ترجمات أدبية

معا

صالح الرزوقبقلم: نعومي ألديرمان*

ترجمة: صالح الرزوق

***

في الحفلة احتفظت بتوانزنك وأنت تتكلمين مع صديق جديد. على الأقل من اعتقدت أنه من بين المعارف الجدد. ودار الكلام عن طفولتك، وعلاقتك الصعبة مع والديك. وتباهيت بأشياء من حياتك كنت ترين ضرورة للتكتم عليها أمام والدك. وها هي الآن تلمع كالنجوم حول رؤوس معارفك الجدد. ثم رنات موسيقا. وضع الضيوف الآخرون بتهذيب شرابهم من أيديهم وحيوا بالتصفيق الحار هذه الإنجازات. وحينما كنت تتكلمين، ضغط صديقك على مربع سطحي في مكان ما ليضيف اسمه إلى لائحة الأصدقاء. ولكنه جاء في المرتبة 5000. فأنت مشهورة. والجميع يعلمون ذلك. وبعد صمت قصير للاحتفال بوضعك الجديد، تابعت الكلام عن المشاكل التي واجهتك في الماضي.

في مكتب طبيبتك النفسية، كان من المستحسن التكتم على كل الشبكة الاجتماعية. لم يكن بمقدور أحد أن يحدد إذا كنت ملتزمة، وطبعا هذا يتضمن الطبيبة، الصديقة المحترفة. كان الكلام يصل إلى الجزء البصري من دماغك، أجهزة استقبال تحت الجلد، وتيار من الأصوات كانت تقرع مباشرة في عصب السمع، ثم تغلقه وتفتحه ببساطة فكرة عابرة. لا أعتقد أنها علمت بذلك. وإذا استمر هذا الحال فهو يشبه الاستلقاء أمام الطبيب. قالت لك: لن تستفيدي هكذا، ويجب أن لا تشعري بأحد معك داخل الغرفة.

كان إغلاقها قليلا يأتي بالهدوء. العديد من الأشخاص أغلقوها لساعات أو لأيام. وليس من الضروري إذاعة كل الأفكار. الناس مغرمون بتكرار هذا الطقس. فهو تصحيح لأخطاء الآخرين. أولئك الناس المتواجدون في تلك الأمكنة. وتأكيد للذات. ولكن الحقيقة أنه لا مهرب من تكرارها، وطبعا، هذا دليل على أنها صعبة على الأفهام. من المريح أن تتذكري أنك وحيدة، أحيانا. وطبيبتك النفسية تصغي لأحلامك - وما يستعصي على ذلك يمكن نشره على الشبكة - أو أنه يصغي لك وأنت تخبرينه بمقدار كراهيتك لنفسك. ولا يوجد أحد يكرهك بمقدار كراهيتك لنفسك. علاوة على ذلك، حينما تبحثين عن شبيه لن تجدي. وعليك استشارة الشبكة. وكي تقنعي نفسك أن لا تفعلي ذلك أنت بحاجة لجهد مضاعف. فمفرداتك قليلة دون شبكة. ومعرفتك تتناقص. وحتى ذاكرتك عن حياتك الشخصية على الشبكة، بالمقارنة مع ما يحققه البشر دونها، تكون أغنى وأكمل.

تقولين: "ألا تعتقدون، في الواقع، أن الشبكة هي أداة لعلاج نفسي؟".

لا أحد يرد.

1093 aldermanوحينما تنظرين لما حولك وتشاهدين المحللة النفسية، تعتقدين أنك شاهدت حركة العين المسعورة وهي تشير إلى أنها تفحصك بمعونة من شبكتها. ولكن إذا وجهت لها السؤال تنكر ذلك. حملت ابن صديقة أيام الطفولة. أنت والأم كنتما على توافق لحوالي عشرين عاما. وكان الطفل يبتسم لك ظاهريا.

قالت أمه: "للتو عصفت به الريح". ولكنك ابتسمت.

سألت: "متى ستستقرين؟". لم تردي.

