضًا أنها تريد حبسي في "عذراء حديدية".

تجلس جارلا أمام حاسوب محمول موصول بشاحن شمسي، رغم أن الجو ممطر بالخارج ونحن في غرفة مظلمة. جارلا ليس لديها آراء في الأشياء؛ فهي ليست من النوع المؤيد أو المعارض. الآن، هي ضد الاحتباس الحراري لأنها تعرف أن ذلك مشكلة عصرية. إما أن يكون الشيء مشكلة عصرية أو لا، وإذا كان عصرية فهو لجارلا. قالت:

" الإنترنت لا يعمل."

أشرت:

"شاحن شمسي... لا شمس."

ردت:

"احتباس حراري" .

غالبًا ما تذكر عناوين وسائل الإعلام للمواضيع والأحداث عشوائيًا، مثل "أزمة دارفور"، ثم تشرب وتصمت لساعات.

دخلت النادلة مرتدية رداءً من القنب تحمل خزانَيْن وقناعَي تنفس، وربطت جارلا أولاً. بالقناع، بدت كطيّارة من المستقبل، ربما مولدة بالحاسوب. بشرتها المثالية تشبه شاشة بلازما.

سألت النادلة:

"هل أنتِ من السويد؟"

أجابت جارلا:

" فودكا، تعرفين؟"

وتجهمت عينا النادلة؛ ربما كانت حديثة الحقن بالبوتوكس لأنني رأيت رغبتها في التعبير لكنها فقط رمشت.

قلت:

" هل يمكنها الحصول على كأس فودكا؟"

ذكرت المرأة أن الكحول لا يُستهلك عادة خلال الجلسة. لكنها مع ذلك ذهبت لإحضارها، وعادت بكأس لي أيضاً.

أصبح القناع ثقيلاً بعض الشيء عندما بدأ الأكسجين النقي يضربنا مع الفودكا. أمسكت جارلا بيدي. لا أعرف إن كنت منجذبة إليها أم أنها ببساطة جميلة. أعتقد أنها الأخيرة لأنها لا تتحدث كثيراً، وما تقوله لا يُعقل كثيراً. لكن الناس لا يحتاجون للتكلم أو المنطق ليحبهم الآخرون. انظري إلى الكلاب والأطفال.

صرخت جارلا:

"سحابة فودكا!"

فهمت أنها تريد كأساً آخر لأنني أريده أيضاً، فرفعت إصبعين للنادلة بينما أشير إلى ثلجنا الذائب. بقيت أصابعي على وضعية "السلام". بالقناع، تخيلت أننا في أفعوانية متطرفة تصعد إلى طبقة الستراتوسفير، ونجتاز الكاميرا التي تلتقط صورة نشتريها لاحقاً، وأنا أقول: "هذه أنا وجارلا. سلام."

جعلتني "غريبة أطوار" بشكل مبالغ، أنيقة في الحفلات على الإطلاق. ذات مرة، ألبستني بنطالاً من السلاسل فلم أستطع الحركة، ولا حتى كالروبوت. فحملتني جارلا - بكعوب ستيلتو بارتفاع ست بوصات - وصعدت بي الدرج إلى الحفلة، وأسقطتني بجوار حوض أسماك آخر، إما لأشاهد شيئاً أو لأنها علمت أن جزءاً من جسدها سيدخل الحوض لاحقاً، وأرادتني هناك لأقول: "جارلا يجب أن تذهب الآن" عندما تمل.

لم يكن هناك حديث عن تعييني مساعدتها. ببساطة بدأت أتحدث عندما كان منطقياً، مثل حين سأل المخرج إن كان يمكنه تصوير نفسه وهو يجرح ذراعها قليلاً بسيف كاتانا مصمم، ويَلحس دمها من النصل، فأجابته بصوت خافت: "نعش خاص."

كنت أقول: "علينا المغادرة يا جارلا"، لكنني تعلمت أن "جارلا يجب أن تذهب" أفضل، لأنها تبدو وكأنها لا تملك خياراً.

الليلة، ذهبنا لعرض أزياء آخر. بما أن جارلا عارضة فيه، انتظرت خلف الكواليس على كرسي مكياجها. أكثر من مرة سأل الناس عن سبب وجودي. قلة منهم أرادوني أن أغادر؛ معظمهم كانوا فقط في حيرة.

بعد العرض، ذهبنا إلى منزل عارضة أخرى، حيث شاهدت جارلا تشرب نفسها إلى بحر عميق. تشرب بنظام إيقاعي. يمكنني عد الكؤوس في الساعة، كإيقاع موسيقي، وأعرف بالضبط مدى سكرها في أي لحظة. أما أنا فعلى العكس؛ السكر لديّ ضيف زفاف غامض قد يبكر، وقد يتأخر، أو لا يأتي أبداً.

بحلول الرابعة صباحاً، كانت جارلا مستلقية على منضدة المطبخ. أحدهم نثر حديقة رمل بوذية مصغرة على بطنها، وكان يدور الرمل حول سُرّتها بمشط خيزران صغير. رأسها يتدلى من المنضدة، مقلوب كعلبة حلوى "بِز". اقتربت منها، وكانت بيننا هذه اللحظة السكرى.

"أعلم أنكِ أكثر"، قالت عيناي الثملتان. قالتها بنَفَسٍ متردد، يوحي بأنها استغرقت وقتاً طويلاً لتجرؤ على قول ذلك، دون كلمات مع ذلك.

" نعم"، أجابت عينا جارلا، وككل إجاباتها، كانت لؤلؤة غامضة بدأت في تقييم قيمتها الكاملة على الفور. رفعت رأسها بيديَّ لتستوي مع المنضدة، ممسكة بها. نظرت إليها كجراحة.

قالت جارلا: "نوع من السجق"؛ إنها تحب اللحوم المقددة. للحظة، انتابتني الرغبة في إسقاط رأسها. تذكرت طفولتي على الشاطئ، والأصداف التي كنت ألتقطها ثم أعيدها. دائماً ما بدت أكثر قيمة من بعيد، وهي تحت الماء.

ما زلت أتساءل إن كانت جارلا ستطلب مني ترك وظيفتي كمصححة نصوص والانضمام إليها بدوام كامل في عالم عارضات الأزياء. وكالتها تعاملها بلطف، لكنني أعرف أنها بحاجة إليّ، أو على الأقل يمكنها الاستفادة مني أكثر مما تفعل الآن. وهذا يقودني إلى سؤالين: هل لدى جارلا آخرون مثلي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكم عدد "أنا" الموجودة؟ وهل تحتاج إليّ حقًا؟

الأمر مع جارلا هو أنها دائمًا ستكون بخير. بغض النظر عما يحدث، جارلا ستكون على ما يرام. أنا فقط أسّرع وصول "الما يرام" لها قليلًا، لأضمن حدوثه في الوقت الفعلي.

رغم أن حياتي أصبحت تحوي أشياء رائعة أكثر بكثير منذ تعرفي على جارلا، إلا أنني بدأت أشعر قليلًا بأنها تستغلني. ولا يمكنني إنكار أنني أريد المزيد منها. إنها مادة نادرة، ولو فقط بسبب الدور والسلطة التي تتمتع بهما في مجتمعنا، وليس بسبب أي شيء كامن فيها. المواد النادرة تجعل الناس يشعرون بالأنانية والجشع، وجارلا ليست استثناءً. وأنا أيضًا لست استثناءً.

بدأت أمل قليلًا من هاتف جارلا الخاص بي، لكنه باهظ الثمن وهو الوحيد الذي ستتصل منه بي. تخلصت من هاتفي الآخر ولم يعد لدي سوى الهاتف الذي أعطتني إياه جارلا، ربما لأنني أعرف أنها قصدت أن أستخدمه فقط عندما تتصل هي. وهذا تمرد صغير من جانبي. لكن جارلا لا تلاحظ التمردات، كبيرة كانت أم صغيرة. فهي لا تحتاج إليها.

قررت أن أسألها إن كان بإمكاني أن أصبح مساعدتها بأجر، لأنها على الأرجح لن تقول "نعم" أو "لا"، وسأفسر صمتها كموافقة. على أية حال، بتركي لوظيفتي وقضاء وقت أكثر معها، سأحصل على هدايا إضافية يمكنني بيعها عبر الإنترنت، ومقتنيات جارلا تدرّ عليّ أضعاف ما تدره علي وظيفتي الحالية.

انتهزت الفرصة ونحن في المقعد الخلفي لسيارة في طريقنا إلى جلسة تصوير خاصة لمصمم أزياء. كانت جارلا ممتدة على حجري، وشعرها الأشعث الأشقر يتدلى فوق ركبتي. شعرها أنعم من ساقي بعد الحلاقة.

قلت:

" جارلا، سأترك وظيفتي وأصبح مساعدتك. لا داعي لأن تدفعي لي شيئًا يذكر. فأنا لا أجني الكثير أساسًا."

توقفت للحظة ثم مدّت لي مشطًا ذهبيًا صغيرًا، أفترض أنها تريدني أن أبدأ بتمشيط شعرها. وأفترض أيضًا أن هذا يعني "نعم"، كإيماءة مقايضة. اتصلت برئيسي في العمل على الفور عبر هاتف جارلا، واستقلت بأعلى صوت ممكن دون أن أبدو عدائية، فقط لأحفر هذا الحدث بصورة أعمق قليلًا في ذاكرة جارلا.

سارت جلسة التصوير على ما يرام. بعد ذلك، قدمت لها كؤوسًا من الفودكا المثلجة التي بدت كالماء المنعش، وتطلعنا على الصور الجميلة. وغادرنا بحقائب ضخمة مليئة بملابس باهظة الثمن لم ندفع ثمنها ولم نطلبها.

أشعر بأنني أصبحت أكثر وضوحًا مع كل ثانية. ربما، أفكر، يجب أن أنتقل للعيش في شقة جارلا. بهذه الطريقة سأكون دائمًا هناك لاحتياجاتها، ولن يكون هناك اتصالات هاتفية في منتصف الليل؛ يمكنها ببساطة أن تصرخ أو تهمهم. رغم أنني لم أسمع جارلا تصرخ قط. الجميع بالفعل منتبهون لها.

لكن صباح اليوم التالي، لا ترد جارلا على مكالماتي. ولا تتصل بي.

يستمر هذا لأكثر من أسبوع. أتقمص دور العارضة المتذمرة بحق: لا آكل، أشرب كميات مهولة من الفودكا، أقص شعري بنفسي بمقص كليل في الحمام ثم أندم. وفي الصباح التالي أفكر في الذهاب إلى صالون فاخر لإصلاحه، لكنني لا أملك المال الكافي، خاصة الآن بعد أن أصبحت بلا عمل. لهذا، أحتاج جارلا.

هذا هو جذر ألمي: أقنعت نفسي أنها تحتاجني أنا تحديداً، بينما في الحقيقة، أي شخص يمكنه القيام بما فعلته - ملاحقة شخص فاتن، الحصول على الهدايا، وتسمية الأمور الصادمة بمسمياتها. أي لمسة أناقة أضفتها لهذا الدور؟ بينما أنظر في المرآة إلى قصّة شعري الكارثية، أدرك أن ملابسي الفاخرة الجديدة ما زالت تبدو غريبة الأطوار لأنها لا تناسبني. ولن تناسبني أبداً.

"وكالتها تعاملها بلطف، لكنني أعرف أنها بحاجة إليّ... هل لدى جارلا آخرون مثلي؟ كم نسخة منّي موجودة؟ هل تحتاجني حقاً؟"

عندما يضيء هاتف جارلا أخيراً ويعزف نغمته الاصطناعية، يصبح كصفارة إنذار. أتجمد من الخوف لكن الوحشة واليأس تمزقني. أصرخ:

" أين كنتِ؟ اتفقنا أن أكون مساعدتك! تركتُ عملي! لم أرَكِ منذ عشرة أيام!"

تشرح جارلا.

" رأس فودكا"

أريد التظاهر بأن كل شيء على ما يرام:

"أنا لست مساعدة سيئة... أنا جيدة مما يعني أنني أحتاج أن أكون حيث تكونين، لمساعدتك."

تقول:

" لاحقاً، حفلة"

أسمع صرخات فرح في الخلفية، حِدّتها تُطعنني. أعرف أن هذه الصرخات تعود لأناس عديمي الجدوى، وأكره أنها فضلتهم عليّ. أسأل:

" في أي وقت؟

لكنها أغلقَت الخط بالفعل.

في النهاية ترسل لي عنوان الحفلة. أتوقف في بار قريب لأحتسي بعض المشروبات وحدي أولاً. يتشربني السُخط أمام الكأس في مكان عام. كيف سمحت لنفسي بالانكشاف هكذا؟ قبل جارلا، كنتُ حصنًا منيعًا. كنتُ سأراها قادمة من بعيد. حياة ما قبل جارلا تبدو فجأة شيئاً رائعاً؛ لم أكن أعرف حتى ما كنتُ أفتقده.

عندما أغادر البار وأرفع بصري نحو الشرفة حيث الحفلة، أراها فعلاً. أشعر بأنني متطفلة لكني أظل واقفةً أراقب، حتى يبدو كلانا غريباً عن الآخر. حتى من هذه المسافة وتحت أضواء الديسكو، يبقى هيكلها العظمي المبهر واضحاً.بالمقارنة بها، أنا مثل شطيرة. كائن غير بشري وغير ضار. أحاول تذكر شطيرة أكلتها في الصف الرابع ولا أستطيع. لا أتذكر حتى واحدة من شهر مضى. جميعنا يجب أن نكون مثل شطائر الصف الرابع بالنسبة لها.

لا أدرك أن هذه هي نفس الشقة التي التقينا فيها لأول مرة إلا بعد دخولي إلى السوييت والتجول فيها. يجفف هذا يديّ وقدمي بسرعة؛ الخط المستقيم يتحول إلى دائرة.

مع تقدم الليل، أشعر أنني أعود بالزمن إلى الوراء. عندما أدخل، تحتضنني جارلا وتقبّل خدي، لكنني أريد تعويضًا. تركتُ عملي وعشتُ أسبوعًا من الجحيم، وهي لن تعيد إلى حياتي بمجرد ابتسامة عابرة أو عبوس. ربما أكون قابلة للاستبدال، لكن ليس عليّ أن أكون سعيدة بذلك.

أعود إلى مقعدي القديم بجوار النافذة وأبدأ بالشرب بشراهة. تتغير الأضواء بألوان توحي بأنني أتحرك بسرعة كبيرة، وهذه بالضبط السرعة التي أريدها. إنه اندفاع كالقفز بالمظلة. أطلِق إلى جارلا نظرات عبوس تقول: "انظري، أنا لا أتمسك بأي شيء. أنا في سقوط حر." إنها تفرك قطع الشوكولاتة على شفتيها كمرطب، بينما يجذبها الرجال إلى جانبها كالمغناطيس. وجه جارلا هو جهاز طرد مركزي يفصل الواثقين عن الضعفاء والغيورين، وقد تم طردي إلى الخارج.

أتعثر نحو الحمام، أخرج هاتف جارلا المرصع. جزء مني يريد رميه في المرحاض، أو على الأقل اختبار ما إذا كان سينزلق من فتحة القاع. أريد التقيؤ عليه لكنه لامع جداً، مع كريستالاته المتلألئة ورؤيتي الثملة المشوشة، فلا أصيب الهدف. بدلاً من ذلك، يسقط القيء في الماء ويهوي الهاتف على الأرض. عندما أنهي وألصق خدي بالأرض، يبدو الهاتف كنزاً خلف مكبس المرحاض. أمسكه وأفتحه، أطرق عليه عشوائياً، آملاً أن يتصل بصديق سيأتي لإنقاذي.

لكنه هاتف جارلا، لذا يتصل بها. أغلق الخط، لكن بعد دقائق تقف فوقي بوضعية أمازونية، ساق على كل جانب من جسدي. "سأضعكِ في نعش صغير"، تقول بينما تلف ورق التواليت وتضربه على خديّ الرطب.

"أتمنى لو فعلتِ."

لم تُعجبها شفقتي على نفسي. أشاهدها وهي ترمي كأس المارتيني من النافذة إلى الباحة، حيث ينكسر.

"اذهبي إلى المنزل واستريحي يا دكتورة التلفاز."

بعد مغادرتها، يدخل حارس شخصي ويحملني بنظرة ممتعضة، كأنه يُفرّغ وعاءً ممتلئًا بالبول. يساعدني في دخول التاكسي، وأنا أغادر، أرى خيوط أضواء جارلا الملونة تلمع في الباحة بالطابق العلوي.

أتحقق من حقيبتي في ذعر لأتأكد من وجوده: هاتف جارلا، الجوهرة. الكنز الملعون الذي جلب المصائب مع الثروة. يتلألأ في حجري، جميل أكثر من أن يُوثَق به. يقترب التاكسي من شقتي، وأشعر برغبة في ترك الهاتف خلفي على المقعد ليجده شخص آخر. لكنني لن أفعل. بدلاً من ذلك، سأذهب للمنزل وأنتظر اتصالها لتحولني إلى شيء مميز طالما أرادت، وهذه المرة لن أنسى أن أكون ممتنة.

(تمت)

***

........................

الكاتبة: أليسا ناتينج / Alissa Nutting (مواليد 1980) كاتبة أمريكية وأستاذة للكتابة الإبداعية وكاتبة سيناريو تلفزيوني. حصلت على درجة البكالوريوس من جامعة فلوريدا وماجستير الفنون الجميلة من جامعة ألاباما. خلال وجودها في جامعة ألاباما، شغلت منصب محررة في "بلاك واريور ريفيو". درّست ناتينج الكتابة الإبداعية في جامعة جون كارول وجامعة نيفادا، لاس فيغاس وكلية جرينيل. نُشرت كتاباتها في مجلات "تين هاوس" و"فينس" و"بومب" ومجموعة الحكايات الخيالية "أمي قتلتني، أبي أكلني".

 

تاليف: فرجينيا وولف

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قبل حوالي خمسين عامًا، كانت السيدة غيج، أرملة مسنة، تجلس في كوخها في قرية تدعى سبيلزبي في يوركشاير. على الرغم من كونها عرجاء وضعيفة البصر، كانت تبذل جهدها لإصلاح زوج من الأحذية الخشبية، إذ لم يكن لديها سوى بضعة شلنات تعيش عليها أسبوعيًا. وبينما كانت تدق على الحذاء، فتح الباب ساعي البريد وألقى بريدًا في حجرها. كان الخطاب موجهًا إلى: "السادة ستاغ وبيتل، 67 الشارع الرئيسي، لويز، ساسكس."

فتحته السيدة غيج وقرأت:

"عزيزتي السيدة، نكرمك بإبلاغك بوفاة أخيك السيد جوزيف براند."

قالت السيدة غيج: "يا للهول! أخي جوزيف العجوز رحل أخيرًا!"

وتابع الخطاب: "لقد ترك لك كل ممتلكاته، والتي تشمل منزل سكنى، وإسطبل، وأكواخ الخيار، وآلات تقطيع، وعربات يدوية، وما إلى ذلك في قرية رودميل، قرب لويس. كما أوصى لك بكامل ثروته؛ أي: 3000 جنيه إسترليني.

كادت السيدة غيج أن تقع في النار من شدة الفرح. لم تَرَ أخاها منذ سنوات طويلة، وبما أنه لم يرد حتى على بطاقات عيد الميلاد التي كانت ترسلها له كل عام، ظنت أن عاداته البخيلة، التي عرفتها منذ الطفولة، جعلته يبخل حتى بطابع رد عليها. لكن الآن، تحول كل شيء لصالحها. بثلاثة آلاف جنيه، ناهيك عن المنزل وما إلى ذلك، يمكنها وعائلتها العيش في رفاهية إلى الأبد.

قررت زيارة رودميل فورًا. أقرضها قس القرية، القس صموئيل تالبويز، جنيهين وعشرة جنيهات إسترلينية لدفع أجرة سفرها، وفي اليوم التالي اكتملت جميع الاستعدادات لرحلتها. كان أهمها رعاية كلبها شاج أثناء غيابها، فرغم فقرها، كانت مولعة بالحيوانات،وغالبًا ما كانت تقتطع من طعامها كي لا تحرم كلبها من عظمه.

وصلت إلى لويز في وقت متأخر من ليلة الثلاثاء. في تلك الأيام، يجب أن أخبرك، لم يكن هناك جسر فوق النهر في ساوثيز، ولم يكن الطريق إلى نيوهيفن قد شُق بعد. للوصول إلى رودميل، كان يجب عبور نهر أوز عبر مخاضة، لا تزال آثارها موجودة، لكن هذا كان ممكنًا فقط عند انخفاض المد، عندما تظهر الحجارة في قاع النهر فوق الماء. كان المزارع السيد ستيسي متجهًا إلى رودميل بعربته، وعرض عليها أن يأخذها معه. وصلا إلى رودميل حوالي التاسعة مساءً في ليلة نوفمبر، وأشار السيد ستيسي بلطف إلى المنزل في نهاية القرية الذي تركه لها أخوها.

طرقت السيدة غيج الباب. لم يجب أحد. طرقت مرة أخرى. صرخ صوت غريب جدًا وعالٍ: "ليس في المنزل!" اندهشت لدرجة أنها لو لم تسمع خطوات قادمة لفرت هاربة. ومع ذلك، فتحت الباب امرأة عجوز من القرية تدعى السيدة فورد.

سألت السيدة غيج:

"من الذي صرخ 'ليس في المنزل'؟"

أجابت السيدة فورد بضيق، مشيرة إلى ببغاء رمادي كبير:

"اللعنة على هذا الطائر! يكاد يصم أذني بصراخه. يجلس طوال اليوم منحنيًا على مجثمه مثل تمثال يصرخ 'ليس في المنزل' كلما اقتربت منه."

كان طائرًا جميلًا، كما رأت السيدة غيج، لكن ريشه كان مهملًا. قالت:

"ربما يكون حزينًا، أو جائعًا."

لكن السيدة فورد قالت إنه مجرد طباع سيئة؛ فهو ببغاء بحار تعلم لغته في الشرق. ومع ذلك، أضافت أن السيد جوزيف كان شديد التعلق به، وأطلق عليه اسم جيمس، ويُقال إنه كان يتحدث معه كما لو كان عاقلًا.

سرعان ما غادرت السيدة فورد. على الفور، ذهبت السيدة غيج إلى حقيبتها وأحضرت بعض السكر الذي كان معها وقدمته للببغاء، قائلة بألطف نبرة أنها لا تقصده بأذى، بل هي أخت سيده القديم، جاءت لتمتلك المنزل، وسوف تتأكد من أنه سعيد قدر الإمكان. ثم أخذت فانوسًا وتجولت في المنزل لترى نوع الممتلكات التي تركها لها شقيقها.

كانت خيبة أمل مريرة. كانت هناك ثقوب في جميع السجاد. سقطت قيعان الكراسي. ركضت الفئران على طول رف الموقد. كانت هناك فطريات كبيرة تنمو في أرضية المطبخ. لم يكن هناك قطعة أثاث بقيمة سبعة بنسات ونصف بنس؛ ولم تفرح السيدة غيج إلا بالتفكير في الثلاثة آلاف جنيه إسترليني الموجودة بأمان في بنك لويز.

قررت أن تتوجه إلى لويز في اليوم التالي للمطالبة بمالها من المحاميين ستاج وبيتل، ثم تعود إلى منزلها بأسرع ما يمكن. عرض عليها السيد ستيسي، الذي كان ذاهبًا إلى السوق ببعض الخنازير من سلالة بيركشاير الجيدة، أن يأخذها معه مرة أخرى، وحكى لها قصصًا مرعبة عن شباب غرقوا أثناء محاولتهم عبور النهر عند المد العالي.في مكتب السيد ستاج، كانت خيبة أمل كبيرة تنتظر المرأة المسكينة. قال لها بجدية:

"تفضلي بالجلوس، سيدتي. الحقيقة هي أنه يجب عليك الاستعداد لسماع أخبار غير سارة للغاية. منذ أن كتبت إليك، راجعت أوراق السيد براند بعناية. أأسف لأنني لم أجد أي أثر للثلاثة آلاف جنيه. ذهب شريكي، السيد بيتل، بنفسه إلى رودميل وفتش المكان بدقة. لم يجد شيئًا على الإطلاق – لا ذهبًا ولا فضة ولا أي أشياء ثمينة – باستثناء ببغاء رمادي جميل أنصحكِ ببيعه بأي ثمن. لغته، كما قال بنجامين بيتل، شديدة الوقاحة. لكن هذا ليس مهمًا الآن. أخشى أن رحلتك كانت دون جدوى. العقار متداعٍ، وبالطبع نفقاتنا كبيرة."

هنا توقف، وعرفت السيدة غيج أنه يريدها أن تغادر.

كانت على وشك الجنون من خيبة الأمل. لم تكن قد اقترضت جنيهين وعشرة شلنات من من القس صموئيل تالبويز فحسب، بل ستعود إلى منزلها خالية الوفاض،  إذ ستضطر لبيع الببغاء جيمس لدفع أجرتها. كان المطر يهطل بشدة، ومع ذلك يضغط عليها السيد ستاج للبقاء، وكانت غارقة في الحزن لدرجة أنها لم تهتم بما تفعله. على الرغم من المطر، بدأت تمشي عائدة إلى رودميل عبر الحقول.

كانت السيدة غيج، كما ذكرتُ سابقًا، تعاني من عرج في ساقها اليمنى. في أفضل الأوقات، كانت تمشي ببطء، والآن، مع خيبة أملها والوحل على الضفة، كان تقدمها بطيئًا للغاية. بينما كانت تسير ببطء، أظلم النهار أكثر فأكثر، حتى بالكاد استطاعت البقاء على الطريق المرتفع بجانب النهر لعلك سمعتها تتذمر وهي تمشي، وتشكو من أخيها الماكر جوزيف، الذي سبب لها كل هذا العناء. قالت: «أرسلني في مهمة خاصة فقط ليضايقني، كان دائمًا طفلًا قاسيًا عندما كنا صغارًا. كان يستمتع بتعذيب الحشرات المسكينة، وقد رأيته بعيني يقص شعيرات يرقة بشعة بالمقص أمامي مباشرة. وكان بخيلًا لدرجة لا تُحتمل. كان يخفي مصروفه في شجرة، وإذا قدّم له أحدهم قطعة كعك مغطاة بالسكر في الشاي، كان يقطع الجزء المسكّر ويحتفظ به لعَشاءه. لا أشك لحظة في أنه الآن يتلظى في نار جهنم، ولكن ما الفائدة من ذلك بالنسبة لي؟»

وبالفعل، لم يكن هناك عزاء يذكر، إذ اصطدمت فجأة ببقرة كبيرة كانت تسير على الضفة،   وسقطت في الوحل.

نهضت بقدر ما تستطيع وواصلت السير. شعرت كما لو أنها تمشي منذ ساعات. كان الظلام الآن دامسًا، وبالكاد تستطيع رؤية يدها أمام أنفها. فجأة تذكرت كلمات المزارع ستيسي عن المخاضة. قالت: " يا إلهي، كيف سأجد طريقي للعبور؟ إذا عاد المد، فسأدخل في مياه عميقة وأُجرف إلى البحر في لمح البصر! غرق الكثيرون هنا؛ ناهيك عن الخيول والعربات وقطعان الماشية وأكوام القش."

في الواقع، مع الظلام والوحل، وجدت نفسها في مأزق صعب. بالكاد كانت ترى النهر نفسه، ناهيك عن معرفة ما إذا كانت وصلت إلى المخاضة أم لا. لم تكن هناك أضواء مرئية في أي مكان، لأنه، كما قد تعلم، لا يوجد منزل أو كوخ على ذلك الجانب من النهر أقرب من "آشام هاوس"، مقر السيد ليونارد وولف سابقًا. بدا أنه ليس لديها خيار سوى الجلوس وانتظار الصباح. لكن في عمرها، ومع الروماتيزم في جسدها، قد تموت من البرد القارس. ومن ناحية أخرى، إذا حاولت عبور النهر، فمن شبه المؤكد أنها ستغرق.كانت في حالةٍ من البؤس لدرجة أنها لَتَتمنى لو أصبحت بقرةً في الحقل! لم يكن في مقاطعة ساسكس كلها عجوزٌ أكثر بؤسًا منها؛ واقفةً على ضفة النهر، لا تدري أيَخيرٌ تختار: أن تجلس، أم تسبح، أم تتقلب في العشب المبتلّ وتنام – أو تتجمد حتى الموت – فليكن ما قدّر القدر!

في تلك اللحظة، حدث شيء عجيب. انطلقت في السماء كتلة ضخمة من النور، كشعلة هائلة، أضاءت كل عشبة، وكشفت لها عن المخاضة التي لم تكن تبعد عنها أكثر من عشرين ياردة. كان المد منخفضًا، وكان العبور سيكون سهلاً لو لم ينطفئ الضوء قبل أن تعبر.

قالت وهي تتعثر عبر الطريق:

"لا بد أن هذا مذنب أو شيء غريب من هذا القبيل!"

استطاعت أن ترى قرية رودميل بوضوحٍ أمامها.. صاحت:

"يا ربنا! هناك منزل يحترق – الحمد لله!"

فقد حسبت أن احتراق المنزل سيستغرق دقائق على الأقل، وفي ذلك الوقت ستكون قد وصلت إلى القرية.قالت وهي تسير ببطء على الطريق الروماني:

"حتى الريح العاصفة تنفع بعض الناس."

وبالفعل، كانت ترى كل شبر من الطريق، وكانت على وشك الوصول إلى شارع القرية عندما خطر لها لأول مرة: "ربما يكون منزلي أنا هو الذي يحترق أمام عيناي!"وكان حدسها صحيحًا تمامًا.طفل صغير يرتدي بيجامة نوم قفز نحوها صارخًا:

"تعالي وانظري إلى منزل جوزيف براند العجوز يحترق!"

كان كل القرويين واقفين في حلقة حول المنزل، يمررون دلاء الماء المملوءة من بئر مطبخ "منزل الرهبان"، ويرمونها على النيران. لكن النار كانت قد اشتدت، وفي اللحظة التي وصلت فيها السيدة غيج، سقط السقف.

صاحت:

"هل أنقذ أحد الببغاء؟"

قال القس جيمس هوكسفورد:

"كوني ممتنة أنكِ لستِ داخل المنزل، سيدتي. لا تقلقي على المخلوقات البكماء. لا أشك أن الببغاء قد اختنق برحمة على مجثمه."

لكن السيدة غيج كانت مصممة على أن تتأكد بنفسها. اضطر القرويون إلى منعها، وقالوا إنها لا بد أن تكون قد جنَّت لتعرض حياتها للخطر من أجل طائر.

قالت السيدة فورد:

"المسكينة العجوز، لقد فقدت كل ممتلكاتها، ما عدا صندوقًا خشبيًا قديمًا به ملابس نومها. لا شك أننا كنا سنصاب بالجنون لو كنا في مكانها."

وهكذا، أخذت السيدة فورد بيد السيدة غيج وأخذتها إلى كوخها، حيث ستبيت الليلة. وقد انطفأت النيران، وذهب الجميع إلى منازلهم ليناموا.

لكن السيدة غيج المسكينة لم تستطع النوم. ظلت تتقلب في فراشها، تفكر في حالتها البائسة، وتتساءل كيف ستعود إلى يوركشاير وتسدد للقس صموئيل تولبويز المال الذي تدين به. وفي الوقت نفسه، كانت أكثر حزنًا على مصير الببغاء جيمس. فقد أعجبت بالطائر، وظنت أنه لا بد أن يكون لديه قلب حنون ليكون حزينًا إلى هذا الحد على وفاة جوزيف براند العجوز، الذي لم يفعل معروفًا لأحد في حياته. لقد كان موتًا فظيعًا لطائر بريء، فكرت؛ ولو أنها وصلت في الوقت المناسب، لخاطرت بحياتها لإنقاذه

كانت مستلقية على السرير تفكر في هذه الأمور، عندما فاجأها صوت طرق خفيف على النافذة. تكررت الطرقة ثلاث مرات. نهضت السيدة غيج من سريرها بأسرع ما يمكن وتوجهت إلى النافذة. هناك، ولدهشتها البالغة، كان هناك ببغاء ضخم يجلس على حافة النافذة.

كان المطر قد توقف، وكانت ليلة مقمرة جميلة. شعرت بالذعر في البداية، لكنها سرعان ما تعرفت على الببغاء الرمادي، جيمس، وغمرتها السعادة بنجاته. فتحت النافذة، وداعبت رأسه عدة مرات، وأمرته أن يدخل. لكن الببغاء رد بهز رأسه بلطف من جانب إلى آخر، ثم طار إلى الأرض، ومشى بضع خطوات، والتفت كما لو كان يتأكد من أن السيدة غيج ستتبعه، ثم عاد إلى حافة النافذة حيث كانت تقف مذهولة.

قالت لنفسها: "هذا المخلوق يفهم أكثر مما نعرف." ثم قالت بصوت عالٍ، وكأنها تخاطب إنسانًا:

"حسنًا يا جيمس، سأتبع إرشادك. فقط انتظر لحظة حتى أرتدي شيئًا مناسبًا."

وهكذا، ربطت مئزرًا كبيرًا، ونزلت بهدوء على أطراف أصابعها، وخرجت دون أن توقظ السيدة فورد.

كان الببغاء جيمس راضيًا تمامًا. بدأ يقفز بضع ياردات أمامها في اتجاه المنزل المحترق. تبعته السيدة غيج بأسرع ما تستطيع. قفز الببغاء، وكأنه يعرف طريقه تمامًا، إلى الجزء الخلفي من المنزل، حيث كانت المطبخ في الأصل. لم يبقَ منه الآن سوى الأرضية من الطوب، التي كانت لا تزال تقطر بالماء الذي أُلقِيَ لإخماد الحريق.

وقفت السيدة غيج مذهولة بينما كان جيمس يقفز هنا وهناك، ينقر بمنقاره، كما لو كان يختبر الطوب. كان منظرًا غريبًا، ولولا أن السيدة غيج اعتادت العيش مع الحيوانات، لربما فقدت صوابها وهربت عائدة إلى المنزل.

لكن أغرب الأشياء لم تحدث بعد. طوال هذا الوقت، لم ينطق الببغاء بكلمة واحدة. فجأة، دخل في حالة من الإثارة الشديدة، رفرف بجناحيه، ونقر الأرض بمنقاره مرارًا، وصاح بصوت حاد: "ليس في المنزل! ليس في المنزل!" لدرجة أن السيدة غيج خافت أن يستيقظ كل سكان القرية.

قالت وهي تهدئه: "لا تبالغ يا جيمس، ستؤذي نفسك." لكنه كرر هجومه على الطوب بعنف أكبر من قبل.

قالت السيدة غيج وهي تفحص أرضية المطبخ بعناية:

"ما الذي يمكن أن يعنيه هذا؟"

كان ضوء القمر ساطعًا بما يكفي ليريها عدم انتظام بسيط في وضع الطوب، كما لو أنه نُزِع ثم أُعيد وضعه بشكل غير مستوٍ. كانت قد ثبتت مئزرها بدبوس أمان كبير، فاستخدمته لتحريك الطوب، ووجدت أنه كان مرصوصًا بشكل غير محكم. سرعان ما رفعت أحد القوالب  بيديها.

ما إن فعلت ذلك حتى قفز الببغاء إلى الطوبة المجاورة، ونقرها بمنقاره بذكاء، وصاح: "ليس في المنزل!" مما فهمت السيدة غيج أنه يأمرها بنزعها أيضًا. وهكذا، استمرا في نزع الطوب تحت ضوء القمر، حتى كشفا مساحة طولها ستة أقدام وعرضها أربعة أقدام ونصف.

بدا أن الببغاء يعتقد أن هذا يكفي. لكن ماذا بعد؟

استراحت السيدة غيج، وعقدت العزم على أن تتبع سلوك الببغاء جيمس تمامًا. لكنها لم تُترك لترتاح طويلاً. بعد أن خدش الأرض الرملية لبضع دقائق – كما تخدش الدجاجة الأرض بمخالبها – كشف عن شيء بدا في البداية ككتلة صفراء مستديرة.

أصبح الببغاء في غاية الإثارة، لدرجة أن السيدة غيج ساعدته. ولسوءتها، وجدت أن المساحة التي كشفوها كانت مليئة بلفائف طويلة من هذه الحجارة الصفراء المستديرة، مرصوصة بانتظام لدرجة أن تحريكها كان مهمة صعبة. لكن ما هذه؟ ولماذا خُبئت هنا؟ لم يعرفا الحقيقة إلا بعد أن نزعا الطبقة العليا بأكملها، ثم وجدا تحتها قطعة من القماش المشمع. عندها ظهر أمام أعينهما منظر معجز – آلاف الجنيهات الذهبية الجديدة اللامعة، مصفوفة في صفوف متتالية، تلمع تحت ضوء القمر!

كان هذا، إذن، مكان اختباء البخيل؛ وقد تأكد من أن لا يكتشفه أحد من خلال اتخاذ احتياطين استثنائيين: أولا بنى موقدًا فوق المكان الذي خبأ فيه كنزه، بحيث لا يمكن لأحد أن يخمن وجوده إلا إذا دمر الحريق الموقد.وثانيا غطى الطبقة العليا من الجنيهات بمادة لزجة، ثم لفها بالتراب، بحيث لو كُشِفَت واحدة بالصدفة، لظنها أي شخص حصاة عادية.وهكذا، لم يُكتَشَف خداع جوزيف العجوز إلا بفضل المصادفة الغريبة – الحريق وذكاء الببغاء.

عملت السيدة غيج والببغاء بجد، ونقلا الكنز كله – الذي كان ثلاثة آلاف جنيه بالضبط – إلى مئزرها المفروش على الأرض. وعندما وُضِعَت القطعة الأخيرة، طار الببغاء في الهواء منتصرًا، وحط برفق على رأس السيدة غيج. وهكذا عادا إلى كوخ السيدة فورد، بخطى بطيئة جدًا، لأن السيدة غيج عرجاء، كما قلت من قبل، والآن كان مئزرها مثقلاً بالذهب. لكنها وصلت إلى غرفتها دون أن يعلم أحد بزيارتها للمنزل المحترق.

في اليوم التالي، عادت إلى يوركشاير. قام السيد ستيسي مرة أخرى باصطحابها إلى لويز، وكان مندهشًا بعض الشيء من ثقل الصندوق الخشبي للسيدة غيج. لكنه كان رجلاً هادئًا، فخلص إلى أن أهل رودميل الطيبين أعطوها بعض الأشياء المتفرقة لمواساتها في خسارتها الفادحة لجميع ممتلكاتها في الحريق.بدافع من طيبة قلبه،عرض السيد ستيسي شراء الببغاء منها بنصف كراون؛ لكن السيدة غيج رفضت بعنف، قائلة إنها لن تبيع الطائر حتى لو عُرض عليها كل ثروات الهند. مما جعله يستنتج أن العجوز قد فقدت صوابها من شدة ما مرّت به من مصائب.

كل ما تبقى قوله هو أن السيدة غيج عادت إلى سبيلسبي بسلام، وأخذت صندوقها الأسود إلى البنك، وعاشت مع الببغاء جيمس وكلبها شاج في راحة وسعادة حتى سن متقدمة.

لم تُخبر رجل الدين (ابن القس صموئيل تولبويز) بالقصة كاملة إلا وهي على فراش الموت، مضيفة أنها متأكدة أن الببغاء جيمس هو الذي أشعل النار في المنزل عمدًا، الذي أدرك الخطر الذي يتهددها على ضفة النهر، فطار إلى المطبخ وقلب موقد الزيت الذي كان يُبقي بعض الفتات دافئًا لعشائها.   بهذا الفعل، لم ينقذها من الغرق فحسب، بل كشف عن الثلاثة آلاف جنيه، التي لم يكن من الممكن العثور عليها بأي طريقة أخرى. قالت:

" إن هذا هو جزاء الإحسان إلى الحيوانات."

ظنّ القسّ أن عقلها قد بدأ يذهب. ولكن المؤكد أنه في اللحظة ذاتها التي فارقت فيها أنفاسها الحياة، صرخ الببغاء جيمس بصوت عالٍ: «ليس في المنزل! ليس في المنزل!» وسقط عن مجثمه ميتًا كالحجر. أما الكلب شاغ، فقد مات قبل ذلك بعدّة سنوات.

يمكن لزوار رودميل اليوم أن يروا أنقاض المنزل الذي احترق قبل خمسين عامًا.

ويقول البعض إنك إذا زرته في ضوء القمر، قد تسمع ببغاءً ينقر بمنقاره على المصنوعة من الطوب، بينما رأى آخرون امرأة عجوز تجلس هناك مرتدية مئزرًا أبيض.

(تمت)

***

...................

المؤلفة: أديلاين فرجينيا وولف (25 يناير 1882 - 28 مارس 1941) كاتبة إنجليزية، تُعدّ فرجينيا وولف من أبرز كُتّاب الحداثة وأكثرهم غزارة في الإنتاج، حيث كتبت تسع روايات، ومسرحية واحدة، وأكثر من خمسة مجلدات من المقالات والبورتريهات والمذكرات والمراجعات، وأكثر من أربعة عشر مجلدًا من اليوميات والرسائل، وستًا وأربعين قصة قصيرة. طوّرت وولف في رواياتها أسلوبًا في الكتابة يُتيح للقارئ التفاعل مع بنية الرواية ومحتواها. منذ اللحظة التي بدأت فيها الكتابة، وضعت وولف خطةً لمسيرتها الأدبية: إعادة صياغة الرواية كما كانت تُعرف آنذاك. وتُعدّ كل رواية من رواياتها شاهدًا على التطور الواعي لفرجينيا وولف ككاتبة تجريبية. اشتهرت بتطوير تقنية "تيار الوعي" في السرد الأدبي، والتي غيّرت شكل الرواية الحديثة. . من أبرز أعمالها الروائية:  السيدة دالواي (1925) و إلى المنارة (1927و أورلاندو (1928) وغرفة تخص المرء وحده (1929) .

 

بقلم: أليكسيس ستراتون

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

- هل لديكِ حبيب؟

كان هذا من أول الأسئلة التي طرحها عليّ طالباتي عندما وقفت أمام صفهم في اليوم الأول من العام الدراسي. ثلاثون رأسًا بشعرٍ داكن، ثلاثون زوجًا من العيون السوداء، ثلاثون زيًا باللونين الأزرق والأبيض، ثلاثون فتاة يتهامسن ويضحكن.

قلت مهدئةً ضحكاتهن:

- لا بأس، لا، لا يوجد حبيب.

رفعت فتاة أخرى يدها. وعندما أشرت إليها بالكلام، همست لزميلتها الجالسة بجانبها. تبادلتا حديثًا قصيرًا، ثم تكلمت الثانية:

- هي تريد أن تعرف عن الحب الأول. أول حب للمعلمة.

- الحب الأول؟

التفتُّ نحو السبورة، ثم نظرت إلى السقف، أفكر في ما يمكنني قوله.

- حسنًا، كان هناك شاب أحببته في فترة الجامعة.

تنهدت ثم استدرت مجددًا لأواجههن.

- كنا صديقين مقرّبين، لكن في يوم ما، كان علينا أن نقول وداعًا.

- لماذا؟

سألت الطالبات، بالإنجليزية والكورية معًا.

- لماذا، يا معلمة؟

- كان من بلد آخر. وكان عليه أن يعود إليه.

تنهدت الطالبات جميعًا تقريبًا في نفس واحد، وهنّ يومئن برؤوسهن، وكأنهن فهمن.

- محزن جدًا، يا معلمة.

أومأت الفتاة التي طرحت السؤال أيضًا، ثم نظرت إلى الورقة على مكتبها.

***

كانت تجلس عند البار، تسند ذقنها إلى يدها. شعرها الأسود مربوط على شكل ذيل حصان فوضوي، لكنه من ذلك النوع الذي يبدو مقصودًا أن يكون فوضويًا. خصلة من الغرة تنسدل على جبينها.

كانت تجلس وحدها عند البار. ظننتُ أنها ربما أمريكية-كورية أمريكية. حتى في أماكن مثل "كاسا كابانا"، نادرًا ما يجلس الكوريون بمفردهم.

- ما اسمك؟

في صوتها لمحة خفيفة من لكنة كورية، كلماتها مشوهة قليلًا. من حولنا، وخلفنا، كانت أغنية بوب أمريكية تنساب من مكبرات الصوت، من ذلك النوع الذي اعتاد والداي تشغيله خلال رحلات السيارة الطويلة عبر البلاد.

- هايدن. هايدن بيري.

- أليس هذا اسمًا لصبي؟

- إنه اسم عائلي.

حاولت ألا ألاحظ ابتسامتها وسط ظلال الإضاءة الخافتة في البار. زوايا شفتيها الورديتين ارتفعت قليلًا، وانتظرت أن تظهر أسنانها، لكنها لم تفعل. قالت:

- اسمي مينجي، هان مينجي.

كانت هاريسو رجلًا في السابق. إنها من أجمل الكوريات اللواتي رأيتهن في حياتي. وُلدت باسم لي كيونغ-يوب، لكنها في نهاية التسعينيات أصبحت امرأة تُدعى هاريسو. في إحدى الليالي، اكتشفها وكيل أعمال في نادٍ ليلي، وسرعان ما أصبحت عارضة أزياء خارقة ونجمة مشهورة في كوريا وخارجها. أصدرت خمسة ألبومات منذ عام 2000، وتزوجت من حبيبها آنذاك ميكي جونغ في 2007، وكانت ثاني شخص في كوريا يغير جنسه قانونيًا.عندما أعلن العارض والممثل الكوري كيم جي-هو عن هويته المثلية في عام 2008، تدفق مستخدمو الإنترنت على موقعه ومدونته، وأمطروه بالإهانات والمضايقات. رفضت وكالته تجديد عقده، وألغت البرامج التلفزيونية استضافته.في العام نفسه، عُثر عليه مشنوقًا في منزله في سيول، وكان يبلغ من العمر 23 عامًا—واحدًا من أربعة نجوم كوريين انتحروا في نفس الشهر. كتب في رسالته أنه يشعر بالوحدة وكان يمرّ بمرحلة صعبة. في "كاسا كابانا"، في الليلة التي تلت وفاة جي-هو، وقف النادل دقيقة صمت احترامًا لروحه، ورفعنا جميعًا كؤوسنا لذكراه.

كان لها أسلوب معين في إزاحة غرتها خلف أذنها اليسرى—دائمًا تلك الجهة. لكنها لم تكن طويلة بما يكفي، فكانت تسقط مجددًا على جبينها، فتعيدها مرة أخرى.يدها على يدي، أطراف أصابعها ناعمة. ضحكة شخص ما في الخلفية.أصابعها على شفتيها، في لحظة تفكير—عبارة قرأتها في مكان ما، أو مثل كوري لا أعرفه بعد، أو ربما كتاب التقطته من مكتبة إنجليزية الأسبوع الماضي—وسألتني: "هل قرأتيه؟"

بشرتها الناعمة على بشرتي، وتساءلت في داخلي: هل تعزف البيانو؟ أخبرتني أنها تفعل، منذ سنوات.في إحدى الليالي، أبعدت خصلة من شعري عن وجهي، وكفها تلامس وجنتي. قالت: "أنتِ جميلة. مثل نجمة سينما." لكنني كنت أعلم أنها تقول ذلك فقط لأنني أمريكية، لأنني بيضاء، لأن هذا ما يُقال—يقولون أنني أشبه ميغ رايان، يقولون جودي فوستر، يقولون...

هززت رأسي وانسحبت مبتعدة، استدرت على المقعد، لكن يدها بقيت على ذراعي أصابعها تضغط على جلدي. تخيلتها بين ذراعيّ، تخيلتنا نحتضن بعضنا في الحديقة، تخيلتنا متشابكتين على أرضية الأوندول الدافئة في نزل قريب.

- رجاءً.

أطراف أصابعها على جلدي، في شعري.

- دعيني أشتري لكِ مشروبًا.

- أنا حقًا أحب أسلوبك، يا معلمة.

كان ذلك بعد الحصة. جاءت ثلاث طالبات للحديث معي—كن يأتين عادة أثناء وقت الغداء. إحداهن، تُدعى "آ-ريم"، كانت تحلم بأن تُصبح معلمة لغة إنجليزية، أرادت أن تعيش في أمريكا وتتقن اللغة. لمست كمّ قميصي. أعجبها أسلوبي. بقي لها عام ونصف، ثم تتخرج—ثم تحقق أحلامها. كانت تعرف ذلك. أخبرتني بهذا في أحد الأيام. أخبرتني أنها تحب أسلوبي.

