ترجمات أدبية

ادموندس كريبايتس: الضباب

قصة قصيرة للكاتب الليتواني

ادموندس كريبايتس*

ترجمة: جودت هوشيار

***

صفارة المنار تنوح دونما توقف. هذا النواح الممل يشق الآذان، وينهش القلب والدماغ كالدود. بيب.. بيب.. بيب. وهكذا من دون نهاية. فيتخشّب كيانك، ويصبح شفافا كالغربال. اصمتي ولو دقيقة واحدة ايتها الصفارة، فأنا إنسان مرهق، هدني الإعياء في العمل الليلي الطويل، والآن أريد أن أنام.بيب.. بيب.. بيب. وعلى هذا النحو الى ما لا نهاية.استشيط غيظاً فاستدير نحو النافذة والوح بقبضتي المشدودة.. تلف الأعصاب مرة أخرى.. أعصابي التي لا تصلح لشيء. نافذة غرفتنا – أنا والبيناس – تطل على ساحل رملي شاسع يمتد نحو اليمين حتى الكثبان المتجهمة الصفراء، التي تغمرها المياه في بعض الاماكن، وتنمو الأشواك على قمم البعض الآخر منها. وفي الجانب الأيسر من الساحل، سد حجري طويل يمتد حتى الافق. وتتدفق الأمواج فوقه منطلقة صوب الاحجار المخضرة، والاراضي الجرداء، فتغرقها ولا تظهر منها سوى بعض الهضاب الرملية الناتئة. وفوق هذه الجزر الصغيرة تحلق اسراب هائلة من النوارس الجميلة البيضاء التي تطلق صيحات كريهة.

السد يحجب البحر، ولكنك تحس به عن قرب كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة. وحين تهب الرياح من جهة البحر – وهي في العادة لا تهب من الناحية الاخرى الا نادرا، يتسرب الهواء البارد الرطب من خلال شقوق النافذة، وينفذ حتى النخاع , حاولنا إحكام غلق النافذة، بيد أننا أخفقنا في ذلك.

الرياح ساكنة اليوم – ليس ثمة سوى الضباب.

بيب.. بيب.. بيب. المنار على مقربة منا، وصفارته تنوح بصلافة، وصوتها يطغي على صوت المذياع، وتعكر مزاجنا، بعد العمل الليلي الطويل. غرفتنا المريحة باثاثها (الفخم) تروقني : مقعد واحد، وسرير سفري قابل للطي في احد اركان الغرفة.ومذياعان احدهما صالح والآخر عاطل، مفكك الاجزاء اقوم باصلاحه في اوقات فراغي منذ اسبوع. كما يروقني الفضاء الباهت من حولنا – هكذا يسمي البيناس هذا الساحل الصحراوي – كل شيء هنا عزيز ولطيف، فقط اصمتي ايتها الصفارة. أغلقي فمك اخيرا أيتها الروح الشريرة.

ومن جديد يتملكني غيظ بليد وسخيف. ربما تلف الأعصاب مرة اخرى.أاتناول دلو ماء، وخرقة مبتلة، واشرع بتنظيف الحمام.أنسى الصفارة اللجوجة لبضع دقائق. في وسع المرْ ان يتحمل عويل الصفارة اذا انهمك في العمل ولم يعد يفكر فيه. سأتهيأ الآن للنوم واسحب اللحاف حتى اذنيًّ، وسأضع فوق رأسي وسادة أخرى.

استيقظ على رنين حاد لجرس الباب، ولكنني اظل مضطجعا في فراشي، ثم أقفز كالملسوع. يبدو ان الضباب قد تبدد، ولكن الصفارة ما تزال تنوح. اسحب بنطلوني على ساقيّ، وادس رجلي في حذائي واتجه لافتح الباب، وانا في قميصي الداخلي، فأجدها واقفة امامي. انها جارتي فالنتينا.

- طاب نهارك، تقول المرأة الشابة، وهي ممسكة بيد ابنها (ايناس) وتتطلع اليًّ بعينيها الرماديتين. نظرتها صريحة ومباشرة، وفي الوقت نفسه مبهمة ومذعورة. لست افهم هذه النظرة مطلقا..

- من فضلك يا غيداس، هل لك ان تعتني بكنزي : ينبغي لي ان اذهب الى المدينة واخشى ان اتركه وحيداً..

