ترجمات أدبية

الكارثة

1218 Weintraub Cayleeكايلي وينتروب

ترجمة: صالح الرزوق

***

كنت أنا وشون نلهو في البيت الزجاجي المهجور في منطقة متفرعة من I-80 حينما أخبرني بفكرته عن مخزن روب بيرغسون. وشرحها لي بهذه الطريقة: علي أن أقترب من الطاولة وأشوش على السيدة بيرغسون قرابة وقت الإغلاق. حينما يكون السيد بيرغسون مشغولا بالمؤونة. وبينما أنا أكلم السيدة بيرغسون يتسلل شون إلى الغرفة الخلفية ويفرغ كيس النقود. وبرأي شون هكذا يمكننا إنقاذ مزرعتنا.

قال:”أعني، يجب أن نكرر ذلك عدة مرات”. ووقف فوق مرتفع ووازن نفسه، وحذاؤه يحفر بالأرض الترابية. وأضاف:”حتى نحصل على النقود الكافية. ولكن علينا أن نعرف أين هي النقود السائلة وكل ما يلزم”.

” ألن يلاحظا أننا نسرقهما؟”. وانحنيت لأتأمل علبة ماء لحق بها الصدأ كانت مدفونة تحت النفايات، وربما أهملها صاحب المكان خلال انتقاله.

“كلا. ربما هما لا يفحصان المدخرات باستمرار”.

“وكم نحتاج؟”. كنت أمازح شون فقط بهذا الاستفسار عن خطة السرقة. كان لشون ذاكرة ضعيفة حيال الخطط التي تحتاج لجهد ونشاط. وقد انفصل عن بنات كثيرات بمجرد دخول العلاقة بمرحلة حاسمة. وتعلم العزف على وترين فقط بالغيتار وكرر معزوفاته عددا كبيرا من المرات. ونظف نصف الحقل وذهب من أجل كأس ماء ولكنه لم يعد لينتهي مما تبقى. وتخيلوا من أكمل تعشيب الحقل، وسقاية التيوليب، وتنظيف سقف البيت الزجاجي؟. نعم. لقد حزرت. أنا.

“حوالي عشرة آلاف دولار. هذا ما سمعته من أمي أمس”.

“إنه مبلغ كبير”.

“نعم”. وحمل شون زهرة تيوليب ذابلة وأضاف:” هذا رقم كبير”.

عبرنا من البيت الزجاجي المتهدم، وكان النور ينعكس من ثقوب السقف، وظهر وجه شون في ضوء المساء المتناثر كأنه عجوز. كان قد بلغ المدرسة الثانوية. وهو في عطلة الربيع. وقد تخلى عن الدراسة للتو. مع أنه لم يبق غير شهر واحد للتخرج. فوالدي لم يكن يمتلك القوة للعمل في المزرعة بنفسه بعد أن وقع له الحادث. كان يشرب وعلقت ذراعه بالمحراث حينما بدأ بزراعة بصلات التيوليب، وكسر ذراعه وتشوهت واضطر لبترها من الكتف.  وكنت في المدرسة عندما حصل ذلك. أتابع حصة الجغرافيا وأحاول حفظ أسماء البحيرات المشهورة المرسومة على الخريطة مثل بذور المحاصيل. ولكن شون تخلى عن حصته، وعاد باكرا للبيت. وشون هو من وجده ملقى على الأرض غائبا عن وعيه في الحقل المحروث حديثا. وكانت ذراعه تنزف على التربة السوداء. وكان كل ما تبقى من ذراع والدي اليمنى  قطعة من اللحم تتدلى من كتفه، وتبرز من تحت قميصه الداخلي الأبيض الملوث بالدم.  

في البداية تفاءل أنه بمقدوره أن يكون مزارعا بذراع واحدة. وحاولنا أن نمزح معه. كنا نقول له: والدي. مرر لنا المملحة وطبقنا المفضل. لكن،آه. انتظر. أنت بلا ذراع!. وبعد أن رقد على سريره لعدة أسابيع ليرتاح، عاد إلى الميدان، في بداية فصل الحصاد. كان يشعر أن اللعنة ستحل عليه إن أفسدت عملية البتر مهنته.

وفي أول يوم عمل، عاد للبيت بعد ساعة. كان يتعرق، ويمسح جبينه بكتفه المبتور. حمل علبة البيرة من الثلاجة وجلس على الكنبة، وحاول مع غطاء العلبة لعدة دقائق حتى أتيت وساعدته بفتحها.

قال:” شكرا يا عزيزتي. سأحاول مجددا في الغد. يجب أن أستعيد قوتي”. ولكن لم يصدقه أحد منا. جلست على الكنبة بجواره محنية القامة. كان كتفه المقطوع يرتجف وشعرت بشبح ذراعه المفقود وهو يلامس على كتفي. 

وبعد أن انتظر في المستشفى لشهر، تحول والدي لنسخة مختزلة من حالته السابقة. كان له وجه أسمر مصبوغ بالشمس وعينين مثل الوحل، وجه له علاقة بالأرض. ولكنه الآن فقد كل عضلاته وأصبح ما تقول عنه والدتي مشكلة صغير،  ومدمن على الشراب. ومنذ أن ملأ استمارة عجزه الصحي، وهو يشغل وقته بملجأ العواصف الذي بدأ ببنائه قبل الحادث .  وأحيانا كنت أذهب إلى هناك لمساعدته بتدعيم الجدران أو تمهيد الإسمنت. وحاول أن يكون مرحا. كان يقول أنا أمرن يدي السليمة، ثم يضرب بالمسامير بالمطرقة. ولكن مؤخرا مال إلى حالة الغضب وليس المرح. كان ينفق كل أيامه بالعمل على الملجأ في الليل، وهو يرشف البيرة لتسكين ألم ذراعه. ولم يغادر البيت بعد أن ضحك أحدهم عليه عندما حاول ربط رباط حذائه في مخزن الأشياء الثقيلة. ولم يكن أمامه إلا أن يستسلم للأرض والمزرعة. 