لم أكن أدرك أن لي "أسلوبًا".

لمست كمّ قميصي الأسود.

- إنه فقط... مختلف تمامًا عن معلماتنا هنا."

أومأت صديقاتها موافقات.

أصبحت ألاحظ هذا بعد حديثنا—المعلمات يرتدين قمصانًا مزركشة بالكشكش، بالتطريز أو الخرز أو الزينة اللامعة، وتنورات مكشكشة أيضًا، مع مساحيق التجميل والأقراط. أما المعلمون فبالقمصان ذات الياقة أو الرسمية، أو بالبدلات والبنطال الرسمي.

سألت آ-ريم، وعيناها تلمعان بالفضول:

-هل يرتدي الناس هكذا في أمريكا؟ هل الكثير من الفتيات يقصصن شعرهن قصيرًا؟

شعرت بيدها على ذراعي. نظرت إليها، وإلى العيون الأخرى التي كانت تترقب إجابتي. صديقاتها فضوليات.

- أعرف الكثير من الناس يلبسون هكذا، نعم. وبعض الفتيات يقصصن شعرهن قصيرًا.

رنّ الجرس. واختفين.

كان النادل يقول لها شيئًا بالكورية، نكتة لم أفهمها، فضحكت. أنصتُ إلى الموسيقى، وتطلعتُ حولي إلى الوجوه - الرجال والنساء، كل تلك البشرة المختلفة، كل تلك الألسنة المختلفة.عندما غادرنا، كانت الشوارع لا تزال مزدحمة، حتى في ساعة متأخرة من الليل. كانت تتكئ عليّ، ذراعها متشابكة مع ذراعي. أضاء نور النيون وجهها، وهجًا أحمر.

-هل تريدين اسمًا كوريًا؟

شعرت بتأثير الشراب على شفتيّ، في خطواتي. ابتسمت.

- ماذا، لكي أصبح أكثر كورية؟ هل تقولين إنني لا أندمج؟

كانت تعمل في شركة أمريكية في سيول - شركة كبيرة كانت ترسلها إلى شيكاغو مرة في السنة لحضور مؤتمر سنوي. في أمريكا، كانت تخبر الناس أن ينادوها "ميني" - "مثل نجمة السينما."

- أحيانًا يأخذ الكوريون أسماء أمريكية في دروس الإنجليزية، كما تعلمين. يمكنك أن تأخذي اسمًا كوريًا.

لافتة نيون مكتوب عليها "نوري بانغ" جذبتنا أقرب فأقرب، وسمعت صوت رجل عجوز خشن يصدح بأغنية كورية من مكان ما في الداخل. نظرتُ إلى أسفل الزقاق، فرأيت المزيد من الأضواء وشممت رائحة الزيت الحلو لطعام الشارع، البائع في نهاية الشارع يبيع كعكات على شكل سمكة محشوة بالفاصوليا الحمراء، يتصاعد البخار من عربته - نهاية مثالية ليوم بارد أو ليلة سكر. ارتعشت رغم سترتي السميكة:

- حسنًا. ماذا ستسمينني؟

أدارتني نحوها ووضعت يديها الباردتين على خديّ. التقطت عيناها عينيّ، وعرفت أن أي شيء ستقوله سيكون حقيقيًا، سيكون ملكي، سيكون ملكنا. قالت:

- "هانول"،  تعني 'الجنة."

***

في ليالي السبت في سيول، تزدحم الحشود في الشوارع، أكتاف تدفع أكتافًا، لا "اعذريني"، لا "آسف". يذهب الشباب إلى النوادي في شينتشون؛ كنت آخذ القطار كل عطلة نهاية أسبوع وأتوجه إلى إيتاوان أو هونغداي أو جونغنو. كنت أترنح نحو "كاسا كابانا" في إيتاوان، الحي الأجنبي، وقد ثملت قليلًا. كانت الوجوه على طول الطريق تصدمني - تشكيلة الألوان، الأصوات، اللهجات، اللغات. لكن بمجرد وصولي إلى "الكاسا"، كما كنا نسمي المكان بحب، كان كل شيء على ما يرام. كنت أرقص على أنغام الموسيقى، أشرب الجعة، أبتسم وأضحك وأفكر، ها أنا ذا. ربما ينتهي بي المطاف في غرفة موتيل مع أحدهم، أو شقة، أو ربما أكتسب أصدقاء ونذهب إلى بار آخر، مكان قريب يمكننا فيه التحدث أو الضحك أو الرقص أو المعرفة، أن نُعرَف.لا يوجد الكثير من الأماكن مثل هذا المكان هنا"، كان الناس يقولون دائمًا عن "الكاسا". وكان هناك كوريون وأجانب وكوريون لا ينتمون إلى كوريا وأجانب لا ينتمون إلى أي مكان، وكنا ندرك جميعًا أن لا أحد منا ينتمي إلى أي مكان، لا أحد منا. إلا هناك - في "الكاسا"، كنا جميعًا ننتمي.وهناك قابلت مينجي.

- ماذا لو فعلت؟

قالتها عندما سألتها إذا كانت ستأتي معي إلى المنزل. أمسكت كأس السوجو الصغير بأناملها برقة، وشفتاها تبتسمان.

***

- هل يعرف والداك؟

- لا، بالطبع لا. في كوريا - حسنًا، لا يمكنك. كما تعلمين.

كانت دائمًا تنظر إلى الأسفل عندما نتحدث عن عائلتها. كانت عيناها تتبعان عروق الخشب في منضدة البار

- لكن الأمور تتغير.

المشهد نفسه، يوم مختلف، البشرة، الوجوه. ألسنة وأصوات وغناء.

- نعم. لكن ببطء.

****

قال لي أخي:

- معظم حالات الانتحار تحدث في سيارات الإيجار.

كان قد حصل للتو على وظيفة في "هيرتز"، وكان يخبرني كثيرًا بقصص عن الأشياء التي يجدها في السيارات المسترجعة - نظارات شمسية باهظة، حذاء منفرد، حمالة صدر على علم الكونفدرالية.قلت:

- هذا كلام فارغ.

كنا نتحدث على الهاتف، بفارق اثنتي عشرة ساعة، من كوريا الجنوبية إلى نورث كارولينا.

- لا، أنا جاد.

كنت أفتش في ثلاجتي عن الفطور.

-    يا إلهي، تريفور.

-    لا يريد الناس أن يفعلوا ذلك في سياراتهم الخاصة. ستفسدها أو شيء من هذا القبيل.

سحبتُ عبوة حليب.

- هل اضطررت لتنظيف دماء أو شيء ما؟

- ماذا لو فعلت؟

***

كانت تهز رأسها.

- الدم مهم جدًا هنا. العائلة مهمة جدًا.

لكن كانت هناك أشياء لن أفهمها أبدًا، أشياء لا يمكن للغة ولا الزمن ولا المكان أن يمنحوني إياها. لا "الكاسا"، ولا الليل، ولا برودة الجو.

- لكن ماذا عن الحب؟ والجنس؟

ثم كنت أنظر إلى سماء الليل، أشعر بوهج النيون البارد كأمواج المحيط تصطدم برأسي، صناجات تصدح وصامتة في آنٍ واحد. قلت:

- أعني، ماذا يفترض بكِ أن تفعلي؟ أن تضاجعي رجلًا أو شيء من هذا القبيل؟

- لا أعرف. لديك عائلة. هذا كل شىء.

***

  • هل أنت ولد أم بنت؟"

صدر الصوت من الأعلى، بالكورية، من مجموعة طالبات في زي موحد - أزرق وأخضر زاهٍ يلمع تحت أشعة الشمس - يتجمعون على طول السور. الفتاة التي قالت ذلك كانت أطول من البقية، تنورتها المزركشة الزرقاء تلامس ركبتيها.كنت في زيارة لدار أيتام في ريف كوريا. في ذلك اليوم الحار بالتحديد، قررت المساعدة في بعض أعمال البناء. كنت أرتدي بنطالًا مبقعة بالإسمنت وقميصًا باليًا.

أجبرت نفسي على الابتسام.

- بنت.

صرختُ عليهن، كانت إجابتي أيضًا بالكورية.

لمست فتاة أكبر سنًا ذراعي. هي وصديقتها كانتا تتحدثان معي معظم الصباح - يسألانني عن أمريكا، ويخبرانني عن أحلامهما، مستقبلهما.

- لا، لا - أنت تبدين كفتاة. من الغباء ألا يميزين."

قالت صديقتها:

- هذا لأنك تعملين بجد.

- نعم، تبدين كفتاة، أيتها المعلمة.

ابتسمنَ لي. نظرتُ مرة أخرى إلى صف الأطفال الذين ينظرون إلي من الأعلى، بشرتي مغطاة بالأوساخ والسخام.

***

سكبتُ لها كأسًا آخر من السوجو.

-هم يعتقدون أن الأمر بيولوجي.

رفعت الكأس إلى شفتيها وتوقفت.

- لكن الآباء لا يعتقدون ذلك عن أطفالهم. لا يعتقدون أن هذا يحدث في كوريا. لذا يمكنكِ أن تكوني كذلك، لكن لا يمكنني أنا.

شربت، عيناها مغمضتان من حدة المشروب. كانت قد شربت أكثر من اللازم، قالت إن يومها في العمل كان صعبًا. وضعت ذراعي حول كتفها؛ تحت الطاولة، لامست ركبتانا بعضهما بالكاد.

فتحت عينيها على اتساعهما بينما تبتلع المشروب، لكنها لم تكن تنظر إلي.

- تعرفين، والداي يريدانني أن أتزوج.

- والداي أيضًا.

دوّرت الكأس بين أناملها، عيناها مثبتتان على شاشة التلفاز، بعض برامج الكوميديا المليئة بالمغامرات مع ضحكات مزعجة مسجلة.

- لديهما شخص يريدانني أن أقابله.

***

سألني سائق التاكسي بالكورية.

- هل أنتِ متزوجة؟"

هززت رأسي نافية.

- صديق؟

مثل هذا الحوار حدث من قبل. وسيتكرر مرة أخرى. هززت رأسي.

- لا. لا يوجد صديق."

تعبير دهشة على وجه سائق التاكسي. ابتسم:

- لماذا لا؟

هززت رأسي وشاهدت لافتات النيون تمر بسرعة.

- لا أعرف.

** **

ما أتذكره هو ذوبان الثلج، المياه المتجمعة على الأرصفة، خطواتي في البرك التي بللت جواربي. أشجار الكرز ببراعمها الوردية المشدودة تقف بثبات على أغصان تبدو هشة. رغبتي في أن أضمها بين يديّ، لأدفئها، لأجعلها تتفتح.

"إلى أين أنت ذاهبة؟"

الليل ويدي على ذراعها. قبسة مسروقة تحت قوس مظلم. التعثر على الدرج. الحرارة المتصاعدة من أرضية الشقة، يداي على خصرها، على ملابسها، في شعرها.

-    لا مكان.

-    مينجي، لا تفعلي. ابقي."

وجهها منعطف عني، يداها تحجبانه، تغطيه. شعرها منحل، كتفاها عاريان.

- لا أستطيع.

***

قال تريفور:

- يجب أن تخبري أمي وأبي..

تجاهلت الأمر، لكنه بالطبع لم يرَ. خارج النافذة، كان المارة يتنقلون تحت المطر، مظلاتهم تتهادى كفسيفساء ملونة.

- على الأرجح أنهم يعرفون بالفعل، هايدن.

- كيف ذلك؟

تنهد من طرف الخط الآخر.

- ليس كما لو أنكِ تستطيعين إخفاء الأمر.

***

في غرفة "نوري بانج"، كانت دائمًا تختار أغاني الحب الأمريكية. في إحدى الليالي، طلبت منها أن تغني أغنية كورية سمعتها، فقالت فقط إذا غنيتها معها. كان صوتها حلوًا ورقيقًا مقارنة بقوتي غير المصقولة. شعرت بحروف العلة الكورية ثقيلة ومتعثرة في فمي.

انتهت الأغنية، وسكتت السماعات، لم يتبق سوى همسة الشاشة في الجو، قالت.

- أحبكِ.

صوتها خافت في الصمت المفاجئ للغرفة، المايكروفون بجانبها.

أمسكتُ بالمايكروفون بشدة، الزر يخترق جلدي.

- لا تقولي ذلك.

- لكنني أحبك بالفعل

كانت تومئ برأسها، واستمرت في الإيماء. سقط المايكروفون من يدها على الأرض، يداها مرتخيتان.تقدمت خطوة نحوها.

- مينجي. أرجوك.

حدقت في الأرض لكنها لم تتحرك - كتمثال، باستثناء رأسها المومئ.اقتربتُ منها وأحطتها بذراعي، هناك في الغرفة المظلمة، وشعرت بوجهها يضغط على كتفي. دفء أنفاسها على جلدي، دموعها الدافئة تتسرب عبر قميصي.

كان هناك رجلان يمسكان بأيدي بعضهما في وقتٍ متأخر من الليل في حي إيتايوون، يتعثران تحت تأثير الشراب — رجلان عجوزان، أجوشي، وجوههما مجعدة بالتجاعيد. كانا يبتسمان، يميل أحدهما على الآخر، يتمتمان بكلمات كورية متلعثمة. عضضت شفتي وأنا أراقبهما يمران، أقدامهما تتفادى البرك المتبقية على الطريق.

قالت لي آ-ريم عندما سألتها عن الأمر بعد الحصة ذات يوم

- هذا لا بأس به، فقط بين الأولاد والبنات لا يجوز. لكن لا بأس بين الأصدقاء. والعائلة.

- وماذا يحدث إذا أمسك ولد وبنت بأيدي بعضهما؟

- حسنًا، هذا يحدث أحيانًا. الأمور تتغير. خاصة في سيول.

**

- وماذا لو فعلتُ أنا؟

هززت رأسي.

- لا تتكلمي هكذا

كانت تخطو ذهابًا وإيابًا، شعرها مبلل من المطر، قطرات تتعلق بأطرافه قبل أن تسقط على قميصها القطني.

- لكن ماذا لو فعلت؟ لا أستطيع— لا شيء... لا شيء...

- توقفي. بالله عليكِ، مينجي— لا يستحق الأمر- حبيبتي -

**

كان تريفور صامتًا على الطرف الآخر من الهاتف.

- تريفور، هل أنت بخير؟

أتناول الحليب وحبوب الإفطار مجددًا. كنت متأخرة.

تنحنح قليلًا.

- أجرنا سيارة لرجل، وهو... واليوم...

أنصتُ لأنفاسه.

ارتجف صوته عندما تحدث مرة أخرى.

- كان لديه ثلاثة أطفال. كان لديه ثلاثة أطفال، وهو...

***

- لا أظن أن بإمكاني رؤيتك مجددًا...

كانت جالسة على سريري، ساقاها متقاطعتان. كان المطر يهطل خارجًا.

- لماذا؟

أخذت وجهي بين يديها، دفعت خصلة شعر عن جبيني.

- عليّ أن أفعل.

- لكنني لا أفهم.

كان شعرها الأسود ينساب على الوسادة، وجهها يبتسم، أسنانها ظاهرة من بين شفتيها. هذا ما أتذكره. يدها في يدي، شفاهها على كأس السوجو، الأغاني في الهواء، ورائحة شعرها، وطريقة سقوط المطر في ذلك الصيف — كان قاسيًا ومروعًا، يغمر الشوارع بجداول لا تنتهي وبرك عميقة. كنت أحمل مظلتي وأمشي في شوارع سيول، وأراها في كل وجه - الشعر الأسود الناعم، العيون الداكنة التي تنظر بعيدًا، ابتسامة خجولة لا تكتمل أبدًا. طلبت منها أن تأتي إلى بيتي، طلبت منها- يدها الصغيرة تضغط على جلدي. ابتسمت لي، لكن بشفتيها فقط:

- هانيول. أنتِ جميلة.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: أليكسيس ستراتون/ Alexis Stratton كاتبة أمريكية من ولاية إلينوي، لكنها عاشت في أماكن عديدة طوال حياتها، من كارولاينا إلى كوريا. تقيم حاليًا في كولومبيا، ساوث كارولاينا، حيث تعمل وتدرّس وتكتب. ظهرت أعمالها مؤخرًا في مجلات أدبية مثل

The Drum Literary Magazine وPure Francis وApparatus Magazine وKorea Infusion.

https://twohawksquarterly.com/2010/09/20/saturday-nights-in-seoul-by-alexis-stratton

بقلم: سالي روني

ترجمة: صالح الرزوق

***

تحدثا في الطريق إلى العيادة السنية عن زيارة عيد الميلاد. كان هذا شهر تشرين الثاني وماريان اقتلعت ضرس العقل، وكونيل يقودها إلى العيادة لأنه صديقها الوحيد الذي يمتلك سيارة، وكذلك الشخص الوحيد الذي تلجأ له في الحالات الطبية المزعجة مثل سن مصاب. وأحيانا يقودها إلى عيادة الطبيب كلما احتاجت لمضاد حيوي ضد عدوى القنوات البولية، وهو حدث متكرر. وحينها كانا في الثالثة والعشرين. توقف كونيل عند زاوية العيادة، فصمتت الإذاعة تلقائيا. كان قد حصل على إجازة صباحية من العمل ليقود ماريان إلى هذا الموعد، ولكنه لم يخبرها بذلك، وبادر بهذا العمل جزئيا وهو تحت الإحساس بالذنب. قبل أسبوع أنبأته ماريان في شقته بالمشكلة، وبعد ذلك اشتكت من وجع في فكها، وأوشك أن يسألها: هل من عادتك التشكي والتذمر؟. ثم تجادلا. وكان كلاهما مخمورا قليلا. تذكرت ماريان الحادث بشكل مختلف. فهي حسب علمها اشتكت لكونيل من الكنبة، ثم صمتت بسبب وجع في فمها. وكان موقفه إيجابيا، ثم مارسا الجنس على مقعد طويل آخر. ولاحقا حينما عاودت الكلام عن فمها، قال كونيل: أنت تشتكين أكثر من الآخرين. وكانا يستلقيان متجاورين على الكنبة. قالت له: هل تقصد بالآخرين صديقاتك الأخريات؟. قال كونيل: لا. وهو يعني الناس، أو أي إنسان آخر. وتابع: أنه لا يعرف أحدا يتذمر أكثر منها.

قالت ماريان: لا تحب الاستماع لشكاوى الناس لأنك عاجز عن التعبير عن تعاطفك.

قال: ولكن أخبرتك أنني متأسف منذ اشتكيت لأول مرة.

قالت: أنت تحب النساء الصابرات لأنك لا تنظر إلى النساء كمخلوقات كاملة.

قال: كل مرة أنتقدك فيها، تحولين الموضوع إلى شيء له علاقة ببغض النساء.

حينها عدلت ماريان من وضعها وجلست، وجمعت شعرها بشكل لفافة، وبحثت عن حباسة لتثبيته، وقالت: أشتبه أنك تعقد علاقات مع أشخاص لا تعرف كيف تحاورهم.

قال: أنت منزعجة وتصبين جام نقمتك علي. ولكنني لست غبيا تماما.

لمست شعرها بيديها لتتأكد أنه مرتب، ثم عادت لتستلقي بجانبه. كانت الكنبة رديئة، وعليها رسوم زهور بنية. قالت: أنت تراني إنسانة راشدة. ولذلك لست منجذبا لي.

- بل منجذب.

- جنسيا وليس عاطفيا.

راقبته وهو ينظر إلى السقف. وكان وجهاهما متقاربين.

قال: أتصور لو أنني متعلق بك عاطفيا لن أتقبل فكرة وجود أصدقاء آخرين لك.

- رغم ذلك في الحقيقة أنت لست مغرما بي.

- أنا لا أحب ذوقك باختيار الأصدقاء. وهذا شيء مختلف.

قالت: هل تعرف ماذا حصل لدانييل. أخبرته أنني أحلم بالزواج، فقال، مني؟. قلت له كلا. من صديقي كونيل. وبقية الجدال لم يكن عنك. ولكن عن أشياء أذكرها عمدا لأزعجه لأنني أستمتع برؤيته وهو مستاء من نفسه.

- آه.

ذهبت ماريان بعد ذلك إلى البيت، متسائلة إن تشكت كثيرا. وفي وقت عودتها إلى شقتها، كان كل رأسها يؤلمها. أخذت زجاجة جين من داخل باب الثلاجة، وصبت القليل في فمها لتجربه. وغرغرت بالكحول البارد حتى غسلت لثتها، فارتفع ألم مبرح في فكها، وترقرقت دموع عينيها. لفظت الجين في مغسلة مطبخها وبدأت تبكي.

في الصباح التالي ذهبت إلى العيادة السنية بمفردها. وفي طريقها فكرت كيف ستخبر طبيب الأسنان عن إحساسها بآلام فكها. وتخيلت نفسها تقول: إنه ليس قويا كل الوقت، ولكنه لا ينفع للجنس الفموي. أخذ الطبيب نظرة سريعة من فمها، ووصف لها مضادات حيوية لعلاج ما وصفه أنه عدوى "بغيضة فعلا". وقال طبيب الأسنان: لا أستغرب أنك تتألمين. فذلك السن مغروس في خدك مثل سكين في الزبدة. وكتب شيئا على ورقة ونظر إليها وأضاف: ما أن تخف العدوى، سأخلصك منه بلا عواقب. وسترتاحين.

وشعرت ماريان بالسعادة العميقة لعلاج ألمها على يد محترفين. والآن لم يبق غيرهما في غرفة الانتظار العلوية. المقاعد بلون النعناع الأخضر الباهت. قلبت ماريان في نسخة من "ناشيونال جيوغرافيك" ولمست سنها بطرف لسانها. نظر كونيل إلى غلاف المجلة، وهي صورة قرد بعينين واسعتين. في تلك الليلة من الأسبوع السابق، اتصلت ماريان به أولا لتخبره أنها انفصلت عن دانيال. كان كونيل في الحمام حينما رن الهاتف فرد باري، شريكه في الشقة. وحينما عاد كونيل، قال باري ببراءة: هيي. ما اسم البنت الغنية التي رافقتها في المدرسة؟ أنت تعرفها. البنت التي رغبت بنكاحها.

رد كونيل وهو يظن أن السؤال بريء: ماريان؟ لماذا؟.

بعد ذلك ألقى باري الهاتف نحوه وقال: أرادت أن تكلمك.

حينما رفع كونيل الهاتف سمع صوت ضحكها.

في غرفة الانتظار كان كونيل يفكر بلورين، صديقته منذ قرابة عشر شهور. فقد انتقلت إلى مانشستر في أيلول ومنذ أسبوعين ضاجعت شخصا آخر وكانت مخمورة. وعندما اعترفت له، لم يخامر أعصابه أية مشاعر، وتساءل إن بقي لديه أي اهتمام بها.

ولعدة أيام، شعر على نحو غامض أنه كئيب ومرهق، ثم نام مع ماريان، التي اتهمته أنه لا ينظر للنساء ك "كائنات كاملات التكوين". ثم أدرك أنه في الحقيقة لا ينظر إلى لورين ك "مخلوقة كاملة الخلقة"، ولكن كشخصية ثانوية في حياته الخاصة. ولهذا السبب، ما تفعله خارج المسرح، لا يعنيه. وبعد أن غادرت ماريان في تلك الليلة، فتح صفحة جديدة في متصفحه وطبع عليها: لماذا أنا متبلد الشعور. في الصباح التالي اتصل بلورين بواسطة السكايبي وأخبرها أنه عليهما أن ينفصلا. وافقته، دون إملاءات. قالت: استمتعنا بوقتنا، ولكن علاقة بعيدة الأجل لم تكن لتنجح. وكان لهذا التصور لمسار علاقتهما القليل من التشابه مع أي شيء فكر أو شعر به. ولذلك هز رأسه وقال: نعم. بالضبط. لم يخبر ماريان بمكالمة سكايبي هذه. كانت دراما سنها مستمرة ولم يود أن يبدو أنه اتخذ قرارا صعبا بعد نومه معها. كانت تقول كلما تكلما: كالزبدة أنا أعاني. والحقيقة أن كونيل لم يفهم الرمز الحقيقي للزبدة وقرر الآن أن الوقت تأخر ويمكنه أن يسأل.

قال: ما هذه الزبدة التي تواصلين الكلام عنها؟.

قالت: أن خدي كالزبدة.

قال: أنت ماذا؟.

- تذكر أن طبيب الأسنان قال إن السن يقطع خدي مثل الزبدة.

حدق كونيل بها من فوق طرف الناشيونال جيوغرافيك الأصفر الذي بيدها.

قال: اللعنة، هل كان فعليا يقطع خدك؟.

- ألم تسمعني؟ كنت أكلمك عنه قرابة أسبوع.

- أحيانا أعتقد أنني فقدت الإرسال معك.

عادت إلى المجلة مستغربة.

قالت: مهارة الحياة.

هل تعلمين أنني قطعت علاقتي مع لورين. هل سمعت بذلك؟.

تظاهرت أنها تقرأ. ولكنه رأى أنها تفكر ماذا تفعل أو تقول. كانت حركة ذهن ماريان شفافة بنظره، وتلمع بومضات سريعة هكذا قبل أن يتابعا.

قالت: لم تذكر الموضوع.

- نعم. هذا حصل.

سعل، ولكنه لم يكن بحاجة لذلك. هذه علامة ضعف، وهو يعلم أن ماريان ترى ذلك، مثل الدم بالماء.

قالت: متى حصل الأمر كله؟.

- قبل أسبوع.

- آها.

لم تنطق "آها". أغلقت المجلة فقط وأعادتها إلى الطاولة الزجاجية الصغيرة بحركة تمثيلية. ابتلع كونيل لعابه. لماذا يبتلع؟ كانت ماريان سيئة في أيام الدراسة ومكروهة من الجميع. وكان يحب التفكير بذلك بطريقة سادية كلما اعتقد أنها ستتغلب عليه في الحوار. في سنته الأخيرة في الجامعة فض بكارتها ثم طلب منها أن تكتم السر، ولكنه لا يعتز بهذه المشاعر الآن. استلقت هناك كأنها تفكر ولماذا أخبر الآخرين بالسر؟ ورأى أن ذلك محير قليلا. شعرت ماريان بالإهانة لأن كونيل لم يخبرها بلورين حتى الآن. وتسترت على هذه المشاعر بتركيز انتباهها الممتعض ببطء على ما يحيط بها. وتساءلت إذا كان كونيل لم يبلغها لأنه يعتقد أنها يائسة. فماريان بنت الثالثة والعشرين عرضة أحيانا لنفس القلق المقيت الذي يميز حياتها البالغة. وفي سنوات جامعتها لم تكن تحتقر الآخرين، ولكن بنفس الوقت تحكم بها الخوف من احتقار الناس. وكان كونيل أول إنسان أعجب بها، ومع ذلك لم يكلمها بحضور أصدقائه. كانت تقلل من قيمة الأشياء لتحتفظ بحبه، ولكنها تتظاهر أن الأشياء لا تقلل شأن شيء. واحتفظت بهدوئها خلال المكالمات التي يجريها.

قال: نعم. توقعت أنك سمعت. كانت قطيعة على السكايبي. ونسبيا سرتها القطيعة.

- لورين بنت ثابتة الجنان.

- قد يكون هذا صحيحا.

نظر من النافذة وحاول أن يتثاءب. كان يمقت نفسه. ولم تكن لديه فكرة عن أفكار ماريان.

رغما عنه وبدوافع ذاتية فكر أنه طيلة وقته مع لورين، لم يدعها إلا بالصدفة. ولكنه مع ماريان يجد الفرصة سانحة على الدوام. وبسيطة لدرجة عظيمة تشبه الحماقة. وطبعا هو يدرك أن هذا لا يدل على أي شيء.

قالت ماريان: حسنا. لا تقلق. نعلم كلانا أننا بمفردنا. ولكنني لا أطلب منك أن تكون شريكي.

- لن أقلق من ذلك. يا للغرابة.

فتح الباب، وخرجت الممرضة تقول: ماريان؟. جاهزة.

نظرت ماريان إلى كونيل، وبادلها النظر. كرهته لدقيقة ولكن الشعور السلبي يزول دائما. لم يتعمد أن ينبه هذه الحاجة الماسة فيها. مع دانييل تشعر بالحرية والتسلط، لأنها لم تتعامل معه بجدية على الإطلاق. ورغبته في إلحاق الأذى بها تؤكد فقط أنه يعتمد عليها. ولكن كونيل ليس بحاجة لشيء، وبرفقته تشعر بالضعف. لمست وجهها بيدها، وتبعت الممرضة إلى غرفة الجراحة. وبعد إغلاق الباب، نهض كونيل ومشى إلى النافذة. نظر إلى الشارع، ورؤوس المارة. كان يوما مشرقا، باردا وأزرق مثل قطع الجليد. وحاول أن لا يفكر بأوجاع ماريان. وهو يعلم أنهم سيخدرون الجزء الضروري من فمها، ولكن أثاره ذلك أيضا. فماريان لم تعرب عن خوفها من معاناتها الفيزيائية. رأى كونيل أشياء سيئة تحدث لها. ومع ذلك، آلمه حين قالت إنها لا تريد أن تكون شريكته، جزئيا لأن ذلك يشبه نكران الجميل. ولكنه لم يزمع أن يطلب منها ذلك. بدأ يقضم إبهامه. حتى شعر أنها احمرت وأصبحت طرية وفقدت قوامها في فمه. في البداية أسعده قطيعتها في آخر الأمر مع دانيال. كان واحدا من مصممي الغرافيك النحيلين بنظارات ذات إطار سميك، وكلام مسهب عن الجندر. جاوره كونيل في البار يوم حفلة عيد ميلاد ماريان، وخلال المحادثة شاهدا مباراة بورنماوث - شيلسي على شاشة كبيرة.

سأله دانييل: هل يهمك من يخسر ويربح؟

قال كونيل: حسنا. شيء من ذاك. سيتراجع بورنماوث إلى مرتبة أدنى إذا خسروا هذه المباراة.

قال دانيال: أقصد من ناحية فلسفية.

كانت هذه محادثة جادة بينهما.

ثم ضحك دانيال قائلا: الذكورة شيء هش.

لم يلمح كونيل لبعض الأمور التي تصادف أنه يعرفها عن سيئات دانيال. لم يذكر مثلا أنه

 يحب أن يربطها ويضربها بالحزام. أراهن أن هذا يجعلك تبدو رجلا قويا.

في قسم الجراحة أعطوا ماريان المخدر. وأدخل طبيب الأسنان أداة حادة في لثة ماريان ليرى إن كانت تشعر بها، ولكنها لم تشعر بشيء. بعد ذلك استعد لخلع السن. في البداية أمكنها سماع صوت طحن. وانعكس ضوء مصباح أبيض متوهج على عينيها من المرآة المعلقة فوقها، ثم شعرت بطعم سادو مازوشي من مطاط قفازات طبيب الأسنان. تلولب شيء ما، وملأ فم ماريان سائل غريب ورقيق. لم يكن له طعم الدم. ثم شعرت بشيء ينزلق على لسانها، شيء ناعم وثقيل، وفجأة انتصبت بجلستها فقال طبيب الأسنان: ابصقيه. بصقت شيئا في يد طبيب الأسنان. كان جزءا صغيرا أصفر من جسمها. والآن شعرت بطعم الدم، ومعه شيء آخر. وآلمها رأسها. التمع السن في راحة طبيب الأسنان مثل القشدة. قال طبيب الأسنان: امرأة ممتازة. أطراف السن مثل شقائق النعمان. وارتجفت ماريان.

يخشى كونيل أنه إنسان فارغ عاطفيا. حاول أن ينظر في عدد الناشيونال جيوغرافيك الموجود على الطاولة. ولكن أعوزه التركيز، وعاود التفكير بأوجاع ماريان. ورطت ماريان نفسها بأمور لا تسعدها. وهذا رأي يشعر كونيل بالذنب حياله. وكان يعلم أنها تجلب على نفسها اللوم بسبب أخطاء لم ترتكبها ببساطة لقوة شخصيتها. كان الآخرون يغشون ماريان وربما بتواطؤ منها، مع أن المفروض أن توقفهم عند حدهم. وأخبرته بأشياء أجبرها دانيال على القيام بها. أشياء يمكن رؤيتها. وقالت: أعلم أنها حماقات. ولم أستمتع بها. ثم ضحكت. وكره ضحكتها تلك.

وضع طبيب الأسنان في فم ماريان ضمادة وطلب منها أن تعض. شعرت بالضعف، كأن سنها طفل مريض ولدته. وتذكرت أن كونيل في صالة الانتظار، وغمرها إحساس بالامتنان، فغرقت بالعرق. احتكت الضمادة بلسانها النائم وامتلأت عيناها بالدموع. انتهى الجانب الطبي من الزيارة. وأعانوها على اقتلاع نفسها من الكرسي كأنها صفحة من جريدة. وفتح باب الجراح والتفت كونيل من النافذة.

أشارت ماريان بحماقة إلى فمها. أعادوا إليها سنها في علبة زجاجية هزتها بوجهه ليخشخش السن في داخلها. كان وجهها مضلعا وغير منتظم مثل خيمة منهارة. وشعر بمشاعر مختلطة. في الجامعة اعتاد أن يتخيل نفسه وهو يلقي ملاحظات ثقافية أو حكيمة أمام ماريان. وهي تخيلات لا يزال يعود إليها مكرها في لحظات الإجهاد. وضحكاتها المتخيلة تهدئ أعصابه.

قال: هل انتهيت تماما؟.

هزت رأسها، وحاولت أن تبلع. شعرت بخطأ في فمها، وأنها دخلت في جسم لا يعود لها.

قال: مر الوقت بسرعة. كيف تشعرين؟.

نفضت كتفيها. وشعرت بالرجفة التي اختزلتها بتنهيدة، وحاولت أن تكبت هذا النوع الخاص من القبح. وبكت تقول: تأخر الوقت. وفركت بحماقة عينيها وأنفها والحفرة المخدرة في خدها الأيمن. انتفضت مجددا. ولكن أصبح بكاؤها، على الأقل، صامتا.

شاهد كونيل ماريان تبكي من قبل مرة واحدة، حينما كانا مراهقين. كان لأمها في ذلك الوقت صديق حميم، يدعى ستيفن. وكان يأتي أحيانا في الليل إلى غرفة ماريان ل 'يتكلم'. ذهبت إلى بيت كونيل في إحدى الليالي بعد ما حصل، وبكت قائلة: أحيانا أعتقد أنني أستحق الأسوأ، لأنني إنسانة سيئة. لم يسمع أبدا شخصا يتكلم هكذا. انتابه الغثيان، ومنذئذ لم يفارقه الغثيان، حتى لو لم يشعر به. كان شيئا لا يتحكم به وخارج سيطرته.

قال: دعينا نذهب إلى السيارة.

في السيارة كانت صغيرة ووحدها. بيد تحمل الإناء وفيه سنها، وباليد الأخرى لفافة إضافية من الشاش لأجل فمها. وضعت الاثنين في حضنها بحرص، ومدت يدها إلى الواقي الموجود فوق مقعدها لتنظر بالمرآة.

قال: لا ضرورة لذلك.

توقفت ويدها على المرآة.

قالت: هل أبدو سيئة لدرجة مريعة؟

كان صوتها مكتوما وعميقا.

قال: بنظري لست سيئة. ولكن يبدو أنك هشة ولا أريد أن أخيفك.

واعتقد أولا أنها تسعل، ثم لاحظ أنها تضحك.

قالت: أبدو سيئة. لماذا لم تعترف لي عن لورين؟.

عجن المقود بيديه. وراقبته يفعل ذلك. مسحت بكمها دمعة تهدد عينها اليسرى، بتكتم.

قال: هذا الكلام المختصر الذي تلقينه على مسامعي عن النظر للنساء ككائنات بشرية. أقلقني بالفعل نوعا ما.

- ماذا، لهذا السبب انفصلت عنها؟.

أثاره هذا السؤال، بطريقة من الطرق، بالإضافة إلى أن ماريان كانت تبكي فعلا. كان يفكر، دون قصد منه، بجسمها العاري. كان ينظر إليه مثل صورة تدل على الضعف وليس الجنس، وربما كان يشعر بالاثنين معا. وهو يعلم أنها ببساطة تبكي بسبب رواسب ألم حقيقي، ولم يكن يستمتع بذلك. غير أن رغبتها أن تكون موضع عنايته لمس شيئا فيه. أوهام وتخيلات تشير بلامبالاتها الباردة ظاهريا لشيء ما. ولاحظت أنه لا يرد على سؤالها المباشر.

راقب حركة المرور كأنه يفكر بشيء آخر. وأملت أن فضولها المفرط يبدو إنكاريا. وهذه استراتيجية ديناميكية تتبناها لتخفي عن كونيل مشاعرها تجاهه. وما تشعر به لا يمكن التعبير عنه بسهولة. الناس يحبون أشياء كثيرة: أصدقاءهم، ذويهم. وسوء التفاهم حتمي.

قال: لا زلت تبكين، أليس كذلك؟.

قالت: يعاودني نفس الشعور. هذا كل شيء.

***

...........................

* سالي روني Sally Rooney كاتبة إيرلندية معاصرة. من أهم أعمالها "محادثة مع الأصدقاء"، و"أناس طبيعيون". القصة مترجمة عن "ذي وايت ريفيو". العدد 18، 2016.

قصة: بوب ثوربر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ليلة الأربعاء، أنا مستلقٍ على الأريكة، أشعر بدوار خفيف من زجاجتين من شراب "روبيتوسين" للسعال، رأسي ينبض وأذناي تشتعلان بتنميل. أشعر بنشوة، لكنها نشوة بائسة، وللأسف هي النشوة الوحيدة التي سأحصل عليها الآن بعد أن وضعت أمي قفل دراجة على خزانة الخمور. أُسند رأسي على مسند الذراع، وأغمض عينًا واحدة، وأتظاهر بمشاهدة كرة السلة مع "والتر"، الذي قدمته أمي على أنه "صديقها الجديد الذي يعيش معنا". أكره مشاهدة أي رياضة على التلفزيون ما عدا التنس، الذي كنت ألعبه سابقًا. لكنني وعدت أمي أن أكون مهذبًا مع والتر طيلة وجودي في المنزل، رغم أن الرجل يشبه نسخة غير مضحكة من الممثل الكوميدي "دون ريكلز" - والذي، بغرابة وسخرية القدر، يزعم والدي أنه أظرف رجل على وجه الأرض.

رسميًا، أنا في المنزل لبضعة أيام فقط، رغم أنني مؤخرًا أفكر جدّيًا في الاستسلام، وإيقاف دروسي، وإنهاء الأمر، لأنه - لنواجه الحقيقة - من الواضح أنني لا أفلح كطالب في إحدى جامعات النخبة.

والتر، الذي تتباهى أمي بأنه مليونير عصامي، يمتلك مستودعًا للوازم السباكة، وأتساءل إن كان بإمكانه أن يوفر لي وظيفة. حتى لو كانت بدوام جزئي، سيكون ذلك جيدًا. أحاول جمع ما يكفي من اللعاب في فمي لفك لساني المتشبث بسقف حنكي، لأسأله إن كان العمل جيدًا، ثم فجأةً، اقترحت أمي عليّ دعوة ضيف إلى عشاء الغد.

تطلق هذا الاقتراح الغريب في اللحظة الأخيرة من مطبخها، حيث تقف وهي ترتدي رداءً ورديًا، ونعالًا وردية، ومئزرًا طويلاً، تعدّ طعامًا يكفي لكتيبة كاملة.

الرائحة الكثيفة للقرع والقرفة الممزوجة بحرارة الفرن العالية وأواني الطبخ البخارية كادت أن تُدخلني في النوم، فأتثاءب وأقول:

- ترجمة من فضلك. عمّ تتحدثين؟

يبدأ الخلاط بالعمل، صوته أعلى من جزازة العشب، ثم يتوقف فجأة. تقول أمي:

- عليك أن تدعو أحدًا، هذا كل شيء.

والتر، الذي يراهن مبلغًا كبيرًا على نتيجة المباراة، يضغط على الزر. ينخفض صوت التلفزيون. أراقبه وهو يزيل الوبر من أكمام بيجامته السوداء المطوية.

تقول أمي:

- أحضر شخصًا يحب الأكل. لا يهمني من يكون.

والتر، الذي لا يزال ينظر إلى التلفزيون، يتحرك في كرسيه ويقول:

- تقصدين 'مَن'، وليس 'من'.

يبتسم بفم مفتوح - ليس لي، بل لنتيجة المباراة غير المتكافئة. فريقه يفوز.عندما يلتفت ليُظهر لي أسنانه البيضاء الناصعة بفعل الليزر، أمدّ رقبتي لأرى خلف الأريكة.

- أعطيني مثالاً يا أمي. من عليّ أن أتصل به ليلة عيد الشكر وأدعوه؟

بصوت ناعم كالعسل والسكر، وكأنها أبعد مما هي عليه، تجيب:

- أي شخص تريده يا عزيزي. أحضر شخصًا لديه شهية صحية.

ألتفت إلى والتر وأقول:

- حسنًا، ما القصة؟ ماذا تدبر الآن؟

تظهر أمي في المدخل، ثلاث لفات وردية من بكرات الشعر ملفوفة بإحكام حول رأسها، بينما تمسك ملعقة خشبية. وعلى مئزرها كُتب: "أنا الطاهية، لا خادمتكم، فلا تطلبوا مني شيئًا!

تقول:

- لماذا تهمس؟ لا تسأله. ماذا يعرف هو أصلاً؟"

يركز والتر بشدة على جواربه المزخرفة. تقول أمي وهي تحدق في والتر:

- إنها مسألة حسابية بسيطة، مجرد ثلاثة منا يجلسون لتناول مأدبة بهذا الحجم الذي أعدّه سيكون خطيئة مميتة.

تؤكد على كلمة "مأدبة" بنعومة، وتنطق كلمة "خطيئة" بقوة حتى أنني أستطيع أن أشعر باهتزاز الهواء.

ينحني والتر ليحك بقعة في السجادة. أقول:

- أدعو من؟ من حولنا ليس لديه خطط لعيد الغد؟

ينظر والتر لأعلى.

- ألا تكره عندما تفعل هذا؟"

ترد عليه:

-  اصمت! لم يسألك أحد عن شيء..

يغمض والتر عينيه ويقطب وجهه وكأنه تلقى ضربة مطرقة، تقول أمي:

- ضيف عشاء، شخص آخر لنشاركه عطلتنا. هذا كل شيء. نهاية القصة. لا تجعل منها قضية اتحادية. لا يهمني من ستجلب.

- إذاً ما تقولينه، لأكون واضحاً، هو أنني يمكنني دعوة أي شخص على الإطلاق؟

يزيد والتر من تعابير الألم على وجهه. تقول أمي:

- أنا متأكدة أن لديك قائمة طويلة من الفتيات لتختار منهن.ضع كل أسمائهن في قبعة واختر واحدة فقط."

- أوه، تريدينني أن أحضر فتاة؟ هل هذا ما تعنينه يا أمي؟"

والتر، الذي هو أصلع بشكل أساسي ما عدا هلالاً من تجاعيد صبغت بالأسود، يتظاهر بجذب شعر غير موجود.

- إنها تريدك أن تستقر وتتزوج. ألا ترى؟ إنها قلقة عليك وحيداً في تلك الجامعة الكبيرة. نتحدث معا- تخبرني أشياء - كل آمالها في الحياة معقودة عليك. أما أنا فلا تخبرني ما تريده.

وبينما يتحدث، تطلق أمي عليه سيلاً من النظرات القاتلة حتى ينكمش مرة أخرى في كرسيه السمين. يقول:

- من الأفضل أن أُغلق فمي الآن.

لا أهتم البتة بوالتر، لا يهمني أنه لديه بعض المال في البنك أو أن أمي تتصرف وكأنهما متزوجان بالفعل. لا يهمني أن لدى والتر زوجة بالفعل. أقول:

- أحضر أي شخص أريده؟ أي شخص؟ أنت جادة؟ تقصدين هذا حقاً؟

تقول أمي:

- سيكون شرفاً لنا أن نستضيفه، أليس كذلك يا والي؟

- نعم، نعم. بالتأكيد.

يقولها والتر وعيناه على التلفاز. فريقه يخسر الآن. أعلن بنبرة انتصار:

-حسناً. إنها صفقة .

ختمت عليها بقبلة ، تقول أمي وهي تقبل الهواء.

- لكن ليس أكثر من واحد.

يقول والتر:

- لن أدفع لإطعام جيش كامل

لست متأكدًا تمامًا، لكن تخميني الأفضل هو أن الشخص الذي تتوقعه أمي أن أدعوه هو تلك الطالبة الجميلة في تخصص الأنثروبولوجيا، أبيجيل، التي أحضرتها إلى المنزل في عيد الفصح. كانت فتاةً ذات شعر عسلي مذهل وساقين طويلتين كعارضة أزياء، ومنذ أن هجرتني وأنا أعاني بشدة. آخر ما سمعت، كانت أبيجيل مخطوبةً للاعب بيسبول في الدوري الثانوي. لذا بدلاً منها، قررت دعوة والدي البيولوجي، بوب الأب، الذي لم تلتقِ به أمي أو تتحدث إليه منذ ما يقارب الثلاث سنوات.

كان بوب الكبير ساحرًا كعادته. وصل صاحيًا وبقي هكذا إلى حد كبير. خلال حديث ما قبل العشاء، تناول النبيذ الأبيض برشفات خفيفة وبقي مهذبًا، محترمًا، وساحرًا بكل معنى الكلمة. وعندما جلس الجميع لتناول الطعام، وقف ليؤدي صلاة الشكر. لا أحد يؤدي صلاة الشكر بسلطة أكبر من والدي.

عندما انتهى، صفقت وحدي. لم أقف رغم أني شعرت أن التصفيق وقوفًا كان مناسبًا. قالت أمي:

- لا تتصرف كالأحمق فقط لأن والدك هنا.

أجبت:

- هل هو هنا؟ أين؟ من سمح له بالدخول؟

فتبسم والداي لبعضهما.

والتر، ومنحيه حقه، قام بتقطيع الديك الرومي بمهارة الجراح.

قال بوب الأب:

- طائر شهي المظهر يا ريتا. كل شيء، كل شيء يبدو فاتحًا للشهية.

فاحمرت وجنتا أمي بينما تضع البطاطس المهروسة في الصحن.

خلال معظم الوجبة، لم يكن هناك سوى صوت خدش شوكات وهم يقطعون الطعام وخرير أربعة أفواه تمضغ، وجميع الأعين مثبتة على الأطباق. تعليقات والتر المتقطعة، كلها تافهة وسطحية، محاولات يائسة للمزاح، تموت سريعًا في صمت. بين القضمات، ظلت أمي تدفع خصلة شعر خلف أذنها. صمت مشحون يطن في الجو؛ وكثف الغلاف الجوي للغرفة ليصبح كثيفًا كالمرق.

وفي لحظة ما، أغمضتُ عينيّ ودعوتُ بأمنية صامتة. تمنيتُ أن يُخرج والدي أسنانه الاصطناعية ويجعلها تقفز بين الأطباق والصحون، معيدًا أداءه الذي قدمه العام الذي حصل فيه عليها، حوالي عام ٢٠٠٣.

لكنّ الحظّ لم يحالفني.

في كل مرة يملأ فيها بوب الأب كأسه، أشكّ في دوافعي لدعوته.

يقول والتر بعد إخلاء الطاولة، رغم أنه لا يبدو منزعجًا حقًا. إنه يؤدي دوره، ذلك الدور الذي كلّفه لنفسه:

- كانت هذه خدعة قذرة.

يقول وهو يحدق بي من فوق نظارته القرائية:

- أمك محقة، أنت وغدٌ ماكر، مثله تمامًا.

أسطوانة أمي الغنائية لعيد الميلاد تعزف بصوت عالٍ في وضع التشغيل العشوائي. ما زال هناك قهوة وفطيرة وآيس كريم بانتظارنا. أجلسُ على مسند قدم، مواجهًا والتر، وظهرُني إلى المدفأة، وأحتسي شيئًا مذاقه يشبه نبيذ البورت. والتر يدخن أحد السيجار الرفيع الذي استعاض به عن السجائر. نلعب الكاناستا بأوراق من مجموعتين، أوراق مقامرة مستعملة مثقوبة من الوسط. أمي وبوب الأب في المطبخ، يتحدثان همسًا بجورب الحوض. يقول والتر وهو يسحب ورقة من المجموعة:

- وأنت جاسوس فوق ذلك كله..

