قضايا

ألقى الشيخ صالح المغامسي، وهو فقيه سعودي معروف، صخرة ضخمة في بحيرة هادئة نسبياً، يوم دعا لفتح الباب أمام الاجتهاد المطلق، بما يؤدي لظهور مذاهب فقهية جديدة.

نعلم أن الجدل الذي أعقب الدعوة راجع للقسم الثاني؛ أي المذاهب الجديدة، مع أن جوهرها في القسم الأول؛ أي الاجتهاد المطلق. وقد مهد له بالتأكيد على أن علم الفقه صنعة بشرية، ولذا تختلف آراء الفقهاء باختلاف الأزمان والظروف.

ثمة أسباب عديدة تبرر مواقف الداعين لاجتهاد مطلق، وثمة مثلها أسباب لرفض الدعوة في الجملة أو في التفصيل.

أهم المبررات الداعمة هي حاجتنا لعقلنة التفكير الديني وأحكام الشريعة. بديهي أن العقلنة المقصودة ليست مقابل الجنون أو السفه، بل العقلنة بالمعنى المعاصر؛ أي ربط المقدمات والمعايير بما تفضي إليه من نتائج. وقبل ذلك إقامة البحث على فرضيات علمية قابلة للإثبات المادي أو المنطقي.

خلفية هذه الفكرة أن العلم الحديث قد تطور وترك آثاره في مختلف جوانب الحياة، بل أمسى ضرورة للحياة السليمة الكريمة. ومن هنا اعتمد الإنسان المعاصر في حياته كلها تقريباً على نتاج العلم، كما جعل المنهج العلمي أساساً لاتخاذ أي قرار. ونتيجة لهذا التطور، فإن بعض الأحكام الفقهية القديمة لم تعد بديهية في نظر الناس، بل أمست مورد شك، في مطابقتها لواقع الحياة وحاجاتها، والنتائج التي تؤدي إليها إذا طبقت، قياساً بالأخلاقيات والنظم المماثلة التي توصل إليها العلم الحديث.

ونضرب على هذه الحجة مثالين: أولهما يتعلق بالمعاملات التي يعتبرها الفقه التقليدي ربوية، وهي تشمل كافة المعاملات المصرفية تقريباً، فضلاً عن العقود المستحدثة كالتأمين والبيع بالأجل وبيع البضائع التي لم تنتج بسعر غير محدد، وأمثالها من المعاملات التي لم تكن معروفة أو مقبولة في الأزمنة السابقة، لكنها باتت اليوم عنصراً أساسياً في الاقتصاد والمعيشة، بحيث لا يصح القول إنها تفضي للفساد أو تمحق الرزق، كما قيل في تبرير منعها، بل على العكس؛ نستطيع الجزم بأنه لولا النظام المصرفي الحديث، لبقيت الثروات العامة والخاصة تدور في محيط ضيق جداً «دُولة بين الأغنياء منكم» كما ورد في التنزيل الحكيم. ولولا الدين؛ أي تأجير المال، لما رأينا هذه الاستثمارات الضخمة، الضرورية لازدهار الحياة وتوليد الوظائف واستئصال الفقر.

المثال الثاني يتناول الأحكام المتعلقة بوضع المرأة ودورها في الحياة العامة. فالتفكير الديني بعمومه، وكل أحكام الفقه تقريباً، تميل لعزلها واعتبارها جزءاً من الحياة المنزلية، لمبررات أهمها أنها ليست كفؤاً للرجل، فلا تقوم بعمله ولا تحتل مكاناً مماثلاً لمكانه، لكنَّنا نرى بأعيننا أن هذه الفرضيات كبقاء المرأة في المنزل مثلاً، لم تعد كذلك أمام ضرورات الحياة ومتطلباتها في زمننا.

زبدة القول أن المثالين يوضحان بجلاء، وفي تجارب متكررة، أن تلك الأحكام والفرضيات التي بُنيت عليها، لا تؤدي إلى مصلحة لعباد الله ولا تصلح بلادهم. رغم هذا فالمدرسة الفقهية التقليدية في مختلف المذاهب، ما زالت لم تأخذ بما طرأ من تغير على المجتمعات.

والذي أرى أن المشكلة لا تتعلق بالاجتهاد في الفروع أو الاجتهاد داخل المذهب، ولا حل لها بتجديد أدوات تحرير أو تحقيق المناط وفهم موضوع المشكلة، كما ذكر العلامة الشيخ قيس المبارك مثلاً. المشكلة تتعلق بالاجتهاد في الأصول؛ أي منح العقل وعلم الإنسان في كل زمن، مكاناً بارزاً، في تحديد ما هو مسألة شرعية وما ليس كذلك، ثم تحديد المعايير العقلائية العادلة التي ينبغي أن يأتي الحكم مطابقاً لمقتضياتها.

الاجتهاد في الأصول ضرورة لتمكين الدين من استيعاب حاجات العصر وأهله والرد على تحدياته.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

أفردتُ في الكتاب المُنجز مؤخراً، «المقتولون بسبب دينيّ»، فصلاً بالناجين مِن القتل، مَن صدرت فتوى وحكم بقتلهم، لكنهم نجوا لسببٍ مِن الأسباب، بينهم فلاسفة وشعراء وأدباء ومتصوفة وفقهاء دين أيضاً، ووجدتُ أبرز النَّاجين في العصر الحديث، الكاتب عبدالله بن عليّ القصيميّ (1907-1996)، نجا مِن ثلاث محاولات قتل في حياته، بمواقف ودسائس مثيرة، لا مجال لتفصيلها في المقال.

لنتخيل أنّ القصيمي مازال حياً يُرزق، وشهد حكم التاريخ، وما كان يرجوه لبلاده، بصحة ضميره، ونظافة أفكاره، تلك التي شمها سيد قُطب (أُعدم: 1966)، عند الحوار بينهما، «رائحةً غير نظيفةٍ».

كان القصيمي ابن السلفية، يملك حجةَ المصدر، عندما يتحدث عن الإسلام، الذي جعل منه خصومه ومكفروه ديناً للموت لا للحياة، وهو ما دفع صاحبنا إلى منافحتهم، وأخيراً جاء مَن ينتصر له. مرَّ القصيميّ بفترة التدين السلفيّ، وكان محسوباً في صغره على «إخوان مَن طاع الله»، لكنه كان وظل حتى النهاية معجباً بالملك عبد العزيز آل سعود (ت: 1953)، فمَن يعرف نجد آنذاك وما يحيط بها يُبرر إعجاب القصيميّ، لذلك ناشده قبل ثمانين عاماً، في مقدمة كتابه «هذي هي الأغلال» (1946)، الانتصار للتطور والمَدنيَّة.

جاء ذلك بعد خياره الذي لم يتراجع عنه في التنوير، وصار يؤمن بالدين لا بمظاهر التدين، على اعتقاد «الدين حاجة مِن حاجات الإنسان، التي لا يمكن أنْ يُستغني عنها، ولكن ثبت أن البشرية عاجزة- إلا ما ندر- عن فهمه على وجهه الصَّحيح» (هذي هي الأغلال). بعد اتجاهه الجديد واجه مواقف شديدة ضده، وأشدها ضد «الأغلال»، الذي استهله برسالة إلى الملك، طالباً منه التدخل بقوة الصَّلاحية «الخروج بالناس مِن ضيق الدنيا إلى سعتها».

نبه في كتابه إلى العجز عن الإلحاق بالأنظمة المتطورة، التي اتجهت إلى العلم والصناعة. غير أن هذا الكتاب، الذي مثل وجهة نظره، فتح عليه بوابة التكفير، وأول الرَّد جاء مِن «الإخوان المسلمين» في صحيفتهم «النَّذير»، سخروا مِن صلته بالرَّائدة التنويرية هدى شعراوي (ت: 1947)، معتبرينها سبباً لتأليف كتابه، للتقليل مِن شأنه (ابن يابس، الردَّ القويم على ملحد القصيم). بعد ذلك جاء رد سيد قطب في صحيفة «السَّوادي»، التي عرضت مادة الكتاب «هذه هي الأغلال»، بقلم التّنويريّ إسماعيل مظهر (1891-1962).

أهدى القصيميّ كتابه لقطب، متوخياً فيه روح الأديب، قبل إخوانيته الرسميَّة، لكنه كتب: «كنتُ على استعداد أنْ أُدافع عن الرَّأي المخالف لو لم أشم هنا وهناك رائحة شيء غير نظيف تحول شعوري إلى اشمئزاز عميق، هذا رجل يُنافق، يُريد أنْ يطعن الطَّعنة في صميم الدِّين خاصة، ثم يتوارى ويتحصن في الدِّين» (السَّوادي: 11/11/1946).

لا جديد، استعار قطب عبارة ابن عقيل الحنبلي (ت: 513هـ) لتكفير المعريّ (ت: 449هـ): «أظهر ما أظهر من الكفر البارد الذي لا يبلغ منه مبلغ شبهات الملحدين» (ابن الجوزي، المنتظم)! ربح القصيميّ الحقيقة، ولصالح الجعفريّ (ت: 1979)، وأراه قصيميّ النَّجف: «حناناً يا أماثلنا حناناً/ حناناً أيها المتزمتونا/ تبعناكم على خطأٍ سنيناً/ فأسفرت الحقيقةُ فاتبعونا» (شعراء الغري).

أراد عدم إهمال الحياة، لصد «صحوة» شرسة، والرَّائحة التي شممها قطب مِن فكره، كانت رداً مسبقاً على «معالم في الطَّريق» وإطلاق الجاهليّة على مَن لا يقر بحاكميتهم الإلهية! لكنَّ الأعجب، تعرض القصيمي لاستخفاف مثقفين عرب، فلسان حالهم: مَن هذا البَدوي الذي أخذ يزاحمنا في التَّنوير بعواصمنا؟! أقول: إنَّ ما يجري اليوم، مِن إخماد الفكر التَّكفيريّ، انتصارٌ لِما نشده القصيميّ قبل ثمانين عاماً، عندما طلب مِن ملك بلاده التَّدخل بقوة القرار. تلك مقابلة بين فسطاطين، النُّور والظَّلام، والتَّاريخ قد أصدر حكمه.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في 12 تموز 2012، الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 20 آذار من كل عام بوصفه اليوم الدولي/ العالمي للسعادة ولبيان مؤشرات حدة المشاعر السلبية التي يعاني منها الناس وذلك اعترافا منها بأهمية تلك المشاعر وتأثيرها على البشر، ولما لها من أهمية في ما يتصل بمقاصد السياسة العامة.

شمل التقرير هذا العام (2023) فقط (137) دولة من اصل عدد الدول المنضوية تحت خيمة الأمم المتحدة الباغ عددها (193) دولة.. جاءت فنلندا في المرتبة الأولى كما موقعها في السنوات الخمسة الاخيرة وأوكرانيا بالمرتبة (92) والعراق حلَ في المرتبة(98) ولبنان للسنة الثانية على التوالي وقع في المرتبة (136) وآخر القائمة أي في المرتبة (137) كانت أفغانستان.. وبهذه المناسبة نشر البروفيسور قاسم حسين صالح مقالة تحت عنوان: [السعادة.. لمناسبة يومها الدولي وحالها في العراق] بتاريخ 23.03.2023.. وكتب في التوطئة: [في تقريرها السنوي لهذا العام (2023) تصدرت فنلندة الدول الأسعد عالميا فيما تصدرت الامارات عربيا وجاء العراق في مرتبة متأخرة، وعن احوالها فيه تتحدث هذا المقالة التي لم يتطرق لها التقرير المذكور] انتهى.

ما اثار انتباهي في هذا التقرير وما نُشر عنه من بعض المساهمين في اعداده وإصداره هو ان هناك جانب أو نَفَسْ سياسي فيه وهذا يمكن ان يلمسه من يتابعه وما قيل عنه من احد المساهمين فيه والدليل هو التالي:

1 ـ قال مساهم في التقرير [ان هناك ارتفاع في المشاعر الإيجابية للشعب الاوكراني].. ليتحسن موقع اوكرانيا في سلم التقرير بالقياس للتقرير السابق من مرتبة (98) الى (90) رغم دمار الحرب ومآسيها تلك الجارية على تلك الأرض منذ 24.02.2022 ولليوم واكيد آثارها ستستمر لسنوات وعقود ومست وستمس أجيال الشعب الاوكراني والمستقبل المظلم المتوقع لتلك الأرض وذلك الشعب مهما كانت او ستكون نتيجة او نتائج هذه الحرب الكبرى..

2 ـ قال مساهم في التقرير: [ان مآسي جائحة كورونا خلال الأعوام الثلاثة الماضية لم تترك اثرا على مستوى السعادة العالمي] وهذا كما اظن مُحير ومثير وغريب حيث كورونا واثارها مست كل الشعوب وتألم منها ولها كل انسان ينطبق عليه وصف انسان وحتى من لم ينطبق عليهم هذا الوصف عكسوا صور من الألم وحاولوا مراعاة مشعار الغير..

3 ـ أشار التقري الى تحسن موقع إسرائيل في قمت السلم التي كانت فيه منذ التقرير السابق حيث انتقلت في هذا التقرير من الموقع (5) الى الموقع (4) لتأتي بعد ايسلندا (3) والدنمارك (2) وفلندا (1).

ملاحظة:

https://al-ain.com/article/day-happiness-five-foods-improve-mood

في يوم السعادة العالمي.. 5 أطعمة لتحسين الحالة المزاجية

الطماطم والحمضيات والخضار الورقية التوت والسلطات3077 السعادة 

اكيد هناك أسئلة كثيرة تُطرح عن وعلى وحول السعادة .. مثل التالية:

ماهي السعادة وكيف تُقاس؟ هل يمكن للإنسان ان يصنع سعادته او يخلقها؟ ما هي المعايير التي اعتمدتها الأمم المتحدة في انجاز دراستها عن السعادة والنتائج التي طلعت بها علينا؟ هل السعادة تُمنح ام تُكتسب ام تُنتزع؟ هل السعادة مراتب ودرجات ومنازل؟ هل السعادة لحظات المتعة واللذة والرضا والقناعة؟ هل السعادة في الرفاه، في الحرية، في النجاح، في التفوق والتميز؟ هل المشاهير من الذين حققوا الكثير سعداء؟ هل يؤثر الدماغ والعقل في موضوع سعادة الفرد؟ هل السعادة مشاعر وانفعالات تنتج مواقف وأفعال؟ هل يتمكن الانسان من اختيار السعادة/الحصول عليها/تصنيعها/ انباتها أو انتاجها مختبرياً (كيمياء/فيزياء/بيولوجي)؟ هل سعادة الفرد من سعادة المجموع ام العكس؟ هل السعادة حالة طارئة / لحظية؟ هل يمكن تمييز الانسان السعيد عن غير السعيد؟ هل السعادة نواة تدور حولها المخلوقات وفق ثوابت؟ هل من ضمن تركيب جسم الانسان هناك غدة تفرز هرمون السعادة واليها تعود سعادة الانسان وهل يمكن تنشيط هذه الغدة وقت الحاجة او اذا أصابها قصور او عطب؟ هل مظاهر الرفاهية والسرور والضحك والتأمل والحب من علامات السعادة؟ هل الحكام والملوك والامراء والمترفين والمتسلطين الذين يملكون الأرض وما عليها وما في باطنها سعداء؟ هل القضاة سعداء؟ ما هي السبل التي تؤدي الى السعادة؟ هل هناك شعب/ مجتمع/مجموعة سعيد/سعيدة وأخرى غير ذلك وما هي صور السعادة هنا؟ هل يستطيع الانسان ان يكون سعيداً في وسط غير سعيد او طارد للسعادة؟ هل تحقيق /توفير الاحتياجات يؤدي الى السعادة؟ هل تحقق احتياجات الفرد بالطرق الملتوية وغير الشريفة (الفساد) تجلب له السعادة؟ هل الحب والابداع والنجاح والتفوق والانشراح والبهجة والاطمئنان من علامات ساعة السعادة؟ هل السعادة هي المدينة الفاضلة التي تتغنى بها دواخل النفس البشرية؟ هل للسعادة حراس ومدافعين ومتابعين وعاملين؟ هل الجغرافية تؤثر على السعادة؟ هل للكوارث الطبيعية المتوقع حصولها في أي لحظة وأي مكان تأثير على السعادة؟ هل الياباني سعيد.. هل الفنلندي سعيد.. هل الأمريكي سعيد.. هل من يعيش في الادغال سعيد وكيف التحقق من ذلك؟

شخصياً اعتقد ان السعادة فردية/ ذهنية ولا اعتقد انها تكتمل دون ان تكون جماعية إنسانية وهي في لبنتها الأولى كما أتصور ايضاً ان يعرف الانسان نفسه بدقة ويتعامل معها بصراحة تامة بينه وبين نفسه ويبدع في فعالياته الإرادية أولاً ويحاول مع أللإرادية بشكل متطور ليكون هذا التطور هو سُلَّمْ للسعادة.. اعتقد ان السعادة في الابتكار والتطوير والإخلاص والإنتاج.. و وفق ذلك اعتقد ان السعادة نادرة فردياً وجماعياً وتتعقد وتتشوه صورتها ومعناها بمرور الوقت ومع مرور الوقت تحيط بها شرنقة التعاسة الصلدة وهي لحظات عابرة يمكن ان تنتهي بكارثة اذا لم يُحسن ادارتها.. اعتقد ان انسان اليوم هو العدو الأول للسعادة، سعادته وسعادة الغير.

بعد البكاء الاول للوليد الناتج عن اعتراضه الواعي / ردت فعله على انتزاعه من مكان الأمان الذي تكَّون فيه وتَصَّور، أي رحم الام الذي سد ويسد كل احتياجاته دون بيع او شراء او مساومة او تهديد او مساومات او مزايدات او اهانات. بعد ذلك الرفض او الاعتراض يشعر الطفل ان عليه القبول بالأمر الواقع والتأقلم معه وبالذات تحت تأثير الفرح والسعادة التي يلمسها عند من يحيط به حيث يعمل الى ان يتأقلم من هذه الأجواء ليطمئن انه اشاع البهجة عند محيطه الذي سد له كل احتياجاته في عالمه الجديد وبالذات بعد ان يعيش الدفأ مرة أخرى بعد دفئ الرحم.. السعادة كما اظن هي الحلم الذي لم يتحقق وحَّيَرَ ويُحَّير الانسان في محاولاته تفسير ذلك الحلم ووضع الأسس اللازمة للوصول اليها تلك التي تساعد على انباته في الواقع سواء بمفرده او بتعاون المحيط الذي يعيش فيه بحلقته أولى او الحلقات اللامنتهية التي تليها.

وانا ابحث عن السعادة في الحياة العامة وفي الأرشيف والمصادر صُدمت ولم اُصْدَمْ بما صار امامي فأغلب المنشور عنها: قال افلاطون وقال سقراط وقال نيتشه وقال كانط وقال غيرهم ولا اعلم ما علاقة هؤلاء الفلاسفة وظروف زمانهم ومكانهم والناس المحيطين بهم ومعاناتهم وحياتهم واحتياجاتهم وسعادتهم بسعادة ناس اليوم فهل احتياجات الناس زمن افلاطون وسقراط ونيتشه هي احتياجات انسان اليوم وهل ظروفهم كما ظروفنا اليوم وهل طموحات الناس المحيطين بهم تقترب من تشعب طموحات انسان اليوم وهل المشاعر السلبية والايجابية في مسيرتهم الحياتية هي نفسها المشاعر السلبية والإيجابية التي تحيط بناس هذه الأيام وهل تزاحم وتصارع البشر وأدوات ذلك ووسائله وقتهم تقترب لحالها اليوم.

سينتفض بوجهي البعض لهذا الطرح ويقول : الانسان بحث ويبحث عن الرضا والاطمئنان والأمان ووسائل العيش الكريم في كل زمان ومكان، لا بأس لكن أقول هل كان البحث عن وسائل العيش الكريم مسيرة سهلة وجميلة بحيث لم تنتج التقاتل والتحارب والحرائق والاضرار وامامنا هابيل وقابيل حيث تقاتلا وهم مؤتمنين على كل الأرض وخيراتها ولا منافس لهما.. هل هناك انسان سعيد في تلك الحقبة وهو الذي يعيش القلق في محيطة من علية القوم والطبيعة بإفرازاتها من ظواهر وامراض والقلق على معيشته ومن معه مع ندرة المتوفر (كمية ونوعية).. انا اعتقد ان طرح الأساتذة افلاطون وسقراط ونيتشه وغيرهم من الذين قبلهم وبعدهم دليل على انها مفقودة او غير معروفة او ملموسة على زمانهم لذلك طرحوها كفلاسفة واختلفوا عليها وعلى معاييرها .. لا اعتقد ان سقراط عرف السعادة لكن ربما صنعها لنفسه من خلال الفلسفة حيث كان من يحيط به من الناس يعرفون حاله وحالته والقريبين منهم يعرف انه كان مهتم بالنفس الإنسانية والقول وقائله والرضا من النفس وهذه لا تترك له مجال للشعور بالسعادة حيث انه يعيش القلق في تفسيرها والتفكير بها وربما يعتبره البعض من الزنادقة وافلاطون عرفها بالعقل ولم يلمسها او يعيشها رغم جمهوريته الفاضلة التي ربما نشدَ السعادة بالعمل على ايجادها او اكتفا بأنه طرحها وتمناها وتخيلها فأسعدته ب (الفضيلة والشجاعة والحكمة) .و اخرون قالوا بعد ان عجزوا ان الإرادة هي التي تنتج السعادة او ترسمها او تُشعر الشخص بها.. حيث الأفعال الارادية تُحقق وجود النفس وتُشَّرِفْ الانسان لأنها فضيلة وتمنع الانسان من إيقاع الضرر بنفسه وبالغير.. و اختلفوا هنا حول الفضيلة وتفسيرها وهل هي العدل او الرحمة وتفرقوا في كيفية الوصول اليها ووتوصيفها وتفسيرها وتحديد معانيها وصورها واشكالها وكل خير فضيلة وكل عدل فضيلة وكل صحيح فضيلة وكل دقة وابداع فضيلة.

اما طرحها اليوم فهي رغبة انسان هذا الزمان في البحث عن شيء مفقود/ غير مرئي او يمكن تَلَّمسه اليوم وهو من تركات أفكار وطموحات ذلك الزمان حيث اخذوا الكلمة فقط "سعادة" ورغبوا في البحث فيها ليتيهوا كما تاه السابقون وانسان هذه الأيام راغب حد الغرام بأن يكرر ما قيل .. طروحات الأمس طرحها فلاسفة اما طروحات اليوم فهي إعلامية تجارية سياسية تحيط بها شكوك وإلا هل يتجرأ احد ليقول بوجودها وتحت يافطتها العريضة ويربطها باحتياجات الانسان التي لا تُقارن باحتياجات الناس وقت الفلاسفة ولو ان سد كل تلك الاحتياجات لا تعني غير الوصول المؤقت للحظة الرضا التي تثير القلق وليس السعادة لان الرضا سينتهي ربما بعد دقائق او في اليوم التالي حيث يعود الانسان الى التجهم والتعاسة وهو يفكر بفقدانها وصعوبة الحصول عليها.. و دليل ان سد الاحتياجات لا تجلب او تقيم او تنتج السعادة هو حال الدولة الأسعد الأولى للسنوات الأخيرة واقصد فلندا حيث انها رغم سد الاحتياجات تُعتبر الدولة التي تنخرها الكأبة وان الانتحار فيها من طرق الرغبة في رؤية او تلمس السعادة.. حيث تتحدث الأرقام عن ارتفاع حالات القلق والكآبة والانتحار في فلندا وكل بلدان قمة تقرير السعادة (الاسكندنافية) بحيث قيل للتندر: [ان حالات الانتحار والكآبة تتناسب طردياً مع السعادة].

الغريب لم اعثر وقد يكون قصور مني على من قال بشأنها هذه الأيام قولاً خارج قول أولئك الفلاسفة.. وكل او اغلب اقوال وطروحات اليوم لا تخرج عن تلك الطروحات بعد ان جعلوها نصوص مقدسة" نقل حرفي بتعظيم" وبعضها تجاسر كاتبها وقدم واْخَرَ فيها او ابدل هذه الكلمة بأختها وتلك العبارة برديفتها واللغة العربية بحر كلمات ومعاني.