و بذل شون في البيت ما باستطاعته ليتابع موسم الزراعة. وباعتبار أنه ابتعد عن المدرسة، كان ينفق وقته وهو يعمل في الحقل. كان التيوليب الذي ينمو على أطراف الحقل يذبل بسبب كسل شون وبلادته. لم يكن يحب أن يذهب للزاوية البعيدة حيث مضخة الماء. وسألته إن كان يحن للمدرسة، ورد إنه يعلم أنه دائما مجهز لشيء أكبر من دبلوم المدرسة الثانوية. وكان يشغل أوقاته الصباحية بأعمال غريبة في مزارع الجيران ليربح نقودا إضافية وفي المساء يحاول إنقاذ زهورنا. فيعشب الأرض واحتواء ما بمقدوره من كارثة اللفحة التي لحقت بالتيوليب.

وانتشرت شائعات في كل البلدة أن مزرعتنا بانحدار دائم. وأمس بعد المدرسة، رافقت أمي إلى مخزن “احمل سلة” للحصول على البقالة اللازمة. وصادفنا السيدة ليمبيريس أمام المخزن، وعندما شاهدتنا، أسرعت إلينا ووضعت يدها على جبين أمي. وقالت:”أليس”. وكنت أشعر بالدهشة كلما سمعت أحدهم  ينادي أمي أليس وليس يا والدة. كان الأمر يشبه سماع اسمها العلمي. الجنس: أليس. النوع: أم.

وضعت السيدة ليمبيرز يدها على قلبها وتابعت:” سمعت بحادث زوجك. إنه سوء حظ. ولا يمكنني تصور المحنة التي تمرين بها”.

 ابتسمت أمي ابتسامتها المشدودة التي لم أشاهدها من قبل وقالت:” لا تقلقي. نحن بخير”.

كنا في مكان الخضار، وحملت الوالدة أربعة من ثمار البندورة مرتفعة الثمن وأودعتها في كيس بلاستيكي دون أن تحرص على وزنها لتتأكد من ثمنها.

قال السيد ليمبريس:”أنا أحب هذه الثمار”.

“وأنا أيضا”. طوت الوالدة حقيبتها ووضعتها في سيارتنا. وفي بقية وقت تسوقنا، لم تنتقي غير الأشياء الثمينة مرتفعة السعر. الأنواع التجارية المشهورة وليس المجهولة. وسمحت لي  أن أزور مكان مواد التجميل وأنتقي أنبوبة طلاء شفاه أحمر. وتجولنا في أرجاء المتجر كله ومعنا عربة التسوق المليئة بالبضائع الغالية. وحينما شاهدنا السيدة ليمبريس تلوح لنا تلويحة الوداع وتدفع عربة تسوقها إلى خارج الباب، عادت والدتي لفحص محتويات “احمل سلة” مجددا، واستبدلت ما انتقيناه ببضائع أرخص.

وطلبت مني العودة لقسم الخضار وإعادة ثمار البندورة لأن سعر الرطل منها يبلغ 3.75 دولار وهذه جريمة. وحينما وضعت البندورة في مكانها، شاهدت القاضي هاريسون، وكان يبدو أقصر مما هو عليه في قاعة المحكمة، وكان يجهد ذهنه لاختيار نوع تفاح من بين اثنين. ورآني أعيد البندورة فلوح لي، وعيناه تضيقان من وراء عدساته.

وحينما جهزنا أنفسنا للدفع، وضعت والدتي أحمر الشفاه مع حلويات ميمينتوس المعروضة قرب صندوق المدفوعات وقالت:”أنت جميلة دونها”. وربتت على خدي بيدها. وتساءلت هل هي تعني ما تقول أم أنها طريقة أخرى لضبط الإنفاق.

وحاولت أنا والوالدة تقديم المعونة لشون في الحقل، ولكن تكاتف ثلاثتنا معا للسقاية والتعشيب والزراعة، لم ينجم عنه ما يكفي  لانتاج مائة باقةمن الزهور. بعنا بعض التيوليب لبائع زهور في الشارع الرئيسي. واشتراها منا  لحفل زفاف عاجل فقد كنا مزارعي الزهور الوحيدين الجاهزين لتوصيل الطلبية في غضون ساعة. كانت الزهور بائسة وكلنا نعرف ذلك. لها رؤوس صغيرة وسيقان ضعيفة، وكانت اللفحة قد بدأت تصيب الورود. والفطريات شرعت بتشويه البتلات الخارجية. ومسحت  بمسحوق الخدود الذي تستعمله أمي الطرف الخارجي من البتلات لأوهم الناظر أنها ذات رطوبة براقة، ولكن شاهدت وجه العروس وهو يستسلم للكآبة حينما حملت الباقة بين يديها.

وأسوأ ما لدينا من محصول وضعناه أنا وشون في لفافات وبعناه خارج مهرجان فلنغ سبرنغ للرقص في نهاية الأسبوع، لقاء قطعة معدنية لكل لفافة، واشتراها منا الصبيان الذين نسوا إحضار وردة لعشيقاتهم. وكان معظم الصبيان مسرورين جدا لضربة الحظ هذه، حتى أنهم لم يلاحظوا الأطراف الذابلة للزهور البيض، والبتلات الصغيرة والحزينة للتيوليب الزهري الذي اشتهرنا به سابقا. 

وضع شون خطة سرقة آل بيرغسون في أيار. وطبعا نكون في هذه الفترة مشغولين جدا بسبب أعراس الربيع ومهرجاناته، ولا يزيد على الربيع بالمشاغل غير تشرين الأول والثاني، ففي هذا الوقت تتضاعف الجنازات. وبيع الزهور في الجنازات يكون أكثر منه في الأعراس. وهذا يترك لدينا انطباعا خاصا.

ولكن لم ننجح ببيع زهورنا في موسم الحصاد الأخير. كنت أستيقظ  أنا وشون في الخامسة صباحا من كل يوم أحد، لتجهيز كوخنا في سوق المزارعين، ولكن كانت حركة البيع تتخطانا كل مرة. وحتى السيد لانكاستير، الذي ثمل وداس على نصف محصوله، وأفسد ما لديه من بنفسج وليلك، باع كثيرا من زهوره الميتة، وبقي أفضل ما لدينا من تيوليب في مكانه.

معظم الناس اشتروا أزهارنا بدافع التعاطف. كانت السيدة ليمبريس أو السيدة بيرغسون حين تشاهدني، تضع حقيبتها على كتفها  وتسأل:” كيف حال والدك يا لاني؟”. وكنت أرد بقولي:” بأفضل ما يمكن”. ثم أنظر بتحسر على ساعديها السليمين والقويين.

ثم تردف:”يا لك من مسكينة”. وتختار أعز وأرق وردة لدينا وتدفع ثمنها 1.25 دولارا.

