ترجمات أدبية

الكلمة الأخيرة

صالح الرزوقبقلم: غراهام غرين

ترجمة صالح الرزوق

***

أصابت العجوز الدهشة قليلا، لأنه أصبح الآن معتادا على الأحداث الطارئة، وذلك عندما استلم من يدي أحد الغرباء جواز سفر لا يحمل اسمه، مع إذن دخول وخروج لبلد لم يتوقع أو يرغب بزيارته. كان عجوزا متقدما بالعمر، ومعتادا على الظروف الصعبة للحياة التي يعيشها بمفرده دون أي تواصل مع البشر: حتى أنه أنس لبعض السعادة من جراء الحرمان. كان لديه غرفة مفردة يعيش وينام فيها: مجرد مطبخ وحمام صغيرين. وكل شهر يصله من جهة ما لم يعرفها مبلغ إعانة قليل ولكن يكفيه. وربما له علاقة بالحادث الذي وقع له منذ سنوات وسرق منه ذاكرته. وكل ما بقي في ذهنه من تلك الحادثة صوت صاخب، وومضة نور خاطف مثل البرق، ثم ظلام طويل تملأه أحلام مضطربة وقد أفاق منها أخيرا في نفس الغرفة الصغيرة التي يعيش فيها حاليا.

قال له الغريب: "ستحظى باستقبال في المطار يوم 25 من الشهر، وستقاد لطائرتك. وفي نهاية المطاف سيقابلك أحدهم وستكون لك غرفة جاهزة. ومن الأفضل لك أن لا تتكلم مع أحد على متن الطائرة".

"الخامس والعشرون؟. هذا شهر كانون الأول، أليس كذلك؟". كان يصعب عليه معرفة أين هو من الوقت.

"طبعا".

"سيكون إذا يوم عيد الميلاد".

"عيد الميلاد لم يعد له وجود. ألغوه منذ ما يزيد على عشرين عاما. بعد حادثتك".

و بدأ يتساءل- كيف يمكننا إلغاء يوم من حياتنا؟. وبعد أن غادره الرجل، نظر للأعلى كأنه يتوقع أن يهبط تفسير من السماء، وشاهد صليبا خشبيا صغيرا معلقا فوق سريره. وكان طرف الصليب مكسورا وكذلك إحدى ذراعيه. كان قد وجد الصليب منذ سنتين، أو ربما ثلاثة، في علبة النفايات التي يستعملها بالإشتراك مع الجيران الذين لم يتكلم معهم أبدا. قال بصوت مرتفع: ”و أنت؟ هل ألغوك من حياتهم أيضا؟”.

ويبدو أنه وجد الإجابة في هذه الذراع المكسورة. “نعم”. كان هناك اتصال بينهما بطريقة ما، كأنه بينهما ذاكرة مشتركة. لكن لم يكن يربطه أاي علاقة مع جيرانه. منذ أن عاد للحياة في هذه الغرفة لم يكلم أحدهم أية كلمة، كان يشعر أنهم يخشون الكلام معه. كما لو أنهم يعرفون شيئا عنه ولكن هو بذاته لا يعرف. ربما جريمة اقترفها قبل هبوط هذه الظلمة. وكان هناك دائما رجل في الشارع ولا يعتبره من بين الجيران، فقد كان يتبدل يوميا، ولم يبادر أحدا بالكلام، ولا حتى السيدة المسنة التي تعيش في الطابق العلوي وتنشر الإشاعات. ومرة في الشارع نادته باسم - ليس المدون في جواز السفر - مع نظرة جانبية يمكن أن تقول إنها موجهة لكليهما- الرجل العجوز والرجل الذي يعمل بالمراقبة. وكان اسما شائعا جدا، وهو يوحنا.

