ترجمات أدبية

يتشيزار أنغيلوف: وجهات

بقلم: يتشيزار أنغيلوف

ترجمة وتقديم: خيري حمدان

***

وجهات

أخذت أمنيتي بالسفر حول العالم تتحقّق في مرحلة متأخّرة نسبيًا من العمر. الحقيقة أنّني أمضيت الثلاثين عام الأولى من حياتي ونيّف في دولة يحظر نظامها السياسي منح حرية التنقل والسفر لمواطنيها بأيّ شكلٍ من الأشكال، لكن وبعد بدء المرحلة الانتقالية وجدت نفسي معدمًا من المال ولا أقوى على تحقيق رغبتي بالسفر قدر ما أشاء. مرّت سنوات طويلة قبل أن أباشر العمل لدى شركة تتطلب مهامها السفر باستمرار كجزء من الوظائف الأساسية. كان عليّ الاستعداد للمغادرة إلى الخارج في أيّة لحظة للمشاركة في المؤتمرات المنعقدة في مختلف المدن الأوروبية. أصبحت المطارات والفنادق والطائرات جزءً لا يتجزّأ من المهنة واللعبة التي تدفع الشركة قيمتها بسخاء لقاء  مشاركتي.

أدركت أخيرًا أنّ أمنيتي قد تحققت.

أطير كلّ أسبوع إلى مكانٍ ما، ألتقي مع زملاء وعملاء وشركاء. نعمل وفقًا جدول مهامنا وغالبًا ما نستأجر صالة في فندق أو نستخدم مكتب الشركة إذا تواجد مثله في المدينة. وأحيانًا نلتقي في أحد مطاعم المطار وبعد الانتهاء من أعمالنا ينطلق كلّ منّا في طريق العودة. وبعد أسبوع أو أسبوعين نعيد الكرّة ثانية في مدينة أخرى.

لم يمضِ وقتٌ طويل حتى باتت عمليات التنقل والترحال ما بين المدن في مختلف القارات عملا رتيب، وازداد تعداد نقاط الوفاء والتخفيضات والأولويات لدى شركات الطيران. ممارسة العمل على هذه الشاكلة يؤثّر من دون شكّ على سلوك المرء ونمطية حياته وتدريجيًا تخون المعني رغبته المبدئية برؤية معالم المدن التي يزورها. وفي أحد الأيام سيكتشف أنّه قد بات يفضّل الفنادق القريبة من المطار. يجري اللقاءات المطلوبة في أروقة الفندق، يتناول الطعام هناك وتأخذ مظاهرُ التواصل الاجتماعي بالتراجع لتنحصر أخيرًا في مجموعة قليلة من الناس الذين لا يعرفهم شخصيًا، لكن يمكن تمييزهم بجدارة عندما يلقاهم، وهم بدورهم يمارسون أعمالهم وحياتهم بذات الطريقة، عدا عن ذلك تجد الجميع معجبين بنمط الحياة هذا.

تدرك أخيرًا أنّ الحشد المتواجد في مرافق ومعابر المطار هي جزء من واقع الدنيا التي ولدت فيها وتعيش فيها ولكن بصورة مكثّفة للغاية. هذا المكان تحديدًا يمثّل كافّة الجنسيات والأعراق والشعوب. يتنقّلُ فيه السويّون والمرضى والمخبولون والأصحاء والحزانى والفرحون المبتهجون. وفيه يلتقي المجرمون والمحتالون والعاشقون وبائعات الهوى. جميعهم هناك مسافرون إلى مكانٍ ما. الحشود في المطارات وداخل الطيارات نادرًا ما يتبادلون الحديث، لكن يصدف أحيانًا أن يلتقي البعض بآخرين يذكرونهم لوقتٍ طويل بغضّ النظر عن طبيعة هذه الذكرى سواءً كانت طيّبة أو مسيئة. وأحيانًا تصبح المطارات معقلا لأحداث ذات طابع سوريالي. 

اضطررتُ مرّة للسفر إلى فيينا في أولى الرحلات الصباحية. كانت الأجواء باردة وعاصفة وتراكمت كثبان الثلوج في كلّ أنحاء أوروبا. الحقيقة أنّني رأيت الثلج للمرّة الأولى في فيينا. التقيت في الفندق المتواجد هناك بالقرب من مخرج المطار بالأشخاص المعنيين برحلة العمل. أنجزنا المهمة المطلوبة وبات بإمكاننا الطيران عائدين. انشغلت بعض الوقت في أحد مقاهي المطار وكان لديّ الوقت الكافي لأمتطي طائرة المساء، وعندما توجّهت أخيرًا للممرّ المخصّص حسب الجدول تبيّن لي أن المطار قد أغلق وخضع لتنظيف مدارجه من الثلوج. اقترحوا عليّ أن أغادر في رحلة الصباح من اليوم التالي وأن أحصل على بطاقة مجانية للمبيت في الفندق المتواجد على بعد ثمانون كيلومتر من المطار.

