ترجمات أدبية

والبحر لا يمتلئ

صالح الرزوققصة:  إدنا شميش

ترجمة: صالح الرزوق

***

1-

الطريق هابط باتجاه البحر، كما لو أن العالم حوض شاسع، وكل ما فيه يقود ويستمر وينزلق ويعوم نحو الأسفل. كنت بطريقي لزيارة أمي. وأمتطي دراجتي الهوائية الخضراء القديمة، وأحركها بقدمي بسعادة، كانت أجزاؤها جاهزة، ويداي تقبضان بقوة على المقود الصدئ.

وكان هواء المساء مبتلا ولكن نسمات لطيفة لعبت بشعري ردته للخلف بعكس اتجاه وجهي. وكلما تبرعمت قطرات عرق صغيرة على شفتي كنت أمسحها بلساني، وأتذوق ملوحتها. أسرعت من أمام لافتة مضاءة يعبس فيها وجه ميل غيبسون بابتسامة كنت أعتبر أنها مثيرة. ولكنها الآن باردة. حينما شاهدت فيلم "السلاح الفتاك – ليثال ويبون" لأول مرة ضحكت ضحكة صاخبة على مارتن ريغز الجالس مع روجير مورتو في قارب لماع يقف فوق سهل معشب. فقد ذكرني بالمحيط البيضاوي الذي وضعني فيه والدي مع إيرن، حينما كما طفلين. في أيام الصيف المشمسة، كان الوالد يقف خارج النافذة، ويضغط أنفه على الواقي المعدني ويصيح:"من يريد أن يكون أرخميدس هذا اليوم؟".

صحنا كلانا" أنا! أنا". وتخلينا عن ثيابنا وأسرعنا مندفعين إلى الخارج بثيابنا الداخلية البيض وبشرتنا البرونزية واتجهنا إلى المحيط المثير، محيط والدنا. كان الحوض ممتلئا بالماء المنعش حتى الحافة، ماء بارد أول الأمر، جاء من خرطوم في الحديقة. وأعلن الوالد قائلا:"اليوم سنكون أرخميدس". وانحنى وأشار إلى البحر البيضاوي وأضاف:"هيا، أرياني كم سترشان من الماء اليوم". تبعني إيرن إلى الأعماق وكان العشب الأخضر الغزير يحيط بنا وقد أغرقته أمواج المياه لتثبت الحقيقة غير القابلة للنفي التي عبر عنها قانون أرخميدس والذي شرحه لنا الوالد بصبر. قدم لنا العمود الطويل، وأمسكناه من طرفه وكان يغطيه فطر أخضر واستخدمناه بدل السارية، ربطنا به مربعا من القماش الأبيض، ومن دواعي تشاؤمنا أنه كان مزقة من ثوب قديم خصصته الوالدة للاستجمام. وحينما انتهى كل شيء قبض على الحبل الغليظ المربوط بمقبض الحوض، وصاح:"إيرن، أنت اليوم ماجلان!. وسنبحر إلى تييرا ديل فويجو!". في مناسبة أخرى كنت أنا كريستوف كولومبوس. وأبحرنا بلا وجل غربا لاكتشاف الهند، وكالعادة، حينما حان دوري لأكون كولومبوس سأل الوالد:"حسنا أيها الوجه الصبوح، ما هي أسماء مراكبك الثلاث؟". وبسرعة أمسكت طرف الحوض كي لا ينقلب على قفاه، فقد كان الوالد يجري بسرعة على الأعشاب حول البيت، والحوض مائل، والمياه تسيل، وأنا أرد عليه بصوتي العالي:"نينا، وبنتا، وفانتا ماريا". وانخرطنا نحن الثلاثة بضحكة عالية لأن هذا ما خطر بذهني من أيام الطفولة ولم أكن أعلم أن اسم المراكب "سانتا ماريا". ارتحلنا مع الوالد لعدة بلدان بعيدة. سافرنا إلى السويد لنشاهد فازا (المركبة) التي غرقت على شاطى استوكهولم القديم مع كل طاقمها وسلاحها كما لو أنها في رحلة خاصة. وسافرنا من مرفأ إلى آخر على متن سفينة الحب الرائعة وتوقفنا لنتجول في بويرتو فالارتا، ومرة وصلنا إلى بولينيسيا وهناك توقفنا في جندول مزدوج ولم نغادر. وفي يوم حار على غير العادة رشنا الوالد بماء الخرطوم كي لا نجف، لا سمح الله، وأعلن قائلا:"اليوم سنسافر من عسقلان إلى أركينون وبياريتز، حيث يملك الفرنسيون بيوتا صيفية".