ليس رجلًا ضخمًا. بالكاد يصل إلى ذقني. لديه بعض المال في البنك، لكنه شبه عودٍ أمام والدي. وكأغلب الأشياء، يأخذ اللعبة بجدية مفرطة، ممسكًا بأوراقه ملتصقة بصدره.

- أتعرف يا بوبي؟ أنت لا تساعد أحدًا. قد تظن أنك تفعل، لكنك مخطئ. أنت تراهن على الفريق الخاطئ، يا بوبي. لاحظ ما أقوله لك يا بني. لا تنحرف أبدًا عن الفائز المضمون. ولا تراهن أبدًا على حصان ميت.

أستطيع رؤية أمي وبوب الأب من خلال المدخل. يقفان بزاوية جانبية، يمسكان طبق عشاء مليئًا بالرغوة بينهما، منخرطين في لعبة شدّ حبل مصغرة. بوب الأب يبتسم، وأمي تميل برأسها وتنظر إليه وكأنها لم ترَ شيئًا بهذا الروعة من قبل. أرتّب أوراقي، وألعق أسناني ببطء قبل أن أبتسم لوالتر. ثم ألقي ما أعتقد أنه يدّي الفائزة.

(النهاية)

***

.......................

الكاتب: بوب ثوربر/ Bob Thurber وُلد بوب ثوربر عام 1955 ونشأ في فقر مدقع، قضى عقدين من الزمن يعمل في وظائف وضيعة بينما يدرس ويُتقن فن الكتابة القصصية. خضع لفترة تدريب طويلة، حيث كتب تقريبًا كل يوم لمدة عشرين عامًا قبل أن يقدّم أعماله للنشر. منذ ذلك الحين، حصلت قصصه القصيرة على قائمة طويلة من الجوائز الأدبية والتقديرات، منها جائزة باري هانا للرواية. ظهرت أعماله في أكثر من 70 مختارات أدبية. ألف بوب ستة كتب، منها "فتى توصيل الجرائد: رواية غير تقليدية". يعيش حاليًا في ماساتشوستس.

* تعليق على القصة من محكمة المسابقة، ديانا نادين:

لا أتردد في تكرار ما قلته العام الماضي عن مدى استمتاعي بقراءة جميع المشاركات. إنه دائمًا لمن دواعي السرور، ولا أنفكّ أبدًا عن الدهشة من الخيال والإبداع الذي تتسم به العديد من القصص. لكن ما أثار إعجابي بشكل خاص في قصة "عيد الشكر 2010" هو الحوار الذكي للغاية والوصف الدقيق للمشاهد. كانت الصور حيةً لدرجة أنها تَمثلت في مخيلتي أشبه بكوميديا أمريكية على شاشة التلفزيون أو السينما، وليس مجرد قصة قصيرة. دائمًا ما نقول "اعرض ولا تُخبِر"، والفقرة التالية مثال رائع على ذلك، حيث تقدم لمحة عن شخصية والدة الراوي بكلمات قليلة: "تظهر أمي في المدخل، ثلاث لفات وردية من بكرات الشعر ملفوفة بإحكام حول رأسها، بينما تمسك ملعقة خشبية. وعلى مئزرها كُتب: "أنا الطاهية، لا خادمتكم، فلا تطلبوا مني شيئًا!"

على السطح، تبدو هذه قصة قصيرة مضحكة عن عائلة مضطربة تحتفل بعيد الشكر، لكن ما يميزها ويجعلها تستحق الفوز هو الذكاء والتبصر الذي يكشف لنا ما يحدث حقًا خلف الكواليس. النص سهل القراءة، لكن من الواضح أنه نتاج صياغة مدروسة بعناية.

قصة: فيرجينيا فاينمان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

مرة أخرى أراد زوجي الانفصال عني. لم آخذ الأمر بجدية لأنني أعلم أننا لن ننفصل أبداً. نحن نحب بعضنا كثيراً. السبب كان كالعادة: قلة وتدني مستوى العلاقة الجنسية.

قال لي:

- أنتِ لا تشتهينني، عندما أقترب منكِ تتشنجين.

شرحت له كما لو كان طفلاً:

- لكني أشتاق إليك. وماذا عن يوم عيد ميلادك، ألم نكن معًا؟

- أيجب أن يكون عيد ميلادي حتى يحدث ذلك؟

بدأت أفتّش في ذهني عن تواريخ أخرى، قبل وبعد عيد ميلاده. كانت هناك أيام... كانت.

- وماذا عن تلك المرة التي...؟

قاطعني:

– دائمًا كأنك تقطرينها لي بالقطّارة، كأنها صدقة. عمري أربعة وأربعون عامًا وأشعر أنني ميت.

قلقت.

في اليوم الأول، خرجت لأتسوق، نظّفت البيت، حضرت العشاء، شغّلت برنامج كابوسوتو. تحدثت عن مزايا المودة، والحب غير المشروط، ومعرفة أن هناك شخصاً يمكنك الاعتماد عليه في كل شيء. رد عليّ.

- لهذا أفضّل أن أذهب لأعيش مع أختي.

في اليوم الثاني، حدّثته عن أزواج آخرين نعرفهم، مضى على زواجهم أكثر من خمسة عشر عامًا مثلنا، ورأيت كم هم منسجمون؟ لا يمارسون الجنس أبدًا. وهم يعتنون بأطفالهم و يذهبون إلى السينما والمسرح، ويسافرون… العلاقة لا تُنهار بسبب هذا...

قال لي:

- لا شان لي بالآخرين.

في اليوم الثالث، حدثته عن البيت، بيتنا الجميل، وعن تعقيد بيعه، وتقسيمه... قال:

- سأرحل أنا.

- لكن حبيبي، لديك آلاف القطع من الأثاث، ومجموعات من المجلات، والأرشيفات.

أمسكت بيده ونظرت إليه، منتظرةً أن يقول لي إنه يحبني، وأننا سنتراجع عن القرار. نظر بثبات إلى حمامة على النافذة.

في اليوم الرابع قلت:

- حسناً، سأرحل أنا.أنا امرأة مستقلة، لا أحمل أعباء، أكره الاستهلاك، أكتفي بأشياء قليلة، لا أحتاج حتى ثلاجة، سأستأجر غرفة صغيرة، ولكن كيف سأدفع كل هذا: تأمين، وشهر مقدم، وعمولة شهرين للسمسار، والمصروفات المشتركة التي أصبحت باهظة جداً، بالإضافة إلى أننا اشترينا هذا المنزل معاً. أتذكر كم أقرضتنا أختي من المال؟ أتذكر كيف أعجبنا بالفناء الصغير لنشرب الماتيه و...؟

قال:

- سأدفع لكِ إيجار الغرفة حتى بيع المنزل.

في اليوم الخامس بكيت على القطة، حملتها طوال الوقت، جروتنا الصغيرة، طفلنا المشترك، سأفتقدها، انظر كيف تمدّ كفّها الصغير إليّ. قال:

- خذيها معكِ.

– كيف؟ ألا تحبها؟ إذًا لم تحبّها أبدًا؟

دموعي على فراء القطة التي تهتز في حجري.

- سأفتقدها، لكن إذا أردتِ، خذيها معكِ.

في اليوم السادس اقترحت أن نحدد يومًا ثابتًا في الأسبوع للجنس، الجمعة، صباحًا وظهرًا ومساءً، مع مشروب، وجل، وملابس داخلية مثيرة، وألعاب....

-  ما رأيك ؟

- قلتِ هذا من قبل ولم نفعل شيئًا.

في اليوم السابع:

- هل تعتقد أن الجنس هو كل شيء يا مارتن؟ هل لأنك تمارس الجنس جيداً مع شخص ما ستحصل على ما كان بيننا طوال هذه الـ15 سنة؟ هل تعرف كل الأشياء الجيدة بيننا، التي ترميها في القمامة؟ هل تظن أن العلاقة تُبنى فقط على الجنس؟

- لا، لكن حين أبني علاقة جديدة، سيكون الجنس فيها أمرًا مهمًا.

حينها حزمت حقيبتي وخرجت. وعند الباب قلت له:

- يوم الاثنين ذهبت للتسوق.

-   نعم، عرفت.

- اشتريت أعواد ثقاب. علبة من نوع "غران فراغاتا". فيها أربعمئة عود.

-   "......"

- لا أحتمل أن تعيش أعواد الثقاب أكثر مني ستشعل بها سخان الماء لتغتسل بعد أن تكون مع امرأة أخرى.و ستشعل بها الموقد لتُعد لها فنجان قهوة.

نكس رأسه. بدأ في البكاء. أدخل حقيبتي، عانقني، قبّلني قبلة طويلة. قال لي:

-دعينا نحاول.. إلى أن تنفد أعواد الثقاب.

(انتهت)

***

....................

الكاتبة: فرجينيا فاينمان/ Virginia Feinmann: (بوينس آيرس، 1971) كاتبة وصحفية ومترجمة.

https://www.audiocuento.com.ar/una-vez-mas-mi-marido-se-quiso-separar-de-mi-virginia-feinmann

من الأدب الكردي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - الشبك

حدقت إلى السماء

فلم تقع عيني

على أي زرزور

من تلك الزرازير

التي هاجرت العام الماضي

فاستغربت ذلك

وتساءلت مع نفسي

منذهلا

ترى هل من شباك

في المهجر؟

**

2 - تفادي

إن هذا البلبل يتجنبني

ويوكر بعيدا عني

دون أن يعلم

بوجود آلاف البلابل

الجميلة الصداحة

مثله

تغرد في قلبي

**

3 - ورد

من أجل عينيك

تتفتح كل هذه الورود

وتغتاظ

إن لم أقطفها لك

فلا تعاود الأنتشار

في السهول

في الربيع المقبل

وسوف تكف

عن التفتح

***

....................

نوزاد رفعت: شاعر كردي من مواليد 1951 أربيل – العراق

عاما بعد صراع مع مرض السرطان   (72) وافاه الأجل في عام 2022 عن

كتب الشعر منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي

نشر في العديد من الصحف والمجلات الكردية

الكتب التالية: صدرت له

(غابة ذلك السفح) 1978

(القلق) 1985

(الثلج الدافيء) 1992

- عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

بقلم: يان جي

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في البداية كانت نانا أول من ذكر اليابانيين. كان يوما ماطرا في بالينا. الريح الباردة والرطبة تهب من الشاطئ الغربي، وتزمجر عبر البلدة، وتجرف معها آخر ما تبقى من الصيف الأخضر. كنا في حجرة جلوس نانا. النار مشتعلة. وأكواب الشاي في أيدينا. البسكويت على الطاولة. قالت نانا إن الطقس الآن أبسط مما كان عليه في طفولتها. أضافت: حينها كنا على الأقل ننعم بعشرين يوما من الصيف. وكنت مفتونة آنذاك بالجيرانيوم الموجود على حافة النافذة. رأيت أصيصين منه، أحدهما بزهور وردية، والثاني بلون أحمر قرمزي، وكلاهما مزهر بطريقة سريالية ومنعشة، كما لو أن هذه الأيام هي بداية الصيف. وأدهشني، تقريبا، استفزني، مناعة الجيرانيوم تجاه الطقس، حينما سمعت نانا تقول: صادفتهم عدة مرات، هؤلاء اليابانيين، في الثمانينات بلا شك.

قال توماس: نعم. اعتادوا زيارة البلدة كثيرا.

هل تتذكرينهم أنت أيضا؟.

شعرت نانا قليلا بالدهشة وقالت: طبعا أتذكرهم. رافقت واحدا منهم في المدرسة.

واستدارت نانا نحوي وأخربتني لأبقى في دائرة الحديث: هؤلاء اليابابانيين الذين نتحدث عنهم كانوا يعملون في مصنع كيلالا. استثمر المصنع في الثمانينات أو أواخر السبعينات شركة يابانية كبيرة. ولكنه أغلق أبوابه من فترة طويلة.

سألتها: هل لا زالوا يعيشون هنا؟.

قال توماس: لا. رحلوا منذ عهد بعيد.

قالت نانا: لا يمكن أن تعلم. لا بد من وجود بعضهم هنا. سمعت بافتتاح سوبر ماركت آسيوي كبير للتو في سليغو. هل تصدق ذلك؟.

لاحقا تركنا نانا في المطر الرذاذي. واختصرنا طريقنا من خلف محطة الوقود لنصل إلى البيت بسرعة. رأينا بعض المراهقين يتسكعون وراء جدار إحدى الحدائق الخلفية. صبيان وثلاث بنات. ويدخنون. وعندما تخطيناهم، نظرت لي بنت بشعر أزرق كأنني مشبوهة. والتقطت رائحة الحشيش. ابتعدنا بهدوء، وانعطفنا عند نهاية الشارع.

سألت توماس: كيف كنت تعيش هنا في أيام مراهقتك؟.

قال: ألعب كرة القدم في المدرسة. وأتبادل النكات… الروتين المعتاد كما أفترض.

حينما وجدت في شقة توماس نسخة من “مطاردة الغنمة البرية” لموراكامي شعرت بالاستغراب. وقلت له: توقعت أنك لا تحب قراءة الكتاب اليابانيين.

قال: بل أقرأ كل شيء. ثم إنه ليس كاتبا يابانيا بالضبط.

كان يجلس على الكنبة بسرواله القصير فقط، ويسكب لنفسه الويسكي. ترك الزجاجة، ورفع الكأس، وأخذ رشفة. حصل ذلك سابقا عندما كنا في نيوجرسي. ومرت علينا خمسة شهور ونحن نلتقي، وخرجنا معا ست مرات. تناولنا العشاء. شاهدنا الأفلام والعروض المسرحية وسوى ذلك من وسائل تجفيف النقود. وسريعا بدأنا نشتري الخضار، ونتفحص الكتب، ونقتني التسجيلات، كل ذلك معا. واحتفظت بحقيبة اللوازم النسائية في بيته. وفعل هو المثل. باختصار تعلق الواحد منا بالآخر. وقال طلاب كلية الأدب الإنكليزي في جامعة آر - والتي استضافتنا بصفة كتاب مشاركين ببرنامج الكتابة الدولي. قلت له وأنا أجلس على طاولة الطعام وأقلب الصفحات: آسفة. لكنه أهم كاتب ياباني في المرحلة الحالية. ألا تعرف ذلك؟.

نعم. ولكنه متأمرك جدا. وشائع جدا. وذوقه استهلاكي جدا.

فكر لثانية خاطفة وقرر أن ينهي كلامه بقوله: على نحو ما.

قفزت من الطاولة وأنا أقول: إأفهم أنه لديك اعتراض عليه.

قال: كلا. كلا. ليس عندي مشكلة معه. هو كاتب جيد. ولديه رؤية وطموحات. ونثره أنيق. ولكنني غير مرتاح للطريقة غير الناضجة التي يستهلك بها نفسه. نوع من أنواع التعلق بالذات. تسلسل الذات. هناك خط رفيع بين التكرار الشعري والإنتاج التجاري. وأعتقد أنه تجاوز ذلك الخط منذ وقت بعيد.

جلست بجواره وسألته: هل تشير إلى أعمال موراكامي الرابحة؟.

ملأ فمه بالويسكي وقال: كلا ونعم. يمكن القول لتفسير معنى ما ذكرت .. له علامته الخاصة، كليشيهاته، طرائفه…

ترك الكأس الفارغ وتابع: والسرد الموازي، البطل وخياله القرين، غرائبه والتماعاته، والإحساس المستمر بالبلوغ والظهور المتكرر لكل هذه العناصر..

أضفت: ولا تنس البنات التوائم والصدور المتشابهة تماما.

تابع يقول: ونعم. الجنس. الجنس في كتبه دائما تعبر بقوة عن وجهة نظر وإحساس الذكور. وهذه مشكلة وليست حلا. وهي شائعة بين الكتاب الذكور.

ملت نحوه وقبلته. وهمهمت: أنت تعلم أنني أشتعل حينما تكون جادا.

عانقني وقبلني. وذهبنا إلى السرير ثانية.

سألت توماس في ذلك اليوم: هل تتذكر وقتنا في برينستون. حينما تكلمنا عن موراكامي؟. يبدو كأنه مرت عليه أوقات طويلة.

كان على الكنبة، يقرأ الصنداي تايمز، وحوله أكوام من الصحف. لم يرد حتى مر وقت. وقال: لا تكوني سلبية وعدوانية.

زادت غزارة المطر، وضرب نافذة مطبخنا مثل رصاص صغير الحجم، ثم سال على الأرض. وبصعوبة أمكنني رؤية أشجار التفاح في الحديقة الخلفية. سألته وأنا أغسل البطاطا: هل أخبرت شون برسالة قصيرة أن العشاء سيتأخر؟.

قال توماس وهو في كرسيه ذي المسندين يقرأ: لا تقلقي. لن يتذمر أحد.

في تلك الأمسية، جاء من سوينفورد شقيق توماس المدعو شون مع صديقته بالسيارة، وانضما إلينا على العشاء. وحالما التأم شملنا توقفت الأمطار.

سألت شون: كيف كان شكل توماس في مراهقته.

آه. قالت سارة صديقة شون وهي ترفع يدها. ابتلعت ملء فمها البيذ الأبيض وقالت: كان نحيفا جدا ويرتدي بلوزات فضفاضة وزوجا من النظارات السميكة. ولا يتكلم مع الفتيات. وأعني ذلك. على الإطلاق.

ضحكت ونظرت إلى توماس قائلة: حقا؟.

كان يقطع شرائح الخنزير بحرص. قال: نعم. كان بليدا نوعا ما. لا يحب الرياضة، ولا الموسيقا. أحب الكتب فقط على ما أفترض.

قلت: يبدو لي أيضا بليدا.

عاد المطر. وجلد السطح بقوة.

كان كذلك. هل تتذكرين صديقتي بولين؟. كانت المسكينة مغرمة بتوماس لبعض الوقت. وكلما أتيت لرؤيتك ترافقني، وتتسكع حول البيت وتبذل جهدا لتلفت اهتمام توماس. بنت مسكينة.

أنهت سارة كأسها وأومأت طلبا للمزيد.

قدم لها شون الزجاجة وقال: بولين من؟. بولين موراي؟.

كلا. ليس بولين موراي. أنتم أيها الشباب لم تكونوا بمجموعتها. أعني بولين أوكالاغان. أحد أخوتها لاعب روكبي.

ضحك شون بصوت مرتفع وقال: آه. آل أوكالاغان. بالتأكيد أذكر بولين. كانت تحب توماس؟ حقا؟ متى كان ذلك؟.

ضيقت سارة عينيها وقالت: ربما في السنة الثالثة أو الرابعة من المدرسة الثانوية. وأعتقد في ذلك الصيف حينما اختفى الصبي الياباني. صبي من مدرستك. ماذا كان اسمه؟.

قال شون: آه. أتذكر الآن. ذلك الصيف كان سيئا. ماطرا وتعيسا فقط. نعم وخرج الحراس بحثا عنه لعدة أيام. ماذا كان اسمه يا توماس؟. ألم يكن في صفك؟.

نظرنا جميعا إلى توماس الذي كان ينهي طبقه بطريقة الجراح.

سأل شون مجددا وابتسامة عريضة على وجهه: هل تتذكر اسمه؟.

أفلت توماس أدوات طعامه وشرب من الكأس. ثم قال: تيتسويا. اسمه إيتا تيتسويا.

أول جملة نطق بها توماس معي كانت: هل أنت يابانية؟. كان ذلك في يومي الثاني في أمريكا. وكلانا كنا في مكتب التسجيل في جامعة آر - بانتظار إصدار بطاقة الجامعة.

قلت له وأنا أغلق كتابي: كلا. لست يابانية. أنا صينية.

وحينها كنت أقرأ “الضجة البيضاء” لدون داليلو. والتقطتها من رفوف صديقي تانغ قبل أن أغادر بكين. كان تانغ يمتلك مجموعة كبيرة من الكتب الإنكليزية الأصلية، وكلها هدايا من والده، الذي يعمل في وزارة التربية ويسافر إلى الخارج بانتظام لحضور مؤتمرات مختلفة. وسمح لي تانغ باختيار كتاب واحد هدية وداع قبل السفر فاخترت داليلو. تذكرته كيف زمجر وقال: آه. لا. لماذا أخذت الضجة البيضاء؟. فقد قرأته عدة مرات. قلت له: اخترته لكن ليس للقراءة.

تنهد قائلا مثل امرأة ريفية: إذا لماذا؟.

لأنه الكتاب الذي يعبر عن موقف احتجاج دائم، منارة لا يراها غير عيون البحارة المتشابهين، ويترك علامة تدل على وجودي في الغابة، كي يجدني رفاقي وينقذونني. وباعتبار أنني كنت ذاهبة إلى برينستون في نيوجيرسي كان لا بد أن أختار كتاب “الضجة البيضاء”. بعد أن قلت ذلك لتانغ أصبح وجهه حزينا وغريبا. وقال: أعيديه لي بعد عودتك. لم أفعل ذلك. في مكتب التسجيل نظر توماس لكتابي وقال: هذه روايتي المفضلة من بين أعمال داليلو.

حقا؟. أنا معجبة بها أيضا. وربما هذه خامس أو سادس مرة أقرأها.

هل أنت طالبة هنا؟.

كلا. كلا. تجاوزت مرحلة الطلبة. ولكنني كاتبة زائرة في قسم الأدب الإنكليزي.

آه. هل أنت كوان. لحظت أنك مألوفة. شاهدت صورتك في موقع البرنامج. أنا توماس كيني. الكاتب الإيرلندي.

وأشرقت ملامحه بشكل واضح. وتعرفت عليه. كان الشاب الإيرلندي الذي اعتقدت أنه حسن المظهر عندما نظرت في قائمة الكتاب الزوار.

قلت له: أنت لا تشبه صورتك.

آه. كيف؟.

قلت له: تبدو غامضا في الصورة.

ضحك وقال: بسبب الطقس الإيرلندي.

ولم نخرج معا إلا بعد عدة أيام. عقد القسم حفلة عشاء للترحيب بالكتاب الزائرين. بعدها ذهبنا إلى بار قريب وطلبنا المزيد من البيرة والناشو. قال الكاتب الأنغولي وهو يتناول قطعة ناشو من كومة جبنة سائلة صغيرة: كيف لا يمكن لأحد أن يحب أمريكا؟.

جرع توماس شراب البودفايزر الذي قدموه له قائلا: نعم. وكيف لا تحب بيرتهم؟.

كان معنا محاضرة شابة من قسم الأدب الإنكليزي جاءت مع حلقة شباب قابلتهم، قالت: ولكنك لم ترد على السؤال يا توماس؟ كيف أصبحت كاتبا؟.

زفر توماس قائلا: ها. كما ترين. أنا من الجزء الغربي من إيرلندا. المزدحم بالكتاب. ولدينا في البلدة التي أعيش فيها كتاب أكثر من الجزارين.

سألته المحاضرة: رائع. هل من سبب لذلك؟.

هز توماس رأسه ووقف وهو يقول: الطقس فقط. وأنا ذاهب إلى البار. من يريد ويسكي؟.

رفعت يدي قائلة: أنا. هل يمكنك أن تسألهم إن كان لديهم يامازاكي؟ الويسكي اليابانية.

نظر نحوي لحظة. مبهوتا على نحو معتدل. ابتسم وقال: أنت مندفعة جدا نحو هذه المدينة يا سيدتي. وسأحاول جهدي. أحيانا كنت أفتقد لتوماس في نيوجرسي. ليس لأنه يبدو أفضل من صورته ولكن لأنه أقرب للإنسان حين يتكلم معه، وشعرت برقته عند تبادل القبلات. ولذلك هو مؤهل للكلام عن إيتو تيتسويا، بالطريقة التي ناقشنا بها موراكامي بحماس. وكنه حاليا يبدو قليل الاهتمام. أبعد طبقه وسأل: ماذا يوجد للتحلية؟.

قالت سارا: أحضرنا تورتة التفاح.

وقف وقال: ممتاز. سأخفق القشدة.

سألت شون وهو في طريقه إلى الثلاجة: وهل وجدوا الصبي الياباني في النهاية؟. أين كان؟ ولماذا اختفى؟.

قال شون: لا أذكر الآن.

قالت سارة: يمكنك البحث في أرشيف الجريدة المحلية. وأنا متأكد أن لديهم حكايات من تلك الفترة.

عاد توماس مع القشدة وبدأ البحث عن الخلاطة وقال: لماذا هذا الاهتمام المفاجئ باليابانيين؟.

لا أعلم. ربما يمكنني كتابة قصة عنهم. أشعر بالقرب منهم.

أخذ الخلاطة من الجرن وقال: لماذا؟ أنت لست يابانية؟.

قلت حينما صب توماس القشدة في طبق كبير وشغل الخلاطة: أقرب لهم من هنا.

ملأت الضجة الكهربائية المطبخ. في تلك الليلة كنت أتابع القراءة حينما جاء توماس إلى السرير. قال وهو يرفع طرف اللحاف من جانبه: علي أن أذهب إلى سليغو في الغد. هل ترافقينني؟.

قلت: ربما كلا. علي أن أذهب إلى المكتبة لأفحص الصحف القديمة.

التفت نحوي. وشعرت بأنفاسه وهي تجرف الفراغ بيننا، استنشاق. زفير.

قال: أنت جادة؟.

ولم لا؟. أنا مهتمة. ربما أجد حكاية وأكتبها. كان اليابانيون في التسعينات يعيشون في مايو. لماذا لم تذكر ذلك أبدا؟.

ولكنك لم تطلبي مني أن أقدم لك تقريرا عن كل الشرقيين الذين وضعوا قدمهم في هذا المكان. بعض البورميين يعيشون في محيط البلدة. هل ستذهبين لإجراء لقاء معهم؟.

انزلق قليلا. واتخذ موضعه المناسب، وأغلق عينيه. واصل المطر الهطول طيلة الليل. وتوقف قبيل الفجر. وعندما غادرنا البيت كان الطقس صافيا ومشرقا. ظهرت الجبال بنفسجية في سماء زرقاء كالكريستال. قادني توماس إلى البلدة قبل أن يغادر إلى سليغو. وأنا أغادر السيارة قال: نلتقي لاحقا.

كانت علاقتي ودية مع مدير المكتبة. اسمه بول. قال: هويا كوان. بكرت اليوم. الطقس ممتاز في الخارج.

ابتسمت وأنا أقول: نعم. تماما. هل بمقدوري أخذ نظرة من الصحف القديمة؟.

جر بول أرشيف المنطقة الغربية 1990 - 1999. عشر أعوام مضغوطة في إسطوانة فيلم بحجم راحة اليد. وعلمني كيف أستعمل جهاز الإسقاط في غرفة القراءة. وقال: الآن خذي وقتك.

وفعلت. الكثير وقع في التسعينات. كل مرة، وكلما رحلنا أكثر نحو الماضي تبدو لي حياة توماس غريبة أكثر والعكس بالعكس. في عام 1992 كان توماس في غرب إيرلندا مراهقا بشعر طويل، بينما كنت أنا تلميذة صينية ذات سبع سنوات. ويوميا يقودني جدي إلى المدرسة بدراجته ثم يعيدني بعد الظهيرة. وأكتب واجباتي المدرسية في غرفة نومهما حينما كانت الجدة تطهو العشاء على الشرفة. كان العالم صامتا تماما. عندما وجدت في النهاية حكاية إيتو تيتسويا لم أكن متيقنة أنها التي أبحث عنها. ورد في العنوان: تم العثور على مراهق من سكان المحلة بعد ست أيام. لحسن الحظ، كانت توجد صورة. ورأيت صبيا له مظهر شرق آسيوي. تيتسويا. وكان يضحك بحرارة بطريقة لا توائم الموضوع. مثل أحد كلاب شيبا إينو الشهيرة. وقف وسط عدة أولاد. وبعده مباشرة زوجي توماس كيني. وشعره يتدلى مقدار بوصتين تحت كتفيه. ملقيا على وجهه ظلا طويلا مستطيلا. ولم يكن يبتسم ولا يضع نظارات. وظهر غامضا وبعيدا كما لو أنه أقحم على الصورة. البطل وخياله التوأم. سمعت صدى صوته يتردد في رأسي. في برينستون كان مكان زيارتي هو مكتبة لبيع الكتب وتدعى “المتاهة”.

وهو في ناسو ستريت. وغير بعيد عن مبادلات تسجيلات برينستون المشهورة عالميا. والتي يغرق فيها توماس نفسه لساعات، بحثا عن قرص لكينغ توبي أو ساينتست. وفي كل مرة، وهو بطريقه إلى متجر التسجيلات، يزورني في مركز الرعاية مع فنجان قهوة ويقول قبل أن يغادر: أراك لاحقا. ولاحقا يعني بعد فترة طويلة. عموما أحيانا ينتهي مبكرا ويأتي لينضم لي في “المتاهة”. تذكرت أنه في أحد الأيام وكنت جالسة على الأرض، وأقلب بكتاب، وجاء، وسألني عما أقرأ. عرضت عليه الكتاب، وهو “راقصة إيزو” لكاواباتا. وقلت: كاتبي المفضل في كل العالم.

قال: آه. كاتب ياباني. لم أقرأ بالفعل لكتاب يابانيين. كيف أسلوبه؟.

قلت وأنا أعض شفتي بعض الوقت بحثا عن كلمة مناسبة: هو مثل… ممتاز على نحو لا يصدق. حزين لدرجة مذهلة. و… مع لمسة إيروتيكية خفيفة.

هممم. وجلس توماس بجانبي وتابع: أنا أصغي الآن.

هذه القصة هي عنوان المجموعة. وبحثت عن الصفحة من أجله. تابعت: ها هي. وهي ميلانكولية فعلا. وتدور حول الحب الأول.

قلب عدة صفحات وقال: آه. حقا؟. هل يمكننا الذهاب لتناول البيتزا. أنا نصف جائع.

أمام منصة البيتزا سألته: والآن خبرني. متى تصادف أول حب لك؟.

قطب وجه وابتلع البيتزا. وأخيرا قال: بعمر 17 تقريبا.

سبع عشرة؟. ومن هي حسنة الحظ؟.

ابتلع بعض البيرة وقال: بولين.

بولين؟.

نعم. بولين من سوينفورد. لا شيء مذهل أو ميلانكولي. بنت محلية فقط.

وعاد إلى طعامه. أكلنا بهدوء لبعض الوقت وبعد شريحتي بيتزا استعاد نشاطه وقال: وماذا عنك؟.

قلت له: أول حبيب لي كان تانغ. قابلته في مسابقة شعرية، مناسبة نصف رسمية أعدها قسم الأدب الإنكليزي. اقتحم تانغ المكان فجأة. وقفز على المسرح وزمجر ببعض أشعار بابلو نيرودا. تأثر نصف الحضور بينما صفق النصف الآخر. لاحقا، حينما خرجت للتدخين جاء وكلمني وتبادلنا أرقام الهواتف. وترافقنا لبعض الوقت ثم انتبهنا أن الحال عرضة لمزيد من التدهور فتوقفنا. وعدنا صديقين. وكان تانغ صديقا ممتازا. وكان بلا جدال مركز دائرتنا الاجتماعية. وأفضل شيء أنه كان المفضل. ولد أحمر إن صحت العبارة. عدا عن رفوف الكتب الإنكليزية، وأقراص تسجيلات فينتاج، كان يقدم لنا ويسكي يامازاكي المستورد باستمرار مع علب أصلية من مارلبورو وايت. وفي اليوم السابق لسفري إلى أمريكا، حجز تانغ جناحا في فندق بينينسيولا لإقامة حفل وداع. وجاء كل الأصدقاء. جلسنا على السجاد، وتبادلنا زجاجة يامازاكي 12 عملاقة، وقرأنا الشعر معا. وفي وقت ما صاح تانغ: أنت مغادرة غدا إلى أمريكا. ويجب أن تدخني أول سيجارة حشيش في أرض الوطن.

وفعلت ذلك. وأتذكر أنني شعرت بالسعادة لبعض الوقت ثم تقيأت. في اليوم التالي، ذهبت إلى المطار ولم أقابل تانغ منذئذ.

بعد نهاية المنحة في جامعة آر - تجولت أنا وتوماس في الولايات لثلاث شهور. وخلال تلك الفترة سمعت من صديق مشترك أن تانغ توفي بحادث سيارة قبل اعتقال والده بتهمة الفساد. وعموما تلك قصة أخرى.

بالعودة لقصتنا. اختفى طالبان من جامعة سانت مورداك في الرابع من آب. وأبلغ السيد كيني الحرس عن الحادث في السادس من آب، وهو والد أحد الطالبين. بحث حراس ومتطوعون من بالينا وكيلا لثلاثة أيام عنهما وأخيرا وجدوهما في البئر المقدس لسانت ماري قرب روسيرك آبي. ومن غير الواضح كيف شقا طريقهما إلى البئر وبقيا هناك حوالي ست أيام. وبالأخص أن الأيام الأخيرة كانت ماطرة جدا. وبفضل الحراس والمتطوعين عادا إلى البيت سالمين، وبرعاية مناسبة من عائلتيهما… وانتبهت مجددا أنه لا يسعنا الاعتماد إلا قليلا على ذكرياتنا. بالنهاية الذكريات هي اعترافات في محكمتنا. كنا نختار ما يخدمنا، ونغض البصر عن اللحظات غير المريحة ثم ننسج معا المواد لنستعملها في صالحنا. وأنا أغادر المكتبة، تذكرت نقاشا مع توماس حول اسمي.

سألني: ماذا يعني كوان بالصينية؟.

يعني النبع. أو البئر. مياه تتسلل من تحت الأرض.

تنهد وقال: آه. هذا جميل. وقبل يدي.

ملت عليه، وألقيت رأسي على كتفه. وقلت: هذه كلمة بسيطة. ويوجد كلمات صينية أجمل كثيرا.

اذكريها. اذكريها لي.

قلت: لا يمكنني. لا يمكنني شرح جمال اللغة. وهذا شيء يصعب شرحه بيننا.

قبل يدي مجددا وقال: حسنا. لا تكوني متفائلة جدا. لا بد هناك أشياء كثيرة لا يسعنا تناولها بالكلام بيننا.

عدت إلى البيت بمحاذاة ضفاف نهر موي. لم تمطر ليوم كامل. البارات امتلأت قبل موعد العشاء. أشياء لا يمكننا تداولها بيننا. ماذا يعني بالضبط بذلك؟. هل يفكر بإيتو تيتسويا بالطريقة التي أتذكر بها الماضي. في الحقيقة يجب أن أعترف أنه لا يمكنني التأكد إذا كنا تكلمنا فعلا. مضى على ذلك فترة طويلة في أمريكا. بعد قص الحكايات والتعب والضنى مرات كثيرة، أصبح توماس في نيوجيرسي شخصية خيالية بنظري. من سيحدثني، بعد الجنس المضمخ بالروح، عن الأدب والموسيقا والبلاد واللغات بالإضافة لأشياء تافهة أخرى. ومع ذلك هناك ما يجب أن يحدث في القصة التي سأكتبها. قصة اليابانيين. ستكون حكاية مثالية. عندما رجعت إلى البيت شاهدت توماس قد عاد. وأدهشني أنه في المطبخ يطبخ.

سألته وأنا أتخلص من معطفي: ماذا تفعل؟.

قال ومغرفة كبيرة في يده: في طريق العودة إلى البيت ذهبت إلى السوبر ماركت الآسيوي الذي ذكرته نانا وحصلت على بعض الجايوزي. توقعت أنك ربما تفضلين تناول طعام صيني.

أسرعت إلى القدر لأفحصه قائلة: هل وضعتها؟ وهل غليت الماء أولا؟.

لاحقا تناولنا الجايوزي في وقت العشاء وأثنينا على أشجار التفاح الموجودة في الحديقة الخلفية. وهي تلمع تحت شمس الغروب الملتهبة. انتهى اليوم دون عناء، وترك فقط آثارا بلا شكل ولا ظل، كأنها قصة أخرى لهاروكي موراكامي.

***

...............................

يان جي Yan Ge  الاسم المستعار للكاتبة الصينية داي يوشينغ. وهي من سيشوان. تعيش في دبلن. لها 11 كتابا. منها “الحصان الأبيض” رواية قصيرة، “صورة الشيطان بالمرآة” رواية قصيرة، عائلتنا، وغيرها. حصلت على جائزة إذاعة الصين الأدبية. الترجمة من آيريش تايمز 2017.

 

بقلم: سالي روني

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

وقف ناثان قرب شجرة عيد الميلاد الفضية في صالة القادمين من مطار دبلن، ويداه في جيبيه. كان المدرج الجديد مضاء ونظيفا، ويحوي عدة سلالم متحركة. كنت للتو قد نظفت أسناني بالفرشاة في حمام المطار. حاولت حمل حقيبتي الدميمة على نحو مضحك. وعندما رآني ناثان سألني: ما هذا، حقيبة تبعث على الضحك؟.

قلت: تبدو بحالة طيبة.

أخذ الحقيبة من يدي. وقال: آمل أن لا يعتقد الناس أنني أحملها لأنها لي.

كان ما يزال بثياب العمل، بذة بحارة نظيفة جدا. ولا يمكن لأحد أن يعتقد أن البذة له. هذا واضح. وكنت أرتدي جوارب نسائية طويلة مثقوبة فوق أحد الركبتين، ولم أغسل شعري منذ غادرت بوسطن.

قلت: تبدو بحالة طيبة لدرجة غير معقولة. مظهرك أفضل من المرة الماضية التي رأيتك بها. توقعت أنني أتدهور. مع العمر. لكن شكلك جيد. ولا زلت شابا. كيف تتصرف، تمارس اليوغا أم ماذا؟.

قال: كنت أجري. وركنت السيارة هنا بالجوار.

في الخارج كانت الحرارة تحت الصفر، وتشكلت طبقة رقيقة من الجليد على زوايا لوح الزجاج الأمامي لسيارة ناثان. فاحت من داخل سيارته رائحة معطر الهواء، مع ماركة عطر الحلاقة التي يستعملها وهي “إيفينتس”. لم أكن أعرف اسم عطر الحلاقة ولكن عرفت شكل الزجاجة. كنت أراها أحيانا في الصيدليات وحين يكون يومي سيئا أفتح السدادة.

قلت: أشعر فيزيائيا أن شعري غير نظيف. ليس غير مغسول فقط ولكن متسخ عمليا.

أغلق ناثان الباب، ووضع المفاتيح في بادئ الحركة. اشتعلت اللوحة بألوان اسكندنافية لطيفة.

قال: ليس لديك أخبار خاصة لتخبريني بها شخصيا. أليس كذلك؟. 

وهل يفعل الناس ذلك؟.

هل ليك شيء من قبيل التاتو السري أو ما شابه؟.

قلت له: لو لدي لكنت أرسلتها كمرفقات بصيغة JPEG. صدقني.

كان يقود إلى الخلف ليخرج من باحة موقف السيارات، باتجاه الزقاق المرتب المضاء الذي يفضي إلى المخرج. وضعت قدمي على المقعد الأمامي، ليمكنني حضن ركبتي ولمس صدري بهما بصعوبة.

ثم قلت له: لماذا تسأل؟. هل جد جديد؟.

نعم. نعم. لدي صديقة الآن.

أدرت وجهي لمواجهته ببطء شديد، درجة بعد درجة. كما لو أنني شخصية في فيلم رعب بطيء.

قلت: ماذا؟.

قال: في الحقيقة سنتزوج. وهي حامل.

ثم أدرت وجهي كما كان بالسابق لأحدق في الزجاج الأمامي. طاف لون المكابح الأحمر الأمامي في السيارة  على الجليد مثل فعل الذاكرة.

قلت: حسنا. هذا شيء طريف. نكاتك مرحة دائما.

قال: ولكن يمكن أن يكون لي صديقة. نظريا.

سألته: عن ماذا سوف نضحك إذا معا فيما بعد؟.

نظر لي بينما الحاجز يرتفع من أجل سيارة أمامنا.

قال: هل هذا هو المعطف الذي اشتريته لك؟.

نعم. أرتديه ليذكرني أنك شخص حقيقي.

فتح ناثان نافذته، ووضع تذكرة في الآلة. من نافذة ناثان جاء هواء الليل اللذيذ والجليدي. نظر نحوي مجددا بعد أن أغلقها.

قال: أنا سعيد برؤيتك لأنني أعاني من مصاعب لو تكلمت بلهجتي الطبيعية.

هذا شيء جيد. كنت أتخيلك طيلة الوقت وأنا على متن الطائرة.

أتشوق كي تروي لي ذلك وأسمعه منك. هل تودين أن نشتري طعامنا ونحن في الطريق إلى البيت؟.

لم أخطط للعودة إلى دبلن في عيد الميلاد، ولكن والدي فرانك كان تحت العلاج من اللوكيميا في ذلك الوقت. وقد توفيت أمي من مضاعفات الولادة ولم يعاود فرانك الزواج، ولذلك، والكلام شرعا، كان هو عائلتي الوحيدة الحقيقية. وقد وضحت في إيميلي بعنوان “عطلات سعيدة” والذي أرسلته إلى زملاء الصف المستجدين في بوسطن أنه يموت الآن.

عانى فرانك من الوصفات الطبية. في طفولته كنت مرارا ما أمكث برعاية صديقاته، وكن لا يمنحنني محبتهن، ويهملونني، ولذلك أنطوي على نفسي وأقضم مثل النيص. كنا نعيش في المنطقة الوسطى، وعندما انتقلت إلى دبلن للدراسة في الجامعة، كان فرانك يخابرني، ويكلمني عن والدتي الراحلة. وأخبرني أنها ليست “قديسة”. ثم بدأ يطلب اقتراض بعض النقود. وفي السنة الجامعية الثانية لم يتبق معي مدخرات ولم يعد بمقدوري دفع الإيجار، فبحثت عائلة الوالدة على من يمكنني أن أعيش معه ريثما أنتهي من الامتحانات.

كانت أخت ناثان الأكبر متزوجة من أحد أعمامي، ولذلك انتقلت لأعيش معه. وكنت حينها بالتاسعة عشرة. كان هو يبلغ أربعا وثلاثين سنة ولديه شقة بغرفتي نوم جميلتين، ويعيش بمفرده، والشقة مجهزة  بمطبخ مطعم بالغرانيت. وفي تلك الفترة بدأ يعمل مع “برامج سوفت وير مسلكية”، وهو عمل له علاقة بمشاعر  وتصرفات الزبون. وأخبرني ناثان أن واجبه يتلخص بتحريك شعور الناس بالأشياء: ليشتروا أشياء سيحين دورها لاحقا. وجاء الوقت الذي اشترت غوغل فيه الشركة. والآن يربح الجميع رواتب مجزية ويعملون في بناء  تحتوي حماماته على مجففات يدوية عالية الثمن.

ارتاح ناثان لحياتي معه: ولم يطرأ شيء غريب عليه. كان نظيفا، ولا يثير المشاعر الجنسية. وكان طاهيا جيدا. ونشأ لدى كل واحد فينا اهتمام بالآخر. وكنت أقف معه كلما واجه خلافا حقيقيا في مكتبه، واشترى لي أشياء كنت أراها في نوافذ المتاجر وتعجبني. وكان المفروض أن أنتظر معه حتى نهاية الامتحانات في الصيف الماضي. ثم انتهى الأمر أن أبقى برفقته تقريبا ثلاث سنوات. عشق زملائي في الجامعة ناثان، ولم يفهموا لماذا ينفق كل هذه النقود علي. أنا تفهمت الموضوع كما أظن. ولكن لم أتمكن من توضيحه. أما أصدقاؤه على ما يبدو افترضوا وجود نوع من الترتيبات الشائنة، لذلك حينما يغادر الغرفة يتبادلون الغمزات.

قلت له: يعتقدون أنك تدفع لي لقاء شيء ما.

شجع ذلك ناثان على الضحك.

قال: ولكنني في الحقيقة لا أجني شيئا يعادل بقيمته ما أنفقه عليك من نقود. أليس كذلك؟. حتى أنك لا تغسلين ثيابك اللعينة.

في عطلة الأسبوع شاهدنا “القمتان التوأم” ودخنا الحشيش معا في غرفة معيشته، وعندما تأخر الوقت طلب طعاما لا يمكن لأي منا أن يأكله كله. في إحدى الليالي أخبرني أنه يستطيع تذكر يوم تعميدي. وقال إنهم قدموا الكيك. وكان فوقه ولد صغير من القشدة.  وأخبرني أنه طفل ظريف.

قلت: أظرف مني؟.

حسنا. نعم. أنت لست أظرف منه.

دفع ناثان نفقات سفري بالطائرة من بوسطن إلى البيت. وكل ما توجب علي أن أستفسر. في الصباح التالي بعد الحمام وقفت وشعري ينقط على السجادة في الحمام. وتفحصت مواعيد الزيارة المدونة في هاتفي. كان فرانك قد أصبح في مستشفى دبلن للعلاج الداخلي من عدوى ثانوية أصابته خلال العلاج الكيميائي. كان عليه تلقي المضادات الحيوية في  السيروم. بالتدريج في الحمام، وحينما كان البخار الحار يتلاشى، تغطي جسمي طبقة رقيقة من البثور الجلدية. وعلى المرآة اتضح انعكاس صورتي وأصبح رقيقا حتى أمكنني رؤية مسامي. في أيام الأسبوع كانت ساعات الزيارة من 6 حتى 8 مساء. وبما أنه تم تشخيص حالة فرانك قبل ثماني أسابيع، أنفقت ما توفر لي من وقت بالاطلاع على معلومات في الموسوعة عن سرطان الدم الليمفاوي المزمن. ولم يبق تقريبا شيء لم أطلع عليه. تجاوزت المنشورات المطبوعة من أجل المرضى، ووصلت إلى النصوص الطبية المعمقة، واتصلت بحلقة حوار عن السرطان في الإنترنت، وقرأت pdf المقالات المحكمة. ولكن لم أتوهم أنني ابنة طيبة، أو أنني أقوم بذلك كرمى لفرانك. كنت بطبعي أنكب على المجلدات الضخمة التي تقدم المعلومات في وقت الأزمة. كما لو أنني أتأقلم مع المشاكل وأسيطر عليها بالثقافة. وبهذه الطريقة علمت كيف أنه من غير المحتمل لفرانك أن يعيش. ولم يكن مستعدا ليخبرني بذلك. رافقني ناثان بالتسوق لأجل عيد الميلاد بعد الظهيرة، قبل زيارة المستشفى. زررت معطفي ووضعت قبعة فرو كبيرة لأبدو غامضة من خلال واجهات المتاجر. كان صديقي الأخير، والذي التقيت به في جامعة بوسطن، يقول عني “الصلبة”. ولكنه أضاف: “لا أقصد ذلك بالمعنى الجنسي”. ولكنني جنسيا، كما أخبرت صديقاتي،  دافئة جدا ومعطاءة. أما الصلابة فتأتي في السياق المعاكس بالضبط.

ضحكوا، ولكن على ماذا؟. كانت هذه هي نكتتي، ولذلك لم يمكنني أن أستفسر منهن.

كان لقرب ناثان الفيزيائي مني تأثير معوق. وكلما انتقلنا من متجر إلى آخر، يمر الوقت من جانبنا مثل المتزلج على الجليد. لم يسبق لي أن زرت مريضا بالسرطان من قبل. عولجت أم ناثان من سرطان الثدي في وقت ما من التسعينات. وكنت شابة وصغيرة جدا ولا يسعني أن أتذكر التفاصيل. وهي الآن معافاة، وتلعب الغولف كثيرا. وكلما قابلتها، تخبرني أنني تفاحة بعين ابنها. وتستعمل تلك المفردات بالذات. وكررت تلك العبارة، ربما لأنها بدون معنى شرير. ولعل هذا ينطبق علي لو أنني صديقة ناثان المقربة، أو ابنته. واعتقدت أنه بوسعي أن أحتل مكاني في طيف  يبدأ بصديقة وينتهي بابنة. ولكن سمعت ناثان في إحدى المناسبات يعرفني بصفة ابنة خاله، وهي طريقة استبعاد أمقتها.

ذهبنا من أجل غداء في شارع سوفولك، ووضعنا الحقائب الفخمة بما فيها من مشتريات تحت الطاولة. سمح لي أن أطلب النبيذ الفوار وأغلى وجبة رئيسية لديهم.