- شكرًا لتفهّمكم. تشهد المدينة في هذه الأوقات أربعة مؤتمرات دولية وتصفيات رياضية نهائية.. ثمّ هذا الثلج المتراكم! لقد ألغيت كافّة الرحلات ولا توجد غرف فارغة في الفنادق المتواجدة بالقرب من المطار. يمكنكم بالطبع الحصول على بدل خدمة أجرة النقل.

- لا شكرًا، سأبقى في بهو الانتظار. طائرتي ستقلع غدًا صباحًا.

- كما تشاؤون. المسافر التالي لو سمحت!  

أنهيت اجراءات معاينة جوازات السفر ودخلت إلى المعبر المخصص لتوجّه المسافرين إلى الطائرة صباح اليوم التالي. كان عليّ أن أجد مكانًا مناسبًا لقضاء ساعات الليل هناك. أعرف مكانًا قصيّ في أحد الأركان يتواجد ما بين محلين تجاريَيْن. الزاوية المعنية هادئة وخالية من الروّاد لكن المقاعد المصفوفة معدودة ويصعب النوم فوقها.

التقيت هناك شخصية بدت للوهلة الأولى غريبة الأطوار، رجل يرتدي بنطالا قصيرًا مزيّن بألوان علم إيطاليا يمتدّ لما فوق الركبتين بقليل، وقبعة تزلّج على الثلج موسومة بأحرف كلمة ATOMIC بالبنط العريض. لا بأس، فنحن في النمسا على أيّة حال. كما يرتدي الرجل سترة صيفية خفيفة لا تليق بفصل الشتاء البارد ويبدو في رحلته هذه متحرّرًا كالطيور ولا يحمل حتى حقيبة يد. لاحظت بأنّه يبدي اهتمامًا بالأحرف البلغارية المطبوعة على جواز سفري الذي أحمله بيدي. وجّه لي حديثه باللغة الروسية قائلا:

- استقرّ في أحد المقاعد قبل أن يشغرها المسافرون، فبانتظارنا ليلة طويلة ويمكننا في الأثناء تبادل الأحاديث.

- شكرًا، لكنّي لا أتقن اللغة الروسية.

- وكيف هذا؟ ظننت أنّ كافّة المواطنين في بلغاريا يتقنون الروسية. أنا لا أصدّقك، لكن يمكننا على أيّة حال التواصل باللغة الإنجليزية وسنجد طريقة للتفاهم. أنا من أوكرانيا قادم من هافانا. أمضيت هناك إجازتي وأجّلت رحلتي إلى الغدّ. سلّمت متاعي وملابسي مباشرة إلى كييف، وكنت قد احتفظت بسترة وبدلة رياضة في حقيبة صغيرة لأرتديها في فيينا، لكنّي نسيتها في الطائرة المنطلقة من هافانا. أخبروني بأنّهم سيشحنوها خلال 48 ساعة، لكن ما حاجتي لها بعد يومين؟ سهرنا ليلة الأمس مع أصدقائي الكوبيين لوقتٍ متأخّر من الليل وانطلقت إلى المطار كما ودعتهم وكما تراني الآن. لديّ ما يكفي من المال وأربعة بطاقات إئتمان إحداها ذهبية، لكن في هذا المعبر لا توجد محلات لبيع ملابس رجالية، ولا يسمحون لي بالانتقال إلى المحلات الكبرى خلف المعبر من دون تأشيرة دخول نمساوية. لو يفعلون لاشتريت سترة شتوية وقبعة وجوارب دافئة. أرجو أن أنجو بملابسي هذه!

- لدينا ما يكفي من الكونياك، لا بأس سننجو من دون شكّ. حاولت أن أضفي على حديثنا بعض الحسّ الفكاهي.

- احجز مكاني لو سمحت، سأحاول الحصول على بعض الطعام مقابل القسائم التي قدموها لنا. المسافرون يواصلون القدوم وقد نفقد أماكننا.