كنت في معظم الأوقات أهتم بكوخ المبيعات وأترك مهمة الكلام مع ليلى  بيرغسون لشون. كانت ليلى أكبر مني بخمس سنوات ولديها كل شيء أفكر به. ترتدي تنورة طويلة ورقيقة، وتحب التدخين تحت المنصات في المدرسة الثانوية، وهي تميل برأسها إلى الخلف لتنفخ دخانا له نكهة الغاردينيا في الهواء، وأراه وهو يتبخر فوق رأسها مثل سحابة منخفضة. وترتدي الثياب التي أراها  وراء زجاج المخازن، وتكون أغلى وأجمل مما عداها. وسمعتها تخبر رفيقاتها في السوق حول نظريتها باختيار الأصدقاء الصبيان  حسب المواسم: الأولاد الشقر للصيف والربيع، والحنطيون للخريف الشتاء. وهذا يعني حب جديد كل عدة شهور مع تبدل درجة الإضاءة في السماء. كانت ليلى متكلمة وثرثارة وكان شون يحب الدردشة معها. وهو يستند على الطاولة بينما هي تنفخ البخار بوجهه.

وكنت من وراء الكوخ أختلس منه النظر.

كانت ليلى تقول له:”يجب أن تأتي وتلعب معي أحيانا”.

قال شون:” حسنا. ما رأيك بيوم السبت؟. تعالي إلى المرآب”.

 قالت ليلى لتتظاهر بعدم الاهتمام:” سأفكر بالأمر”. ولكنها كانت تنظر لشقيقي باهتمام بالغ.

ابتسم شون ابتسامة حزينة، ابتسامة نجم سينمائي تراجيدي وقال:” يمكنك أن ترافقيني لمكان ما بموعد مسبق”. وقدم لليلى زهرة تيوليب وردية. كان والدي يقول إذا ركز شون، سيكون أفضل مزارع في مجاله لأنه فتى جذاب. وضعت ليلى الوردة خلف أذنها وأخذت ذراع شون. وأخرجت قلما من جزدانها وسجلت رقمها على ذراعه بحروف كبيرة قبل أن تعود لصديقاتها. أومأت برأسي لشون. فقز فوق الطاولة، وأسقط التيوليب الأبيض الذي كنت أصفه، وكشر لي. ثم قال:” لقد وضعت مفتاح خطتنا يا صاحبة الوجه النجس”. ونظر لرقم ليلى المنقوش على ساعده وتابع:” هذه هي بوابتنا للعبور”. 

 بدأ شون يناديني يا صاحبة الوجه النجس منذ كان يطاردني في الحقل في ربيع العام الماضي حينما سقطت على وجهي فوق مخلفات الحيوانات التي نستعملها للتسميد. ومنذ حينها لم يكن يناديني باسمي الحقيقي.

قال شون:”هذا ما نجهز أنفسنا له يا صاحبة الوجه النجس”. كانت الساعة قرابة الخامسة ومخزن برغسون سيغلق أبوابه بغضون نصف ساعة. وكنا في شاحنة شون القوية. وبإمكاني رؤية السيد بيرغسون وهو يمشي خلف المنصة للأمام والخلف، وينبه الزبائن.

قال لي:”ادخلي واشغلي السيدة برغسون. سأدخل إلى الغرفة الخلفية حيث كيس المدخرات”.

“لكنهم   يغلقون الغرفة الخلفية يا عبقري”.

” حصلت ليلى  في وقت سابق هذا اليوم من هناك على زيت للمحرك. وتركته غير مغلق”. وفتح شون الباب وتسلل منه.

” وماذا يفترض بي أن أقول للسيدة بيرغسون؟”.”لا أعلم. فكري بشيء ما”.

قلت وأنا أركل النفايات:” ألا تعتقد أن هذا يا شون خطأ جسيم؟. السرقة غلط”.

أغلق باب الشاحنة وقال:”هل لديك فكرة أفضل؟”.

لم يكن عندي أية فكرة.كنت قد أفرغت مدخراتي وقشطت منها عشر دولارات  تافهة كنت قدمتها لوالدي، ولكنه أعادها لي. وسألت عن عمل في “احمل سلة”، لكنهم كانوا لا يستخدمون من هم بعمر ثلاث عشرة سنة، بسبب قانون عمالة الأطفال.

نظرت إلى حذائي الموحل. لم أكن أجد طريقة مناسبة لدفع فواتير علاج والدي الأخيرة في المستشفى ولا نفقات مكافحة اللفحة. ومنذ إصابة والدي، كانت زهورنا تصاب بمرض غريب تسبب بنمو بقع مبكية على بتلاتها وسيقانها. كان ربع محصولنا قد أزف، وموسم الحصاد بدأ للتو. وكنت أنا وشون نقطف الورود بقدر استطاعتنا، ولكن اللفحة كانت أسرع من كلينا مجتمعين.

 في نفس الوقت، كان والدي يشرب البيرة ويرتب ملجأ العواصف، ويحفر نفقا تحت الأرض، ولا يظهر إلا لتناول الغداء معنا. وأمس مررت الوالدة فوق طاولة الغداء مظروفا حمل اسمه بخط يد السيدة ليمبروس الأنيق. وفي داخله، وجدنا شيكا بخمسائة دولار.

قالت والدتي:” أنا لا أحبها مثلك. ولكن هذا سيساعدنا بدفع نفقات الطبابة”.

“أخبريها شكرا،  لا يوجد ضرورة لذلك”. قال الوالد وهو يغرف ملعقة من الفاصولياء الخضراء المعلبة ويضعها في فمه. وتابع:”لا حاجة بنا لمعونة”. 

وأعاد الشيك للمظروف ثم مزقه لقطعتين باستعمال يده وفمه. ونهض عن الطاولة وذهب للخارج ونحن ننهي طعامنا بصمت، وكان المظروف الذي عليه علامات أسنانه أمامنا. وفي تلك الليلة سمعت والدتي تجادل الوالد في الخارج، معتقدة أنه لا يمكننا سماعها. وبلغني صوتها وهي تناديه ليغادر من ملجأ العواصف، وأن يتصرف، بأي شيء، وأن ينقذ مزرعتنا. كانت الوالدة قلقة جدا على النقود التي طالما حلمت بها. وأتخيل أن ديوننا مثل طيف هائم، أو شيء غير مرئي يتسبب لنا بالآلام.