كان اسم الولد قد ظهر من فترة قريبة على الشبكة، لحجز مكان له حينما ينمو ويكبر. فالأطفال دون أصدقاء. قبل نقطة معينة - ربما 12 أو 18 شهرا- لا يكون الأطفال على دراية بالمسافة التي تفصلهم عن العالم. وفقط حينما ينتبهون أن الآخرين لهم تجارب نفسية خاصة، يبدأ كلامهم عن "أصدقاء". وحالما نفهم أن ما يدور في رؤوسنا له استقلالية وخصوصية، نبدأ بالبحث عن الشريك.

أنت بحاجة لجهد لتحافظ على الحواجز بيننا وبين العالم الخارجي. وهذا هو سبب المشاعر الطيبة التي ترافق الحب. تخفيض ارتفاع الحدود حول "أنفسنا" التي نرعاها بحرص يكون على الأقل مبهجا. ولقد مرت فترة طويلة منذ سقطت في الحب لآخر مرة. بكثير من الشك والخوف وبواسطة الشبكة تتأملين وضع صديقك رقم 5000 وبالاستعانة بالشبكة ولكن يخيب أملك: كل العلامات تدل أنهم جميعا لهم علاقات جدية. ولكن تضيف الشبكة أن شريكا قديما لا يزال أعزب. كلاكما كان بينكما ترتيبات. وحينما شرعت بالاتصال به، تلقاك بحرارة. والتقيتما في بيتك في النصف الثاني من المساء.

ولما حاولت التعبير عن اهتماماتك عن معنى الصداقة، وعن طبيعة العلاقات الاجتماعية، وعن الحاجة للعزلة، كان صديقك مهتما بشكل عام وسطحي، ولذلك لم تجدي نفسك حقا معه.

قال صديقك المفيد ”أصبحنا نوعا جديدا من البشر"، ومد يده نحو فخذك وأضاف: "المرحلة التالية من التطور ستركز على إقامة علاقة مثلية. علينا أن لا ننظر إلى الخلف؟".

سمعت هذه الفكرة من قبل. ولم يكن لدى صديقك شيء جديد يضيفه. و في الختام، لم تكوني راغبة بالكلام.

مع ذلك مرت الأمسية بهدوء. وكنت تشعرين بالعزلة مع أن صديقك يستلقي بجوارك على السرير. هذا مجرد بداية لبث الشبكة، وهدير الثرثرة تعصف بجسدك، وتدفع عزلتك للتراجع.

في اليوم التالي، تكلمت مع أخيك في بوينس آيريس. أو ربما اسطنبول. أو يوكوهاما. من الصعب أن تعلم دائما أين هو الآن. وهذا أمر غير هام. أينما هو، خياله ينعكس في رأسك، ويتمسك بأعصابك. ولكن ليس هناك المزيد من الأصدقاء الغائبين في هذه الأيام.

قال لي: "عليك أن تنسي صديقك حامل قسائم التموين. هذا لا يفيدك. أنت بحاجة لعلاقة حقيقية".

عضلاتك تشعر بالراحة بعد انتهاء الحوار الثقيل. ابتسامتك. تشعرين أنك معروفة، ومفهومة، ومعتنى بك. تشعرين أنك بين زملاء. ولكن أنت وحدك في شقتك، وتبتسمين للفضاء الفارغ.

العلاقة بين العقل والجسم إشكالية. ديكارت فيلسوف القرن السابع عشر اعتقد أنهما كتلتان منفصلتان ومختلفتان. الجسم آلة، والعقل هو المتحكم بها. الفلاسفة الآخرون يدينونه بتخيلات حول الميكنة - رجل صغير في داخل الجمجمة، يفحص الإدخالات التي تتدفق من العينين والأذنين وبقية الحواس، ويضغط على أزرار للاستجابة وتحريك الجسم. هذا الوضع غير مقبول فلسفيا. ولكنها تشير إلى نوع معين من الحقيقة. نحن متأكدون أنه هناك إنسان مدهش وحقيقي داخل جسم كل إنسان بليد نحن نلتقي به هنا وهناك. ونحن نكافح ضد التكبر الذي ينجم من صفات فيزيائية: لون البشرة، الجنوسة، العمر، القامة، العجز، شكل الجسم. وعندما تخيلنا السماء طوال قرون، كنا نتخيل في الحقيقة مكانا أعلى من الظواهر الملموسة، حيث الفكرة والروح هما الحقيقة الوحيدة. وجسم أخيك ليس مهما: فهو عقله، أو روحه، أو أنفاسه، والتي تمنحك العناق المريح. لا شك هذا هو الحلم بالسماء.