أنقّل أنظاري في الملجأ الذي عثرنا عليه لأتبيّن ولحسن الحظّ أنّ هذا الركن خفي عن الأنظار فهو يفصل ما بين محلين تجاريين تتواجد أمامهما عربات تسوّق، وعلى الأرجح فإنّ المسافرين العابرين لهذا المرفق للمرّة الأولى لن يلاحظون هذه المقاعد المصطفّة.

عاد صاحبي الجديد الذي أجهل اسمه بعد نصف ساعة بصحبة رجل وامرأة يرتديان مثله ملابس غريبة. يعتمر الرجل قبعة إيرلندية وفي قدميه جوارب ثقيلة وتنورة اسكتلندية وسواه من الرداء غير التقليدي. لكنّ المرأة تبدو أنيقة للغاية وترتدي ملابس ثمينة بما لا يتناسب مع هذا المعبر. أدركت ببطء أنّها ترتدي ثوب زفاف ومن فوقه فيزون من جلود المنك  وفي قدميها حذاء رياضي ثمين وفي شعرها وردة.

- عقدنا القران قبل بضعة ساعات في سلوفاكيا في الطرف الآخر من الحدود النمساوية، زوجتي سلوفاكية. سنمضي شهر العسل في كانكون في المكسيك. لكن وعلى ما يبدو سنقضي أولى ليالي حياتنا الزوجية معكم. ظننت بأنّني قد وضعت بنطالَيْ جينز في حقيبة اليد لكنّي لم أعثر على أثرٍ لهما! لا بأس. 

تحدّث الرجل بلكنة إنجليزية لطيفة وأظنّه قد جلس في مقاعد مدرسة خاصّة لسنوات طويلة ونال شهادته العليا من جامعة عريقة ليتمكّن من الحديث بهذه الأناقة والثقة، التي تختلف بالكامل عن لغة الشارع والملاعب الرياضية.

- بل تبدوان في منتهى الروعة، لكن أين نصلك. عادة ما تتماهى التنورة الاسكتلندية بالسكين على الخصر؟ كيف ستتصرفون الآن إذا صادفتم مواطن بريطاني؟ ابتسم العريس وقال:

- لا عليك، ما أن أهدر بصوتي“Freedom“ حتى ترى البريطانيين يسّاقطون خوفًا على الأرض.

- أمامنا عشر ساعات قبل أن يسمحوا للطائرات بالاقلاع إذا سمحوا بذلك على أيّة حال. ما رأيكم أن نقيم احتفال بمناسبة عقد الزفاف؟ تدخّل الأوكراني قائلا:

- نعم، هذه فكرة رائعة. أفاد الأسكتلندي بأنّه يملك قارورة ويسكي في حقيبة اليد وما أن سمع الأوكراني هذا الخبر حتى انطلق من فوره تجاه المحلات التجارية ثمّ عاد بعد قليل يحمل حزمة من علب البيرة.

بدت شلّتنا في أنظار الآخرين لوحة سيوريالية. أنا أرتدي بذلة سوداء وقميص أزرق فاتح وربطة عنق، الأوكراني كأنّه ذاهب لصالة الرياضة والزوجان كما ذُكرَ أعلاه. أخرجت العروسُ جهازَ الحاسوب، شغّلته وانطلق منه صوت بوب ديلون  وقالت:

- أنا وزوجي نعشق هذا الفنان، جمعت في حاسوبي كلّ ألبوماته.

حضر أعضاء أمن المطار إلينا، راقبونا لبعض الوقت ثمّ ابتسموا من تحت شواربهم وتركونا وشأننا. الحقيقة أنّني قد التقيت بأصدقائي الثلاثة للمرّة الأولى وها نحن نستمع لبوب ديلون ونحتسكي الشراب ونتبادل الأحاديث. نعم، نتبادل الأحاديث على الرغم من اختلاف الفئات العمرية وانتمائنا لدول مختلفة، لكن في جعبتنا الكثير من الحكايات.

اندلع جدال ما بين الأوكراني والعروس السلوفاكية بشأن الأدب الكلاسيكي إبّان حقبة الإمبراطورية الروسية وتبيّن بأنّها تحضّر أطروحة دكتوراه تتناول نتاج الشاعر الأوكراني تاراس شفتشينكو المعروف باسم "كوبزار". أخطأت العروس حين أكّدت على أنّه أحد أهمّ الشعراء الروس خلال القرن التاسع عشر، وبدا صاحبنا الأوكراني فاقدًا لأعصابه، وأوضح لها الرجل أنّ دواوين كوبزار متواجدة في كافّة المنازل الأوكرانية، أمّا الروس فلا يفقهون شيئًا.. لكنّهما سرعان ما سكنا وتجاوزا هذا الخلاف.