ايناس في السادسة من العمر، صبي دائب الحركة، وقد الفني، وها هو يجتاز العتبة ببراءة. ذهبت فالنتينا وعادت بعد دقائق وهي تحمل صندوق العاب ايناس، ووضعته في وسط الغرفة. اتطلع الى ساقيها الرائعتين، وعندما تعتدل احدق في عينيها مباشرة. وفجأة احس بوخزة الم حاد في الجانب الايسر من صدري، ثمّ في الجانب الأيمن منه، يا للغرابة فهذا الجانب لا يضم القلب.

الصبي المجعد الشعر نثر العابه على ارضية الغرفة، وهو يحدث نفسه ويهدر كالسيارة، وانا الرجل الطويل القامة، والطويل الشعر - كان ينبغي ان اجزه منذ وقت طويل - اقف امام النافذة، وابتسم وافكر في هذه المرأة الجميلة ذات العينين الرماديتين. عيناها نجلاوان. تميلان للزرقة احيانا وللاخضر احيانا اخرى، ولكنهما دوما تشعان وميضاً ساحرًا من خلال الاهداب الطويلة من مكان ما في اعماقهما. هذا الوميض يخدعني ويقتلني ويفقدني توازني، فترتعش يداي، وترتجف ركبتاي، واحس برضى عميق اذ يرشق الالم صدري بوخزة مؤلمة حلوة فاهتز كأرنب رفع من الارض من ذيله.

فالنتينا هادئة، حزينة، رزينة وغامضة في نظري.وجهها صبوح، ينم عن قوة ألإرادة.شفتاها طريتان لامعتان. شعرها الكستنائي المتموج ينسدل على كتفيها. شذى شعرها يدوخني من بعيد، ولا اخشى الا شيئا واحدا، وهو أن تلحظ كيف اني اصبح عديم الوزن عندما اراها، فأبذل قصارى جهدي لأوهم نفسي انني انسان جرًّب كل شيء في الحياة، ولهذا لا اكترث لأي شيء مطلقاً.لا ادري ان كنت سأنجح في ايهامها بذلك حتى النهاية.

يبدو انه قد مضى وقت طويل. سئم ايناس اللعب، وانا مللت الكتب والمذياع، والكسل. ارتدينا معطفينا وغادرنا المنزل. ايناس صغير، وسريع كالفأر، يعدوعلى الرمال الرطبة ويصرخ، وانا أحجل في اثره. يلتقط ايناس عودا خشبيا ويحاول باحتراس ان يقترب من سرب من النوارس، ولكن النوارس تطير صارخة.

ايناس يبحث عن حجارة ما. نجتاز الارض الجرداء ونصعد الكثبان. البحر رمادي يخيّم عليه الضباب الذي يحجب الافق. والماء عكر والفضاء الواسع يختفي في مكان ما. وتلاشى المشهد العظيم وزايلني الاحساس السامي المثير، وأصبح كل شيء واضحا وبسيطاً: صوت الموجات الكسلى، وهي تلحس الرمال السمراء والنباتات المائية البارزة هنا وهناك.

ننزل إلى الماء ونغطس فيه بحثا عن الكهرب بين النباتات المائية. وعندما يكتشف إيناس حجارة صفراء، يسألني هل هي كهرب حقيقي ام لا ؟ وعندما اجيبه بالنفي، يستدير ويقلب ألحجارة في راحة يده، ثم يدسها في جيبه. أحسنت يا إيناس ! لك نظرتك الخاصة إلى الأشياء، ولديك من قوة الإرادة ما يجعلك لا تكترث بآراء الآخرين. وإذا كانت هذه الحجارة تروقك، فلا أهمية ان كانت كهربا حقيقيا أم حجارة عادية.

تجمدنا من ألبرد، ولم نجد سوى بضع قطع صغيرة من ألكهرب. احمرت ايادينا فأخفيناها في جيوبنا، وعدنا أدراجنا متجهين نحو ألمنزل. أسير في ألمقدمة وإيناس يجر رجليه، ويحاول أللحاتق بيّ، بيد انه يخفق في ذلك. ثم يتخلف عني مسافة طويلة وقد هده التعب.

أقدامنا تغور في ألرمال. ثمة إمرأة فارعة القامة واقفة امام المنزل، وحقيبتها اليدوية تتدلى من كتفها.