ها أنت تغوصين في كآبة خفيفة. لا شيء جدي أو خطير. وتصلك مشاعر جديدة عن حقيقة جسدك من خلال تفعيلها على الشبكة. وحينما تهبط العدادات الكهربائية لما دون عتبة معينة، يدخل النظام في حالة الاسترخاء. وتخبر الشبكة كل أصدقائك أنك "حزينة قليلا" وتقدم لهم عدة أساليب لإدخال السعادة على قلبك.

مطر من الورود المتفتحة والعناق وصور هررة تبدأ بالتدفق إلى علبة الإنترنت أمام عينيك. بعضها يكلف أصدقاءك نقودا حقيقية- ليس بمقدار ثمن الكاباتشينو، ولكن أكثر مما بوسعك إهماله في الشارع إذا سقط منك، وهكذا تشعرين ببعض التحسن. بعض الأصدقاء- غالبا الفئة التي تصنفينها في الشبكة باسم "أصدقاء حقيقيون" - يتصلون للانضمام إليك. وأنت تعترفين بذلك. وهم يخبرونك أن هذا لن يستمر إلى الأبد. وكل إنسان يمر بأوقات عصيبة أحيانا. وذكروا لك كأمثلة والديك وأكدوا لك أنك تقدمت كثيرا وهذا يكفي.

المزاج يعدي. وهذا معنى المزاج. جوزيف جوردانيا، موسيقي متخصص بألحان عرقية وضع نظرية تقترح فناء القدرات البشرية في هوية تراكمية- بالاخص في الرقص والغناء- ولكن من الضروري ان نضحي بأنفسنا للحفاظ على النوع. وبقاء العنصر البشري يعتمد أحيانا على فقدان أنفسنا. وعموما نحن وضعنا حديثا جدا ثقتنا في الهوية الذاتية. وربما أن نكون "نحن" شيء طبيعي أكثر من أن نكون "أنا".

مثلك بدأ مستخدمو الشبكة يتحولون لاستعمال ذاكرة المعلومات للتنبؤ بأحوال الآخرين. وتحولت رسائل وأمزجة أصدقائك إلى مشاعر في جسمك. وارتبط إحساس مثل القشعريرة بالرسائل غير المقروءة، ومعه تدفقت أحاسيس كانت متلازمة مع مزاج أصدقائك الإيجابي. وأصبحنا عضوا واحدا، واشتركنا بأمزجتنا بشعور موحد. يا لها من آلة تزيد من التعاطف.

ولذلك بالضرورة إذا انخفض مزاجك، تخسرين عددا من أصدقائك العاديين. فقط الذين لا يتحملون هذه المشاعر في تلك اللحظة. وقد يعودون لاحقا، إن لم يحتل مواضعهم آخرون بسرعة البرق. أنت لديك 5050 صديقا. ولن تشعري بغياب دستة أو اثنتين ممن هجرك  في وقت الضيق.

