ترجمات أدبية

أليخاندرا زينة: الحارس

قصة: أليخاندرا زينة

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد جاء به ذات ليلة دون سابق إنذار. كانا قد التقيا صدفة في محطة كارلوس بيليجريني. وكما يحدث  في الأفلام، كان الاثنان يسيران في اتجاهين متعاكسين واصطدما وجهاً لوجه. أشياء مثل القدر: تعيش في أكبر مدينة في البلاد وتجد نفسك فجأة تحت الأرض مع شخص لم تره منذ قرون.

وقف الرجلان عند باب المطبخ، ينتظرانها لتغلق الصنبور وتأتي لتلقي التحية.

قال إسماعيل وهو يضع ذراعه حول رجل في مثل طوله ولكنه أكثر رشاقة، ذى بشرة زيتونية وعينين خضراوين، مثل العديد من الأشخاص من المقاطعة ذوي الدم الأوروبي.

- هل تتذكرين مورين؟ كنا معًا في بويرتو بيلجرانو.

جففت أنجيلا يديها في سروالها الجينز وسارت نحوهما. لا، لم تتذكره، لكنها أومأت برأسها بابتسامة عريضة. عندما ابتسمت، لمعت عيناها الرماديتان وأضاءت قزحية عينيها باللون الأصفر مثل قطة. ومع احمرار وجهها من حرارة الفرن، بدت عيناها أكثر إشراقا. شعرت باالفرق في درجة الحرارة عندما قبل خدها، وببرودة الشارع ثم بنوع من الراحة غير المتوقعة.

سأل إسماعيل:

- هل تحتاجين لشراء شيء ما من المتجر؟

هزت أنجيلا رأسها وذهبت لتتفقد الدجاجة. لحسن الحظ أنها طهت واحدة كاملة في ذلك اليوم. وعادة ما تطبخ قطعة واحدة فقط لكل واحد منهما، ساقين وفخذين مع الكثير من الليمون، وقطعة من الزبدة، وشرائح من البصل، وشرائح من الفلفل الأحمر الحلو.

في مرحلة ما، بدأ إسماعيل في سرد القصص عندما كانا في القاعدة، وهو الشيء الوحيد الذي يربطهما، والذي تم الكشف عنه الآن مثل شيء مفقود منذ زمن طويل.لكن ذلك كان بعد تناول الدجاج والبطاطس المشوية، وبعد شرب زجاجتي نورتون التي اشتراهما الرجلان قبل الصعود إلى الشقة، وبعد تقشير ثلاث تفاحات حمراء وتقطيعها على طبق كحلوى مرتجلة وبعد أن روى الضيف قصة زيارته إلى منزل والديه في بوساداس (حيث لم يكن أحد يتوقعه) بعد أن أدركت أنجيلا من هو مورين.

- هل تتذكرين يا حبيبتي؟

في بعض الأحيان كانت أسئلة إسماعيل تحمل طابع الاستجواب، كما لو كان يختبر ذاكرتها وتركيزها.

- ماذا؟

وضعت أنجيلا مجموعة أدوات المائدة المتسخة على كومة الأطباق ونهضت من فوق  الكرسي.

- المجند الذي قتل نفسه. ياللفظاعه! لكنني أخبرتك بذلك، ألا تتذكرين؟ كنا في مهمة مراقبة، وتلقى رسالة من صديقته تفيد بأنها ستتركه .

خفض مورين رأسه، متأملا.

- في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وصل البريد وبعد نصف ساعة أطلق النار على نفسه. أليس كذلك؟

لمس إسماعيل مرفق رفيقه. أومأ مورين برأسه وهو يخرج سيجارة من جيب قميصه، وأمسكها بيده لكنه لم يشعلها أبدًا.

- من يستطيع أن يعرف لماذا يقتل الناس أنفسهم؟ ...

وضعت أنجيلا كومة الأطباق التي كانت تحملها بين يديها.

ردد إسماعيل بوقار مبالغ فيه:

– ما يقوله جندى البحريةر صحيح؛ ما وعد به قد تحقق. إن ما  فعله أمرمشرف.

وأضاف وهو يربت على جبهته:

- موسوم بالنار.

يلاحظ مورين نفاد صبر أنجيلا: فهي تريد الاستماع إليهما، ولكن في الوقت نفسه،إنها تريد الانتهاء من مسح الطاولة. يدفع مورين كرسيه إلى الخلف على قدميه.

- لا، لا، لا، سأنتهى منها .

أجلسته أنجيلا مرة أخرى، ووضعت يدها على كتفه.

- حارسه يلعق الدم.

سألت أنجيلا وهي تلتقط الأطباق من جديد:

- أي حارس؟

- الكلب الذي كان لديه مهمة مراقبة معه. عندما وصلت إلى القاعدة، خصصوا لك كلبًا، وهو كلب ألماني. كان عليك تدريبه وإطعامه وأخذه إلى بيت الكلاب. لقد اعتنيت بالكلب واعتنى الكلب بك. هكذا كان الأمر، أليس كذلك؟

سأل إسماعيل وهو يلمس ذراع مورين.