سألته: هل ستتفجع علي حال موتي؟.

لا يمكنني سماع كلمة مما تقولين. امضغي طعامك.

امتثلت له وابتلعته. راقبني في البداية ثم صرف نظره. قلت له: هل ستكون فاجعة كبيرة إذا مت؟.

أكبر مأساة يمكنني التفكير بها. نعم.

لن يحزن غيره.

قال: الكثيرون سوف يحزنون. أليس لديك زملاء دراسة؟.

منحني اهتمامه الآن، ولذلك قضمت لقمة أخرى من شريحة اللحم وابتلعتها قبل أن أتابع.

قلت: أنت تتكلم عن صدمة. ولكنني أقصد فاجعة.

وماذا عن صديقك السابق الذي أمقته؟.

دينيس؟. ربما سيعجبه أن أموت.

قال ناثان: حسنا. هذا موضوع آخر.

أنا أتكلم عن فاجعة كاملة. معظم من يبلغ أربعا وعشرين عاما يتركون وراءهم الكثير من المعزين، وهذا كل ما أقوله. ولكن في حالتي لا يوجد غيرك.

يبدو أنه فكر بذلك وأنا مشغولة بشريحة اللحم.

لست مرتاحا لهذا الكلام بيننا وإلحاحك على أن أتخيل موتك.

ولكن لماذا؟.

كيف سيكون شعورك إذا مت؟.

قلت: أردت أن أعلم أنك تحبني.

حرك بعض السلطة في طبقه بأدوات طعامه. كان يستعمل أدوات طعامه مثل البالغين، ولم يرمقني بنظرة ليتأكد إذا كنت معجبة بأسلوبه. ولكنني دائما أرمقه بنظرات نفاذة.

قلت: هل تتذكر ليلة رأس السنة قبل سنتين؟.

لا.

لا بأس. أيام وقفة العيد رومنسية جدا.

ضحك لذلك. كنت ماهرة بإضحاكه حتى لو أنه لا يرغب بالضحك.

قال: تناولي طعامك يا سوكي.

سألته: هل بوسعك أن تقودني إلى المستشفى في السادسة.

نظر ناثان لي كما لو أنه يوحي أنه مستعد للأمر. كان الواحد منا يتوقع الآخر. مثل نصفين في دماغ واحد. أمام واجهة المطعم بدأ سقوط البرد، وتحت ضوء الشارع البرتقالي ظهرت رقاقات الثلج كأنها علامات ترقيم.

قال: بالتأكيد. هل تريدين مني أن أدخل معك؟.

كلا. سوف ينفر من حضورك بكل الأحوال.

لست مهتما به. ولكن لا بأس.

في السنوات الأخيرة، وهو تحت قبضة أدوية تتضمن الأفيون، كانت حالة فرانك الذهنية غير مستقرة، وتماسكه متذبذب كما يمكنك القول. وأحيانا كان يستعيد نفسه على الهاتف: فيتشكى من تذاكر مواقف السيارات، أو أنه يسمي ناثان بأسماء ساخرة مثل “السيد راتب”. كانا يتبادلان البغضاء، وكنت أتوسط بين هذه الكراهية المتبادلة بطريقة جعلتني أبدو فيها أنثى ناجحة. في أوقات غيرها، كان يحل محل فرانك رجل آخر، شخص بلا ميزة وبريء بطريقة ما، ويكرر الأشياء بلا معنى ويترك فترات صمت طويلة أحاول ملأها. ولكنني كنت أفضل الأول، لأن لديه على الأقل أخلاق مرحة. قبل تشخيص اللوكيميا، كنت أمزح وأصف فرانك ب “الأب المستبد” كلما حان وقت الموضوع في حفلات الجامعة. وينتابني الإحساس بالذنب قليلا الآن. كان غير متوقع، ولكنني لم أكن أرهب جانبه، ومحاولاته في التلاعب، مع أنها ثقيلة، لم تؤثر بي. لم أكن مكشوفة له. وعاطفيا، كنت أنظر لنفسي مثل كرة ناعمة ولكن صلدة. لم يمكنه شرائي. وكنت أنأى بنفسي. وفي أثناء المكالمات الهاتفية، زعم ناثان أن التباعد استراتيجية أتبعها للتأقلم. كان التوقيت في بوسطن، حينما خابرته، الحادية عشرة ليلا. وهذا يعني أنه الرابعة صباحا في دبلن، ولكن ناثان يرد على الاتصال دوما.

قلت له: هل أبتعد عنك؟.

قال: كلا. لا أعتقد أنني أضغط عليك كثيرا.

آه. لا أعلم. هيا أخبرني هل أنت في السرير؟.

الآن؟. بالتأكيد. أين أنت؟.

كنت أيضا في السرير. وليست هذه أول مرة أتصل به من السرير، وضعت يدي بين ساقي، وتظاهر ناثان أنه لم ينتبه. قلت له: يعجبني صوتك. وبعد عدة ثوان من الصمت المطبق، أجاب: نعم. أعلم أنه يعجبك.

طيلة حياتنا المشتركة معا، لم يكن لديه صديقة، ولكنه يأتي أحيانا إلى البيت متأخرا، ويمكنني سماع صوته من وراء جدار غرفة نومي وهو يعاشر الامرأة الأخرى. ولو تصادف وقابلت المرأة في الصباح التالي، أتأملها خفية لأقرر إذا ما كان هناك أي تشابه فيزيائي بيننا.

بهذه الطريقة وجدت أن الجميع بمعنى من المعاني متشابهون. لم أشعر بالغيرة. وفي الحقيقة كنت متحمسة لهذه المواقف بالنيابة عنه. ولكن لست متأكدة تماما إذا كان يسعده ذلك كثيرا.

لعدة أسابيع متتالية الآن كنت أنا وناثان نتبادل الإيميلات عن تفاصيل رحلتي الجوية، وخططنا لعيد الميلاد، وإن كنت أتصل بفرانك. أرسلت تفاصيل قراءاتي، واقتبست من مقالات أكاديمية أو من مواقع مؤسسات السرطان. وذكرت المواقع أنه في اللوكيميا الوعائية تنضج الخلايا جزئيا ولكن ليس كليا. وتبدو هذه الخلايا طبيعية ولكنها ليست كذلك. 

حينما وصلنا إلى أمام المستشفى في تلك الليلة، ذهب ناثان إلى موقف السيارات، فقلت: أنت انصرف. سأعود مشيا إلى البيت. نظر نحوي ويداه على المقود بالوضع المتأهب، كما لو أنه في امتحان القيادة، وأنا أفحصه. قلت له: اذهب. المشي ينفعني. أعاني من إرهاق الطيران.

نقر بأصابعه على المقود. وقال: حسنا. اتصلي بي إذا عاود المطر بالهطول. اتفقنا؟.

غادرت السيارة، وابتعد بها دون أن يلوح لي. شعرت بحب جارف ومستنفذ له، حتى أصبح من المستحيل أن أراه كما هو بوضوح. إذا ابتعد عن اتجاه نظري لأكثر من ثوان قليلة، لا يمكنني أن أتذكر شكل وجهه. قرأت أن صغار الحيوانات ترتبط بأشياء غير معقولة أحيانا، مثل الصقور حين تسقط بغرام مربيها، أو الباندا حين تتعلق بحارس حديقة الحيوانات، أشياء من هذا النوع. في إحدى المناسبات أرسلت إلى ناثان قائمة بمقالات عن هذه الظاهرة. أجابني: ربما تعين علي أن لا أحضر حفل تعميدك.

قبل عامين من الآن، حينما كنت بعمر سنتين، رافقته إلى حفلة عيد أول العام وعدنا إلى البيت بسيارة أجرة وكنا ثملين جدا. وحينها كنت أعيش معه، وأعمل على إنهاء درجتي الجامعية. وراء باب شقته، قبلتي ونحن نستند على جدار يحمل خطاف المعطف. انتابتني الحمى وشعرت بالغباء مثل إنسانة عطشانة وفجأة انسكب ماء غزير في فمها. ثم همس في أذني: ليس علينا أن نفعل هذا حقا. كان في الثامنة والثلاثين. وهكذا قضي الأمر. وذهب إلى السرير. لم نتبادل القبلات ثانية. حتى أنه نفى ذلك حينما تكلمت عن الموضوع بطرافة، وكانت هذه أول مرة لا يلتزم معي بالأصول والدماثة. قلت له بعد أسابيع: هل أخطأت بشيء معك؟. ولم تكمل ما بدأنا في تلك المرة. كان وجهي يحترق، وشعرت بالأمر. قطب وجهه. ولكنه لم يرغب بإيذائي. فقال: كلا. وانتهى الأمر. وهكذا.

كان للمستشفى باب دوار، وتفوح منه روائح المطهرات. ولونت المصابيح السجادة بلون رمادي، وكان الناس يثرثرون ويبتسمون، كما لو أنهم في صالون مسرح أو جامعة وليس بناء للمرضى والمحتضرين.

قلت لنفسي: يحاولون أن يكونوا شجعانا. ثم أضفت: وربما بعد قليل ستكون هذه هي الحياة. تبعت الإشارات إلى الطابق العلوي وسألت الممرضات عن غرفة فرانك دوهيرتي. قالت الممرضة الشقراء: لا بد أنك ابنته. سوكي. أليس كذلك؟. اسمي أماندا. بوسعك أن تتبعيني. 

 أمام غرفة فرانك، ساعدتني أماندا بارتداء مريول بلاستيكي حول وسطي، وربطت كمامة طبية ورقية خلف أذني. وقالت إن هذا لمصلحة فرانك وليس من أجلي. فجهاز مناعته أصبح ضعيفا ولكنني لست كذلك. طهرت يدي برشة كحول بارد ومرطب. ثم فتحت أماندا الباب. قالت له: ابنتك هنا. رأيت رجلا صغيرا يجلس على السرير بقدم مضمدة. كان بدون شعر وجمجمته مستديرة مثل كرة مسبح زهرية اللون. وكان فمه متورما. قلت: آه. حسنا. كيف الحال.

في البداية لم أعلم إذا تعرف علي، ولكن حينما ذكرت اسمي كرره عدة مرات. جلست. سألته هل جاء إخوته وأخواته لزيارته. لم يكن يبدو أنه يتذكر. وحرك إبهامه إلى الأمام والخلف قسرا، أولا باتجاه، ثم باتجاه آخر. وعلى ما يبدو أخذ ذلك اهتماما كبيرا منه، ولم أتأكد إن كان يصغى لي. قلت: بوسطن ممتازة. باردة جدا في هذا الوقت من السنة. آل شارلز كانوا متجمدين عندما غادرت. وشعرت كأنني أقدم عرضا إذاعيا عن الرحلات وذلك لجمهور غير مهتم. حرك إبهاميه إلى الخلف والأمام. ثم إلى الأمام والخلف. قلت: فرانك؟. دمدم بشيء، وفكرت: حسنا. حتى القطط تعرف أسماءها.

قلت: كيف تشعر؟.

لم يرد على السؤال. هناك جهاز تلفزيون مثبت على الجدار بمكان مرتفع.

قلت: هل تشاهد التلفزيون في النهار لأوقات طويلة.

وتوقعت أن لا يرد، ولكنه من حيث لا أدري قال: الأخبار.

قلت له: تتابع الأخبار؟.

لم يتأثر.

قال فرانك: أنت مثل أمك.

حدقت به. وشعرت أنني أبرد أو ربما أسخن. شيء غير مفيد طرأ على حرارتي.

ما المعنى؟.

قال فرانك: لديك فكرة أي نوع من الناس أنت. أليس كذلك؟. كل شيء عندك تحت السيطرة. زبونة جيدة. حسنا. سنرى مدى تماسكك وبرودك حين تتركين وحدك. إممم؟. ستكونين هادئة جدا على الأرجح.

كان يبدو أن فرانك يخاطب بكلامه الإبرة المغروسة في عروق جسمه الخارجية من ذراعه الأيسر. وكان يتابع بلامبالاة مميتة وهو يتكلم. وانتبهت لارتعاش صوتي مثل مشاركة سيئة في كورال.

قلت: ولماذا يجب أن أبقى وحدي.

قال: لأنه سينصرف وسيتزوج.

من الواضح أن فرانك لم يتعرف علي. وأدركت ذلك، فتراخيت قليلا، ومسحت طرفي عيني بالقناع الورقي. كنت تقريبا أبكي. ربما كنا غريبين نتكلم عما إذا كانت ستثلج أم لا؟.

قلت: ربما سأتزوجه.

ضحك فرانك على ذلك. تمثيلية بدون سياق واضح، ولكنه أمتعني بكل حال. كنت أحب أن أجني من كلامي ضحك الآخرين.

سيفقد الأمل. وفي النهاية سيجد إنسانة شابة.

أصغر مني؟.

حسنا. أنت تفهمين أليس كذلك؟.

ضحكت. منح فرانك أنبوب السيروم ابتسامة ودودة.

قال: ولكنك بنت مستقيمة مهما قالوا.

بهذه الهدنة الغامضة انتهى حوارنا. حاولت أن أكلمه أكثر، ولكن بدا أنه غير قادر على التواصل، أو أنه ضجر جدا. مكثت ساعة، مع أن وقت الزيارة ساعتان. وحين قلت إنني مغادرة، لم يلاحظ كلامي على ما يبدو غادرت الغرفة. وأغلقت الباب بحرص. وأخيرا تملصت من قناعي الورقي ومن المريول البلاستيكي. ضغطت على زر منفذ السائل المطهر حتى ابتلت يداي. كان باردا. ولدغني. دعكتهما حتى جفتا. وغادرت المستشفى. كانت تمطر في الخارج. ولكن لم أتصل بناثان. ومشيت كما لو أنني قررت ذلك، وغطيت بقبعتي المصنوعة من الفرو رأسي حتى أذني ووضعت يدي في جيبي. وأنا أقترب من تارا ستريت رأيت حشدا صغيرا يحيط بالجسر من جانبي الطريق. الوجوه وردية في الظلام وبعضهم يحمل المظلات. وفوقهم صالة ليبرتي ممدودة بشكل قوس  يشبه الأطباق الصناعية.  كانت تمطر بضباب رطب وغريب، وجاء قارب إنقاذ على طول النهر بأنوار مشتعلة. في البداية كان الزحام يبدو كأنه كتلة واحدة غامضة، وتساءلت هل يجري عرض باحتفال ما، ثم رأيت ما ينظر إليه الجميع: شيء يطفو على النهر. ولاحظت جوانبه والقماش التي يتسرب منه. وكان له حجم كائن بشري. ولم يعد للحشد إيحاء بتجمع أو احتفال. اقترب الزورق بشعلته البرتقالية التي تدور بصمت. ولم أقرر المغادرة. وتوقعت أنني لا أرغب برؤية جسم إنسان ميت، وهو يحمل من نهر ليفتي بقارب إنقاذ. ولكن انتظرت. وقفت بجوار زوج اثنين آسيويين، امرأة حسنة المظهر بمعطف أسود أنيق ورجل يتكلم بالهاتف. ظهرا لي زوجا رائعا، شخصين انجذبا إلى هذه الدراما ولكن ليس بسبب المتعة الرخيصة، وإنما بسبب التعاطف. وتحسن شعوري حيال وجودي هناك حينما انتبهت لهما.

وضع رجل من قارب الإنقاذ قضيبا بخطاف في الماء، بحثا عن أطراف الشيء. ثم بدأ يجره. خيم علينا الصمت: وحتى أن الرجل صمت عن مكالمته بالهاتف. وظهرت قطعة القماش بصمت مطبق، وخرجت مع الخطاف فارغة. ودبت الفوضى لدقيقة: هل تم تعرية الجسم من ثيابه؟. ثم أصبحت الصورة واضحة. القماش هو الشيء ذاته. وكان كيس نوم يطفو على وجه النهر. عاد الرجل إلى مكالمته بالهاتف. والمرأة ذات المعطف بدأت بتوجيه إشارة له عن شيء ما كأنك تقول: تذكر أن تسأل عن الوقت. وبعدئذ أصبح كل شيء طبيعيا وبسرعة.

ابتعد قارب الإنقاذ، وانتظرت وكوعاي على الجسر. وجهاز دورتي الدموية يعمل بشكل اعتيادي، وخلاياي تكبر وتموت بمعدل طبيعي. لا شيء في جسمي يحاول أن يقتلني. وطبعا كان الموت شيئا طبيعيا محتملا. وبمرحلة ما تيقنت من ذلك. ومع ذلك وقفت بانتظار رؤية الجثمان في النهر. متجاهلة الأحياء الذين تحلقوا حولي، كما لو أن الموت معجزة تتجاوز معجزة الحياة. كنت معتادة على البرد. وكان الجو أبرد مما يسمح بالتفكير بالأشياء القادمة. وحتى وقت عودتي إلى الشقة تخلل المطر معطفي، وفي الردهة رأيت قبعتي بالمرآة كأنها فأرماء قذر وقد يستيقظ بأي لحظة. تخليت عنها مع المعطف. قال ناثان من الداخل: سوكي.

رتبت شعري بشكل لائق. قال: كيف تم الأمر؟. دخلت. كان على الكنبة، وفي يده اليمنى ريموت التلفزيون.

قال: أنت مبتلة جدا. لماذا لم تتصلي بي؟.

لم أرد.

أضاف ناثان: هل من أمر سيء؟.

هززت رأسي. كان وجهي باردا، يلتهب بالبرد، وأحمر كإشارة مرور. ذهبت إلى غرفتي، وتخلصت من ثيابي المبتلة، وعلقتها. كانت ثقيلة، وتتمسك بشكل جسمي في ثنياتها. سرحت شعري وارتديت ردائي الفضفاض  المطرز وشعرت بالنظافة والتماسك. فكرت: هذا ما تصنعه الكائنات البشرية بحياتها. أخذت نفسا عميقا للتماسك ثم غادرت إلى غرفة المعيشة. كان ناثان يشاهد التلفزيون، ولكنه ضغط على زر كاتم الصوت حينما رجعت. جلست على الكنبة بجانبه وأغلقت عيني وحينها مد يده ليلمس شعري. اعتدنا على مشاهدة التلفزيون هكذا، وهو يلمس شعري بهذه الطريقة تماما. دون انتباه. وكان شروده مريحا لي. بطريقة ما أردت أن أعيش فيه، كأنه مكان بحد ذاته، حيث لا يشعر أنني دخلت. وفكرت أن أقول: لا أريد العودة إلى بوسطن. وأريد أن أعيش معك هنا. ولكن قلت: شغل الصوت إذا كنت تشاهده، فأنا لا أمانع.

ضغط على الزر مجددا، وعاد الصوت، موسيقا صاخبة تلدغ السمع، وصوت أنثى تشهق. فكرت: جريمة وحينما فتحت عيني رأيت مشهدا جنسيا. وكانت على يديها وركبتيها والشخصية المذكرة وراءها.

قلت: أحبه هكذا. من الخلف. أقصد. بهذه الطريقة يمكنني أن أتخيل أنه أنت.

سعل ناثان، وأبعد يده عن شعري. ثم قال بعد ثانية: عموما أنا أغلق عيني. انتهى المشهد الجنسي. وأصبحا في صالة محكمة. سال لعاب فمي. وقلت له: هل يمكننا أن نتناكح؟. ولكن بجدية.

نعم. كنت أعلم أنك ستقولين ذلك.

هذا سيحسن شعوري كثيرا.

قال ناثان: يا للمسيح.

ثم مال للصمت. وكنا متأهبين لمتابعة حوارنا. لكنني بردت. ويمكنني الإحساس بذلك. لمس ناثان كاحلي، وبدأت أهتم بدون تركيز بحبكة الدراما التلفزيونية.

قال ناثان: هذه ليست فكرة حسنة.

لماذا؟. أنت تحبني أليس كذلك؟.

على نحو شرير.

قلت له: ولكنه طلب منة صغيرة واحدة.

كلا. دفع نفقات عودتك بالطيارة كان منة صغيرة. ولن نتجادل حول هذا. فهي ليست فكرة جيدة.

في السرير في تلك الليلة سألته: متى سوف نعلم إن كان هذا فكرة سيئة أم لا؟. ثم هل علينا أن نعلم؟. كل شيء يبدو حاليا على ما يرام.

قال: كلا. الوقت مبكر جدا. وأعتقد أنه حينما تعودين إلى بوسطن سيكون لدينا وجهة نظر أخرى.

لن أعود إلى بوسطن. لكن لم أقلها. هذه الحوارات قد تبدو طبيعية. ولكنها ليست كذلك.

***

......................

سالي روني  Sally Rooney روائية معاصرة من إيرلندا. أحدث أعمالها رواية صدرت عام 2024 بعنوان “الاستراحة بين الفصلين”.

بقلم: رينا بريست

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

العلامة

في البدء كان ظلام،

ثم حزمة من امور اخرى—والكثير من الناس.

بعض الأمور قيلت وفسرت على نحو فضفاض،

**

او ربما لم يتم ابلاغ الأمور بوضوح.

بصرف النظر—لقد كان هناك دائما علامة.

ذلك الأمر الذي يخص الوديعين—

**

كيف سنرث الأرض؛ كان ذلك وعدا

اعطي في معاهدة عند فجر الزمن

واتفق عليه في ظلام بدائي

**

ووثق في سجل روحي.

كانت طبيعة الاتفاق هكذا:

سيبدو ان العالم سيدفع باتجاه يتجاوز فيه قدرته الاستيعابية.

**

سيتم "اكتشاف" كوكب جديد يبعد عنا 31 سنة ضوئية.

السفر عبر الفضاء سيتطور تطورا سريعا،

مما يجعل الرحلات سهلة ومتاحة. صفائح الجليد ستذوب.

**

ستصبح الأمور قبيحة. سيكون السبيل الوحيد للمغادرة

هو ان تشتري تذكرة. سيتم تسعير التذاكر

بالمبلغ الذي يمكن ان ينتج عن

**

التخلي عن الانسانية الأساسية.

ستبين العلامة كيف كسبت ثروتك:

اذا ارتكبت جريمة قتل، او مارست الاتجار بالبشر او استغللت الضعفاء،

**

او سرقت او ابتززت او سممت او خدعت او غششت

او بطريقة اخرى اخضعت الطبيعة لتحقيق ثروة

تكفي لأن تكون ثمنا لعبورك الى الأرض الجديدة؛

**

ان فعل اسلافك هذه الأشياء وانت لا تقوم بشيء

كي تنتفع من جرائمهم بل لا تفعل شيئا للتعويض

من خلال اعادة الثروة الموروثة الى الصالح العام

**

فسوف تمنح العبور. تم الاتفاق على ذلك.

الوديعون سوف يمكثون، الأقوياء سوف يغادرون.

وكل شيء سيبدأ ثانية.

**

سيرث الوديعون الأرض،

وما الذي سنفعله نحن بخصوص ذلك

سوى ان نضع وداعتنا جانبا؟

***

........................

* شاعرة وكاتبة تنتمي الى قبيلة اللومي (او اللاقتأميش) من قبائل السكان الأصليين لأميركا الشمالية. تلقت تعليمها في كلية سارة لورنس. نشرت ثلاث مجموعات شعرية ونالت جوائز عديدة من بينها جائزة الكتاب الوطني الأميركية..

مقتطف من رواية "فقط دخان" لخوان خوسيه مياس

(ترجمة: توماس بونستيد ودانيال هان)

ترجمها إلى العربية: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

النص التاي من رواية " فقط دخان " لخوان خوسيه مياس. لقد حاز ميلاس على أعرق الجوائز الأدبية في إسبانيا: جائزة نادال، وجائزة بلانيتا، وجائزة الرواية الوطنية. ألّف العديد من مجموعات القصص القصيرة والأعمال غير الروائية، بالإضافة إلى أكثر من اثنتي عشرة رواية، منها ثلاث نُشرت في أمريكا الشمالية: " فقط دخان "، و"لا تدع أحدًا ينام"، و"من الظلال". وهو مساهم منتظم في صحيفة El País,/ البلد، وحاز أيضًا على العديد من الجوائز الصحفية.

بعد إنهاء جميع الأوراق المتعلقة بالميراث، توجهت الأم وابنها إلى شقة الأب ليأخذا المفاتيح ويتفقدا ما يجب التخلص منه وما ينبغي الاحتفاظ به قبل عرض الشقة للإيجار. كانت الأمطار تهطل بغزارة، وكان هناك ظلام يخيّم على المدينة كما لو أنه كسوفٌ أخلاقي.

كانت الساعة الخامسة مساءً.

تقع الشقة في الطابق العاشر من مبنى مكوّن من خمسة عشر طابقًا، تُطل معظم نوافذه على الطريق الدائري إم -40، أحد الطرق السريعة التي تحيط بمدريد. وقف كارلوس مسحورًا لبعض الوقت، يحدّق في المركبات التي تدور هناك في الأسفل، ملتصقة ببعضها البعض، بينما يتناثر من عجلاتها رذاذ الماء مثل المراوح. ثم أفاق من شروده عندما سمع صوت أمه.

قالت: "سأبدأ بغرفة النوم"، وكأنها تمنحه بعض الوقت لنفسه—لعلها، كما افترض الفتى، أرادت أن تتيح له فرصة للتواصل التخاطري مع الرجل الميت، بعدما حرمته من ذلك حين منعته من حضور الجنازة.

عندما اختفت المرأة في نهاية الممر، أخذ كارلوس يذرع غرفة الجلوس ذهابًا وإيابًا، محاولًا تخيّل والده في هذا الحيز الذي، لولا الكتب التي تكسو الجدران، لبدا خاليًا ومجردًا من الطابع الشخصي. الأثاث، الذي كان كله من الإنتاج السوقي، كان باهت الملامح بلا أي تميز. لكن، في الجهة المقابلة للتلفاز، كانت هناك مقعد جلدي قابل للإمالة، لا ينسجم مع بقية الأثاث: بدا كأنه بذخ لا مبرر له. فكّر الشاب: من ذاك المقعد، كان والدي يشاهد الأفلام المرتبة بعناية على رفوف خصصت بوضوح لهذا الغرض، منفصلة عن رفوف الكتب. لم يكن كارلوس من هواة السينما، ولا من القرّاء، لذا لم يتوقف طويلًا عند عناوين الكتب أو الأفلام.

تحرّك بحذر، كمتسلّل يشعر أنه دخيل، وسرعان ما وجد نفسه في الممر حيث تصطف أربعة أبواب (ثلاث غرف نوم وحمام، كما افترض، لأن المطبخ كان بجوار المدخل). كانت أمه تفتش في غرفة النوم في نهاية الممر، فدخل إلى الغرفة الأولى على اليمين، والتي بدت وكأنها مكتب أستاذ. وعلى المكتب، الذي كان بسيطًا ومرتبًا، لم يستطع إلا أن يلاحظ دفترًا ذا غلاف ناعم، وقد كُتبت صفحاته الأولى بخط يد واضح لكنه متوتر، وهو ما عزاه إلى والده.. وقد تأثر بهذا الاكتشاف، ففكّ قميصه من البنطال، وحرصاً على عدم إتلاف الدفتر، خبّأه عند أسفل ظهره، مشدوداً تحت حزامه. ثم أعاد قميصه إلى مكانه، ومشى بضع خطوات ليتأكد من أن الدفتر ثابت في موضعه.

ثم، متظاهرًا برباطة جأش لم يشعر بها، توجه إلى حيث كانت والدته تنظر بتأمل إلى الأغراض في غرفة النوم، والتي كانت قليلة ومتباعدة أيضًا. بدت عليها خيبة الأمل.

قالت:

"الأمر صادمٌ للغاية!"

فأجابها كارلوس:

"أجل."

سألته:

"ماذا كنت تفعل؟"

" كنتُ فقط ألقي نظرة هناك."

"هل وجدت شيئًا مثيرًا للاهتمام؟"

"لا، لا شيء. الكثير من الكتب."

ألقى الفتى نظرة حذرة داخل الحمّام الملحق بغرفة النوم، والذي كانت رائحته كرائحة حمّام استُخدم فعلًا. ظن أنه يشم رائحة عرق جسد، ذكرته برائحته هو. وعلى المغسلة رأى ماكينة حلاقة كهربائية من نفس الماركة التي يملكها، وكوبًا بلاستيكيًا يخرج منه فرشاة أسنان.

وفي غرفة النوم الثالثة، التي قد تكون مخصصة للضيوف، عثرا على طاولة كيّ وكمية من القمصان المجعدة على السرير.

قمصان والده.

*

كان الظلام قد حلّ حين انطلق كارلوس ووالدته عائدين إلى المنزل. كانت الأمطار قد توقفت. ومن حين لآخر، كان البرق يضيء السماء، يتبعه الرعد بلا خطأ. قادا السيارة والنوافذ مفتوحة، إذ كان شهر يونيو قد دخل بقوة والجو معتدل. كان من الجميل استنشاق ذلك الهواء الرطب بعد أشهر من التلوث والجفاف. كانت والدته تقود. لم يكن لدى كارلوس رخصة قيادة؛ لم يشعر قط برغبة في تعلّم القيادة.

سأل:

"لماذا كان يعيش وحده؟"

فأجابت والدته، كما لو كانت تردد ترنيمة محفوظة:

"لأنه كان رجلاً معذّبًا، والرجال المعذّبون عادةً ما يعيشون وحدهم."

"أنتِ أيضًا تعيشين وحدك."

"أنا أعيش معك. ثم إن لديّ حبيب. سأحضره إلى البيت يومًا ما، سترى."

"لم يكن لديه الكثير سوى الكتب والأفلام."

"من؟"

"من تظنين؟ أبي."

"هذا أفضل. تفريغ بيت قد يكون كابوسًا."

*

في وقت لاحق، وبعد أن تأكّد من أن والدته قد ذهبت إلى سريرها للنوم، أغلق كارلوس باب غرفته على نفسه، وفتح دفتر والده للمرة الأولى، وأخذ يقرأ:

إنه الموت، هي من تدفعني إلى كتابة هذه السطور.

موت فتاة في العاشرة من عمرها كانت ابنتي، وإن لم يعرف ذلك أحد سوى أمها وأنا.

لقد قتلتها، رغم أنني لا أستطيع إثبات ذلك.

أعيش في هذه الشقة منذ ما يقرب من عشرين عامًا، منذ أن انفصلت عن زوجتي، بعد وقت قصير من إنجابنا لولد سمّيناه باسمي. كارلوس، الذي انقطعت علاقتي به خوفًا من أن أحبه.

اخترت، كي أُبعد نفسي عن ابني، أن أتلاشى تدريجيًا، أن أُطيل أمد الانسحاب لأشهر، حتى لا تكون القطيعة موجعة لأي منا.

ومع ذلك، تركت القطيعة جرحًا في داخلي، لم يكن عميقًا أبدًا، لكنه لم يلتئم ولم يتحول إلى ندبة، وها هي الآن تسبب لي ألمًا مستمرًا، وإن كان أقل حدة، على ما أظن، من ألم حب الأبناء حين تدرك أن كل نبضة في قلوبهم حدث لا تفسير له؛ كل نفس يتنفسونه واقعة فريدة؛ وكل رمشة جفن منهم معجزة.

الطريقة التي اتبعتها في التوقف عن كوني أبًا له كانت، باختصار، أن أُبعِده عني، أن أُقصيه من حياتي.

وهذا بالضبط ما فعلته مع أول وآخر رواية حاولت كتابتها، والتي تركتها غير مكتملة ثم أحرقتها في النهاية، كما لو أنني أتخلّص من شاهد على جريمة.لقد آلمني ذلك أيضًا، لكن ليس بقدر ما آلمني الصراع من أجل أن أمنحه بداية جيدة في الحياة.

وعدت نفسي آنذاك بأني لن أكتب مجددًا، ولن أنجب أطفالًا مرة أخرى، وقد أوفيت بهذا الوعد، إلى أن انتكست الآن، وأنا أروي على هذا الورق شيئًا لا يستطيع تحمّله إلا الورق نفسه.

إذًا… لنبدأ.

قبل نحو اثني عشر عامًا، انتقل زوجان شابان حديثا الزواج إلى الشقة المجاورة لشقتي، وسرعان ما نشأت بيننا علاقة صداقة وثيقة جدًا.

الزوج، بسبب طبيعة عمله، كان يسافر كثيرًا، لذا أصبح من المعتاد أن نلتقي أنا وزوجته بمفردنا، وغالبًا في شقتي. أميليا — هكذا كان اسمها — كانت تحب القراءة، وكانت تجد متعة كبيرة في استعارة الكتب مني. وبما أنني تعرّفت إلى ذوقها سريعًا، فقد كانت اقتراحاتي غالبًا ما تصيب الهدف.

شخصيات الروايات — فهي لم تكن تقرأ سوى الروايات — بدأت تربط بيننا بروابط تجاوزت حدود الصداقة.

أحيانًا، عندما يكون زوجها مسافرًا، كنا نقضي الليل معًا.

ليس الليل بأكمله؛ بل كانت تغادر في ساعات الفجر الأولى، تفتح باب الشقة المجاورة، وتدخل إلى سريرها، الذي، من حيث ترتيب البيتين المتناظر، كان بمثابة انعكاس لسريري.

لم أرَ أي خطر في ما كنا نقوم به، لأنها، مثلي، كانت حذرة للغاية، ومثلي تماما، لم تكن تطالب بأن تتطور العلاقة إلى شيء آخر. ولم يكن يبدو أننا نخون زوجها، لأن علاقتها به، حسب ما كانت تقوله لي أميليا، لم تزد إلا تحسنًا منذ بدأت علاقتنا.

في أحد الأيام، أخبرتني أميليا بأنها حامل، مؤكدة أنني الأب الوحيد الممكن. قالت إنها قامت بحساباتها وتعرف تمامًا الليلة واللحظة التي تم فيها الحمل.على الفور، ارتفع حذري، لكنّها، وبصبر كبير، هدّأت شكوكي: ستتظاهر بأن الطفل هو ابن زوجها.

وبعد أن حُسم الأمر، توقفنا عن اللقاء على انفراد.

صدّقتها، لأنها كانت امرأة ذات قناعات راسخة، وهكذا، وبعد أن تجاوزت لحظات الشك والذعر الأولى، بدأت فكرة أن أكون أبًا سرًا، ومن دون أي التزامات، تثير فيّ شيئًا من الحماسة: أن أكون أبًا من دون متاعب الأبوة، لكن طفلتي — فقد عرفنا سريعًا أنها فتاة — ستكون على مقربة مني ، في الشقة المجاورة تمامًا.سأراها تكبر، وسأقدّم لها الهدايا في عيد ميلادها، وربما تناديني "عمو".

عمو كارلوس .كان ذلك يبدو لي رائعًا .ربما هذه التجربة الثانية في الأبوة ستخفف من الألم الذي سبّبته لي التجربة الأولى.

وُلدت الطفلة، ماكارينا، وقدّمت يد العون للوالدين الجديدين.وبمرور السنوات، أصبحت بالفعل بمثابة عمّ لها، ولحسن الحظ، لم ترث مني أية ملامح جسدية — كانت تشبه أمها كثيرًا.كثيرًا ما كنت أعتني بها حين يضطر والداها للخروج، وكنت أفعل ذلك بسرور بالغ، فقد كانت طفلة ذكية وفضولية للغاية، وكانت تستمتع بصحبتي كما كنت أستمتع بصحبتها.

وعندما بلغت ماكارينا الخامسة من عمرها، انفصل والداها، وهو ما زاد من عمق علاقتي بها وبوالدتها، حتى أصبحنا، رغم أننا نسكن في منزلين منفصلين، أسرة حقيقية. في بعض الأمسيات، كنت أذهب لاصطحابها من المدرسة، وأعيدها إلى شقتي، وأساعدها في أداء واجباتها، كي تنتهي منها سريعًا وتتمكن من مشاهدة التلفاز قبل أن تأتي والدتها لتأخذها.

كانت أحيانًا تروي لي حكايات عن المدرسة وصديقاتها بينما نتقاسم طبقا من الفستق الحلبي، الذي كانت تحبه كثيرًا.كنت أراقب حركاتها بعناية، محاولًا أن أجد في ملامحها أو سلوكها شيئًا يشبهني، ومع ذلك، لحسن الحظ، لم أجد.

كانت حياتنا تسير بهدوء نسبي، ومع ذلك، لم أستطع إنكار أن تحت ذلك الهدوء كان الشيطان نفسه يتقلب، ذاك الذي دفعني من قبل إلى هجر عائلتي الأولى وتدمير روايتي غير المكتملة.

ثم، منذ أيام، أخبرتني ماكارينا أن شيئًا غريبًا جدًا حدث لها. قالت:

"لم أخبر أحدًا بهذا."

سألتها، محاولًا أن أبدو مهتمًا أكثر مما كنت في الحقيقة:

"ما هو؟"

فقالت:

"فراشة بيضاء خرجت من أذني."

عندما قابلتُ كلامها بصمت بارد، وربما ساخر، أضافت أنها كانت وحدها في البيت، لأن أمها ذهبت إلى كشك الجرائد في الشارع.

كانت تحلّ جدول الضرب لكنها تركته للحظة لتذهب إلى المطبخ وتأخذ قطعة شوكولاتة.

ثم، بينما كانت واقفة هناك، وهمّت بمد يدها إلى الخزانة، شعرت بوخز في أذنها اليمنى، وحين رفعت يدها لتحكّها، لاحظت أن شيئًا ما كان يحاول الخروج. أزاحت إصبعها، وفورًا خرجت فراشة بيضاء، ليست كبيرة جدًا،رفرفت قليلًا بالقرب من السقف، ثم حطّت على شفاط المطبخ.

قالت:

"الشيء المذهل هو أنني كنت تلك الفراشة. كنت في مكانين في آنٍ واحد: واقفة على أرضية المطبخ، كإنسانة، وأيضًا فوق شفاط المطبخ، كفراشة، وكنت أرى نفسي وأنا أنظر إليّ – إلى نفسي - بدهشة."

سألتها:

" وماذا حدث بعد ذلك؟"

قالت:

"سمعت صوت الباب، وكانت أمي، طبعًا.ثم طارت الفراشة عائدة إلى أذني ودخلت إلى رأسي من جديد."

قلت، مرددًا عبارتها:

" إلى رأسك؟"

"نعم، واختفت."

"فهمت."

بعد لحظات،  سألتني، وقد لاحظت ملامحي الجامدة.

" ألا تصدقني؟"

أجبتها مبتسمًا:

"طبعًا لا "

أومأت ماكارينا إيماءة لم أستطع تفسيرها بدقة، ثم تابعنا أكل الفستق في صمت.

بعد أن جاءت أميليا وأخذتها، خرجتُ إلى الشرفة لأدخّن سيجارة، فإذا بفراشة بيضاء، ليست كبيرة جدًا، تحطّ على الدرابزين. قلت:

"مرحبًا، ماكارينا."

وهذا كل ما في الأمر.

*

في اليوم التالي، جاءت والدتها بها إلى شقتي لأن موعدًا غير متوقع قد طرأ ولم يكن لديها وقت لكي تجد مربية. قلت لها ألا تقلق، يمكنها أن تذهب، لا مشكلة، لم يكن الأمر مزعجًا.

كانت الساعة السابعة مساءً، وهو الوقت الذي أتناول فيه عادةً وجبة خفيفة، فلما بقينا وحدنا، أخرجتُ وعاءً من الفستق وبدأنا نأكله معًا بينما كانت تخبرني عن المدرسة. ثم سألتني عن طبيعة عملي "بالضبط"، فقلت لها إنها تعرفه بالفعل: أنا مدرس لغة إسبانية .

قالت:

"هذه أسوأ مادة لدي، لكنني جيدة في الرياضيات."

قلت:

"لا يمكنك أن تملكي كل شيء."

قالت:

"اسألني شيئًا."

قلت:

"ماذا تحصل إذا أضفت ستة إلى ستة وستين؟"

ردت على الفور:

"اثنان وسبعون."

كنت على وشك أن أقول لا، أنه إذا أضفت ستة إلى ستة وستين فستحصل على ستمائة وستة وستين، لكني لم أكن متأكدًا من أنها ستفهم المزحة ولم أرد أن أربكها.

قلت:

"جيد جدًا."

وبما أن الفستق جعلنا نشعر بالعطش، سكبتُ كأسين من الماء مع ثلج وشريحة ليمون.

قالت:

"تقول أمي إنه لا يجب أن أشرب ماء مثلج."

قلت:

"هل تريدين أن أزيل الثلج لك؟"

قالت:

"لا."

أخذت الكأس ورشفت منه بحذر شديد. ضحكتُ وضحكت هي أيضا،  ثم جلسنا في صمت قليلاً. كانت قد أخرجت شريحة الليمون من الكأس وأخذت تمصها بتعبير يجمع بين اللذة وعدم الارتياح.أخيرًا، تحدثت مرة أخرى.قالت:

"هل تعرف ماذا حدث لي أمس؟"

قلت:

"ماذا؟"

قالت:

"كنت بمفردي في غرفتي، وبدأت أذني تشعر بوخز. ثم خرجت الفراشة من أذني مرة أخرى."

قلت:

"آه، صحيح."

قالت:

"لم تخرج لفترة طويلة، لأن أمي نادتني، فطارت الفراشة مباشرة إلى رأسي."

قلت:

"كم تستغرق فترة 'ليست طويلة'؟"

قالت:

"مدة تسخين الحليب في الميكروويف."

قلت:

"دقيقة، إذًا."

قالت:

"أكثر أو أقل، لكنني قضيت كل الوقت أطير في كل أرجاء الغرفة. فى الحقيقة  يجعلك هذا تشعر بدوار البحر عندما ترى الأشياء من الأعلى ومن الأسفل في نفس الوقت."

أعطيتها ابتسامة تعبر عن أنني فهمت، ثم جاءت أميليا لتحضرها.

تلك الليلة، عندما خرجت إلى الشرفة لأدخن سيجارتي قبل النوم، رأيت فراشة تجلس على الدرابزين، تشبه تمامًا الفراشة التي رأيتها في الليلة السابقة، ربما كانت نفس الفراشة. كانت أجنحتها البيضاء تتلألأ في الظلام. حركت سبابتي وسبابتي الأخرى نحوها كما لو كانا ملقطًا، وتمكنت من الإمساك بها. قلت:

" أمسكتك، ماكارينا" .

أخذتها إلى الغرفة التي أقرأ فيها وأصحح أوراق وامتحانات طلابي، وغرست دبوسًا في صدر الحشرة وثبّته في لوحة الفلين على الحائط. لفت انتباهي شكل جسدها الذي بدا وكأنه يشير إلى شكل فتاة، لكنني رفضت الفكرة واعتبرتها فكرة مريضة. راقبتها ترفرف بأجنحتها قليلاً لأنها لم تمت بعد، ولكن عندما ماتت أخيرًا، بقيت أجنحتها مغلقة تقريبًا بالكامل، على عكس ما تراه في المجموعات المحفوظة.

بعد ذلك، سمعت طرقًا شديدًا على الباب الأمامي. كانت الفتاة قد مرضت مرضًا شديدًا وكانت تطلب مساعدتي بيأس. سألت أمها بينما أركض نحو غرفة نومها:

" ما خطبها؟"

قالوا لي:

"تشتكي من ألم شديد في صدرها."

وعندما وصلت إلى غرفتها، كانت قد توقفت عن التنفس. فقدت أميليا عقلها، واضطررت إلى إخراجها من الغرفة.

*

كانت بقية صفحات الدفتر فارغة. لقد منعته الموت من أن يكتب فيها. ظن كارلوس أنها كانت بداية قصة أو رواية، شيئًا خياليًا.

فكّر في نفسه: الرجال المضطربون يكتبون أشياء مضطربة.

(انتهى المقتطف)

***

د. محمد عبد الحليم غنيم

23/ 5 / 2025

بقلم: جيني إيربينبيك

ترجمة: صالح الرزوق

***

تستلقي جدتي على كرسي الحديقة فوق الأعشاب. تأخذها نوبة وسن في شمس ما بعد الظهيرة، وقد وضعت على أنفها للحماية ورقة نبات بلاستيكي حمراء. ولهذه الورقة عروق منتفخة كأنها حقيقية، وقد صممت لغاية حماية الأنوف من الشمس. وقفت بجانب كرسي الحديقة أتأمل جدتي. شعرها رقيق محمر، تلمع من تحته جمجمتها الشاحبة، عيناها مغلقتان، ولكن حتى في نومها تشمخ بوجهها، وتعرض أنفها الأقنى مع ورقة الحماية، للشمس، ولا تسمح لرأسها بالسقوط على جانبها، ويبدو بدنها فقط أثقل مما هو عليه في حالة اليقظة، كما لو أنه ذاب بالحرارة، وتدفق شحمه في ساعديها وساقيها، وكل ما يمكن لجلدها أن يفعل هو الاحتفاظ بتماسك هذا الارتخاء الشبيه بعمود ضخم، وهو رقيق، رقيق لدرجة أنه يوشك على التمزق، كما أنه حساس ومتجعد، ومشع كأنه لؤلؤة أصيلة. من الطرف الذي أقف فيه، تدلت يد من يدي جدتي، لمستها بحذر بأناملي لأرى إن كان سيصدر عنها صوت خشخشة. لكنها لم تخشخش. وهذا يعني أنها حية. كانت جدتي تضع خاتما له حجرة كريمة مربعة ولا تخلعه من يدها. ولذلك أصبح الخاتم في مسيرة حياتها دائما ولا يمكنها انتزاعه بسبب تورم جسمها. ولتتحرر من هذا الخاتم، عليها أن تبتر أصبعها، كما أعتقد، ثم تقفز على السلالم، سلمتين اثنتين اثنتين، حتى يفضي بها السلم إلى غابة من الشوكيات، فتمر من خلالها إلى الماء.

وأرى جدتي بعد الظهيرة، حينما تأتي إلى الشاطئ لتسبح يوميا في البحيرة. وها هي تخطو قدما، بكامل قامتها، ورأسها مغطى بقبعة استحمام زرقاء تتخللها انثناءات، وبقية جسمها مستور تحت بيكيني من خياطة يدوية. وقدماها البيضاوان أكثر بياضا من المعتاد، وتبدو مزخرفة بصور الأزهار، لأنها ترتدي حذاء استحمام مطاطي كبير الحجم. وبهذه الطريقة تتابع الجدة نحو السلالم التي تقود إلى البحيرة، وتهبط نحوها خطوة خطوة، وما أن تبلغ آخر سلمة، تتابع المشي لفترة طويلة قبل أن تباشر السباحة. ودون أن ترتجف، تكمل مسيرتها بقدم منتعلة فوق مختلف النفايات المخفية تحت السطح: الوحل الناعم الذي يبتلع بهدوء قدم المرء، والنبع البارد الذي يشكل البحيرة متسللا من تحت الوحل، والأغصان الصغيرة، والثمار السوداء لنبات جار الماء التي تمخر عباب الماء - حتى ترسب في القاع، وشظايا الزجاج وبقايا الأشنات. أنا أتجول في جزيرتي، مثل دولاب مطاطي كبير، وأراقب جدتي وهي تدخل في البحيرة، وأتخيل السمك الأحمر يسبح حول تلك الأعمدة الممتلئة. وبعد الوصول لعمق معين، تسلم نفسها لسطح الماء، تستلقي على ظهرها، وتعوم، أسمي هذا الأسلوب بالسباحة باسم طواف الرجل الميت. حاولت أن أقلدها بعدة مناسبات، ولكن كنت أغوص دائما: أبدأ بالساقين، ويبدأ جسمي بالهبوط رغما عني مثل شمعة تذوب في حرارة الشمس. وتعجبني جدتي لأنها قادرة على السباحة دون حركة، وربما سيجرها إلى الأسفل، البيكيني المصنوع يدويا، بعد أن يتشرب الماء، وهناك تحتها يعوم السمك الأحمر بمسار متعرج نحو الأمام والخلف. والآن لا أرى منها غير أنفها فوق سطح الماء كأنه زعنفة ذيل سمكة قرش.

ما بين سباحتها وغدائها، مثلما هو الحال في الصباح، تعود جدتي إلى العمل. العمل يعني المكوث في غرفتها، تغلق الباب، وتحفظ النصوص غيبا. أحيانا أقف في الممر لأصغي. وهذا الممر مجرد معبر في الخزانة، فهناك خزانات محفورة في الجدران، وهي موصدة، والمفاتيح مع جدتي فقط. والرائحة الخفيفة للملاءات المكوية الحديثة تتسلل من هذه الخزانات - وأنت لا تعرف محتويات هذه الخزانات - وهي متصلة بدون إضاءة مع الغرفة المغلقة والتي أعلم بالتأكيد أنه لا أحد فيها غير الجدة. ومع ذلك يأتي منها عدد كبير من الأصوات التي لا أعرف أصحابها.