ما أن ابتعد السيد بيرغسون بالسيارة، دخلت أنا وشون. ورن الجرس فوق الباب ونظرت السيدة بيرغسون من وراء المنصة. كانت تنظف آلة خلط الحليب. وكانت الشمس تتسلل من النافذة المفتوحة وشعرت بالدفء والأمان، كما لو أنني في بيت زجاجي. انحنيت ولاطفت ثورت، وهو كلب أليف أبيض أراه أحيانا يقفز قرب ليلى في تمارينها الصباحية على طول حدود المسكن. وضرب ثورت ذيله على الأرض ونظر لي بعينين رماديتين زرقاوين لهما لون يشبه ماء البركة.

قالت السيدة بيرغسون:”أنت اليوم أطول من السابق يا لاني”. في الحقيقة، أنا لم أتطورمنذ شهور. بلغت الثالثة عشرة ولا أزال بطول أربعة أقدام وعشرة سنتمرات ومضغوطة وبصدر مسطح تماما:متأخرة النضج. تأكدت من طول قامتي وقمت بقياس صدري مرتين يوميا، على أمل أن أسجل تطورا بين الصباح والمساء ولوبمقدار نصف أو ربع بوصة، أو أن أحتاج فجأة لحمالة أثداء حقيقية. ولا أفهم لماذا يتكاسل الإنسان عن النمو بينما التيوليب لدينا يزداد طوله على مدار الساعة.

قال شون:”أنا أبحث عن زيت للمحرك”. وأشار إلى شاحنته، والتي تبدو كأنها على وشك أن تتمزق لمعادن وصفائح صدئة في أي لحظة.

قالت السيدة بيرغسون:”موجودة في الخلف. أنت تعلم أين”.

كان شون يرتدي قبعة البيسبول كأنه راعي البقر، ولكنه بدا بها مدعاة للسخرية، ثم فجأة ظهر بها مثل شخص حكيم. نظر لي شون وهوينسحب إلى الممشى، وابتعدت بدوري عن علبة الموسيقا التي كنت أعبث بها وجلست على المقعد قرب آلة النقود.

” كيف تعيشين الآن يا لاني؟”.

قلت لها:” بصعوبة. وأحاول أن أساعد في البيت”. ابتسمت السيدة بيرغسون وهي تفتح صندوق النقود. وقالت:”وكيف محصولك في هذا العام؟”.

 قلت لها:” على ما يرام. وأنت؟”.

كانت السيدة بيرغسون تعرف الجواب. فهي ترى أزهارنا في كل مكان. ولا بد أنها شاهدت الخدوش السود على أنواع النرجس لدينا. على التيوليب والورود العزيزة. والجميع يعلم باللفحة التي تشل أي مزارع ناجح وماهر. ثم أضفت:”نحن لا بأس”. وبدأت أشد كم قميصي. هذه أكذوبة، والسيدة بيرغسون متأكدة من ذلك. المرض وصل إلى الجذور، إلى التراب. إنه جزء من النظام الآن.

وشعرت بارتفاع حرارة وجهي وبانسداد في الحلق مثلما يحصل دائما حينما أرغب بالبكاء. كنت أفكر بوالدي وهو يجلس في قاع ملجأ العواصف أمس بعد أن دب الخلاف بينه وبين الوالدة، وتذكرت غضب الوالدة منه لأنه يختبئ في البيت طوال الوقت، وكيف أصبحت تعتقد أنه ليس الرجل الذي كانت تحبه.

وتذكرت كيف هبطت على السلالم وجلست قرب الوالد، وقبضت على يده الوحيدة. كان وجهه مغطى بالوحل وجذع ذراعه يرتجف كأنه يبحث عن البقية الضائعة منه. وحينما انخرط بالبكاء، أخفيت ذراعي ورأسي في قميصي وتحولت إلى قوقعة قطنية. 

ربتت السيدة برغسون على كتفي وحملت كأسا من خزانة فوق آلة خلط الحليب. وحينما لمست كتفي، انتابني الشعور بالذنب. كان ذنبي ثقيلا مثل سيل من الماء، انهمر على جوف معدتي.

سألتني:” شوكولا أم فريز؟”.

قلت لها:”فريز”. ومسحت أنفي بكمي. ربما وجد شون كيس النقود الآن. وربما  يضع النقود في جيوبه.

وضعت السيدة برغسون خليط الحيلب على الطاولة وسألتني عن المدرسة وأي مقرر أفضل وإن كان هناك صبيان أحب الاختلاط معهم. وأخرتني عن التفكير بشون، وبالغدر الذي ستشعر به إن اكتشفت الموضوع. كنت أرتاح للكلام معها، وإخبارها عن محبتي للجغرافيا وعلوم الأرض. وأوجزت لها تاريخ تطور الأرض. ولكن كلما هزت رأسها وسألتني المزيد من الأسئلة، كان ثقل الشعور بالذذنب الذي يحل علي يتضاعف.

وكنت قد وصلت لمرحلتي المفضلة، العصر الجليدي - بليستوسين، عندما ظهر شون ومعه علبة زيت. نظرت له وأشار برأسه. وسكبت السيدة بيرغسون خليط الحليب في كوب من الفلين وودعتنا.

ولمس ثورت يدي وتبعني، وللحظة من الوقت تخيلت أنه شم النقود التي حملها شون، ولكنه تكوم في الداخل عندما نادت عليه السيدة بيرغسون.

في السيارة، أفرغ شون جيوبه. وأحصيت مائتي دولار بشكل قطع نقدية وأوراق صغيرة. وابتسم شون ودق على عجلة القيادة.

قال:” لقد فعلناها أيها الوجه النجس. لقد نجحنا”.

أغلقت عيني ووضعت رأسي على المقعد. خارج النافذة، كنت أشاهد أميالا من حقول الورود وهي تمتد بكل اتجاه. طويت الأوراق النقدية طيتين، ثم أربعا. ونظرت من النافذة وبدأت أفكر بالبيت. 

سرقنا أنا وشون النقود من الكيس مرتين إضافيتين. وادخرنا أقل من 800 دولار بقليل، وهو ما يكفي تقريبا لدفع ثمن المبيدات التي نحتاجلها. وتمشيت في حقلنا المأسوف عليه ليلا بحثا عن علامات على نموات جديدة. عن أي شيء.