لقد بيَّن البروفيسور قاسم حسين صالح رأيه بالسعادة في مقالته: [رسالة إلى نفسي] بتاريخ 02.10.2009 حيث كتب التالي: [ والواقع أن كثيرين منّا يحمل مفهوما مثاليا عن السعادة، وهؤلاء لن يصلوا لها ولا يستمتعوا بالحياة . فالسعادة الواقعية لها معياران : أن يكون وضعك الحالي أفضل مما كنت عليه، وأن تكون بمستوى أقرانك في الوظيفة أو المهنة أو المكانتين الاجتماعية والاقتصادية.. ] انتهى

مقالة البروفيسور قاسم حسين صالح التي يُشكر عليها لتفرده بطرح موضوع السعادة هي موضوع المناقشة في التاليات لأنها من أستاذ متخصص بعلم النفس وكونه طرح رأي علم النفس وهو احد المتمرسين بعلم النفس حيث كتب: [وصف علم النفس في بداياته بأن السعادة هي نتائج الشعور أو الوصول لدرجة رضا الفرد عن حياته أو جودة حياته، أو أنّها الشعور المُتكرر لانفعالات ومشاعر سارّة فيها الكثير من الفرح والانبساط.. ما يعني أنّ السعادة برأيه مفهومٌ يتحدّد بحالة أو طبيعة الفرد، فهو من يقرر سعادته من تعاسته]انتهى. وطرح في مقالته: [رسالة إلى نفسي] بتاريخ 02.10.2009 رأيه او تفسيره او تعريفه للسعادة حيث كتب التالي: [والواقع أن كثيرين منّا يحمل مفهوما مثاليا عن السعادة، وهؤلاء لن يصلوا لها ولا يستمتعوا بالحياة . فالسعادة الواقعية لها معياران : أن يكون وضعك الحالي أفضل مما كنت عليه، وأن تكون بمستوى أقرانك في الوظيفة أو المهنة أو المكانتين الاجتماعية والاقتصادية..] انتهى

و اختار البروفيسور قاسم حسين صالح معايير السعادة التي يبدو انه يعتمدها وحددها بالاحتياجات واعتمد هنا هرم ماسلو حيث كتب التالي: [يعد هرم ماسلو للحاجات افضل نظرية بعلم النفس عن السعادة برغم انها ما كانت خاصة بها] انتهى.3078 السعادة 

يتبع لطفاً

***

عبد الرضا حمد جاسم

 

16 أفريل (نيسان) من كل سنة، يوم للعلم في الجزائر.

اعتادت الجزائر، منذ سنوات الاستقلال الأولى، على إحياء يوم العلم، الذي ارتبط بذكرى وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس في 16 أفريل / نيسان 1940 م. يومها، كان العالم غارقا في حرب عالميّة ثانيّة، أزهقت ملايين النفوس البريئة وغير البريئة. أما القطر العربي الجزائري المسلم، فقد كان يرزح تحت نير الاحتلال الفرنسي الغاشم. وكان قد مرّ على الأمّة الجزائريّة مائة سنة وعشرا من القهر ومحاولات الاستيلاب الثقافي والمسخ الديني والتجهيل وسلب الخيرات ونهبها. حتى ظنّ بعضهم، أنّ الأمّة الجزائرية أمست في خبر كان، ولم يعد يُسمَع لها صوت.

حتى قال أحدهم: فرحات عباس:

" بحثت في التاريخ، وسألت الأموات والأحياء، وزرت القبور، فلم يحدثني أحد عن هذا الوطن ".

لكنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس ردّ عليه في مقاله الشهير بجريدة الشهاب، قائلا: " إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها ".(جريدة الشهاب).

و توفي الإملم المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس في السادس عشر من أفريل 1940 م، بمدينة قسنطينة، مدينة العلم والعلماء. احتضنته حيّا بين أزقّتها ورحباتها، وضمّت جسده الطاهر في قلب ثراه. وشيّعته العيون باكيّة، وودّعته القلوب راجفة إلى مثواه الأخير، ولسان حاله ما فتئ يرّدد صادحا:

هَذَا لَكُمْ عَهْدِي بِهِ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَبْ

فَإِذَا هَلَكْتُ فَصَيْحَتِي تَحْيا الْجَزَائِرُ وَالْعَرَبْ

كان الشيخ الإمام رجلا، بالمعنى الذي وصف به القرآن الكريم الرجولة والرجال (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا). رجل، ومصلح من طينة أسلافه ومعاصريه الكبار (الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، محمد بن عبد الوهاب، الندوي، وغيرهم) من الرجالات العربيّة والإسلاميّة.

- احتفلت فرنسا الاستعمارية في عام 1930 م ن بمرور قرن على احتلالها القطر الجزائري، وأعلن خطباؤها وسفهاءها وعملاءها أن الأمة الجزائريّة قد ماتت وفنيت، ولا وجود لأمة اسمها (الجزائر). لكنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس ورفاقه الأبرار(72 عالما من شتى الاتّجاهات الدينيّة)، أبرزهم: (الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والعربي التبسي ومحمد المين العمودي، والطيب العقبي، إبراهيم بيوض، مبارك الميلي، والمولود الحافظي، والطيّب المهاجي، ومولاي بن شريف، السعيد اليجري، حسن الطرابلسي، عبد القادر القاسمي، ومحمد الفضبل اليراتني)

لقد رفعوا راية التوحيد خفاقة في سماء الجزائر على منوال أسلافهم الكرام، وأعلنوها دون كناية أو استعارة أو خوف.

" الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا "، شعارا لهم، لا لبس فيه، وتهاون.

إنّها هويّة الجزائر الوطنيّة، التي انصهرت في بوتقتها مكوّنات الأمة الجزائريّة برمّتها، فأصبحت جسدا واحدا، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

كانت مباديء جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين واضحة لا لبس فيها. وكانت رسالتها موجّهة إلى العقول الخاملة لإيقاظها من الغفلة والتواكل، وإلى القلوب الغافلة لإيقاد روح العزم والحزم، وإنارة الكهوف المظلمة، وبيان سبل الخلاص من الاحتلال الفرنسي، الصليبي البغيض.

و المتأمّل لكتابات المحتلين الفرنسيين، من رجال الكنيسة الكاثوليكية الإفريقيّة يدرك مدى تحمّسهم الشديد للقضاء على مقوّمات الأمّة الجزائريّة المجيدة. لقد كانوا منخرطين " جنبا إلى جنب مع جنود الجيش الفرنسي، يدرك حجم الحقد الصليبي. لقد صاح لويس فييو، وهو يطأ أرض الجزائر قائلا: " كم كنت أتمنى في هذه اللحظة أن ألبس بدلة جنودنا، وأن أحس بالسيف يقارع ركبتي، إنّه سيف الله نضرب به عدوّه " (لويس فييو – الفرنسيون في الجزائر – 1841)

و في الوقت الذي اعتقد فيه العدو الفرنسي أنّ مقامه في الجزائر قد ترسّخ وضرب بجذوره في أعماق تربتها الزكيّة، وظنّ زعماء الكنيسة الكاثوليكية، أنّ الجزائر قد تحوّلت من انتمائها العربي الإسلامي إلى معسكرهم الصليبي، هبّ رجال الجمعيّة بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس، ليصرخوا في وجهه القذر. مردّدين ملء الآفاق:

مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أَصْلِهِ

أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذَبْ

لقد ردّا مفحما، زلزلوا به أركان المحتلين. وهم الذين قالوا ذات يوم على لسان عرّابهم الكاثوليكي: " لا من أن نستخلص من هذا بأنّ الاسلام أخذ يلفظ أنفاسه الأخيرة في كل مكان، أو على الأقل في ساحل البحر الأبيض المتوسط الذي يحق لنا نحن المسيحيين ان نسميه بعد اليوم: بحرنا " (لويس فييو – الفرنسيون في الجزائر – 1841).

و تكتف جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين، بمحاربة الأعداء الغزاة الصليبيين، بل إن الشيخ ابن باديس رحمه الله، بفضل فطنته وحكمته وذكائه وبعد نظره وإخلاصه لدينه وأمّته – وجّه سهام دعوته الإصلاحيّة التحرريّة إلى صدور طائفة من الحركى (الخونة والعملاء) ودعاة الاندماج قائلا:

أَوْ رَامَ إِدْمَاجًا لَهُ

رَامَ الْمُحَالَ مِنَ الطَّلَبْ

*

وَاقْلَعْ جُذُورَ الْخَائِنِينَ

فَمِنْهُمُ كُلُّ الْعَطَبْ

لقد أدرك الشيخ ابن باديس – طيّب الله ثراه - أنّ الأمّة الجزائريّة، قد تكالب علي إفنائها ومحو هويّتها ومسخ تاريخها التليد، الغزاة والخونة. ولهذا السبب – وغيره – وجب اقتلاع الجذور الخائنة، وتطهير النفوس النجسة، لأنها مصدر الخطر كلّه على مصر الأمّة الجزائريّة. عايش الشيخ ابن باديس ورفاقه، فترة عصيبة في ثلاثينات القرن العشرين. فقد لجأت فرنسا الاستعماريّة إلى محاربة جمعيّة العلماء بكل الوسائل الماديّة والمعنويّة والسياسية، من أجل إفشال مشروعها التعليمي والإصلاحي. فمنعت – بمراسيم – تدريس اللغة العربيّة وتحفيظ القرآن وتفسيره وتدريس تاريخ الجزائر خاصة والتاريخ العربي الإسلامي عامة. واستعملت عقوبتي السجن والنفي وكل وسائل الترهيب والوعيد والترغيب.

آمن الشيخ ابن باديس، بأن الأخذ بزمام العلم، وتربيّة النشء وتعليمه، هو باب الخلاص من المحتل الغاصب.

يَا نَشْءُ أَنْتَ رَجَاؤُنَا

وَبِكَ الصَّبَاحُ قَدِ اقْتَرَبْ

*

خُذْ لِلْحَيَاةِ سِلاَحَهَا

وَخُضِ الْخُطُوبَ وَلاَ تَهَبْ

*

وَارْفَعْ مَنَارَ الْعَدْلِ

وَالإِحْسَانِ وَاصْدُمْ مَنْ غَصَبْ

لقد أدرك أنّ الحريّة لن مُنال إلا إذا أضاء نور العلم عقول الناشئة. ولن ينجلي ليل الجزائر إلا على أيدي رجال العلم والحكمة، رجال مسلّحين بالإرادة والعزم والحزم والطموح.

و قد سعت فرنسا الاستعماريّة إلى طمس هويّة الأمّة الجزائريّة، باتّباع سياسة ثقافيّة وصليبيّة، أداتها فرنسة اللسان الجزائري، ورومنة التاريخ الجزائري، وتنصير وكثلكة (من الكاثوليك) الجزائريين، وتفتيت وحدة الأمّة الجزائريّة (سياسة فرّق تسد)، وإثارة الفتن العشائريّة والنعرات القبليّة والتعدّدات الإثنيّة. لكنّها فشلت، وسقطت مساعيها الخبيثة في الوحل. وهذا بفضل ما قانت به جمعيّة العلماء الجزائريين وتضحيات رئيسيها الفذ الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله.

لقد دافعت الجمعيّة على وجود الأمّة الجزائريّة، وبعدها القومي ورسوخه، المتمثّل في انتمائها العربي والإسلامي الأصيل. من خلال ما سنته من مباديء وأهداف، نشرها الشيخ ابن باديس في العدد 160 من جريدة البصائر الصادرة في 7 أفريل / نيسان 1939 م. أهمّها: 1939.

1 – التعليم والتربية.

2 – تطهير الإسلام من البدع والخرافات.

3 – إيقاد شعلة الحماسة في القلوب بعد أن بذل الاحتلال جهده في إطفائها حتى تنهار مقاومة الجزائريين.

4 – إحياء الثقافة العربيّة ونشرها

5 – المحافظة على الشخصيّة الجزائريّة بمقوّماتها الحضارية والدينيّة والتاريخيّة. ومقاومة سياسة الاحتلال الرامية إلى القضاء عليها.

و هذا ما صرّح به الشيخ عبد الحميد بن باديس في ختام قصيدته:

فَإِذَا هَلَكْتُ فَصَيْحَتِي

تَحْيا الْجَزَائِرُ وَالْعَرَب

و في الختام، وددت أن أتحف القاريء الكريم بقصيدة الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس كاملة، التي قال فيها:

شَعْبُ الْجَزَائِرِ مُسْلِمٌ

وَإِلىَ الْعُرُوبَةِ يَنْتَسِبْ

*

مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أَصْلِهِ

أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذَبْ

*

أَوْ رَامَ إِدْمَاجًا لَهُ

رَامَ الْمُحَالَ مِنَ الطَّلَبْ

*

يَا نَشْءُ أَنْتَ رَجَاؤُنَا

وَبِكَ الصَّبَاحُ قَدِ اقْتَرَبْ

*

خُذْ لِلْحَيَاةِ سِلاَحَهَا

وَخُضِ الْخُطُوبَ وَلاَ تَهَبْ

*

وَارْفَعْ مَنَارَ الْعَدْلِ

وَالإِحْسَانِ وَاصْدُمْ مَنْ غَصَبْ

*

وَاقْلَعْ جُذُورَ الْخَائِنِينَ

فَمِنْهُمُ كُلُّ الْعَطَبْ

*

وَأَذِقْ نُفُوسَ الظَّالِمِينَ

سُمًّا يُمْزَجُ بِالرَّهَبْ

*

وَاهْزُزْ نُفُوسَ الْجَامِدِينَ

فَرُبَّمَا حَيَّ الْخَشَبْ

*

مَنْ كَانَ يَبْغِي وُدَّنَا

فَعَلَى الْكَرَامَةِ وَالرَّحَبْ

*

أوْ كَانَ يَبْغِي ذُلَّنا

فَلَهُ الْمهَانَةُ وَالْحَرَبْ

*

هَذَا نِظَامُ حَيَاتِنَا

بِالنُّورِ خُطَّ وَبِاللَّهَبْ

*

حَتَّى يَعُودَ لِقَوْمِنَا

مِنْ مَجْدِهِمْ مَا قَدْ ذَهَبْ

*

هَذَا لَكُمْ عَهْدِي بِهِ

حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَبْ

*

فَإِذَا هَلَكْتُ فَصَيْحَتِي

تَحْيا الْجَزَائِرُ وَالْعَرَبْ

***

بقلم الروائي والناقد علي فضيل العربي – الجزائر -

 

عزيز السيد جاسم مثالا

توطئة: نقصد بالحاكم.. الرجل الأول في الدولة الذي يرأس حكومة مسؤولة عن ادارة شؤون الناس والوطن، سواء كان النظام دكتاتوريا او ديمقراطيا. ونقصد بالمثقف..الذي يؤلف ويكتب وينشر في قضايا تخص الفكر بكل انواعه والحياة بكل مجالاتها، ويكون مخلصا للحقيقة وصادقا مع نفسه.

هذا يعني ان الحاكم والمثقف يجمعهما ميدان مشترك من القضايا التي تخص الناس والحياة، ولكنهما يختلفان في امرين: المنظور الفكري الذي يحملانه بخصوص هذه القضايا، واساليب التعامل معها. فالقضية عند الحاكم تقاس على ما يمكن ان تكون عليه، فيما يقيسها المثقف على ما ينبغي ان تكون عليه، والفرق كبير بين الحالين. ومن هنا فان الاشكالية بين الحاكم والمثقف قد تحكمها البرانويا..ان وجد الحاكم ان المثقف صار خطرا عليه .

الوسيط..بين عزيز والحزب الشيوعي

تعود علاقتي بعزيز السيد جاسم الى الخمسينيات يوم كان طالبا بدار المعلمين في مدينة الناصرية. كانت في الدار اذاعة داخلية يتحدث فيها كل صباح، وقد وجد عندي بعض اللباقة فاستضافني.. وتطورت العلاقة بعد ان عرف انني من قرية (السادة البوهلاله) التي تبعد سبعة كيلومترات عن مدينته (سوق الغازيه - النصر حاليا).

اخذ عزيز يزودني بكتب كانت ممنوعه لا اعرف من اين يحصل عليها.." فولتير وروسو وروبسبير، ثم بدأت اتعرف على نيتشه وشوبنهاور، وديكارت، وكانت.. حتى وصلت الى ضفاف الفلسفة الأوربية، حيث استطلعت، فرأيت ماركس، وهيجل، وفيورباخ، وانجلز، والفلاسفة الأنجليز. كذلك تجولت في عالم توم بين، ولنكولن، والسياسيين، والروائيين، والمفكرين ". (كتابه علي سلطة الحق صفحة 54).

ودخل عامل الثقة بيننا لتكون صداقتنا أقوى. وافترقنا حيث تخرج هو قبلي ليتعين معلما في احدى مدارس مدينته (الغازية). وفي العام 1960 كنت انا قد صرت شيوعيا ومسؤولا عن تنظيم الشيوعيين في مدينته.وكانت تأتيني رسائل من اللجنة المحلية في الناصرية، المسؤولة عن تنظيمات الحزب في كل مدن المحافظة وقراها، ملفوفة كما لو كانت (جكارة لف) معنونة له، فاوصلها له عبر مسؤول خلية تنظيم مدينته التي اجتمع بها، عرفت بعد حين ان هنالك خلافا بينه وبينها..تطور فيما بعد الى قطيعة، فهمت بعدها ان عزيز ترك او استقال من الحزب لأسباب كانت فكرية وسياسية.

كنت انا قد فصلت من وظيفتي معلما في المدرسة بقريتي (البوهلاله) القريبة من مدينة الشطرة، فجئت الى بيت أختي في العاصمة بغداد ابحث عن عمل. كنت حينها ادخن السجائر من نوع (الجمهورية)، ولدى مغادرتي مقهى (البرازيلية) بشارع الرشيد حيث كانت ملتقى المثقفين، متوجها الى بيت اختي بمدينة الحرية، لم يكن في جيبي سوى اجرة باص المصلحة وكم فلس، وآخر سيجارة في جيبي. فوقفت بمنتصف جسر الشهداء ووجهي الى دجله.. اخرجت السيجارة..شعلتها .. بدأت ادخّن.. وتحول المشهد الى دراما بيني وبينها.. في لحظة وداع كأنها حبيبتي.. ورميتها في دجلة بعد حوار وكم دمعه!

ونعود لعزيز، ففي العام 1970 زارني في بيتي وفد من الحزب الشيوعي العراقي وطلب مني الأتصال بعزيز السيد جاسم لأعرض عليه رغبة الحزب بالعودة اليه. وكان عزيز في حينها يكتب في جريدة حزب البعث (الثورة) مقالات تنتقد الحزب الشيوعي. اتصلت به والتقينا بسهرة في شارع ابي نؤاس، واعتذر عن تلبية الدعوة بالعودة، منتقدا قياداته الحالية والسابقة.

كانت آخر مرة التقيته فيها يوم كان رئيس تحرير مجلة (وعي العمال) بموقعها الذي هو الآن داخل المنطقة الخضراء. دخلت مكتبه في مقر المجلة فلمحت عليه مجموعة من الأدوية، سالته عنها فقال: ضغط وسكر وكلشي يخطر على بالك، فهمت انه يعاني من ضغوط نفسية. حاولت أن اعرف الأسباب فأشار لي بعينيه ما يعني ان المكان مراقب، واتفقنا ان نلتقي مساءا.. والتقينا في سهرة حيث كنا كلانا نحب شرب ما نشتهي ليلة تكون السهرة في كازينو تصدح بها أم كلثوم بشارع ابي نؤاس!.

عزيز.. مفكر استثنائي

يمتاز عزيز ان وعيه الفكري كان من صباه سابقا لعمره، وانه عمل من حداثته وبداية شبابه على تعميق هذا الوعي وتنوعه (الذي كان هو السبب في تصفيته!). وانعكس ذلك على نمو (الأنا) لديه وعلى تكوين شخصية طموحة تسعى لتحقيق اهداف مثالية في واقع معقد.ولقد عزز اعتداده بنفسه، اعتراف رموز النظام بمن فيهم رئيسه صدام حسين بقدراته وتفوقه على شخصيات تحتل مراكز ثقافية وسياسية متقدمه.

ولأن شخصية كهذه تكون ناقدة وجريئة وغير قادرة على المساومة والأنبطاح، فان الخيبات التي تعرض لها عزيز عرضته الى احباطات وضعته امام خيارين:اما التخلي عن تحقيق اهدافه او التحدي الذي اختاره.ولأنه ادرك ان خصمه لا يرحم فقد استعان روحيا بوسيلة سيكولوجية هي اللجوء الى الدين، ليخفف من معاناته من جهة وليعزز الثبات على الموقف من جهة أخرى، عبر انجازات ثقافية كانت اكثر من عشرة مؤلفات وروايات مميزة في عقد الثمانينات فقط!.. بينها كتابه (علي سلطة الحق) الذي انجزه عام 1988. وما كان هو السبب في حينه لاعتقاله، لكنه كان سببا لاحقا لاحتجازه بعد ثلاث سنوات، والطلب منه كتابة ثلاثة كتب عن الخلفاء ابي بكر وعمر وعثمان. ويشاع هنا، ان من قام بكتابتها هو شقيقه الدكتور محسن الموسوي( موجود في اميركا الآن) بالتعاون مع آخرين.وأشيع ايضا انها حين نزلت الى الأسواق دفعة واحدة، كثر اللغط حولها فأمر صدام بسحبها من الأسواق.

الحاكم.. يقهر المثقف التنويري

كان عزيز قد كتب كتابه (علي بن ابي طالب سلطة الحق ) كما اراده هو. والموجع والمفجع ان الحاكم (صدام ) امر المثقف(عزيز) ليس فقط ان يعيد كتابته، بل وان ينكر انه كتب ذلك الكتاب، ما اضطره ان يكتب في النسخة الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والاعلام (1988) بالنص:

(وبالمناسبة، علمت ان هناك كتابا مطبوعا بالخارج بالعنوان نفسه " علي بن ابي طالب سلطة الحق" يحمل اسمي، وهو كتاب لا علاقة لي به حيث انه يتضمن مفاهيم انا بريء منه، وان هذه النسخة التي بين يدي القاريء الكريم هي الكتاب الوحيد الصادر عني. المؤلف عزيز السيد جاسم – بغداد) الصفحة 62.

والموجع اكثر ان الحاكم (صدام) اّذلّ المثقف التنويري، وان المثقف (عزيز) خشي بطش الحاكم، فاضطره ان يمدح الحاكم كمن يتجرع السم فكتب بالنص:

(ونحن، في ظل قيادة البطل العربي الاصيل صدام حسين نسل الامام علي بن ابي طالب...) صفحة 158

واستشهد في اكثر من مكان بعبارات من كتابات صدام (في الدين والتراث، وكيف نكتب التاريخ) مثل:(قال السيد الرئيس: ان ايماننا بالسلام ليس حالة ظرفية تكتيكية....) ص 123

و: (ومع ان الفارق التاريخي كبير وقديم، الا اننا لا يمكن ان نقول ان قيادة العراق المتمثلة بسيادة الرئيس صدام حسين....) ص 135

ومع كل هذا الأذلال، فان مدح المثقف التنويري للحاكم.. لم يشفع له!.

برانويا الحاكم.. لا ترحم

تعني البرانويا .. الشك المرضي بالآخر الذي يفسّر حتى همس اثنين في مسألة خاصة بهما بأنه تآمر عليه. بل يصل الى ان المصاب به يقتل حتى امه حين يوهمه شكه المرضي بأنها ستضع السم في طعامه، وهذا ما يحصل للحاكم في موقفه من المثقف التنويري.والذي حصل ان عزيز اعتقل في 15 نيسان 1991 للمرة السادسة، ولم تفلح مناشدات مفكرين عرب واجانب ومذكرة قدمت الى امين عام الأمم المتحدة (كوفي عنان) باطلاق سراحه. ومع تعدد الروايات حول طريقة تصفيته، فان المتفق عليه ان جثته لم تسلم الى اهله، وان مصيره ظل مجهولا.

والمؤسف في هذه الواقعة ان المثقف التنويري الذي يحصل له ما حصل لعزيز السيد جاسم، يخسر حتى الذكر الطيب بعد رحيله. فلا الحزب الشيوعي العراقي استذكر عزيز بوصفه انموذجا لشيوعي ناقد لفكر الحزب (وكنا اقترحنا عليه). وانه ظل نسيا منسيا في عهد حكّام يدّعون أنهم أحفاد علي واخلص شيعته، مع أنه علوي ومؤلف لكتاب (علي سلطة الحق).

وتعلمنا هذه الاشكالية أن الأمر لا يختلف ما اذا كان الحاكم في نظام دكتاتوري او ديمقراطي، فعزيز السيد جاسم كان انموذجا لعلاقة الحاكم الدكتاتوري بمثقف تنويري، وكامل شياع كان انموذجا لعلاقة الحاكم الديمقراطي بمثقف تنويري تمت تصفيته ايضا!.. وستظل الأشكالية قائمة في العراق الى ان تتخلص الجماهير من ثقافة القطيع وتأتي بحكّام يؤمنون بتداول السلطة!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

 

عادة ما تجد الطرف الآخر ينتقد آراءك ومواضيعك كرها فيك، لا ينتقد مبديا رأيه في الموضوع مقدما حججه وبراهينه بأدب وبأسلوب سلس وأخلاقي، قد يردّ بالضحك والاستهزاء، قد يرد ردا مختصرا (أنت على خطأ، من أين لك هذا، أنت مستواك ضعيف، أنت شخص غبي، أنت بلا كفاءة... وهكذا ردود)، فهل ما نعيشه من ضعف في الانتقاد والتعبير عن الرأي دون عصبية ناتج عن ضعف في الشخصية؟ هل هو ناتج عن مشاكل و ظروف وعقد نفسية متراكمة؟ أم هل مدرستنا هي التي لم تعلّمنا ولم تركّز على دعم الطفل ومواكبته نفسيا واجتماعيا؟

وعادة ما تجد المنتقد غير قادر على ما تقوم به، لذلك هو ينتقد بحرقة، إضافة إلى أسباب أخرى سأشير إليها فيما بعد، فهذا ما يسمى بتفريغ عدم الاستطاعة، عقل بلا أفكار ومعلومات، بلا براهين، تواصل بلا أسلوب، بلا أخلاق! تجده فقط عاشقا للمشاداة.

سأطيل الحديث بعض الشيء، لكن في الأخير سنكتشف أنّ المشكل في المدرسة، بل في الذين يضعون المناهج ويركزون على الكم والحفظ، لا على الكيف والتطبيق، أما المدرسة تبقى مجرد مكان لا لوم عليه!