وفي إحدى المرات، ربما لأن اليوم كان دافئا ومشرقا بعد أسابيع من المطر، وجه العجوز ملاحظة للرجل الواقف في الشارع حينما كان في طريقه لإحضار الخبز. قال له: "باركك الله يا صديقي العزيز". وقطب الرجل أساريره كأن ألما مفاجئا ما حل عليه وأدار له ظهره. وتابع الرجل إحضار خبزه وكان طعامه الدائم. وانتابه الشعور أن أحدا يقفو أثره حتى المتجر. كان كل الجو غامضا قليلا، ولكن لم يتغلغل الاضطراب إلى أعماقه. وفي مرة سابقة ذكر للمستمع الوحيد الحاضر أمامه، الرمز الخشبي المكسور "أعتقد أنهم يريدون أن يتركوني أنا وأنت وحدنا". وكان متأكدا، كما لو أنه في موضع ما من ذلك الماضي المنسي والمظلم قد عانى من عبء لا يطاق ولكن الآن قد تحرر منه.

وحل اليوم الذي يعتبره عيد ميلاد وكذلك الرجل الغريب.

-"سأقودك إلى المطار. هل انتهيت من حزم متاعك؟".

"ليس عندي أشياء كثيرة لأحزمها ولا أمتلك حقيبة".

"سأحضر لك حقيبة". وفعل ذلك. وعندما كان الرجل غائبا حزم العجوز المنحوتة الخشبية في سترته الاحتياطية اليتيمة ووضعها في الحقيبة بمجرد حصوله عليها وغطاها بقميصين وبعض الثياب الداخلية.

"هل هذا كل ما لديك؟".

"في عمري يحتاج المرء لأشياء قليلة".

"وماذا تحمل في جيبك".

"كتاب فقط".

"دعني أنظر إليه".

"لماذا؟".

"هذه هي التعليمات".

انتزعه من بين يدي العجوز ونظر لصفحة الغلاف."ليس لك الحق به. كيف وقع بيدك؟".

"إنه بحوزتي منذ أيام الطفولة".

"كان يجب أن يصادروه منك في المستشفى. سأبلغ عن المخالفة".

"لا يمكن أن تلوم أحدا. فقد حملته بالخفاء".

"ولكن أتيت مغميا عليك. ولم تكن قادرا على إخفائه".

"أتوقع أنهم انشغلوا بإنقاذ حياتي".

"هذا أسميه جريمة الإهمال".

"اأكر أن أحدهم سألني عنه. وأخبرتهم الحقيقة- كتاب عن التاريخ القديم".

"تاريخ ممنوع. سأحمله إلى الفرن لحرقه".

قال العجوز: "لكنه ليس بذي أهمية. أولا اقرأ فيه ولو القليل. وسترى".

"أنا لا أفعل ذلك. وأنا مخلص للجنرال".

"آه. أنت محق طبعا. والإخلاص فضيلة عظيمة. ولكن لا تهتم. فأنا لم أقرأ منه شيئا يذكر منذ سنوات.

وأفضل فصوله محفوظة هنا في رأسي. ولا يمكنك أن تحرق رأسي".

رد الرجل بقوله: "لا تعتمد على ذلك".

كانت هذه آخر كلماته قبل أن يصلا المطار، وهناك تبدل كل شيء على نحو غريب.

حيا ضابط بالبذة الرسمية العجوز وكان مجاملا جدا حتى أنه شعر أنه عاد إلى الماضي البعيد. يمكن القول إن الضابط حياه بطريقة عسكرية وقال: "طلب مني الجنرال أن أتمنى لك رحلة طيبة".

"إلى أين تأخذني؟".

لم يرد الضابط على السؤال، ولكن سأل الحارس المدني: "هل هذه هي كل أمتعته؟".

"كلها، لكن استبعدنا كتابه".

"دعني أفحصه". وقلب الضابط لينظر لصفحة العنوان. ثم قال: "طبعا أنت تؤدي واجبك. ولكن لا مانع من أن تعيده إليه، هذه الظروف استثنائية. فهو ضيف الجنرال، وعموما لا خطر الآن من كتاب من هذا النوع".

"القانون...".

"حتى القوانين تصبح قديمة وباطلة".

وكرر العجوز سؤاله بطريقة معدلة: "أي شركة سأسافر بها؟".

"وأنت بحاجة لتجديد معلومات يا سيدي. ليس لدينا غير شركة واحدة الآن- العالم أصبح متحدا".

"آه يا إلهي، آه يا إلهي، يا لها من تبدلات".

"لا تقلق يا سيدي، انتهى عصر التبدلات. العالم مستقر وبحالة سلم. ولم يعد للتغيير معنى".

"وإلى أين تأخذني؟".