ولكن، أنا الذي درس الجغرافيا في المدارس، قلت وتعبير بريء على وجهي: "هذا غير ممكن يا والدي. فهي على شواطئ الأطلنطي". وأصابت الدهشة الوالد وسرعان ما استرد جأشه وقال:"حسنا. سنعود للعصور القديمة، فهي دائما فاتنة. ما رأيك. دعنا ننضم لأوديسيوس، ملك إيثاكا برحلة عودته للوطن من حرب طروادة؟".

ورسم وجهي تعابير اللامبالاة لأنني لا أحب الحروب. واقترحت ركوب جندول أسود في قناة من قنوات البندقية. "إذا وافق إيرن طبعا". قلت. أعتقد أن هذا حصل في السنة التي كان فيها الحوض البيضاوي صغيرا جدا ولا يتسع لكلينا وتوجب على الوالد أن يبحر بي أولا ثم يبحر بأخي. لم أكن أخاف السفر وحيدا إلى رأس العواصف. وحينما كنا ندور حول القارة قررنا بالإجماع إعادة تسميتها لتصبح رأس الرجاء الصالح.

ولكن نفد صبر إيرن حتى قبل أن نعود للشاطئ ويضع قدميه على اليابسة. وقال:"يكفي يا أبي. حان دوري. أريد أن نبحر إلى غالاباغوز، ألى الأغوانا".

وتعرفنا على عدة مواضع غريبة ورحلات بحرية تاريخية وذلك خلال لهونا المسلي مع الوالد ونحن على الأعشاب. ومرة سأل إيرن بنبرة من التحدي وبحركة من فكيه:"وكم تبلغ مسافة رحلاتك يا والدي؟". غرق الوالد بالتفكير، وخمد الماء في الحوض، وحك رأسه كأنه يحاول أن يتذكر وقال:"أخ، اشتركت برحلة طويلة إلى موثوسين، ثم تابعنا على الأقدام من بيرغين - بيلسين، قبل زيارة أوشفيتز. وهذا من فترة بعيدة جدا ولا أتذكرها حقا، ولكن أستطيع أن أقول ألقيت نفسي في عين العاصفة حتى قبل أن أرى البحر المفتوح..".

لزمنا أنا وإيرن جانب الصمت واختفى حبورنا. كنا نعرف هذه الأسماء، أوشفيتز، بيرغين - بيلسين، موثوسين، وأسماء غيرها لأماكن مشابهة كانت الوالدة تهمس بها لخالتنا ليلي، فيما إحداهما تبكي بصمت، والثانية تخمد عقب سيجارة صغيرة في صحن رماد زجاجي، وفي حضنها منديل أبيض تعبث به.

لاحظ الوالد أننا همدنا وبسرعة تحرك ليساعدنا للعودة للنشاط. جر الحبل بقوة وكدنا أن نسقط من القارب وهو يقودنا إلى جبل أرارات لتحديد مكان سفينة نوح المفقودة. ثم تحول إيرن إلى عملاق. كبرت يداه، قدماه، رقبته، وأصبحت ثيابه وحذاؤه أصغر من أن تستوعبه، وتبدل صوته وطلب أن نقربه من الشرفة، على الأقل كانت له غرفة خاصة، وأنا غير موجود فيها. وكنت أتحرك مثله. كأننا توأمان، واكتشفت أن أوسنات تستعمل الفوطة، وتساءلت متى سيحين دوري. في نفس الوقت، كنت أرتدي حمالة أثداء واسعة وأضع أحمر شفاه الوالدة كلما غادرت البيت.

في أحد الأيام، تقريبا بعد تفكير متأن، انتقل الحوض إلى الباحة المفتوحة تحت البيت، وهو مكان بارد وظليل تخيم عليه رائحة قوية حيث تأوي قطط الوالدة هربا من الحر. آخر رحلة لنا في حوض الوالد كانت إلى جزر لوفوتين. هناك يكمن لنا خطر عواصف المحيط القاتل. كانت العاصفة تجمع قواها لمهاجمتنا في نوبة من الموجات المرتفعة المتتالية. وأخبرنا الوالد أن هذا معروف حتى في أعمال جول فيرن. العواصف الغامضة التي تسببت بغرق نوتيلوس - وحينما كنت أستلقي ليلا في سريري ملتفا بملاءة، وأنفي بين صفحات "عشرون ألف فرسخ تحت البحر"، سرني أن أعلم أن الكاتب الفرنسي كان محقا.