أتساءل، هل الأستاذ عندما يحكم على التلميذ بأنه ضعيف المستوى يصحح معه أخطاءه ويدعّم ضعفه؟ وهل التصريح بضعفه أمام زملائه داخل الفصل في صالحه؟ وهل في صالحه حتى لو كان معه على انفراد؟! لا ننكر أنّنا تعرضنا لهكذا مواقف في المدرسة وأثرت على نفسيتنا، فألا ترى أن هذا يراكم عقدا نفسية تصاحب الإنسان إلى كبره!

الفرق بيننا وبين الغرب، الغرب ينتقدون لكن بأسلوب لائق وبأدب، ويقفون معك على الخطأ ويضيفون آراء منطقية وواقعية وحججا في الصميم، ويدعّمون ما تقوم به ويشجّعونك، ويساعدونك على التصحيح وبالتالي تتولد لك أفكار جديدة. بينما العرب حدّث ولا حرج...

يمكن الإشارة إلى أسباب أخرى لضعف الانتقاد لدى الطرف الآخر، بغض النظر عن الكره الذي يكنّه لك مسبقا، أو حسد وضغينة، أو أنك لم تلج خاطره، لم يعجبه شكلك وما شابه هكذا أمور، هنا يصبح الانتقاد من أجل الانتقاد رغبة دائمة وغاية، هذا النوع سينتقدك مهما فعلت وكيفما كان موضوعك حتى وإن كنت على حق.

ساورتني مجموعة من الأسباب التي تجعل المنتقد ضعيفا، أولا:غياب القراءة والمطالعة، ثانيا: الافتقار لأسلوب التواصل السليم واصطفاف الأفكار وقلة التجربة، ثالثا: غياب دور المدرسة في التركيز على فن الخطابة والمناظرة، رابعا: حاجة مدرستنا إلى مادة الدعم النفسي، فأطفالنا يحتاجون إلى أساتذة مختصين في علم النفس والتنمية الذاتية. وليكن في علمك أن كصيصة من البشر ينتقدون بالسلب فقط لأنهم قضوا يوما سيئا أو يعيشون ظروفا صعبة، فيكون الانتقاد ناتجا عن الأمور السلبية التي يواجهها بحياته. وهذا ما يجعلهم يميلون إلى الانتقاد سلبا بطريقة غير بنّاءة.

أنسلّ من هذا المنعطف وأشير إلى أنّ السؤال يبقى مطروحا حول كيفية التعامل مع المُنتقد، وفي إجابتي نصيحة عن خبراء في التنمية الذاتية تكوّنت على أيديهم، ويعود لهم الفضل الكثير. فما نتعرض له بصورة مستمرة في شتى مجالات العمل من انتقادات سلبية من زملاء العمل، من أصدقاء الدراسة، من مواقع التواصل الاجتماعي... وبالتأكيد إن لم تعرف التعامل مع الانتقادات بذكاء سيؤثر على نفسيتك ويستنزفك فكريا دون شك.

ينبغي عدم التسرع في الرد على المنتقد، فعادة ما ننزعج عندما نتلقى الانتقاد من الوهلة الأولى، لهذا وجب الاسترخاء ومعالجة الرسالة بهدوء، فالحكيم هو من يأخذ الانتقاد كحافز له ودافع يدفعه للأمام، وحاول ألا تدافع عن نفسك، بل استمع إلى الانتقاد وجرّب تنفيده أو إثباث ضده بالحجة.

أما المنتقد الذي ينتقدك طوال الوقت، الذي يغار منك، الذي يكرهك، الذي هدفه تحقيرك لا تطويرك، الحاقد عليك، فهذا النوع لا يستحق الرد أصلا، لأنك لن تغيّر رأيه اتجاهك أو اتجاه موضوعك أبدا، يكفي أن تقول له: "أنت على حق، وأنا أدعّم كلامك".

أقتطف مقتبسا وأشير إلى الفرق بين الناقد والمُنتَقد، فالناقد قد يمارس نقده بذكر الإيجابيات وذكر السلبيات مع إبداء رأيه، أما المنتقد ما يعرفه هو ذكر السلبيات فقط دون تصويب وتبيان للحقيقة، والمنتقد في حدّ ذاته نوعان، قد يكون منتقدا يريد بك خيرا ويريد أن يطوّرك، أو منتقدا يريد تحقيرك والاستهزاء بك متعمّدا ذلك. وعليك أن تحتلجهما معا وتستفيد منهما، وألا تحكم على كل ما تناهى إليك حسب نزعتك، بل عليك أن تكون حكيما.

كي لا تبقى الفكرة قابعة تحت ظلها، إذا كنت لا تريد الانتقاد لا تفعل شيئا، عش حياتك في الظل ولا تظهر أبدا، تجاهل أحلامك وأفكارك واهتم بمسايرة من حولك، كن منافقا واختر من كلامك ما يرضي الطرف الآخر، لا تتحمل مسؤولية أي شيء في الحياة، احرص على أن يكون كل شيء في حياتك كاملا ودقيقا 100٪، فهل الفكرة مازالت قابعة أم وصلتك الرسالة وفهمتها؟

خلاصة القول الانتقاد لا مناص منه، فهو طبع في الأنا لا هروب منه، لكن كان هدفنا من هذا المقال بالخصوص الوقوف على نقط ضعف المنتقد الذي ينتقد دون حجج وبأسلوب غير لائق وبعصبية، والإشارة إلى الأسباب المخلفة لهذا العنف اللفظي مع الإشارة إلى كيفية التعامل مع الطرف المنتقد.

***

بقلم ذ. فؤاد لوطة

 

 

 

ان الوعي التاريخي وما يصاحبه من معرفة الذات يبيّن الوضع الذي اصبح فيه الانسان، وما صنع لنفسه، ليس من خلال أعماله وانما ايضا وما هو أهم، من خلال التأمل بما كان عليه. هذه الملامح مجتمعة تشكل اساس الانسانوية الجديدة، تشجعنا للالتفات رجوعا والى الداخل بدلا من الى الامام والخارج في البحث عن الحقيقة، الواقع، والمعنى، وتدعونا اخيرا لمواجهة أنفسنا.

1

لا شيء يستمر الى الأبد. هذه الملاحظة السطحية، تلخص الفلسفة الحديثة للتاريخ. بالنسبة لطريقة الفهم الحديثة للاشياء، كل شيء – الطبيعة، الكون، الانسانية ذاتها – هو عابر وفي بعض النواحي سريع الزوال.

الكائن البشري يبدأ يموت من اللحظة التي يولد فيها. هم ليسوا اناس من بين أشياء خالدة. الأمر كان مختلفا بالنسبة لليونانيين. الفكرة اليونانية القديمة أكدت على الديمومة، كان اللامتغير والأبدي هو الذي أسر وشحذ الخيال اليوناني. بالنسبة لليونانيين الكون يتغير داخليا ضمن ذاته، يجسد الدورات اللامتناهية للعود الأبدي. السكون وليس الحركة هو المثال اليوناني. اليونانيون قيّموا الطبيعة اكثر من تقييمهم للتاريخ، لأن الطبيعة كانت دائما وستبقى كائنة. الطبيعة كانت أبدية. انها لم تأت للوجود ولن تموت. لم يخلقها الناس ولا الآلهة . على الأغلب، آلهة الاولمب سيطروا على الطبيعة وحوّلوها لأهدافهم. بالمقابل، الموت ميّز الوجود الانساني – خلافا للكون الدائري، حياة الانسان كانت خطّية، تتحرك بلا هوادة من الميلاد الى الموت. فعل الانسان عكّر هدوء الطبيعة والكون، وأزعج هدوء الوجود الأبدي.هذه الاضطرابات كانت موضوع التاريخ. بعض الافعال والأحداث، مع انها، غير تامة ومتناهية، لكنها كانت استثنائية ولهذا استحقت التذكر. هذه المآثر الجديرة بالملاحظة انجزت بالتالي نوعا من الخلود الفاني. في التواريخ، اوضح هيرودوتس ان الهدف من تحقيقاته كان "لمنع ان تُمحى آثار الأحداث الانسانية بمرور الزمن ،ولتُحفظ شهرة الانجازات الهامة المنتجة من قبل اليونانيين وغير اليونانيين". (1) بدون هذا التذكّر،سوف تتلاشى كلمات وأعمال الكائن البشري دون ان تترك اثرا. الطبيعة حققت الدوام بواسطة الطبيعة، الناس كان عليهم الصراع والمعاناة لتحقيق الديمومة، لو انهم تمنّوا، حتى للحظة عابرة ورغم فنائهم ، ليكونوا مستحقين للوجود – ذوي قيمة في كونهم ولدوا أصلا. المهمة الرئيسية للمؤرخ كما يعترف هيرودوتس كانت تسجيل هذه الافعال (تسجيل كان في ذاته فبركة من صنع الانسان) لكي تستمر في الذاكرة.

المفارقة الرئيسية في الفكر اليوناني وأصل سمته المأساوية، هي ان العظمة تتطلب ديمومة بينما كل أفعال الانسان، لايهم كم هي استثنائية، تحدث وتختفي في زمن. أعمال الانسان اليدوية سريعة الزوال وبالنهاية هي غير مجدية. لهذا فان الأعمال البطولية والكلمات العميقة من النوع الذي يضفي شهرة خالدة لا يمكن ان تكون طموحا انسانيا هاما او انجازا. بدلا من ذلك، وطبقا للفكر اليوناني بعد افلاطون، ان الحياة الجيدة هي الحياة التأملية. عالم الفعل هو في مرتبة أدنى من عالم الذهن. اثناء القرن التاسع عشر، سعى المؤرخون لتكون الموضوعية هي المساوي لما وجده اليونانيون في الديمومة. الموضوعية أنتجت حقيقة ثابتة لا تقبل الشك لذا زعم المؤرخون مثل ليبولد فون رانك انهم يمكنهم كتابة التاريخ "كما حدث بالفعل". وخلافا للعديد من أتباعه اللاحقين الأقل ذكاءً، لم يقصد رانك ان يقوم المؤرخون بتجميع عدد هائل من الحقائق تمكّنهم من إنتاج نسخة طبق الأصل من الماضي، تاريخ موضوعي كما تمنى لورد اكتون ان يمنحه كل فرد موافقة عالمية. حسب رؤية رانك ان هذا المشروع كان غير مرغوب فيه او مستحيلا. "هؤلاء المؤرخون خاطئون"، هو كتب،"اللذين ينظرون للتاريخ ببساطة كتراكم هائل لحقائق معينة،تُلزم المرء الاحتفاظ بها في الذاكرة"(2). التقييم النقدي والمنهجي للوثائق الأصلية هو وحده مكّن المؤرخين من تنظيم الحقائق بطرق هادفة ذات معنى، وتجسيد الوحدة في الاحداث المتباينة ودعم الحقيقة بالدليل. اتجاه رانك الإبداعي شجع دراسة الماضي بظروفه الخاصة وليس فقط عرض سردي للسلطة المؤسسة، مبدأ اورثودكسي او نظام دوغمائي، سواء كان أدبي، سياسي، ثيولوجي، او فلسفي. وبعيدا عن جعل التاريخ اكثر علمية وموضوعية، كان تصميم رانك لإعادة بناء ما حدث فعلا في الماضي قد فصل دراسة التاريخ عن دعائمه الفكرية وتركه حساسا لمختلف المصالح السياسية المتنافسة. تلميذ رانك للقرن العشرين فردريك مينيك، حدد الضعف الابستيمولوجي الذي أصاب تفكير رانك والذي استمر يُثقل المؤرخين. اعترف مينيك، ان دراسة التاريخ، مالت لجعل كل القيم غير دائمة ونسبية وحتى عشوائية. وطالما لا عقيدة يمكن ان تكون مطلقة وعالمية ولازمنية،فان اولئك الذين يميلون للقيام بهذا يمكن ان يستعملوا الماضي لتبرير وتعزيز قضيتهم. الجهد لتحويل التاريخ الى علم محايد وموضوعي برز جزئيا من الرغبة المفيدة لعزل دراسة الماضي عن الخلافات الايديولوجية للقرن التاسع عشر. في ذلك الجو المشحون سياسيا، حتى المؤرخين الموهوبين لا يستطيعون دائما مقاومة إغواء الإنغماس في النشاط الحزبي او وضع العلمائية التاريخية في خدمة العقيدة السياسية.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ غالبية المؤرخين بربط التاريخ بالعلوم الطبيعية. العقيدة بان دراسة الماضي تقارب الان دراسة الطبيعة كانت منتشرة جدا لدرجة ان بروفيسور التاريخ الحديث في كامبردج وفي كلمة افتتاحية له ألقاها عام 1902 قائلا ان J.B.Bury زعم ان "التاريخ كان حقا متوجا وممتازا بين العلوم، لكن الطبيعة الخاصة لتأثيره، وارتباطه العريق بالادب،والظروف الاخرى، عملت كنوع من الغيوم حجبت جزئيا عن عيون الناس موقعه الجديد في السماوات" (3). وتحت تأثير الوضعية، كان المؤرخ هنري توماس بوكل يطمح لتمييز نماذج موحدة غير متغيرة للوجود الانساني، تماما كما يزعم العلماء سبر أغوار تصميم الطبيعة وتكوين الكون. المؤرخ هنري توماس بكل (1821-1862) أصر على ان المؤرخين ليس فقط لم يجعلوا الماضي مفهوما وانما ايضا لم يجعلوا امكانية للتنبؤ بأحداث المستقبل ، وهو يمكن ان يتحقق لو فهموا المخطط الذي قدمه الماضي. خمولهم وعدم كفائتهم حال كثيرا دون خلق علم حقيقي للتاريخ.

بالنسبة لبكل وأشباهه من المؤرخين، لا توجد مشكلة فوق الحل. لا أسرار قاهرة حول أساطير اربكت الذهن العقلاني. الكون كان شفافا. افكار حول الواقع كانت يمكن التفكير بها موضوعيا وحازت على يقين الرياضيات. لا شيء كان غامضا. الذات والموضوع كانا منفصلين راديكاليا ومتميزين،كما في حالة الروح والجسد، الذهن والمادة. الاستنتاج الكمي حرر العقل من الخطأ والخرافة، جاعلا الكائنات البشرية، كما استنتج ديكارت قبل قرنين، "هم السادة ومالكو الطبيعة"(4). علوم القرن العشرين ذاتها حطمت ضمانات الموضوعية ودقة خصائص الفكر التاريخي والعلمي المبكر. وبعيدا عن تأكيد عمليات الكون طبقا لعدد من قوانين الطبيعة والمبادئ الرياضية، فان الفيزياء التي ساهمت بنظرية الكوانتم هدمت افكار الموضوعية العلمية، والثبات، واليقين. لاحظ ويرنر هيزنبيرج بان:

"النتيجة الجديدة الأعظم أهمية للفيزياء النووية كانت الإعتراف بإمكانية تطبيق انواع مختلفة جدا من قوانين الطبيعة، بدون تناقضات، على نفس الحدث الفيزيائي. هذا يعود الى حقيقة انه ضمن نظام من القوانين التي ترتكز على افكار اساسية معينة فان طرق محددة جدا في طرح الاسئلة هي فقط منْ يجعل هناك معنى، وهكذا،ان مثل هكذا نظام هو منفصل عن الأنظمة الاخرى التي تسمح بطرح مختلف الأسئلة. (5)".

العلوم، على العكس، بدلا من تقديمها وصفا موضوعيا للواقع، كانت ذاتها نتاجا للذهن الانساني والخيال. أغلب العلماء الأصليين اعترفوا بهذه الحقيقة. في (الفيزياء والفلسفة)، أكد هيزنبيرج ان "العلوم الطبيعية لا تصف وتوضح فقط الطبيعة، انها جزء من التفاعل بين الطبيعة وأنفسنا، ما نلاحظ هو ليس الطبيعة ذاتها، وانما الطبيعة منكشفة لطريقتنا بالسؤال". نظيره الدانيماركي نيل بوهر حذر بنفس الطريقة بانه "من الخطأ الاعتقاد ان مهمة الفيزياء هي اكتشاف كيفية عمل الطبيعة. الفيزياء تهتم بما نستطيع قوله حول الطبيعة"(6) . الفيزيائيون النظريون مثل هيرزنبيرج وبوهر أهملا التعاريف الضيقة مفضّلين الإحتمالية والتدفق والتحوّل. هما استبدلا العلاقات بما هو مطلق، راضون بالنسبية، اللاتقريرية، ودرجات الحقيقة.

فيما اذا كان خطأ الموضوعية في العلم او في التاريخ، كان ان نتوقع الأجوبة بدون اسئلة، وفي الحقيقة، بدون سائل. الأجوبة التي يعطيها العلم والتاريخ هي ليست الاّ إجابات لأسئلة يسألها العلماء والمؤرخون. الحقائق لا تتحدث ابدا عن نفسها، او على الاقل هي لا تعطي معنى بدون ان يكون هناك جهد للانسان لتنظيمها والتأمل فيها وتفسيرها. لو ان فيزياء الكوانتم تقدم مرشدا، فان دراسة التاريخ، كما في دراسة الطبيعة والكون، هي فعل خلاّق للخيال،رغم انه يسعى لتوسيع وتعزيز فهم الواقع. "هو ليس انا من يتحدث " حسب قول فوستل دي كولانغ لطلابه، "وانما هو التاريخ الذي يتحدث من خلالي. اذا برزت فلسفة معينة من هذا التاريخ العلمي، هي يجب ان يُسمح لها لتنشأ طبيعيا، من تلقاء نفسها، دائما ولكن بشكل مستقل عن رغبة المؤرخ"(7).

في خطابه الافتتاحي كرئيس للمؤسسة التاريخية الامريكية عام 1931،اعترض كارل بيكر. مهما كان المؤرخ مجتهدا ودقيقا في إعادة تأكيد حقائق التجربة الانسانية بدون ان يقوم بنفس الوقت بتفسيرها سوف ينتج قائمة او كتالوك لتحقيب تاريخي جيد للأحداث وسوف ينجح فقط في حرمان التاريخ من أي اهمية."الأمل بالعثور على شيء بدون البحث عنه"، اشتكى بيكر،"يتوقع الحصول على أجوبة نهائية لألغاز الحياة عبر الرفض الحازم لطرح اسئلة – انه (علم تاريخ موضوعي) كان اكثر انواع الواقعية رومانسية اختُرع حتى الآن، اكثر شذوذا من أي محاولة في أي وقت مضى للحصول على شيء لأجل لاشيء"(8).

الموضوعية تنطوي على الحيادية، عدم المقدرة او عدم الرغبة لعمل أحكام، او منح الشكر او اللوم، او لطرح استنتاجات. انها تقدم رتابة الأحجار، وليس التغيير في الانسان. انها ترقى في النهاية الى انقراض الذات.

2

الوعي التاريخي لا ذاتي ولا موضوعي وانما هو حسب صياغة جون لوكاس "شخصي ومشارك". ان الانقسام بين الذاتي والموضوعي، سوء الفهم بان المعرفة التاريخية والحقائق توجد، او يمكن ان توجد، خارج الذهن، يقود الى نوع من الحتمية هو بالحقيقة مستند عليها: ضمان ان المؤرخين من مختلف انواع التعليم والأمزجة والقوميات والثقافات والرؤى سوف يصلون الى استنتاجات متشابهة حول الماضي. الأحكام التاريخية ليست ذاتية. الكائن البشري ليس معزولا، المخلوقات المنعزلة لايمكن الوصول الى افكارهم . هم يعيشون في علاقة مع ناس آخرين. كذلك، معرفة الانسان بشكل مجزّأ، اختياري، وغير دقيق، مهما كانت، هي لن تكون عامة ابدا، مجردة وغير دموية. اثناء العصر الحديث ربما اصبحت معرفة الانسان بالانسان اكثر ذاتية ولكن في نفس الوقت اصبحت اكثر تاريخية.

ان مفهوم التاريخ الموضوعي مفيد فقط لو كان التأريخ يمكن التأمل به ككل، بداية، ونهاية، ومعناه معروف سلفا. نحن لانزال نميل للخلط بين "الحيادية" الميل لفحص كلا جانبي القضية والاعتراف بانجاز اليونان والبرابرة على حد سواء كما فعل هيرودوتس، و"الموضوعية".

ربما "الثنائية" duality هي افضل كلمة تدل على القدرة على افتراض وجهات نظر متعددة كي نرى الحياة والعالم من زوايا مختلفة . لكن هذه التعددية في الرؤى تنطوي على تعددية في الحقيقة. انها تتطلب من الكائن البشري ان يفهم اولئك الذين يختلف معهم ويتعلم النظر الى نفس العالم من زوايا نظر مختلفة. هناك بعض المهمات الشاقة والمؤلمة خاصة في عصر التحزب الذي يعتبر التنوع ذاته غير مقبول.

ان مشكلة الموضوعية والثنائية في التفكير التاريخي لم تنشأ بالطبع في الكراهية الحزبية لزماننا. انها نشأت من ثلاث تطورات تجذرت في تاريخ الحضارة الغربية:

1- ظهور المسيحية جعل من المستحيل قبول الرؤى والحقائق المتعددة. رغم ان الصراعات الدينية التي مزقت اوربا خلال القرنين 16 و17، لكن المسيحيين في كل مكان قبلوا بان الحقيقة الدينية كانت واحدة وجسدت كلمة الله .

2- ان سيادة المصلحة الذاتية في الفلسفة السياسية الحديثة كانت تعني ان الاستعداد للاشتراك برؤى متعددة في وقت واحد قد لا يشكل ابدا اساسا للنظام السياسي. الأنانية اصبحت فضيلة سياسية سامية.

3 – واخيرا، ان الثورة في الوعي التاريخي تزامنت مع ثورة في العلوم الطبيعية تحققت من صلاحية الملاحظة. الافتراض السائد للعلم الحديث كان ان المظهر خادع والتصور غير موثوق به.

وفي القرن السابع عشر، اصبحت الرياضيات هي اللغة الجديدة للواقع. التجربة العادية لم تكن اكثر من مصدر للخطأ والوهم. لا الطبيعة ولا العالم يمكن تقييمهما بواسطة الذهن او الحواس. كل من العقل والتصور كانا غير كافيين لتوضيح الواقع او لإكتشاف الحقيقة. في النهاية،الارض، هي حقا تدور حول الشمس.

التعبير الأكثر قوة لهذه النتائج كان شك ديكارت الثوري. على عكس انسانيو النهضة الايطالية، ديكارت لم يثق بقدرات الانسان. الشك والشكوكية بقيا مسألة كبرياء فكري حتى القرن العشرين عندما حوّلتهما فيزياء الكوانتم الى سبب للقلق والخوف. الفيزياء جعلت الكون غير مفهوم ان لم يكن عصيا على الفهم. الحقيقة كانت تتجاوز الى ما وراء التصور العقلاني وكانت بنفس المقدار لا يمكن ادراكها بالحواس. التجربة اصبحت بلا معنى. ومع بدايات القرن الثامن عشر، وقبل وقت طويل من فيزياء الكوانتم، خمّن المؤرخ النابولي جيامبا تيستافيكو وحاول حل هذا المأزق. هو اعترف ان الكائن البشري لا يستطيع اختراق ألغاز الطبيعة والكون لأن الانسان لم يخلقهما. لكنه يمكنه فهم عمل ذهن الانسان ويديه. وبما ان التاريخ كان فقط نتاج ونتيجة للفعل الانساني، فان الكائن البشري كما اعتقد جيامبا يستطيع تمحيص الحقيقة التاريخية.

جيامبا،بالطبع،لم يتنبأ بالقوة التكنلوجية التي وضعها العلم بشكل عام والفيزياء خصوصا أمام الانسانية – قوة مكّنت الانسان من التدخل في الطبيعة بطرق غير مسبوقة. منذ منتصف القرن العشرين رسخ الانسان القدرة على إطلاق العنان للعمليات الطبيعية التي ما كانت لتوجد ابدا لو انه لم يتدخل بالطبيعة او يغير فيها منذ البدء. هم يستطيعون الان ان يقوموا في العالم الطبيعي بأفعال يصفها فيسو بالتاريخية. كمثال واضح، الانتشار النووي هو نظام مختلف عن استعمال الرياح او الماء او حتى تطبيق البخار والبترول لمساعدة عضلات الانسان. التصنيع كان تدميريا كما كان للتقاليد الاجتماعية والثقافية والسياسية والعلاقات الاقتصادية، ولايزال يحتاج الى اناس لخلقه عبر استعمال المواد التي وفرتها الطبيعة. العمليات الصناعية ايضا لها بداية واضحة ونهاية متنبأ بها. لا يوجد هناك منتج نهائي تولده عمليات مثل الانتشار النوي. بدلا من ذلك هناك فقط العملية ذاتها، سلسلة لا متناهية من الأحداث لايستطيع المخترعون الانسانيون معرفة محصلتها بالكامل او السيطرة عليها. وعلى الرغم من عدم التنبؤية هذه، في اللحظة التي بدأ بها الانسان العمليات الطبيعية، مثل فصل الذرة، فهو زاد من سيطرته على الطبيعة. وهو الموقف الذي قاد الى الهيمنة وربما تدمير الارض.

ورغم ان هذه الافعال سُجلت كتقدم، لكنها وُلدت على الاقل جزئيا من اليأس. "خطأ العقيدة القديمة في التقدم" كما أعلن الفيلسوف الاسباني جوس اورتيغاغاس،"يكمن في التأكيد المسبق بان الانسان يتقدم نحو الأفضل. وان شيئا ما يمكن فقط ان يتقرر لاحقا بسبب تاريخي ملموس"(9).