وأخبر شون والدينا أنه حصل على النقود من عمله في مزرعة الجيران، مثل جر المعشبة وراء المحراث وقطع الأعشاب التي تصل لخصر الإنسان حتى غروب الشمس. لم تكن كذبة تامة. فبعض أوراق العشر والعشرين دولارا مصدرها عمل شون في أرجاء البلدة وتأدية مهام نادرة. ولكن الأوراقالنظيفة والهشة الصغيرة والنقوداللماعة مصدرها آل بيرغسون.

  في الأسبوع الماضي، استعملت أمي بعض تلك الأوراق الصغيرة واشترت زجاجة صباغ شعر أشقر من ماركة إيزي بلاتينوم. وجلست على مقعد في البيت الزجاجي قرب التيوليب، حيث الفوضى أقل، وباشرت بإضافة الصباغ لشعرها. ثم قدمت لي مقص التقليم الذي نستعمله في تشذيب التيوليب قبل بيعها وطلبت مني أن أقص ما بمقدوري. وفي اليوم التالي، غاردت البيت ووجدت عملا لها في متجر الرهونات.

ومع ذلك، رغم عمل الوالدة والنقود التي سرقناها أنا وشون، لم ندخر ما يكفي. أخبر والدي شون أنه عليه أن يتحمل المسؤولية ويجد عملا آخر عوضا عن هدر وقته مع ليلى بيرغسون. ولكن الوالدة اعترضت وطلبت منه أن لا يقسو كثيرا، فشون يبذل ما باستطاعته، غير أن الوالد قال نحن نعتمد على شون، وهكذا يجب أن تسير الأمور. ثم تجادلا حول الوقت الذي ينفقه الوالد في ملجأ العاصفة وكيف أن الوالدة لا تفهم معنى أن يخسر إنسان ذراعه، وأنه عليها أن تكون أكثر تفهما وتعاطفا.

كنت أعاني من ألم مبرح خشية أن يكتشف أحد أمري. وعندما التقيت بالسيدة بيرغسون في مخزن الخضار أخبرتني أنها تفكر بحفر نفق تحت الأرض. وكنت أتذكر السطر الذي تعلمته من شون: ماذا أقول لوالدي إن سألاني عن مصدر النقود. وهو:”أنا لا أعرف عما تتكلمان. ليس عندي أدنى فكرة”.

ولم أكن أعلم كيف أمكن شون أن يذهب لمشاهدة السينما والتسكع مع ليلى وفي اليوم التالي يسرق من مخزن والديها. كان شون يقول ما أن تقف المزرعة على قدميها مجددا سيعيد النقود لأصحابها، وسيدعها على الشرفة بشكل تبرعات مجهولة المصدر. وليلا، كنت أفكر بطريقة ملائمة لسداد المبلغ لآل بيرغسون، وهكذا كان ألمي يخف. وبغضون شهور، سأبلغ الرابعة عشرة وأشغل عملا في “احمل سلة”. وسأدخر كل مكاسبي من أجل آل بيرغسون. وبالتعاضد مع شون، ربما يمكننا سداد هذا الدين حتى قبل أن يلاحظا المبلغ الناقص.

بالأمس انتهى والدي من ملجأ العواصف. دخلت إليه ولاحظت أنه أضاف هياكل أسرة ولوازما ليلية ومرايا وخزائن من خشب قديم كان متراكما قرب البيت الزجاجي المهجور. كان كل شيء رطبا ومبلولا، مثل جو الصباح الباكر. جلس الوالد على هيكل أحد الأسرة ولبث في الملجأ لعدة ساعات. أحيانا كان ينام هناك، تحت الأرض. في تلك الليالي، كنت أرقد بسريري وأحدق بالسقف وأتخيل والدي وهو يتحول لشجرة سنديان لها جذور عميقة وقديمة، بحيث لا يمكن لأحد، ولا حتى أصحاب المصارف، أن يقتلعوه من أرضه.  

من موقفي في أعلى السلالم، شاهدت أمي وأبي على الكنبة وهما يتجادلان في الظلام. كانت الوالدة تقرأ النفقات من دفتر الشيكات، وتبحث عن مصدر لمزيد من النقود. وفي حضن الوالد ملاحظة عن الإفلاس وقد رأيتها مسمرة على الباب لدى عودتي من المدرسة.  وكان المصرف ينوي أن يأتي لعقارنا في نهاية الأسبوع لمصادرته. رغبت أن أشترك باجتماع العائلة، ولكن الوالدة ألحت أن أذهب للنوم، وهذا يعني أنها تفكر بالإفصاح عن أشياء لا يفيدني الاستماع لها.

قالت الوالدة:”كيف نتصرف؟”. وأحاطت وجهها بيديها. وخلال دقيقة كانت تبدو لي كأنها صغيرة في طفولتها.

والآن، كل حقلنا تغلبت عليه اللفحة. وحتى بعد أن اشترى شون بعض مضادات اللفحة ورشها على الزهور، واصلت اللفحة الانتشار. وأنفقنا من النقود أكثر مما جنيناه من حصاد هذا العام. مزرعتنا تتعفن. وكل عطلة أسبوع، عوضا عن أن نذهب إلى سوق المزارعين لبيع أزهارنا المريضة، كنا نقف على جانب الطريق، لبيع ممتلكاتنا. كنت أكره البيع في الباحة، أنا وشون نقف قرابة مقبرة ألعابنا، بانتظار شخص ما يقف ويقدم لنا ربع دولار لقاء مصباح إنارة ملون مكسور.

كان الوالد يجلس منتصب القامة في موضعه، ويعقد ذراعه اليتيمة على صدره. كانت له دوائر سود تحت عينيه. ويقول:”آسف”. على ماذا يتأسف: إنفاق نصف نقود قيمة أقساط بيتنا على سيل لا ينقطع من الشراب. فقد سمع صاحب مخزن الشراب بمشكلتنا المالية وأراد أن ندفع له كل شيء قبل أن نفلس.

أسدلت الوالدة يديها من فوق وجهها ونظرت لوالدي، بل نظرت من خلاله. وقالت:” أنا لا أستوعب ماذا جرى لك”.

“لم أخطط لهذه النهاية”. ونفض والدي كتفه الأبتر. وأضاف:” ألا تلاحظين العار الذي يغطيني؟. وكم أنا مضطرب لقلة حيلتي؟. وشعوري أنني قليل الفائدة”. وفكرت أن أصعد إلى الطابق الأعلى حيث همد والدي بكرسيه البسيط. ووددت أن أنطوي على نفسي بقربه حيث يفترض أن تكون ذراعه المفقودة. وأن أملأ المكان الفارغ بسبب هذه العاهة.