ولأننا نجونا من الدوامة انحسرت المياه في الحوض وسمعنا أنا وإيرن والوالد باهتمام لأغنية السيرينات. أغلق الوالد عينيه، وحول أذنيه نحو الريح وبدأ بضرب بإيقاع رتيب على خديه بشيء من البهجة. عصر إيرن قميصه المبتل بقوة، ونظر للوالد وعلى وجهه تعبير غير مفهوم، كأن ما رآه لم يره من قبل، وقال بغضب:"ما هي هذه السيرينات التي تتكلم عنها يا والدي، هذه هي الرياح والصراصير النطاطة فقط". واستدار ليدخل إلى البيت. وهو ينقط من البلل. ثم صاح، بصوت مرتفع:"لماذا لا تكلمني أبدا عن كرة القدم؟".

قاطعت أخي فورا. وناديت عليه وهو يبتعد لأخبره أنه لا يفهم شيئا!. كنت لا أزال أسمع غناءها، أصواتها اللطيفة الناعمة، وكنت أنظر إلى والدي، مع أنني بدأت أتساءل كيف يعرف الكثير عن البحارة الشجعان أمثال جون بول جونز والقبطان كوك، وعن البحار النامية والإرساليات المثيرة في أمكنة تسبب أسماؤها لي البهجة وتملأني برغبة مبهمة للاطلاع على ما حولنا.

لم تسبح والدتي إلدا في المحيط، ولا في البركة، وكان الوالد يجرؤ فقط بحالات قليلة وهو يقود سيارتنا سوستيا إلى بير شيبا أو طبريا، وبحالات نادرة يحمل معه كتابا ويجلس للقراءة من الغلاف للغلاف. فتتنهد الوالدة وتقول:" لم يعد لديه جلد للقراءة. صبره مات". وتشد برغي إطار نظاراتها بمفك البراغي الصغير.

في نهاية ذلك الصيف، قبل أن تهب رياح الخريف وتجلد قمم أشجار الأرز على طول أطراف حديقتنا المتهالكة، وقبل أن تبرز نباتات البحر من الأرض الصلبة وتعذبنا بوجودها، في نهاية ذلك الصيف أسرعت الوالدة إلى البيت وفي عينيها تعبير يدل على الخوف. كانت تعشب الحديقة وشاهدت ثعبانا أرقط يختبئ تحت البيت. خرج الوالد، ونظر من بين أشجار الدفلة وحدق لفترة طويلة في الشق البارد والمظلم بين الأرض والبيت الذي فوقها. وحينما نهض على قدميه وشاهد الوالدة عند الباب وهي توضب ثنيات تنورتها مد ذراعه- وقال:"لا يوجد ثعبان هناك". ولكن حينما قابلت نظرته عينيها المرعوبتين وشاهدها تنكمش إلى الخلف انحنى مجددا مع تنهيدة وبحذر حمل كل النفايات المتراكمة تحت البيت خلال سنوات: أسطوانة من الأسلاك المعدنية لبيت الدجاج ولا نذكر لماذا اشتريناها؛ دراجة إيرن، وقد تخلى عنها بريقها، والمنظار الذي صنعناه من خشب مضاعف وزجاج مرايا، وتقريبا بقطعة واحدة وعلى الأغلب لم نستخدمه لحينه. وحينما جر الحوض الصغير رأيت ببالغ الأسف أن الزمن قشر سطحه وحوله إلى صدأ أحمر بني وحفر فيه الثقوب مثل إحدى مطرزات الوالدة التي تغلف بها الوسائد في كنبات غرفة المعيشة، وكانت منشاة ومتصلبة. مرت الأيام ببطء، ثم أسرعت بخطوها. واستيقظت الرياح من ركودها الصيفي كما لو أن أحدا نبهها. وقطفت الوالدة الرمان من الشجرة واحتفظت بها في طبق صلصال أزرق أبرز ألوانها الوردية المصفرة. معظمها كانت تهاجمه الحشرات، ولكنها تبدو محببة للنظر. أما أغصان الكرمة فكانت مثقلة بوزن عناقيدها الممتلئة. كنت أنا وإيرن نمد أيدينا نحو الكرمة الملتفة ونمسك النموات الحديثة ونجر الثمار الناضجة لنلتهمها بفمينا. وحينما تعود طيور الذعرة وتنقر الأرض يكون الخريف قد وصل والصيف تحول لذاكرة ضعيفة. ويذهب معه أثر رحلاتنا ومغامراتنا داخل الحوض. تصل الغيوم من البحر وتزدحم في زوايا السماء مثل خراف متجمعة. وتجلب الليالي البرد والمطر. وبعد أيام من الهطول الذي يجلد الأرض في كل الأرجاء بقوة غير معهودة يتحول المطر إلى رذاذ هادئ وخفيف. تجولت في الخارج لساعات بمعطف المطر الرمادي، وأنا أرى أحلاما عميقة في المياه الصافية كالمرايا. وعند وصول العاصفة التي تضرب على أغطية النوافذ بتوحش، تقول الوالدة هذه أغنية بجع الشتاء. وأجمل ما في الموضوع في هذا الطقس أن تكون تحت الغطاء وعين العاصفة تزمجر. وقد تعلمنا من الوالدة أن عين العاصفة هو آمن مكان حين تكون في البحر خلال زوبعة قوية، وهذا بعكس الاعتقاد السائد. وحتى الوالد، والسفن يمكن أن يبحروا في عين العاصفة دون خشية. وهكذا، إذا انتهى المطر في ذلك الشتاء بعاصفة، سنكون مطمئنين أننا في حماية عين العاصفة.