"إلى مقاطعة أخرى. أربع ساعات طيران فقط. وبطائرة الجنرال الخاصة".

كانت طائرة مدهشة. كان فيها ما يمكن أن تقول عنه غرفة جلوس مزودة بالكراسي الواسعة، وتكفي لستة أشخاص فقط، ولكن يمكن تحويلها إلى أسرة: ومن خلال باب مفتوح وخلال مرورهم أمكنه مشاهدة حمام- لم يشاهد حمامًا منذ سنوات (الأستوديو الصغير الذي يعيش فيه مزود بالدوش فقط) وانتابته رغبة قوية لقضاء الساعات التالية ممددا في الماء الدافئ. وفصل بار الكراسي عن مطبخ، وعرض عليه مضيف خجول جدا أن يختار مما يبدو أنه شراب متنوع بعدد الأمم، لو أمكن لنا أن نتكلم عن أمم مختلفة في هذا العالم الموحد. وحتى ثيابه المتواضعة لم تؤثر بدرجة خجل واحترام المضيف. وربما هو ينكمش على نفسه لكل ضيف من ضيوف الجنرال مهما كان غير مناسب أو وضيع.

احتل الضابط مقعده على مبعدة كما لو أنه يود أن يتركه بسلام برفقة كتابه الممنوع، ولكنه شعر برغبة عميقة لهذا الهدوء والصمت. لقد تعب من الأشياء الحافلة بالمعميات: لغز الأستوديو الضيق الذي غادره، ولغز التوتر الذي لا يعلم غير الله مصدره، وهذه الطائرة العجيبة وأخيرا الحمام.. وعقله، كما يحصل غالبا، بدأ ينبش في ذاكرته، ولكنه توقف فجأة عند صوت صرير مباغت والظلمات التي أعقبته... كم عدد السنوات التي مرت؟. كان كما لو أنه يعيش تحت تخدير تام ولكنه الآن يتلاشى. وهو على متن هذه الطائرة الجبارة الخاصة انتابه دون إنذار الخوف من الذكريات التي تنتظره في حال استعادة وعيه الكامل. وبدأ يقرأ في كتابه، وانفتح أتوماتيكيا بسبب القراءة المستمرة على فقرة يعرفها عن ظهر قلب: "كان في هذا العالم الذي صنعه بيديه ولكن العالم لا يعرفه جيدا".وسمع صوت المضيف في أذنه يقول: "هل تريد بعض الكافيار، يا سيدي، أم كأسا من الفودكا، أم تفضل كوبا من النبيذ الأبيض دون نكهة؟".

ودون أن يرفع عينيه عن الصفحة التي يعرف محتواها قال: "لا، لا، شكرا لك. لست جائعا ولا أشعر بالعطش".

أعادت قرقعة الكأس التي أخفاها المضيف ذاكرته. وحاولت يده بتلقائية أن تضع شيئا على الطاولة أمامه، ولدقيقة من الوقت رأى أمامه مضيفا يعتني بغرباء أحنوا رؤوسهم، كان هناك صمت عميق ثم صدرت تلك القرقعة المخيفة وحل بعدها الظلام...

وأيقظه صوت المضيف. قال: "حزام الأمان يا سيدي. سنهبط في غضون خمس دقائق".

انتظره ضابط آخر في أسفل السلم وقاده إلى سيارة أكبر من السابقة. وحركت المراسم وآيات الاحترام والترفيه ذكرياته. ولم يشعر بالكآبة، كما لو أنه مر بكل ذلك في سنواته الماضية: وحرك يده بميكانيكية وانزلقت عبارة من فمه، قال: "أنا خادم الخادم"، وبقيت ناقصة عندما انصفق الباب.

وتحركت السيارة في الشوارع الفارغة باستثناء عدة أرتال أمام بعض المخازن. وعاد يقول "أنا خادم".

ارج الفندق كان المدير بانتظارهم. انحنى باحترام وقال للعجوز" أنا فخور باستقبال ضيف الجنرال شخصيا. وأتمنى أن تجد المكان مريحا خلال إقامتك القصيرة. كل ما عليك أن تأمر...".

ونظر العجوز بدهشة للطوابق الـ 14. وسأل: "كم ستطول إقامتي هنا".

"أنت حجزت ليلة واحدة".

