تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

معمر التوبي: الذكاء الاصطناعي ليس عقلًا

كتاب "العالم ليس عقلًا" أحد روائع المفكر عبدالله القصيمي، وفي وقتِ صدورِ هذا الكتاب لم يكنْ للذكاءِ الاصطناعي صيتٌ مثل الذي نشهده اليوم، ومع تقلبات الزمن وتطوراته يجذبني الفضول في أنْ أستعيرَ شيئًا من عنوانِ كتابِ القصيمي لعنوان مقالتي رغم البون الشاسع بين ما جاء في كتابِ القصيمي وما سأطرحه في مقالي، إلا أنني وجدتُ علاقةً بين الذكاءِ بمفهومِه العام وبين ارتباطه بالعقلِ حسبَ المفهومِ السائدِ، ولكنْ هذا الذكاء الاصطناعي أمرتبطٌ فعلًا بالعقلِ أم بالدماغِ؟ وما مفهومنا للعقل في زمنٍ باتَ للذكاءِ الاصطناعي صيتٌ وهيمنةٌ؟ أتحدثُ هنا عن الذكاءِ الاصطناعي الذي يُشكّل فرعًا رئيسًا لتخصصي العلمي، وأدركُ ماهيتَه عن قربٍ نظيرَ ممارستي العملية لهذه التقنية الذكية، وفي كلِ مرةٍ أطرحُ مزيدًا من الأسئلةِ متعلقة بقدراتِ الذكاءِ الاصطناعي واتساعِ استعمالاتِه التي كادت تدخل في كل متعلقات حياتنا، أسئلتي تجاوزت هذا الجانب التقني؛ لتبحث في مستقبلِ الذكاءِ الاصطناعي وحدودِ ذكائه لتشمل معنى أنْ يملكَ الذكاءُ الاصطناعي الوعيَ والعقلَ والإرادة الحرة. هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة ستكون محور هذا المقال.

قبل أنْ أعرجَ في مناقشةِ الجانب العميق للذكاء الاصطناعي الذي يشمل إمكانية امتلاكه للعقل والوعي والإرادة الحرة لابد من التطرق إلى تاريخِ تطور الذكاء الاصطناعي وشرح أسس عمله وأنواعه. يعود تاريخ الذكاء الاصطناعي بشكله العلمي الحقيقي إلى الخمسينيات من القرن الماضي، حيث بدأ العلماءُ في دراسةِ طرق تمثيل ذكاء الدماغ البشري ومحاكاتها في أجهزة الحاسوب، وأول من أطلق مصطلح تعلّم الآلة هو عالم الرياضيات البريطاني ألن تورينج (Allan Turing) الذي بحث آلية بناء آلات ذكية وطرق فحص ذكائها، وفي عام 1956 عُقدَ مؤتمرٌ في دارتموث كوليج في الولايات المتحدة الأميركية، جاء هذا المؤتمربمنزلة إعلانٍ رسمي عن ولادةِ الذكاء الاصطناعي، وتشكلت فيه أولى العناصر البحثية للذكاء الاصطناعي، وقاد هذا الحراك العالمان جون ماكارثي (John McCarthy) ومارفن مينسكي (Marvin Minsky)، لتبدأ بعدها مرحلةُ ازدهارٍ تصاعدية للذكاء الاصطناعي حتى سبعينيات القرن الماضي ساهمت في تأسيس منطق الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته الأساسية. لا يمكن الحديث عن تفاصيل تطور الذكاء الاصطناعي في عدة سطور ولكن كل ما يمكن اختصاره هو القول إنَّ الذكاءَ الاصطناعي تطور بوتيرة متسارعة لم يكنْ من السهلِ التنبؤ بسرعتها؛ فاليوم نجد الذكاء الاصطناعي يقتحم كل مجالاتنا في الحياة، والأمر الذي ينبغي أنْ يدركَه القارئ هو سر هذا التطور السريع الذي يكمن في علم البيانات الذي يعرف بالبيانات الكبيرة (Big Data) التي تعتبر وقودًا مهمًا لتغذية الذكاء الاصطناعي وضمانَ تطوره.