نرفع أنخاب صحّة العروسين وبين الحين والآخر يظهر طاقم البوليس المناوب ما بين عربات الأمتعة. ينظرون إلينا باهتمام بالغ، يبتسمون ثمّ يمضون في طريقهم. أتينا على قارورة الويسكي وامتدّت أيدينا بعد ذلك لعبوات البيرة. نامت العروس بعد منتصف الليل بقليل واختفى الأوكراني في دورات المياه ليعود بعد ذلك يحمل بين يديه حزمة جديدة من عبوات البيرة. غريب، من أين يشتريها في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

تجدّد الخلاف والنقاش هذه المرّة ما بيني وبين الأسكتلندي وديلون هو محور الحديث، هل هو شاعر أم موسيقي؟ كلانا يدرك جيّدًا أنّ الجدل عقيم ولن يؤدّي لأيّة نتيجة، في تلك الأثناء واصل ديلون رفضه لنيل جائزة نوبل. ثمّ همس الأسكتلندي قائلا:

- أتدري، أريد أسرة كبيرة والكثير من الأبناء وأريد كذلك ن أدوّن كتاب. سأكتبه ذات يوم. سأصدر مؤلفًا عن خطاب رجال السياسة المعسّل، وسأشير فيه إلى أنّ الناس متشابهون في اختلافهم. البعض ليسوا على درجة عالية من الذكاء والمعرفة ليفهموا هذه الحقيقة. أمّا الجهلة فحدّث ولا حرج.. يبدو أنّ الخمر قد نال منّي يا صديقي! حفل زفافٍ طويل مع الأهالي وهذا السمر الآن في مطار غريب.. أشعر بالتعب.

احتسينا ما تبقّى من علب البيرة ثمّ بذلنا جهدًا أشبه ما يكون بتعذيب وجلد الذات للخلود للنوم لساعة أو أكثر.

- هل أنتم موافقون؟

- نعم، موافقون. 

أخرج الأوكراني من جيب سترته زجاجة فودكا صغيرة وردّد بالروسية بصحّتكم! أتينا على زجاجة الفودكا أيضًا. ارتسمت على وجوهنا ابتسامات خالية من أيّ معنى وبدا الحزن على وجوهنا نحن الثلاثة.

نامت العروس فوق المقاعد المعدنية غير المريحة في المعبر القديم لمطار فيينا. كنت على ثقة مطلقة من أنّنا سنتذكّر ما حيينا أولى ليالي العرس تلك بخيرها وشرّها. كان من الواضح في تلك اللحظات أنّنا غارقون جميعًا في أفكار شخصية وأنّنا منشغلون بذواتنا عن الآخرين حتى أنّنا نجهل أسماء شلّتنا التي أمضت ليلتها في معبر المطار، لكنّنا على الأرجح سنذكر معالم وجوه أولئك الأصدقاء المجهولين وأنّنا أمضينا ليلة خالدة لا تنسى معًا. 

لن يترك أيّ منّا أثرًا قادرًا على تغيير نمط حياة الآخرين لكنّ العروسين سيذكران تلك الليلة حتى يحين موعد الطلاق ومن يدري؟ هذا ليس مهمّ على أّيّة حال. أستيقظت من النوم القلق والبرد الشديد قد جمّد أوصالنا في ذلك المعبر. اختفى الزوجان والأوكراني يغطّ في نوم عميق، رأسه مسدل إلى الخف وفمه مفتوح. لم أحاول إيقاظه فليس لدينا ما نقوله ونضيفه. ثمّ أنطلقتُ في المعبر الذي يؤدّي إلى الطائرة في الوجهة المألوفة.

***

* ولد الأديب ليتشيراز أنغيلوف في مدينة إلخوفو عام 1956. أنهى دراسة الأدب الألماني في جامعة "كيريل وميتودي" المتواجدة في عاصمة بلغاريا القديمة فليكو تيرنوفو. ساهم بترجمة للغة البلغارية الأعمال المسرحية للأديب الألماني بيتر هاندكه الحاصل على جائزة نوبل عام 1979. شملت هذه الترجمات مسرحية "كاسبر"، "شتيمة الجمهور"، "التنبؤ"، "لوم الذات"، نداءات للنجدة". نشرت هذه الأعمال في أهمّ المجلات الأدبية المختصة كمجلة "آه، ماريا". صدرت مجموعته القصصية الأولى بعنوان "التفاوت في طريق باتجاه واحد" عن دار النشر "مكتبة بلغاريا". قصّة "وجهات" ضمن هذه المجموعة.  

في نصوص اليوم