وقاطعهما الضابط بسرعة قائلا: "و هذا يسمح لك بلقاء الجنرال غدا. أراد أن ترتاح الليلة جيدا بعد عناء رحلتك". وبحث العجوز في ذاكرته وتذكر اسما. كأن ذاكرته تعود له بأجزاء مكسرة.

"جنرال ميغريم؟".

"كلا. كلا. الجنرال ميغريم مات منذ 20 عاما مضت".

وحياه حارس وقف على الباب ببذته وذلك حينما دخلوا إلى الفندق. وكان الاستقبال جاهزا مع المفاتيح. قال الضابط: "سأدعك هنا، يا سيدي، وغدا سأحضر لأرافقك في الساعة 11. الجنرال سيقابلك في 11.30".

وقاده المدير إلى المصعد. وبعد أن ابتعد كلاهما بأمان التفت موظف الاستقبال إلى الضابط وقال: "من يكون هذا السيد؟. ضيف الجنرال؟. من هيئة ثيابه يبدو أنه معوز جدا".

"هو البابا".

"البابا؟. أي بابا؟". سأل الاستقبال، ولكن الضابط غادر الفندق دون أي رد.

وعندما غادر المدير انتبه العجوز أنه مرهق، ورغم ذلك فحص ما حوله بدهشة. وتلمس الفراش الطري السميك على السرير المزدوج. وفتح باب الحمام وشاهد طيفا من القوارير الصغيرة. وأقلقه أمر واحد وهو إخراج الرمز الخشبي الذي خبأه بحرص. وضعه أمام المرآة على طاولة الزينة. وألقى ثيابه على كرسي وكما لو أنه يطيع أمرًا تمدد على السرير. لو أنه فهم أي شيء مما يجري، لما قاوم النوم عينيه. ولكن أن لا يفهم أي شيء لم يمنعه من الاسترخاء في الفراش، ثم حل عليه النوم مباشرة، ومعه الأحلام، وعندما استيقظ تذكر جزءا منها.

كان يتكلم - وشاهد هذا بوضوح- وكلامه كان في اسطبل واسع لجمهور لا يزيد على دستة من الأشخاص.

على أحد الجدران صليب أبتر مع قامة شخص بذراع واحدة، مثل الذي أخفاه في حقيبته. ولكنه لم يتذكر ماذا قال، لأن الكلام كان بلغة - أو عدة لغات- هو لا يعرفها أو لا يتذكرها. وبدأ حجم الإسطبل ينكمش حتى أصبح لا يزيد على مساحة الأستوديو الصغير الذي أتى منه، وأمامه ركعت امرأة مسنة بجانبها بنت صغيرة. ولم تكن البنت على ركبتيها، ولكن نظرت إليه بنظرة استهانة وكان يبدو كأنها تقول له بصوت مسموع: "لم أفهم كلمة مما تقول. لماذا لا تستطيع أن تتكلم بشكل مناسب؟".

واستيقظ على إحساس مقلق بالسقوط واستلقى على سريره بيأس دون أن ينام في محاولة ليجد طريقة يعود بها إلى أحلامه ويبادل الطفلة كلاما يمكن أن تفهمه. حتى أنه جرب بعض الكلمات العشوائية. قال بصوت مرتفع: "باكس*" (آلهة السلام - المترجم). ولكنها كلمة أجنبية حتى على مسمعه. جرب غيرها "حب". وخرجت من بين شفتيه بسهولة، ولكن بدت له الآن كلمة شائعة تحتمل المعاني المتناقضة. ووجد أنه لا يعرف معناها شخصيا. فهي شيء ليست لديه عنه خبرات مؤكدة. ربما- قبل الصرير المفاجئ والظلام الذي تلاه - كان لديه طرف خيط، ولكن لو أن الحب له أهمية حقيقية لا بد إلا وأن تبقى ذكرى صغيرة منه.

وقاطع أفكاره المضطربة دخول النادل الذي أحضر له صينية مع قهوة وأنواع من الخبز والكرواسان لم يسبق له رؤيتها في المخبز الصغير الذي يحصل منه على وجباته القليلة.