أومأ مورين برأسه وقد ضاعت نظراته على مفرش المائدة، وفتحتا أنفه متسعتان، كما لو كان يكبح مشاعره.

صرخت أنجيلا:

-  شيء مسكين.

قال إسماعيل مستغربا:

- كلب؟

صرخت أنجيلا من المطبخ:

- نعم.

سأل إسماعيل وهو يرفع صوته:

- كلب هنا ؟

أخرجت أنجيلا رأسها إلى الردهة:

- ولم لا. قهوة؟

أجاب إسماعيل دون أن يغير لهجته:

– مورين يريد وأنا أيضًا.

كان الرجلان صامتين، يستمعان إلى الأصوات القادمة من المطبخ: تدفق الماء يهتز في قاع الغلاية، صوت الغلاية على الموقد، واحتكاك عود الثقاب على حافة العلبة، هسهسة فتح الغاز.

قال إسماعيل وهو يلف منديل القماش في أنبوب صغير مطوي على نفسه، مثل عصا البلاستيسين البرتقالية:

- نحن نحاول إنجاب طفل .

كان مورين بعيدًا. مستغرقا فى شىء آخر.

- لقد كان لدينا بالفعل ما يكفي من الوقت لأنفسنا، ونفعل بالضبط ما أردنا القيام به. حسنا، بقدر ما نستطيع. لقد حان الوقت لبدء الحملة. وماذا عنك؟

- أوه ، لا شئ. لا احد.

نظرت من الردهة إلى صديق زوجها، الذي كان يتمتع ببنية شخص يعمل في الحقل. عندما لمس كتفها ليجعلها تجلس مرة أخرى، شعرت ببنيته، وشعرت أيضًا بأشياء أخرى. وكأنني لمست ثلجاً جافاً، وهو شيء يبرد ويحترق في نفس الوقت. للوهلة الأولى، بدا أصغر سناً بكثير من إسماعيل. لا شعر رمادي، لا خط شعري متراجع، لا أقدام الغراب. ولكن كان هناك شيء ما في مظهره، شيء قديم.

- أنجيلا، أنا أتحدث إليك.

- نعم.

سأل إسماعيل وهو يحبس ضحكته:

- ماذا تفعلين ؟

وأوضح لمورين:

- إنها هكذا .

وقفت أنجيلا في الردهة التي تصل بين المطبخ وغرفة المعيشة، جامدة كالتمثال، وفمها مفتوح ونظرها نحو السقف. كما لو كانت منغمسة في حالة نشوة أو وحي. أخذ إسماعيل تلك اللحظات بروح الدعابة. لقد اعتقد أن المشكلة هي أنه كانت تفكر في أشياء كثيرة في وقت واحد، وقد اختلطت جميعها. كم عدد الرجال المتزوجين من امرأة تسليهم حقًا؟ عدد قليل. أقل مما نتصور. لقد كان محظوظا.علاوة على ذلك، كان متأكدًا من أنها ستكون أمًا جيدة، حتى لو اعتقدت الأسرة خلاف ذلك.

- عليك أن تنتبهى إلى أشياء معينة .

أجابت أنجيلا وهي تمشط شعرها بكلتا يديها عندما عادت إلى مقعدها.

- أوه، استمع لهذا، قرأت ذات يوم قصة مذهلة.كان هناك رجل يستخدم دائمًا الحوض لغسل وجهه لمدة أربعين عامًا.وفي أحد الأيام، أثناء مشاهدته لبرنامج تلفزيوني، أدرك أنه كان يفعل ذلك بشكل خاطئ لمدة أربعين عامًا ولم يوضح له أحد كيفية استخدامه.

ضحك إسماعيل وابتسم مورين:

- هذا مستحيل.

- قرر الرجل أنه إذا لم تقل له زوجته وأطفاله الخمسة أي شيء (لمعرفة كيف يستخدمه)، وإذا سمحوا له بإلصاق وجهه حيث سيضعون وجوههم، فيجب أن يكون وحيدًا تمامًا في المنزل وفى العالم.

سأل إسماعيل وهو يحاول استخلاص النكتة:

- وهل غادر المنزل؟

- نعم، انتقل إلى منزل بدون بيديه، ليتعافى، مثل حيوان جريح .

انفجر إسماعيل ضاحكًا وركض إلى الحمام قائلاً إنه يتبول.أمسك مورين بالكوب نصف المملوء وأنهى النبيذ في جرعة واحدة. نظرت أنجيلا نحو المكان الذي هرب فيه زوجها، وأسندت صدرها على الطاولة وتحدثت بهدوء وفيها لمحة من الحقد:

- إنه أيضًا بطيء بعض الشيء في اكتشاف الأشياء.

لعق مورين شاربه العنابي اللون وابتسم مثل صبي اكتشفه متكئًا في مخبئه.