بيني وبين هذه الأصوات باب من زجاج مضاعف مثبت عليه، ويقعقع كلما ذرعت جدتي الغرفة بخطواتها إلى الأمام والخلف. وأحيانا يظهر خيالها عبر هذا الزجاج، وأشعر بالدهشة كلما نظرت إلى خيال جدتي في حين أن الصوت المسموع يدل بوضوح على بنت صغيرة وهي تتلو: أخرج من أعماق غرفتي الصامتة / الآباء الرماديون في الدولة، دون اختيارنا / أنا قادمة، وبعيدا عن نظراتكم، أزيل / الحجاب الذي يظلل قممي المعزولة /.

بعد لحظة، وظل جدتي لا يزال مرئيا، أسمع صوت رجل يتكلم، يقف هناك وبصوت ينم على التحدي، يقول: حينما كنت طفلا كنت أنظر إلى الشمس. تبع ذلك صمت طويل. وهذا الصمت تمخض عن صوت لا هو نسوي ولا ذكوري، ويشبه هزيم الرعد، وجعل الزجاج المضاعف يرتعش. ماهاديفا، يا إله الأرض. ومن بين هذه الكلمات، بقيت صيحة تعجب واحدة لا يبدو أنها تتعارض مع الخيال المسحور الذي أمامي بأنفه الشبيه بذيل سمكة قرش. على الرمل. على الرمل. يوجد كل ما بنته يد البشر. وأنا أسمع صوت جدتي الذي أعرفه، ولكن مثل بقية الأصوات، أتساءل هل جدتي تحاذر أن لا تتكلم كثيرا معي حينما تخرج من هذه الغرفة لأنها تتوجس من كل هؤلاء الآخرين الذين سكنتها أصواتهم. فقد يقفزون من فمها مثلما تقفز الضفدعة من فم الأميرة الدميمة كلما ذكرت كذبة.

ليس لدينا ضيوف، ولكن لدينا إلى جانب جدتي اثنان يظهران يوميا في بيتنا.

أولا هناك الحدائقي، مسلح بمقص تقليم كبير، وينشغل بمعركة لانهائية ضد القفر الذي يبدأ من أطراف الحديقة. وكل دخيل يجعله يغضن جبينه. وهذا الجبين يشبه صخرة عالية وقاسية وتخلو من الشعر. وكل شيء معوج يتم قصه ليتحول إلى خطوط مستقيمة، وكل شيء طويل يقصره. أيضا يشطر حطب الموقد، وينظف أنابيب الماء، ويطرق المسامير بالجدران. وكلما رأيته، يكون بين يديه العظميتين أداة معدنية ثقيلة يستعملها لطرق ووخز وقص شيء ما. وأحيانا أتساءل هل يستفيد من لياليه، حينما لا يعمل هنا على خدمتنا، ليخدم نفسه: فيقص شعره حتى لا يبقى إلا القليل منه كي يغطي به الجزء المتعرق منه، ويقضم أظافره، وينفخ خديه، ويشد الجلد على أطراف جمجمته.

الضيف الآخر في بيتنا هي التي تطبخ لنا لأن جدتي لا تتقن الطهي. ولهذه المرأة وجه جديد كل عام. إما أنها تثرثر كثيرا، أو تبكي باستمرار، الثالثة تدعو كل عائلتها معها، والرابعة لم نطردها بأنفسنا، فقد فرت من السجن وجاءت الشرطة في أحد الأيام وراءها. الطاهيات يأتين ويذهبن، ولكن في الغداء ثلاث أطباق أساسية. هناك حساء لحم العجل النقي، أو حساء البندورة مع القشدة، وهناك عدة أنواع من حساء القشدة مع خضار الطبق الأساسي التالي، أو عصيدة مخفوقة بالبيض، ويتبعها قرنبيط مشوي وحار مع فتات الخبز، أو الأسبراجوس مع صلصة البيض، أو لحم العجل المسلوق، أو البطاطا المسلوقة بقشرتها وبجانبها الجبنة الطرية والأعشاب، أو السمك المشوي والأرز، وهناك الغولاش ومكعبات اللحوم، أو الحساء مع الكثير من بذور الكراوية. وبين حين وآخر هناك صحن صغير من لحم الرأس لجدتي، لحم الرأس، لحمة دماغ العجل، وأراقب جدتي وهي تأكل، وتدس هذا الدماغ المفروم في فمها ورأسها، وأتساءل إن كانت هذه طريقتها لامتلاك كل تلك الأصوات المتباينة. وهناك الجبنة الطرية مع الفريز، المثلجات مع القشدة المخفوقة، سلطة الفواكه، حلويات الفانيلا، التوت. ثم تحين الاستراحة. فأرى الجدة والورقة البلاستيكية ذات العروق على أنفها، وأكون أنا في ظل الهوثورن، وعلى مبعدة تقعقع الطاهية بالأطباق، ويشذب الحدائقي الحديقة بحزم من الأغصان التي يبترها،

وحين يفترض أنني نائمة، ألهو بتمشيط أطراف اللحاف الصوفي الذي أستلقي تحته. لا أود أن أنام، فهو يضجرني، وأنتظر فقط تلك الهمسات العميقة التي تعيش في رأس جدتي وتظهر حينما تغرق بالنوم. ثم أقفز على السلالم، اثنتين اثنتين، لتقودني من بين الشجيرات الشوكية حتى الماء.

بعد العشاء ومع بداية الليل، غالبا يأتي سائق جدتي لينقلها إلى البلدة. وبخلاف تبدل الطهاة، بقي السائق نفسه كل هذه السنوات، بقبعة مثقوبة يرفعها دائما للتحية، وبما أن القبعة بقبت نفسها كل هذه السنوات، فإن البقعة التي يمسكها منها أصبحت لماعة جدا من الدهون. كانت جدتي تظهر على مسرح البلدة، أمام الجمهور - فهي ممثلة، وتوجد في غرفة المعيشة صورة تعلن عن ثمن التذكرة التي يتوجب على الناس دفعها ليستمعوا إلى كلامها. وأسعدني أن أشتري تذكرة لأسمع جدتي تتكلم، باعتبار أنها لا تكلمني دائما، وأنا غير مهتمة حقا إن كان هذا صوتها أو أنه صوت آخرين تتقمصهم، ولكنها لم تصحبني معها أبدا. وقبل أن ينصرف السائق من أمامي، يضيف سلسلة من الحركات زادت من لمعان قبعته، ثم يفتح الباب للجدة، ويمد ذراعه، وبعد أن ترتاح بمجلسها، وتنجح بلملمة كل أجزاء ثوبها الطويل الزاهي في الداخل، يغلق الباب بهدوء ويبتعد بها.

في الليل لا يوجد طاه، والأعشاب التي وضعتها في زجاجات صغيرة مليئة بالماء وتركتها على حافة نافذة المطبخ، بدأت بالذبول والانحناء، وبقايا الخبز يغطيه عفن كالزغب، وأباريق الشاي فقدت أغطيتها، وانكسرت الأطباق إلى أجزاء، واصفر السكر في العلبة، ولحقت الرطوبة بالملح، وأمكنني أن أرمي به أي شخص كأنه حجرة لو كان هناك أحد.

ليلا يغطي الصدأ السكاكين، وتنتفخ الأدراج ولا يمكن تحريكها، وتتسابق الدلق (تشبه بنات عرس. "هامش مترجم") في العلية مع بعضها البعض، وتستعمل أسنانها، وتتبول على السقف فوق رأسي، وتتجمد الستائر وتتمزق، وتتمدد إطارات النوافذ، فتتحرر ألواح الزجاج، ويتطاير الزجاج، ويتساقط ويتناثر - كل ذلك والطاهي غير موجود. وفي الليل الحدائقي غير موجود، فقد ذهب إلى بيته، وهناك يقف أمام مرآة قذرة، يخاصم نفسه، ويشد شعره. ويحفر خديه بالمقص، ويغرس أسنانه في يديه، ولا يوجد هناك أحد ليغضن جبينه أمام هذه الفوضى، ولا أحد يجعل الوقت على فترات مرتبة، وفي الليل يمكنني الاستماع لصوت نمو العشب، ويمكنني الاستماع للعشب وهو يتلوى ويخرج من الأسفل ليستعمر الممرات. الطاهي غير موجود. والحدائقي غير موجود - وأنا - أنا - أنا أنتظر جدتي.

حينما أكون طويلة بما يكفي لأقدم ذراعي لجدتي في نزهاتنا، ستقدم لي التعليمات بأسلوبها الفني في الإلقاء. فهي تجزئ الكلمة إلى حروف مستقلة وسأعمد لتهجئتها مرارا وتكرارا حتى لا يبقى لها معنى ولكن تبدو مألوفة، لغة بذاتها. ما، مي، مو، ميو، ماو، موي، ماي. ثم تقدم لي جملا أرددها، كأنها حجارة في الفم حتى يتعلم لساني كيف يناور من حول المعوقات.

في البداية تقريبا اختنقت وأنا أجرب هذه الطريقة وفوق ذلك وأنا أركز كي لا أتقيأ، ولكن بالنهاية تسمع ما يشبه طرقات الحصى على السن حينما أتكلم، ويكون صوت الجملة واضحا ومفهوما، سواء كانت جنوب، أو شمال، أو غرب أو شرق الصخرة التي وضعتها جدتي في فمي.

تبقى تجربة أقف فيها أنا وجدتي متواجهين كل في زاوية من الغرفة. ننادي بعضنا البعض: هاي. مرات ومرات. هاي. هاي. ولا أفهم لماذا حينما أقف في غرفة برفقة جدتي، ويمكنني رؤيتها جيدا وتماما، يجب علي أن أناديها هكذا، وفي النهاية تأتي لحظة يصبح فيها صوتي شعاعا موجها إليها، وهي اللحظة التي أشعر فيها لأول مرة أنني وصلتها.

والآن أنا في بيتي وفي بلعومي، حنجرتي، سقف حلقي، وقد امتلكت الكلمات، وهي تعيش على لساني وبين شفتي، أتنفس بأنفي حتى أعماق جسدي وأغذي الكلمات بالهواء. وجدتي تعلمني كيف أنطق عدة جمل متتاليات كي أرسم بها مشهدا طبيعيا، وتعلمني كيف أتأنى، وألزم الصمت. ثم تعلمني أنه بإمكانك أن تبكي حين تودين البكاء. وأن تضحكي حينما تريدين الضحك. ابكي أو اضحكي بأعلى صوت وأطول فترة تريدين. وأخيرا علمتني كيف أتراجع وأكون وراء صوتي، كما لو أنني أعير جسدي لشخص يود أن يتكلم، وهكذا يمكنه أن يؤكد حضوره، وأعيره أفكاري ليفكر بها، ومشاعري ليحس بها. والآن أرى لماذا لم تتكلم جدتي معي بصفتها الجدة - فقد تراجعت كثيرا وراء صوتها ولم يعد بإمكانها رؤية حفيدتها. وفي نهاية الأمر بدأت أمثل علنا لنفسي. تلوت القصائد، والعروض والمونولوجات من مسرحيات، وجاء الناس ودفعوا ثمن الدخول ليسمعوني أتكلم. وأول عدة أمسيات، جلست جدتي بين المشاهدين وصفقت لي بيديها الناعمتين غير القادرتين على إصدار صوت. ثم قالت: لن أمثل بعد الآن، فأنت تتقنين عملك. قالت ذلك كما لو أنها تتخلص من كومة طوب كبيرة وثقيلة. استلقيت هناك تحت التراب والحجارة لأقول كلا، ولكن جدتي قررت أن لا تستمع لاعتراضي. ومن هذا اليوم، توقفت عن التمثيل فعلا، ولكن في البيت ما زلت أسمع كلامها وراء أبواب مغلقة، كما لو أنها تتمرن، ولكنني لم أعرف هذه النصوص ولم يمكني فهم الكلمات، وأحيانا أسمعها تضحك، ولكن ليست هذه هي الضحكة التي تعلمتها منها، عالية وطويلة كما تريد. ولكنها رقيقة، ضحكة شبح قديم، بالحقيقة ضحكة صبية. بالتدريج علمت أنها ضحكتها وقد استعادتها مثل ضحكة ضائعة، ضحكة شبابية وجدت طريق العودة إلى جسم عجوز، وقد ولجت فيه الآن. حينما سألتها مع من تتحدث، وبأي لغة، قالت إنها تتحاور مع الطيور، ومع كلب الجيران الذي ينبح عليها دائما، فتنبح للرد عليه. رفعت واحدة من شفتيها الذابلتين: هذا يعني أنها تبتسم.

في الصباح التالي رأيتها تمشي حول أطراف الحديقة، ومجددا توقفت عدة مرات للاستماع. كانت تمشي بصعوبة، حوضها ينثني، وذراعاها معقودان خلف ظهرها، فتبدو من الخلف كما لو أنها رهن الاعتقال. ثم ثانية وقفت بلا حراك، لتحدق بالغابة، وهزت رأسها كأنها تتساءل ولم يعجبها الجواب الذي جاءها من الغابة. بعد أن أمضت وقتا طويلا تستمع لمناطق مختلفة من الأغصان والفروع الممتدة نحوها، عادت إلى البيت وجلست على مقعد في الصالة لأتمكن من تخليصها من حذائها، والذي له قفل فضي ضخم كالسفينة، ومبتل بالندى. سألت: في أي عالم اختفى الحدائقي؟. قلت لها: الحدائقي مات قبل المسيح. قالت: آه، لم أكن أعلم. وابتسمت ثانية. وحينما استعدت للنهوض مدت لي يدها، يدا دبقة مثل لحاء الأشجار المشقوقة والتي تسيل منها العصارة قبل القطع.

ضاعت جدتي عدة مرات. بعد أن تفحصت كل شبر من الحديقة حتى أطرافها، خرجت إلى الشارع، وتجولت بخطوات مرهقة ولكن واثقة، وهي تجدف بذراعيها مثل سلحفاة، وكأنها تريد أن تنفصل عن الهواء وتترك بسرعة كل شيء وراءها. مرة رأيتها واقفة أمام مدخل جانبي لبيت الجيران، وهو باب مهجور على ما أذكر. وكان مغطى كله باللبلاب، والمقبض صدئ. هبطت جدتي على السلالم التي غطاها الطحلب وبدأت تدق على الباب بقبضتيها المرفوعتين. قبضت على ذراعها وقدتها إلى البيت. سألتها: عمن تبحثين؟. ردت: على أمي. فهي وراء الباب. سألتها: وراء ذلك الباب؟. قالت: نعم.

وكيف علمت؟.

تكلمت معها بالأمس.

سألتها: حول ماذا؟.

قالت: حول كل شيء. حول كل شيء يقلقني. وكل شيء يسعدني.

وأحيانا تفرط جدتي بإضافة المساحيق. أو تنسى أن تغلق سحاب بنطالها، وأحيانا توجد بقع على بلوزتها، أو أن أظافرها وسخة، وتنسى تنظيف الشعر الذي ينمو على وجهها. والآن لا تشبه المرأة بهيئتها، ولكنها تظهر مثل شيء قديم، غير بشري، مثل حيوان أو نبات، كما لو أن العمر يقربها من حالة مموهة، وهي خطوة ضرورية قبل أن تتمكن في النهاية من الاندماج بالطبيعة.

ولم يعد يبدو أن جدتي تنتمي لجسدها هذا. فقد بلي وتلف. سألتني: هل يجب أن أتغذى؟ وقلت لها: طبعا.

قالت: هذا يكفي. وأبعدتني عنها حينما حاولت أن أضيف بعض اللحوم إلى طبقها، وضعت بين أسنانها ورقة خس فقط، بالتدريج، ثم نقبت في طبقها عن فاكهة مسلوقة، أو حركت زبدية الآيس كريم حتى ذابت وبعد ذلك رشفتها. قالت: شيء متعب. دائما نفس الشيء، تأخذينه من أعلى ثم يخرج من أسفل. هل يجب أن نأكل؟.

 بالطبع. أحيانا تدفع حصتها نحوي لأنهي ما تبقى منها. أولا اعتقدت أن الكمية كثيرة، ثم أدركت: تريد أن تتأكد أنها تأكل ما يأكله البشر. قالت: شيء متعب.

سألتني: هل يتعين علي أن أراها لحظة موتها؟. لم أفهم هذا. قالت: لم أذهب بجنازة أبدا. ثم سألتني مجددا: هل يجب أن أشاهدها حين تموت؟. الآن فهمت. قلت لها: كلا. ليس عليك أن تشاهديها. قالت: هذا جيد.

وقالت: لم تقع عيني على جثمان. فقط ماما. لثانية فقط. ثم خلعت الخاتم ذا الحجرة الكريمة المربعة من أصبعها، وأعادته إلى أصبعها، خلعته وأعادته إلى مكانه. والآن يسهل عليها ذلك، لأن أصابعها أصبحت رفيعة. خلعته، واستعادته. قالت: لن أكون جثة جميلة.

وأصبحت عادة لي أن أنام في الليل بجانب سرير جدتي، لأنه لا تستطيع أن تجد طريقها بعد النوم. فهي لا تعرف الطريق إلى الحمام حين تستيقظ، ولم تعد لديها فكرة عن البيت الذي أمضت حياتها فيه. وأحيانا تتكلم في نومها، تصيح - على الرمل. الرمل. شيء مني لم يسمح لي أن أفقد الجملة التي بقيت أجزاؤها في حلم جدتي. كنت أستلقي بجانبها، وأحلم، وفي حلمي أعلم أن جدتي ستعيش ما دامت القصيدة لم تنتهي. وتبدو الجدة غير راضية بجوابي الصامت، فتقول: شيء غريب أن تجد كلمة واحدة طريقها للخارج من بين طبقة كلمات.

حينما أدركت جدتي أن أياما كاملة تمر أحيانا وهي نائمة، جلست على طرف السرير لتبقى متيقظة. سألتني: كيف يمكنك أن تعيشي ما دمت لا تفعلين شيئا غير النوم. لا تزال قوية بما فيه الكفاية لتضع قدميها على الأرض حين تنهض، ولكن قدميها عاريتان لأنهما لا تناسبان خفها المنزلي. تداعى جسم جدتي، ولكنه لا يزال رطبا، مثل سفينة يتسرب منها الماء، وحين تجلس، يسرع الماء إلى قدميها. ويمكنني رؤية أصابع قدميها وأعلم أنها أصابع قدمي جدتي. وهي مثل شكل أصابع قدمي الأصلي. ولكن الماء يهاجم هذا الشكل من الداخل، وتجمع قوتها لتنفجر. والآن لا يمكنني التوقف عن التفكير أن البحيرة وجدت طريقها إلى جدتي في النهاية. وأنا أراقبها وهي جالسة لعدة أيام وليال. قالت: ولطالما أنا جالسة أنا حية. وأنا جالسة.

ثم حان اليوم الذي أقول فيه: السيارة في الخارج أمام البيت.

شكت الجدة أن السائق لا يزال حيا. قلت لها: بالتأكيد هو على قيد الحياة. حدقت بالسائق، الذي فتح الباب لها دون أن يرفع قبعته بالتحية، حتى أنه كان بدون قبعة، فقالت جدتي: هذا ليس سائقي. قلت لها: طبعا هذا هو عينه، ودفعتها على المقعد، وثنيت ساقيها، ورفعت قدميها حتى أصبحتا في داخل السيارة. ولدى عودتي من المستشفى، صعدت إلى الأعلى وبلغت خزانة المعبر، وأصغيت للباب الذي يقود إلى غرفة جدتي. ارتجفت ألواح الزجاج المضاعف بهدوء حينما اقتربت، وعدا ذلك بقي كل شيء ساكنا. رائحة الملاءات المكوية مؤخرا فاحت من الخزائن، وكانت مغلقة، وكنت أعلم أين علقت المفاتيح باعتبار أنني مسؤولة الآن على البيت. تناولت المفاتيح من الخطاف، وفتحت الخزائن، ونظرت إلى كومة الملاءات المنشاة، وإلى واقيات الوسائد المطرزة، وإلى زوج جوارب مطوية وصف طويل من البلوزات. حافظت على ترتيب الملاءات كما اعتادت جدتي أن ترتبها طيلة حياتها، وغسلتها وكويتها وطويتها، ثم علقت المفاتيح بمكانها. حاكيت حساسية جدتي بالترتيب. ولكنها هربت، وأنا أعلم ذلك الآن، ولم تكن مضطرة لتحمل معها شيئا في هروبها، فجأة ببساطة تحولت لشيء آخر، مثل مومياء تحولت إلى غبار حينما تم اكتشافها، وذهبت مع الريح. والآن أتذكر جملة قالتها لي في أحد تلك الأيام حينما ضلت طريقها.

وجدتها في زاوية الشارع، وقفت هناك، تمد يدها لكل المارة. سألتها: لماذا تصافحين كل هؤلاء الأغراب؟. أجابت بدون أن تتوقف عن تحية كل من حولها: أنا في طريقي إلى الصوف الذهبي.

فتحت باب غرفة يحمل رقما أو علامة، وأردت أن أقول لجدتي تصبحين على خير. كانت في سريرها مستلقية ومغطاة، وأصبح جسدها خفيفا وبالكاد يتحمل الأغطية. حفنة جسد يستلقي هناك تحت اللحاف، ولأول مرة في حياتي انحنيت لهذا الجسد لأعانقه. لأعانق وأحضن القليل المتبقي من جدتي. عندما استدرت مجددا على العتبة، رأيتها وقد سقطت بالنوم، ولكنها كانت تمد يديها لي، حتى بعد النوم لا تزال يداها ممدوتين لي.

***

.......................

* جيني إيربينبك Jenny Erpenbeck كاتبة من ألمانيا الشرقية سابقا. حازت على المان بوكر من لندن عن روايتها "إيكاروس". القصة مترجمة من مجموعتها: الطفلة العجوز وقصص أخرى.

ثلاث قصص قصيرة جدا

تأليف: كيم تشينكوى - Kim Chinquee

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

1- مجرفة

انتزعت الأعشاب من حديقة زوجته السابقة، نما البعض حتى صار شجيرات، ولكنها تستطع الوصول إلى الجذور. بيدين عاريتين، التقطت العصي والأغصان وكرات البيسبول وأغلفة الحلوى المدفونة تحت الشجيرات ومقص صدئ و مشبك. وضعت تلك الأشياء بجانب الأرجوحة. وكان حولها ورود وزنابق وقلوب نازفة وقلوب نازفة والعديد من النباتات الأخرى التي لن تعرف أسماءها أبدًا. كان هناك الكرات والريحان والنعناع. مازال يستخدم التوابل في الأطباق التي يعدها. لقد علمها كيف تصنعها. كان طعامه لذيذًا. نزلت على ركبتيها ودن قصد اقتلعت شجرته من الخزامى، لقد ظنت أنها ميتة، لكنها لم تكن كذلك.

**

2- الصوم الكبير

إنه الصباح الباكر، تبدو فروع الأشجار المبللة عابسة، فى يوم الجمعة العظيمة (يوم الصوم الكبير) لقد ربحت مارِي للتو عشرة آلاف دولار في سحب اليانصيب. تشعر وكأنها قد امتلكت قصرًا لشخص ما.

تنظر داخل الثلاجة: فارغة، باستثناء شريحة أو اثنتين من الخبز. ثمة مطر فى الخارج، تتسرب المياه من خلال شق في النافذة المكسورة، تأتى بمنشفة من الحمام، وهي المنشفة أهدتها لها أختها في ديسمبر الماضي بمناسبة عيد ميلادها. مرسوم عليها دولفين.

تفكر ماري في المحيط، الذي رأته ذات مرة في شهر العسل قبل أحد عشر عامًا. تفكر في زوجها. هناك فواتير يجب أن تدفع. لديها وظيفة فى شركة التأمين الرخيص. لكن ليس لديها تأمين على حياتها.

تفكر في ابنها، جوني.عمره خمس سنوات وقد رافقته إلى المدرسة هذا الصباح.كانت تحمل المظلة. قالت له:

- لقد فزت اليوم فى هذه المسابقة السخيفة.

قال:

-  أفزت؟

قالها وهو ينظر إليها بعينيه الخضراوين، يشبه والده، زوج مارى الذي توفي في حادث سيارة قبل عام في عيد الميلاد.

أكدت له مارى:

- فزت بعشرة آلاف دولار.

سألها وهو يخوض بحذائه فى بركة من مياه المطر:

- هل هذا كثير؟

راقبته وهو يمشي إلى المدرسة، تنز مياه من حذائه على طول الممر. التفت لينظر إليها.

لوحت له مودعة إياه.

سوف تشتري له مجموعة الطبول التي ألح في طلبها. نظرت من النافذة إلى المطر المتساقط. أغمضت عينيها وتخيلت ابنها وهو يقرع الطبول وجسده كله يهتز من الفرحة.

**

3- من فضلك تعال إلى الباب

حاول الصعود. هو، على حبل، على الرغم من أنني لست متأكدة من كيفية وصوله إلى هناك.

استأجرت أنا وأختي غرفة في فندق. كان مجرد فندق، به بقايا عطر، وستائر معلقة مثل الورق المقوى. ليس مثل صندوق خشب الأرز فى طفولتنا، ذلك الصندوق الذي كانت أمنا  تغلقه دائمًا  وتضعه في نهاية السرير.

لم أتذكره أنه حاول الوصول إلى الباب، لم يكن والدنا هكذا أبدا

لم نكن نتحدث أنا وأختي. لا يعني ذلك أننا كنا مستائين أو فى شجار. فقط لم يكن لدينا حقا ما نتحدث عنه. كنا نستطيع الجلوس صامتات لساعات، ننظر فقط إلى بعضنا. كان شيئاً اضطررنا أن نعتاد عليه في النهاية.

من المرجح أننى كنت أفكر في صديق، من ذلك النوع الذي كنت على الأرجح أحبه. ربما كنت أتمنى أن أتصل به. ربما كنت أتمنى أن يكون متحليا بقدرات فوق قدراته العادية. هؤلاء هم الرجال الذين أتوق إليهم.

كان زوج أختي يحب إلقاء النكات عندما تصبح الأمور جادة.  لم أكن متأكدة أين كان. حقاً تمنيت لو كان هناك. كنت أريد نكتة جيدة في تلك اللحظة.

ربما كنت أحتسي شيئاً. بيرة أو نبيذ أو فودكا.. كنت عادة أشرب كثيرا، أو لعلي أقلع عن كل هذا.

فى البداية رأيت أختي. ثم سمعت شيئا من النافذة. نظرت إلى أسفل، وهناك كان والدنا مرة أخرى.

عادت أختي من مكان ما بمطرقتين. قالت إنه أفضل ما يمكن أن فعله. طرقنا ذلك الحبل بالمطرقة. كان والدنا مثل التنين. اقترب. لم تجد المطرقة نفعا.

سألت أختي إذا كانت تعتقد أن السكين أجدى فى القطع.

واصل والدنا الاقتراب. كان يتسلق بجهد كبير، بدت ذاكرتي مدمرة. كان يبكي. كان رأسه أصلع. كنت أستطيع أن أرى ذلك وأنا أنظر إليه من أعلى.

بعد فترة اقترب أكثر. ركلته فسقط.

جلست أنا وأختي هناك لبعض الوقت.  لم نتحدث كثير حقًا. أحضرت أختى كوبا من الماء وقالت إن عليها أن تعود إلى زوجها. قلت: حسنًا، وأنا أتساءل عن رجال الشرطة، إذا ما كان علينا أم نقدم بلاغا لكنهم لم يكترثوا كثيرًا حين حاولنا فى مرات سابقة.

حيتنى أختى مودعة، ثم غادرت، عدتُ إلى حافة النافذة. كان الليل قد حلّ، والنجوم مبعثرة في السماء، وأضواء المدينة تلمع من بعيد،صامتة مثلي تمامًا.

(تمت)

***

......................

المؤلفة: كيم تشينكوى / Kim Chinquee  كاتبة قصص أمريكية، تعيش كيم تشينكوي في ميشيجان، حيث تُدرّس الكتابة الإبداعية.وخدمت فى المجال الطبى بسلاح الجو الأمريكي، غالبا ما يشار إليها بملكة قصة الومضة، نشرت المئات من القصص فى المجلات الورقية والالكترونية والمختارات الأدبية، وقد حصلت على العديد من الجوائز، تعمل محررة أدبية ورئيس تحرير، إلى جانب قيامها بتدريس الكتابة الإبداعية فى جامعة ولاية بافالو. لها ثمانية كتب فى القصة القصيرة.

 

من الأدب الكردي:

بلقم: لطيف هلمت

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

1 - غلطة

إن الحب ما هو

إلا غلطة

يكررها كل واحد منا

للمرة الألف .. !

**

2 - عيد الميلاد

أقول:

السحب هي الأخرى

تحتفل بعيد ميلادها

فتراها ترقص

وتطبل

على قمم الجبال

الشاهقة

**

3 - السنارة

ترمي السحب سنارتها

الطويلة في المياه

بحثا عن السمك

أو بحثا عن أحذيتها

لانها حافية

الأقدام ... !

**

4 - أطفال السحب

لكم هي قاسية

قلوب السحب

لقد وزعت أطفالها

حفاة الأقدام

فوق صخور

الذرى .. !

**

5 - سلالة الرمال

أريد أن أقترن بإحدى

الصحارى ..

لتسود في الأرض

سلالة الرمال

أريد أن أتخذ من الزمن

عكازا

أسوق به

السحب..!

**

6 - أين؟

لمن هذا التابوت

المحمول فوق أكتاف

الغيوم؟

أين هو ضيفنا

لماذا لم يأت بعد؟

متى ستنطلق

المظاهرة؟

***

......................

* عن (من الشعر الكردي الحديث: قصائد مختارة) للمترجم، مطبعة كريستال، أربيل – العراق 2001 .

 

بقلم: سعدات حسن مانتو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في تلك الأيام الماطرة نفسها؛ كانت أوراق شجرة البيبال خلف النافذة تُغسل بالطريقة ذاتها. وعلى سرير الزنبرك المصنوع من خشب الساج، والذي تم تحريكه قليلًا بعيدًا عن النافذة، كانت فتاة مراثية تتشبّث براندهير.

خارج النافذة، كانت أوراق شجرة البيبال، كأقراط طويلة، تصطك في الظلام الخافت.

تشبثت الفتاة الماراثية براندهير، كأنها ترتعد. كان المساء قد اقترب، وبعد أن قضى نهاره في قراءة الأخبار والإعلانات في صحيفة إنجليزية، صعد إلى الشرفة ليستنشق بعض الهواء. وهناك رآها، ربما عاملة في مصنع الحبال القريب، تحتمي تحت شجرة تمر هندي. تعمد لفت انتباهها بتنحنحه، ثم أشار لها بالصعود إلى الأعلى.

كان يشعر بالوحدة منذ أيام كثيرة. فبسبب الحرب، التحقت جميع فتيات بومباي المسيحيات تقريبًا، واللواتي كنّ زهيدات الثمن فيما مضى، بقوات الدعم النسائية. وقد افتتحت بعضهن مدارس رقص قرب منطقة فورت، حيث لا يُسمح بالدخول إلا للجنود البيض.

وهذا ما سبب اكتئاب راندهير العميق: فمن جهة، تناقص عدد الفتيات المسيحيات؛ ومن جهة أخرى، فإن راندهير — الأكثر تهذيبًا، وتعليمًا، وصحة، ووسامة من الجنود البيض — لم يكن يُسمح له بدخول حانات الرقص فقط لأن بشرته ليست بيضاء.

قبل الحرب، كانت لراندهير علاقات جنسية مع العديد من الفتيات المسيحيات قرب ناگپارا وفندق تاج. كان يعرف طبيعة هذه العلاقات، ويدرك — أكثر من أولئك "الهجينات" المسيحيات أنفسهن — أن تلك القصص الغرامية لم تكن سوى صيحات موضة، وأنهنّ، في النهاية، سيتزوجن واحدا من الحمقى .

لقد أشار إلى الفتاة المراثية بالصعود فقط انتقامًا من هازل، التي كانت تسكن في الشقة أسفل منه.كل صباح كانت ترتدي زيها العسكري، وتميل قبعتها الكاكيّ على شعرها القصير، وتخرج إلى الرصيف وكأنها تتوقع من المارة أن يفرشوا لها الأرض بأجسادهم.

كان راندهير يتساءل دائمًا لماذا ينجذب لهؤلاء الفتيات المسيحيات. لا شك أنهن كنّ يُظهرن الأجزاء الجديرة بالإظهار من أجسادهن بجرأة، ويتحدثن عن اضطرابات الدورة الشهرية دون أدنى خجل، ويروين قصصًا عن عشاق سابقين، ويبدأن بالرقص ما إن تُعزف الموسيقى…

كل ذلك حسن، لكن ألا يمكن لأي امرأة أن تتحلى بهذه الصفات؟

لم يكن راندهير ينوي أن ينام مع الفتاة المراثية حين أشار لها بالصعود. لكن بعد لحظات، عندما رأى ملابسها المبتلة، وفكر فى نفسه: «آمل ألا تُصاب بالتهاب رئوي، المسكينة»، ثم قال بصوت واضح :

- انزعي هذه الملابس وإلا أصبتِ بالبرد.

فهمت قصده، لأن عروق عينيها احمرّت وبدت وكأنها تسبح. لكن عندما أخرج راندهير روبه الأبيض وناولها إياه، فكّرت فيه مليًا وفكت سترتها/ كاشتا*، التي بدت الآن أكثر اتساخًا بسبب البلل. وضعتها جانبًا ولفّت الروب حول فخذيها بسرعة. حاولت خلع بلوزتها الضيقة، لكن طرفيها كانا مربوطين بعقدة مدفونة في انحناءة صدرها الضحلة والمتسخة. حاولت طويلًا، بمساعدة أظافرها البالية، فتح عقدة البلوزة، لكنها أصبحت صعبة بسبب المطر. بعد أن تعبتُ أخيرًا، استسلمت، وقالت لراندهير شيئًا ما باللغة الماراثية، معناه: "ماذا أفعل؟ لن تُفتح".

جلس راندهير بجانبها وبدأ بفتح العقدة. لكنه سرعان ما تعب من ذلك أيضًا، فأمسك بطرفي البلوزة بكلتا يديه وسحب. انزلقت العقدة؛ تطايرت يدا راندهير في كل مكان؛ برز ثديان نابضان للعيان. شعر راندهير للحظة أن يديه، كيدَيْ خزّاف ماهر، قد شكّلتا كوبين من الطين الطري المعجون على صدر هذه الفتاة الماراثية.

كان لثدييها نفس الطابع نصف الناضج الممتلئ بالعصارة، ونفس الجاذبية، ونفس البرودة الدافئة التي تُوجد في الأطباق الرطبة حديثة الخروج من بين يدي الخزّاف. وكان هناك بريقٌ غريبٌ ممتزج بهذين الثديين الشبابيين النقيين. كأن طبقة من الضوء الخافت تحت لونهما القمحي الداكن قد أطلقت هذا البريق، بريقٌ موجودٌ وغير موجود في آنٍ واحد. كان انتفاخ ثدييها يشبه مصابيح طينية تحترق عبر مياه عكرة.

في تلك الأيام الممطرة نفسها. تساقطت أوراق شجرة البيبال خارج النافذة. كانت ملابس الفتاة الماراثية المبتلة مكومة في كومة قذرة على الأرض؛ بينما تعلقت براندهير. بعث فيه دفء جسدها العاري المتسخ نفس الإحساس الذي يُحدثه الاستحمام في حمّام حلاقٍ دافئٍ رغم قذارته في عزّ الشتاء القارس.

طوال الليل، ظلت متعلقةً براندهير. اندمج الاثنان في بعضهما. لم يتبادلا أكثر من كلمتين، لكن كل ما يحتاج إلى قوله تم نقله عبر شفتيهما وأنفاسهما وأيديهما. طوال الليل، تجولت يدا راندهير بخفة الهواء على ثديي الفتاة الماراثية. كانت حلمتاها الصغيرتان والتورمات السمينة المنتشرة في دائرة سوداء حولهما تستيقظان بالإحساس، مسببتين في جسدها رعشةً جعلت راندهير نفسه يرتجف.

كان قد عرف هذا الارتعاش مرات عديدة من قبل؛ وكان على دراية تامة بمتعته. أمضى ليالٍ كهذه سابقًا، ضاغطًا صدره على ثديي العديد من الفتيات الناعمة المتماسكة. قد نام مع فتياتٍ غير خبيراتٍ تمامًا والتفت حوله، وقلن له كل شيء عن منازلهنّ الذي لا ينبغي إخباره لغريبٍ أبدًا. قد أقام علاقاتٍ جنسيةً مع فتياتٍ يقمن بكل العمل الشاق ولا يسببن له أدنى متاعب. لكن هذه الفتاة الماراثية التي وقفت غارقة تحت شجرة التمر الهندي، والتي أشار لها لتصعد إلى الطابق العلوي، كانت مختلفة.

استنشق راندهير رائحة غريبة تنبعث من جسدها طوال الليل؛ كانت كريهةً وحلوةً في آنٍ معًا، فاستنشقها بعمق. من تحت إبطيها، وثدييها، وشعرها، وظهرها — من كل مكان؛ أصبحت جزءًا من كل نفسٍ يتنفسه راندهير. طوال الليل ظل يفكر، هذه الفتاة الماراثية رغم قربها الشديد مني لن تكون بهذا القرب لولا هذه الرائحة المنبعثة من جسدها العاري. لقد تسللت إلى كل ثلمة في عقله، ساكنةً أفكاره القديمة والجديدة معا.

لحمت تلك الرائحة راندهير والفتاة معًا طوال تلك الليلة. دخل كل منهما في الآخر. هبطا إلى أعماق سحيقة، حتى أصبحا كيانًا واحدًا، قمة خالصة من النشوة البشرية، نشوةٌ، رغم كونها عابرة، إلا أنها أبدية، ورغم تحليقها في الهواء، فإنها ثابتة، لا تتزحزح ولا تتحرك. أصبح الاثنان كطائرٍ، بعد أن حلق عاليًا في زرقة السماء، بدا ساكنًا لا يهتز.

فهم راندهير الرائحة التي انبعثت من كل مسام هذه الفتاة الماراثية، لكنه عجز عن تشبيهها بأي شيء، كالرائحة التي تفوح من الماء عند رشه على الطين. لكن لا، تلك الرائحة كانت مختلفة؛ لم يكن فيها أي شيء من زيف اللافندر والعطور المصنعة؛ كانت حقيقيةً تمامًا، كالعلاقات الجامعة بين الرجل والمرأة، حقيقيةً وعتيقة.

كان راندهير يمقت رائحة العرق. بعد الاستحمام، كان عادةً يضع مسحوقًا معطرًا تحت إبطيه وفي مناطق أخرى؛ أو بعض الخلطات الأخرى التي تكبح رائحة العرق. ما أدهشه الآن هو أنه لم يشعر بأدنى اشمئزاز وهو يقبل إبطي الفتاة الماراثية المشعرين؛ بل على العكس، شعر بنوعٍ غريب من المتعة. أصبح شعر إبطيها الناعم رطبًا من العرق. الرائحة التي انبعثت منهما، وإن كانت مفهومة من جوانب عديدة، إلا أنها في النهاية كانت غير مفهومة. شعر راندهير أنه يعرفها، ويدركها، بل ويفهم معناها، لكنه لا يستطيع أن يجعل أي شخص آخر يفهمها.

في تلك الأيام الماطرة ذاتها نظر من النافذة نفسها فرأى أوراق شجر البيبال تُصدر صوتًا خافتًا وقد غسلها المطر. بدا صوتها وحفيف الريح وكأنهما يمتزجان. كان الظلام دامسًا، لكن النور كان مدفونًا في الظلام كما لو أن شعاعًا من ضوء النجوم قد شق طريقه مع قطرات المطر. في تلك الأيام من المطر، حين لم يكن في غرفة راندهير سوى سريرٍ خشب تيكٍ واحد. أما الآن فهناك سرير آخر بجواره؛ وفي الزاوية، طاولة زينة جديدة. نفس أيام المطر، نفس الفصل، قليل من ضوء النجوم يتسرب مع قطرات المطر. لكن الهواء صار الآن كان مشبعًا برائحة الحناء.

كان السرير الآخر خاليا. وعلى السرير الذي استلقى عليه راندهير جانباً، يراقب قطرات المطر وهي تداعب أوراق الشجر في الخارج، غطت امرأة بيضاء البشرة في النوم بعد أن حاولت عبثًا إخفاء الجزء العلوي من جسدها العاري بذراعيها. كان سلوارها الحريري الأحمر ملقى على السرير الآخر؛ حيث تدلى خيط من رباطه القرمزي الداكن.  كانت ملابسها الأخرى ملقاة أيضًا على السرير؛ حمالة صدرها، وسروالها الداخلي، وقميصها المزين بأزهار ذهبية، ووشاحها - كلها حمراء، حمراء بشكل مذهل. كانت مشبعة برائحة الحناء القوية. تجمعت بقع صغيرة من اللمعان مثل الغبار في شعر الفتاة. وعلى وجهها، اجتمع اللمعان وأحمر الشفاه لينتج لونًا غريبًا، باهتًا وبلا حياة. ترك حزام حمالة الصدر علامات على صدرها الأبيض.

كان ثدياها بلون الحليب، لكن تشوبهما مسحة زرقاء. أما إبطيها فحليقان، يبدوان كأنهما مُغبرّان بالكُحل. كان راندهير قد تأمّل هذه الفتاة مرارًا، وفكّر: "أليس الأمر وكأنني فتحت لتوي صندوقًا خشبيًا، وأخرجتها منه، كما تُخرج رزمة من الكتب أو أطقم الخزف؟ بل حتى جسدها يحمل الخدوش والآثار نفسها التي نجدها على الكتب والخزف."

فك راندهير أربطة حمالة صدرها الضيقة المحكمة؛ حيث ظهرت آثارها على اللحم الطري في ظهرها وصدرها. وكانت هناك أيضًا بقعة على خصرها من الرباط المشدود بإحكام. أما عقدها الثقيل ذو النهايات الحادة فقد ترك انبعاجات على صدرها، كما لو أن مساميرَ قد غُرزت فيه بقوة. في تلك الأيام الممطرة نفسها. تتساقط قطرات المطر على أوراق شجرة البيبال الناعمة الملساء، تصدر ذلك الصوت نفسه الذي سمعه راندهير طوال تلك الليلة. كان الطقس رائعا؛ هبت نسمة باردة؛ لكن رائحة أزهار الحناء القوية امتزجت بها.

انسابت يدا راندهير كالهواء على ثديي هذه الفتاة الشاحبة بيضاء البشرة، البيضاء كالحليب. بعثت أصابعه رعشة في جسدها الناعم. عندما ضغط صدره على صدرها، سمع صوت كل وتر ارتسم في جسدها. لكن أين كانت تلك الصرخة، تلك الصرخة التي استنشقها في رائحة تلك الفتاة الماراثية، تلك الصرخة التي كانت أوضح بكثير من صرخة طفل عطشان للحليب، الصرخة التي بعد أن تجاوزت حدود الصوت حتى تلاشت، فلم تعد تُسمع، ولكن ظل إحساسها حاضرًا بعمق لا يُوصف؟.

كان راندهير يحدق عبر قضبان النافذة. حيث كانت أوراق شجرة البيبال تصطخب بالقرب منه، لكن بصره كان يتجاوزها إلى أبعد من ذلك، إلى حيث يلمع ضوء خافت غريب عبر السحب الكثيفة، ضوءٌ يشبه ذاك الذي رآه في ثديي الفتاة الماراثية، ضوءٌ كجوهر السرّ، مختفٍ وظاهر في آنٍ واحد.

بين ذراعي راندهير، استلقت فتاة بيضاء البشرة، جسدها ناعم كالعجين الممزوج بالحليب والزبدة؛ من جسدها النائم فاحت رائحة الحنّاء المنهكة، المتبقية من الليل—رائحة بدت له كأنها زفرة رجل يحتضر، حامضة، كالتجشؤ؛ باهتة، حزينة، خالية من أيّ بهجة.

نظر راندهير إلى الفتاة المستلقية بين ذراعيه كما ينظر المرء إلى الحليب المتخثر، بكتلته البيضاء الخالية من الحياة العائمة في ماء فاتر. بنفس ذلك الاشمئزاز الفاتر، تركته أنوثتها بارداً. كان عقله وجسده لا يزالان مأخوذين بتلك الرائحة التي انبعثت بشكل طبيعي من الفتاة الماراثية؛ الرائحة التي كانت ألطف وأمتع بكثير من رائحة الحناء، التي لم يتردد في استنشاقها، التي تسللت إلى أعماقه بإرادتها وحققت غايتها الحقيقية.

بذل راندهير محاولة أخيرة لملامسة جسد تلك الفتاة الأبيض الحليبي، لكنه لم يشعر بأي رعشة. أما زوجته الجديدة- ابنة قاضي الدرجة الأولى، الحاصلة على بكالوريوس آداب، والتي كانت محط إعجاب العديد من الشبان في جامعتها- فلم تحرك فيه ساكنا في رائحة الحناء القاتلة، بحث عن تلك الرائحة التي استنشقها في تلك الأيام الممطرة، عندما كانت أوراق شجر البيبال تُغسل على نافذة مفتوحة، من جسد فتاة ماراثية قذرة.

(تمت)

***

....................

الكاتب: سعادت حسن منٹو/  (11 مايو 1912 - 18 يناير 1955) كاتب مسرحي  وروائي باكستاني، نشط في الهند البريطانية ولاحقًا، بعد تقسيم الهند عام 1947، في باكستان.اشتهر منٹو بكتاباته بالأردية، حيث ألّف 22 مجموعة قصصية، ورواية واحدة، وخمس سلاسل من المسرحيات الإذاعية، وثلاث مجموعات من المقالات، ومجموعتين من الرسومات الشخصية. تُعتبر أفضل قصصه القصيرة من الأعمال الأدبية الراقية التي يحترمها الكتّاب والنقاد. حوكم منٹو ست مرات بتهمة الفحش في كتاباته: ثلاث مرات قبل عام 1947 في الهند البريطانية، وثلاث مرات بعد الاستقلال في باكستان، لكنه لم يُدان قط. يُعتبر أحد أبرز كتاب الأردي في القرن العشرين.

 

بقلم: كاثي فيش

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

هذه الغيرة التي لديك مشكلة، تحتاجين إلى أن تحبي نفسك أكثر، تحتاجين إلى أن تكون أكثر ثقة بنفسك. أنا منجذب جدًا للنساء الواثقات من أنفسهن. لدي العديد من الصديقات. كتبت لي وهي غاضبة جدًا، وساعدتها. ألا تريدنني أن أكون الرجل الذي يساعد النساء؟ حسنًا، إذًا أنا الشخص السيئ هنا وأنتِ الملاك المثالية، أليس كذلك؟ أحبك، لكنكِ لا تتصرفين بعقلانية، أنتِ مجنونة قليلًا... هل أنتِ في دورتك الشهرية؟... ماذا قالت صديقاتك عني؟ هل تصدقين صديقاتك أكثر مني؟... أنا صادق معك 100%... لقد بحثتِ عن أشياء سيئة عني على الإنترنت!... أنا – كما تعلمين - أحب الانضمام إلى مواقع بأسماء مستعارة ومتابعة النساء... أنا لطيف ومهتم بحياتهن، هل هذا يجعلني متحرشًا؟... أعترف أنني كنت أطلب صورًا من النساء... أوه، ذلك البريد الإلكتروني الذي يحتوي على صورتي والذي أرسلته لكِ عن طريق الخطأ كان من عنوان بريد قديم... لا أعرف ماذا حدث، التكنولوجيا، أليس كذلك؟... حسنًا، كان مجرد تصرف أحمق يفعله السكارى... انتظري، الآن تعيدين ذكر تلك المرأة مرة أخرى، التي ادعت أن بيننا علاقة... إنها مجنونة!... كان بيننا محادثة طويلة عبر البريد ليلًا نتحدث عن أشياء مملة: الحياة، الأطفال، الكلاب... تحدثنا لثلاث ساعات وأرسلت لي صورًا، لكنني بالتأكيد لم أطلبها... وفجأة تعتقد أن بيننا شيء!... يا إلهي، إنها مجنونة!... لقد أساءت فهم الموقف... لا يجب أن تصدقيها... هذا يحدث لي دائمًا، أعتقد أنه يجب عليّ أن أكون أكثر حذرًا. أتمنى لو لم تكوني هكذا غير واثقة من نفسك.. أتمنى لو تستطيعين أن تكوني أكثر تسامحًا... لقد سامحتكِ مرارًا بسبب غيرتك، التي ما زالت مشكلة.