قال: "طلب مني الكولونيل أن أذكرك يا سيدي أنه سيكون هنا في الـ 11 ليرافقك إلى الجنرال وثيابك الخاصة بهذه المناسبة جاهزة في الخزانة. إن نسيت أن تحضر معك شفرة للحلاقة بسبب السرعة ستجد شفرة وفرشاة وكل ما يلزم في الحمام".

قال للنادل: "ثيابي على الكرسي"، وأضاف على سبيل طرفة ودية: "عموما لم أحضر إلى هنا وأنا عار تماما".

رد يقول: "و لكن أخبروني أن أتخلص منها. وكل ما تحتاج له موجود هنا". وأشار للخزانة.

نظر العجوز لسترته وسرواله وقميصه وجوربيه. ولمرة إضافية حينما التقطها النادل بحذر، عادت له نفس الفكرة: أن الثياب تحتاج للغسيل. ولم بجد حكمة في سنواته الأخيرة من هدر تقاعده البسيط في المغاسل. فهو لم يكن يقابل من الناس وبانتظام غير الخباز، وبعض الرجال الذين يؤمنون به ويتبعونه، وأحيانا جاره الذي يتعمد أن لا ينظر إليه وحتى أنه يعبر الشارع ليتحاشاه.

يمكن للثياب الحديثة أن تكون ضرورة اجتماعية عند الآخرين، ولكن لم تكن لديه حياة اجتماعية. ابتعد النادل عنه فوقف بسرواله الداخلي يفكر بهذه المعميات. ثم جاءت دقات على الباب ودخل الضابط الذي أتى به.

"لماذا لم ترتد ثيابك بعد. ولم تأكل شيئا. الجنرال ينتظرنا بوقت محدد".

"النادل أخذ ثيابي".

"ثيابك في الخزانة". وفتح الباب وشاهد الرجل ثوبا أبيض وقبعة بيضاء. قال: "لماذا؟. ماذا تريد؟. ليس من حقي أن...".

"الجنرال يريد أن يكرمك. وسيكون هو ببذة كاملة أيضا. وهناك حرس شرف بانتظارك. عليك أن ترتدي بذتك مثله".

"بذتي؟".

"أسرع واحلق ذقنك. سيكون هناك بالتأكيد التقاط صور للصحافة العالمية. صحافة العالم الموحد".

أطاع النصيحة وفي غمرة اضطرابه جرح نفسه بعدة مواضع. ثم دون رغبة منه ارتدى ثوبه الأبيض وقبعته البيضاء. وكانت هناك مرآة طويلة على باب الخزانة فتفحص نفسه بها.

قال: "أبدو مثل كاهن".

"كنت كاهنا. واستعرنا هذه الأثواب من متحف البشرية العالمي لأجل هذه المناسبة. مد الآن يديك".

ففعل. كانت السلطة تتكلم. ووضع الضابط خاتما حول أحد أصابعه.

قال: "اضطر المتحف لإقراضنا الخاتم. تحت إصرار الجنرال. فهذه مناسبة لا تتكرر. من فضلك اتبعني".

وعندما هما بالمغادرة لفت انتباهه الرمز الخشبي الموضوع على طاولة الزينة. فقال: "لم يكن حريا بهم أن يسمحوا لك بحمله معك".

لم يرغب العجوز بالتسبب بمشاكل لأحد. قال: "أخفيته بحذر".

"لا عليك. يمكن القول إن المتحف سيسره أن يضمه لمجموعته".

"ولكن أريد أن احتفظ به".

"لا أعتقد ستحتاج إليه بعد أن تقابل الجنرال".

مرت السيارة عبر عدة شوارع خالية وغريبة قبل أن يبلغوا ساحة عريضة. وأمام ما يبدو أنه كان في أحد الأيام قصرا وقف صف من الجنود وهناك توقفت السيارة. قال له الضابط: "سنحط رحالنا هنا. لا تتوتر.

الجنرال يريد أن يستقبلك بحرس الشرف استقبالا مناسبا مثل رئيس دولة سابق".

"رئيس دولة؟. أنا لا أفهم".

"من فضلك. تقدمني".