في سعيه الازلي واليائس لمعرفة الحقيقة او فهم الواقع من خلال التأمل وحده، بدأ الانسان الحديث بممارسة طاقته للفعل، مع كراهية الأخطار المتأصلة بهكذا مسار. هو لم يقم فقط بهذه المخاطر الحمقاء واطلاقه العنان لنواقص الانسان وتقلّبه حول العالم، وانما ايضا أراد من فعله ان يلغي كل قدرات الانسان الاخرى مثل قابلية التساؤل والتفكير. نحن نحتفل بانسان الفعل رغم ان القابلية على الفعل هي بلاشك من اكثر صفات الانسان المحفوفة بالمخاطر، مثلما تتجلى امامنا التهديدات الوجودية التي هي من صنع الانسان.

التأكيد على الفعل يكشف رفض القبول بمحدوديات الانسان. الكائن البشري في وعيه الحاد في كفاحه لتجاوز القيود المفروضة عليه، اغوي مرات ومرات ليرفع نفسه فوق مكانه الملائم. اغتصاب دور الله، يشوه طبيعة الوجود. الشيطان وعد :"انت يجب ان تكون كالله" .

القدرات الانسانية على اختلافها تكشف ضعف الانسان. الخيال المتألق، قوة الذهن، تبقى غير كافية لكشف كل أسرار الوجود. لا أحد من البشر يمكنه امتلاك فهم تام ودقيق وكامل او حتى معرفة بالذات وبالعالم وبالكون وبالماضي او بأي شخص آخر. هذه المحددات هي تحدّيات للانسان.

الوعي العميق بالتاريخ سوف لن يمكّننا من المراوغة وتسلّق ظروف الانسان. العكس تماما هو الصحيح. الوعي التاريخي لا يمكن فصله عن الواقعي جدا، وهكذا يأتي الكثير من الإقرار بالفشل في فهم طبيعة الانسان والعالم. مثل هذا الفهم القائم على استذكار الماضي، الذي وصفه المؤرخ الهولندي جوان هيزنبرج بـ "الإحساس التاريخي"، يربط وبشكل متباين البشر بالواقع الذي يبرز من تجاربهم ووعيهم (10). وعلى الرغم من معرفتنا غير التامة بالماضي والعالم وأنفسنا – المعرفة التي لا نستطيع تجاوزها – لكننا مع ذلك نعرف اننا نعرف. "الفكر يشكل عظمة الانسان"، حسب باسكال. "اذا كان الكون سحق الانسان،فهو لايزال اكثر نبلا من ذلك الذي قتله، لأن الانسان يعرف انه يموت وللكون ميزة التفوق عليه، الكون لايعرف شيئا من هذا (11). ان تقييم وعينا جعلنا واعين باننا نرى الواقع من منظورنا الخاص، والذي هو دائما محدود، جزئي، مشروط وغير كامل. هذا الاعتراف بمحدوديتنا ربما له تأثير مفيد في انتاج تواضع فكري. تاريخية الفكر ايضا تخون غياب او على الأقل عدم ادراك الحقيقة الأبدية. الحقيقة صعبة الفهم لكنها ليست وهمية او سريعة الزوال، بل هي تنشأ وتتغير خلال الزمن. كتب اورتيغا، "ان شيئا غير صحيح في كل الاوقات" "لا يعني انه ليس له لحظة من الحقيقة"(12). هذا الاعتراف يؤسس الشكل العام لوجود الانسان، لأنه يكشف ان الكائن البشري يقف مرة اخرى في مركز الخلق، وهو ما لايوجد ولا يمكن ان يوجد بعيدا عن الذهن. الحياة لها معنى نحن نخلقه وننسبه لها. الموضوعية،اذاً، ليست معيارا للحقيقة اكثر مما ان الانسان متشابك بلا أمل في شبكة من الذاتية. كل فرد هو متفرد وقادر بتفرد على ايصال رؤاه الشخصية للحقيقة. البُعد الشخصي للمعرفة يكشف ليس النسبية وانما تاريخية الفكر والمعرفة والتعبير. وسط رفض الموقف المألوف والعقائد العرفية، وتشظي المعرفة وما رافقها من اضطراب وخوف ، ادّى الوعي التدريجي بالسمة التاريخية للوجود الانساني الى تعميق الوعي الذاتي الذي يؤشر الطريق للخروج من المأزق. تحدّي سقراط في "إعرف نفسك" اصبح يعني في زماننا إعرف ماضيك، إعرف تاريخك. طبقا لاورتيغو "الانسان،باختصار، ليس له طبيعة، ما لديه هو تاريخ .. هو يجد انه ليس لديه طبيعة عدى ما يقوم به بنفسه"(13).

الوعي التاريخي والمعرفة الذاتية المصاحبة له يبيّنان ما اصبح عليه الانسان، وما عمل لنفسه، ليس فقط من خلال أعماله وانما ايضا وهو الأكثر أهمية من خلال التأمل بما كان فيه. هذه الرؤى مجتمعة تشكل أساس الإنسانوية الجديدة، تشجعنا للالتفات الى الوراء والى الداخل بدلا من النظر الى الأمام والى الخارج في البحث عن الحقيقة والواقع والمعنى، انها تدعونا اخيرا لمواجهة أنفسنا.

***

حاتم حميد محسن

..............

History and The New Humanism, March 6th 2023, The Imaginative conservative.

الهوامش

(1) هيرودوتس، التواريخ، ترجمة روبن ويكفيلد (نيويورك، 1998) ص3.

(2) ليبولد فون رانك، "جزء من ثلاثينيات القرن التاسع عشر"،في المؤرخ الامريكي فرتز ستيرن (أصناف من التاريخ من فولتير حتى الحاضر،نيويورك،1973،ص59).

(3) جون باجنل بيري،"علم التاريخ"،في المرجع السابق،ص211 و219.

(4) نورمان كيمب سمث، كتابات ديكارت الفلسفية، نيويورك،1958،ص131.

(5) ويرنر هيزنبيرج،المشاكل الفلسفية للعلوم النووية (نيويورك،1952) ص24.

(6) ويرنر هيزنبيرج، الفيزياء والفلسفة: الثورة في العلم الحديث،(نيويورك،1962) ص81

(7) مقتبس من J.W.Swain"ماهو التاريخ؟" مجلة الفلسفة، عدد 21،رقم 13.

(8) كارل بيكر، "كل انسان هو مؤرخه الخاص به" (المؤسسة التاريخية الامريكية،2009)،ص17.

(9) جوس اورتيغا غاسيت، التاريخ كنظام ومقالات اخرى نحو فلسفة التاريخ، ترجمة هيلين وي،(نيويورك،1961، بالأصل نُشرت عام 1941) ص218.

(10) جوهان هوزنك، "مهمة التاريخ الثقافي"، في رجال وافكار، ترجمة جيمس هولمس وهانس فان مارل (نيويورك،1959) ص53.

(11) بليز باسكال، الافكار، ترجمة W.F.Trotter(نيويورك،1958) ص346،347،97

(12) مقتبس من هارولد رالي، جوس اورتيغا: فيلسوف الوحدة الاوربية (Tuscaloosa,Al,1971) ص21.

(13) اورتيغا كاسيت، التاريخ كنظام،ص217.

 

أول المشاكل التي يجب على الفلسفة التخلص منها أو أيجاد حلا لها هي مسألة النبذ المصاحبة لها، فالفلسفة ما زالت تحيط بها الأحكام الخاطئة التي أطلقت عليها قديما نتيجة محاربة البعض لها حيث لم تكن تخدم مصالحهم الشخصية مما جعلها منبوذة بشكل كبير، ولا يمكن نكران حدوث مواقف رفض الفلسفة ومحاولة التخلص منها ولعل أشهرها هو ما حدث مع ابن رشد الفيلسوف الأندلسي حيث قام بعض المعارضين له بتوجيه الاتهامات نحوه بالإلحاد والكفر فتم حرق كتبه ونفيه مع تلامذته إلى اليسانة ومنع قراءة كتب الفلسفة، الاتهامات التي وجهت إلى ابن رشد كانت بالأحرى موجهة إلى الفلسفة وهي احد أبشع الاتهامات التي تلتصق بها حيث أن الإلحاد والكفر موجود أن وجدت الفلسفة أم لم توجد، الفلسفة ليست شرارة الإلحاد، على العكس فأن الفلسفة هي تأمل وتفكير بالأديان السماوية للتقرب منها وفهمها، وهذا ما يؤكده ظهور فلسفة الدين والفلسفة الإسلامية، كما إن البعض قد ادعى أن الفلسفة تقود إلى الجنون والبعض الأخر يزعم أنها معقدة لا فائدة منها وكثيرا من الاتهامات الأخرى التي وقف عندها الدكتور محمود السيد مراد أستاذ الفلسفة في جامعة سوهاج وشرحها تفصيليا مع الرد عليها.

جميع هذه الإحكام أدت لنبذ الفلسفة والنظر إليها بكونها أخر شيء يلجا إليه الإنسان عندما يصبح غير نافع في مجتمعه أو محبط في حياته وأنها نوع من أنواع الانطواء الذي يتهرب منه العامة حتى لا تصيبهم العدوة، عدوة التعقد، وحتى من يميل إليها فهو أصبح كذلك منبوذ من أقرانه فحواره يطول وإقناعه صعب دون حجة يقينية بل ذهبوا إلى ما هو أسوء فأصبحت المرأة المحبة القارئة للفلسفة متمردة تملك عقلية رجولية ! وكأن الرجل الوجه الأخر للفلسفة، ومن الطبيعي أن نرى هذه الأفكار عبارة عن خزعبلات لا صحة لها لان جميع من يميل للفلسفة امرأة كانت أم رجل فهو يحاول إدراك وجوده وفهمه هو يريد نيل المعرفة ويبحث عن الحكمة اللامتناهية من خلال ممارسة نشاط التفكير والشك للوصول إلى الحقائق المطلقة التي هي مكنونات هذا العالم ولعل السبب وراء أطالت هذه الاتهامات حول الفلسفة هو ما حدث لبعض الفلاسفة، كما حدث لنيتشه حيث كانت نهايته المصحة العقلية وقيل إن الفلسفة هي وراء ما أصابه ألا أن جنون نيتشه كان لمرض وراثي أو بسبب تأثير الأدوية التي تناولها للتخفيف من الصداع النصفي ولا علاقة للفلسفة به بل أن جنون نيتشه قد عرف لأنه فيلسوف ! فلو لم يكن نيتشه فيلسوفا لكان مجرد مجنون كما غيره . غير أن كل حجة تجعل من هذه الاتهامات حقيقة تقابلها حجة أخرى معاكسة لها فكما تتهم الفلسفة بالإلحاد والكفر لان بعض الفلاسفة تدعو إلى ذلك فهناك فلاسفة تؤمن بوجود الخالق وكما تتهم بالجنون فهي أيضا اهتمت بالعقل والفكر المنطقي للحد الذي أصبح هناك فرعا خاص بهذه الدراسة وهو فلسفة العقل كما أنها تدخل في كافة المجلات وتطور الفكر الفردي وبالتالي الاجتماعي، ما نود الإشارة إليه بعد هذا التوضيح هو إننا بحاجة لإزالة هذه الاتهامات من الفلسفة لتكن محببة مثلها كمثل باقي التخصصات مما يدفع الجميع لدراستها وعدم نبذها فذلك يعود على الإنسان بمعرفة قيمة الحياة والمجتمع وحتى الفكر ويتخلص من أوهام العقل والشكوك، نحن بحاجة إلى دراسة الفلسفة والتوعية لها من اجل صنع جيل مفكر ناضج يملك من المعرفة ما يجعله منتج لا مستهلك مقلد دون إدراك وفهم .

***

حوراء ستار

 

يقصد بالدين الطاعة للنص الديني المقدس.. فالمتدينون هم الذين يطيعون النص المقدس ويمثلونه امام العامة. ويقصد بالنص هنا نفحة الروح عند الانسان. اما كلمة الاسلام فيقصد بها الاستسلام للحقيقة والطاعة للحق والعدل. وهذا يعني ان الحق بالنسبة للدين هو الوجود الموضوعي خارج الذات الانسانية، وهو يحتوي على القوانين العامة الناظمة للوجود الموضوعي ولحركة تطور التاريخ.. وليست العادات والتقاليد التي عفا عليها الزمن.. التي يمثلها رجل الدين.

ان الاستقامة في الدين تتمثل بتطبيق النص المقدس الذي لا يقبل الاعوجاج،أما الحنيف فهو الفهم الانساني النسبي المتغير. لذا قال النبي ابراهيم عندما حوصر من قبل اتباع الاصنام قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما انا من المشركين 79 الانعام ". اي انا من اتباع الاستقامة والتوحيد لله. أي انه مسلم وبما ان لاحد قبله تمثل بهذه الصفة فمنه بدأ الاسلام.. حتى عرفت ديانته بالديانة المسلمة الأبراهيمية.

وتعاقبت الديانات بعد ابراهيم فمرت بادوار ذكرها القرآن مرورا، وذكراً في انبيائها حتى استقرت في موسى ممثلاً للديانة اليهودية وعيسى ممثلاً للمسيحية واوصى الله نبي الاسلام محمد(ص) بالتعرف على الديانات السابقة لأستكمال رسالته الاخيرة للعالمين،يقول الحق : "ويعلمهُ الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل آل عمران 48 ". لتكتمل عقيدة الدين.. "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا المائدة آية 3. "

كل هذه الديانات بدأت تفكر في شئون الكون على اساس الفكر غير المقيد، والعقل المتطلع المتعطش الى المعرفة ايضاً،والتجربة التي مرت بها الشعوب التي أنضوت تحت ظل هذه الديانات الآلهية.. ولو استمرت هذه التجارب تتصاعد الى الحقيقة المطلقة لأذهلوا العقل الانساني وتنبهوا الى كل جديد لاسيما وان الانسان منذ عصر الحضارات الكبرى القديمة السومرية والفرعونية بدأ يتطلع الى عصور قادمة يسود فيها القانون أكثر وهو اصل الحضارة في الوجود.. ولهذا لا زلنا الى اليوم نحس بأن علوم القدماء وقوانينهم موضع اعجاب العلماء المُحدثين ومؤرخي التاريخ القديم. لابل نستطيع ان نقول ان قوانينهم كانت تحوي من حقوق الانسان افضل من قوانين الحاليين " شريعة السومرين وقوانين حمورابي البابليين والوثائق الاشورية التي احتوت الكثير.. وعلوم المصريين في الطب والدواء والبناء والتحنيط التي لا زالت لم تفك رموزها الى اليوم.. والقوانين.. وان كانت قسرية التطبيق.

من هنا بدأ العلماء يفكرون بدراسة القديم للتطلع الى كل جديد فقويت هذه النظرة واصبحت صادقة لفتت الانظار الى ضرورة معرفة اهمية العلم وما ينبغي ان تكون له من مكانة في مسيرة الفكر الانساني الجديد.. لذا فالانفتاحية وحرية الرأي وابعاد التزمت الديني عن هذه المسيرة هي اصل كل ابتكار جديد. يقول الحق :" قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق،العنكبوت 20". أي كيف بدأ وتطور.

هنا لابد من جديد في مفهوم العلم عند كتابنا في العصور الوسطى وحتى اليوم حين قرنوه بالنص الديني الذي لا يقبل التأويل، حتى قالوا ان العلماء هم ورثة الانبياء.. فأدخلونا في قوقعة افكار التزمت التي لا علاقة لها في الدين في وقت دعا القرآن الى العلم الواسع في البحث والنظر والتأمل في الكون ودراسته لمعرفة حقائق التطور الكوني وفق قوانين مقدرة.. ولم يميز بين الانبياء كما هم يميزون اليوم حتى بين الانبياء والرسل حين يقولون " محمد اشرف الانبياء" والنص يقول : كل من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احدٍ من رسله البقرة 285" هنا علينا ان نكف عن السير وراء القطيع.. من حقنا جميعا ان نسأل ونتسائل في كل شيء وأي شيء بلا ممنوعات ولا محظورات.. فالفقهاء وحتى الانبياء جميعا ليسوا هم وكلاء الله في الارض ولا يملكون عصمة القدر والتقدير.

من هذا التوجه الفقهي الخاطىء فهم لا يخرجون في احاديثهم عن نطاق علوم الدين من قرآن وتفسير ترادفي خاطىء وحديث مزور، وفقه متضارب، حتى قالوا : ان الانصراف الى دراسة ما سوى ذلك أنما هو مضيعة للوقت وصرف للانسان عن عبادة الله. فالعلوم الطبيعية التي يهتدي اليها الانسان بفكره هي العلوم الطبيعية وهي العلوم التي ترتبط بالحكمية الفلسفية التي يهتدي الانسان اليها بمداركه البشرية التي تتمخض عن فكره الحر دون المقيد ليتبين له الصحيح من الخطأ.. وهكذا تطورت النظريات..

اماعلومنا النقلية الوضعية هي كلها مستندة الى الخبر عن الواضع الشرعي ولا مجال فيها للعقل الا في الحاق الفروع من مسائلها بالاصول. واصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات من الكتاب والسُنة التي هي مشروعة لنا من الله والرسول،وما يتعلق بذلك من العلوم التي تهيئها للافادة وتتبعها علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة وبه نزل القرآن.

لذا ظلت العلوم الطبيعية عند المسلمين تسمى صناعات كالطب والهندسة والزراعة وغيرها، فادرجوها مع التجارة والحدادة فلم تكن ضمن العلوم البحتة ولا حتى المشتغلين بها من العلماء. نعم كل العلوم نجدها عندهم تندرج تحت اسم علوم الدين وهنا كان التوقف العلمي عند العرب والمسلمين ولا زالت مؤسسة الدين الى اليوم تنظر اليها بنفس المنظار.. بعد ان فقدوا واهملوا العلم الطبيعي قاعدة العلوم.. حين اصبح العلم يقتصر على علوم الدين.. كما جاءعند ابن النديم في الفهرست والفارابي في تصنيف العلوم.. لدرجة ان مؤسسة الدين تعتقد ان علوم الدين افضل العلوم.

اوربا انتقلت من هذه المحنة :من العلم الارسطي الى منطق علمي جديد، يقوم على العلم والتجربة. هذا التوجه ظهر عند جماعة اخوان الصفا وخلان الوفاء والمعتزلة لكنهم حوربوا من قبل السلطة الدينية ولم يتمكنوا من الانتقال الى قاعدة العلوم الطبيعية حتى كون الفقهاء سداً نحوهم في التقدم.. نعم، ظهر عندنا العشرات من العلماء في الطب والهندسة والكيمياء من امثال ابو بكر الرازي وجابر بن حيان والزهراوي وغيرهم كثير.. هؤلاء الذين كان بامكانهم نقل مركز الثقل من الخيال النصي الى الواقع، ومن النظري الى العملي.. لكنهم جميعا وقعوا تحت رحمة فقهاء السلاطين الذين حالوا دون تقدم النظريات الفكرية عندهم كما في فقهاء البويهيين والسلاجقة ومن لف لفهم من الاخرين.

سنبقى هكذا ما دامت الفلسفة التي هي ام العلوم محرمة ليحل محلها علم العقيدة المحدود،وقوة العلماء في البحث محددة بشروط الحلال والحرام التي لم تستطع ان تُنشأ الوعي العلمي والخلقي لايجاد قوانين جديدة تتماشى مع التطور التاريخي في التطبيق.. وترتقي بالصناعات والفنون والعلوم التطبيقية ليتحسن شكل الحياة ويسود التفاءل والتقدم سائر نواحي النشاط الانساني، وهنا يصبح التفكير الحر عقيدة في التغيير.

ناهيك عن الاستبداد الديني المطلق الذي لا يعرف قيودا او حدودا او يعترف بحقوق احد.. لابل عمدت الحكومات السلطوية الى اليوم من ابعاد العلماء والمفكرين وقتلهم احيانا خوفا على السلطة لا الدين. وحتى لوكنا نملك نظاما استبداديا لكنه مصحوبا بالانضباطية او محكوما بنظم وقوانين، وعقودا على المصالح المتبادلة لتقدمنا مثل الاخرين، ولجتزنا المعوقات على طريقة النظام الاوربي القديم في حين ان نظم الشرق العربي والاسلامي لم يخرج منها شيء على الاطلاق.. لان النظام الديني المتبع عندنا البارحة واليوم نظام عقيم أجرد لا يمكن ان تنبت فيه شجرة العلم.. لأعتقاده بضروة كسب المال والسلطة والجنس.

انظروا الى وطننا في العراق كيف يُحكم بقوانين الدين وجعل التشريع هو اصل القوانين انظر الى المادة الثانية من الدستورالعراقي الجديد التي لا تسمح باصدار القوانين التي تتعارض مع التشريع "لا يجوز سن اي قانون يتعارض مع الشريعة" هنا تحدد التطور والتغيير الا على هواهم.. وفرقوا بين الرجل والمرأة في الحقوق والاوقاف "الوقف الشيعي والوقف السني" ليتمكنوا من تجذير المذهبية والطائفية بين المواطنين.. وتلتزم بفقهاء الدين والمرجعيات جامدة الفكر والتفكير وتبعد العلماء والمفكرين وتعمد الى تصفيتهم كما نراهم اليوم دون وازع من ضمير.. وتلغي العلوم الفلسفية لتحل محلها علوم العقيدة جامدة التغيير،من هؤلاء يرتجى التغيير.. مستحيل.. ففاقد الشيء لا يعطيه.

نعم حان الوقت - ونقول كفاية – للتخلي عن التعصب الديني والطائفي المقيت.. ويجب الاعتراف بان الحقيقة الدينية تتغير وتتطور وليست هي مطلقة ومنقوشة فوق حجر.. فمتى نتحرر؟ نقول: لا داعي لتكرارتقاليد الماضي السحيق والتعلق بالمرجعيات الدينية والاوصياء فقد جاؤا لعصر قديم نهتدي بهديهم دون التزام في التطبيق.. ونلغي شعائر التخلف والتخريف والادعية والتوسل بالصالحين ونحل بدلها نظريات التحدي في التحقيق كما في مناسبات الطوائف المقيتة المكررة التي تأخذ منا كل تفكير جديد.. ونكتب منهجا دراسيا جديدا يتماشى مع الزمن في التغييركما حصل عند الأوربيين.

الشعوب يجب ان تحرر نفسها بأيديها من كل الغاصبين السلطويين ومحبي المال الحرام الذين يدعون ان مال الدولة مجهول المالك وهم احق فيه كما هو اليوم في عراق المظلومين تطبقه مؤسسة الدين، والاسلام بريء منهم ابداً. ويقف الشعب العراقي في المقدمة بحاجة التغيير..؟ نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة او بعضها.. لا اعتقد ان هناك من يحترم الحقيقة بعد ان اصبحت الخيانة.. والمال والمنصب وانهيار قيم الحياة المقدسة.. وشيوع نظرية الفساد والتعامل معه شطارة على المواطنين.. عقيدة.

فلا تجعلوا الشر جامع لمساوىء العيوب..

***

د. عبد الجبار لعبيدي

 

 

لا يحب الذين يضعونه في خانه الاطباء وينكرون عليه لقب "الفيلسوف". يكرّر في سيرته الذاتية التي كتبها في السنوات الأخيرة من حياته: " إن ناسا من اهل النظر والتمييز والتحصيل لما رأونا نُداخل الناس ونتصرف في وجوه المعاش عايرونا واستنقصونا وزعموا أننا حائدون عن سيرة الفلاسفة ولا سيما عن سيرة امامنا سقراط ". كان عاشقا لسقراط، لكن الفرق بينه وبين الفيلسوف الاغريقي كما يقول يتلخص في كيفية العيش. فسقراط الذي عاش حياة بسيطة، يرتدي الثياب الرثة، يصفه تلميذه افلاطون في محاورة المأدبة " – ترجمة وليم الميري – بان له انف افطس، وعينان مشعتان، وشفتان متهدلتان، وكرش كبير. لم يحاول اخفاء بشاعته تحت الثياب المرفهة، فكان يتنزه عاري الصدر، وكان يرتدي صيفا وشتاءً المعطف نفسه، عاش حياة فقيرة بشهادة افلاطون الذي يخبرنا ان استاذه انصرف عن الانشغال باشياء أخرى غير الفلسفة. كان سقراط يقول للجميع ان مهمة الفلسفة هي الاعتناء بالنفس الانسانية، ويؤمن بعدم قابلية الفصل ما بين القول وقائله، يكرس وقته كله للفلسفة، لكنه لم يعتزل الناس. يقول ابو بكر الرازي في كتابه " السيرة الفلسفية " ان سقراط كان يتمتع بعقلية مثيرة للاهتمام، انه يجبرنا على التساؤل عما إذا كان هناك أي شيء أكثر قيمة في الحياة من الشعور بالرضا من نفسك.