في صباح يوم ما سقطت آخر برتقالة من الشجرة استجابة لتعليمات صامتة وبدأت بالتعفن. كان الربيع قصيرا في تلك السنة والصيف حارا جدا ومزعجا. كان إيرن قد انتهى من سنته الثانية عشرة في المدرسة. ويعدو كل أمسية لساعة من الزمن على طول الشاطئ. وأذكر أنه عاد من مقر تدريبات فريق الإنزال البحري مرضوضا ومتعبا، ومغبرا ومريضا، ولكن مع ابتسامة انتصار على شفتيه. وفي النهاية لم تقبله وحدة الإنزال البحري ولم يكن بمقدور أحد أن يخفف عنه، ولا حتى صديقته نتزا. في الخريف كان إيرن قد انضم بالإكراه إلى وحدة أخرى، وانتهى من تدريباته بدرجة ممتاز، وفي النهاية تأقلم مع لون القبعة الأحمر القرمزي وهو لون وحدته، وعاد إلى نتزا، ولكن لقي حتفه في إحدى الليالي بكمين في جنوب لبنان. ولاحقا، هبط الصمت على البيت وساد فيه للأبد. أبحر البحارة والمكتشفون الشجعان الذين اكتشفوا الأرض الجديدة وملأوا أحلام طفولتنا وابتعدوا بسفنهم لما وراء الأفق. وراياتهم تخفق ولم يعودوا. وبقينا مزروعين في الأرض. لملمت الأم آلامها ودفنتها في داخل صدرها وقالت- "لا يزال لدينا طفلة في البيت"- وانغمس الوالد بكبريائه في مياه البحر الباردة- كان يسبح إلى جزيرة صغيرة حتى تخور قواه أو يقوم بنزهات طويلة على الشاطئ، ويخوض في الأمواج بنفس الاتجاه الذي سار عليه إيرن كل ليلة في نهايات أيام الصف الثاني عشر، وهو يخطو بثقة ويبحث عن أثر أقدام ابنه، وظهره مقوس، وقلبه ثابت.

2

وقفت عند ضوء أحمر، مع صوت فرامل مرتفع. مسحت العرق من وجهي وعدلت وضع حامل الحقيبة على الظهر. وشاهدت من بعيد خيال البحر الباهت وهو يندمج بالسماء بمساحة رمادية متصلة وبلا حدود. و يخترقها ضوء أشهب من النجوم ومن مصابيح الشارع على طول منعطف الشارع نحو الجنوب. وعندما تبدل الضوء إلى الأخضر تابعت طريقي نحو المرفأ. كان البحر الغامض يختفي أحيانا وراء بحر واضح بسبب لافتة ضخمة تعلن عن جزيرة يونانية للاستجمام.

في واحدة من الصدف القليلة التي كان فيها لدى الوالد والوالدة ما يكفي من النقود والطاقة للقيام برحلات قصيرة، ذهبنا نحن الأربعة إلى إيلات. كانت الرحلة طويلة وأخاذة.