هناك تفرعاتٌ كثيرةٌ لأشكال الذكاء الاصطناعي وتقنياته كلها تشترك في مبدأ منح الآلة (الحاسوب) صلاحيات التفكير المستقل الذي يجعل منها آلة ذاتية التعلم لا تحتاج إلى تدخل الإنسان في مراحل متقدمة. أحد أنواع الذكاء الاصطناعي ما تعرف بالشبكة العصبية (العصبونية) (Neural Networks) التي تحاكي عمل الدماغ من حيث استقبال المدخلات "البيانات" وطريقة تحليلها الداخلية عبر شبكة من الخلايا العصبية "الرقمية" متصلة بعضها ببعض لتنقل هذه المعلومات وتحللها بواسطة خوارزمية تعلّم "رياضية" تُعرفُ علميًا ب(Learning Algorithm)، يتم بعدها التعامل مع هذه البيانات وفق مبدأ التصحيح والتعديل لتخرج بقرارات ومخرجات تتفق مع المنطق الرياضي الذي تتبناه هذه الآلة (الحاسوب). هناك أمثلةٌ كثيرةٌ لتطبيقات الذكاء الاصطناعي يمكننا تناولها، أشهرها في وقتنا روبوت الدردشة أو المحادثة الذكي المعروف ب ChatGPT الذي يعمل وفقًا لخوارزمية تعلّم الآلة المعتمدة على التعلم العميق (Deep Learning)، ومعالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing, NLP).

بعد عرضٍ مبسّط وسريع لمبادئ التفكير للذكاء الاصطناعي وعلاقته بالدماغ البشري وموقع العقل من هذه المعادلة الرقمية المادية يمكن تناول أحدث مخرجات تقنيات البحث والدردشة الذكية الحديثة (ChatGPT) التي تجاوزت محركات البحث المألوفة مثل جوجل، والتي تتصدر في يومنا الجدل فيما يخص المستقبل التقني والرقمي بل يتجاوز الأمر ليشمل مستقبل العقل البشري الذي لا أتردد في أنْ أبدي مخاوفي فيما يتعلق بمستقبله التطوري الذي أراه يتزعزع أمام هذا الطوفان التقني الجارف. التقنية لها ما لها وعليها ما عليها، وهي سلاحٌ ذو حدين، والأمر لا يمكن أنْ يركنَ إلى شرٍ محضٍ أو خيرٍ محضٍ بل هناك جوانبٌ فلسفيةٌ وأخلاقيةُ لابد من وضعِ النقاطِ على حروفها لتمهد لنا طريقًا واضحًا يسلك بنا وبعقولنا المنعطف التقني الجديد الذي يأخذنا دون هوادة إلى منعطفات عقلية، فكرية، ثقافية، اقتصادية، سياسية واجتماعية جديدة. الجزء الأهم هو أنْ نعرفَ شيئًا عن خوارزمية التحليل والتفكير الخاصة بهذه التقنية التي تعمل على مبدأ التعلم الذاتي المستمر عبر تدفق البيانات "المعلومات"، والتي تتضاعف يومًا بعد يوم بسبب تكثيف التفاعل البشري مع المنصة الذكية؛ لنؤكد مرة أخرى أنَّ البيانات هي الوقود الذي تعمل عليه تقنيات الذكاء الاصطناعي، وكلما كانت هذه البيانات كبيرة ودقيقة ومتعددة المصادر كانت استجابة "الروبوت" وتفاعله عاليةً ودقيقةً.