وسمعت صوت فتح الباب، ومن حيث كنت أختبئ في أعلى السلالم، رأيت شون يدخل إلى غرفة المعيشة وتفوح منه رائحة الغاردينيا، مثل ليلى.

نهض والدي من كرسيه وقال:”أين كنت؟.آل لانكاستير أتوا وقالوا إنك لم تظهر لتساعد في تعشيب حقولهم”.

قال شون:”أعتقد أن الوقت سرقني”. وتخلى عن سترته.

قال والدي وهو يغمز:“المزرعة ستغلق إن لم نوفر النقود.كنت أتوسل إليهم لتأمين عمل لك”. كان يعلم أن هذا الكلام يؤلم شون.

نظر شون لأمنا وقال:”ماذا يعني إغلاق؟. أمس أحصينا نقودنا. ولدينا ما يكفي”. نظرت الوالدة لمكان وقوف أبي في المطبخ، كان رأسه محنيا في ضوء الثلاجة. وأخبرت شون بجناية الوالد. وانهار وجه شون.

قال الوالد:”آسف يا شون”. كان صوته ناعما مثل تراب يغطي قبرا حديثا. وتابع:” لم يكن أمامي حل آخر”. وأمس شاهدت استمارة طلب عمل مهملة في زاوية ملجأ العواصف وهي بخصوص مخزن الأعمال الشاقة . كان والدي قد بدأ بكتابتها ولكنه توقف لأنه لم يتمكن من تدوين اسمه بيده اليسرى.

قال شون بكلمات متتالية:”لقد قررت. منذ اللفحة، لا تفكر إلا بنفسك. وكنت أتحمل مسؤولية كل شيء وأنت مختبئ في ملجأ العواصف”. وقف شون بجانب أمي، ولبعض الوقت رأيت شون والوالد يتبادلان الإمكانيات العضلية، الوالد ينحدر لصباه وشون ينتصب بقامته ويقف متأهبا.

واحمر وجه والدي كما يحصل دائما إذا شعر بالإحراج. وقال:”آسف”.

“هذا كل ما لديك؟. آسف؟”. وضغط شون قبعته على جبينه. كان وجهه أحمر وتقريبا قرمزيا. كانت ذراعا شون قويتين الآن ولهما عضلات بسبب العمل.  إذا لمسته أشعر بالقسوة التي لم تكن لديه.

استدار شون نحو والدي، ورفع قبضته اليمنى، ولكن الوالد حرك ذراعه السليمة بسرعة ولم يترك لشون فرصة للدفاع عن نفسه. وسقط شون على الأرض، وغطى خده. ونهض على قدميه وألقى والدي على الأرض وبدأ يضربه، وامتلأ بيتنا بصدى اللطمات. وأسرعت نحو أسفل السلالم، ولكن الوالدة وجهتني لأعود إلى مكاني، وأن ألجأ إلى غرفتي. وقفت بظل السلالم، وأنا أنظر لعائلتي.

سألت الوالدة والدي إن كان أحمق أم أنه غبي. وبدأ الوالد يعتذر لشون لأنه ضربه، ولكن شون بصق من فمه الدم وغادر من الباب بسرعة. وشاهدت نور مصابيح شاحنته وهي تنير محصولنا الفاسد، وهرعت الوالدة خلفه، وهي تناديه باسمه. ولأول مرة، أرى وجه أبي الأسود وعينيه المذهولتين وكان ينظر من نافذة المطبخ، ولاحظت أنه رجل مكسور. 

بعد عدة ساعات أغلق شون باب غرفته بقوة وسمعته يبكي. تسللت من سريري إلى سريره. وتسلقت السرير وأصبحت قربه مثلما كنا نفعل بيفاعتنا حينما مرضنا بوقت واحد، واستلقى كلانا على هذا السرير، ونحن نعاني من الحمى والأحلام الكابوسية والنكاف.

قال:”انصرفي يا صاحبة الوجه النجس”. وكان صوته مكتوما، وأنفه يخن. ولكنه اقترب مني وشعرت بحرارة جسمه. كانت الكهرباء مطفأة وكان الليل مثلجا. وأمكنني الشعور بالضربة على وجه شون وهو يلف كتفي بذراعه. وسمعت صوت عراك والدي، وقبضة والدي اليتيمة تضرب الطاولة.

قلت له:”كيف سنتصرف حيال المصادرة يا شون؟. لم يعد لدينا وقت. كيف سنكسب 1000 دولار بغضون ثلاثة أيام”.

تدحرج ليواجهني في الظلام، ولم يكن بمقدوري التعرف عليه. واستغرق وقتا طويلا ليرد. فشرعت بمغادرة  سريره لأعود لغرفتي، وهنا قال:” يمكنني أن أعلم من أين نأتي بمزيد من النقود”.وخارج باب شون، كان الوالد يقف ويطلب الأذن للكلام معه، أو الاعتذار منه، وكان يرجوه أن يستجيب له. ولم أسمع والدي يتوسل لأحد هكذا. لكن شون تابع يقول:” حينما كنت مع ليلى اليوم، أخبرتني عن خزانة حديدية للنقود. وهي في الطابق العلوي، في العلية”.

قلت له ومعدتي تتوتر:”لا يمكننا ذلك يا شون. هذه مخاطرة”.

“ربما يمكننا كسر القفل”.

قلت مجددا:”شون”.

“سنفعلها في الليل. ولن يرانا أحد. وسندفع كل شيء وسيعود الحال لما كان عليه”.

وقبض شون على يدي في الظلام. وتساءلت هل هو يتصرف بهذه الثقة ويخطط بهذه البساطة ليحسن من حالتي النفسية فقط.

وسمعته يقول:”هذه فرصتنا الأخيرة”.

وتصورت حياتنا كما كانت، الوالد يستيقظ في الصباح ويذهب لسقاية الحقل، ويكون وجهه متفتحا، وغير مجهد. هذا قبل أن تحمل والدتي أشياءنا القديمة لمخزن الرهونات وتعرضها للبيع، وهكذا كان بيتنا كل يوم يزداد فراغه. كنا نشعر باللفحة وهي تشق طريقها إلى داخل بيتنا، وها هي تقضم من أطراف حياتنا. لم أكن أود أن أترك التيوليب وحدها، ولا قطرات الندى تحط على العشب وتلمع في الظلام مثل مجرة سماوية سقطت على الأرض، ولا أن أترك اللوحة التي وضعها والدي على حدود المزرعة وعليها الأحرف الأولى من اسم الوالد، هنا ذات يوم سوف تظهر الأحرف الأولى من اسم شون.