انها فالنتينا. ربما لمحتنا من بعيد، وهي قادمة من المدينة. الضباب غلالة شفيفة تحيط بقوامها. انا لا أرى وجه فالنتينا، ولكني أعرف انه وجه صبوح مشرق ودافيء. إيناس المتعب يحاول اللحاق بي. الصفارة تنوح، وامام ناظري قوام فالنتينا محاط بغلالة ضبابية. انا لا ارى قوامها بوضوح ويبدو لي هشا رقيقا، غير محسوس. تشتد ضربات قلبي وتتلاحق، فأحث الخطى دون ان الحظ ذلك. كنت سأطير لو كان ذلك في وسعي. يخيل إليّ انني ادرك الآن معنى ان يكون الانسان سعيداً، وليشق هذا النواح الآذان

- ماما

ايناس يعدو ويسبقني لملاقاتها ويعانقها، فتأخذ وجهه بين كفيها وتقبله في جبينه وانفه، وانا واقف بالقرب منهما وأبتسم بغباء. أفرح وأحزن في آن واحد، وأشعر بشيء من خيبة الامل، بيد أني لا أكف عن الابتسام. يستخرج إيناس من جيوبه الكنوز الصغيرة التي جمعها : احجار مسطحة مصقولة، قطع اخشاب مقشطة جميلة متعددة الطبقات، أصداف لؤلؤ، انبوب قصب، ثم ينحني، ويرخي الحزام المطاطي لبنطلونه، فتتساقط اشياء كثيرة اخرى. ترى متى تسنى له ان يجمع كل هذا ؟

- برافو إيناس

الولد الصغير، وألمرأة الشابة ألباسمة الملتفة بالضباب الرمادي سعيدان بالأحجار ألمصقولة وألأصداف والأشياء الأخرى، وانا أقف بجوارهما وأحس بوجع في صدري، ربما بسبب نواح ألصفارة اللعينة. الظلام أخذ يتكاثف وأمامي ألمساء كله، ألمساء الفارغ ألطويل. لست أدري كيف سأقضيه لكي أنسى نواح الصفارة المرعب، وهذه الأحجار الملقاة على الأرض، وساقي المرأة الرشيقتين.انها تدعوني لتناول طعام العشاء، ولكنني اعتذر واقول لها أنني ذاهب الى المدينة، وانا أعرف أنني لن أذهب إلى أي مكان. لِمَ أذهب الى المدينة، وماذا سافعل هناك!.اليوم عطلتي الاسبوعية.

شقتنا، انا وألبيناس، تقع في ألطابق ألخامس من عمارة مبنية بالطابوق ألاحمر. ألبيناس مشغول بتصاميمه وخرائطه، ومن وقت لآخر يرن جرس ألهاتف، أناس من ألميناء أو ألمطار يستوضحون عن حالة الطقس المتوقع، وخلف الحائط السميك، في غرفة الاجهزة، ثمة جهاز بث يعمل برتابة. وفي مكان ما بشمالي ألأطلسي على باخرة عائمة وسط الضباب جهاز مماثل في غرفة ألبث يديره شاب أشقر – زوج جارتي. انه يبتسم دوما ويفرح لشيء ما، كاشفا عن صفين من الاسنان البيضاء النضيدة، ويحرك رأسه للخلف رافعاً عن جبينه خصلات من شعره الاشقر. أليوم أنا لا اعمل. سيكون من الجميل ان تناول وجبة خفيفة. شعر فالنتينا كستنائي، متموج، يتسلل عطره الى راسي من بعيد، عيناها هادئتان، واسعتان، تشعان شراراً مضيئة. كان في وسعي ان أزورها لأستعير منها كتاباً. الصفارة تنوح وتنوح في المنار. سأتناول شيئاً من ألطعام، وأقرأ، وربما سأخلد الى النوم،. شرار مضيئة غالية، ولا يفصل بيننا سوى جدار.

***

.............................

ادموندس كريبايتس: كاتب قصصي لامع من جمهورية ليتوانيا. ولد في مدينة كلايبد عام 1938. تخرج في جامعة فيلنوس الحكومية، نشرت قصصه القصيرة في المجلات الأدبية الليتوانية والروسية منذ عام 1963. و ترجمت إلى بعض اللغات الأخرى. وتتميز هذه القصة التي اخترناها من مجموعته القصصية المعنونة " لحظات "، بالحس المرهف والوضوع، وتعبر عن الرغبة الانسانية في المشاركة الوجدانية.

في نصوص اليوم