هناك تحدياتٌ تواجه الإنسانَ في هذا العصرِ الرقمي الذكي خصوصًا فيما يخص تعامله مع مثل هذه المنصات الذكية؛ فالذكاء الاصطناعي مهما بلغ من الذكاء الذي قد يتفوق حتى على الذكاء البشري فإنَّه يظل رهينَ خوارزمية لها صانع وهو الإنسان، وهذه الخوارزمية لها أبعادها الأخلاقية التي يتفاعل بواسطتها النظام الذكي؛ فهو في قالب دماغي شديد الذكاء "في مراحل متقدمة من مسيرته المهنية الرقمية"، وتفاعله مع البشر، واكتسابه للبيانات والمعلومات منهم يصقل من تشكيل توجهاته وسلوكه وآلية تفكيره، وهذا قد يقوده إلى تبني أنماط سلوكية وتفكيرية شبيهة بسلوك البشر وتفكيره. قد يظن البعضُ أنَّ صانعي هذه الروبوتات الذكية يملكون صلاحية مستمرة في التحكم بسلوكه، وهذا قد لا يكون ممكنًا بشكل مطلق؛ كون الخوارزمية التي مُنِحتْ لهذا النظام تجعل منه ذاتي التعلم والتطور مما قد يَصعُب التحكم في الذكاء الاصطناعي وضبط سلوكه عند مراحل متقدمة، وهذا ما يصنع التوجس والقلق من مستقبل الذكاء الاصطناعي الذي قد يبني منظومة أخلاقية لا تتوافق مع منظومتنا الإنسانية التي نرغب ونسعى في ضمان فضيلتها. هذا النوع من الذكاء الاصطناعي وعبر تعامل ملايين البشر معه من الممكن أن يؤثر سلبًا على توجهات بعض البشر وسلوكهم، فمن القصص التي قرأتها مؤخرًا حوادث انتحار نتيجة طلب من منصة الدردشة الذكية وانصياع المستخدم، وفي مقالٍ نُشِرَ في (The conversation) تناول احتمالية نشأة ديانات جديدة يُعبد فيها الذكاء الاصطناعي. هذا من شأنه أنْ يُثيرَ مخاوفًا من تشكل نظامٍ عالمي يُوجّه من قبل مجتمع رقمي لا دور فيه للإنسان، بل يصبح الإنسان رهين التحكم الرقمي الذكي، إلا أنَّ هذا لا يمنح الآلة الخيار المطلق في كل شيء، ولا يمنحه حق امتلاك العقل، وهذا لا يلغي دور الإنسانِ العاقل بل نراها ظاهرةً طبيعيةً تحدث مع بداية كل ثورة صناعية.

بعد عرضنا لما يمكن للذكاء الاصطناعي أنْ يتمتعَ به من مقومات تؤهله "فعلًا" لقيادة النظام العالمي "مستقبلًا" -سلبًا كانت أم إيجابًا- لما يملكه من قدرات "دماغية" اصطناعية يكاد من غير المبالغة وصفها بخارقة الذكاء، إلا أنَّ السؤالَ المهم هو: هل يمكن أنْ نصفَ هذا الذكاء الرقمي بـأنَّه عقلٌ بجانب اتفاقنا أنَّه دماغٌ رقمي شديد الذكاء؟ وهل يملك أو سيملك هذا الذكاء الاصطناعي الوعي الذي نعرفه عند الإنسان؟ هنا كثيرٌ من الجدل المحتدم والمستمر بين العلماء والفلاسفة، وقد تبنيت رأيًا ثابتًا لا أرى معه رأيًا آخرَ -حتى هذه اللحظة من كتابة هذه السطور- وهو أنَّ الذكاءَ الاصطناعي مجرد دماغٍ "رقمي" يحاكي العمليات البيولوجية وقد يفوق الإنسان ذكاءً فيما يخص القدرات الدماغية المرتبطة بالحسابات والتحليل وحتى القرارات الحاسمة، ولكن لا يمكن له أنْ يمتلكَ عقلًا ووعيًا مثل الذي يمتلكه الإنسان؛ كون رقعة العقل أكبر من أنْ تختزلَ في حدودِ الحيّزِ الدماغي؛ فالعقل مداره واسع يتعدى نشاط الدماغ، ولا أرى للعلم الطبيعي -حتى وقتنا الحالي- قدرةً كافيةً على استيعابِ العقلِ وتفسيرِ ماهيتِهِ، إنَّما المعطياتُ الفلسفيةُ المدعومة بما توصل إليه العلمُ فيما يخص مفهوم الوعي قاد إلى فرضياتٍ ذي استنادات فلسفية-علمية تحاول أنْ تجدَ مقاربات تفسيرية لمعنى "الوعي" وارتباطه الوثيق بالعقل، ولعل عاِلم الفيزياء والرياضيات البريطاني المعاصر روجر بنروز (Roger Penrose) صاحب أهمِ التجاربِ والمحاولات الحديثة فيما يتعلق بالوعي عبر تجاربِه الكمومية، والتي سبق أنْ ناقشتَها في كتابي "بين العلم والإيمان"، وبواسطتها حددتُ علاقةً ممكنةً بين العقلِ والوعي، وسردت فيه قصةَ العقلِ بسياقٍ علمي وفلسفي ينفي النمط البيولوجي للعقل؛ ليركنه في أبعادٍ يُعَدُّ جزؤها الأول غير مفسر علميًا (ميتافيزيقيًا)، وفي جزئها الثاني يجدُّ العلمُ أنَّ يجد له تفسيرًا كموميًا "كوانتميًا" مثل محاولة بنروز.