يبدأ ابو بكر الرازي بتقديم فرضياته الفلسفية بالقول ان " ذلك الذي يدرس اعمال القدماء، يكسب تجربة عملهم كما لو هو نفسه قد عاش الآف السنين التي مضت في البحث والتحقيق – رسائل فلسفية –. يستقي من جالينوس الحكمة التي تقول: "ان الطبيب الفاضل فيلسوف "، ونجده مثل معلمه سقراط يُدين الذين يتسكعون في المساجد ويحجمون عن كسب عيشهم ولا يقومون بأي عمل.فالمعرفة تنال بالاجتهاد والتجربة وبالتفكير العقلي لا بالاوهام والالهام ولا بالكشف الصوفي. يطالب بالمحافظة على العقل حتى لا يضعف الضمير. ومن رأي الرازي ان من خالف حكم العقل، جرفه الهوى الى الخطيئة والظلال. ويرى أن لا غنى للحياة عن التجربة، فهي واجبة لأنها صلاح الانسان، وان قوام التجربة " الاخلاص والعقل، وان الحقائق لا ينبغي ان تكون مقبولة او مرفوضة سوى بالتجربة التي تبرهن على صحتها او زيفها – الرازي الرسائل الفلسفية -.

يعتبر التفكير في الارادة مسالة اساسية في استراتيجية الرازي لعيش حياة سعيدة، فهو يرى اننا في افعالنا الارادية فقط نحقق انفسنا ككائنات موجودة، لان قوة الارادة فضيلة يتشرف بها الانسان. يقول الرازي في كتاب السيرة الفلسفية الذي يعد نموذجا للاصول الاخلاقية لهذا الفيلسوف: ان الانسان من باب التشبه بالله الذي هو رحيم وعادل ينبغي أن يكون عادلا ورحيما مع الخلق ومع نفسه وأن يتجنب الضرر بالآخرين والضرر بنفسه، وهو يقول ينبغي على كل انسان ان يكبر الإلهي في نفسه عن طريق استكمال العلم.

يكتب ابن خلكان كان الرازي قد قرأ الفلسفة " قراءة رجل متعقب على مؤلفيها، فبلغ من معرفة غوابرها الغاية، واعتقد الصحيح منها وعلل السقيم " – وفيات الاعيان تحقيق احسان عباس –

وجد ابو بكر الرازي ان التفكير العقلي هو ما يثري الحياة بوجه خاص وفي " الطب الروحاني " – تحقيق الدكتور عبد اللطيف العبد - يوضح كيف تقود الاسئلة الكبيرة الى اتساع مداركنا، مشيدا بالعقل، المنطبع فطريا في كل انسان والذي لا يقتضي إلا المران والجهد ليعمل. ولا يوصف العقل في هذا الكتاب إلا من خلال المنفعة الدنيوية، فهو يوفر الكثير من المكتسبات والمنافع، ويقينا من الوقوع في الخطأ، ويحامي عنا، ويؤكد تفوقنا على الخليقة كلها. وهو يذكر بأن اول ما فضله الله هو العقل، وهو ملكة الارادة التي لا تطلق الفعل إلا بعد روية وتفكير،: " ان الله اعطانا العقل وحبانا به، لننال وتبلغ من المنافع العاجلة والاجلة، وانه أعظم نعم الله عندنا، وأنفع الاشياء لنا، واجداها علينا ".

يترك لنا المؤرخون روايات متناقضة عن سيرة " ابي بكر محمد بن زكريا الرازي "، لكننا سنعرف انه ولد في العاشر من نيسان عام 864 ميلادية في مدينة الري القريبة من طهران، رحل والده بعد مولده بسنوات قليلة، كان الاب يعمل اجيرا. في واحدة من اجمل السير الفكرية يكتب الرازي: " لم يظهر من افعالي ما استحققت ان يقال ان سيرتي ليست سيرة فلسفية..لم ازل منذ حداثتي وإلى وقتي هذا مكبا على العلم حتى ضعف بصري ".في هذا الكتاب يفسر لنا كيف انه اتخذ من القراءة والكتابة منهجا، حتى انه كتب: " وبلغ من صبري واجتهادي اني كتبت في عام واحد اكثر من عشرين الف ورقة ". وهو يخبرنا انه بدأ حياته وسط الكتب وسينهيها وسط الكتب.3060 الرازي

عاش طفولة صعبة، عانى اليتم وتسلط زوج الام، تعلم ان يتحكم في نفسه وتعلم من استاذه " أبو زيد البَلْخِي " التواضع: " لم يبد مني بخل او تبذير، ولا كانت لي منازعات او مشاجرات، كما انني لم انصرف قط ضد احد " – السيرة الفلسفية – يخبرنا ابن النديم ان الرازي كان" كريما متفضلا باراً بالناس حسن الرأفة بالفقراء حتى انه كان يجري عليهم الجرايات الواسعة ويعوضهم " – الفهرست تحقيق محمد المرعشلي -. عمل في عدة مهن ليعيل عائلته،، تنقل بين الصيرفة والصياغة وبيع القماش، وبرغم ظروفه المادية قرر ان يدرس الموسيقى، فقد كان عاشقا للغناء والالحان.تردد على بعض الفقهاء واللغويين ليكتسب معرفة بالدين والادب والشعر، وبدأ يخطط ليصبح شاعرا، ولما لم يجد قي الشعر غايته اتجه إلى دراسة الكيمياء التي تفوق فيها فالف وهو في الخامسة والعشرين من عمره كتابا بعنوان " صناعة الحكمة " قال عنه: " وكتبنا في صناعة الحكمة التي هي عند العامة الكيمياء ". ونجده يعارض جابر بن حيان، حيث كان الرازي يرفض التأويلات الرمزية والباطنية لاحداث الطبيعة. في الثلاثين من عمره يقرر السفر الى بغداد، ويذكر ابن ابي اصيبعة في كتابه " طبقات الاطباء " ان الرازي عندما دخل بغداد، شاهد المستشفى الكبير " البيمارستان "، فحاول ان يعرف ماذا يجري فيه، تحدث مع العاملين في المستشفى عن الادوية وتراكيبها، واكتشف ان اهل بغداد يطلقون على الدواء اسم " حياة العالم ". ولم يزل يسأل في شؤون الادوية والطب حتى قرر ان يتفرغ لدراسة الطب وكان قد بلغ الاربعين من عمره.في بغداد بدأ الفقر يطارده، الأمر الذي دفعه للعمل في مهنة الصيدلة.كانت مهمته تخضير الدواء، وفي الوقت نفسه تفرغ لقراءة كتب ابو قراط وجالينوس في الطب، واخذ يتردد على المستشفى ليشاهد بنفسه كيف يتم معالجة المرضى يكتب: " ان قليل المشاهدة المطلع على الكتب، خير ممن لم يعرف الكتب ". بعد ان تمرس الرازي في الطب عاد الى بلدته " الري " حيث كلف بادارة مستشفاها بطلب من الحاكم منصور بن اسحق، وكرس الرازي لهذا الحاكم كتابه " المنصوري في الطب " - تحقيق حازم البكري الصديقي – وكتاب "الطب الروحاني"، الاول يختصّ بأمراض الجسم، والثاني بأمراض النفس. ويعدد ابن النديم كتب الرازي في الطب فيقول انها بالعشرات.وكان الرازي يقدس مهنة الطب ويعدها من الفضائل، ولا يكتفي الرازي بدراسة الطب والكتابة فيه، بل يؤكد على اهمية التجربة والممارسة، وكان يرى ان " الحقيقة في الطب غاية لا تدرك والعلاج بما تنص عليه الكتب دون اعمال الماهر الحكيم برأيه خطر " كما ان " اقتصار الطبيب على التجارب دون القياس وقراءة الكتب خلل ".. وكان شعاره في العلاج: " ان ما استطاع معالجته بالغذاء لا يعالج بالدواء، وما يمكن علاجه بالدواء لا يعالج بالجراحة ". حقق الرازي نقلة جذرية عندما افسح حيزا مهما لـ " التجربة ". لقد كان مدافعا عن اهمية الملاحظة والخبرة الشخصيتين.

يخبرنا البيروني ان الرازي كتب اكثر من " 60 " كتابا. ومن اهم اعماله كتابه الموسوعي " الحاوي " الذي يعد من وجهة نظر البعض أهم من كتاب الـ " قانون " لابن سينا. وكان الرازي قد اعد الكتاب في صورة مذكرات متعددة، وقد جمع فيه الكثير من التجارب والدراسات..بعد ان حاز الرازي على الشهرة يعود الى بغداد ليتولى الاشراف على المستشفى الذي سمي على اسم الخليفة المعتضد، امضى السنوات الاخيرة من عمره في مدينته " الري " وبسبب انهماكه في القراءة والكتابه اصيب بالعمى، وعندما عرض عليه اجراء عملية لازالة الماء رفض قائلاً: " قد ابصرت من الدنيا حتى مللت منها "، حاصرته الامراض التي تسببت في موته في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 923 ميلادية.

في الخمسين من عمره يفاجئ ابو بكر الرازي المقربين منه بكتاب مثير ومدهش اطلق عليه اسم " الطب الروحاني "، وكان قبله اصدر كتابا صغيرا بعنوان " طب المنصوري " لم يثر الاهتمام في حينه، حتى انه قال لطلبته " يبدو ان الكتابة عن الطب اشبه بالكتابة عن السحر ". يبدأ كتاب " الطب الروحاني بتمهيد يشيد بالعقل، المنطبع فطريا في كل انسان والذي لا يقتضي إلا المران والجهد ليعمل، ولا يوصف العقل في هذا الكتاب إلا من خلال المنفعة الدنيوية " فهو يوفر الكثير من المكتسبات والمنافع، ويقينا من الوقوع في الخطأ ويحامي عنا، ويؤكد تفوقنا على الخليقة كلها "، وفي هذا الكتاب ومعه كتاب " الحاوي " يقدم الرازي تمهيد لفلسفته التي ارادها فلسفة مستقلة، او فلسفة مجتهدة، وكان الرازي يرى عكس معظم فلاسفة الاسلام ان الفلسفة ليست من اختصاص الحكماء فقط، فالناس متساوون في العقول وان اختلفت حظوظهم من المعرفة بسبب اختلافهم في بذل الجهد من اجل التعليم، ولهذا نفى عن نفسه انه احق بالفلسفة من غيره، فقال انه يتميز فقط بشدة الطلب والتحصيل، اما سائر الناس ممن لم يهتموا بالفلسفة، فانما حرموا ذلك لاضرابهم عن النظر لا لنقص فيهم واستدل على ذلك بان احدهم " يفهم في امر معاشه وتجارته وتصرفه في هذه الامور ويهتدي بحيلته الى اشياء تفوق عن فهم كثير منا، لانه صرف همته الى ذلك " – الفهرست ابن النديم -. ولهذا نجد الرازي يجاهر بفلسفته ايمانا منه بأن الناس سيفهمونه، وقد اعطى للفلسفة وظيفة المخلص من الشر، ومع اهتمامه بدور الفلسفة ومسلك الفلاسفة فقد اهتم بشكل خاص بالسلوك العملي للناس. ويعكس في كتابه " الطب الروحاني " عدم اليأس من صلاح الانسان تعززه من جهة أخرى ثقته بوعي وسلامة العقل الانساني.يدعونا الرازي الى تغيير فهمنا لانفسنا، نحن في حاجة الى العودة الى الفلسفة،والى المزيد من الجدية في التعامل مع مسالة الوصول الى التفكير العقلي.

رغم المكانة التي حظي بها الرازي كونه طبيب للامراء والحكام، إلا انه خضع للرقابة إذ ان كتابه " مخاريق الانبياء " قد اتلف وتم شن هجوم عليه من بعض رجال الدين كان ابرزهم الاسماعيلي ابو احمد بن حمدان الرازي الذي كتب: " وزعم الزنديق (الرازي) انه بحكمته قد فهم ما كان مجهولا لاسلافه، وقد كتب مقالة مرتبكة وحمقاء، قال فيها انه في مجال الفلسفة كان ندا لسقراط " –اعلام النبوة في الرد على الملحد ابو بكر الرازي تحقيق وتقديم جورج طرابيشي –. يذهب الرازي مذهب الربوية وهي الفلسفة التي تجمع بين الايمان بالله وقدرة الانسان على اقامة علاقة مباشرة بينه وبين الله من دون وسيط، ويذهب قسم من " الربيون " الى وجود علاقة مباشرة بين الله والانسان، ويسمى في الفلسفة الاغريقية هذا النوع بالدين الطبيعي الحر غير المقيد بشريعة سماوية، ولعل اقدم نزعة ربوية ترجع الى ابيقور الذي دعا الى التحرر من الدين وانكار تدخل الألهة في شؤون البشر، رغم اقراره بوجودهم، فقد اعلن ابيقور ان الله لا يحتاج الى عبادة وانه لا يستمع لادعية الناس، يكتب ابيقور: " لو استمعت الإلهة الى ادعية الناس لهلكوا سراعا، لاأنهم يدعون دائماً بالشر على بعضهم " – ابيقور الرسائل والحكم ترجمة جلال الدين سعيد - ويمكن اعتبار الرازي اهم المنظرين للربوية في الفكر الاسلامي، فهو يؤمن بوجود الله، ودوره في خلق العالم والعناية به، لكنه يستبعد اي دور للمؤسسة الدينية ويضع العلاقة مع الله على مستوى الافراد ونجده يكتب: " فما وقع من الاختلاف بسبب الاديان ومن الاقتتال الذي اهلك العديد من البشر لا يمكن ان يصدر عن السماء "، وفي رده على الاسماعيلي " ابو حاتم" يبين ان الدين يتعارض مع حكمة الله، لأن الله حين يختص قوما برسالة سماوية ويختصهم بدين معين دون غيرهم من البشر ويفضلهم على الناس،إنما يقوم بدور المحرض على العداوة " – الرازي الرسائل الفلسفية – ويرى ان حكمة الله تقتضي ان يكون الالهام الإلهي مشاعا بين الناس حتى يتساووا في المعرفة ويتجنبوا الفرقة والخصام ويهلك بعضهم بعضا ".وفي سجاله مع ابو حاتم الاسماعيلي يحاول الرازي ان يكشف عن تناقضات النصوص المقدسة رغم انتمائها المفترض لمصدر واحد.

كان اشتغال الرازي بالفلسفة يعد نقطة تحول في حياته، وافتراق بينه وبين معظم فلاسفة الاسلام، فهم يهاجم اولا ارسطو الذي يعتبره فلاسفة المسلمين معلمهم الاول، ويسخر من نظرياته الطبيعية والميتافيزيقية. كما انه يرفض محاولات التوفيق بين الفلسفة والدين. ويرى ان الفلسفة هي السبيل الوحيد لاصلاح الفرد والمجتمع. وان الاديان تدعوا الى التنافس والحروب. كتبه التي كتبها في هذا المجال اعتبرت في خانة الزندقة، وكان ابرزها كتاب " مخاريق الانبياء " وكتاب " نقض الاديان "، يذهب ماسينون الى ان تاثير الرازي في مجال نقض الاديان امتد الى اوربا، وكان منبع تلك الاعتراضات التي وجهها فلاسفة عصر التنوير الى الدين والكنيسة. يقول الرازي: " الاولى بحكمة الحكيم ورحمة الرحيم ان يلهم عباده اجمعين معرفة منافعهم ومضارهم ولا يفضل بعضهم على بعض، فلا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيهلكوا، وذلك احوط لهم من ان يجعل بعضهم ائمة لبعض فتصدق كل فرقة امامها وتكذب غيره ويضرب بعضهم بالسيف ويعم البلاء بالتعادي والمجاذبات، وقد هلك بذلك كثير من الناس كما نوى – اعلام النبوة في الرد على الملحد ابو بكر الرازي تحقيق وتقديم جورج طرابيشي -.ان الفلسفة الربوية عند الرازي ترى ان شر العالم والسوء، لا يمكن ان يصدر عن الله المعروف بعدله وطيبه ورحمته.

صحيح ان الرازي كان رجلا شكاكا إلا انه في الوقت نفسه كان عميق الايمان، قدم اطارا فلسفيا لعملية الشك، وفتح الباب امام الجدل والبحث العلمي والفلسفي، وهو يُذكرنا ان الحكمة يمكن أن تأتي من مصادر شتى. يمكن أن تأتي من الحدس مثلما يمكن ان تأتي من التفكير العقلي، ويمكن أن تأتي من العلم، وان تأتي من الله، إنه منفتح على ذلك كله، وياخذ ما يراه مفيدا فيستخدمه. كان الرازي شديد الايمان بأن يتعلم حتى من الاراء التي يجد نفسه مختلفا معها، او حتى التي تبدو له غريبة وشاذة.هذا لأنه كان يرى ان من المحتمل كثيرا وجود ثغرات من الحقيقة متناثرة هنا وهناك، وكان يرى ان علينا استخراجها من خلال المثابرة على طرح الاسئلة.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

عندما أُسقط جدار برلين في التاسع نوفمبر سنة 1989 م، كان حدثا محوريا في تاريخ العالم، الذي شهد سقوط آخر مخلّفات الحرب العالميّة الثانيّة، واعتقد العالم أنّ الحرب الباردة قد انتهت بين القطبين المتصارعين؛ القطب الرأسمالي الليبرالي وأتباعه، والقطب الشيوعي الاشتراكي ومريدوه، وأنّ العالم سيتخلّص من مشاعر الخوف والكراهيّة والتهديد النووي، ومن حقّه أن يحلم ببناء نظام عالمي جديد، تحت مسمّى (العولمة)، يتقاسم فيه البشر، دون تمييز، المنافع والأضرار. لكنّ السنوات التي أعقبت ذلك الحدث المحوري، وتلك المشاعر الإنسانيّة المتفائلة، كذّبت أقوال الخطباء، وألقت بأحلام الحالمين في بركة موحلة. لقد خرج العالم من مغارة مظلمة ليلج نفقا أطول من سور الصين، لا ندري له مخرجا عاجلا أو آجلا. وكأنّ هذا الإنسان المعاصر، الذي يمتلك مقاليد الحل والعقد، يستعجل نهايته وفناءه. فراح ينفخ بكل قواه في مواقد الفتن، دون تقدير عواقب ذلك. فإنّ الحرب العالميّة القادمة – إن اندلعت لا قدّر الله ولا وفّق دعاتها – لن تبقي على وجه الأرض ولن تذر سوى الرماد.

ما زلت راسخا على قناعتي – إلى أن يثبت العكس – بأنّ شطحات الفلسفة الغربيّة في القرون الخمسة الأخيرة، هي التي أوصلت الإنسانيّة إلى أزماتها الحاليّة، روحيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا). (فرويد ونيتشه وكارل ماركس وانجلز وهوغو ودوركهايم وروسو، وغيرهم). ولم تقدّم حلولا جذريّة وعادلة للبشريّة، بل خدمت الفكر الأحادي لبناء مجتمع غربي، قائم على السيطرة والنرجسيّة والساديّة والإباحيّة الجنسيّة، ومهّدت للحروب الطاحنة، وشرعنت الاستعمار، ودافعت – بشراسة – عن مصالح الغرب ومنافعه الماديّة، على حساب شعوب مضطهدة ومستضعفة. لقد شرعنت فلسفة نيتشه جرائم النازية في الحرب العالميّة الثانيّة ؟ وشغلت هلوسات فرويد العالم بشطحات سيكولوجيّة أوديبيّة أسطوريّة، وأوهام جنسيّة لوبيديّة، وتحاليل نفسيّة لا تنسجم والعقل السليم. وأفرزت فلسفة ماركس وانجلز اشتراكيّة مفلسة. بينا لم يحقّق العقد الاجتماعي نظاما سياسيا عادلا وإنسانيّا. بل نتج عنه عصبة (عصابة) أمميّة، لتسييس العالم وفق رغباتها. إنّ الديمقراطيّة الغربيّة المنبثقة من شعارات الثورة الفرنسيّة (1789 م – 1799 م) (الحرية والأخوة والمساواة)، وعلى مبادئ ولسن الأربعة عشر (8 يناير / جانفي 1918 م)، والتي ركّز فيها على مبدأ السلم وإعادة بناء أوروبا من جديد بعد الحرب العالميّة الأولى. في الوقت الذي كانت فيه أغلب البلدان في إفريقيا برمّتها، في آسيا وأمريكا اللاتينيّة في قبضة الاستعمار الأوربي، مجرّدة من حقوقها في الحريّة والمساواة والأخوة. ولو أخذنا شمال إفريقيا، كمثال، لا حصرا، على نفاق الفلسفة الغربيّة وزندقة الكنيسة وساديّة حملة صليبها المزعوم، لصدمنا الواقع المرير آنذاك. لقد قتلت الثورة الفرنسيّة ملايين الجزائريين بعد نزول جيوشها البربريّة بأرض الجزائر. كان القتل عشوائيّا، وعلى الهويّة والدين، وباسم شعارات الحريّة والأخوة والمساواة. إنّ غزو الجزائر سنة 1830 م، وتلاه من جرائم يندى لها الجبين، كشف عن النفاق الفلسفي الغربي والتناقض الصارخ بين القول والفعل. لقد قدم دعاة الحريّة (وأغلبهم من المجرمين الساديين ورواد السجون) إلى الجزائر الآمنة، على متن سفن مدجّجة بالأسلحة والقذائف والكراهيّة والانتقام والإرهاب والتطرّف وشهوة القتل العشوائي.

ورغم الانجازات العلمية والتكنولوجيّة الباهرة، في ميادين الحياة بشتى مظاهرها، فقد عجزت الفلسفة الغربيّة عن منع الحروب الطاحنة في أوربا نفسها (الحرب الروسية الأوكرانيّة كمثال). بل إنّ التكنولوجيا، قد أججت نيران الحروب بإنتاج معدّات حربيّة وقتاليّة فتّاكة، وألهبت شهوة السباق نحو التسلّح التقليدي والنووي. في الوقت الذي يتضوّر الإنسان في الساحل الإفريقي وقرنه، وفي أفغانستان، وفي اليمن وسوريا جوعا ويواجه غضب الطبيعة وقساوتها ببطن ضامر، فارغ، وجسد عار إلاّ من إهابه. أما كان، الأولى، على الفلسفة المعاصرة، أن تهتم بالإنسان، دون تمييز، ودون اعتبارات دينيّة أو سياسيّة أو ايديولوجيّة. كيف نفسّر هبة العالم الغربي بسيّاسيه (المحنّكين) وفلاسفته (الأفذاذ) لإغاثة الشعب الأوكراني، وتقاعسه في نجدة الشعب اليمني وشقيقه السوري ونظيره الأفغاني ؟ إنّ سياسة النفاق الغربي المعتمدة حاليا والكيل بمكيالين، لا تقلّ ضررا عن العواقب التي خلّفتها قنبلتا هيروشيما ونكازاكي في اليابان.

من الإجحاف بمكان، أن ننكر ما قدّمه العلم النافع للإنسانيّة المعذّبة، من وفرة في الدواء والغذاء والسكن ووسائل الترفيه، ومعالجة للعلل والأمراض، الفتاكة العارضة منها والمزمنة، لكن لم تكن الجهود في الماضي وفي الحاضر، كافية وخالصة النوايا. فقد كانت – ومازالت – تصاحبها الأطماع والابتزازات والحسابات السياسيّة والإيديولوجية الضيّقة. كما أنّها لم تلامس المثاليّة على أقل تقدير، نظرا لوجود بون شاسع بين النوايا والأفعال، وبين التنظير والتطبيق. مازالت البشريّة، في زوايا عدّة من كوكبنا الأرضي، تعاني جملة من المرارات والسلوكات القهريّة والإحباطات الدونيّة والأزمات الأهليّة، الناشئة عن الصراعات الإثنيّة حول الهويّة، (اللغة، الدين والثقافة والتقاليد والتاريخ)، يضاف إليها التنافس، غير الشريف، للسيطرة على الموارد الطبيعيّة (منابع المياه العذبة، المعادن الثمينة، المنتجات البحريّة، الممرّات المائيّة.

يجب أن يترفّع العمل الإنساني عن سلوك الابتزاز السياسي أو الديني أو الإثني، كي يؤتي أكله، فالعمليّة الإغاثيّة لا وطن لها ولا دين ولا لسان. وما حدث أثناء زلزال الشام وتركيا (6 فيفري 2023 م)، كشف عورة النظام السياسي العلمي. وأماط اللثام عن زيف (العولمة)، وهشاشتها، وكذبة نيسانيّة، تدعى (حقوق الإنسان). إنّ الفلسفة التي تبث الكراهيّة والبغضاء بين بني البشر، ولا تقوم على مباديء التعارف والتعاون والتراحم والتكافل بين الإنسان وأخيه الإنسان، هي ضرب من الإفلاس الفكري والروحي. وإنّ فلسفة المدنيّة الغربيّة المعاصرة، تدفع العالم إلى الانتحار، بل هي مقدّمة (أكيدة) لنهاية الحضارة، وعودة الجنس البشري – إن سلم من الفناء – إلى البدايات الصفريّة. فقد أثبتت نتائج البحوث الأنثروبولوجيّة على أنّ أفول الحضارات القديمة ناتج عن سوء تقدير إنسان تلك الحضارات، وسلوكه المتهوّر وسيادة رعونته.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

 

الدنجوان (Don Juan) شخصية أسطورية في الفولكلور الإسباني ولدت سنة 1630 من خلال مسرحية عنونها" مغوي اشبيلية (El Burlador de Sevilio) كتبها المؤلف الاسباني تيرسو دي مولينا ( Tirso de Molina) وترمز أسطورة دون جوان عند تيرسو دي مولينا إلى فساد مرحلة تاريخية بأكملها، ظاهرها ُتقىً وباطنها فساد.

إلا أن شخصية الدونجوان تدين بشهرتها في المقام الأول إلى الكاتب المسرحي الفرنسي موليير Molière الذي كتب مسرحية "دون جوان " سنة 1665.