قال إيرن:"كأننا في إفريقيا". كان مفتونا بأشجار الأكاسيا التي تكافح لتعيش في طقس حار وجاف، وكانت تبدو كأنها تهرب منه بنفس السرعة التي نقترب بها. وأخبرتنا الوالدة أن المؤونة التي أكلها الإسرائيليون في الصحراء لم تسقط من السماء، كما هو مكتوب في التوراة، ويعتقد العلماء أن المادة البيضاء الإنجيلية، هي في الواقع، عصارة حلوة المذاق يفرزها النمل الذي يعيش على أغصان الأكاسيا. وتابعت تشرح لنا معنى التكافل الحيوي، وقلت لها أنا وإيرن فورا:"آه، إفرازات من النمل...". وهنا التفت أخي وأقسم أنه شاهد زوجة لوط. وأنا صحت إنني شاهدت تيسا يقفز على السفوح.

وصلنا إلى إيلات جائعين ومغبرين. كانت مياه البحر الأحمر زرقاء داكنة والشاطئ منحنيا وذهبيا. وبساط من الخيمات القماشية تزهر فوق الرمال. وقبل هبوط الليل أقمنا خيمتنا أيضا من ملاءات رقيقة خفاقة حملتها قبضات المكانس. وقد وقفت سيارتنا السوسيتا بجانبها. وفي النهاية وزعت الوالدة علينا الشطائر المفضلة.

بعد الطعام دخلنا في الماء، باستثناء الوالدة. تراشقنا بالماء وسبحنا وأكدنا أننا شاهدنا سمكة العقرب وسمكة الببغاء وحرصنا أن لا تلدغنا أعشاب البحر الأسود. ولم تفلح محاولاتنا لإقناع الوالدة بالسباحة ورفضت الاقتراب من الماء. أول من يئس هو الوالد، وقال:"اتركوا ماما وحدها". وأشار بيده معلنا أنها حالة ميؤوس منها. ثم بلل شعره الأسود. وقال:"هل نسيتما القطط؟". طبعا لم ننس. لاحظت الوالدة أحد الجيران يغسل ثلاث هريرات في دلو معدني كبير واقتربت لتنظر، وشاهدت الرؤوس والأطراف الصغيرة ترتعش تحت السطح البراق. بما تبقى من قوة حاولت الهريرات الهرب من قبضة الرجل المحدودب بظهره فوق الدلو وهو ينظر من زاوية عينه لابنة الجيزان، أمنا، وقال لها: "أنت تعلمين ماذا تفعل القطط في الحديقة، تعول كل الليل كأنها تتعرض للذبح؟. ثم تلد وتأتي الهريرات بالبراغيث. هذا يتكرر كل عام وأمهم لا تتعلم درسها". لم يفلت أجسامها المخططة حتى همدت وسكنت المياه في الدلو. ومنذئذ انتشرت شهرة الوالدة ووصلت لكل القطط الشاردة في الحي، وأتت إليها بحثا عن ملجأ. وبعد ذلك - كما نفترض- تجنبت الوالدة الماء بقرار لا تراجع عنه. وحينما بنت المدينة بركة للسباحة كانت لا تدخل فيها إلا بمستوى كاحليها، ولم ترفع عينيها المرعوبتين عن إيرن وعني مع أننا نسبح كالدلافين. وحينما وضعنا الوالد في الحوض البيضاوي وتخيله بحرا وتحول إلى قبطان شجاع كانت الوالدة تراقبنا باستمرار وهي جالسة على سلالم مدخل البيت.

بعد مقتل إيرن فقد الوالد إحساسه بالزمن. كان يجلس وحيدا في الحديقة لساعت طويلة على كرسي من الخيزران المتعفن بسبب الزمن والشمس، متكوما في الظل الرقيق لشجرة الليلك الفارسي، وهو يلهو بحبل قديم، كما لو أنه يتفحص الدروس التي علمنا إياها في طفولتنا: أنشوطة الصياد، وأنشوطة اليدين، وأنشوطة الحيد البحري. كانت أصابع الوالد ثخينة وبطيئة. أول مرة علمنا فيها ألعاب الخفة بالأنشوطة قال:"أنت تعرفين كيف تعقدين رباط حذائك، صحيح؟. هذه مثل أنشوطة". وحينما رأيته جالسا بتلك الطريقة في الحديقة المظللة شعرت بالرعب وعصرت قبضة قوية قلبي: كان الوالد يرتجف ويبدو أنه ضائع وبحاجة لمن يدله على وجوده.