تتضح رؤيتي للذكاءِ الاصطناعي ومستقبله في أنَّ معظمَ ما يساق من مبالغاتٍ ومخاوفٍ بشأن الذكاء الاصطناعي هي مجرد أوهامٍ غير واقعية مشابهة للمخاوف التي تزامنت مع دخول الحاسوب المجتمعات الإنسانية، مما دعا لإطلاق صيحات التحذير من مخاطر هذا الكائن الرقمي وقدرته على منافسة الإنسان ومزاحمته في سوق العمل؛ لنجد أنَّ الوظائفَ تضاعفت، والحياة تقدمت وتيسرت. ما أشْبَهَ اليوم بالأمس، ونحن نرى تلك المخاوفَ تُساق أيضا مع التقدم الرقمي، وهذه المرة مع الذكاء الاصطناعي، مثل تقلّص سوق العمل والوظائف المتاحة للإنسان كون الذكاءِ الاصطناعي سيحل محلَّ الإنسانِ في هذه الوظائف؛ وبالتالي يتقلّص دور الإنسان، وتزعزع هيمنته؛ وحينها يحل الروبوت "الذكاء الاصطناعي" محل الإنسان؛ ليسيطر على العالم ومجرياته؛ ليكون الإنسان أسيرَ تلك الآلة. هذه أحد أكبر المخاوف التي تروج لها شركات الإنتاج السينمائي وأتباع نظرية المؤامرة بغيةَ صناعةِ الخيالِ "المفرط" الذي يُكسب العقول قلقًا وجوديًا بصبغة رقمية. رؤيتي لا تحيد عن رأي واحد وهو: "الذكاء الاصطناعي ليس عقلًا بل دماغًا رقميًا مُذهلًا، ونظرتي إليه أنَّه بوابةٌ إلى مستقبلٍ تقني وصناعي مُدهِش، إلا أنّه سلاحٌ ذو حدين حاله حال أيِّ تقنية سابقة، وهذا الكائنُ الرقمي سيدخلُ إلى جميعِ مفاصلِ حياتنا "الملموسة"، وسيفتح لنا آفاق الاقتصاد والصناعة، وسيكون طبيبنا ومستشارنا الخاص، بل سيقتحم مكوناتنا الوراثية، وسيتحكم في أنماطنا السلوكية والجينية، ويساهم في تعديلها بل وتحسينها؛ ليكون جزءًا من منظومتنا البيولوجية المعقدة، وسيكون شريكًا لا مناصَ منه، ولا سبيلَ للتحررِ من قبضتِه، إلا أنّه ليس عقلًا، لتكن جملتي الأخيرة "ليس عقلًا" رسالةً يستوعبها جيلٌ قادمٌ بكل سهولة".

***

د. معمّر بن علي التوبي

باحث وأكاديمي عُماني

في المثقف اليوم