قلت له:”حسنا. حسنا”. 

وقفنا أنا وشون بالسيارة في موقف آل بيرغسون المفروش بالحصى. أمام المخزن ، في الليلة السابقة على موعد المصادرة. كان الوقت يقترب من 10:00 مساء، والمخزن معتم. وكان الحقل يمتد بكل اتجاه حولنا وتهب منه رياح حزيران الحارة، وأمكنني أن أشم رائحة آخر زهور التيوليب لهذا الموسم.

قال شون:”تذكري الخطة يا صاحبة الوجه النجس”. وترنحت ساقاه نحو الأعلى والأسفل.

أخبر شون ليلى أن تقابله بالمخزن، حيث يتسكعان بالعادة ويدخنان السجائر فوق السطح. ليلى ستفتح له باب تامخزن وسيدخلان معا. وبعد أن يصعد شون وليلى إلى السطح، سأمر من الباب المفتوح وأصعد على السلالم حيث مكان الخزانة. ولأن شون يمكنه إلهاء ليلى أفضل مني، سأقوم بكسر القفل. وأنفق شون ساعات كل ليلة على تدريبي، وأتقنت العمل بشكل جيد. سأفتح القفل بعشرين دقيقة، وإن لم أتمكن من ذلك، سأغادر وأختبئ بين الشجيرات حتى عودة شون.

 عندما توقفت ليلى بسيارتها، استلقيت في المقعد الخلفي كي لا تراني. وسمعتها تفتح الباب وتخطو إلى الداخل، وتخيلتها تقبض على يد أخي.  سمعت ليلى تكلم شون حين دخلت إلى غرفته ليلا، وأخبرته أنها تعشقه. وأعتقد أن شون يحبها أيضا، ولكنه لن يعترف حتى لو قال ذلك ضمنا. فقد كنت ألاحظ كيف يسترق النظر من الخواتم في نافذة مخزن الرهونات. سمعت الأغنيات التي كتبها عنها. كان يغنيها في غرفة نومه بالعزف على وترين من الغيتار والباب مغلق. قال شون وهو يقودنا في تلك الليلة:”سوف تفهمني”. ولكن يمكنني أن أعلم أنه لا يصدق كلامه. وحينما كان يقود حمل معه آخر زهرتي تيوليب في الموسم، بيضاوين ومريضتين تغطيهما البقع السود، وكان ينوي تقديمهما إلى ليلى.

وانتظرت حتى سمعت صوت ليلى وشون على السطح، ثم دخلت من الباب الأمامي الذي تركه شون مفتوحا. كان المخزن معتما جدا من الداخل، والسلالم التي تقود إلى العلية لها صوت صرير.

كانت الخزانة أصغر مما اعتقدت. رمادية بقفل بسيط يعمل بالأرقام السرية. أخرجت مفك البراغي، وحركت القفل نحو الأمام والخلف كما علمني شون. وكانت الخيالات التي تمر من نافذة العلية الصغيرة تتحرك فوق يدي ووجهي، وشعرت كأنني سجينة بين جدران ضوء القمر. واستعملت رأس مفك البراغي المسطح لتحريك القفل للأمام والخلف كما كان شون يقول. وحاولت أن لا أفكر بآل بيرغسون وليلى. وحاولت أن لا أفكر بالسيدة بيرغسون وكيف تزورنا في البيت قبل رقصات المدرسة لتسريح شعري فالوالدة لا تعرف كيف توضبه مثلها. أو الطريقة التي كانت تساعدني بها للتمرن على الفالس في غرفة المعيشة، حتى إذا حان الوقت، يمكنني أن أشارك الصبيان هذه الرقصة إذا طلب أحد مني ذلك.

وحاولت أن أنسى كيف أنه في الأسبوع الماضي، حينما كان شون بالعمل، توقفت ليلى عند بيتنا وعرضت علي مرافقتها للتسوق من أجل رقصات الصف السابع التي سيحين موعدها بعد أسبوعين. وشعرت بالإحراج لأن ليلى اشترت هدية لي. وبعد أن انتهينا من المتجر في الشارع الرئيسي، رافقتني إلى غرفتها وفتحت خزانتها. وبحثت بين ثيابها وبين عشرات من قمصان شون القطنية المفقودة، عن ثوب أخضر طحلبي يلائم لون عيني. وجربته، وسمحت لي ليلى أن أقف أمام مرآة الحمام، وهي تدخن سيجارتها، وأخبرتني أن الجميع سيعجب بي إذا شاركت بالحفلة الراقصة، فأنا أبدو به بغاية الجمال.

سمعت خطوات هادئة من خلفي. توقفت عن تحريك مفك البراغي وبحثت عن موضع أختبئ به. ولكن لم أجد. وانبعث من الأرض صرير مسموع كلما اقتربت الخطوات، ثم شعرت بشيء رطب وبارد على رقبتي، ولفحتني أنفاس دافئة. واستدرت وشاهدت ثورت، وكان يشم ذراعي. ربت على جبينه العريض وأخبرته أنني آسفة. ونظرت بعينيه السوداوين وتظاهرت أنني أعتذر من آل بيرغسون شخصيا، ولا بد أنهم يسمعونني بطريقة ما من خلال أذني ثورت. وتابعت تحريك مفك البراغي للأمام والخلف مجددا، ورمى ثورت رأسه علي. وتوقف عند الباب، وهو يتنفس، قبل أن يعود إلى الأسفل.

وفتح باب الخزانة بصوت قرقعة مرتفعة. ودق قلبي وأنا أفتح الباب وأحمل النقود المحزومة برزم أنيقة. وأحصيتها في الظلام، وأنا أقلب بين الأوراق النقدية. أحصيتها ثلاث مرات. هناك 1200 دولار. إنها لا تكفي لسداد ديوننا، ناهيك عن إدارة  المزرعة لعدة شهور إضافية قبل أن يتعافى الحقل من اللفحة. وسقط حمل ثقيل على كتفي مثل كيس تراب. لكن وضعت النقود في جيوبي وأغلقت باب الخزانة.