بطل الأسطورة المسرحية شاب مخاتل يخفي شخصيته عن العامة ويقوم بإغواء النساء. دونجوان هو كذلك رجل مفكر إذ يجد دائما تبريرا لتجاوزاته. تبرير بحمل في طياته إيديولوجية مناهضة للمسيحية آنذاك.

و لئن ألهمت أسطورة الدونجوان العديد من الشعراء والموسيقيين والسينمائيين فإن علماء النفس قد انكبوا كذلك على دارسة هذه الشخصية ومن بينهم كارل غوستاف يونغ (Carl Jung) وهو عالم نفس سويسري عاش بين سنتي1875و 1961 وهو مؤسس علم النفس التحليلي توصل إلى أن الدنجوانية "رغبة لا شعورية من رجل يبحث من خلالها عن أمه في كل النساء اللاتي يواجههن."

يؤكد التحليل النفسي المعاصر على أن الشخصية الدنجوانية هي شخصية تعرضت لكراهية دفينة في فترة الطفولة وبالتالي فإن كرهها لهذا الواقع النفسي يدفعها إلى تجنب هذا الألم وإنكاره بالتعويض عن الحرمان العاطفي. يتم هذا التعويض عن طريق ربط علاقات عابرة ومؤقتة وزائفة مع الكثير من النساء.

إذا وجود الشخصية الدنجوانية يفترض وجود نساء يمارس عليهن سلوكا مخصوصا حتى يعزز الدنجوان شعوره بكونه شخصا مرغوبا فيه.

وهناك نمطان للشخصية الدنجوانية :

- الدنجوان الوسيم والذي يستعمل وسامته لإغواء النساء.

- الدنجوان غير الوسيم والذي يعوض عن عدم وسامته بتميزه بالذكاء والجرأة وتخطي الحدود والإقدام مما يجعل منه شخصا جذابا وقادرا على اختراق مجال العديد من النساء.

فماهي السلوكات التي يتبعها الدنجواني مع النساء؟

الشخصية الدنجوانية، ليست شخصية فطرية، فهو في سعي دائم لتطوير مهاراته الاجتماعية، حيث يتمتع بسرعة التعلم والتأقلم مع مختلف الشخصيات وهو ما يتطلب مهارات اجتماعية وقدرة كبيرة على فهم أمزجة النساء اللاتي يتسلل إلى عالمهم بتعلات مختلفة كالزمالة أو وجود أصدقاء مشتركين .. وتستعمل الشخصية الدنجوانية الحيلة والخيال في التعاطي مع النساء ويتقمص أدوارا كممثل في مسرحية وتكون غايته اللعب والتسلية وتنحصر متعته في إحراج المرأة ومضايقتها فالمرأة بالنسبة له ليست سوى وسيلة لإشباع غروره واستعادة ثقته بنفسه التي فقدها طفلا... ويتقن الدنجواني لعب دور الحضور والغياب.. الاهتمام واللامبالاة ... مديح المرأة والتقليل من شأنها ... كل ذلك مرة بمرة لتسهل سيطرته النفسية على ضحاياه ...

ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وجدت الشخصية الدنجوانية مجالا آمنا وسريا لممارسة أسالبيها في نسج الخيال بواسطة الكلام المعسول والذي يقوم "الدونجوان" بصياغته مسبقا وإعادته بمناسبة الحديث مع كل ضحية للتمكن من السيطرة عليها نفسيا والوصول إلى النتيجه المرجوة وهي القبول به لتمضية الوقت..تتساوى لديه النساء جميعاً .. إنه يتواصل مع كل النساء بالطريقة ذاتها ..بالنسبة إليه كل الورود لها ذات الرائحة مما يغيب عنده تقاليد الخطاب الغزلي المتنوع ليحضر لديه التنميط اللغوي الجاهز.

ولا تنحصر الشخصية الدنجواية في فئة معينة من الناس أو ترتبط بسن محدد أو مستوى علمي أو ثقافي بذاته بل تشمل حتى أصحاب الواجهات الاجتماعية المحترمة والبارزين في ميادين مرموقة والذين يجدون في وسائل التواصل الاجتماعي ميدانا يوفر الحرية والسرية لممارساتهم.

أما أهداف ( Les Cibles) الشخصية الدنجواية فهن دائما نساء متميزات. وهن متساويات بالنسبة إليه إذ يستعمل معهن سواء بالتزامن أو بصورة متتالية، خطابا نمطيا. هو لا يعنيه من أمرهن سوى أنهن يدعمن شعوره بالتحدي ليثبت لنفسه من خلال التواصل معهن أنه قادر على جذب الاهتمام . وبذلك تصبح ممارسات الشخصية الدنجوانية منهجا له في الحياة يسعى من خلالها إلى التعويض عن الشعور بالنقص

يتزوج الدنجواني ولكنه لا يتوقف عن العلاقات أو البحث عن نساء أخريات ليشعر دائما أنه في مغامرة عاطفية. وهو ما يحعل استمرار زوجة الشخص الدنجواني في مؤسسة الزواج مرتبط بمدى قدرتها على التحمل ووالتفهم والعطاء دون انتظار المقابل إلا ما ُيمن به عليها.

بالنتيجة، لكل وهمه الذي يهرب به من الواقع المؤلم ولكن الفرق شاسع بين من يهرب إلى أماكن تعزز معنى وجوده وتوطد علاقته بمحيطه فتخفف عنه وطأة هذا الواقع بل وقد تجمله، وبين من يدفعه السعي إلى التخلص من الألم إلى الشعور بالعبث وفقدان كل معنى للحياة وللمحيطين به.. عبثا يبيح له استعمال الآخر وقودا تحت أقنعة ومسميات مختلفة.

***

درصاف بندحر - تونس

 

نشر الصديق الروائي كريم كطافة قبل أيام منشوراً نوَّهَ فيه بأحد كتب الباحث العراقي المتخصص بالسومريات والأكديات د. نائل حنون، هو كتاب "حقيقة السومريين ودراسات أخرى في علم الآثار والنصوص المسمارية". وقد علقتُ على منشوره تعليقا قصيرا قلت فيه: "لم أقرأ الكتاب، ولكني تابعت بعض المقابلات التلفزيونية مع الدكتور حنون، وهو ينطلق من أدلة قوية تؤيد نظريته هذه، ومنها عدم وجود أية إشارة أو نص مكتوب في كل النصوص السومرية يؤكد وجود شعب اسمه الشعب السومري أو بلاد تسمى بلاد سومر إلا بشكل مجازي أو محرَّف...أما وجود اللغة السومرية كما يقول فهي ليست دليلا على وجود شعب يتكلم بها وحجته أن هناك لغات مبتكرة ومصطنعة وليس لها شعوب مثل اللغة السنسكريتية ولغة الاسبرانتو العالمية. أعتقد أن نظرية الدكتور حنون جديرة بالدراسة والتمعن دون تسرع في قبولها أو رفضها ففي هذا النوع من النظريات لا يصح الرفض أو القبول الفوري وغير المدروس والمعلل علميا".

وبعد أيام قليلة على هذا التعليق حصلت على نسخة من الكتاب المذكور وقرأته. هذه قراءة استعراضية لبعض ما بدا لي ذا صلة بموضوع حقيقة وجود شعب اسمه الشعب السومري من عدمها.

وقبل أن أبدأ عرض الكتاب، أود القول إنَّ بعض الأشخاص الذين علقوا بغضب أو بسخرية على منشور الصديق كريم، وقد هالهم أن يختفي "أجدادهم" السومريون من الوجود بجرة قلم، أو أن يكتشفوا أنهم خدعوا طويلا، فسارع بعضهم إلى اتهام د. حنون بشتى الاتهامات ومنها أنه "قومجي عنصري" يريد أن يفرض عليهم العروبة فرضاً ويلغي سومريتهم، مع أن الرجل لا علاقة له بالفكر القومي من قريب أو بعيد، ولم يتبنَ هذا الفكر أو يدافع عنه بسطر واحد في كتابه، أو أنه متهم بسرقة أو نسخ هذه النظرية من غيره من باحثين أجانب، دون أن يكلف مَن وجه الاتهام نفسه عناء ذكر أسماء بعض "هذا الغير"، في حين أن د. حنون نفسه ذكر أسماء من طرحوا هذه الفرضية حول نفي وجود شعب سومري قبله؛ أعتقد أن هذا النوع من القراء سيزدادون غضباً وحنقاً من هذا العرض أو القراءة التوضيحية للكتاب المذكور، والحقيقة فلا علاقة لمتطلبات البحث العلمي بالغضب والحنق والعواطف الأخرى لدى المتلقين والقراء أياً كانوا، بل بما يطرحونه من أسئلة واعتراضات وحجج علمية مضادة أو متحفظة، مع تسجيل أن هناك فعلا تعليقات رصينة وموضوعية على المنشور المذكور تجعل بإمكان المرء أن يتفاءل خيراً بأن الساحة ليست مقتصرة على الساخرين والاتهاميين والمتباهين والباحثين عن أجداد عمالقة في الماضي الغابر بأي ثمن، بل ثمة أيضاً مَن يعوَّل عليهم من ذوي العقلية النقدية والتعامل العقلاني مع الأطروحات ووجهات النظر العلمية. أسجل أيضا أن هدفي من هذه المقالة بالدرجة الأولى هي عرض وتوضيح ما ورد في كتاب الباحث د. نائل حنون، وتسجيل بعض التساؤلات والأسئلة التي أثارتها عندي هذه القراءة دون الحكم عليه بصورة باترة وقاطعة على طريقة الكتابات الأيديولوجية السياسية، خصوصا وأنا لستُ متخصصا بالسومريات والأكديات ولا أتقن هاتين اللغتين قراءة وكتابة فلستُ أكثر من كاتب مهتم بهذه الشؤون والعلوم ذات المساس بالتاريخ وتفرعاته.. فلنبدأ قراءتنا النقدية إذن:

تذهب النظرية الشائعة إلى أن السومريين شعب مجهول الأصل العرقي والمصدر الجغرافي وإنه مختلف عن الشعوب السامية في كل شيء. وهناك عدة نظريات حول أصوله والمنطقة التي جاء منها إلى جنوب العراق يجدها القارئ في مظانها الكثيرة والمشهورة من كتب وموسوعات. وبعد أن بنى هذا الشعب حضارته تلاشى أو اندمج في الشعب الأكدي الجزيري "السامي" وذاب تماما فيه بعد أن أورثه لغته وحضارته وثقافته وانتهت حالة المجتمع ثنائي القومية "السومرية الأكدية". وقد بنى الأكديون الساميون حضارة الرافدين في حقبة العصر البابلي القديم بدءاً من سقوط سلالة أور "السومرية" سنة 2004 ق.م وحتى 1595 ق.م، تاريخ سقوط سلالة بابل الأولى، أما الإمبراطورية البابلية الحديثة فهي تلك التي أسسها نبوبلاصر الكلداني سنة 627 ق م واستمر وجودها حتى سنة 539 ق م، وكانت آخر دولة رافدانية نشأت وسقطت قبل الفتح العربي الإسلامي الذي أنهى الاحتلال الفارسي الطويل لبلاد الرافدين. تلك هي السردية التقليدية السائدة التي رسخها العلماء والباحثون الغربيون قبل غيرهم حول الموضوع.

وجهة نظر مختلفة: لا وجود للسومريين!

أما وجهة نظر الباحث العراقي د. وائل حنون، وهو متخصص بالحضارات القديمة ويتقن اللغتين السومرية والأكدية ويترجم عنهما إلى العربية مباشرة، فتذهب الى نفي وجود شعب يحمل اسم الشعب السومري، ولكنها تؤكد وجود لغة كتابة ابتكرها السكان الأصليون القدماء أو للدقة نخبتهم الدينية والثقافية، وسميت اللغة السومرية في العصر الأكدي البابلي القديم، كنظام خاص من مئات العلامات المقطعية وكتبوها بالخط المسماري، ولغرض تدوين الحسابات التجارية والزراعية في بداية الأمر ثم تطورت لتصير لغة أدبية ودينية فيما بعد.

في كتابه موضوع حديثنا، "حقيقة السومريين ودراسات أخرى في علم الآثار والنصوص المسمارية"، يؤكد د. حنون الحجج والمعلومات التالية التي يؤسس عليها نظريته وسأستعرضها هنا بشيء من الاختصار:

- عدم وجود دليل مكتوب أو مرسوم في كل النصوص المكتوبة باللغة السومرية على وجود قوم أو شعب باسم السومريين. وأضيف من جانبي؛ عدم وجود أي دليل جيني (DNA) من رفات قديمة لمن أطلق عليهم السومريين. أما جينات العراقيين المعاصرين في جنوب العراق فهي الجينات الموجودة لدى جميع سكان المنطقة من العرب الجزيريين نفسها، وبنسبة أعلى كثيراً مما هي لدى شعوب عربية أخرى كاليمن وبلاد الشام والحجاز وشمال أفريقيا...إلخ، كما ذكر أحد مؤسسي علم الجينولوجيا، وهو أناتولي كليوسوف، الذي استشهدنا بكلامه في أكثر من مناسبة حول وجود مجموعة الجين «ج1» الفردانية والذي يسمى أحيانا من قبل التوراتيين الجين الكوهيني أو السامي وقال كليوسوف إن هذا الجين كان موجودا لدى العرب قبل أربعين ألف سنة منه لدى العبرانيين، وهو موجود حاليا عند العرب المعاصرين وبالنسب التالية: 83% في جنوب العراق، 73% في اليمن، 43% شمال العراق، من30 إلى 40% في السعودية، الأردن، الإمارات، فلسطين ولبنان. برنامج "رحلة في الذاكرة" - قناة "روسيا اليوم" بتاريخ 5 أيلول/ سبتمبر 2018.

وفي موضع أخر من الكتاب يتطرق المؤلف نائل حنون الى نتائج باحث آخر هو أجناس جي جيلب الذي يؤكد بعد دراسته لنماذج من الهياكل العظمية منذ أقدم العصور في بابل أنها تنتمي الى النوع المعروف بالفرع الشرقي لعنصر أو جنس البحر المتوسط. أي أنها تماثل الهياكل العظمية للأقوام البدوية في الجزيرة العربية وبادية الشام، ولم يُعثَر على هيكل عظمي واحد من النوع ذي الرأس الدائري الخاص بسكان أواسط آسيا حيث يفترض أن يكون موطن السومريين الأوائل!

فهل سيتهم البعضُ العنصريُّ والكارهُ للعرب أناتولي كليوسوف أو أجناس جيلب بأنهما "قومجيان" أيضاً أم أن لمنطق البحث العلمي مساراته ولغته الخاصة؟

أما بخصوص الفرق في الملامح والصفات الجسمانية التي زعم بعض الباحثين وجودها بين السومريين وغيرهم من خلال المقارنة بين التماثيل والمشاهد الفنية فيذكر حنون أن الباحث طه باقر كان قد رفض وجود مثل هذه الفروق وأعاد الموجود منها إلى الأساليب والطرز الفنية المتبعة في النحت بالدرجة الأولى وإن ما يظهر من هيئات وسُحَن على تلك التماثيل لا يمثل في الواقع فروقا قومية بين السومريين والأكديين وإنما هي أزياء خاصة بمقام الشخص المُمَثَّل، بدليل أن السمات التي درج الباحثون على عزوها إلى تماثيل السومريين ظاهرة أيضا في تماثيل أشخاص في مناطق بعيدة عن المناطق المفترضة للسومريين كمدينة تل ماري في أعالي الفرات "في سوريا الحالية"، وأن التماثيل المنسوبة إلى السومريين من عصر فجر السلالات تختلف في أشخاصها عن التماثيل الشهيرة للأمير جوديا (السومري)/ طه باقر – مقدمة في تاريخ الحضارات ص 62".

- يؤكد الباحث حنون وجود اللغة السومرية فعلا، ولكنَّ وجود اللغة - كما يحاجج - ليس دليلا على وجود شعب ناطق بها فقد تكون اللغة مبتدعة كمجموعة رموز دينية وأدبية كاللغة السنسكريتية أو لغة الاسبرانتو العالمية.

- وأن النصوص الأدبية الأكدية القديمة موزعة على تسعة أبواب بالضبط مثل النصوص الأدبية المكتوبة بالسومرية.

- وأن النصوص الأدبية الأكدية والسومرية كتبت في الفترة الزمنية نفسها. فهي ليست ترجمات عادية لنصوص أقدم منها لشعب آخر بل هي النصوص الأدبية نفسها كتبت بلغتين. وأحياناً وجدت ألواح طينية تحتوي على نص أدبي واحد مكتوب باللغتين السومرية والأكدية.

بهذا الصدد، يحق لنا ان نسأل، عن مدى الفرق الزمني الدقيق بين ظهور الكتابة باللغة السومرية وظهور الأكديين كشعب ولغة وكتابة! هذا السؤال سيكون مفيدا في تقدير مدى أهمية وفاعلية الحجة التي يوردها د. حنون في هذا المجال. وثمة سؤال آخر يتفرع عنه؛ ترى هل هناك فروق في التفاصيل تتعلق بالمعبودات والعادات والتقاليد التي وجدت في تلك النصوص باللغة السومرية تختلف عن تفاصيل هذه العناوين باللغة الأكدية؟ على هذا السؤال يجيب الباحث بالقول "إن استمرارية العقائد الدينية في بلاد الرافدين القديمة عبر العصور لا توحي إلا بوجود شعب واحد تمسك بعقيدته الدينية وعبد الآلهة نفسها طوال تاريخيه. ولا يتناقض ذلك مع إنه أطلق أسماء سومرية أو أكدية على عدد من الآلهة التي عبدها/ ص 40".

يتبع في الجزء الثاني وفيه نستكمل عرض آراء د. نائل حنون ثم نتوقف عند الآراء العجيبة التي عبر عنها صاموئيل نوح كريمر التي تؤيد وجود شعب سومري وتربطه بعلاقة عرقية "دموية" بالعبرانيين وكيف رد عليه الباحث العراقي د. نائل حنون.

ضمن مسعاه لتأكيد وجهة نظره الذاهبة إلى كون السومريين والأكديين هم شعب واحد، يذكر د. حنون أنه تم العثور على أسماء ثمانية أدباء وليسوا نساخ لديهم نصوص أدبية باللغتين. ومن هؤلاء الأدباء يذكر الباحث اسم الأدبية والكاهنة "أنخدو أنا" ذات الاسم السومري "ولكن المعروف أنها ابنة سرجون الأكدي، فهل يعقل أن ينجب الأب الأكدي ابنة سومرية" يتساءل حنون. ولتوضيح هوية هذه الأميرة الشاعرة والكاهنة "انخدو أنا" يمكن أن نذكر ما ورد في بعض المصادر التاريخية القديمة من أن والدتها هي تاشلولتوم زوجة الملك الأكدي سرجون الأول فعلان ولكنها كانت قبله زوجة للملك لوغال زاغيزي ملك أوروك السابق والذي يعتبر سومريا، وقد تزوجها سرجون الأكدي بعد فتحه لأوروك وأنجب منها عدة أمراء منهم الملك اللاحق نرام سين الشهير.

ويضيف د. حنون أسماء أخرى من هذا القبيل يرجع بعضها الى عهود سومرية أقدم هي عصر سلالة كيش الأولى (3100 ق.م) بعد الطوفان، حيث نجد أن أكثر من نصف ملوكها وهم ثلاثة وعشرون ملكا يحملون أسماء أكدية/ ص38! وفي هذا السياق يذكر الباحث "أن النصوص التوراتية (العهد القديم)، التي ذكرت أسماء شعوب قديمة عديدة بإشارات شتى، تخلو من أي ذكر للسومريين". ويمكن الاعتراض على هذه الفقرة بالقول؛ إن السومريين أو في الأقل بلادهم "بلاد سومر" ورد ذكرها في التوراة باسم "بلاد شنعار". حيث يعتقد باحثون كُثر أن شنعار هي "سومر". ونحن هنا إزاء احتمالين لتفسير هذا الاعتراض والرد عليه فإما أن يقال إن هناك فرقا لفظيا وتأثيليا بين الكلمتين "سومر وشنعار" أو أن ما ورد في التوراة هو مجرد ترجمة لما ورد في النصوص الأكدية والسومرية بعبارة "بلاد سومر وأكد" والتي حللها الباحث حنون في ما تقدم، أو أنها مأخوذة من عبارة " شيني ناهاروت" أي النهرين أو من "شيني أريم" أي المدينتين أو من كلمة سومر و أكاد كما يرى باحثون آخرون.

- ويضيف الباحث: وقد عُثر على تسع مدن سومرية في العراق لم تزل محتفظة بأسمائها السومرية القديمة ومنها أربيل وكركوك ونينوى.

وهنا أيضا يحق لنا أن نطرح سؤالا يقول؛ ترى، ألا تشكل المدن التي عُرفت بأسماء سومرية واختفت دليلا على وجود ديموغرافي سومري في تلك المدن وقد زال بزوالها؟ ألا يمكن أن نتذكر هنا تجربة هجرة الفلسطيين "الفلسطة/ فلشتيم" من جزر البحر المتوسط نحو جنوب فلسطين وثم اندماجهم مع الكنعانيين خلال خمسة قرون؟ وحتى في هذه الحالة الاندماجية، فقد سجلت آثار مصر القديمة حدوث تلك الموجة من الهجرات وحروب التصدي لها وإخراج المهاجرين الغزاة من مصر ليستقروا في جنوب فلسطين وتتجه موجة ثانية منهم نحو ليبيا الحالية؟ وقد ورد ذكر تلك الأحداث على إحدى الجداريات الفرعونية بوادي الملكات (الأقصر)، والتي تعود لزمن الملكة حتشبسوت (1479- 1458 ق.م).

إنَّ أسئلتي التي أطرحها هنا، هي لتعميق المناقشة والفهم للموضوع قيد البحث وليس القصد منها الشطب على وجهة نظر الباحث بدءا ومنتهى لتفنيدها تماما فهذا الهدف المشروع لا يمكن إنجازه بمقالة أو منشور سريع وخفيف على طريقة الباحثين عن براءات الاختراع في ميدان لا مجال فيه لهذا النوع من المعجزات والاختراعات بل للمحاججات والمقاربات العقلانية ذات الأدلة الملموسة والنصوص الموثقة في بابها.

- خصص المؤلف الفصل السابع لاكتشافه هو شخصيا لمدينة متُران في حوض حمرين شمال شرق العراق والتي تعود إلى العصر البابلي القديم في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. وفي أطلال هذه المدينة عثر الباحث على لوح يحتوي على جزء غير معروف من ملحمة جلجامش يتحدث عن موت بطل الملحمة في فصل منفصل عن الملحمة وقد ألحقه بنصها فيما بعد. إضافة إلى النصوص الأدبية، عثر الباحث على مئات النصوص الإدارية والفلكية والرياضية والرسائل. وفي هذا الفصل أثبت الباحث بالأدلة الآثارية أن الحضارة الرافدانية هي التي توصلت منذ أكثر من أربعة آلاف سنة إلى أن الشمس هي مركز الكون وتدور وحولها تدور تسعة كواكب.

- ثم يستعرض الباحث مراحل اكتشاف الكتابة السومرية التي تكللت بالنجاح في المرحلة الأخيرة حين تم فك الرموز المسمارية سنة 1857م. وكانت النصوص المكتشفة بهذه الكتابة باللغة الأكدية وباللهجة البابلية الجنوبية وليس باللهجة الشمالية الآشورية ولكن الباحثين أطلقوا اسما خاطئا على هذا العلم الجديد وسمّوه " علم الآشوريات" وهو اسم خاطئ لأن النصوص التي عثر عليها لم تكن باللهجة الآشورية بل بالبابلية الجنوبية.

- وبعد اكتشاف مكتبة آشور بانيبال في أواسط القرن التاسع عشر تكرس اسم "علم الآشوريات" وتم التعرف على اللهجة الآشورية الشمالية من اللغة الأكدية.

- تم اكتشاف الكتابة المسمارية أولا (فلا وجود للغة مسمارية بل هي طريقة كتابة بالعلامات الشبيهة بالمسامير)، وجرت محاولات لقراءة هذه الكتابات أو العلامات دون معرفة أنها لغة سومرية. وحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن أحد يعرف أن هذه الكتابة المسمارية هي باللغة السومرية أو يعرف اسمها حتى توصل إدوارد هنكس الى حل رموز الكتابة المسمارية. يتبع قريبا.

***

علاء اللامي

 

اذا لم تواجه النظرية ما موجود حقا في الكون، فان صاحب النظرية انما يلعب في الرمل، وغير منخرط في العلم. فكرة ان القوى، الجزيئات، التفاعلات التي نراها اليوم جميعها تجسيد لنظرية واحدة وشاملة هي فكرة جذابة، وتتطلب أبعادا اخرى والكثير من الجزيئات والتفاعلات الجديدة. العديد من هذه الافكار المعقدة توجد لأجل الاستطلاع، ولكن اذا لم يوجد كون مادي نقارنها به، من غير المحتمل ان نتعلم أي شيء مفيد حول الكون.

الأفكار الاساسية:

1- توصل الرياضيون لعدة أفكار ملائمة فيزيائيا لواقعنا، بعضها من خلال التفكير الرياضي الخالص.

2- غير ان الرياضيات وحدها سوف لن تعطي صورة دقيقة للواقع، يجب ان نوفق بين ما "نفكر" به وما نلاحظ او نقيس.