– أظن أنك أتيت من أجل شيء ما.

نظر مورين إليها بفضول أثناء حديثها، قامت أنجيلا بوضع علامة صليب المقبرة     على مفرش المائدة.

– في الخزانة لدينا صندوق نحتفظ فيه بكل أسرارنا الأكثر أهمية. لقد كتبناها على قطع من الورق، وقرأناها بصوت عالٍ واحتفظنا بها. لقد كانت فكرة إسماعيل، قال أنه بهذه الطريقة سيكون حبنا أقوى. الأسرار معروفة ومحفوظة جيدا. أنا متأكدة من أن اسمك ليس موجودًا في هذا الصندوق. لكنك هنا ولا أعرف السبب. هل هو مدين لك بشيء؟

ألقى مورين السيجارة على الطاولة وأمسك بها قبل أن تسقط. ضغطت على الجزء الخلفي من يده.

- أخبرني.

بدأ مورين يهز رأسه، ولكن انتهى به الأمر بالنظر في اتجاه الحمام. كان إسماعيل يعدّل قميصه داخل بنطاله.

– في سبيل الله، كنت على وشك الموت.

اهتزت الغلاية على الموقد، وقفزت أنجيلا وركضت إلى المطبخ.  وبينما كانت تصفى القهوة، وضعت أنفها بالقرب منها واستنشقت ببطء رائحة التحميص. ومن الممكن أيضًا أن يكون لقاءً بين أصدقاء قدامى، وليس أكثر من مجرد نوبة حنين. قامت بوضع طقم القهوة على صينية ذات مقابض نحاسية صغيرة. أشياء كثيرة تصبح فاخرة مع مرور الوقت، وهذا ما حدث مع طقم الخزف البني الذي ورثه عن جدتها. بدا وكأنه بقايا.

وعادت أنجيلا وهي توازن الصينية.

أبعد إسماعيل كرسيه عن الطاولة، وجسده متصلب وعيناه مثبتتان على رفيقه السابق. كما لو أنه اكتشف للتو شيئًا يعرفه الجميع إلا هو.

وبينما كانت أنجيلا تقدم القهوة، سُمع طرق قوي على الجزء السفلي من باب الشقة، بدا وكأنه ركلة مصنوعة بإصبع حذاء صلب، ركلة قوية ومرتجفة. نظر الثلاثة إلى بعضهم البعض. قام إسماعيل من الكرسي بحركة بطيئة. وفجأة أصبح الليل طويلا جدا؛ منذ متى كانوا يجلسون على الطاولة؟

- سوف أرى.

عندما فتح الباب، وجد المشهد اليومي: الضوء الأوتوماتيكي مضاء، والفسيفساء ذات اللون الزنجبيلي، والسجاد البالي للشقة المقابلة، وصوت توقف المصعد وتشغيله. أغلق إسماعيل الباب وظل ينتظر. وتكررت الضربة مرة أخرى. وضع عينه في ثقب الباب فرأى كل شيء أسود. وضع أذنه على مستوى القفل وسمع اللهث، والمسامير تخدش الأرض، ونباح يتردد صداه في الردهة.

فتح الباب وضغط على زر الضوء، وعلى بعد خطوات قليلة كان الكلب الألماني ينظر إليه وقد أخرج لسانه وبطنه ينتفخ وينكمش مثل المنفاخ. بدا وكأنه صعد خمسين درجة من السلالم وليس خمسًا. نظر إسماعيل نحو غرفة المعيشة. وقفت أنجيلا ووعاء القهوة في يدها، مذهولة، وكأنها لم تصدق مدى السرعة التي تحققت بها رغبتها في الحصول على حيوان أليف.

انزلق الكلب بين ساقي إسماعيل وتدحرج على الأرض. كان يتحرك كالعاصفة، يسقط وينهض، ينبح ويئن، بينما يتأرجح ذيله كالمجنون.لقد راوغ ساقي أنجيلا كما لو كان كرسيًا يقطع طريقه.

كان مورين واقفاً لاستقباله. لقد رأيت ذلك بالفعل، وشعرت به بالفعل. وبينما كان ينقض عليه، واضعاً كفيه على كتفيه ليلعق وجهه بإخلاص. نفس اللعقات اليائسة التي أعطاها إياه ظهر ذلك اليوم عند بوابة الحراسة. كان لتوديعه آنذاك، والآن للترحب به.

(تمت)

***

..........................

المؤلفة: أليخاندرا زينة/ Alejandra Zina. ولدت أليخاندرا زينة في بوينس آيرس. أصدرت مجموعتين قصصيتين ورواية. في عام 2000 شاركت مع غييرمو كورن في تحرير مختارات من الأدب الأرجنتيني المثير. تم نشر قصصها في مختارات في الأرجنتين والمكسيك وإسبانيا. تقوم زينة بتدريس الكتابة الإبداعية في المدرسة الوطنية لتجريب الأفلام وتحقيقها في بوينس آيرس.

في نصوص اليوم