أوشك العجوز أن يتعثر بالثوب لولا أن الضابط أمسك ذراعه. وما أن انتصب بقامته هناك بلغه صوت صرير وكاد أن يسقط للمرة الثانية. وفجأة عاوده ذلك الصوت الثاقب الذي سمعه سابقا، قبل أن يلفه بين طياته الخطر المجهول، لكنه الآن تضاعف عدة مرات. وتذكر الصدمة التي أوشكت أن تهشم رأسه وتشطره نصفين ومن تلك الفجوة بدأت ذكريات حياته تتسرب. وكرر: "أنا لا أفهم".

"هذه تشريفات".

نظر للأسفل نحو قدميه وشاهد ثنيات الثوب. لاحظ يديه وشاهد الخاتم. وانبعث صوت معدني. كان الجنود يقدمون سلاحهم.

ثم استقبله الجنرال باهتمام وعبر عن رأيه بصراحة فقال: "أريد أن تعلم اأني لم أكن مسؤولا عن محاولة قتلك بأي شكل. كان خطأ جسيما ارتكبه واحد ممن سبقوني، وهو الجنرال ميغريم. الأخطاء الجسيمة يمكن أن تقع في الأيام اللاحقة لأي ثورة. واستغرقنا مائة عام لتأسيس عالم موحد وسلام دولي. بطريقته كان ميغريم خائفا منك ومن الأتباع القليلين الذي استمروا معك”.

“خائف مني؟".

"نعم. يجب أن تفهم أن كنيستك مسؤولة عن عدة حروب تاريخية. نحن ألغينا الحرب".

"ولكنك جنرال. وشاهدت في الخارج عددا من الجنود".

"هم باقون لحماية السلام العالمي. وربما بعد مائة عام سيختفون أيضا مثل كنيستك".

"وهل اختفت كنيستي؟. ذاكرتي تخونني منذ فترة بعيدة".

قال الجنرال: "أنت آخر مسيحي على قيد الحياة. أنت شخصية تاريخية. ولهذا السبب رغبت بأن أحتفل بك".

وأخرج الجنرال علبة سجائر وقدمها له. وقال: "هل تود أيها البابا يوحنا أن تدخن معي. وآسف لأنني نسيت رقمك المتسلسل. هل أنت يوحنا الرابع عشر؟".

"البابا؟. آسف لأنني لا أدخن. لماذا تقول عني البابا؟".

أشعل الجنرال سيجارة وتابع: "أنت آخر بابا ولكنك لا تزال تحمل هذه الصفة. ويجب أن تعلم أننا لا نحمل ضغينة ضدك شخصيا. كانت لك منزلة عظيمة. ونحن نشترك بالعديد من المطامح. وبيننا أشياء متشابهة. وهذا أحد الأسباب التي جعلت الجنرال ميغريم يعتقد أنك عدو خطير. وما دام لديك أتباع أنت تمثل الخيار الثاني. وما دام هناك مجال للاختيار ستكون هناك حرب. ولكن أنا لا أوافقه على أسلوبه. أن يطلق عليك النار بتلك الطريقة السرية كما كنت تقول- أينحصل؟".

"في صلواتي؟".

"لا. لا. كان احتفالا عاما يحرمه القانون". وشعر العجوز أنه خسر. سأل: "صلاة الأحد؟".

"نعم. نعم، أعتقد أنها الكلمة الصحيحة. المشكلة في ترتيباته أنها يمكن أن تحولك إلى شهيد وتؤخر برنامجنا بما فيه الكفاية. من المؤكد أنه كان هناك دستة من الناس في - ماذا قلت عنه؟. صلاة الأحد. ولكن هذه الطريقة خطرة. وأدرك خليفة الجنرال ميغريم ذلك، أما أنا فقد تبعت الخط الآمن. لم نسمح للصحافة أبدا أن تشير لك ولو إشارة عابرة. أو لحياتك الهادئة بعد التقاعد".

"لا أفهم أبدا. اغفر لي. ولكن بدأت أتذكر بعد أن اطلق جنودك النار الآن...".

"حافظنا عليك لأنك كنت آخر زعيم لأولئك الذين يسمون أنفسهم مسيحيين. البقية انسحبوا دون مقاومة. يا لها من حزمة أسماء غريبة - شهود يهوة، اللوثريون، الكالفينيون، الأنغليكان. كلهم مع الزمن ماتوا على التوالي. أما جماعتك كانت تدعو نفسها الكاثوليك وحسب زعمهم هم الممثلون الحقيقيون لكل المسيحية رغم أن المذاهب الباقية قاتلتهم. وتاريخيا اأترض أنكم أول من نظم نفسه وكنتم تدعون أنكم أول من آمن وتبع ذلك النجار اليهودي".