3- اللعب في صندوق رملي أمر جيد، ولكن اذا أردنا الحقيقة علينا مواجهة الكون ذاته.

عند حدود الفيزياء النظرية، في اكثر الافكار شعبية هناك شيء واحد مشترك : انها تبدأ من اطار رياضي يسعى لتوضيح اشياء اكثر مما تقوم به النظريات السائدة حاليا. اطارنا الحالي للنسبية العامة ونظرية الكوانتم عظيمان بما يقومان به، ولكنهما لايقومان بكل شيء. هما غير منسجمان اساسا مع بعضهما ولا يستطيعان التوضيح الكافي للمادة المظلمة، الطاقة المظلمة، او سبب امتلاء الكون بمادة وليس بضد المادة. صحيح ان الرياضيات تمكّننا من الوصف الكمي للكون، وهي اداة مفيدة بشكل لا يصدق عندما تُطبق بشكل صحيح. لكن الكون هو كينونة مادية وليست رياضية، وهناك فرق كبير بين الاثنين. هذا يفسر لماذا الرياضيات وحدها ستكون دائما غير كافية للوصول لنظرية أساسية لكل شيء.

قبل 400 سنة، بدأت المعركة تتكشف حول طبيعة الكون. وطوال ألف عام، وصف الفلكيون بدقة مدارات الكواكب مستخدمين نموذج مركزية الارض والذي تكون فيه الارض ثابتة وجميع الكواكب الاخرى تدور حولها. وباستخدام رياضيات الهندسة والمشاهدات الفلكية الدقيقة كان الوصف الرياضي الدقيق لمدارات الاجرام السماوية تطابق بشكل مذهل مع ما شوهد. غير ان الوصف الرياضي للأجرام السماوية لم يكن مثاليا، وفي القرن السادس عشر أثبت كوبرنيكوس مركزية الشمس. عبر وضع الشمس في المركز اصبحت التوضيحات للحركة اكثر بساطة لكن مطابقتها للبيانات كانت أسوأ. وهنا جاء كبلر بفكرة لامعة سعت لحل كل شيء.

هو لاحظ ان هناك ستة كواكب بما فيها الارض (دون القمر). لاحظ ايضا بطريقة رياضية ان هناك فقط خمسة أجسام افلاطونية صلبة: خمسة اشياء رياضية جميعها مضلعات متساوية الأضلاع. عبر سحب جسم كروي داخل وخارج كل واحد من الاشياء الخمسة، هو استطاع ان يضعهم بطريقة تتطابق بشكل ممتاز مع مدارات الكواكب، أفضل من كل ما قام به كوبرنيكوس. كان نموذجا رياضيا لامعا وجميلا، يمكن القول هو اول محاولة لبناء ما نسميه "الكون الأنيق" اليوم. لكن النموذج فشل بالمشاهدة . انه فشل حتى بمستوى نموذج بطليموس القديم . انه كان فكرة رائعة من زاوية الرياضيات الخالصة او كيف يجب ان يكون الكون. لكنه لم يعمل.

ما حصل لاحقا كان عملا لا نظير له. كبلر أخذ نموذجه الأنيق والمقنع والذي لم ينسجم مع المشاهدات ورماه بعيدا. بدلا من ذلك، هو ذهب وغاص في البيانات ليجد أي نوع من المدارات تطابق حركة الكواكب الحقيقية، وتوصّل الى مجموعة من الإستنتاجات العلمية غير الرياضية:

1- الكواكب لا تتحرك في دوائر حول الشمس المركزية وانما في أشكال بيضوية، وبمجموعة مختلفة من العوامل الثابتة parameters التي تصف شكل كل كوكب.

2- الكواكب لا تتحرك بسرعة ثابتة وانما هي تتحرك بسرعة تتغير تبعا لبعد الكوكب عن الشمس، حيث تزداد فيها سرعة الكوكب عندما يقترب من الشمس ويبطئ عندما يبتعد عنها، حركة في مساحات متساوية في أزمان متساوية.

3- وأخيرا،الكواكب تعرض فترات مدارية تتناسب مباشرة مع طول المحور(المحور الرئيسي) لكل كوكب،مرفوعة لقوة معينة (مصممة لتكون 3/2).

كانت هذه لحظة ثورية في تاريخ العلوم. الرياضيات لم تكن في أصل القوانين الفيزيائية التي تحكم الطبيعة، انها كانت أداة وصفت الكيفية التي جسدت بها قوانين الطبيعة ذاتها. التقدم الرئيسي الذي حدث هو حاجة العلم ليكون مرتكزا على ماهو مُلاحظ ومُقاس، وان أي نظرية تحتاج لتواجه نفسها مع تلك الأفكار. بدون ذلك،سيكون أي تقدم مستحيلا.

هذه الفكرة تكررت طوال التاريخ،فيها تزودنا اكتشافات واختراعات رياضية جديدة بأدوات جديدة في محاولة وصف الأنظمة الفيزيائية. ولكن في كل مرة، لم يكن مجرد ان رياضيات جديدة تخبرنا كيف يعمل الكون. بدلا من ذلك،الملاحظات الجديدة أخبرتنا ان ما هو مطلوب هو شيء ما وراء الفيزياء المفهومة حاليا ، وان الرياضيات الخالصة وحدها غير كافية للوصول الى هناك.

وفي بدايات العام 1900 كان واضحا ان ميكانيكا نيوتن كانت في مأزق. انها لم تستطع توضيح كيف تحركت الاشياء بسرعة موازية لسرعة الضوء، وهو ما قاد الى نظرية اينشتاين في النسبية الخاصة. نظرية نيوتن في الجاذبية الكونية كانت ايضا في موقف صعب، كونها لم توضح حركة عطارد حول الشمس. مفاهيم مثل الزمكان كانت تمت صياغتها توا، لكن فكرة الهندسة اللااقليدية (حيث الفضاء ذاته يمكن ان ينحني بدلا من ان يكون مستويا) كانت حاضرة لعقود بين الرياضيين.

لسوء الحظ، تطوير اطار رياضي لوصف الزمكان (والجاذبية) تطلّب اكثر من رياضيات خالصة، ربما تطبيق الرياضيات بطريقة معدلة، يتفق مع مشاهدات الكون. هذا يفسر لماذا نحن دائما نعرف اسم اينشتاين لكن القليل من الناس يتذكرون اسم ديفد هلبرت.

كلا الرجلين لهما نظريات ربطت انحناء الزمكان بالجاذبية وبوجود المادة والطاقة. كلاهما لديهما صياغات رياضية متشابهة، وحاليا المعادلة الهامة للنسبية العامة تُعرف بـ فعل اينشتاين-هلبرت . لكن هلبرت الذي جاء بنظريته الخاصة، نظرية في الجاذبية مستقلة عن اينشتاين، سعى بطموح أكبر من اينشتاين: نظريته طبقت على كل من المادة والكهرومغناطيسية بالاضافة للجاذبية. هذا ببساطة لايتفق مع الطبيعة. كان هلبرت يبني نظرية رياضية اعتقد انها يجب ان تُطبق على الطبيعة ولم يتمكن ابدا من الحصول على معادلات ناجحة تتنبأ بالتأثيرات الكمية للجاذبية. اينشتاين فعل ذلك، وهذا يفسر لماذا معادلات المجال تُعرف بمعادلات المجال لأينشتاين، دون ذكر لهربرت. بدون مواجهة الواقع، نحن لا نمتلك فيزياء ابدا.

موقف مشابه لهذا جاء مرة اخرى بعد عدة سنوات في سياق فيزياء الكوانتم. انت لا تستطيع اطلاق الكترون من خلال شق مزدوج وتعرف بناءً على كل الظروف الاولية، أين سينتهي به المطاف. كان مطلوبا نوع جديد من الرياضيات – متجذر في ميكانيكا الموجة ومجموعة من محصلات احتمالية.

اليوم، نحن نستعمل رياضيات ناقلات الفضاء والمشغلين، وطلاب الفيزياء يسمعون كلمة مألوفة : فضاء هلبرت.

نفس الرياضي ديفد هلبرت اكتشف عدد من الخطوط الهندسية كانت مفيدة جدا لفيزياء الكوانتم. مرة اخرى، تنبؤاتها لم تحقق فائدة عندما واجهت الواقع الفيزيائي. لهذا السبب،بعض التعديلات البسيطة كانت مطلوبة للرياضيات، لتخلق ما يسميه البعض فضاء هلبرت الفيزيائي. القواعد الرياضية كانت بحاجة لتُطبّق بتحفظات معينة، والاّ فان نتائج كوننا الفيزيائي سوف لن يتم الحصول عليها.

اليوم،من الشائع جدا ان تلجأ الفيزياء النظرية للرياضيات كطريقة محتملة للمضي قدما نحو حدث اكثر جوهرية في نظرية الواقع. هناك عدد من الاتجاهات المرتكزة على الرياضيات مورست عبر السنين:

1- فرض تماثلات اضافية symmetries

2- إضافة أبعاد اضافية

3- إضافة مجالات جديدة الى النسبية العامة

4- إضافة مجالات جديدة الى نظرية الكوانتم

5- إستعمال زمر اكبر(من نظرية الزمر الرياضية) لتمديد مستوى النموذج.

هذه الاستكشافات الرياضية هي هامة وملائمة للفيزياء، انها تمتلك افكار حول ما يمتلكه الكون من أسرار وراء ما يُعرف حاليا. لكن الرياضيات وحدها لايمكن ان تعلّمنا كيف يعمل الكون. نحن سوف لن نحصل على اجابات محددة بدون مواجهة تنبؤاتها بالكون المادي نفسه.

انه درس يتعلمه كل طالب فيزياء عندما يحسب اول مرة مسار جسم يُطلق في الهواء . كم المسافة التي يقطعها؟ اين سيحط؟ كم الوقت الذي يستغرقه في الهواء؟ عندما نحل المعادلات الرياضية – معادلات نيوتن في الحركة – التي تحكم هذه الاشياء، نحن لا نحصل على "الجواب." نحصل على جوابين من الرياضيات. لكن في الواقع، هناك شيء واحد فقط. ان الجسم يتبع مسارا واحدا فقط، يهبط في موقع واحد وفي وقت محدد واحد. أي جواب يتطابق مع الواقع؟ الرياضيات لن تخبرنا. لذلك نحن نحتاج ان نفهم مشكلة الفيزياء المحددة في السؤال،لأن ذلك وحده يخبرنا أي جواب يمتلك معنى فيزيائيا خلفه. الرياضيات ستأخذنا بعيدا جدا في هذا العالم، لكنها لن تعطينا كل شيء. بدون مواجهة الواقع، لا نستطيع فهم الكون المادي.

Bigthink.com, Feb 28, 2023

***

حاتم حميد محسن

 

في المفهوم: الدين لغة:

جاءت لفظة الدِّين في اللّغة على عدة معاني، ومنها المجازاة، كما في قولهم: كَمَا تَدِينُ تُدان، أو كَمَا تُجازي تُجازَى، أَيّ تُجازَى بعملك وَبِحَسْبِ مَا عَمِلْتَ، ويوم الدّين هو يوم الجزاء، ومنه الدّين بمعنى الإسلام والطاعة: إذ يأتي الدِّين بمعنى الطَّاعَةُ والِانْقِيَادِ، والاستسلام. ويأتي أيضاً: التوحيد. وبمعنى الحكم. والحساب. (1).

الدين عقيدة:

بيد أن المتعارف عليه بالنسبة للدين: بأن الدين هو ما بينه الله في كتبه المقدسة، أو ما بينه الرجال المصلحون الذين شكلت أفكارهم وقيمهم ديناً قائماً بذاته كالبوذيّة والمانويّة والزردشتية وغيرها. من رؤى وأفكار ومبادئ وعقائد، تَسوقُ الناس إلى الحق والخير في تفكيرهم وسلوكهم عند ممارستهم لنشاطهم الحياتي.

الدين اصطلاحاً:

الدين هو نظام اجتماعي- ثقافي من المعارف والمبادئ والسلوكيات أو الممارسات التي تنطبق أو يجب أن تنطبق مع مبادئ هذا الدين، وهي مبادئ لها بعدها الأخلاقيّ، ونظراتها العالميّة ونصوصها واماكنها المقدسة، مقلما لها المنظمات أو الأحزاب أو الطرق، التي تربط الإنسان بأفكار أو معتقدات هذا الدين، وهي في جوهر معظمها متعالية، وروحانيّة. ومع ذلك، لا يوجد إجماع علمي حول التعريف الدقيق للدين.

الأبعاد السوسيولوجيّة للدين ووظائفه:

لا شك عندنا، بأن البعد السوسيولوجيّ (الاجتماعيّ) للدين يتحدد بالواقع المعيوش، على اعتبار أن الدين نسق من أنساق الوعي البشري. فهو يتصل اتصالاً مباشراً ووثيقاً بالواقع. والواقع هو الذي يحدد طبيعة نصوصه المقدسة من حيث دلالاتها وأهدافها، أي هو الذي فرض ويفرض على النص المقدس أن يتعامل مع هذا الواقع بأبعاده الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والقيمّة، وما يترتب على هذه الأبعاد من مهام ووظائف يجب أن تمارس في الواقع من جهة، ثم أن الواقع ذاته هو من يفرض أيضاً على من يشتغل على هذا الخطاب الدينيّ أن يعمل على تفسير وتأويل نصوصه المقدسة بما يتفق ومصالح الفرد والمجتمع، وفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيوشة من جهة ثانية. والواقع أخيراً في حركته وتطوره وتبدله هو من فرض الناسخ والمنسوخ على هذا النص المقدس في الخطاب الإسلامي ذاته على سبيل المثال لا الحصر، وبالتالي التأكيد على أن الأحكام تتغير بتغير الأحوال من جهة ثالثة.

فهذا الشيخ الإمام "محمد عبده" يتعامل مع الفكر عموماً ومنه الفكر الدينيّ خصوصاً، بكل جرأة وعقلانيّة وفقاً لهذه الرؤية السوسيولوجيّة بقوله: (نعم إن الإنسان إنسان بكل فكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مزايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكراً، وكل فكر له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأفكار والأعمال ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد).(2).

إذن إن للدين موقفاً معرفيّاً ووظيفيّا تفرضه كما قلنا أعلاه طبيعة المرحلة التاريخيّة المعيوشة بالنسبة لحالات التطور والتقدم التي تصيب المجتمع والدولة تاريخيّاً أولاً، وكذلك بالنسبة لقوة حضور هذا الدين ودرجة فاعليته في حياة هذه الدولة والمجتمع بشكل عام ثانيّاً. ولكن يظل في المحصلة للدين دور وظيفيّ في شقيّه الإيجابيّ والسلبيّ في حياة الشعوب ودولها، أدته حوامله الاجتماعيّة في الماضي (مشايخ ورجال دين)، ولم تزل تؤديه في تاريخنا المعاصر.

فالدين من الناحية الايجابيّة: يقوم بربط الفرد بالمجموعة، ويقدم له العون المعنويّ عند الضياع والخيبة والاحتجاج، أو عند القناعة والرضى والرضوخ، كما يقدم له العون الماديّ أحياناً من قبل أصحاب هذا الدين أو ذاك أو تفريعاته الطائفيّة والمذهبيّة.

إن من وظائف الدين الايجابيّة ضبط وتعديل جملة التوازنات الممكنة بين الفرد وذاته، وبين الفرد والمجموع، كما أن آليات الضبط هذه تشتغل على وظيفة الفرد الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، أي وظيفته كإنسان في نهاية المطاف. ومن وظائفه الايجابيّة أيضاً، يشكل الدين في مفاهيم عدالته وموقفه من الظلم والاستعباد والاستغلال أحد الوسائل الأساس التي يتكئ عليها المحتجون أو المعارضون من الفقراء والمحرومين والمهمشين والمقصين من قبل الأنظمة السياسيّة المستبدة القائمة.

أما بالنسبة للمواقف السلبيّة التي يحققها الدين وخاصة في مواقف حوامله الاجتماعيين الاحتجاجيّة: فهي أن الدين يُعَمَمُ هنا على مجمل مستويات قوى الاحتجاج، أي يغيب البعد الطبقيّ عند القوى المحتجة إلى حد بعيد، طالما أن العدو واحد في مرحلة تاريخيّة محددة. ولكون الدين في رؤيته لمفاهيم العدالة بكل مستوياتها أو تفريعاتها تقوم على رؤى ثابته (معياريّة) غير قابلة عند الكثير من مشايخ الدين للنقد أو المراجعة أو التعديل، لذلك نجد الدين يَحُولُ دون تطور ونضوج قوى الاحتجاج وإيصالها إلى قوى تغييريّة شاملة قادرة على تحقيق ثورة حقيقيّة قد تكون أساسيّة وضروريّة في مرحلة تاريخيّة محددة من تاريخ الدول والمجتمعات التي تعيش حالات من القهر والظلم والاستبداد. فمكانة الدين كـ (أفيون للشعوب)، لا تستثمر الدين عقلانيّا وبما يتفق وروح العصر. ومن ناحية أخرى يظل لوظيفة الدين سلبياتها على حياة المجتمعات ودولها انطلاقاً من الوظيفة الانتمائيّة للدين، هذه الوظيفة التي تتناقض مع تكوين الهويات الأخرى غير الدينيّة التي تقتضيها الوضعيات المعاصرة للأمم والشعوب، كالانتماءات الكبيرة مثل الانتماء للوطن أو للقوميّة، أو الانتماءات الصغرى مثل الحزب أو النقابة أو المنظمة... الخ.

بيد أن الدين في وضعيته الانتمائيّة القائمة على العقيدة، يصبح هنا عامل تقسيم وتشرذم، خصوصاً داخل المجتمعات المتعددة الديانات والطوائف والمذاهب، حيث تؤدي هذه الانتماءات الدينيّة الضيقة إلى صراعات طائفيّة وأهليّة تهدد وحدة المجتمع ككيان حضاريّ وثقافيّ وسياسيّ، كما جرى في ثورات الربيع العربي التي اتخذت من سلاح الدين أداة لمواجهة الأنظمة السياسيّة القائمة، فحولت الصراع من صراع بين قوى ظالمة ومظلومة من الوجهة السياسيّة والقانونيّة، إلى صراع طائفي مقيت.

تظل أخيراً هناك وظيفة سلبيّة للدين على درجة عالية من الأهميّة وهي، تحول الدين إلى أيديولوجيا بيد السلطات الحاكمة التي لا تعبر عن مصالح شعوبها، ففي تاريخناً الماضي والحاضر اتكأت السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة على الدين ووظفته تفسيراً وتأويلاً بما يحافظ على وجودها وبالتالي مصالحها. بل إن الدين ظل يحكم طبيعة السلطة ذاتها طوال الخلافة العربيّة الإسلاميّة، من حيث الانتماء الصلبيّ إلى البيت القرشي، أي الانتساب للرسول بالنسبة للدين الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر. وهذا التوجه القبليّ/العرقيّ ظل قائما في عالنا الإسلاميّ حتى سقوط الخلافة العباسيّة. وهذا القانون السياسيّ الملفع بالدين منذ السقيفة، فرض على من استلم الخلافة من غير العرب أن يبحث له عن نسب عربي قريشي حتى يشرعن خلافته أو سلطته، والملفت للنظر أن من ينتمي لآل البيت من مشايخ الدين له حظوة اجتماعيّة كبيرة لدى المجتمعات الإسلاميّة إن كان من السنة أو من الشيعة.. كما أن من الآليات المهمة التي يعمل الدين عليها في توجهاته السلبيّة، هو التواطؤ الذي يقوم بين الطبقات الحاكمة والكثير من علماء الدين نتيجة مصالح مشتركة بينهما، وذلك عن طريق بعض المؤسسات الدينيّة وعلمائها، هؤلاء العلماء الذين كانوا بغالبيتهم وفي مختلف عصور الإسلام على سبيل المثال لا الحصر، خاضعين سياسيّاً واقتصاديّا للقوى الحاكمة. وهم من يقوم بعملية تفسير وتأويل النص الديني وإصدار الفتاوى لمصلحة هذه القوى السياسيّة الحاكمة أو تلك. أما الخطر في هذا التحالف المشبوه بين رجال الدين والسلطة، فيتجسد في تشجيع الفكر السلفيّ الغيبيّ الامتثاليّ الجبري وخاصة الأشعريّ والصوفيّ منه على وجه التحديد كونهما يعملان على محاربة العقل والإرادة الإنسانيّة من جهة، ومحاربة الفكر التنويريّ التقدميّ وحوامله الاجتماعيين، ونعتهم وأفكارهم بالزندقة والكفر من جهة ثانية.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

....................

الهوامش:

1 - ابن منظور (1414هـ)، لسان العرب (الطبعة الثالثة)، بيروت - لبنان: دار صادر، صفحة 169، جزء 13. بتصرّف.

ويراجع في هذا الاتجاه ايضاً- مجموعة من المؤلفين (من 1404 - 1427 هـ)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الثانية)، الكويت: دار السلاسل، صفحة 265، جزء 4. بتصرّف.

2- (الأعمال الكاملة – محمد عبده- ج3- ص 286 وما بعد).

 

 

بعض الكتّاب يريد من الكلِّ التصفيق له، بلا أن يعترف أو يحترم أو يحتفي بمنجز أحد. أعرف كتّابًا يغارون غيرةً عنيفة من الشباب الموهوبين. عندما يطلب كاتبٌ ناشئ منهم رأيًا بنصوصه، يتعاملون معه بغطرسة وازدراء، وأحيانًا يسمعونه كلماتٍ مميتة، ربما تقتل موهبتَه في مهدها. لا أتحدث عن النقد بمعناه الأدبي والثقافي والعلمي، ولا أتحدث عن خداع مَن لا يعرف الكتابة، ويصرّ على إقحام نفسه في هذه المهمة الوعرة، بلا موهبة، ولا صبر طويل، ولا تمارين مرهقة، ولا تكوين في الحقل الذي يكتب فيه، ولا ثقافة غنية. أتحدث عن الغيرة المرضية، والاستهزاء والازدراء والعنف اللفظي الذي يصدر من كتّاب يراهم مَن يطلب رأيَهم خبراء. قلّما تعرفت على كتّاب في مجتمعنا يمتلكون روحًا أبوية حانية، يبادرون بالعطاء والرعاية لذوي المواهب من الجيل الجديد. الإنسانُ بطبيعته يطلبُ الاعترافَ والدعمَ الذي يحفّزه على العمل والإنجاز. الشبابُ خاصة بحاجة شديدة للدعم العاطفي والرعاية والتحفيز. الاستثمارُ في إيقاظ عقول الشباب ورعايتهم عاطفيًا استثمارٌ في إيقاد طاقة الإبداع والتجديد الخلّاقة، وهو أثمنُ استثمارٍ للحاضر والمستقبل.

مِن دون قارئ يفتقر النصُ لانبعاث الحياة فيه، القراءة بقدر ما تحيي النصَ تجدده عبر الحوار النقدي للقارئ مع النص. القارئ مرآة توقظ معاني الكلمات، وتضيء ما هو مستتر من دلالاتها. الكاتب الحقيقي يستمدّ طاقتَه في الإبداع والمثابرة والاستمرار من القراء الأذكياء ذوي البصيرة المضيئة، ‏أجمل مكافأة للكاتب أن يرى صورتَه في هؤلاء القراء. طاقتي تتجدّد لحظة يتحدث لي قراء يتذوقون طعمَ الكلمات. القارئ يكرم الكاتبَ ويحفّزه ويوقد طاقتَه عندما يعلن ما يعيشه بتذوق ما تقوله وما تلمح إليه وما تضمره كلماتُه. الكاتب المخلص لصنعته يحاول أن يتعلّمَ من الكلّ، وفي الوقت ذاته يسعى أن يكون مختلفًا يمتلك صوتَه الخاص، لا أن يكون صدىً لغيره. يتعلّمُ من القراء المتسائلين وحتى المشاكسين أكثر مما يتعلّمُ من القراء المنحازين مسبقًا لكتابته. أقرأ تعليقات متنوعة بعد نشر ما أكتب، مَن يمتدح كتابتي يفرحني ويعزّز ثقتي بجهدي، خاصة وأنا قبل غيري لا أثق دائمًا فيها، إلا أنه لا يضيف لي ولا أتعلّم منه شيئًا، ولا يدعوني للتريّث وتمحيص ما أكتب. أحيانًا تكون تلك التعليقات نقدًا لاذعًا، وربما تضمن شيءٌ منها كلماتِ احتجاج منفعلة قاسية تخرج على النقد العلمي، ولا تخلو من تجريح أو تحريض ضدي. أعترف أني تعلّمت من هؤلاء النقّاد القساة ما لم أتعلمه ممن مدحوا كتاباتي. وإن كانت تعليقاتُهم تزعجني، إلا أنها كانت ومازالت حوافزَ تستفزني وتوقظني لأن أكون أشدَّ حرصًا ومثابرة على غربلة نصوصي وتدقيقها والتأمل فيها أكثر من مرة قبل نشرها. هذا الصنف من القراء يسهمون بإنضاجِ كتاباتك عبر تحديها، وحتى التحريض عليها. التحدي يرسخ كفاءةَ دفاعات الإنسان، ويستحثّه على مراكمةِ جهوده وتكثيفِها، والعملِ على ابتكار أدواته وتعزيزها.