أتخيله يميل نحوي ويفسر بصبر أين يجب أن أضع أصابعي وكيف أصنع أنشوطة من الحبل وكيف أسحب وأعقد لتكون العقدة متينة، ولكن لا أتذكر بالضبط ماذا جرى بعد ذلك.

وهكذا تابع الوالد الابتعاد عنا حتى اختفى بصمت من حياتنا، نراه في لحظة، ثم يبدأ الوهم، والشفافية، حتى يبتعد ويختفي- ويهبط إلى منطقة بلا نهاية، حيث الأفق وحفرة الموت، أو نهاية البحر. ولم يعد بمقدورنا رؤيته.

وها أنا أطير على سفوح الهضبة على الدراجة، والريح تعبث بشعري وترميه للخلف، وتبرّد جسمي. انتقلت الوالدة من البيت القديم منذ فترة طويلة. والآن، مع أن هذا يبدو غير معقول، فهي تعيش في البحر. بالحرف الواحد فوق البحر. كان رجل بشعر أبيض يحب والدتي لصمتها وللحزن الذي يحاصر روحها، وأتى بها إلى بيته. كان هو الاستقرار الذي تبحث عنه الوالدة دائما والشاطئ الآمن الذي وصلت له، ووجدت نفسها تعيش على قاربه الصغير المتأرجح الذي يرسو على مرفأ يافا. في صباح أحد الأيام تنهدت الوالدة وقالت لي:"بيتنا كبير وفارغ، ويشبه المتحف. إيرن رحل نهائيا. والوالد كذلك. وأنت لك حياتك الخاصة، ولا أريد أن أعيش هنا بعد الآن. البيت الآن لك وحدك. بكل محتوياته. وبكل ما فقده على مر الأيام. كله لك. وإن كنت لا تود أن تمكث فيه يمكن أن تبيعه. الاحتمالات أمامك خمسون بالمائة مقابل خمسين بالمائة". ولم تنتظر الوالدة حتى أبيع البيت - ولم أقرر أنا ماذا سأفعل. ولكنها حزمت بعض الحقائب الصغيرة وذهبت لتعيش مع أختها تالما. وبعد فترة فارقت أختها لأنها تعرفت على هربيرت. وكانت تلك أول مناسبة تدعوني فيها لبيتها الجديد. وصلت إلى الشاطئ وأنا أضرب الأرض بقدمي. ربطت الدراجة بعمود الكهرباء وفحصت المنطقة لتحديد مكان أنوار القارب الذي تكلمت عنه بالهاتف. قالت:"على الدفة كتبت عبارة: أنت وإيرن والوالد محبوبون دوما". وضعت أمامي لغزا نعرف حله من قديم الأزمنة، ثم أضافت كأنها تفاجئ نفسها:"لن تصدق هذه الصدفة". وغلب في ظني أن العبارة هي إشارة عن أن هذا الرجل روح شابة أيضا. ابتسمت لنفسي. لدقيقة من الوقت جلست أنا وأخي مجددا في الحوض بمياهه المتلاطمة، والشمس تزحف على رأسينا، وكررنا مع الوالد الحقيقة السحرية أن "كل الأنهار تصب في البحر ومع ذلك البحر ليس مليئا". لمست أنا وأخي سطح الماء وكان الجواب موجات هائجة، وحاولنا أن نفهم كيف كل الأنهار تتجه إلى البحر ولكنه لا يمتلئ.

وقفت تحت نور الشارع، وقدماي في بركة الضوء، ويداي على خصري. تأرجحت قوارب كبيرة ومراكب صيد صغيرة وحركت مياه الشاطئ. وبالقرب تحطمت الموجات ببطء على صخور الرصيف. وانتشرت في الهواء رائحة السمك المميزة مع نكهة الملح التي حملتها الرياح إلى الشاطئ. وفي الليل الفاحم لم أجد قاربا أو بيتا من الشعر على دفة قيادة.