(انتهت)

***

...................

الكاتبة: المؤلفة: كاثى فيش/ Kathy Fish: كاتبة امريكية معروفة اشتهرت بكتابة القصة القصيرة جدا، لها أربع مجموعات من القصص ورواية قصيرة، تقوم بتدريس الكتابة الابداعية فى جامعة ريجيس في دنفر، كولورادو .

 

قصيدتان

بقلم: جيمس جريفيث فيرفاكس

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) (منتصف النهار)

تحتشد السحب

وتشتد الرياح

مخضبة بالأدمع

والنهر عكر، رمادي اللون

ينساب في منعطف

كأنه شفرة فولاذية

شريرة

ثم يضيق مجراه

أخيرا

يمزق هذا الفرند المستل

بيد القدر

سنوات عمرنا

ليفصل النور

عن الظلام

***

(2) (الغسق)

ثمة سحابة مديدة

عجفاء

تطارد الشمس الآفلة

مثل الكلب السلوقي*

يسود لون السهل

وتغدو الموجة ذهبية اللون

لقد غسق الليل

لينتهي اليوم

تتمايل الخفافيش

وهي خارجة في دوائر

وتستفيق النجوم

على التوالي

***

.......................

* الكلب السلوقي: أو كلب الغزلان، كلب صيد منذ القدم . قد تكون التسمية متصلة بكلمة (سالوكي – الأرض الغاطسة) السومرية، أو بمدينة (سلوقية) الواقعة في العراق في الوقت الحاضر، بحسب بعض المصادر . 

- جيمس  جريفيث  فيرفاكس (1886 – 1976): شاعر ومترجم وسياسي بريطاني . خدم في الفرقة الهندية ال 15 خلال الحرب العالمية الأولى . كان صديقا للشاعر والناقد الأمريكي (عزرا باوند) (1885 – 1972) . نشر أول مجموعة شعرية له في عام 1906، وتحت عنوان (بوابات النوم وقصائد أخرى) . من أعماله (حتى الموت، شعراء الحرب) 1964 .

- للمزيد من الاطلاع على شعر الحرب العالمي ينظر (قبلة أخيرة قبل الذهاب إلى الحرب: مختارات من شعر الحرب العالمي) للمترجم، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2022 .

مقتطف من رواية صمت

بقلم: كارلا سواريز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما كنت في السادسة من عمري، قرر والدي الانتقال للنوم في الصالة. لا أتذكر الكثير من ذلك الوقت، سوى صوت باب الغرفة يُغلق بعنف، ونداءات أمي الخافتة خلال الساعات التالية.

كنا نعيش في بيت جدتي، شقة كبيرة مليئة بغرف تحوي عوالم مختلفة؛ غرفة الجدة، وعمتي العزباء، وعمي الذي يعمل في التدليك، ثم نحن الثلاثة، قبل أن ينتقل أبي إلى الصالة.

كانت أمي أرجنتينية قررت في الستينيات القدوم إلى هافانا لدراسة المسرح، وهناك تعرفت على عمتي، التي بدأت في المسرح ثم انتقلت إلى الرقص، ومنه إلى الأدب، وهكذا، كانت تبحث دائماً عن نفسها، كما كانت تقول، أو "تضيع" كما كانت الجدة تقول.

بفضل عمتي، وصلت أمي إلى "البيت الكبير" والتقت بوالدي، الذي كان آنذاك ضابطاً شاباً في الجيش، من هؤلاء الذين تقدموا بجرأة وارتدوا الزي العسكري الذي كان يعجب الفتيات، خاصة التقدميات مثل أمي، التي وقعت في حب عميق وتخلت عن جنسيتها حتى لا يشعر أبي بالانزعاج لارتباطه بأجنبية. بالنسبة لعائلة أمي في أمريكا الجنوبية، كان هذا القرار بمثابة تنكر لهم كعائلة، فقرروا قطع العلاقات مع ابنتهم "الخائنة". أما الجدة، فمن ناحيتها  قبول امرأة تعيش في بيتها مع ابنها دون زواج كان عاراً، ولهذا قررت هي الأخرى التخلي عن زوجة ابنها. وهكذا بدأت أمي علاقتها دون موافقة أحد، لكنها كانت مقتنعة تماماً بحبها وصداقتها مع عمتي. أما العم فلم يكن يُحسب، لأنه لم يكن على علاقة جيدة مع أبي. حتى قبل ولادتي، كان أبي والعم بالكاد يتحدثان. لذا، اقتنعت أمي بضغط من زوجها بأن تتعامل مع أخيه ببرود ولامبالاة.

نشأت محاطة بكبارٍ مختلفين تماماً. كان لجدتي أربعة أبناء، أكبرهم كان المفضل لديها واحتل مكان الجد بعد مغادرته المنزل. حدث ذلك قبل ولادتي بزمن، لذا لم ألتقِ به قط، وكان ذكر اسمه محظوراً في البيت. في أحد الأيام، هجر الجد الجدة، فانتقل الابن الأكبر إلى غرفتها وأصبح سندها حتى قرر الزواج والانتقال لمكان آخر، عندها أعلنت الجدة الحرب على المرأة التي أخذت بكرها وحولت كل حبها إلى أبي، الأصغر. كان أبي يعد بمستقبل باهر، وأصبح شريكاً لوالدته في كرهها الصريح لأخيه الأكبر عندما قرر الانتقال بعيداً، حتى استقر في ميامي مع زوجته. بالطبع، كل هذا حدث قبل ظهوري في العائلة، لأنه بمجرد انتقال أمي إلى البيت، شعرت الجدة بأنها مضطرة لاحتقار ابنها العسكري، إذ يبدو أنه لم ينوِ إضفاء الشرعية على علاقته.

في تلك الفترة، أعتقد أن الجدة مرت بظروف صعبة، واضطرت للاختيار بين عمتي (الابنة الثانية) والعم الثالث. لم تكن علاقتها مع عمتي جيدة أبداً، لأنها كانت المفضلة لدى الجد، وكانت كلما حاولت الجدة التحدث عن زوجها السابق باحتقار، تقفز عمتي للدفاع عنه بكلمات سحرية تجبر الجدة على الصمت. أما العم الثالث فكانت له مشاكله الخاصة، ليس فقط بسبب قطيعة أبي معه، بل بسبب سرٍّ عائلي لم يجرؤ أحد على البوح به. أعلم أنه قبل أمي، كان أبي والعم يتشاركان الغرفة نفسها، حتى قررت الجدة نقله إلى غرفة صغيرة بجوار المطبخ. بالطبع، في ذلك الوقت، كان أبي لا يزال المفضل، وعندما ولدت، كان العم قد أسس مملكته بعيداً عن الجميع، في ذلك الركن الخلفي.

قضت الجدة بضع سنوات دون ابنٍ مفضل، حتى قرر العم ذات يوم - قبل أن ينتقل أبي للنوم في الصالة - أن يتفرغ لعمل التدليك. وهكذا بدأ البيت يزدحم بفتيات صغيرات يدخلن إلى الصالة، يبتسمن لي وأنا طفلة رضيعة، ثم يعبرن المطبخ متجهات إلى غرفة العم وجلساته. بالنسبة للجدة، كان ذلك بمثابة بصيص نور، فحسمت صراعها الداخلي وركزت كل قواها على الابن "المدلك" الذي كان يعود كل يوم محملاً بالزهور والحلوى لها.

حتى تلك اللحظة، ربما حافظت غريزتي الطفولية على أمل أن تحتضنني جدة تُهدهدني بأغانٍ وتُغمرني في حجرها، لكن اختيارها للعم حطم أحلامي. كنتُ "غير شرعية"، مولودة خارج إطار الزواج، وابنة لأجنبية أيضاً. باختصار، اضطررت للاكتفاء بذراعي أمي وعمتي، التي كانت تتركني بمجرد أن أتبول بحجة أن بول الأطفال يُصيبها بالزكام! أما أبي، فكنت أراه نادراً؛ كان غارقاً في العمل، لذا علقت أمي صورة له فوق مهدي. كل ليلة قبل النوم، كانت تجعلني أُرسل قبّات للصورة، ثم تهديني حفلاً موسيقياً كاملاً من الأغاني التي بدت في صوتها حلواً كالعسل، تُغرقني في النعاس. تقول إن أول كلمة نطقتُها بعد "بابا" و"ماما" كانت "بندقية"، لأن أغانيها لم تكن تدور حول دباديب أو فراشات، بل عن بنادق وموت. وعندما كانت تسهر مع عمتي بجانب مهدي في الليل، كنت أسمع كلمات غريبة متنافرة، فأبدأ بالصراخ - لغتي الوحيدة التي توائم ذلك الجو!

كانت غرفة عمتي أفضل غرفة في البيت. هناك انتقلت أحاديثهن الليلية عندما بدأت المشي. كن يتحدثن بينما أتجول في الغرفة أمسك بكل ما تقع عليه عيناي: كتباً، دُمى، أكواب، أقلام، أجهزة غريبة... كانت عمتي تمتلك كنزاً من الأشياء وتُصاب بالذعر إذا كسرتُ شيئاً. هناك تعلمت كلمتي "خرا" و"لعنة"، اللتين بدتا لي جميلتين لكثرة ترديدهن إياهما. أحببتُ أيضاً الراديو الصغير في الغرفة؛ كانت عمتي ترفع الصوت أحياناً وتشرع في العزف بشكل مزعج، فتحلّ الفرحة ونقفز نحن الثلاث على السرير حتى نسمع صوت الجدة من الغرفة المجاورة تضرب الباب، فنلزم الصمت مكتومات الأنفاس من الضحك. بعد قليل، تجبرني أمي على السكون لعبور الممر إلى غرفتنا، نرسل قبّات لصورة أبي ثم ننام. لكني كنت أجد صعوبة في النوم لأنها كانت تسهر معظم الليل تقرأ كتاباً تحت ضوء المصباح الخافت. عالمي آنذاك كان محصوراً في غرفة عمتي وغرفتنا، لأن أمي أعلنت أن الصالة "منطقة محظورة" بعد مشادة طويلة مع الجدة بسبب تبولي مرتين أو ثلاث على الأريكة أو على إحدى الفتيات اللاتي كن يأتين لجلسات تدليك العم!

حتى تلك اللحظات، كان كل شيء يسير على ما يرام. كانت عائلتي متماسكة تمامًا، كان لدي أب اعتاد أن يترك لي هدايا صغيرة فوق المهد، وأم كانت تغني الأغاني، وعمة شديدة المرح، وجدة كثيرة المشاجرات مثل معظم الجدات، وعم يمتلك الكثير من المعارف.

كنت سعيدة. كنت أقضي النهار بالتناوب بين أمي والعمة، وكان ذلك وقتي المفضل، لأنها كانت تجلس للكتابة على الآلة الكاتبة، وأنا أستطيع أن آخذ كل ما أريد، أن ألعب بأغراضها، أن أتسلق السرير بينما هي تكتب دون أن توبخني إلا نادرًا. كنت أفعل ما يحلو لي، وكانت تقترب مني فقط بين الحين والآخر عندما تشم رائحة مزعجة؛ فتقوم بتغيير حفاضتي وتلقي (الحفاضة) في وعاء ثم تقدمه لأمي شاكية لأن رائحة براز الأطفال تسبب لها الغثيان.

في تلك السنوات الأولى، كانت عمتي أديبة وتقضي ساعات طويلة في المنزل، لذلك كانت أمي تتركني تحت رعايتها بين الحين والآخر. أما بقية الأيام، فكنت أسافر مع أمي من مكان إلى آخر، إلى أماكن مليئة بأشخاص يتحدثون كثيرًا، أو إلى قاعات التدريب حيث كان الجميع إما يوبخونني أو يمررونني من يد إلى أخرى حسب مزاجهم، لكن الأمر كان ممتعًا أيضًا لأنهم أحيانًا كانوا يعطونني دمية أو قناعًا فألعب طوال العصر.

ثم حدث ذات ليلة شيء فظيع. كنا في غرفة العمة وكانتا تتحدثان كالعادة، وفجأة نهضت عمتي غاضبة وهتفت بشيء عن "الواقعية الاشتراكية" مصحوبة بـ"هراء مطلق". وبالطبع لم يعجب ذلك أمي، فاشتعلت غضبًا وبدأت تصرخ بشكل غريب وعلى غير المعتاد. انزويت في زاوية دون أن أفهم شيئًا، ورأيتهما تتشاجران، وكاد الأمر يصل إلى الاشتباك بالضرب، حتى أمسكتني أمي من ذراعي وقالت إن عمتي غبية وإنها لن تطأ تلك الغرفة أبدًا بعد اليوم.

فى تلك الليلة، لم أضطر إلى إرسال القبلات إلى صورة أبي، وبالطبع لم أستطع النوم. أما أمي فقد ظلت تدور في الغرفة، تنظر إلى الساعة، وأبي لم يعد. بقيت متظاهرة بالنوم طوال الوقت، متكورة تحت الأغطية، وكانت تلك أول ليلة أشهد فيها عودة أبي. فتح الباب ودخل بهدوء محاولًا عدم إصدار صوت، حتى اصطدم بنظرة أمي الحادة من السرير.

— إذا جئتني بحجة أنك كنت في الحراسة مرة أخرى، سأقلع خصيتيك.

أشار أبي بعلامة إرهاق وقال شيئًا عن الذهاب إلى الصالة، حتى لا يوقظ الطفلة. لكن أمي نهضت غاضبةً مضيفةً أنها لا تكترث أبدًا إذا سمعت الطفلة أم لا، وأنها سئمت من الاختباء في الصالة كي لا تسمعها الجدة والطفلة، سئمت من كل شيء ومن هذه العائلة المجنونة، من نوبات حراسة أبي، وحماقات الجدة، والعالم المناضل، وللأسف العمة المتعجرفة ونصف الخائنة. في تلك الليلة اكتشفت أنه بعد الأغاني التي كانت تغنيها لي، كانت تبقى مستيقظة تنتظر عودة أبي لتذهب إلى الصالة وتتشاجر. واكتشفت أيضًا أن الأمور لم تكن على ما يرام كما كنت أظن.

منذ تلك الليلة، توقفت أمي والعمة عن التحدث ولم تعد هناك زيارات ليلية للصالة. كنت أنام، ومع أولى صرخات أمي المكتومة، أستيقظ لأغطي أذني بالملاءة، وعندما تشتد الأمور، أبدأ في البكاء، بقوة، بقوة، حتى تدق الجدة الباب مطالبةً بالصلاة والشكوى لأنه لم يعد بالإمكان حتى النوم في هذا البيت. عندها تستغل العمة الضجة من غرفتها لتشغل المذياع، بينما تمسكني أمي، ويقرع أبي باب أخته بعنف مطالبًا بالاحترام، وتذهب الجدة لإيقاظ العم، لأنه الوحيد الذي يعتبره، الوحيد اللائق الذي يعيش في بيته.

بسبب كل ذلك، انفجرت أمي بالبكاء في اليوم الذي قرر فيه أبي الذهاب للنوم في الصالة. كنت في السادسة من عمري، وقضيت قرابة ثلاثين ساعة دون طعام لأن أمي ظلت تبكي وتنشج، تمسح مخاطها وتواصل البكاء بلا توقف، بلا عزاء، ترمي المناديل المبللة على الأرض ثم تجفف دموعها بالملاءات لتواصل البكاء، حتى ابتل كل شيء ولم يتبق سوى ملاءاتي الجافة. نظرت إلي أمي، التقت نظراتنا، فانقطع بكاؤها فجأة.

—  لن أبكي بعد اليوم، صغيرتي، أعدك.

ولم تبكِ بعد ذلك، لكنها أيضًا لم تفعل شيئًا آخر. حينها اشترت جهاز التسجيل ذلك المستعمل وبدأت في سماع التانجو. تخلت عن المسرح، توقفت عن الحديث مع الجميع في البيت؛ كانت تخرج من الغرفة فقط عندما ترى الأمر ضروريًا، وأحيانًا لتأخذني إلى الحديقة وتتناول جرعة في بار الزاوية. لم تكن أمي تسمع سوى التانجو، وكانت تساعدني على النمو. عندما يخاطبها أبي، كانت تكتب على ورقة ما تراه مناسبًا، فقط ذلك، ثم تعود إلى سماغ أغانيها. كنت أراقبها صامتة، وأقسَمت لنفسي أنني لن أبكي هكذا أبدًا، لن أظهر دموعي أبدًا، لأن وراء البكاء لم يكن سوى تانجو، وهذا ما كان يجعلني أرغب في البكاء، ولم أكن أريد، لن أبكي أبدًا، أبدًا بهذه الطريقة، لا من أجل شيء، ولا من أجل أحد، ولا حتى من أجل ما كنت بالكاد أفهمه آنذاك.

كبرت وأنا أسمع الكلمات التي يتبادلها الآخرون، صمت أمي وكلمات التانجو، أغنيات طفولتي، تلك التي كانت ترددها دائمًا:

"...عندما تُغلق كل الأبواب..."

وتعوي أشباح الأغنية،

مالينا تُغنّي التانجو بصوتٍ مُتهدّج،

مالينا تحمل حزن آلة الباندونيون...

(انتهى)

***

..................

الكاتبة: كارلا سواريز/Karla Suárez: كاتبة كوبية. وُلدت في هافانا عام 1969. منذ طفولتها، كانت شغوفة بالرياضيات وكتابة القصص والموسيقى. درست الجيتار الكلاسيكي وحصلت على شهادة في الهندسة الإلكترونية، وهو مجال ما زالت تمارسه. وسواريز مؤلفة لخمس مجموعات قصصية وأربع روايات. حازت رواياتها على العديد من الجوائز، منها جائزة "لغة التراپو" لرواتها الأولى "صمت" (1999)، والتي اختيرت بفضلها ضمن أفضل عشرة روائيين لعام 2000 من قبل صحيفة "إل موندو". كما فازت بجائزة "بري كاربيه" للكاريبي والعالم وجائزة الكتاب الجزري في فرنسا عام 2012.تعيش حاليًا في لشبونة، حيث تشرف على نادي القراءة في معهد ثيربانتس وتدرّس الكتابة الإبداعية في مدرسة الكتّاب بمدريد.

 

لورا إي. ريتشاردز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان الفتى الصغير يعمل بجد في الحقل والحظيرة والمخزن طوال النهار، إذ إن أسرته كانت من الفلاحين الفقراء، ولا يستطيعون دفع أجر لعامل. لكن عند غروب الشمس، كانت هناك ساعة واحدة تخصه وحده، إذ منحها له والده. كان الفتى يصعد خلالها إلى قمة تل، وينظر عبر الوادي إلى تل آخر يرتفع على بُعد أميال. وعلى ذلك التل البعيد، كان هناك بيت ذو نوافذ من الذهب الصافي والماس. كانت تتلألأ وتلمع لدرجة تجعله يغمض عينيه حين ينظر إليها؛ لكن بعد وقت، بدا وكأن سكان البيت قد أغلقوا النوافذ بالمصاريع، فيتحول المشهد إلى ما يشبه بيتًا ريفيًا عاديًا. وكان الفتى يظن أنهم يفعلون ذلك لأن وقت العشاء قد حان، ثم يعود هو إلى بيته ويتناول عشاءه من الخبز والحليب، ومن ثم يذهب إلى فراشه.

ذات يوم، ناداه والده وقال له:

"لقد كنت فتىً صالحًا، وقد استحققت يوم عطلة. خذ هذا اليوم لنفسك؛ لكن تذكّر أن الله هو من وهبه لك، فحاول أن تتعلم فيه شيئًا نافعًا."

شكر الفتى والده وقبّل والدته، ثم وضع قطعة من الخبز في جيبه، وانطلق في طريقه ليبحث عن البيت ذي النوافذ الذهبية.

كان السير ممتعًا. كانت قدماه الحافيتان تتركان آثارًا في الغبار الأبيض، وعندما كان يلتفت إلى الوراء، كانت آثار الأقدام تبدو وكأنها تتبعه وتؤنسه. وكان ظلّه أيضًا يسير بجانبه، يرقص أو يجري معه كما يشاء؛ فكان ذلك باعثًا على البهجة والسرور.

بعد قليل، شعر الفتى بالجوع، فجلس بجانب جدول بنيّ اللون كان يجري عبر سياج من شجيرات الألدر على جانب الطريق، وأكل خبزه وشرب من الماء الصافي. ثم نثر الفتات للطيور، كما علمته والدته، ومضى في طريقه.

وبعد وقت طويل، وصل إلى تلٍ أخضر عالٍ؛ وعندما تسلق التل، رأى البيت في القمة؛ لكن بدا أن النوافذ كانت مغلقة، فلم يرَ النوافذ الذهبية. اقترب من البيت، وكاد يبكي، إذ كانت النوافذ من زجاج صافٍ كغيرها من النوافذ، ولم يكن هناك أثر للذهب في أي مكان.

خرجت امرأة إلى الباب، ونظرت إلى الفتى بلطف، وسألته عمّا يريد.

قال لها:

" رأيت النوافذ الذهبية من قمة تلنا، وقد جئت لأنظر إليها، لكنها الآن ليست سوى زجاج."

هزّت المرأة رأسها وضحكت. قالت:

"نحن أناس فقراء من أهل الزراعة، ولا يمكن أن يكون عندنا ذهب على نوافذنا؛ لكن الزجاج أفضل للرؤية من خلاله."

طلبت من الفتى أن يجلس على العتبة الحجرية العريضة عند الباب، وجلبت له كوبًا من الحليب وكعكة، ودعته إلى أن يستريح؛ ثم نادت على ابنتها، وكانت في مثل سنّه، وابتسمت لهما بلطف، ثم عادت إلى عملها.

كانت الطفلة حافية القدمين مثله، وترتدي ثوبًا قطنيًا بنيًا، لكن شعرها كان ذهبيًا كنوافذ البيت التي رآها، وعيناها زرقاوين كلون السماء عند الظهيرة. اصطحبت الفتاة الفتى وأخذت تتجول به في المزرعة، وأرته عجلها الأسود ذا النجمة البيضاء على جبهته، فحدثها هو عن عجله في البيت، الذي كان لونه كالكستناء وله أربع قوائم بيضاء. ثم، بعد ما أكلا تفاحة معًا، وصارا صديقين، سألها الفتى عن النوافذ الذهبية. فأومأت الطفلة برأسها، وقالت إنها تعرف كل شيء عنها، لكنّه أخطأ في تحديد البيت.

شرحت له:

" لقد جئت من الطريق الخطأ تمامًا! تعال معي، وسأريك البيت ذا النوافذ الذهبية، وحينها سترى بنفسك."

ذهبا إلى ربوة صغيرة خلف المزرعة، وبينما كانا يسيران، أخبرته الفتاة أن النوافذ الذهبية لا تُرى إلا في ساعة معينة، عند الغروب تقريبًا.

فقال الفتى:

" نعم، أعلم ذلك!"

عندما وصلا إلى قمة الربوة، استدارت الفتاة وأشارت بيدها؛ فإذا على تل بعيد يقف بيت ذو نوافذ من الذهب الصافي والماس، تمامًا كما رآها من قبل. وعندما أعادا النظر، رأى الفتى أن ذلك البيت لم يكن سوى بيته هو.

عند ذلك قال للفتاة الصغيرةَ أنه يجب أن يرحل؛ فأعطاها حجره الكريم المفضل، ذاك الأبيض ذو الخط الأحمر، والذي كان يحتفظ به في جيبه منذ عام. وأعطته هي ثلاث كستناء حصان: إحداها حمراء كالسَّاتان، وأخرى مرقطة، وثالثة بيضاء كالحليب. قبّلها، ووعدها أن يعود من جديد، لكنه لم يخبرها بما تعلّمه؛ وهكذا نزل التل عائدًا، وظلت الفتاة واقفة في ضوء الغروب تراقبه وهو يمضي.

كان الطريق إلى المنزل طويلاً، وكان الظلام قد حل قبل أن يصل الصبي إلى منزل أبيه ؛ لكن ضوء المصباح ولهيب الموقد كانا يسطعان من خلال النوافذ، مما جعلها تكاد تضيء كما رآها من قمة التل. وعندما فتح الباب، جاءت والدته لتقبّله، وأسرعت شقيقته الصغيرة لترتمي بذراعيها حول عنقه، ورفع والده عينيه وابتسم له من مقعده بجانب النار.

سألته أمه:

"هل كان يومك سعيدًا؟".

نعم، كان يوم الفتى سعيدًا جدًا.

سأله والده:

"وهل تعلمت شيئًا؟".

قال الفتى:

"نعم! لقد تعلمت أن نوافذ منزلنا من الذهب والماس."

(تمت)

***

...................

الكاتبة: لورا إليزابيث هاو ريتشاردز/ Laura E. Richards (27 فبراير 1850 – 14 يناير 1943) كاتبة أمريكية. ألّفت أكثر من 90 كتابًا، من بينها سير ذاتية، ومجموعات شعرية، وكتب للأطفال.  وُلدت لورا إليزابيث هاو في بوسطن، ماساتشوستس، في 27 فبراير 1850. كان والدها الدكتور صامويل جريدلي هاو، من مناهضي العبودية ومؤسس "مؤسسة بيركنز ومدرسة ماساتشوستس للمكفوفين". وقد سُمّيت على اسم تلميذته الشهيرة الكفيفة الصماء، لورا بريدجمان. أما والدتها، جوليا وارد هاو، فهي التي كتبت كلمات النشيد الشهير "نشيد معركة الجمهورية" (The Battle Hymn of the Republic). في عام 1917، فازت لورا بجائزة بوليتزر عن كتاب السيرة الذاتية "جوليا وارد هاو، 1819-1910"، الذي شاركت في تأليفه مع شقيقتيها، مود هاو إليوت وفلورنس هول.

بقلم: أرنولف أوفيرلاند*

ترجمة: سهيل الزهاوي

***

في هذا الكون، سعادةٌ في الحياة،

لا تُرضي النفسَ إلا حين تُدخل

البهجةَ والفرحَ في قلوب الآخرين،

تلك هي أصل السعادة.

*

في هذا الكون، حزنٌ يترقبنا،

إذا أدركتَ الحزنَ في غير أوانه،

فلن تُخفِّف الدموعُ من وطأته،

فالحزنُ يبقى، وإن سالت دموعنا.

*

لا يستطيع المرء أن يقضي الحياة،

واقفًا دومًا أمام شاهد القبر،

يتظلم من حسرته ولوعته،

*

اَلسنَة، نَافِذة مَفتُوحة على اَلعدِيد مِن الأيَّام.

اَلعدِيد مِن السَّاعات فِي اليوْم.

***

.....................

* كتبت هذه القصيدة في عام 1929 ونشرت في مجموعة "لوحة المنزل). في الماضي، في وقت كتابة القصيدة، اعتاد الناس كتابة رسائل متنوعة على لوحة معلقة في المنزل. كانت هذه اللوحات تحمل حكمًا وأمثالًا توجه أفراد الأسرة في حياتهم اليومية، مما جعلها جزءًا لا يتجزأ من ثقافة المنازل في ذلك الزمن.

 

بقلم: آدام زاغاييفسكي

ترجمة: صالح الرزوق

***

القطار السريع يجتاح بيوت

الضواحي مثل خنجر جائع للقلب فقط.

صوت دكتاتور أو ما شابه

يقترب مني عبر مكبرات الصوت

وسنجاب يقفز من غصن لآخر

ويذهب بعيدا.

هذه نهاية الصيف، ثمار أشجار الأرز ثقيلة،

وراهبة بثوب بني خشن

تبتسم كأنها مرتاحة لكل شيء حولها.

اليعاسيب تلمس طبقة الزيت اللماعة في البركة،

وزوارق التجديف تنزلق وتبتعد في وهج شمس الغروب القرمزية.

الحر، مثل ضابط الجمارك، يتحسس

كل شيء وهو في غمده.

ساعي البريد يغفو على الكرسي والرسائل تقفز

من حقيبته كأنها سنونوات، المثلجات تذوب فوق الأعشاب،

حيوانات الخلد تكوم التراب على شرف أبطال أموات

مجهولين.  أشجار سوداء

تقف فوقنا، وتمتد بينها نار خضراء.

***

.....................

آدام زاغاييفسكي - Adam Zagajewski: شاعر بولوني. القصيدة من مجموعته كانفاس. صدرت ترجمتها الإنكليزية في الولايات المتحدة عام 1991

أيلول يقترب، والحرب، والموت.

قصة: إيزابيل ألليندي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في سن الحادية عشرة، كانت إلينا ميخياس لا تزال فتاة هزيلة ذات بشرة شاحبة كأطفال العزلة، وفم تظهر فيه فراغات لم تملأها بعد الأسنان الدائمة، وشعر بلون الفئران، وهيكل عظمي بارز يكاد يخرج من مرفقيها وركبتيها، وكأنه أكبر بكثير من بقية جسدها. لم يكن في مظهرها ما يدل على أحلامها الملتهبة، ولا ما يُنذر بالكائن الحسيّ الذي كانت ستصبحه لاحقًا. وسط أثاثٍ باهت وستائر ذابلة في منزل والدتها الذي كان يُستخدم كبيت ضيافة، كانت تمر دون أن يلاحظها أحد. بدت كطفلة حزينة تائهة تلعب بين نباتات الجيرانيوم المغبرة والسراخس الضخمة في الفناء، أو تتنقّل جيئةً وذهابًا بين الموقد وطاولات غرفة الطعام لتقديم وجبة المساء.

وعندما كان أحد النزلاء يلاحظ وجودها، نادرًا ما كان ذلك لأمر سوى أن يطلب منها رشّ مبيدٍ للصراصير، أو ملء خزان المياه في الحمّام حين تعجز المضخّة المزعجة عن رفع الماء إلى الطابق الثاني. كانت والدتها، المنهكة من الحرّ ومن أعباء إدارة بيت الضيافة، تفتقر إلى الطاقة اللازمة للعطف، أو إلى الوقت لتمنحه لابنتها، لذا لم تلاحظ حين بدأت إلينا تتحول إلى مخلوق مختلف.

لقد كانت دائمًا طفلة هادئة، خجولة، منغمسة في ألعاب غامضة، تحدث نفسها في الزوايا وتمصّ إبهامها. لم تكن تغادر المنزل إلا للذهاب إلى المدرسة أو السوق، ولم تُبدِ اهتمامًا يُذكر بالأطفال الصاخبين الذين من عمرها والذين كانوا يلعبون في الشارع.

التحوّل الذي طرأ على إلينا ميخياس تزامن مع وصول خوان خوسيه بيرنال، "العندليب"، كما كان يحب أن يُسمي نفسه، وكما أعلن ذلك الملصق الذي علّقه على جدار غرفته بصخب.

كان معظم نزلاء البيت من الطلاب أو من موظفي إحدى الدوائر الحكومية الغامضة. "ناس محترمون بحق"، كما كانت تقول أم إلينا دائمًا، فهي كانت تفخر بأنها لا تقبل في بيتها أيّ كان، بل فقط الأشخاص المحترمين، ممن لديهم مورد رزق ظاهر، ويتّسمون بحسن السلوك، ويملكون ما يكفي من المال لدفع أجرة الغرفة والطعام لشهر كامل مسبقًا، والأهم من ذلك: أن يكونوا على استعداد لاحترام أنظمة بيتها—والتي كانت أشبه بأنظمة معهد ديني أكثر منها بفندق.

" يجب أن تحافظ الأرملة على سمعتها وتحظى بالاحترام، لا أريد أن يتحوّل منزلي إلى ملاذ للمتشردين والمنحرفين"

كانت والدتها تردد ذلك دائمًا، حتى لا تنسى إلينا، ولا أحد غيرها.

وكان من بين مهام الفتاة أن تتجسس على الضيوف وتُبلغ أمها عن أي سلوك مريب. تلك المراقبة الدائمة أضفت على إلينا هالة خفيّة من الغموض، إذ كانت تتحرّك في صمت مطبق، فتختفي بين ظلال الغرف ثم تظهر فجأة كما لو عادت من بُعدٍ آخر.

كانت الأم والابنة تتقاسمان أعمال البيت الكثيرة، تغوص كل منهما في روتينها الصامت، دونما حاجة للكلام. وحقًا، كانتا نادرًا ما تتحدثان، وإن حدث، فخلال فترة القيلولة القصيرة، وكانت الأحاديث دومًا عن النزلاء. أحيانًا، كانت إلينا تحاول أن تلوّن حياة أولئك الرجال والنساء العابرين الذين لا يتركون أثرًا، فتنسج حولهم قصة حب سرية أو مأساة ما، لكنها كانت تصطدم دومًا بحدس والدتها الذي لا يخطئ في كشف الخيال.

كانت والدتها تعرف متى تخفي عنها إلينا شيئًا. كان لديها حسّ عملي لا يُقاوَم، وفهم دقيق لكل ما يدور تحت سقفها. كانت تعرف تمامًا ما يفعله كل نزيل في أي ساعة من الليل أو النهار، كم تبقّى من السكر في خزانة المؤونة، من يُتصل به حين يرن الهاتف، وأين تُركت المقصات آخر مرة.

كانت في شبابها امرأة مرحة، بل وجميلة، لكن فساتينها الرثة بالكاد كانت تحبس نفاد صبر جسدٍ لا يزال شابًا. غير أن سنوات الكفاح في سبيل لقمة العيش استنزفت روحها شيئًا فشيئًا.

لكن حين جاء خوان خوسيه بيرنال يسأل عن غرفة، تغيّر كل شيء، بالنسبة لها... وبالنسبة لإلينا أيضًا.

لقد أسرتها طريقة "العندليب" المتكلفة في الكلام، وتلك الهالة من الشهرة التي أضفاها الملصق المعلّق على غرفته، فتجاهلت قواعدها الصارمة وقبلت به نزيلاً، رغم أنه لا يشبه بأي شكل النموذج المثالي للنزيل الذي كانت تبحث عنه.

أخبرها بيرنال بأنه يغني ليلًا، لذا يحتاج إلى النوم نهارًا، وأنه بين عقود عمل ولا يستطيع دفع الأجرة مقدمًا، وأنه شديد التدقيق في طعامه ونظافته—فهو نباتي، ويحتاج إلى الاستحمام مرتين في اليوم.

كانت إلينا تراقب كل ذلك بدهشة صامتة، دون تعليق أو سؤال، وهي ترى أمها تسجل اسمه في دفتر النزلاء، ثم تصطحبه إلى غرفته، تكاد تترنح تحت ثقل حقيبته، بينما هو يحمل علبة جيتاره والأنبوب الكرتوني الذي يحوي ملصقه الثمين.

من زاويتها المموّهة على الجدار، تبعتهما إلينا على السلالم، ولاحظت النظرة الفاحصة التي ألقى بها النزيل الجديد على تنورة القطن اللاصقة بجسد والدتها المتعرق.

وحين دخلا الغرفة، ضغطت إلينا زر الكهرباء، فانطلقت شفرات المروحة السقفية تدور بصوت معدن صدئ.

كان وصول بيرنال بمثابة إعلان فوري لتغيير روتين المنزل.

أصبح هناك مزيد من العمل، لأن بيرنال كان ينام حتى يغادر بقية النزلاء إلى أعمالهم؛ وكان يحتكر الحمّام لساعات؛ ويستهلك كميات مذهلة من الخضار النيئة التي كانت تُحضَّر له خصيصًا؛ وكان يستخدم الهاتف باستمرار؛ ولم يكن يتردد في استخدام المكواة لتسوية قمصانه، دون أن يُحاسب على هذا الامتياز الغريب.

كانت إلينا تعود إلى البيت وقت القيلولة، حين تكون الشمس في أوج سطوعها والنهار خاضعًا لبريق أبيض فتاك، ومع ذلك، كان خوان خوسيه بيرنال لا يزال نائمًا.

وحسبما أمرتها والدتها، كانت إلينا تخلع حذاءها لتُحافظ على الصمت المصطنع في المنزل.

وكانت تدرك أن أمها بدأت تتغيّر يومًا بعد يوم. لقد لاحظت العلامات منذ البداية، قبل أن يبدأ النزلاء بالهمس خلف ظهر والدتها.

أولًا، كان العطر الذي بدأ يلتصق بأمها ويخلف أثرًا في الغرف التي تمر بها ، إلينا، التي تعرف كل زاوية في البيت، والتي دُرّبت طويلًا على التلصص، سرعان ما اكتشفت زجاجة العطر مخفية خلف أكياس الأرز وعلب المعلبات في خزانة الطعام.

ثم لاحظت الكحل الداكن الذي يحدد جفون أمها، واللون الأحمر على شفتيها، والملابس الداخلية الجديدة، وابتسامتها الفورية كلما نزل بيرنال في المساء، وشعره لا يزال مبتلًا من الحمام، ليأكل أطباقه الغريبة التي لا تصلح إلا ليوجي.

كانت والدتها تجلس مقابلة له، تستمع إليه وهو يروي مغامراته كفنان، ويفصّل كل حكاية بضحكة عميقة.

لأسابيع عدّة، كرهت إلينا ذلك الرجل الذي استولى على كلّ مساحة في البيت وكلّ انتباه أمّها. كانت تنفر من شعره المصفوف ببريق البريانتين، وأظافره المصقولة، وحماسه المفرط في استعمال عود الأسنان، وتفكّره المتكلّف، وافتراضه الوقح بأنّ الجميع في خدمته. تساءلت عمّا قد تراه أمّها فيه: لم يكن سوى مغامر صغير الشأن، مؤدٍّ في الحانات لا يعرفه أحد، بل ربّما كان وغدًا كاملًا، كما همست الآنسة صوفيا، إحدى أقدم النزلاء.

في مساء أحد دافئ، حين لم يكن هناك ما يُفعل وتوقّف الزمن بين جدران المنزل، ظهر  خوان خوسيه بيرنال في الباحة يحمل جيتاره؛ استقرّ على مقعد تحت شجرة التين وبدأ يعزف بعض الأوتار. جذبت الأصوات جميع النزلاء، الذين راحوا يطلّون واحدًا تلو الآخر، أولًا بتردّد، غير واثقين من سبب هذا الحدث غير المألوف، ثمّ بحماسة متزايدة؛ أحضروا كراسي غرفة الطعام ورتّبوها في حلقة حول العندليب. كان صوته عاديًّا، لكنّه كان يملك أذنًا موسيقيّة جيدة ويغنّي بجاذبية معيّنة. كان يعرف جميع البوليروهات النموذجية والبلدات الريفية من التراث الشعبي، وبعض أغاني الثورة المليئة بالتجديف والكلمات البذيئة التي جعلت النساء يحمررن خجلًا.

لأوّل مرة في ذاكرتها، شعرت إلينا بجوّ من الاحتفال في البيت. وعندما حلّ الظلام، أضاءوا مصباحين يعملان بالكيروسين وعلّقوهما على الأشجار، وأحضروا البيرة وزجاجة الروم المخصّصة لعلاج الزكام. كانت إلينا ترتجف وهي تملأ الكؤوس؛ شعرت بكلمات الأغاني الموجعة وأنين الجيتار في كلّ ذرة من جسدها، كأنّها حُمّى. كانت أمّها تنقر بإصبع قدمها على الإيقاع. فجأة، نهضت، وأمسكت بيدي إلينا، وبدأتا ترقصان، تبعتهما على الفور البقيّة، بمن فيهم الآنسة صوفيا، يرفرفون ويضحكون بتوتر.

رقصت إلينا لبرهة بلا نهاية، تتحرّك على إيقاع صوت بيرنال، ملتصقة بجسد أمّها، تستنشق العطر الزهريّ الجديد، سعيدة سعادة خالصة. ثم شعرت بأمّها تدفعها بلطف بعيدًا، وتنسحب لترقص وحدها. كانت أمّها، بعينيها المغمضتين ورأسها مائلًا إلى الخلف، تتمايل كما لو كانت قطعة قماش تُجفّف في النسيم. انسحبت إلينا من ساحة الرقص، وعاد جميع الراقصين إلى مقاعدهم، تاركين صاحبة البيت وحدها في وسط الباحة، ضائعة في رقصتها.

بعد تلك الليلة، بدأت إلينا ترى بيرنال بعينين جديدتين. نسيت أنّها كانت تكره شعره اللامع، وأعواد أسنانه، وغروره، وكلّما رأته أو سمعت صوته، تذكّرت الأغاني التي غنّاها في تلك السهرة الارتجالية، وعاد الاحمرار إلى بشرتها، والارتباك إلى قلبها، حُمّى لم تكن تعرف كيف تعبّر عنها بالكلمات.

أخذت تراقبه حين لا يكون ناظرًا إليها، ولاحظت شيئًا فشيئًا تفاصيل لم تنتبه لها من قبل: كتفاه، عنقه القويّ بعضلاته، تقوّس شفتيه الثقيلتين، أسنانه المثالية، أناقة يديه الطويلتين النحيلتين. شعرت برغبة لا تُحتمل لأن تكون قريبة منه، لتدفن وجهها في صدره الأسمر، لتسمع صدى الهواء في رئتيه ونبضات قلبه، لتشمّ رائحته التي كانت تعرف، غريزيًّا، أنّها ستكون قويّة نافذة، مثل الجلد الجيّد أو التبغ.

تخيّلت نفسها تلعب بشعره، تتمعّن بعضلات ظهره وساقيه، تكتشف شكل قدمه، تتلاشى في دخان وتتسرّب إلى داخل حنجرته لتسكن جسده بالكامل. ولكن إن صادف ونظر نحوها والتقت أعينهما، كانت إلينا، مرتجفة، تهرب لتختبئ في أعمق وأكثف زاوية من الباحة.

أصبح بيرنال يسيطر على أفكارها؛ لم تعد تحتمل مرور الوقت بعيدًا عنه. في المدرسة، كانت تتحرّك كأنّها في كابوس، عمياء وصمّاء عن كلّ شيء سوى أفكارها الداخليّة، التي لم يكن فيها متّسع لأحد سواه. ماذا كان يفعل في تلك اللحظة؟ لعلّه نائم، ممدّد على بطنه في السرير، والنوافذ مغلقة، والغرفة مظلمة، والهواء الدافئ يحرّكه مروحة السقف، خطّ من العرق يسيل على ظهره، وجهه غارق في الوسادة.

عند أوّل صوت يرنّ معلنًا نهاية اليوم، كانت تركض إلى البيت، تتمنّى أن لا يكون قد استيقظ بعد، لكي تتمكّن من الاستحمام وارتداء فستان نظيف، ثم تجلس في المطبخ تنتظر، متظاهرةً بحلّ واجاباتاها المدرسيّة، حتى لا تُكلّفها أمّها بأعمال المنزل.

وحين تسمع صوته وهو يخرج من الحمام، يصفر، كانت تموت من التوتّر والخوف، واثقة من أنّها ستفنى من اللذّة إن لمسها، أو كلّمها، تموت شوقًا ليحدث ذلك، وفي الوقت نفسه مستعدّة لأن تذوب في الأثاث، لأنّه، رغم أنّها لا تستطيع العيش من دونه، لم تكن قادرة على تحمّل حضوره الملتهب.

راحت تتبعه في كلّ مكان بصمت، تخدمه من دون أن تُطلب منها الخدمة، تحاول أن تتكهّن برغباته وتلبّيها قبل أن ينطق بها، لكن دائمًا مثل شبح، لا تريد أن يلاحظ أحد وجودها.

لم تستطع إيلينا النوم ليلًا لأنه لم يكن في المنزل. كانت تنهض من أرجوحتها وتجوب الطابق الأول كالشبح، تستجمع شجاعتها أخيرًا لتتسلل على أطراف أصابعها إلى غرفة برنال. كانت تغلق الباب خلفها وتفتح المصراع قليلًا ليدخل انعكاس ضوء الشارع ليضيء الطقوس التي ابتكرتها لتستعيد بقايا روح الرجل التي تركتها في ممتلكاته. وقفت تحدق في نفسها في مرآة بيضاوية سوداء لامعة كبركة طين داكنة، لأنه نظر إلى نفسه هناك، وامتزجت بقايا صورتهما في عناق. سارت نحو المرآة، وعيناها تحدقان، ترى نفسها من خلال عينيه، تقبّل شفتيها بقبلة باردة وقوية تخيّلت أنها دافئة كشفاه برنال. شعرت بسطح المرآة على صدرها، وبعنق حلماتها الصغير يتصلب، مما ولّد ألمًا خفيفًا يتدفق إلى أسفل حتى نقطة محددة بين ساقيها. بحثت عن ذلك الألم، مرارًا وتكرارًا. أخذت قميصًا وحذاءً من مكواة ملابس برنال وارتدتهما. سارت بضع خطوات حول الغرفة، حريصة جدًا على عدم إصدار أي صوت. لا تزال في ملابسه، حفرت في سراويله، ومشطت شعرها بمشطه، وامتصت فرشاة أسنانه، ولحست كريم الحلاقة الخاص به، وداعبت ملابسه المتسخة. ثم، دون أن تعرف السبب، خلعت ثوب نومها وحذائه وقميصه، واستلقت عارية على سرير برنال، تستنشق رائحته بشراهة، وتدعو دفئه لتلف نفسها به. لمست كل شبر من جسدها، بدءًا من الشكل الغريب لجمجمتها، وغضروف أذنيها الشفاف، ومحجري عينيها، وفتحة فمها، واستمرت في جسدها، ترسم جميع العظام والطيات والزوايا والمنحنيات لكل شيء تافه من نفسها، متمنية لو كانت ضخمة وثقيلة مثل الحوت. تخيلت جسدها يمتلئ بالحلوى؛ سائل لزج كالعسل، منتفخ، يتمدد بحجم دمية ماموث، حتى يفيض السرير والغرفة، حتى يملأ انتفاخه المنزل بأكمله. منهكة، تغفو لبضع دقائق، تبكي.

ثم في صباح يوم سبت، وهي تراقب من نافذتها، رأت إيلينا برنال يمشي نحو المكان الذي كانت فيه والدتها منحنية على الحوض تغسل الملابس. وضع يده على خصرها، ولم تتحرك، كأن ثقل يده كان جزءًا من جسدها. حتى من مسافة بعيدة، كانت إيلينا ترى إيماءته التي تحمل طابع التملك، وموقف والدتها من الاستسلام، وخصوصيتهما، التي تربطهما في سر هائل. غرقت إيلينا فى العرق، لم تستطع التنفس، وكان قلبها طائرًا خائفًا في قفصها الصدري، وأطرافها تتنمل، ودمها يتدفق حتى ظنت أنه سينفجر من أصابعها. كانت تلك اللحظة التي بدأت فيها بالتجسس على والدتها.

مرة تلو الأخرى، اكتشفت الأدلة التي كانت تبحث عنها؛ في البداية كانت مجرد نظرة، أو تحية طويلة جدًا، أو ابتسامة متواطئة، أو شك في أن أقدامهما تتلامس تحت الطاولة، وأنهما كانا يختلقان أعذارًا ليكونا وحدهما. وأخيرًا، في إحدى الليالي بينما كانت عائدة من غرفة برنال بعد أن أدت طقوس حبيبها، سمعت صوتًا كهمسات مجرى مائي تحت الأرض قادمًا من غرفة والدتها، وأدركت أنه طوال ذلك الوقت، كل ليلة بينما كانت تعتقد أن برنال كان خارجًا يغني ليكسب عيشه، كان الرجل على بُعد خطوات منها، بينما هي كانت تقبّل ذاكرته في المرآة وتستنشق أثر وجوده على الأغطية، كان هو مع والدتها.