هبطت على السلالم. وسمعت أصوات شون وليلى الهامسة تأتي من السطح. كانت النقود ثقيلة في جيوبي. وذكرتني بقول شون: إذا وضعت القاذورات في جيوب ثوبك يمكن أن ينمو ثوب جديد بشكل خيط يخرج من الأرض ومع الوقت يخيط نفسه. وكنت أتجول هنا وهناك والقاذورات في جيوبي ولعدة أسابيع إلى أن اكتشفت الوالدة الموضوع،  وحينها كان ثوبي قد تلف.

وبعد أن انتهيت من السلالم، شاهد ثورت خيالي وبدأ بالنباح. وسمعت صوت ليلى تسأل شون من فوق عن سبب الصوت. وتدحرجت علبة البندورة المعدنية التي وضعها شون على عتبة الباب كي لا يقفل وأغلق الباب. ضغطت على يد الباب، ولحظة أن فعلت ذلك، انطلق جهاز الإنذار. لم نلاحظ أنا وشون وجود جهاز إنذار في المخزن مع أننا أمضينا فيه ساعات طويلة. ولم أعرف كيف أتصرف. وهرع شون برفقة ليلى إلى الأسفل. ونظر لي شون بطريقة جعلتني أشعر كما لو أنني دفنت على قيد الحياة.

قالت ليلى بصوت يعلو على نباح ثورت:”ماذا يجري؟. ماذا يحصل هنا يا شون؟”.

جرني شون من يدي. وقفزنا في سيارته وانطلق بصوت مزمجر ليبتعد عن موقف السيارات، وكانت شاحنته تنثر الحصى تحتها. قلت له:”ماذا تفعل؟. يجب أن نذهب بالاتجاه الآخر”.

“اخرسي يا صاحبة الوجه النجس. اخرسي فقط. أحاول أن أفكر”.

 انعطفنا من الزاوية قبل أن نتجه إلى البيت، وشاهدت ضوء الشرطة في المرآة الصغيرة. انعطف شون فجأة  نحو اليسار، ولكن هاك وجدنا سيارة شرطة أخرى. وقف ضابطا الشرطة على طرفي السيارة. وفتح شون الباب ببطء ويداه مرفوعتان. دفع أحدهما شون نحو الشاحنة، وكبل يديه.  الثاني، شرطية اشترت منا باقة زهور منذ سنوات من أجل تمرينات باليه ابنتها، وقد قادتني من يدي إلى سيارتها. ناديت شون وهي تجرني، ولكنه لم يسمعني.

بعد نصف ساعة، جلست برفقة شون في غرفة التحقيق في مخفر الشرطة. كانت ليلى وأسرتها هناك، وتسجلان إفادة في سجل الشرطة. وهنا سمعت السيد برغسون يقول إنه وضع جهاز الإنذار في الوقت الذي انتبه فيه لسرقة النقود من كيس المدخرات قبل أسابيع. وخلال الاستجواب، تحمل شون المسؤولية. 

قال:”إنها غلطتي. أنا الجاني”. هز شون رأسي وقبض على يدي.  والشرطية التي اشترت الزهور منا حبستنا أنا وشون في النظارة لحين حضور والدينا.

قالت ليلى:”تخيلت أنك تحبني”. وضغطت وجهها على قضبان السجن ونظرت لشون. ابتعد شون عنها وغطى وجهه بيديه. وبدت ليلى محتارة ومتألمة وهي تدخن سيجارتها وتنفخ الدخان، وكان الدخان يتعلق فوق رأسها مثل فقاعة فكرة سخيفة في مجلة مصورة.

وجاء والدانا إلى السجن قرابة منتصف الليل، وكان الإجهاد يعلو محياهما. ولدى رؤية الوالد لنا في الزنزانة، وضع يده الوحيدة على صدره، كان مضطربا من أجلنا ومحتارا من نفسه. هذه أول مرة يغادر بها البيت من حوالي شهر، وذكرني بالأرانب التي تعلق سيقانها في الفخ الذي نضعه كي لا تأكل زهورنا، وكيف تصيح حين تلاحظ قدومنا.

ودخلت شرطية بحوار مع والدينا، ولكن لم أسمع ماذا كانت تقول. وشاهدت والدي يغوص بالأرض في غرفة الانتظار بالمخفر وهو يضغط  بيده الوحيدة على الأرض، وكأنه يحاول أن يغرس جذوره. ومال شون بجبينه على قضبان الزنزانة، وكان وجهه مرهقا ومتهالكا. أما أنوار سيارات الشرطة في الخارج كانت تلمع على وجوهنا، وتنير التعب الذي نسف وجه شون، وفي تلك اللحظة لاحظت كيف أن أخي كان يذبل بشكل رجولي.

تمت إدانة شون بالعقل المدبر للخطة الإجرامية، وبقي في الزنزانة بانتظار المحاكمة. أما باعتبار أنني تحت السن القانونية، كانت عقوبتي تقتصر على العمل بالمجان في متجر آل بيرغسون حتى استعادة بعض النقود التي سرقناها. ولكن سمح لي بالعودة للبيت في هذه الليلة.

قالت الوالدة:“لماذا لم تودي إخباري بما يجري؟”. وقفنا في موقف السيارات قرب شاحنة داتسون الخاصة بالوالد. بينما كان شون يوقع عشرات الأوراق في الداخل. ونظرت أمي لي أما أنا فقد نظرت لما هو أمامي من فراغ باتجاه البيت. أضافت:”ألم أربيك لما هو أفضل من هذا؟”.

لم أعلم إن كانت تسألني أم تسأل نفسها.

في رحلة العودة، خفض الوالد صوت مذياع السيارة وثبت نظراته على ما أمامه. كان صامتا منذ أن حملني من المخفر، وحاول أن يصرف نظراته عني، كلما حاولت أن أنظر في عينيه. قالت الشرطية إن شون سيحصل على عقوبة مخففة على الأغلب بسبب الظروف، ولكن صورة شون في السجن حطت على رأسي مثل وزن ثقيل. ومددت يدي لأقبض على يد والدي قبل أن أتذكر أن ذراعه ليست في مكانها. وفي بقية تلك الليلة ولعدة شهور تالية لاحظت أنني أحاول أن أقبض على شيء غائب وأصبح في عداد العدم.

 

.......................

كايلي ونتروب   CAYLEE WEINTRAUB  كاتبة أمريكية من مواليد بروكلين في فلوريدا. وهذه القصة منشورة في ناراتيف الأمريكية. عدد تشرين الأول 2019.

 

 

في نصوص اليوم