على أية حال، هناك أناس معينون ينخفض مزاجهم جدا ويفقدون الأصدقاء بالمئات، أو بالألوف. ولا مجال للشفاء من تلك الأزمة. إنها حالة قصوى. ويتابعون العمل، وربما، يكون لديهم أسرة وهوايات، ولكن خسارة كارثية من هذا النوع، على الشبكة، تشبه التشرد. وعليك أن تبدأ مجددا من الصفر. ومعظم الناس لن يثقوا بك بما فيه الكفاية ليسمحوا لك بانطلاقة ثانية. إن شخصا بعمر 30 عاما ودون أصدقاء على الشبكة أمر عجيب ويدعو للقلق. بعد يوم أو يومين من الحالة السيئة الجديدة، اتصل بك صديقك رقم 5000 من قناة خاصة على الشبكة. تلك العلاقة التي انتبهت إليها على الشبكة، كانت بنظرك منتهية. ودخلت بالحوار بالصدفة. ولاحظت الطبيعة الميسرة. كان الحوار مدروسا، كل منكما حاول أن يكون مضحكا، وكان من دواعي سرور أحدكما أن يضحك الآخر لبداهته. على الأقل، تخيلت أن صديقك الجديد يحاول أن يكون فكاهيا ومرحا، وتصورت أنه مسرور حقا. ولم تكوني متأكدة أن ما تتخيلينه هو حقيقة فعلا. وأنه يحدث فعلا. أخطأت بتفسير الإشارات من قبل وخاب أملك من الصدمة. فقد فهمت أنك كنت تعتقدين وحدك أن تلقي وإرسال الرسائل يكون محدودا. ولو أنه من المفترض أن نستمتع بعزلتنا الداخلية، لماذا يجب أن نقلق من سوء الفهم؟. نحن نريد أن نلمس ماذا في رأس الشخص الآخر.

و الأشكال الإيجابية تتكلم بصيغة المخاطب: "إلى أين تودين الذهاب اليوم؟". "ما هو شعورك حيال أبيك؟".

في الشبكة، أنت دائما مشغولة بالكلام. فهي تخبرك من أنت، وماذا تفعلين. "أنت تتابعين أدريان" "أنت تقتلين الوقت مع أندريا" "دافيد غمز منك". لقد يئست بالتدريج من التحكم بتقديم نفسك، حتى أنك بالكاد تتعرفين عليها. وتشعرين بالاطمئنان من الشبكة. هل لقنك أحدهم ذلك، أم أنها الحقيقة؟. وهل هناك فرق؟.

ها أنت منطوية على نفسك بإحكام. والأسئلة تتخمر عن صديقك رقم 5000. وطبيبتك النفسية في المدينة، كالعادة حينما تكونين بحاجة لها. وعليك الركون لاستشارة الشبكة المزودة ببرنامج خاص.

يقول الإنسان الآلي، صديقك المتخيل: "كيف تشعرين؟".

تقولين: "حزينة. قلقة. خائفة. وحيدة". ولا تقولين: مهجورة. ولكنك كذلك. حتى بوجود أصدقاء كثيرين، أنت مهجورة.

يسألك الصوت:" وكيف تشعرين تجاه هذا الحزن، والقلق، والخوف، والوحدة؟".

لا يمكنها أن تفعل شيئا أكثر من توجيه الأسئلة، ولكن الإجابة تمنحك راحة مؤقتة.

في الختام، الزميل الذي يتحول إلى صديق في الحفلة - صديقك رقم 5000- يصبح عاشقا. وتستكشفين جسم وعقل إنسان آخر. تثملين من خمرة الآخر، تحررين نفسك مثل طفل يفلت بالونا، وتراقبين بهدوء نفسك التي اعتنيت بها وانفصلت عنها وهي تسبح نحو السماء وتختفي.

تغلقين نفسك لعدة أيام متتالية، وتضيعين في شخص آخر. وتنسين من أنت. وترددين نفس الكلام الذي يردده عشيقك وبنفس اللحظة. تصغين، وتشعرين أنك تستمعين لسردك الخاص وهو يفيض منك. وتنتهي الحاجة لتقولي: "أنا أيضا، أنا أيضا". لأنك فهمت كل شيء.

في النهاية، بعد عدة أيام، تبدلين حالة ارتباطك بالشبكة. ويتبع ذلك طوفان من التهاني. وتشعرين أنك محبوبة من حبيبك ومن الشبكة. أنتم معا.

هل الحب فأل طيب، أم أنه علامة سيئة؟. ولكن أنا نفسي، ماذا عنها؟..

 

..................

*روائية بريطانية معاصرة من اسكوتلاندا. أهم أعمالها رواية "السلطة"، و"التمرد"، و"إنجيل الكذاب". تعمل أستاذة الأدب الإبداعي في جامعة باث. وتعيش حاليا في لندن.

  

في نصوص اليوم