بمهارة تعلمتها على مر السنين في جعل نفسها غير مرئية، انزاحت إلى الغرفة ورأتهما مشتبكين في لذتهما. كان المصباح ذو الحواف يتوهج بضوء دافئ يكشف عن العاشقين على السرير. تحولت والدتها إلى حورية وردية مكتنزة، متلوية، تتنهد، أشبه بشقائق النعمان البحرية، كلها مجسات ومصاصات، كلها فم وأيد وأرجل وفتحات، تدور وتلتف وتلتصق بالجسد الكبير لبرنال، الذي كان بدوره يبدو متيبسًا وأخرقًا، يتحرك بشكل متشنج كقطعة خشب ألقيت في رياح عاتية لا يمكن تفسيرها. حتى تلك اللحظة، لم تكن الفتاة قد رأت رجلاً عاريًا، وقد صدمها الفرق الجوهري. بدا لها ذكورته وحشية، واستغرق الأمر وقتًا طويلاً قبل أن تتمكن من التغلب على رعبها وتجبر نفسها على النظر. لكن سرعان ما استسلمت للدهشة وراقبت باهتمام كامل لتتعلم من والدتها الصيغة التي استخدمتها لخطف برنال منها، وهي صيغة أقوى من كل حب إيلينا، وكل صلواتها، وأحلامها، ودعواتها الصامتة، وكل طقوسها السحرية التي اختلقتها لجذب برنال إليها. كانت متأكدة أن لمسات والدتها وتنهداتها كانت تحمل مفتاح السر، وإذا تمكنت من تعلمها، فإن خوان خوسيه برنال سينام معها في الأرجوحة المعلقة كل ليلة بخطافين كبيرين في غرفة الخزائن.

قضت إيلينا الأيام التالية في غيبوبة. فقدت اهتمامها بكل شيء حولها، حتى ببرنال نفسه، الذي أخفته في مكان شاغر من ذهنها، وغاصت في واقع خيالي حل تمامًا محل عالم الأحياء. استمرت في اتباع روتينها بقوة العادة، لكن قلبها لم يكن في أي شيء مما كانت تفعله. عندما لاحظت والدتها قلة شهيتها، عزت ذلك إلى بداية مرحلة البلوغ—على الرغم من أن إيلينا ما زالت تبدو صغيرة جدًا—فوجدت وقتًا للجلوس معها وحدها وشرحت لها مزحة أن تكون قد وُلدت امرأة. استمعت إيلينا في صمت مفعم بالعبوس إلى الخطبة حول اللعنات التوراتية وتدفق الطمث، مقتنعة أن شيئًا من هذا لن يحدث لها أبدًا.

في يوم الأربعاء، شعرت إيلينا بالجوع لأول مرة منذ أسبوع تقريبًا. دخلت إلى المخزن ومعها فتاحة علب وملعقة، وابتلعت محتويات ثلاث علب من البازلاء الخضراء، ثم قشّرت الشمع الأحمر عن جبن هولندي وأكلته كما لو كان تفاحة. فورًا بعد ذلك، هرعت إلى الفناء، انحنت، وتقيأت حساء أخضر مقرف على نباتات الجيرانيوم. أعادها الألم في بطنها والمذاق المر في فمها إلى الواقع. تلك الليلة، نامت هادئة، ملفوفة في أرجوحتها، تمتص إبهامها كما كانت في مهدها. في صباح يوم الخميس، استيقظت سعيدة؛ ساعدت والدتها في تحضير القهوة للنزلاء وتناولت الإفطار معها في المطبخ. ولكن، بمجرد أن وصلت إلى المدرسة، اشتكت من آلام شديدة في بطنها، وتلوّت وطلبت مرارًا الذهاب إلى الحمام، حتى أذنت لها معلمتها بالعودة إلى المنزل في منتصف الصباح.

سلكت إيلينا طريقًا طويلًا، متجنبةً الشوارع المألوفة عمدًا، واقتربت من المنزل من الجدار الخلفي المُطل على وادٍ. استطاعت تسلق الجدار والقفز إلى الفناء بسهولة أكبر مما توقعت. كانت قد حسبت أن والدتها ستكون في السوق في ذلك الوقت، ولأنه يوم السمك الطازج، سيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تعود. كان المنزل خاليًا إلا من خوان خوسيه بيرنال والسيدة صوفيا، اللتين عادتا من العمل منذ أسبوع بسبب نوبة التهاب مفاصل.

أخفت إيلينا كتبها وحذاءها تحت بعض الشجيرات وتسللت إلى المنزل. صعدت الدرج، متشبسة الجدار وكاتمة أنفاسها، حتى سمعت صوت الراديو يزمجر من غرفة الآنسة صوفيا وشعرت بمزيد من الهدوء. فتحت باب غرفة برنال بدفعة صغيرة . كان الظلام يملأ الغرفة، وللحظة، بعدما جاءت للتو من ضوء النهار الساطع فى الخارج، لم تستطع أن ترى شيئًا. لكنها كانت تعرف الغرفة عن ظهر قلب؛ فقد قاست هذا الفضاء عدة مرات وكانت تعرف أين يوجد كل شيء، المكان الذي يصدر فيه الصوت عندما يضغط على الأرض، كم خطوة تفصل الباب عن السرير. مع ذلك، انتظرت حتى تأقلمت عيناها مع الظلام وتمكنت من رؤية معالم الأثاث. وبعد لحظات، استطاعت أن ترى الرجل على السرير. لم يكن نائمًا على بطنه، كما كانت تتخيل غالبًا، بل كان مستلقيًا على ظهره فوق الأغطية، مرتديًا سروالًا داخليًا فقط؛ كانت إحدى ذراعيه ممدودة والأخرى على صدره، وقد سقطت خصلة من شعره على عينيه. على الفور، اختفى كل الخوف والتوتر الذي تراكم لعدة أيام، وبدت إيلينا صافية، هادئة كمن يعرف ما يجب عليها فعله. بدا لها أنها عاشت تلك اللحظة عدة مرات؛ قالت لنفسها إنه لا يوجد ما تخافه، فهذا مجرد طقس يختلف قليلًا عن الطقوس التي مرت بها من قبل.

ببطء، خلعت زيها المدرسي حتى البنطال القطني الذي لم تجرؤ على خلعه من قبل. مشت نحو السرير. أصبحت قادرة على رؤية برنال بشكل أفضل الآن. بحذر شديد، جلست على حافة السرير بالقرب من يده، مركّزة على عدم ترك أية تجاعيد حتى على الأغطية. انحنت للأمام ببطء، حتى أصبح وجهها على بعد بضعة سنتيمترات من وجهه، فشعرت بدفء أنفاسه وعبير جسده الحلو؛ ثم، بحذر شديد، استلقت بجانبه، ممددة كل ساق بحذر شديد حتى أنه لم يتحرك. انتظرت، مستمعة إلى الصمت، حتى قررت أن تضع يدها على بطنه في لمسة شبه غير مرئية. مع تلك اللمسة، اجتاحت جسدها موجة خانقة؛ خشيت أن يكون صوت قلبها يتردد في أرجاء المنزل، وأنه سيوقظ برنال بالتأكيد. مرت عدة دقائق قبل أن تستعيد هدوءها، وعندما أدركت أنه لم يتحرك، استرخت، وتركت ذراعها تسقط بلا حركة—كان وزنها، في أي حال، خفيفًا جدًا حتى أنه لم يغير نومه. مسترجعة حركات والدتها، بينما كانت أصابعها تزحف تحت حافة سرواله الداخلي، بحثت إيلينا عن شفتي برنال وقبلته كما كانت تقبّل المرآة كثيرًا. كان برنال لا يزال نائمًا، فتأوّه؛ لفّ ذراعه حول خصر الفتاة بينما أمسكت يده الحرة بيدها لترشدها، وفتح فمه ليردّ قبلتها، وهو يهمس باسم حبيبته. سمعته إيلينا ينادي أمها، لكن بدلًا من أن تتراجع، اقتربت منه أكثر. أمسكها برنال من خصرها وجذبها فوقه، وأجلسها على جسده، وبدأ أولى حركات الحب. ثم، إذ أحسَّ بهشاشة ذلك الهيكل العظمي الشبيه بطائر على صدره، لمعت شرارة وعي عبر ضباب النوم القطني، ففتح عينيه. شعرت إيلينا بتوتر جسده، وشعرت به يقبض عليها من ضلوعها ويُلقى بها جانبًا بعنف حتى سقطت على الأرض، لكنها نهضت وركضت عائدة إلى السرير لتعانقه من جديد. صفعها بيرنال على وجهها وقفز من السرير، مرعوبًا مما لا يعلمه إلا الله من محظورات قديمة وكوابيس.صرخ:

"يا لها من فتاة شريرة!"

فُتح الباب، وكانت السيدة صوفيا واقفة عند العتبة.

***

أمضت إيلينا السنوات السبع التالية مع الراهبات، وثلاث أخريات التحقت فيهن  بالجامعة في العاصمة، ثم بدأت العمل في أحد البنوك. في هذه الأثناء، تزوجت والدتها من عشيقها، واستمر الاثنان في إدارة بيت الضيافة حتى وفرا ما يكفي من المال للتقاعد في منزل صغير في الريف، حيث زرعا القرنفل والأقحوان لبيعه في المدينة. علّق العندليب الملصق الذي يعلن عن فنه في إطار ذهبي، لكنه لم يغنِ في نادٍ ليلي مرة أخرى، ولم يفتقده أحد. لم يرافق زوجته قط عندما كانت تزور ابنة زوجته، ولم يسأل عنها قط - لئلا يثير الشكوك في نفسه - لكنه كان يفكر فيها باستمرار. بقيت صورة الطفلة معه، سليمة، لم تمسسها السنين؛ لا تزال الفتاة العاطفية التي رفضها. لو عُرفت الحقيقة، فمع مرور السنين، نمت ذكرى تلك العظام الخفيفة، وتلك اليد الطفولية على بطنه، وذلك اللسان الطفولي في فمه، لتصبح هاجسًا. عندما احتضن جسد زوجته الممتلئ، كان عليه أن يركز على تلك الرؤى، مستحضرًا صورة إيلينا بدقة لإيقاظ دافع المتعة الذي يتلاشى باستمرار. الآن، في منتصف عمره، كان يذهب إلى متاجر ملابس الأطفال ويشتري سراويل داخلية قطنية ويمتع نفسه، يداعبها ويداعبها. ثم كان يخجل من هذه اللحظات الفاحشة، فيحرق السراويل الداخلية أو يدفنها في حفرة عميقة في الفناء في محاولة يائسة لإخراجها من ذهنه. بدأ يتسكع حول المدارس والحدائق حيث كان بإمكانه الوقوف على مسافة ومشاهدة الفتيات الصغيرات اللواتي حملنه للحظة وجيزة إلى هاوية ذلك الخميس الذي لا يُنسى.

كانت إيلينا في السادسة والعشرين من عمرها عندما زارت والدتها لأول مرة، ومعها حبيبها، وهو نقيب في الجيش كان يلح عليها لسنوات كي تتزوجه. وصل الشابان - هو، لا يريد أن يبدو مغرورًا، بملابس مدنية، وهي محملة بالهدايا - في إحدى أمسيات نوفمبر الباردة. انتظر بيرنال تلك الزيارة كمراهق متوتر. كان يحدق في نفسه في المرآة كلما سنحت له الفرصة، يدقق في صورته، متسائلًا عما إذا كانت إيلينا ستلاحظ أي تغيير، أو ما إذا كان العندليب قد بقي في ذهنها محصنًا من ويلات الزمن. استعد للقاء، متدربًا على كل كلمة ومتخيلًا كل إجابة ممكنة. الاحتمال الوحيد الذي لم يفكر فيه هو أنه سيجد مكان الطفلة المتأججة التي أوصلته إلى حياة من العذاب امرأة شابة تافهة وخجولة للغاية. شعر بيرنال بالخيانة.

مع حلول الظلام، بعد أن خفت نشوة الوصول وتبادل الأم والابنة آخر أخبارهما، نقلتا الكراسي إلى الفناء للاستمتاع بنسيم المساء البارد. كان الهواء مشبعًا بعطر القرنفل. اقترح بيرنال كأسًا من النبيذ، وتبعته إيلينا إلى المنزل لتحضر الأكواب. لبضع لحظات، كانا وحدهما، وجهاً لوجه في المطبخ الضيق. بيرنال، الذي انتظر طويلاً هذه الفرصة، أمسك بذراع إيلينا بينما كان يخبرها كيف كانت كل تلك الحكاية خطأً فادحًا، وكيف كان نصف نائم في ذلك الصباح ولم يكن لديه أدنى فكرة عما كان يفعله، وكيف لم يكن يقصد أن يطاح بها على الأرض أو أن يناديها بما ناداها به، وسألها أن تشفق عليه وتسامحه، لعله حينها يعود إلى رشده، لأنه لما بدا وكأنه عمره كله استهلكته رغبة لا تنضب فيها، ألهبت دمه وسممت عقله. حدقت به، صامتة، لا تدري بماذا تجيب. عن أي فتاة شريرة يتحدث؟ لقد تركت طفولتها خلفها بعيدًا، وكان ألم تلك المحبة الأولى التي رُفضت قد تم حجزه في ركن مغلق من الذاكرة. لم تكن تتذكر أي خميس معين في ماضيها.

(تمت)

***

..................

الكاتبة: إيزابيل ألليندي (Isabel Allende) كاتبة تشيلية شهيرة وُلدت في بيرو عام 1942، وتُعد من أبرز الأصوات الأدبية في أمريكا اللاتينية. اشتهرت بروايتها الأولى بيت الأرواح (La casa de los espíritus) التي مزجت فيها بين الواقعية السحرية والتاريخ السياسي والاجتماعي لبلدها. تتميز أعمالها بالسرد الغني والعاطفي، وغالبًا ما تتناول فيها قضايا المرأة، المنفى، الهوية، والحب، متأثرة بتجربتها الشخصية كلاجئة بعد انقلاب بينوشيه في تشيلي عام 1973. تُرجمت أعمالها إلى عشرات اللغات، ونالت العديد من الجوائز الأدبية العالمية.

 

للشاعر الألماني الكبير غـوتـه

(1749-1832)

ترجمةً: د. بهجت عباس

***

ما أجمـلَ الطبـيـعــةَ البـاهـرةْ

تضيء لـي بفـتـنـةٍ ساحــرةْ!

مـا أروع الشَّمـسَ بأنـوارهـا!

وضَحْكةَ المَـزرعةِ العاطرةْ!

**

مـن كلَ غصنٍ نَضِـرٍ أخضرٍ

تـنـبـثـق البــراعـم ُ الـنّـافــرةْ

وألفُ صوتٍ في فضاء الدُّنى

تُطـلـقُـه أدغـالُـها السّـاهــرةْ ،

**

من كلِّ قـلـبٍ عـامـرٍ بالصَّفـا

تـنـبـعـثُ السَّـعـادة الغــامـرةْ

يـا أرضُ ! يـا شمـسُ ! ويــا

حُبـورُ ! يا فرحتَنا الزاهـرةْ!

**

يا حُبُّ! حبٌّ ذهـبيُّ الجَّـمـالْ

مثلُ غيومِ الصُّبحِ فوقَ الجِّبالْ

بدهشةٍ مـن فيـض هـذا السَّنا

تُباركُ المَـرجَ بهـذا الجّــلالْ

**

تـعــومُ فـي سديــم نُـوّارهـــا

كلُّ الدّنى  جبـالُهـا والرِّمـالْ

أيـا فـتـاةً ! يـا فـتـاتـي ! أنــا

فـي وَلـهٍ ليس لـه مـن مـثـالْ

**

وأنـتِ إذ عـيـنُـكِ فـضّـاحــةٌ

هائمــة في الحبِّ حدَّ الخيالْ

كما تُحبُّ الشَّدْوَ جوفَ الفضا

قـبّـرة طـائـرةٌ فــي اخـتـيــالْ

**

ومثلما تهوى زهـورُ الصَّباحْ

عطـرَ السَّما يغمرها بانـثيـالْ

**

ومــثلـما أهــواكِ يــا غـادتي

بدَميَ السّاخـنِ تحت الإهـابْ

أنـتِ الـتـي تمـنحـنـي فـرحــةً

وجــرأةً مـعْ عـنـفـوانِ الشَّبابْ

**

لأغـنـيـاتٍ فـي الهــوى عذبـةٍ

جديدةٍ والرقص بين الصِّحابْ.

كوني طَوالَ العمرِ في بهـجـةٍ

مادمـتُ في قلبـكِ حـبّـاً مُـذابْ

***

...............

 

Mailied

Johann Wolfgang von Goethe

 (1749-1832)

Wie herrlich leuchtet

Mir die Natur!

Wie glänzt die Sonne!

Wie lacht die Flur!

Es dringen Blüten

Aus jedem Zweig

Und tausend Stimmen

Aus dem Gesträuch,

Und Freud und Wonne

Aus jeder Brust.

O Erd, o Sonne!

O Glück, o Lust!

O Lieb, o Liebe!

So golden schön,

Wie Morgenwolken

Auf jenen Höhn!

Du segnest herrlich

Das frische Feld,

Im Blütendampfe

Die volle Welt.

O Mädchen, Mädchen,

Wie lieb ich dich!

Wie blickt dein Auge!

Wie liebst du mich!

So liebt die Lerche

Gesang und Luft,

Und Morgenblumen

Den Himmelsduft,

Wie ich dich liebe

Mit warmen Blut,

Die du mir Jugend

Und Freud und Mut

Zu neuen Liedern

Und Tänzen gibst.

Sei ewig glücklich,

Wie du mich liebst!

Do not Ask me Endure your Absence with patience

للشاعر : يحيى السماوي

ترجمة : رياض عبد الواحد

مراجعة : الدكتور رمضان سدخان

***

Text by: Yahiya Al-Samawi

Translated by: Riyadh Abdulwahid

Edited by : Ramadan M sadkhan

***

I would bless my death

if she were the one to mourn me,

the witness of my departure,

the voice to bid me farewell.

Let her recite above my shrouded body a verse that pleads safety for the fearful,

seeking intercession—

Let her kiss my lips,

close my eyes,

and draw my arm away from my ribs.

Before death, I turned my gaze to you—

so wipe my tears

with the silk of your palm,

and seek forgiveness for me,

for the sin of a lover

whose heart knew no reverence

before loving you.

He never spared a blossom

for a starving butterfly,

nor refrained from offering his cup to her.

He learned love

as a child,

a boy,

a youth—

and even in his age

grew older without knowing no love

but yours.

He passed seventy,

yet still bear the innocence of childhood—

sustained by tenderness.

Chaste in his desires—

even his folly

is a sanctified sin,

Pure and unspoiled .

He draws his bed close to the seventh heaven—

Intoxicated,

by the nectar

of delight.

His night's drink is sleeplessness

and his morning gift,

A voice

Its faint echo

that intoxicate my hearing.

I am,

O daughter of basil,

a river of yearning—

my waters are Iraq,

and spring is Samawa.

Do not ask me

to endure you absence -

for what is my tomorrow

if your shaded recess

is my only chamber of peace?

........................

لا تـسـألـيـنـي الـصـبـر عـنـك

للشاعر: يحيى السماوي

بـاركــتُ مـوتـي لـو تـكـونُ مُـشَــيّـعـي

يـومَ الــرَّحــيــل وشــاهِــدي ومُـوَدّعـي

*

تــتـلـو عـلـى جَـسَـدي الـمُــسَــجّـى آيـة ً

تـرجـو الأمـانَ لـخـائِــفٍ مُـسْــتــشْــفِـع ِ

*

ومُـمَــسّــداً بالـلـثـم ثـغـريَ .. مُـغـمـضـاً

جـفـنـي وتُـبـعِـدُ سـاعـدي عـن أضـلـعـي

*

يَـمَّـمْـتُ قـبـلَ الـمـوتِ نـحـوكِ مُـقـلـتـي

فـلــتـمــسـحـي بـحــريــر كــفٍّ أدمـعـي

*

واسـتـغـفـري لـيْ عـن خـطـيـئـةِ عـاشـقٍ

مـن قـبـلِ عـشــقــكِ قــلــبُــهُ لـم يـخــشَــعِ

*

لــمْ يَــدَّخِــرْ زهْـــراً لــجُــوع فَــراشَـــةٍ

يـومـاً ... ولا عـن كــأسِــهــا بــمُــمَــنَّـعِ

*

خَـبَـرَ الــهــوى طـفـلاً .. صَـبـيّـاً .. يـافـعـاً

وازدادَ كـهْــلاً ـ غــيــرَ عــشــقٍ ـ لا يَـعـي

*

قد جاوزَ " الـســبـعـيـنَ " وهـو طـفـولـةٌ

عــذراءُ يـســتـســقـي الـعــنـاقَ ويَـرْتـعـي

*

مُــتـبَــتّــلُ*ُ الــنَــزَواتِ ... حـتـى طــيــشُـــهُ

نُــسْـــكٌ عــفــيــفُ الإثــمِ غــيــرُ مُـخَــلَّــعِ

*

يُـدنـي مـن الـخـمــس الــطــبـاقِ ســريــرَهُ

ســكــرانُ .. لــكــنْ مــنْ رحــيــق تــمَــتـُّـعِ

*

فـنـديـمُـهُ فـي الـلـيـل سُــهــدٌ ... والــضـحـى

صـوتٌ بَـعــيــدُ الـرَّجْـعِ يُــثـمِـلُ مـســمـعـي

*

أنـا يـا ابــنـةَ الــرَّيـحـان نــهــرُ صَـــبــابــةٍ

مـائـي " عـراقٌ " و " الـسـماوةُ " مَــنـبَــعـي

*

لا تـســألـيــنـي الـصَّـبـرَ عــنــكِ فـمـا غـدي

إنْ كـان غــيــرَ ظـلــيــلِ خـدركِ مــهــجَــعـي؟

***

 

بقلم: لارا فابنيار

ترجمة: صالح الرزوق

***

لدى طبيب الجلدية خليلة. ولعدة أسابيع مضت أصبحت الموضوع الرئيسي للمحادثة في غرفة الانتظار البيضاء، المزخرفة بورقة نخيل متطاولة ووحيدة في زاوية الغرفة، وبجانبها إعلانات براقة عن طب الجلد. جلس هناك ثماني مرضى على مقاعد جلد أحمر، ومعظمهم روس، لأن مكان المكتب في كينغز هاي واي، وهي منطقة روسية في بروكلين. كان لدى الطبيب عدة صحف روسية، مكومة مع أعداد قديمة من التايمز ومن مجلة الرياضة المصورة، وكلها معلقة على حامل بلاستيكي خاص بالصحف. ولكن لم يعرها أحد أي اهتمام. أفضت جدة ميشا بالروسية لامرأة شعرها أبيض وترتدي سترة رياضية وخفا وتنورة طويلة قائلة: "أخذها إلى أروبا في تشرين الثاني. الخليلة. صحح لها ميشا بحصافة: "أريوبا". وكان يحاول قراءة كتاب، ولكن لم يسمح له همس الجدة المنفعلة وكلماتها الفخمة والرنانة مثل أريوبا وخليلة أن يركز. أحيانا حاولت التحرش بامرأة بقبعة رمادية جالسة بجوار ميشا. ولتفعل ذلك مالت فوق ميشا مرتكزة بكوعها الثقيل على ركبته للتوازن. وتوجب عليه ضغط كتابه المفتوح على صدره والانتظار حتى تنتهي، وحاول أن يبعد وجهه عن رائحتها التي اختلط بها العرق ومستخلص جذور الناردين وحشيشة الشبث. قالت: "أولا رافق زوجته بعطلة، ولكن صنعت الخليلة مشكلة، فاضطر لاصطحابها أيضا. كلهن هكذا كما تعلمين". وافقت المرأة ذات الشعر الأبيض بتحريك رأسها. ثم اقترب المزيد من المريضات الروسيات ليدلوا بدلوهن.

"تقصدين أن لدى الدكتور ليفي خليلة؟". قالت المرأة ذات الشعر الأبيض بانفعال: "نعم. حتى أنه أخذها إلى أروبا". نظرت إليها جدة ميشا باستنكار لأنها تزعم أنها المؤهلة بالكلام عن رحلة أريوبا. كل ثاني خميس، بعد المدرسة، يصحب ميشا جدته إلى طبيب الجلدية. ويتوسط بنقل الكلام بينهما، لأن الجدة لا تعرف الإنكليزية. ولم يمانع هذه الزيارات - لأنه ليس هناك الكثير لما يحتاج إلى ترجمة. والدكتور ليفي رجل نحيل وصغير بدوائر سود تحت عينيه. أخذ نظرة من البثور في كاحليها، وكتب شيئا في ورقة المريضة، وسألها: "كيف تشعرين؟". قالت الجدة بالروسية "أفضل". وترجم ميشا كلامها إلى الإنكليزية. ولم يتذمر ميشا من طبيبي العيون والأسنان. ولم يذهب ميشا مع جدته إلى طبيب الأمراض النسائية. قال بحزم: "ولد بعمر تسع سنوات لا شأن له بعيادة نسائية". وأدهش الجميع بتعليقه لأنه لم يجادل إلا قليلا منذ وصولهم إلى أمريكا، ولم يسمعه أحد يتكلم إلا فيما ندر. كان ميشا سعيدا - لسبب ما يخاف من النساء الحوامل ومن بطونهن المنتفخة، وكواحلهن البدينة، وطريقة مشيهن المترنحة والمتهاودة. وتوجب على والدته أن تأخذ إجازة لعدة ساعات لترافق الجدة إلى هناك. واشتكت من ذلك ونظرت إلى ميشا والجدة بتذمر. لم يجنب أحد ميشا الزيارات الشهرية إلى المتمرنين. قابل هذا الطبيب ميشا وجدته في غرفته الرائعة ذات الجدران المطلية بلون كريمي والمغطاة بالشهادات، واقترب بثقة من طاولته المهاغوني الكبيرة. جلس هناك بكامل قامته ومال نحوهما، بتاج شعره الأبيض الغزير المزرق، ووجهه الأحمر، ويديه البيضاوين النظيفتين، وهو يستمع بصبر لشكوى الجدة. بخلاف بقية الأطباء، لم يقاطعها. وفضل ميشا لو فعل. بدأت كلامها مع تنهيدة متفائلة: "مشكلتي...".وكانت تفخر أنها قادرة على وصف الأعراض بدقة وطلاقة. حينما وصفت في إحدى المرات تعرقها أنه "حمام غزير ينبع من تحت جلدها" قال لها والد ميشا: "يجب أن تكوني كاتبة يا أمي". ظهر الضياع على ملامح أم ميشا. ولم تعرف هل تبتسم للطرفة أم تعنف زوجها بسبب سخريته من أمه. واختارت أن تبتسم أخيرا. اعترضت جدة ميشا دون اهتمام بالسخرية قائلة: "كلا. طبيبة. يجب أن أكون طبيبة لو لم أكرس حياتي لخدمة زوجي". ومن عادة ميشا أن ينظر نحو الأسفل حينما تكلم الطبيب، ليتأمل بعينيه تخطيط البساط الملون بالبيج والبني. ولكن الزينة تنقطع في بعض الأماكن بسبب أرجل الأثاث وقدمي جدته التي تنتعل خفا عريضا أسود والتي ترفع صوتها بالكلام، مع همهمات بين حين وآخر مع تبديل في النبرة للتأكيد وهي تقول: "بطني لا تتحرك منذ أيام. ويجب زيارة الحمام كل عدة ساعات. وبالعادة أشعر بالحاجة وأسرع إلى الحمام فورا. وأضغط بقوة. ولا يحصل شيء. وأنسحب ولكن أشعر كأن صخرة عاتية في داخلي. وتضغط على بطني. فأعود وأجرب مجددا". وتثبت إحدى قدميها بالأرض، حينما تصف "الصخرة الثقيلة". نظر ميشا إلى جوربيها الأسودين السميكين. وقد أتت من روسيا كمية كبيرة منها، مع مؤونة كافية من مثبتات مقلمة عريضة تمسك بالجوارب. ولاحظ ميشا أن جوانب مقعده الجلدي أصبحت تحت أصابعه رطبة وزلقة، وشعر أنه يحمر، ولا سيما أذناه. وتساءل إذا انتبه الطبيب كم هما حمراوان. ولكنه لم ينظر إلى ميشا، بل إلى جدته مع ابتسامة مهذبة وصبورة. فكر ميشا: "هيا. يكفي. لا بد من وجود مرضى آخرين بالانتظار". لكن لم يتحرك الطبيب. ربما هو يستغل هذه اللحظات لينام بعينين مفتوحتين. تابعت: "حينما في النهاية أنتهي أشعر بالإنهاك، أشعر كأنني ربحت معركة. رأسي، يوجعني ودقات القلب تشتد فأتناول أربعين قطرة من جذور الشبيث، وأستلقي، وأستمر هكذا على الأقل لساعة". وبعد أن يأزف وقت الجدة، تلتفت إلى ميشا. فينظر إليه الطبيب كذلك، محتفظا بنفس التعابير المهذبة والصبورة على وجهه. ويفكر ميشا بالإسراع كالسهم نحو الباب، وتجاوز موظفة الاستقبال، ثم غرفة الانتظار، حتى بلوغ الشارع. فكر أن يخرج من النافذة، وهي نافذة خضراء عريضة بلاستيكية برأس مشطور عند حافتها. أمكنه رؤية نفسه يسقط على العشب، ثم يقف على قدميه، ويركض مبتعدا عن العيادة. ولكنه لم يقفز. جلس هناك، وهو يفكر كيف يتجنب كلمة "صخرة ثقيلة" أو جلوس الجدة في الحمام، قائلا: "إممممم.. هي.. جدتي.. مشكلتها... أنه لديها... تصاب غالبا بالصداع ويدق قلبها بسرعة عالية". ابتسم الطبيب لميشا موافقا، وكتب وصفة بيديه النظيفتين جدا والرشيقتين. "تايلينول". اشتكت الجدة لاحقا بصوت مسموع في غرفة انتظار طبيب الجلدية قائلة: "انظروا للأطباء الأميركيين!. أخبرته أنني أعاني من إمساك فوصف لي تايلينول!. هل يمكن تصديق ذلك؟". تعاطفت معها المريضات الروسيات بحماس. وأخفى ميشا أذنيه المحمرتين وراء "دليل ما قبل التاريخ المصور الكبير". وتمنى لو تنتقل إلى الموضوع الآمن عن خليلة طبيب الجلدية

والتي شاهدنها مرة حين فتحت الباب وتقدمت مباشرة إلى غرفة الدكتور ليفي، دون أن تبتسم، وهي تنظر أمامها. كانت امرأة ممتلئة وقصيرة، في أواخر الثلاثينات، بشعر أشقر محمر قصير، وبجينز أبيض ضيق، وجاكيت من الجلد اللماع. وهي تطرق ببوطها ذي الكعب الطويل وتخشخش بأساورها الذهبية خلال مشيتها. وتلوح بمفاتيح سيارة في يدها. خيم الصمت على جميع الموجودات في الغرفة وتبعنها بنظرات أعينهن، ومعهن ميشا. كان فمها جميلا، ومطليا بلون أحمر لماع. همست إحداهن بالروسية: "يا لها من قليلة حياء". وربما كانت جدة ميشا. أدى ميشا واجباته المنزلية في مطبخ أبيض طويل، لأنه برأي أمه المكان الوحيد الذي يحظى بإضاءة مناسبة، ولم يكن عرضة للهواء الشديد. لعام تقريبا أربعة منهم - هو وأمه وجده وجدته - عاشوا في شقة من غرفة واحدة ذات جدران طلاؤها ليس على ما يرام، وفيها سجادة بنية بالية، وأثاث مستعمل. وبدا كل شيء في الشقة ملكا لشخص آخر. نام ميشا وأمه في غرفة النوم، واحتل ميشا سريرا مطويا. ونام الجد والجدة على سرير - كنبة في غرفة المعيشة. أو ربما جدته هي التي نامت عليه وهي تشخر بهدوء. وكان الجد كما يبدو يسهر طيلة الليل. وكلما استيقظ ميشا، يسمع جده يتململ أو يزمجر أو يتجول بخطوات ثقيلة على أرض المطبخ التي تصر.

كان لديهم في روسيا شقتان منفصلتان. وعاشوا في مدينتين مختلفتين. جداه عاشا في جنوب روسيا، في مدينة صغيرة مزدحمة بأشجار التفاح والدراق. بينما أقام ميشا وأمه وأبوه في موسكو، قبل أن يغادر والده ليقيم مع امرأة أخرى. في موسكو امتلك ميشا غرفة خاصة به، صغيرة جدا، ليست أكبر من ست أمتار مربعة، وورق الجدران فيها يحمل صور زوارق شراعية. ولميشا سريره الخاص وطاولته مع مصباح قراءة بشكل تمساح. وقد رتب كتبه بأناقة في رف فوق الطاولة، واحتفظ بألعابه في علبتين من الخشب المضاعف بجانب سريره. وحينما يتشاحن والداه، يقولان له: "اذهب يا ماشا إلى غرفتك". ولكن خلال الشهور الأخيرة قبل مغادرة والده، لم يكن لديهما وقت ليطرداه إلى غرفته. كانا يتشاجران تقريبا باستمرار: يبدأ ذلك فجأة، بدون إنذار، وسط حوار عادي خلال الغداء، وهو يلعب الشطرنج، أو يشاهد التلفزيون، وينتهي بعد أن يأوي ميشا إلى سريره، أو ربما لا ينتهي أبدا، فيذهب ميشا إلى غرفته تلقائيا. يجلس على بساط صغير ببن سريره وطاولته ويلعب بمكعبات البناء، ويصغي لأصوات مكتومة تأتي من صراخ والديه. ويتابع لعبه بهدوء. أغرم ميشا بواجباته المنزلية، ولكنه لم يعترف بذلك. كان يمد كتبه وأوراقه وأقلامه أمامه، حتى تحتل كل وجه الطاولة. وأحب شيء له تلوين الخرائط، ورسم المخططات، وحل المسائل الرياضية، وحتى تمارين الإملاء - وكان يسره مرأى خطه، بحروفه الحاسمة والواضحة والمستديرة. وأكثر ما أغرم به خلال أداء واجباته البيتية أن أحدا لا يزعجه. وكل شخص يهمس: "اصمتوا. مايكل يدرس". وحتى جدته، التي تطهو بالعادة الغداء حينما يدرس، تلزم جانب الهدوء - وبصوت خافت تدندن بلحن من أوبرا شعبية مكسيكية تشاهدها يوميا على القناة الإسبانية. ولم تكن لغتها الإسبانية أفضل من الإنكليزية، ولكنها تقول أنت في العروض المكسيكية لا تحتاج إلى الكلام لتفهم ما يجري. والشيء الآخر الذي تحب مشاهدته في التلفزيون هو نشرات الطقس، لأنك لا تحتاج لكلمات أيضا: صورة الشمس تدل على يوم طيب، وقطرات المطر يعني الهطول، وصفوف من قطرات المطر تدل على أمطار غزيرة. وكانت أم ميشا تعارض الاشتراك بقنوات التلفزيون الروسي، لأنها تعتقد أنها تحرمها من التأقلم مع الحياة الأمريكية. ولنفس السبب، أصرت أن ينادي الجميع ميشا باسم "مايكل". وكانت أم ميشا متأقلمة بشكل جيد. فهي تتابع أخبار التلفزيون، وتستأجر الأفلام الأمريكية، وتقرأ الصحف الأمريكية. وتعمل في مانهاتن، وترتدي للعمل نفس الثياب التي شاهدها ميشا في مجلات غرف الانتظار. لكن تنوراتها أطول وكعاب أحذيتها أقصر وأغلظ.

ومشكلة الواجب المنزلي أنها تستغرق حوالي أربعين دقيقة فقط من وقت ميشا. وحاول أن يمددها بقدر استطاعته. وقد حل المسائل الإضافية كلها التابعة لفصل "ربما تجرب معها". أحضر كتابه وقرأه، وتظاهر أنها وظيفة لغة إنكليزية. وكان يتوقف من وقت لآخر وكأنه يواجه مشكلة، وعليه أن يفكر بها، ولكنه كان يكتفي بالجلوس، مراقبا جدته وهي تطبخ. أخرجت كل تلك الحزم وأكياس الخيوط وأكياس البلاستيك والأطباق والصحون المغلفة الغريبة، من الثلاجة ووضعتها على الكونتور، ولم تنس أن تشم كلا منها أولا. ثم فتحت الفرن وهي تصيح بصوت مرتفع وتشهق وتقول: "آسفة يا مايكل". بعد ذلك أخرجت ما لديها من أدوات للقلي والشي، وأودعتها في الفرن، وملأت بعضها بالماء ودهنت البقية بدهن الدجاج (تحتفظ دوما ببعض دهن الدجاج قرب يدها، فهي لا تثق بالزيت أو زبدة القلي). وحينما تئز وتئن المقالي وصفائح الشي على الموقد، تغسل وتقطع الجدة محتويات الحزم والأطباق، باستعمال لوحين من الخشب - أحدهما من أجل اللحوم، والآخر من أجل كل المتبقي. وكان ماشا يتعجب دوما كيف أن أصابعها القصيرة والمنتفخة سريعة. وخلال ثوان تختفي أكوام من المكعبات الملونة في المقالي والصفائح تحت أغطية مزخرفة ورقيقة. وغالبا تقول الجدة لزميلاتها في غرفة الانتظار: "كنت حكيمة. أحضرت كل الأغطية معي. في أمريكا نادرا ما تجدين ما يناسب". توافق النساء، بالتأكيد يوجد مشكلة في أغطية أمريكا. لطهي اللحم المفروم تستعمل الجدة فرامة لحوم معدنية يدوية، أحضرتها معها من روسيا أيضا. وعليها أن تنادي الجد إلى المطبخ، لأن الفرامة ثقيلة جدا - فهي لا تستطيع تدوير اليد، وحتى أنه لا يمكنها رفعها. كان الجد يرمي جريدته من يده، ويأتي خانعا، وهو يجرجر خفه، بنفس التعابير المستسلمة والمرهقة، التي تظهر وهو يتبع الجدة إلى البيت عائدين من مخزن التموين الروسي، حاملا الأكياس المنتفخة وعليها عبارة "شكرا" بخط أحمر وطويل. ثم يتخلى عن قميصه المطرز بالمربعات ويضعه على الكرسي. (أصرت الجدة أن يفعل ذلك قائلة "أنت لا تريد قطعا من اللحم النيء على قميصك"!). ويضع أمامه طبق لحم من الخزف ويغلق الفرامة وهي على حافة النافذة. ويقف منحنيا عليها، بثيابه الداخلية البيضاء وسرواله الصوفي الأسود. فقد أحضر معه إلى أمريكا خمس بذات جيدة اعتاد أن يرتديها خلال عمله في روسيا. والآن يرتدي السروال في البيت ويعلق الجاكيت في الخزانة مضيفا إلى جيوبها النفتالين. ويقبض الجد على يد فرامة اللحمة الصدئة ويديرها ببطء، بجهد في البداية، ثم أسرع بالتدريج. ويرتعش كتفاه اللحميان والمحمران ويسيل العرق على خديه المنتفخين، وأنفه المستدير ورأسه اللماع. وأحيانا تترك الجدة الطهي وتوجه هذه التعليقات: "ماذا لديك، أصابع مشوهة؟" أو "انتبه، وقعت منك قطعة ثانية" أو "أتمنى فرم هذه اللحمة بحلول العام القادم". ولم تكلمه هكذا أبدا بالروسية. حينما يعود من العمل إلى البيت في روسيا تسرع لتقديم غدائه وتضيف بنفسها ملعقتين كاملتين من القشدة الحامضة إلى طبق الشيشي. فيشرب الجد الحساء بصوت مرتفع وهو يثرثر كثيرا خلال طعامه. ولكنه حاليا لا يكلم ولا حتى الجدة. يقف بمكانه فقط، وبيده قبضة فرامة اللحمة، بعقد أصابع منتفخة، ويسرع بتدويرها حتى يحمر وجهه وتزرق عروقه وتتشابك على رقبته المنتفخة. ويركز نظرته على شيء بعيد خارج النافذة. اعتقد ميشا ربما كان جده يفكر بالقفز كما أراد في عيادة الطبيب. غير أن شقتهم كانت في الطابق السادس. وحينما يتم تحضير الطعام، تذهب الجدة لإحضار لمستها المفضلة، عشبة الشبيث. فهي تحتفظ لديها بباقة مسودة وذابلة قليلا ومنشورة على جريدة قديمة تمدها فوق حافة النافذة. تنتقي عشبة وتسحقها بأصابعها في زبدية صغيرة، وتضيفها إلى جميع الصحون التي طبختها. وعند الغداء تجد طعم الشبيث في كل شيء: الحساء والبطاطا وشوربة اللحمة والسلطة. وفي الحقيقة قليلا ما يكون للغداء أي طعم غير الشبيث - والجدة لا تثق بالتوابل، باستثناء القليل من الملح في الطعام، وبدون أي فليفلة. يراقبها ميشا كيف تنتقل من مقلاة إلى أخرى، مرتدية ثوبا له هيئة مربع قطن أسود، وتجفف وجهها المحمر والمبلول وشعرها الرمادي القصير بقطعة قماش، وتجرف قشور البطاطا من الكونتور، وتزمجر كلما سقطت إحداها على الأرض، ثم تلتقطها. ولم يفهم لماذا تتعب في تحضير الطعام، الذي لا يتذوقونه، ويستهلكونه في وقت الغداء بعشرين دقيقة، وبصمت. لم يستطع ميشا أن يتظاهر أنه منهمك بوظيفته إلى ما لا نهاية. وفي الختام تدرك جدته أنه لا يعمل. وكانت تتابع نشرة الطقس على التلفزيون، وإذا لم تجد ما يدل على كارثة طبيعية ترسل ميشا إلى باحة الألعاب مع جده. تصيح بالجد الجالس على الكنبة بقميص المربعات غير المزرر ومدفونا بالصحف الروسية: "اذهب. تحرك. اذهب وتنزه مع الصبي. كن مفيدا وغير روتينك". فيقف الجد ويزمجر ويذهب إلى مرآة الحمام، ليتأكد أنه بحاجة لحلاقة، وبالعادة يقرر عكس ذلك. ثم يزرر قميصه، ويدسه في سرواله، ويقول بشكل غائم: "لنذهب يا مايكل". ويعلم ميشا بعد المغادرة أن الجد سيحمل معه الصحيفة الروسية. وتضع الجدة نظارتها (لديها اثنتان، وكلتاهما من البلاستيك الرخيص، إحداهما زرقاء قليلا والثانية وردية)، وتتكوم على الكنبة، حتى تئن النوابض. وتجلس هناك وقدماها متباعدتان وتقرأ صفحة المبوبات، والإعلانات الفردية. وترسم دائرة حمراء حول بعضها، بقلم استعارته من ميشا، كي تعرضها لاحقا على أم ميشا، التي تبادر بالضحك، ثم تتحسس، وأخيرا تنزعج وتتبرم من الجدة. طيلة الطريق إلى باحة الألعاب، وحين المرور ببناء شقق من الطوب الأحمر وصفوف من البيوت الخاصة تجد فيها على الممشى صغارا يضعون قبعة اليهود وبنات يرتدين أثوابا طويلة ومزهرة، يتقدم الجد ميشا بعدة خطوات، ويداه مطويتان وراء ظهره، ونظره على قدميه، بدون أن ينطق أي كلمة. في روسيا الوضع مختلف. ربما لأن ميشا كان أصغر. حينما ينفق الصيف في بيت جديه يرافقه جده طوعا إلى حديقة ودون أن يطلب منه ذلك. ويتكلم كثيرا حينما يمشي في ممرات الغابة المظلمة والكثيفة: عن الأشجار، والحيوانات، وفتنة الأشياء العادية التي تحيط بهما. ولا يحاول ميشا الصغير أن يفهم معنى الكلمات. وتصله مختلطة بأصوات غيرها: خشخشة الأشجار، وزعيق طائر، وصليل مزعج للحصى وهو يسحب مقدمة صندله عليها. والأهم صوت جده. كانا يمشيان ببطء، ويد الصغير ميشا مؤمنة بيد جده المتعرقة والكبيرة. وبين حين وآخر يحرر يده ويمسحها ببنطاله، ولكنه يسرع ليحمل حقيبة يد جده. وما أن يصلا إلى ساحة اللعب ويقفا على أرضها الإسفنجية السوداء يقول الجد: "حسنا يا مايكل هيا العب". ثم يتجول في المكان بحثا عن صحف روسية على المقاعد. وبالعادة يجد اثنتين أو ثلاثا. ثم يذهب إلى جذع شجرة ضخمة، بعد أبعد زاوية عن طاولات الدومينو، حيث يجتمع حشد متحمس من الرجال الروس كبار السن، أو بعد أبعد زاوية من الطاولات حيث تجلس كبيرات السن الروسيات لمناقشة أمراضهن وأخبار خليلات الآخرين. وهناك لساعة كاملة في ساحة الألعاب، يجلس بلا حراك، باستثناء تقليب صفحات الجريدة.لم يعرف ميشا كيف يفترض به أن يلعب. رأى أولادا بعمر ثلاث سنوات على دراجة بثلاث دواليب يتجولون في أرجاء الساحة الطرية السوداء. أما الزحليقة فقد احتلها أولاد صاخبون بعمر ست سنوات، والأرجوحات شغلها أطفال صغار، تؤرجحهم أمهاتهم أو بنات بدينات مراهقات، كن يضغطن بمؤخراتهن لتمر من بين السلاسل. وبالعادة يمشي ميشا إلى أعلى زحليقة، ويدوس على قطع العلكة و برك من المثلجات الذائبة. يتسلق إلى الذروة ويزحف نحو كوخ بلاستيكي. ويجلس هناك متمسكا بمقعد مطاطي. وأحيانا يجلب معه كتابا. وكان محبا للكتب السميكة الجادة والتي تدور حول الحضارات القديمة، والبعثات الأثرية، والحيوانات المنقرضة منذ ملايين السنوات. ولكن في معظم الوقت يمنعه الضجيج المرتفع من القراءة. ثم يحدق ميشا بالأسفل نحو باحة الألعاب، والتي يبدو أنها تتحرك وتميد مثل حيوان قلق، ثم ينظر إلى جده الثابت بمكانه.

ثم شاهد الملاحظة عن حصة اللغة الإنكليزية مطبوعة بحروف سود عريضة على ورق مضيء زهري. كان اللون ساطعا جدا ويلفت النظر أينما وجدت الملاحظة. ومنذ بداية آذار أمكن رؤيتها في أي مكان من الشقة: على طاولة المطبخ، في غرفة النوم على وسادة مجعدة، على أرض دورة المياه بين المكنسة وكتالوغ ماسي، أو مدسوسة تحت الكنبة (فتجرها الجدة من هناك، وتنفخ طبقة الغبار عنها، وتمهدها بيديها، وتوبخ الجد بغضب). وقد اهتم بها الجميع، وقرأوها، أو على الأقل نظروا إليها. وتمت مناقشة إذا ما كان يتوجب على الجد أن يتبع الحصص. فهو يلائم المواصفات تماما. أي مهاجر شرعي مضى عليه في البلاد أقل من سنتين، ولديه إلمام بأساسيات اللغة الإنكليزية، مدعو لاتباع دورة محادثة أمريكية مدتها ثلاث شهور. وكتب بحروف أكبر من البقية: "الكثير من التعابير المتداولة". وبحروف أكبر: "بالمجان".

قالت أم ميشا في وقت الغداء "البرنامج ممتاز يا أبي. المعلمون أمريكيون، معلمون ماهرون، من هذا البلد وليس سيدات روسيات مسنات، يخلطن بين الأزمنة ويزعمن أن هذا لغة قواعد بريطانية كلاسيكية". ونظفت في طبقها حساء سمك السلور من الحسك. حاول الجد في البداية تجاهلها. ولكن أم ميشا أصرت: "أنت تتعفن بالحياة يا والدي. فكر كم هذه الفرصة رائعة، ستشغلك بشيء ما، شيء يهمك". قرقعت الأطباق بين يدي الجدة، وجرت الكرسي مع صرير، وأحيانا كانت تقاطع هذا الحوار بأسئلة مثل: "أين أعواد الثقاب؟ وضعتها هنا بالضبط" أو "هل تعتقدون أن هذه السمكة مطهية أكثر مما يجب؟". وساءها أن أحدا لم يفكر بضرورة انتسابها للدروس، مع أنها تعرف أن عبارة "الإلمام بأساسيات الإنكليزية" لا ينطبق عليها تماما. وأفضل ما بإمكانها أن تتهجأ اسمها الأول. أما كنيتها فتحتاج لمساعدة من ميشا. ولكن لا يشوش على أم ميشا أسئلة الجدة أو قرقعة الأطباق. وتقول: "ستبدأ بالمحادثة بسرعة، يا أبي. أنت تعرف القواعد، ولديك مفردات، ولكنك بحاجة لمساعدة". خفض الجد رقبته فقط، ورشف شايه، وهو يتمتم أن هذا هراء وأن منطقتهم في بروكلين لا تحتاج إلى الإنكليزية إلا قليلا.