ولكن بفضل الهاتف الخليوي تمكنت من العثور على أمي وهربيرت، الذي صعد إلى متن القارب اللماع الأبيض وبدأ يلوح لي بمصباح مضيء. ابتسم لي ابتسامة طيبة ومد يدا مرتعشة حينما شرعت بتسلق بيته العائم. نظرت له باهتمام بالغ، إنه الرجل القادر على إنجاز ما لم ينجح به الوالد- لقد انتزع والدتي من اليابسة. تبعته إلى قاع القارب، وكانت ملامح والدتي تعبر عن الترجيب، وعيناها تبرقان، ونهضت لتعانقني بقوة وقالت باعتزاز لشريكها الجديد:"هذه ابنتي". وقال هربيرت:"أنا مسرور، مسرور فعلا بلقائك".

اهتز القارب بتؤدة حينما نظرت للوالدة بتشاؤم. ردت بنظرة مماثلة تشوبها ثقة بلا مبرر. كانت عيناها تؤكدان أن كل شيء على خير ما يرام. زال التوتر من بصري. فالوالدة بعهدة حب جديد. وكل شيء يسير بخير حال. أشارت الوالدة لي فجلست أمامها على الدكة المفروشة بالقماش. وخيرني هربريت من فوره بين الشاي الحار أو الكولا الباردة. أيهما أفضل. سألت الوالدة عن وجهتها. ردت بهدوء:"ليس من هدف معين يا عزيزي. ليس لنا هدف. ولم أغير عادتي. لا زلت أكره النزول في الماء. ولكن هربيرت أكد لي أن القارب موثق بقوة بالرصيف. وأن المرساة في الماء وبالعادة الحوض القريب من الرصيف يكون ناعما كالزبدة. نحن في بيتنا حاليا. وهذا كل الموضوع".

"اعتقدت أنك أخيرا نسيت حكاية الهريرات".

هزت الوالدة كتفيها وقالت:"لماذا تعتقد ذلك. سنعيش هنا. ولكن في الشتاء سننتقل لشقته في جيفات أولغا". وأشرقت بابتسامتها وتابعت:"لم يعد هناك أرض لم نكتشفها بعد". شكرت هربيرت وهو يقدم لي كأس الشاي الحار مع حركة لطيفة وسأل إذا كنت أفضّل مكعبا من السكر وهل أحب الإبحار، أم أنني "على شاكلة الوالدة".

رشفت الوالدة بتمهل وقلت له؛"كلا، هي ليست مثلي. أنا شيء آخر. لم أبحث عن المغامرات، إنما من يعلم؟. الإنسان له حياة واحدة".

ربت هربيرت على رأسها بدماثة ونظرت للكأس الذي في يدها.

قالت الوالدة:"كما تعلم يا هربيرت، في أحد الأيام سأتحلى بالشجاعة اللازمة وسنبحر نحن الثلاثة غربا، ربما إلى جزيرة ديف قبالة مرسيليا. ويمكننا التوقف قرب قلعة سانت جان، وربما يلوح لنا دانتيس من خلف قضبان سجنه".

نظرت للوالدة بدهشة. هل كانت تستمع حينما قرأ الوالد لنا الكونت دي مونت كريستو؟. لا أتذكر أنها قرأت الرواية أبدا.

ابتسمت لي للتشجيع. كان خيال الوالد، طويل ومبتهج، يومض بيننا. وانجرفت أفكارنا إلى إيرن الذي بدا لفترة قصيرة يشبه الوالد بهيئته. حتى أسرعت نحونا مركبة ضخمة لصيد السمك. وحينما ناورت في طريقها باتجاه المرسى اضطربت المياه وتأرجح قارب هربرت. وقفزت قطة مخططة على ركبتي الوالدة ولم أكن قد لاحظتها من قبل. وانطوت على نفسها في حضنها مثل حلزون. وتفحصتني بعينيها نصف المفتوحتين، وسرعان ما أغلقتهما مجددا. وسمعت الوالدة تسأل:"هل قررت كيف ستتصرف بالبيت؟". وأجبت شاردا:"كلا، ليس بعد". كنت أفكر بالدراجة الخضراء المقيدة بعمود النور في الشارع عند المرفأ. وأنه يتعين علي أن أكدّ بها لصعود السفوح الطويلة التي قادتني إلى المياه. وربما كان الأفضل أن ألقي تحية الوداع وأغادر.

 

........................

من مجموعتها "امرأة رقيقة". 2019 .

إدنا شمش Edna Shemesh كاتبة مولودة في رومانيا عام 1953. لها خمس روايات وقصص متفرقة.

 

في نصوص اليوم