قال العجوز: "أتساءل كيف كسر ذراعه".

"ذراعه؟".

"آسف. كان ذهني شاردا".

"تركنا ما بقي منك حتى النهاية لأنه لديك حتى الآن بعض المريدين ولأننا نشترك معكم ببعض الأهداف.

السلام الدولي، والقضاء على الفقر. ومرت فترة استفدنا فيها منك. استخدمناك للقضاء على الدولة الوطنية من أجل أشياء أهم. ولم تعد خطرا حقيقيا، وهذا جعل خطوة الجنرال ميغريم غير ضرورية أو على الأقل سابقة لأوانها. والآن نحن مقتنعون أن كل هذا الهراء انتهى، أصبح من المنسيات. لم يعد لديك أتباع، يا بابا يوحنا. راقبتك بدقة لما يزيد عن العشرين عاما الأخيرة. ولم يحاول شخص واحد أن يتصل بك. وليس لديك سلطة والعالم ينعم بالوحدة والسلام. وأنت لست عدوا يمكن أن نخشاه. وأنا أشعر بالأسف لك، على السنوات الطويلة والمتعبة التي مرت عليك في معتزلك. بطريقة ما الإيمان مثل التقدم بالعمر. لا يمكنه أن يستمر للأبد. الشيوعية تعبت وماتت، وكذلك الإمبريالية. والمسيحية ماتت أيضا ما عدا بالنسبة لك. وأعتقد أنك كنت بابا جيدا مثل بقية البابوات. اذهب، أنا أريد أن أمن عليك بتخليصك من تلك الظروف الكئيبة".

"أنا ممتن لك. ولكنها ليست كئيبة كما تعتقد. لدي أصدقاء. ويمكن أن أتكلم معهم".

"ماذا تعني يا رجل؟. كنت وحدك. وكلما خرجت من باب بيتك لشراء الخبز تكون وحيدا".

"كان ينتظر أوبتي. وأتمنى لو أن ذراعه غير مكسورة".

"آه، أنت تتكلم عن تلك المنحوتة الخشبية. يسعد متحف الأساطير أن يضمها لمجموعته. ولكن حان الوقت لتناول موضوعات خطيرة، بعيدا عن الأساطير. أنت ترى ذلك السلاح الموضوع على طاولتي. أنا لا أومن بعذاب الناس بلا ضرورة. مع احترامي لك. أنا لست الجنرال ميغريم. وأريد أن تموت برأس مرفوع.

تكون آخر مسيحي. وهذه لحظة تاريخية".

"هل تنوي أن تقتلني؟".

"نعم".

وشعر العجوز بالراحة، وليس الخوف. وقال: "سترسلني للمكان الذي حلمت به طوال آخر عشرين سنة من حياتي".

"إلى الظلام؟".

"آه، الظلام الذي عرفته هو غير الموت. فهو غروب للضوء فقط. وأنا شاكر لك".

"تمنيت أن تتناول آخر وجبة لك معي. كرمز. رمز على الصداقة بين اثنين ولدا ليكونا عدوين".

"سامحني، ولكنني لست جائعا. فلنبدأ بالإعدام".

"على الأقل، يا بابا يوحنا، اشرب معي كأس نبيذ".

"شكرا لك. سأقبل دعوتك".

وسكب الجنرال كأسين. واهتزت يده قليلا وهو يشرب كأسه. ورفع العجوز كأسه كما لو أنه يحييه. وقال بصوت خافت بعض الكلمات التي لم يسمعها الجنرال كما يجب، فقد كانت بلغة لم يفهمها. 'Corpus domini nostri ليحفظ جسد يسوع روحك...".

وما أن شرب عدوه المسيحي الأخير كأسه، حتى أطلق النار. وما بين الضغط على الزناد وانفجار الرصاصة مر بذهنه شك غريب ومرعب وتساءل: هل ميمكن أن ما يؤمن به هذا الرجل شيء صحيح؟.

 

 

في نصوص اليوم