فترد أم ميشا: "وماذا عن مواعيدك أنت وأمي؟ تعبت أنا ومايكل من مرافقتك إلى هناك كل مرة. هل هذا صحيح يا مايكل؟". وتنقل إبريق الشاي البورسلان الضخم، فيمنعها من رؤية وجه ميشا في الطرف الثاني من الطاولة. وافق ميشا. وتقرر أن يلتزم الجد بالحصص. في يوم أول حصة حمل الجد إحدى ستراته المعلقة على المشجب وارتداها، فوق قميص المربعات المعتاد. وسأل ميشا إن كان لديه دفتر لا يلزمه، فقدم له دفترا بغلاف بلون الرخام، مع قلم رصاص مشحوذ وقلم حبر. وضعها الجد في كيس بلاستيكي يحمل عبارة "شكرا". في الصالة أخذ من أعلى رف في الخزانة علبة حذائه الروسي، وسأل ميشا إن كان الحذاء بحاجة للتلميع. لم يعرف ميشا الجواب، فأعاد الجد العلبة إلى مكانها، وارتدى خفه. وجرجر خطواته إلى المصعد، والكيس تحت إبطه. بعد ذلك كل ليلتين في الأسبوع - يعقد الدرس يومي الاثنين والأربعاء - يتناولون الغداء بغياب الجد. وغيابه لا يصنع فرقا ملحوظا، ما عدا توتر أم ميشا والجدة أكثر قليلا. ويبدأ بقصاصة من الصحيفة الروسية، وإعلان ملون كبير - "شرف حفلتنا بحضورك وقابل قدرك! الثمن: خمسون دولارا (يتضمن الطعام والشراب)" - وينتهي ذلك بصياح أم ميشا: "لماذا تريد أن تزوجني؟ لتذهب بطريقك الآخر؟". وتمد الجدة يدها إلى زجاجة حشيشة الهر قائلة بصراحة: "لم أنطق بكلمة سيئة على زوجك".

"بل وجهت لي الكثير من الكلام. أنت لا توفرين النقود من المكالمات الدولية".

"أردت أن أفتح عينيك".

ثم تسرع أم ميشا وتخرج من المطبخ، والجدة تصيح لتعود، وهي تعد بحذر النقاط المضافة لكأس الشاي: "كيف بإمكانك أن لا تكوني ممتنة جدا. أتيت إلى أمريكا لأساعدك. تركت كل شيء وأتيت كرمى لك". جاءت أم ميشا إلى أمريكا كرمى لميشا. قالت له ذلك مرة، بعد عودتها من اجتماع ذوي الطلاب مع المعلمين. جاءت إلى البيت وقالت: "تعال معي إلى غرفة النوم يا مايكل". تبعها، وشعر بالعرق على يديه واحمرار أذنيه، مع أنه يعلم أنه لم يرتكب في المدرسة فعلا شائنا. جلست أمه على حافة السرير، وخلعت حذاءها بكعبه العالي، ثم تخلت عن سروالها. وهي تدلك قدمها البيضاء بأصابعها الملتوية قالت: "قال المعلم أنك لا تشارك يا مايكل. ولا تتكلم أبدا. لا في القاعة ولا في الاستراحة. إنكليزيتك جيدة، وحصلت على علامات ممتازة في امتحاناتك. ولديك علامة ممتازة في كل مقرراتك. ولكنك لن تصل إلى الدرجة الأولى في صفك". تركت قدمها وبدأت بالبكاء حتى سال صباغ أسود حول عينيها. قالت له وهي تلهث أنه هو مستقبلها، والسبب الوحيد لقدومها إلى أمريكا. ثم ذهبت إلى الحمام لتغسل وجهها، وتركت على الأرض كومة سروالها - دائرتان رقيقتان سوداوان اندمجتا معا. صاحت من الحمام: "لماذا لا تناقش يا مايكل؟".

ولكن ليس صحيحا أنه لا ينطق أبدا. إذا طرأ سؤال يرد بجواب دقيق، ولكنه يحاول أن يختصر قدر الإمكان. غير أنه لا يبادر بالكلام. ويدون كل ما يقال في الحصة، ويشارك في ذهنه بتعليقات وتعليقات معاكسة، وأحيانا يلقي النكات. مع ذلك شيء ما يمنع هذه الكلمات الجاهزة من أن تخرج من فمه. وينتابه نفس الشعور عندما يتصل والده في أيام السبت. كان ميشا يتدنفق كل الأسبوع يجهز لاتصاله، ولديه ألوف الموضوعات ليخبره بها. ويخبره ذهنيا بكل مجريات المدرسة، ويصف له زملاء الصف، وأساتذته. ويريد أن يتكلم عن أشياء قرأها في كتبه، وعن مدنه المفقودة، وحيواناته الغريبة. وبذهنه يضحك ميشا ويتخيل كيف سيخبر والده بكل القصص المضحكة التي قرأها عن الديناصورات، وكيف سيشاركه أبوه الضحك. ولكن حينما يخابره أبوه، يحل الخدر عليه. ويجيب على الأسئلة ولا يبادر بالنطق ولا يوجه أي سؤال. ويجلس والهاتف على سريره، بمواجهة الجدار، وأظافره تقشر طبقات الطلاء القديمة. يسمع أنفاس والده في الهاتف والتي تدل على نفاد الصبر وخيبة الأمل. ويرى ميشا أن كرهه للكلام هو سبب عدم اتصال والده في الأسابيع السابقة. والآن حان دور الجد ليؤدي واجبه المنزلي. جاء ميشا من المدرسة وشاهده عند طاولة المطبخ مع دفتره وقواميسه مكومة أمامه على الطاولة. وقد قص الجد لنفسه بطاقات ملونة صغيرة من ورق البناء وكتب عليها كلمات صعبة موجودة في القاموس: كلمة إنكليزية على طرف، ومعناها بالروسية على الآخر. وانهمك بالدراسة ولم يلفت اهتمامه شيء في تلك الأثناء. وتوجب على الجدة أن تذهب إلى مخزن الأطعمة الروسية بمفردها، وبالعادة تعود مع أكياس صغيرة وخفيفة لأنه لا يسعها أن تحمل الأشياء الثقيلة. ولم يستعمل أحد فرامة اللحمة. وأودعت في الخزانة مع مهملات أحضرت من روسيا: ورق الفرن، قوالب غريبة، ساموفر منهك صغير، أداة لاستخراج بذور الكرز الحامض. ولم يسعد ذلك الجدة. ودمدمت أنها تحمل على كاهلها كل البيت وألقت نظرات تأملية على زوجها. قالت أم ميشا: "من فضلك اتركيه بمفرده. على الوالد أن يتعلم شيئا، ولم يبق له غير ثلاث شهور". وتساءل ميشا هل يستمتع الجد بوظيفته مثله. وأيضا تساءل هل يغش الجد مثله، متظاهرا أن وظيفته تستغرق وقتا أطول مما تحتاج إليه في الحقيقة. وبعد بداية الحصص بثلاث أسابيع، أخذ الجد العلبة وحذاءه الجلدي من الرف. وذهب إلى مخزن أحذية واشترى علبة طلاء بني قاتم صغيرة. ولهذه الغاية بحث عن كلمة "طلاء أحذية" في القاموس. قبل كل حصة يلمع حذاءه بنشاط بقطعة قماش. ويدمدم مستجيبا لنظرة الجدة: "لا أريد أن يظن المعلم أن الروس خنازير". يجلس القرفصاء، ورأسه للأسفل، ووجهه ورقبته محمران جدا، مثلما يحمر كلما قال إنه لا يتحسن وعليه حضور دروس إضافية في أيام السبت. وحينها تضع الجدة بعض الأشياء في الخزانة. تغلق باب الخزانة الأبيض بصوت جازم وتقول: "رغم كل هذه الدراسة ولا تتحسن". في إحدى الأمسيات نهض الجد عن الكنبة، وارتدى سترته، ووضع بعض النقود في جيبه، وذهب إلى كينغز هاي واي، وعاد بقميص جديد، أزرق خفيف مقلم بخطوط زرق قاتمة. وكل ما قاله للجدة "كان معروضا بسعر مخفض".

قالت جدة ميشا في صالة انتظار طبيب الجلدية: "وهذا كل ما قاله. كان معروضا بسعر مخفض. لو أنني لا أعرفه لاعتقدت أن لديه خليلة. ولكنني أعرفه". هزت المستمعتان رأسيهما بتعاطف، وهما امرأتان روسيتان، إحداهما تضع قبعة صوفية سميكة لونها بنفسجي لماع، والثانية سوداء وعادية. كشرت الجدة ورفعت أحد حاجبيها لتؤكد كلامها. ونظرت نظرة لها معنى للمرأتين، ومالت عليهما، وهمست شيئا. وأضافت: " ذلك - لعدة سنوات حتى الآن". قالت المرأة ذات القبعة البنفسجية: "ولكن هذا جيد، هذا أفضل". فكرت الجدة بكلامها وقالت: "نعم، نعم، هذا أفضل، طبعا". تخيل ميشا جده مع خليلة، مع خليلة طبيب الجلدية، لأنها الخليلة الوحيدة التي شاهدها. وتخيل جده يتمشى معها على ضفاف خليج رؤوس الحملان - شيب هيدز باي - بين أزواج آخرين، وإحدى يديها تتدلى من كم جلدي لماع لتقبض على يد الجد، ويدها الأخرى تلهو بمفاتيح سيارة. ثم تخيلها تقبل الجد على خده وتترك عليه علامة من طلاء الشفاه الأحمر. فيجعد الجد أنفه ويسرع لمسح العلامة، كما يفعل ميشا حينما تقبله أمه بعد العمل. وصورة جده الجاد الذي ينظف خده بقوة جعلته يبتسم. وخليج رأس الحملان هو المكان الذي يأخذ الجد ميشا إليه للنزهات المسائية. ولعدة أسابيع بعد الحصص واصلا الذهاب إلى باحة اللعب، ولكنه أهمل الصحف الروسية. وبدأ الجد يحمل معه بطاقات الكلمات الملونة. فيوزعها أمامه على الجذع ويضع على كل منها حجرة ليمنع الريح من جرفها. وأحيانا يقرأها بتمهل، بالهمس أو بتحريك شفتيه أو بعينيه. ولكن غالبا ما يتلفت وعلى وجهه دهشة واضحة وعدم تصديق كأنه يراها لأول مرة. ثم في أحد الأيام قال الجد إنه سيأخذ مايكل إلى خليج رأس الحملان ليرى السفن ويستنشق هواء المحيط المنعش. احتجت الجدة في البداية، قائلة إنها مسافة طويلة، والجو عاصف هناك، وقد يصاب الولد بنزلة برد. ولكن أصر الجد، كما كان حاله في روسيا. وقال إن الولد بحاجة للتريض، وهذا الكلام لا تراجع عنه. وفي خليج رأس الحملان لم يتوقفا لرؤية السفن. وعبرا الجسر الخشبي الذي يصر، وتابعا على طول الضفة، ومرا بالصيادين، والأشجار الطويلة، والمقاعد الخضراء المهترئة التي تحتلها نساء وحيدات كما يبدو. وفي نهاية الدرب التفا وعاودا المشوار ثلاث أو أربع مرات. الجد يمشي أمامه، أسرع من المعتاد، ويعرج قليلا بحذائه الجلدي القاسي. نظر نحو الأمام، وأحيانا ينظر نحو الأشجار والمقاعد. وتولد عدة مرات عند ميشا انطباع أن جده أومأ لشخص جالس على مقعد. وفي إحدى المرات انزلق على رأس سمكة على الرصيف، وتقريبا سقط وهو ينظر بذلك الاتجاه. وتوقف ميشا عدة مرات لينظر إلى معدات الصيادين اللماعة، ورؤوس وذيول السمك المستعملة كطعم، وباطن الدلاء البلاستيكية البيضاء، والفارغة عادة. وعندما اشتدت الريح بردت أذنا ميشا وكادت أن تطيح بقبعة اليانكي الصغيرة من فوق رأسه، واسودت الأمواج وارتفعت في الماء، وشاهد ميشا الأسماك تقفز وتنثر الماء حولها لمسافة كبيرة. وحينما سحب أحدهم سنارة صيده، تبعها ميشا بعينيه، وحبس أنفاسه ولعق شفتيه. وأمل ولو مرة أن يرى سمكة تقع بالمصيدة. وبعد نهاية حصص الجد، تأكد ميشا أنهما لن يعودا إلى هنا. وعليه العودة إلى الكوخ البلاستيكي في باحة اللعب، والذي ترتفع حرا ته صيفا، وتفوح منه رائحة المطاط المحروق.

سجلت الجدة كل مواعيدها على تقويم كبير معلق على الجدار بجانب الثلاجة، وهو بمثابة بقعة مضيئة على جدار المطبخ الشاحب. يحمل اسم "أديرة روسية شهيرة"، وكان مطبوعا في ألمانيا، وقد اشترته من شاطئ برايتون. وتحت الصورة اللماعة والجميلة لدير زاغورسك، ببرجيه الذهبيين العائمين في سماء زرقاء مشرقة، تجد تفاصيل شهر حزيران. في الخامس عشر منه تاريخ نهاية حصص الجد، وقد أحاطته بدائرة رسمتها بقلم ميشا الأحمر. قالت أم ميشا حينما مرت بجانب التقويم وهي في طريقها لتضع طبقها في المغسلة: "هل رأيت، لم تكن تريد أن تذهب، يا والدي. ولكنك ستفتقده بعد أن ينتهي". نفض الجد كتفيه. لم يظهر أنه تأثر بكلماتها أبدا. وظهر أن الجدة هي من تأثرت، وكلما ذكر 15 حزيران تتبدل ملامحها. وبقي الأهم. طلبت الجدة من الجد إحضار عشر أرطال خيار من شاطئ برايتون. قالت: "سعرها هناك عشرون سنتا للرطل. وسأصنع منها المخلل". وذكرت أنها تحتاج للخوخ والمشمش للمربى، والكرز الحامض لحلوى الكرز الحامض، والإجاص الصغير الصلب للطهي، والتفاح لفطيرة التفاح. وألقت نظرة حنين باتجاه فرامة اللحوم المتوقفة، وأخبرته بوصفة رائعة سمعت بها في عيادة طبيب الأسنان قائلة: "سأجهز الزرازي. قالت آنا ستيبانوفنا إنها تكون أفضل باستعمال البصل الأخضر عوضا عن البصل. وسأحتاج للكثير من لحم البقر المفروم لأجله". ثم وجدت وكالة سفر روسية، تقدم تخفيضات لسياحة العجائز. وقالت للجد: "سنذهب إلى بوسطن، وإلى واشنطن، وإلى فيلادلفيا. تكلمت النساء في صالة الانتظار عن رحلات بدون توقف، وجلست هناك ولم أفتح فمي من الخجل. عليك الآن أن ترافقني. لن أذهب بمفردي، كما لو أنني لم أتزوج. فغير المتزوجات يحصلن على مقاعد سيئة في الخلف، بجانب دورة المياه". وفكر ميشا أنه ليس أمرا سيئا للجدة إذا حالفها الحظ للجلوس بجانب دورة المياه. غير أنه لم يعلق.

وكذلك الجد لم يعلق. ودفن نفسه في كتبه الدراسية. في 2 حزيران تنبأت نشرة الأحوال الجوية في التلفزيون بغيوم رمادية صغيرة وهطل مطري أسود وغزير. قالت الجدة وهي تغلق التلفزيون وتذهب إلى المطبخ حيث كان الجد وميشا يتابعان كتابة الواجب المنزلي أو بالأحرى يجلسان مع كتبهما المفتوحة: "أمطار غزيرة. ستمكثان الليلة في البيت". ظهرت السماء وراء النافذة رمادية غالبا، مع عدة بقع زرق. نظر ميشا نحو الأسفل. لم يكن الناس يحملون مظلاتهم، ورأى إسفلت الطريق الرمادي جافا ومغبرا. نظر إلى جده. وفحص جده السماء بعناية، ثم رفع غطاء النافذة عدة بوصات ومد يده. دخلت هبات رياح عاصفة ومتجلدة، وتسببت بانتصاب شعر ذراعه، غير أنه لبث جافا. قال: "سنعود قبل أن تمطر". فتنهدت الجدة بلا مبالاة. بدأ هطول القطرات الأولى من المطر حالما غادرا المبنى. ورسمت أثرا أسود على الرصيف، ولكنها لم تسقط على ميشا وجده. ثم سقطت نقطة مطر على طرف أنف ميشا. مسحها. وقرب خليج رأس الحملان توقف الجد ومد راحته المفتوحة. سقطت عليها بعض القطرات. قال الجد وهو يلتفت إلى ميشا ويمسح وجهه المبتل براحته المبلولة: "هذا ليس مطرا يا ميشا. أليس كذلك؟". تنهد ميشا. ونظر كلاهما نحو الخليج. كان قريبا جدا، وأمكنهما رؤية السفن، والأمواج الهائجة والرمادية الداكنة، وذرى الأشجار وهي تنحني تحت ضغط الرياح. طارت صفحات من الصحف والتي كانت مهجورة على المقاعد. هز ميشا رأسه وهو يمسك قبعته بإحكام: "هذا ليس مطرا غزيرا. سنقوم بجولة واحدة فقط. موافق؟". عبرا الشارع، وكانا وحدهما يسيران باتجاه المنتزه. أما معظم الناس فقد أسرعوا بالخروج. وبدأت حبات مطر منتفخة وكبيرة تتكاثر، وتضرب الرصيف الواحدة بعد غيرها مع صوت ارتطام، وحولت البقع الرطبة الصغيرة إلى أشكال ومنمنمات، ثم تحولت إلى برك. توقف الجد مترددا ونظر نحو المقاعد. لم يكن عليها أحد. فقال: "أعتقد من الأفضل يا مايكل أن نتوجه إلى البيت. فقد بدأت تمطر".

وبلغهما الهطل الغزير وهما ينتظران الضوء الأخضر عند إشارة العبور. وبسبب كل نواح الريح وطرقات المطر، لم يسمعا مباشرة نداء أحد الأشخاص عليهما. أو بالأحرى سمعه ميشا، ولكنه لم ينتبه فورا أن النداء باسم جده. "غريغوري ميخائيلوفيتش. غريغوري ميخائيلوفيتش". لم يستعمل أحد كنيته منذ غادر روسيا. ثم جاءت امرأة عجوز صغيرة الحجم بمعطف مطر بني، وتضع كيسا بلاستيكيا على رأسها، وكانت تعدو نحوهما، وهي تتخبط ببوط أسود مقاوم للبلل، وأكبر من مقاس قدمها. جر ميشا كم جده، وجعله يتوقف ويلتفت. قالت بأنفاس مقطوعة وهي تحاول أن تحمي رأس ميشا بالكيس البلاستيكي: "غريغوري ميخائيلوفيتش. تعال إلى بيتي. تعال بسرعة. وإلا أصاب الولد نزلة برد".

كان بيتها في آخر طابق من بناء حجري بني يتكون من ثلاث طوابق وهو على الرصيف المقابل للحديقة. صعدوا على سلالم معتمة، تفوح منها روائح غير سارة. فكر ميشا: "قطط؟". فهو لا يعرف رائحتها. تقدمتهما المرأة على السلالم. وهي منقطعة الأنفاس وقالت بجمل حادة وقصيرة: "ولد مسكين. كيف أمكنك أن تفعل به ذلك يا غريغوري ميخائيلوفيتش. وفي طقس كهذا. كنت هناك على أحد المقاعد. ولكن غادرته. حالما بدأت تمطر. ورأيتك من جهة الشارع الأخرى. وأصابني الهلع على الولد". انقطعت أيضا أنفاس الجد ولذلك لزم الصمت. وفي الداخل أمكن ميشا أن يلاحظ أن الشقة صغيرة جدا وقليلة الإضاءة قبل أن تغطي وجهه وكتفيه وظهره منشفة خشنة كبيرة يفوح منها رائحة صابون غير معهود. وشعر بيدي المرأة الصغيرتين والسريعتين تدلكانه. ودغدغه هذا الإحساس وأوشك أن يعطس. رفض ميشا والجد سروالين جافين ولكن قبلا جوارب جافة ووضعا الصحف في داخل حذائيهما وتركا الحذائين في الحمام ليجفا. وحينها قالت المرأة: "اسمي إلينا بافلوفنا. زميلة جدك في أيام المدرسة. كنا معا". شربا الشوكولا الساخنة في مطبخ صغير عند طاولة مستديرة بساق واحدة. حضر الجد وإلينا بافلوفنا الشوكولا الساخنة معا. سكب الجد الماء الحار من الإبريق، بعد أن قبض عليه من يده الخشبية بكلتا يديه، وأضافت أيلينا بافلوفنا المزيج في ثلاث أكواب صفراء وقربتها من الإبريق. وتبادلا عبارة "شكرا"، "من فضلك"، "اسمح أو اسمحي لي"، وابتسما العديد من المرات. وبدا كلامهما مثل تمثيلية مقتبسة من شيخوف كانت أمه تحب مشاهدتها في روسيا ولكن شعر ميشا أن جده وإيلينا بافلوفنا لا يمثلان. سألت إيلينا بافلوفنا "ما اسمك؟".

قال ميشا: "مايكل".

"مايكل؟ ولكنك لا تبدو كأنك مايكل. ميشا يناسبك أكثر. هل يمكنني مناداتك ميشا؟".

وافق ميشا بحركة من رأسه، وهو ينفخ بسعادة على شرابه الساخن (بالعادة في البيت تضيف أمه الحليب البارد لكوبه)، وقضم من كوكي محشو بمربى التوت اللذيذ. قالت إلينا بافلوفنا: "اشتريتها جاهزة. أنا لا أخبز. لماذا أتعب نفسي الأشياء اللذيذة تباع في المخابز وهي على أنواع؟ صحيح؟ ولكن ليس هذا السبب فقط. أنا طاهية سيئة جدا". ورأى ميشا أنها لا تخجل مما اعترفت به. كانت شقتها أصغر من شقتهم. غرفة ومطبخ. ومؤثثة مثلهم: كنبة من الخشب البني الصلب مشتراة من متجر مفروشات روسي رخيص، وطاولة قهوة مع خدوش وخزانة بأدراج وجدتها في النفايات، ومصابيح ثقيلة مشتراة من سوق موسمي للأشياء المستعملة. ومجموعة شاي روسية رقيقة وكتب في خزانة سوداء بأبواب زجاجية. قرأ ميشا العناوين - التي تطابقت مع ما لديهم - شيخوف، بوشكين، روايات تاريخية بأغلفة سوداء كئيبة، موباسان وفلوبير مترجمة إلى الروسية، قواميس لسان روسي - إنكليزي و إنكليزي - روسي، وسميكة. بعض العناوين مغطاة بصورتين كبيرتين. إحداهما لبنتين بملامح جادة وشعر أجعد، وكلتاهما أكبر من ميشا. قالت إلينا بافلوفنا وهي تتنهد: "حفيدتاي. تعيشان في كاليفورنيا مع ابني". الصورة الثانية بالأبيض والأسود ولشاب مبتسم يرتدي البذة. فكر ميشا: ابنها، ولكن قالت إيلينا بافلوفنا أنه زوجها. لاحظ أن لإيلينا بافلوفنا في مؤخرة رأسها شعر مجدول وأبيض ورقيق. لم يشاهد ميشا من قبل امرأة مسنة بشعر مجدول. والشعر الذي يخرج من الجديلة يحيط وجهها بتاج من الجدائل البيضاء الرمادية المنفوشة. ولها جلد جاف وناعم بتجاعيد صغيرة وقليلة تبدو كأنها مرسومة على وجهها بالقلم. ولها عينان صغيرتان وسوداوان. غطاهما الضباب حينما قرأت لهما رسالة أختها من ليننغراد. وقد ورد فيها: "كل شيء كما هو، نهر النيفا، الضفاف، قصر الشتاء، أنت وحدك يا لينوشكا التي اختفت". ربت الجد على يدها، التي برزت من كم أزرق باهت، وهي تقرأ ذلك. وكانت ترتدي ثوبا صوفيا أزرق بقبة عالية تغطي رقبتها، ومعه قلادة عنبرية. سألت وهي تفك قفله: "هل تريد أن تنظر إلى قلادتي. تقول والدتي إن في داخله ذبابة". أمسك ميشا بيديه قطعة العنبر الكبيرة وغير المصقولة. بارد وناعم من أعلى، خشن من الحواف. وفي داخله شيء أسود غريب له تفرعات رقيقة تبدو قليلا مثل قوائم حشرة. قالت إلينا بافلوفنا: "لست متأكدة وربما هو مجرد صدع. هل تعرف يا ميشا ما هو العنبر؟".

قال بحماس وهو يقلب العنبر بين يديه: "نعم. هو قطران الشجرة المتصلب، ويمكن للحشرات أن تعلق فيه حينما يكون طريا ولزجا. نعم، أعتقد أنها حشرة. ولكنها مشوهة". أبعد ميشا عينيه عن القلادة واحمر وجهه، فقد شاهد إلينا بافلوفنا وجده يتابعانه ببالغ السعادة لكلامه.

في الخارج كان كل شيء رطبا وناصعا بسبب المطر. وهبطت على رأسيهما من الأشجار قطرات مطر غزيرة كلما مرا من تحتها. أسرعا بالمشي، متقاربين، وحذاءاهما المبلولان يصران على الإسفلت الرطب الأسود. فقد غادرا من شقة إلينا بافلوفنا بمجرد توقف المطر. كان الحذاءان رطبين، ولكنهما أخرجا الصحيفة المنقوعة بالماء منهما وارتدياهما. ولم تحتج إلينا بافلوفنا، ولم تقل أنه عليهما الانتظار، وأن ميشا قد يصاب بالبرد من ارتداء حذائه الرطب. على عتبة السلم تناولت يد ميشا بيدها الجافة والصغيرة وقالت: "تعال يا ميشا مرة ثانية". ولكن كان لديه شك أنه سيراها بعد الآن. وكان لديه يقين أنه لا يجب أن يذكرها في البيت. وربما يتوجب عليهما الادعاء أنهما انتظرا توقف المطر في مدخل بناء أو في بقالية. وستبقى إيلينا بافلوفنا، المرأة ذات الجدائل الرمادية والعقد العنبري، سره وسر جده. ولسبب ما شعر ميشا بالدافع ليمسك يد جده، ولكن خطر له أن أولادا بعمر تسع سنوات لا يمشون وهم يمسكون بأيادي أجدادهم. وعوضا عن ذلك حدثه عن تكون العنبر، والبراكين، والحرباء، والديناصورات التي تبتلع الصخور الضخمة لتطحن بها طعامها، وعن التماسيح التي تصنع صنيعها أيضا. وتكلم دون أن يلتقط أنفاسه، وبلا توقف، وبتدفق، وهو يضحك من الإثارة، ويقاطع حكاية ليدخل بما بعدها. نظر إلى جده، الذي ركز عينيه على ميشا، وكان يومئ برأسه باستعجاب، ويتمتم من وقت إلى آخر قائلا: "تصور". أو "تصور كيف تتصرف الكائنات الحية لتعيش". وكلما أضاف ميشا المزيد من رواياته كلما ذكر كلمة "تصور". وعلى مقربة من بناء المسكن توقف الجد فجأة، وقاطع حكاية له عن تنين كومودو قائلا بصوت منقطع الأنفاس: "ميشا. هل تعلم أن دروسي لن تنتهي في 15 حزيران. أقصد هذه هي الخطة، ولكنني سأنضم لمقرر آخر، ثم آخر. يوجد الكثير من برامج اللغة الإنكليزية في بروكلين وبالمجان يا ميشا. لا تستطيع أن تقدر كم هي كثيرة".

سقطت من شجرة قطرة مطر كبيرة على رأس الجد. وسالت على جبينه. وتمهلت فوق أنفه، وتعلقت بأرنبة الأنف. وهنا ارتجف الجد وهز رأسه مثل الحصان. فضحك ميشا.

 ***

...............................

* الترجمة عن Open City

* لارا فابنيار Lara Vapnyar روائية وقاصة روسية معاصرة. تقيم في الولايات المتحدة. من أعمالها: مذكرات ملهمة 2006، عطر الصنوبريات 2014، لا نزال هنا 2016، بروكولي وقصص غيرها 2008.....

 

من شعر بيورنر تورسون

اختيار وترجمة: عبد الستار نورعلي

***

أن تكونَ ـ مثلُ كل الأشياء

اختفاء

جريمة، اضطراب، خسارة،

شلل،

كل شيء يحترق، النار هاطلة مثل زخات المطر.

*

النظرة طليقة

أحدهم يغني     لكنَّ الصوت يتلاشى في الهواء.

*

الريح تبعد ألسنة اللهب.

وهناك ينهض أحدهم عن سريره.

*

أن تكون هو مثل أنْ يكون كلُّ شيء.

كنْ ـ ثم اعتكفْ، في مواجهة نفسك:

*

لقد مرّت بخاطري فكرة أن أقتحم بيتي الخاص

حينها اصطدمتُ في الظلام بحافة الباب.

أقف صامتاً في كورس صاخب.

**

" الذئب هناك "

في مكان ما من هذا الحقل اختبأ

خنزير صغير

الآن يتعلق الأمر بالعثور عليه فحسب ...

*

"هناك"

هناك يتدحرج عجوزان.

*

"هناك بعيداً"

**

يلوح للناظر:

...........

سيقان  الأشجار النحيفة

انفكّت عن تيجانها الغامقة

وبحذر هبطت على الأرض

**

الآن هي بعيدة .

"بعيداً"

الآن يظنُ المرءُ أنه يلمح

شيئاً يختفي

*

قطعة قماش تسقط خلال ريح الغسيل

أم أنها تساق مع الجِمال، شراعاً

باتجاه فردوس أسود، خلف الأفق

*

يغمض المرء عينيه

من خلال نافذة الباص يرى صحراء الملح

تختفي

في كل ناحية

*

على الحافة

أبحثُ عن شيء

من السخفِ الاستماعُ اليه

*

مثلما حين يلج المرءُ الصحراءَ ـ وفجأة يطرق سمعه

كأنّ أحدهم يقلب ورقة في كتاب

*

أو يجلس لتناول الغداء في مقهى تعجُّ بالفوضى

وأحدهم غارق في النوم في أُذنِ شخص آخر

*

هناك أصوات جانبية تائهة تتأرجح

لا أحد يلتفت اليها

*

الآن أسمعها في الذاكرة

*

في أصفهان

أنا أشبه هذا الذي أتعثر فوقه

بين التجار الذين انحدروا، الرُزم

والجِمال تحت المعاطف، القبعات، الصناعات الحجرية

*

العلبُ الكارتونية يجب أت تُحزمَ من جديد

كي لا تسقط من ثقل وزنها

*

في الظلام الدامس أراحوا رِكابهم

آلاف النجوم قد أمطرت فوق طريقهم

*

يدٌ صغيرة بأجنحةٍ هي أول ما تقع عليه العين

ثم أغمضتُ عينيَ من كثافة الضياء

الذي يمسك الصخور في مكانها، بقمة رأس القبة

مثل كتلة جليد تحوم في بيت من الثلج

في فيلم عن ابن البرودة نانوك

*

إنها لا تتحرك حول مركز ثقلها

ـ مكعب الضوء الشفاف

بل فوق خيط، بين العين والعالم

***

.....................

* اختيار وترجمة وهامش: عبد الستار نورعلي

*من مجموعته الشعرية "في ظلّ أرنب بري I skuggan av en hare " الصادرة عام 2001

* بيورنر تورسونBjörner Torsson  1937-2020: شاعر سويدي كان مهندسًا معماريًّا، عمل أستاذًا في الكلية التكنولوجية بالعاصمة استوكهولم. يرسم في  شعره ظلالًا من الحزن والسوداوية، تلفان الحياة الإنسانية، وإن كانت لغته - بتأثير من تخصصه المهني - تدور في لعبة فنية تعبيرية تفاصيلية، لما يدور في النفس من أحاسيس تفتح نوافذ العتمة الداخلية.

بقلم: إيف بونفوا

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أولا: صخرة

كان يرغب

و لكن دون أن يعي

ذلك

لقد غادر الحياة

دون أن يحيا

كانت الأشجار والأدخنة

و أمواج الرياح

و خيبات الأمل

عالمه اللامتناهي

الذي لم يقبض منه

سوى منيته

***

ثانيا: نفس الصوت، دائما

أنا كالرغيف

الذي تقضمه أنت

كالنار التي تسعرها

كالنقاخ الذي يصاحبك

إلى بلاد الموتى

أنا كالجفالة

التي جعلت الضياء

تبلغ المرفأ

هذي الساعة

كطائر مسائي

يلتقط جفال السواحل

أنا كالريح المسائية

التي تجفل

و تبرد على حين غرة

***

ثالثا: طير الخرب

ينأى طير الخرب

عن منيته

فيوكر في البهم

السمر

قبالة الشمس

قاطعا كل الآمه

تاركا كل ذكرياته

إنه ما عاد يعرف موقع

الغد

من الأزل

***

....................

- إيف بونفوا  (1923 – 2016). شاعر وناقد فني ومترجم وفيلسوف فرنسي كبير. ترجم أعمال شكسبير الشعرية – المسرحية وقصائد وليام بتلر ييتس وجون دون وبطرارك وجورج سيفريس إلى الفرنسية. عمل أستاذا في إحدى الجامعات الفرنسية منذ عام 1981 وفي جامعات سويسرية وأمريكية. من دواوينه الشعرية: دوف حركة وثباتا 1953، قصائد، ضد أفلاطون، اللامحتمل، البساطة الثانية، الغيمة الحمراء، وفي خديعة العتبة. منح عدة جوائز، منها: جائزة غونكور في الشعر 1987، جائزة النقاد 1971، وجائزة الاكليل الذهبي 1999. ترجمت أعماله إلى عدة لغات ومنها العربية، وقد ترجم له أدونيس (الأعمال الكاملة) وترجم له محمد بن صالح أيضا إضمامة كبيرة من القصائد صدرت تحت عنوان (الصوت والحجر). مترجمة عن الكردية.

هنري . دابليو لونجفيلو

ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

***

رميت بسهم في الفضاء

سقط على الأرض لست أدري أين؛

إذ كان يطير بسرعة فائقة، لا يقدر البصر

فيها أن يلاحق طيرانه .

شدوت بأغنية في الفضاء

فسقطت على الأرض، لست أدري أين؛

إذ من له بصر حادّ وقويّ

حتى يلاحق طيران أغنية؟

بعد فترة طويلة، وعلى شجرة بلوط

عثرت على السهم ما يزال سليما؛

والأغنية، من أولها إلى آخرها،

وجدتها في قلب صديق.

***

.....................

Poèmes que tout enfant devrait connaître

La Flèche et la Chanson

J’ai tiré une flèche dans les airs,

Elle est tombée à terre, je ne sais où ;

Car elle volait si vite, que la vue

Ne pouvait suivre son vol.

J’ai soufflé une chanson dans les airs,

Elle est tombée à terre, je ne sais où ;

Car qui a la vue assez perçante et forte

Pour suivre le vol d’une chanson ?

Longtemps après, dans un chêne,

J’ai retrouvé la flèche, encore intacte ;

Et la chanson, du début à la fin,

Je l’ai retrouvée dans le cœur d’un ami

HENRY W. LONGFELLOW

***

...................

هنري. دابليو لونجفيلو (شاعر أمريكي 1807-   1882).

مجموعة شعراء

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) – يوشينو يوشيكو / اليابان

القمر في كبد السماء

القمر في بحيرة فوهة البركان

يضيء الواحد للآخر

***

(2) – بادري ستافري شيبي / ألبانيا

تتنازع الغمام

في كبد السماء –

يترقب التنوب هدير الرعد*

***

(3) – مارسيل بلتيير / بلجيكا

الأطيار

في كبد السماء –

غير معروفة

***

(4) – ستانكا بونيفا / بلغاريا

قمر بنصف إضاءة في كبد السماء

أختلق القصص

عن النصف الآخر

***

(5) – دجوردجا فوكيليتش روزيتش / كرواتيا

الغسق

رمشة عين رمادية

في كبد السماء

***

(6) – بادماسيري جاياثيلاكا / سريلانكا

رذاذ –

هجيج نار المخيم، وأجيجها

النجوم في كبد السماء

***

(7) – ألبرت أكسل / هولندا

جسم غريب -

طائرة ورقية هائمة

في كبد السماء

***

.....................

* التنوب، الشوح: شجرة من الصنوبريات، يستخلص منها الزيت العطري. منها أنواع (النوميدي، الإسباني، السوري).

- مترجمة عن الإنكليزية.

بقلم: براين بيلستن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

اضف الى السلة

تصفح البيض. انقر على بيضة.

اضف الى السلة

*

اشتر بيضة واحدة تحصل على بيضة واحدة مجانا.

اضف الى السلة.

*

اشتر خمس بيضات أخرى تتأهل لتوصيل مجاني.

اضف الى السلة.

*

بيضات أخرى نوصي بها بناء على تاريخ تصفحك...

اضف الى السلة.

*

الزبائن الذين اشتروا هذه البيضة اشتروا هذه البيضات ايضا...

اضف الى السلة.

*

اليك بضع بيضات اخرى قد تود معاينتها...

اضف الى السلة.

*

اية بيضات اخرى يشتريها الزبائن بعد مشاهدة هذه البيضة؟

اضف الى السلة.

*

تجنب وضع جميع بيضاتك في سلة واحدة مع صنفنا الجديد من السلال...

اضف الى السلة.

*

تصفح سلال. انقر على سلة.

اضف الى السلة.

*

اشتر سلة واحدة تحصل على سلة واحدة مجانا.

اضف الى السلة...

***

.....................

براين بيلستن: شاعر وكاتب بريطاني من مواليد برمنغهام لعام 1970 واسمه الحقيقي بول ميليتشيب. تلقى تعليمه في جامعة ويلز وبدأ نشر قصائده على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما وعرف بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر). ظهرت له المجموعات الشعرية الآتية: (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) 2016؛ (يا أليكسا، ماذا هنالك لنتعلمه حول الحب؟) 2021؛ (50 طريقة لتسجيل هدف) 2021؛ (أيام كهذه: دليل بديل عن العام في 366 قصيدة) 2022؛ و(واذاُ فهذا هو عيد الميلاد) 2023، كما نشر رواية بعنوان (يوميات احدهم) في عام 2019. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي.

قصة: يكيكو توميناجا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

أبي موظف في البلدية، يدير نظام الصرف الصحي بأكمله في طوكيو. من وجهة نظر أمي، وهو أسعد رجل عرفته في حياتها. في بعض الأحيان، عندما يكون ثملاً لكن ليس بما يكفي ليفقد وعيه، كان يكتب في الهواء وكأنه يبحث عن دفتر ملاحظات وقلم. كنا ننتفض من الفرح لأن هذا كان يعني أنه سيبدأ في الرسم. كان أخي الأصغر وأنا في ذلك الوقت في الثالثة والسادسة من العمر. على الترتيب.

" ماذا تريدان؟" كان يسألنا، فأقول "كوالا!" أما أخي فيقول "لا، روبوت!" ثم كان يرسم كوالا روبوت على مبنى كان يبدو كالشجرة. بعد ذلك، كان يطلب مزيدًا من الورق لكنه يتوقف عن سؤالك عن ما تريد. كان يرسم حيوانًا تلو الآخر بينما كانت والدتي تجلس بجانبه، تمزق البريد غير المرغوب فيه إلى أرباع باستخدام مسطرة لتصنع منه دفاتر ملاحظات. زرافة على ترامبولين جاكوار تلقف ثلاث كرات سوداء.  ثلاثة قرود حكيمة تشرب الجعة في حوض استحمام ساخن يقدمها لهم كلاب كان من المفترض أن تحرس المعبد. ثعابين تتنكر كالتنانين، قائلة: "ليس من السهل التظاهر بالقوة." بحلول الوقت الذي نفد فيه الورق، كانت لدينا مجموعة من رسومات الحيوانات. كان أخي وأنا نختلق قصصًا تتناسب مع كل رسم بينما كان والدي يبتسم، يظهر أسنانه المعوجة، يشعل سيجارة، ويشرب المزيد من الساكي.

قالت والدتي بينما كانت تجلب له زجاجة أخرى من الساكي الساخن.  "

- لا يوجد شيء لا يستطيع أن يرسمه.

أتذكر الضوء البرتقالي المترب في أعلى غرفة المعيشة، والهواء المدخن، ووالدتي التي كانت تحدق في والدي بعينيها الذائبتين.

"هذا كل شيء لليوم"

كان يقول ذلك وهو يجمع رسوماته قبل أن يأخذها إلى سلة المهملات. وهكذا نذهب إلى الفراش.

عندما قلت أبي أن البخار المتصاعد من فنجان القهوة يشبه راقصة باليه، قال لي: "اكتبي قصيدة."

لم يكن لدينا لوحات فنية في منزلنا. كان منزلنا صغيرًا جدًا بحيث لا يسع أن يُملأ بالكماليات. كانت اللوحة الوحيدة في الردهة موجودة دائمًا هناك، لكنني لم ألاحظها حتى وصلت إلى المدرسة الإعدادية. قالت والدتي.

"أبوك رسمها. كان يرسم كثيرًا في الماضي"

قرية أمام جبل، تدرجات مختلفة من اللون الأخضر، المنازل الحمراء، ونهر- مناظر طبيعية نموذجية من شمال اليابان- مثل لوحة قد تراها في حمام مطعم قديم. لم أستطع أن أقول إنها جميلة أو لا تُنسى.

في ذلك الوقت، كنت غير متأكدة ما إذا كنت يجب أن أصبح عاملة في محطة للطاقة النووية، أو مدربة كلاب إرشاد، أو أن أتوقف عن الحياة ببساطة.  سألت أمي.

" أين لوحاته الأخرى؟"

"اختفت. كانت تشغل مساحة كبيرة. تخلصنا منها."

اكتشفت مرتين دفتري مذكرات والدي القديمة. مرة، عندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري، وجدت دفتر والدتي الذي يحتوي على قائمة موجهة إلينا: مكان إخفاء رمز الخزنة، رقم هاتف شركة التأمين على الحياة، وعنوان المنشأة الطبية التي ستتبرع بجسدها لها.. أما المرة الثانية فكانت بعد المدرسة الثانوية. في الحمام، كان هناك دفتر صغير أزرق ملقى على الأرض. إذا كان هناك ثقب في الحائط، كنت ستنظر من خلاله. إذا كان هناك دفتر بدون عنوان، كنت ستفتحينه. فالتقطته وفتحته كما تمليه عليَّ غرائزي. وفتحته كما أمرتني غريزتي. في اليوميات، كتب أبي: اليوم الأول: فشلت في اجتياز امتحان الجامعة لسنتين على التوالي. الجو بارد في الخارج. أنا مقدر لي أن أتجول وأرسم، على هذا الجبل. لا وظيفة، لا مال، لا حب، فقط أنا وقلمي الرصاص.

كان أبي في العشرين من عمره، وحيدًا على جبل بارد في الشتاء.  أغلقت الدفتر وجلست على مقعد المرحاض. لماذا هو هنا؟ فكرت في فتحه مرة أخرى للتأكد مما قرأته، أنه لم يولد ليكون عامل صرف صحي، لكنني لم أتمكن من مواجهة تلك الحقيقة، لذا دفعت الدفتر إلى جانب المقعد بأصابع قدمي، وأخذت فى العد حتى وصلت الى الرقم ثلاثمئة ثم أفرغت المرحاض.

في غرفة المعيشة، كان والدي يحمل صحيفة بيد ويشد شعيرات أنفه باليد الأخرى.

عوقبت بالإيقاف عن الدراسة لمدة أسبوع من المدرسة الثانوية، قبل عشرة أيام من تخرجي. لم أفعل شيئًا خاطئًا سوى أنني ذهبت للحصول على رخصة القيادة دون إذنهم. اكتشفت معلمتي ذلك لأنني اتصلت بها عن طريق الخطأ ظنًا مني أنني كنت أتصل بمعلمة البيانو، وتركت رسالة تفيد بأنني يجب أن أغيب عن درس للحصول على رخصة القيادة. لم يكن لدينا المزيد من الدروس وكان لدينا يوم واحد فقط للتدريب على حفل التخرج؛ ومع ذلك، قامت معلمتي بإيقافي وأعطتني مهمة كتابة مقال من خمس صفحات أعبّر فيه عن أسفي. كنت دائمًا طالبة مجتهدة، نموذجًا يُحتذى به، وحبيبة المعلمين، ولكن في النهاية تحولت إلى طالبة سيئة. في تلك الليلة، بينما كنت أحدق في رسائلي المبللة بالدموع على الورق، معتقدة أنه لن يكون هناك مستقبل أمامي، جلس والدي مقابلا لي وشرب الساكي كما هو معتاد. سحب ورقة من بين يدي ورسم قردًا يابانيًا، القرد الكلاسيكي الذي يعبر عن الندم، وجهه متجه نحو الأسفل، يداه على ركبتيه، وكتفاه منحنيتان كأنها تحت وزن كيس كبير من الأرز.

"مفتاح البقاء في هذا العالم هو التظاهر بأنك مثل هذا القرد"

قال والدي هذا وأومأ بثقة. شرب كوب الساكي في رشفة واحدة وكتب لي المقال.

"لا تأخذي هذا بجدية. تم تعليقك قبل التخرج! هذه هي ابنتي! انسخي مقالتي وسلميها لمدرستك، ستنبهر.

لم أخبر والدي عندما اكتشفت أنني حامل وقررت الزواج من ليفي، شاب لم يلتق به من قبل، في البلد الذي لم يكن قد زاره. أخبرت والدتي بأن تخبر والدي وتعيد لي رد فعله. بعد أسبوعين، وصلتني رسالة من المنزل.

"لا يهمني إذا كان يهوديًا أو مسلمًا. لا يهمني إذا كان رئيس الولايات المتحدة أو عامل بناء. طالما أنه يعمل ويدعمك ويدعم طفلك وأنتِ سعيدة، فإنني سعيد من أجلك.

والدك"

في أسفل الرسالة، كانت هناك صورة لطفل نائم بين ذراعي أمه. للمرة الأولى، رسم أبي وجهي.

أنا على متن القطار السريع من مدينة صديقتي إلى مدينتي. في يدي اليمنى، أمسك بكرة أرز دافئة وفي يدي اليسرى ورقتين من فئة عشرة آلاف ين، أعطتني إياهما صديقتي. أنا وابني نزور اليابان لأول مرة منذ ولادته. لكنني كنت بعيدة عن منزل والديّ عندما اتصلت حماتي بأمي من أمريكا لتخبرني عن حادثة ليفي.

وفقًا لوالدتي، فإن والدي هو أسعد رجل عرفته في حياتها. في السنوات الست والثلاثين الماضية، حل جميع مشاكل نظام الصرف الصحي في طوكيو، وغالبًا ما كان يعاني من صداع الكحول. عمله لم يسبب له قرحات في المعدة أو سرطان أو حصوات في الكلى. كان العمل سهلاً مثل تمشيط رأسه الأصلع، كما أخبر والدتي.

يتوقف القطار وأسمع المُنادي يعلن اسم بلدتي.

يتوقف القطار وأسمع المذيع يعلن اسم مدينتي. سيكون والداي وابني في انتظاري عند البوابة. عند بوابة المدخل. عندما أضع قدمي على السلالم المتحركة، أتخيل وجه والدي عندما يجدني وسط الحشد. سأجد شقًا في الأرض لأتعثّر عليه، أمامه مباشرة، لأجعله يضحك، لأجعله ينسى سبب وجوده هناك، ولأجعله يمد يده نحوي دون أن نضطر للنظر في عيون بعضنا البعض.

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: وُلدت يوكيكو توميناجا / YUKIKO TOMINAGA ونشأت في اليابان. وصلت إلى نهائيات جائزة فلانري أوكونور للقصص القصيرة لعام ٢٠٢٠، التي اختارتها روكسان غاي. رُشِّحت أعمالها لجائزة بوشكارت، ونُشرت في مجلتي شيكاغو كوارترلي ريفيو وبيلينجهام ريفيو، ومنشورات أخرى. تعمل أيضًا في دار نشر كاونتربوينت، حيث تُساهم في تعريف القراء الناطقين باللغة الإنجليزية بكتب يابانية لم تُترجم من قبل.

الصفحة 1 من 8

في نصوص اليوم