أشعر بمسؤولية أخلاقية حيال القراء الكرام، أنا مدين لكلِّ مَن يقرأ كتاباتي، لا أستطيع وفاءَ هذه المديونية الكبيرة إلا بإنفاقِ كلِّ طاقتي، والإخلاصِ لهؤلاء القراء وأمثالهم في كلِّ كلمة أكتبها. لستُ مستعدّا للتنازل عن ضميري الأخلاقي، يقظةُ ضمير الكاتب تحميه من خيانةِ نفسه والقراء، والجنايةِ على عقله وعقولهم. تنازل الكاتب عن أخلاقه على مراتب، الحدُّ الأدنى يتمثل في إدمان المراوغة والتمويه في اللغة لتضليل القراء. الإخلاص للقارئ يعني إثارةَ عقله النقدي، ومحاولةَ استنطاق ما هو صامت في تفكيره، وتدريبَه على طرح أسئلة كبرى، والابتعادَ عن ‏تلقينه كلَّ شيء كالببغاء. يراسلني ‏بعضُ طلاب الماجستير والدكتوراه يطلبون أن أقترحَ عليهم عنوانًا، وبعد اقتراح العنوان يطلب بعضُهم أن أدّله على كلِّ شيء، وأفعل َكلَّ شيء نيابةً عنه، أكثرُهم يريد وضعَ الخطة نيابة عنه، وإعدادَ لائحة المراجع، وتحريرَ ما يكتب، وتتمادى طلبات جماعة منهم فيريد الكتابة نيابة عنه. أرفض حتى وضع الخطة لطلابي فضلًا عن غيرهم. بعضُ الناس يريدُك أن تقودَه كالأعمى، وأنا أرفض التقليد الأعمى، تتلخص مهمتي بالعملِ على تقويض الأغلال الراسخة في الذهن، وتحريرِ العقل من أصنامه ما أمكنني ذلك.

الإخلاص للقراء في الكتابة يعني طرحَ ما يستحثُّ العقلَ على التفكيرِ بموازاة الكتابة وضدّها، والانتقالَ بالتفكير خارج الأسوار المغلقة. لا تتجلى قيمةُ الكتابة فقط بمقدار ما تنتجُه من إجاباتٍ جديدة، ولا بما تكرّره من كلمات جاهزة. قيمةُ الكتابة في براعتِها بوضعِ عقل القارئ أمامَ مشكلاتٍ عميقة يتطلب الخوضُ فيها الكثيرَ من التأمل والنظر غير المتعجِّل. لا يجد القارئ الذكي عقلَه في بعضِ إجابات المؤلِّفين وآرائهم، يجده غالبًا فيما يحرضه على التفكيرِ المختلف، ويستحثّه على توليدِ أسئلةٍ موازية لأسئلةٍ كانت تشغله زمنًا طويلًا.

الكتابة لا تنتهي وتبلغ مدياتِها القصوى في أيِّ حقل يفكر فيه الإنسانُ ويتأمل بدقة وعمق، الكتابة يغذّيها القراء الأذكياء مثلما تغذّيهم. لا أظن الفهمَ المبسط للقول الشائع: بعض العلوم "نضج واحترق" دقيقًا. يمكن أن يكون القصدُ استنفادَ البحث على وفق منهجٍ معين وطريقةٍ محدّدة ونوعٍ خاص من الفهم في أحد العلوم، وإلا فكلّ علم ينفتح على إمكانات بحٍث متجدّد تبعا لتجدّدِ نوعِ المناهج وطرائقِ التفكير في قضاياه، وانبثاقِ أسئلة لم تكن حاضرةً في الذهن، واستثمارِ ما هو مسكوت عنه ومنسيّ أو ممنوع في عقل المشتغِل بهذا العلم. لا يتطور العلمُ ولا تحدث فيه منعطفاتٌ إن كان المشتغِل بالعلم يظن أن من سبقه أدرك الحقيقة، وتعرّف على كل وجوهها، واكتشف كلَّ الطرق المؤدية إليها، لا جديد يقوله هو أو غيره في أية مسألة. العلم تراكمي يتطور بتصويبِ أخطائه على الدوام، واختبارِ معطياته الموروثة، وتجديدِ أسئلته، وانفتاحِه وتفاعله مع العلوم الأخرى، وتوظيفِ ما يمكن توظيفه من أدواتها ومناهجها ومفاهيمها في إطار مباحثه.

رأيت أحدَ المتحدثين على التلفزيون يطلق أحكامًا نهائية فيقول: "إن كلَّ النظريات في علم اللغة الحديث قالها ابنُ جني، وهي معروفة في آثاره". يتكرّر مثلُ هذا الكلام في الحديث عن الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة وغيرها، ويُعبّر عن هذه القناعات بأساليب متنوعة كلُّ أولئك الذين لا يستطيعون التفكيرَ خارج فضاء الهوية وأحلامها وأمانيها ورغباتها. لا يمكن إنكارُ كون ‏ابن جني رائدًا سبق عصرَه في هذا الحقل، إلا أن هذا الرجل الفذّ وأمثاله حلقةٌ في رحلة اكتشاف أبدية تضيف وتحذف، لا تتوقف عند نهايات مغلقة، ولا تمتلك القولَ الأخير في هذا العلم أو غيره.كلُّ علم بشري غير مكتمل، العلمُ مهما كان مرآةٌ لنقص الإنسان. لم تكتمل الفيزياء الحديثة عند نيوتن، ولا علم النفس عند فرويد أو يونغ أو ادلر أو لاكان، ولا الفلسفة عند بيكون أو ديكارت أو كانط أو هيغل. لم يبدأ علم اللغة مع ابن جني، ولم يتعطل عند زمن ابن جني أو غيره مهما كان عبقريًا. ليس هناك فيلسوف أو مفكر أو كاتب، مهما كان مقامه يبدأ وينتهي معه أيُّ علم أو معرفة بشرية. علم اللغة من العلوم الحيّة،كلُّ علم حيّ باب البحث فيه مفتوح لا ينغلق. في العصر الحديث انفتحت اللغة على مداخل متنوعة، وتفاعلت مع مختلف معطيات العلوم والمعارف. بحوث علم اللغة اليوم تتفاعل وتؤثر وتتأثر بـالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا وعلم الأعصاب وعلم الجينات، والذكاء الاصطناعي، وغير ذلك.

القراءة النقدية للقارئ الذكي رافد أساسي يثري الكاتبَ، ويفرض عليه الإخلاصَ للقراء، ويضيء للكاتب ما هو معتم من تفكيره، ويكشف له الواهنَ من آرائه، ويمدّ الكاتبَ وتفكيرَه بشيء من إكسير الحياة، بعد أن يكرّس حضورَ كتابته وفاعليتها.كلُّ كتاب خارج القراءة والمراجعة والنقد تحذفه ذاكرةُ الكتابة بالتدريج. لا قيمةَ لكتابٍ يكرّر ما هو مكرّر في لغته وأفكاره، ولا ينتج أسئلةً وجدلًا. لا قيمةَ لأفكار تنسخ الموروثَ والمتداولَ والمألوف وتمجده. كما لا أثر لكلمةٍ ولدت بعد فوات أوانها، لا فاعلية لكلمةٍ تولد قبل وقتها. الكاتبُ الحاذق يعرف أن لكلِّ كتابة أجلًا لحضورها وفاعليتها.كلُّ كلمة تولد قبل وقتها تختنق بما يحيط صاحبَها بضجيج مَن يستهجنها، وربما لا تجد من ينصت إليها. إلا أن ذلك لا يعفي الكاتبَ من إعلانها بلغة عقلانية غير مستفزّة، لعله يرى وهو حيّ لحظةَ فاعليتها، وتسابقَ الناس للإعلان عنها، وادعاء السبق بقولها.

الحجر الذي يكسر صمتَ البركة يحدث ضجيجاً، الكتابُ الحقيقي يكتبُ تاريخَه الخاص، امتلاكُ المؤلف للكتاب ينتهي لحظةَ انتقاله للقراء، ولا يعود باستطاعته التحكمُ بمصائره التي تفرضها سياقاتُ تلقي القراء، ومواقفُهم المضادّة أو المتفقة معه. يحكي لنا تاريخُ الكتابة أن المواقفَ المضادّة لأيّ كتاب تكرّس حضورَه وتمنحه عمراً طويلاً، وربما تخلّده، في حين ليس للمواقف المتفقة مع الكتاب مثلُ هذا الأثر. ثمة كتب محظوظة يتلقاها الناشرون والقراء باحتفاء أكبر من قيمتها الحقيقية، وثمة كتب على الرغم من أهميتها الفائقة تظل مجهولة، فتلبث سنوات خارج التداول.كلُّ كتابٍ يكتبُ تاريخَه الخاص بعد نشره، يبدأ تاريخُه منذ قراءة القارئ الأول له. أكثرُ الكتاباتِ تحتمي بهالة اسم كاتبها وضجيج القراء غير الخبراء من حوله، لحظة يموت الكاتبُ تنكشفُ أعماله للقراء، فيختبر القراء قدرتها لتدافع عن نفسها في حلبة الصراع، وطالما فضح الناقدُ الخبير مواطنَ وهنها وقوتها، وثغراتِها ورصانتِها، وقدرةَ كلماتها وأفكارها على البقاء برغم ما تتلقاه من نقد، وأحيانًا مواقف انتقام لئيمة من كاتبها وهو في قبره. للكتب الجادّة حياةٌ يتحكمُ في مآلاتها القرّاءُ والنقّادُ، وتحدّد أعمارَها ومصيرَها مواقفُهم وانطباعاتُهم، ونوعُ تلقيهم لمضمونها، وكيفيةُ قراءتهم لنصوصها. القارئ المحترف تقوده متعة الدهشة للظفر بالكتب الثمينة، هو مَنْ ينبغي أن يكتشفَ لا أن يقوده غيرُهُ كأعمى. يمتلك القرّاءُ مصائر الكتب بعد قراءتها، ربما تدخلُ بعضُ الكتب كهوفَ النسيان بعد صدورها مباشرةً على الرغم من أهميتها، ثم يأتي مَنْ يُخرِجها من الظلام ويسلّط الضوءَ عليها بعدَ مدة، وربما يتلقى القراءُ كتبًا أخرى لحظةَ صدورها بثقةٍ واهتمام، مع أنها ليست ذاتَ قيمة علمية. لا يمكث من الكلمات إلا ما يتواصل تأثيرُه في القراء، ويمتلك إمكانات مقاومة وتحدٍ في غياب كاتبه.

***

د. عبد الجبار الرفاعي 

 

 

دور المرأة المثقفة في تخريب النسوية

هذا المقال لا يهاجم المرأة بالمعنى العام - وإنما يرصد التحيزات الثقافية للمرأة في نبذ وتخريب الحركة النسوية ضمن توصيفات سياسيات الهوية والجندر، وكيف ساهمت بعض النساء في تأصيل الوصاية الأبوية من خلال رفضهن الحركة النسوية. وعدها حركة نضالية عنصرية تنادي بها أقلية جنسوية ذات مبادئ متطرفة وغير أخلاقية. وانعكس شذوذ هذه الحركة سلبا على العلاقة التي تجمع الرجل بالمرأة. إذ عملت الأنظمة الذكورية على تشويه النسوية من خلال تطبيع أهداف الحركة ونضالها بتصورات معادية لوجود المرأة وشرفها وكرامتها، وتمثل هذا الرفض بمحورين: إذ أرتكز المحور الأول على تشويه النسوية اجتماعيا وثقافيا عندما دمغها بالفوضى الجنسية، وحينما اشتغل المحور الثاني على تفكيكها أدبيا وفكريا بوصفها موضة نسائية تفتقر إلى خطاب المعرفة والمقاومة. ووفقا لهذا المعنى حاربت بعض النساء المثقفات الحركة النسوية؛ لأنها لا تتفق مع بعض توجهاتهن المشبعة مسبقا بالثقافة الذكورية، وهن يتمتعن في الآن نفسه ببعض مكاسب النسوية. وبينما لم تعر الآخريات اهتماما للنسوية؛ لأنهن ولدن في ظروف مناسبة ويتمتعن بعض الامتيازات الطبقية والاجتماعية، وهذا ما جعلهن يتجاهلن تاريخ الحركة النسوية ونضالها الطويل، أو إبداء تعاطف خجول أو تغافل مقصود مما تعانيه باقي النسوة اللاتي وقعن ضحايا العنف والإقصاء والتهميش والجهل والتمييز العرقي والطبقي. ومن جانب آخر انعكس التوجه الأيديولوجي والتمييز الطبقي والقصور الثقافي للمرأة المثقفة على النسوية العربية بوصفها حركة تخريبية وليست حركة حقوقية تصارع الأنظمة الأيديولوجية والطبقية من أجل تكمين المرأة.

وسعت الأنظمة البطريركية في الثقافة العربية بتمرير خطابها العنصري ضد النسوية ومكاسبها من خلال تعبئة الهوية الجندرية بمقولات تشويه القيم، بوصفها حركة غربية رأسمالية تهدف إلى تشيؤ المرأة. واستطاعت السلطة الأبوية في بث خطابها الأيديولوجي في سياسيات الهوية، إذ جعلت المرأة إحدى أدواتها في معارضة النسوية ونبذها. مع تأكيد على أن الأنظمة الأبوية هي أنظمة حتمية في تقسيم الأدوار الجندرية بمفهومها الاجتماعي والديني والاقتصادي والسياسي بين المرأة والرجل. وبوصفها أنظمة أخلاقية تحمي النساء وحقوقهن وتحافظ على هويتهن الطبيعية من الفوضى الجنسية لذا أصبحت المرأة المثقفة تتحرك في فضاء ثقافة ذات نزعة ذكورية، وتؤمن بالتعبية الذكورية، وأنه لا معنى لحريتها والمقاومة من أجل انتزاع حقوقها إذ كان نضالها يدخلها في صراع طويل مع الرجل. واستنادا لهذا الموقف تقبل المرأة أن تتخلى عن بعض كينونتها في ظل الرجل حتى لو كان لديها نفورا طبيعيا في بعض مواطن الثقافة السائدة.إذ ترى حريتها تتناسب طرديا مع وضعها البيولوجي ولا تريد أكثر من ذلك.

وللإجابة عما سبق، نرى أن النسوية ليست صراعا شخصيا مع الرجل، وإنما هي مقاومة للنظام الأبوي وسلطة الخطابات الأيديولوجية التي ساهمت في قمع المرأة وتهميشها، أي أنها تقاوم الثقافة المتحيزة ضد النساء. وهذا الفخ الدوغمائي الذي وقعت به المرأة المثقفة جعلها تكتب عن المرأة ضمن تصورات حالمة وهي تبرر حالات القمع والتهميش التي تمارسها الثقافة الذكورية على المرأة بوصفها حالات فردية، وعلى الرغم من أنها كانت هي السائدة في النمط الثقافي، ولم تقف عند هذا الحد ؛ بل تذيل كتاباتها أنها ليست نسوية. ومن جانب آخر يعود تنازل المرأة عن حقوقها أو تجاهل بعضها؛ لأن النسوية وصلت إليها متأخرة ومتداخلة بين موجاتها الأولى والثانية والثالثة. فضلا عن ذلك، أنها حركة اجتماعية معقدة توالت عليها التيارات الفكرية والفلسفية والنقدية في صياغة مقولاتها ومبادئها منطلقة من ثقافة مختلفة و تجارب نساء متنوعة ومتعددة، لذلك ظهرت فيها عدة تيارات وموجات وكانت هذه التحولات نتيجة لمكاسب متعاقبة حققتها المرأة حول العالم. وتبعا لذلك، وصلت النسوية بموجاتها المختلفة دفعة واحدة للمرأة العربية، وأثقلت تصورات النسوية المستوردة كاهل المرأة العربية وهي تعيش في ثقافة مختلفة ومغلقة، مما جعلها في حالة قفز وتخبط بين مكاسبها ونضالها. لاسيما إنها نابعة من بيئة وثقافة وتجارب نساء مختلفة. ونتيجة ذلك، تم شطر الحركة من تاريخها السياسي، وعدم الاطلاع على جذورها الفلسفية والاجتماعية. فاتسعت الفجوة المعرفية لدى المرأة المثقفة في تصديها لهذا الخلل الفكري في ترميم مفهوم النسوية اجتماعيا وثقافيا، إذ مازالت النسوية في الثقافة العربية وفق تصور المرأة لا يفهم منها سوى أنها تنادي بالتعري وتسليع المرأة.

وعلى وفق هذا التصور، رفضت المرأة المثقفة النسوية بوصفها حركة معادية تقتحم خصوصيتها وتخرب حياتها عندما نادت دفعة واحدة دون مقدمات بحريتها، وأصبحت النسوية في الثقافة الذكورية عارا لكل امرأة تعتنقها وتنادي بمكاسبها اجتماعيا، أما أدبيا تعد النسوية ديكورا كتابيا تنادي بنمط جديد لحياة المرأة لا يخضع لمعايير الواقع الاجتماعي. فضلا عن ذلك، أنها تحولت إلى نمط كتابي يمارس كتابته ونقده الرجال أكثر من النساء. وبالتالي تصبح النسوية كتابة استيهامية تمردية تعث فسادا في بطون الكتب ولا تخرج عن حدودها. لذلك تحتاج المرأة العربية أن تؤسس لحركة نسوية عربية ينطلق نضالها من وضع المرأة في العالم العربي وما تعيشه من تجارب اجتماعية وثقافية متحيزة وإقصائية. ولا يعني هذا أن تلتحم النسوية العربية مع أيديولوجيا المجتمع الذي تنبثق منه، على سبيل المثال لا حصر مثل النسوية الإسلامية، إذ لا تبحث الحركة النسوية في مجملها عن مسميات جديدة تتلائم مع الثقافة التي ترفض وجودها ومكاسبها، بقدر ما تحققه هذه الحركة في نضالها من ضمان حقوق النساء وحريتهن.

***

أسيل العزاوي

 

إستيقظت من النوم مبكراً علي حلم وانا وكثير من الناس وسط القبور؛ الكل واقف يدعوا في تضرع وخشوع والكثير يبكي علي النهاية الحتمية الموت؛وقفت أنظر الي قبر مفتوح مظلم؛فبكيت بشدة والدعاء؛ استيقظت وصوتي بدأ يرتفع ان يرحمنا الله؛

قبل النوم كالعادة في وقت متأخر من الليل. كنت اقرأ قضايا فلسفية لزميل لنا باحث في الفلسفة في "عربي بوست" عن فكرة الموت منذ الازل وقبلها كنت انتهيت من قراءة وظهور حضارات قديمة جنوب مصر في وادي حلفا والفيوم منذ 34 الف سنة قبل الميلاد .. وكيف ابتدع الانسان طقوساً للعزاء وقد سجل لنا التاريخ أساطير وفلسفات وديانات حدثتنا عن الموت، لكل منهم وجهة نظر وتصور يختلف عن الآخر، ولعل أقدم هذه الآثار الموجودة اليوم وأشهرها رحلة جلجماش الطموحة نحو الخلود. وقبور الفراعنة وفكرة الخلود ..فكل يوم نودع شخص من قريتنا ونقف وسط القبور . وانظر في وجوة الناس واسمع همسات وكلمات بعيدة عن المشهد الرهيب الموت ..فلماذا هذا التشبث بالحياة إذن رغم اكتشاف الإنسان أنها عبثية وليست مجدية ولماذا نفضلها على الموت رغم أن الاثنين متساويان..عند بعض الفلاسفة لنعيش مع النظرية الوجودية عند الفلاسفة آرثر شوبنهاور..

نظر الى الموت بطريقة سلبية أي باعتباره نهايةً وعدم، وهناك آخرون نظروا إليه عكس ذلك أي من وجهة نظر إيجابية وبالتالي اعتبروه "انفتاحاً وانكشافاً أمام الوجود وتحقيقاً كاملاً للحرية" وعلى رأس هذه الفلسفات المدرسة الوجودية.

عندما سُئِل ذات مرة لماذا لا تنتحر أجاب: ولماذا أختار الموت وأفضله على الحياة إن جواب صاحب "الإرادة فكرة وتمثل" غير مقنع.

إذ ما كان على السائل إلا أن يواجه جوابه بسؤال آخر هو: ولماذا تختار الحياة وتفضلها على الموت رغم أنهما متساويان هنا كان سيتكرر نفس الجواب ويعاد نفس السؤال، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. وسنجد أنفسنا أمام سؤال فلسفي – سفسطائي من قبيل: أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة..

يقدم لنا الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي ما يراه جواباً على لسان إحدى شخصيات روايته "الشياطين"، إذ يرى أن ما يمنع الإنسان من أن يقتل نفسه هو شيئان لا ثالث لهما، إنهما: الألم والآخرة.

ورغم أن صاحب "الاخوة كارامازوف" يشدد على أهمية هذين العاملين كعائقين يقفان أمام إرادة الإنسان في الانتحار إلا أنه يصفهما بـ"الوهميين".

إن دوستويفسكي وهو الذي تألم كثيراً وعذب نفسه بسبب فكرة الموت هذه -كما نقرأ في رسائله- يعتبر أن الألم عائق أساسي أمام الانتحار، لكن السؤال الذي يؤرقه هو: هل الألم فعلاً موجود..

نعم، إن الألم موجود، لكن فقط بالنسبة للناس الذين يفكرون، فهناك أناس ينتحرون في لحظة هكذا فجأة، هؤلاء لا يخطر في بالهم الألم لأنهم لا يفكرون، أما بالنسبة للذين يفكرون فالأمر يختلف، إن الألم عندهم عنصر رئيسي، يحول بينهم وبين تحقيق إرادة إنهاء حياتهم، لكن الحقيقة هي أن هؤلاء "المفكرين" لا يخشون الألم، إذ لو تصورنا مثلاً أن رجلاً واقفاً تحت صخرة جبلية وفجأة هوت عليه من فوق ومات فهل سيشعر بالألم لا، ولكن السامع بالقصة سوف يشعر بالخوف، لماذا لأن خوفه هذا ليس متولداً من الألم وإنما من الخوف من الألم، وبعبارة أخرى فإن الإنسان المفكر يخشى الخوف من الألم لا من الألم ذاته.

هذا فيما يتعلق بالألم أما عن الآخرة، فإن السؤال الذي يقف أمام شخصية دوستويفسكي هو: أليس هناك أناس لا يؤمنون بالله وبالتالي لا يؤمنون بوجود عالم آخر، عالم ما ورائي؟ ونحن نضيف هنا أوليس شوبنهاور نفسه كان ملحداً فما لهؤلاء إذن لا ينتحرون..

إن الجواب هو أن هؤلاء يؤمنون حقاً بأن الإله ليس موجوداً، ولكنه موجود. كيف ذلك .. إن الصخرة ليس فيها ألم، وإنما الألم هو الخوف من الصخرة "الإله" هو عذاب الخوف من الموت.

فالإنسان الذي سينتصر على الألم والخوف، سيكون هو نفسه الله، وسوف تبدأ عندئذٍ حياة جديدة. عندئذٍ سوف يظهر الإنسان الجديد، سيكون كل شيء جديداً، وسوف يقسمون التاريخ عندئذٍ إلى عهدين: عهدٌ يمتد من الغوريلا إلى انعدام الإله، وعهدٌ يمتد من انعدام الإله إلى التحول الجسمي الذي يطرأ على الإنسان والأرض. سيصبح الإنسان إلها، وسيتبدل جسمه. والكون سيتحول، والأعمال ستتحول، والعواطف والأفكار. ألا تعتقد أن الإنسان يتبدل عندئذٍ جسمه؟

إذا استوى على الإنسان أن يموت أو يحيا فسوف ينتحر جميع الناس، وربما كان هذا هو التبدل، إن جواب شخصية دوستويفسكي هذا يقودنا إلى نيتشه وإنسانه المتفوق "الذي يقتل الإله ليحل هو محله!"، ومن ثمة مباشرة الى الفلسفة الوجودية. إن فكرة دوستويفسكي هذه بالتحديد هي التي عبر عنها جون بول سارتر في كتابه "الوجود والعدم" عندما عرَّف الحرية بأنها "قدرة الإنسان على إعدام الموجود".

لقد نظرت الوجودية الى الموت لا بوصفه نهايةً وعدماً، بل بوصفه انكشافاً وانفتاحاً تاماً أمام العالم الوجود، حيث تقول إحدى شخصيات سارتر -الميتة- في مسرحية الأبواب المغلقة "إن حياتنا على الأرض لم يبقَ منها شيء، وحان الوقت الآن لنجمع الحساب" بما أن الوجودية (خاصة وجودية سارتر وهايدغر)، توحِّد بين الأنا والفعل، وتقيم بينهما علاقة مماهاة، "أنا-فعلي" وتعتبر أن "الإنسان ليس شيئاً آخر غير ما يفعله"، فما يبقى على الأرض إذن من أفعالنا هو نحن، وعندما يوجِّه الآخر نظرته إلى أعمالنا ويحكم عليها فإنه في نفس الوقت يحكم علينا نحن، فننكشف للعالم ونصبح ملكاً له.

وبالتالي فالكائن الإنساني ليس عنده شكلاً مسبقاً وما هو بمثالٍ أو حال، بل إن كينونته وممارسته للوجود تخلق له في كل مرةٍ "أنا" تعنيه، ولذلك فهو في حالة كينونةٍ دائمة، فالوجود الإنساني (الدَّزاين بتعبير هايدغر) في كل مرةٍ له ضميره وأناه، وهذا لايتم إلا بقدرتنا على مواجهة الموت او بالأحرى فكرة الموت في حياتنا والوقوف أمامها.

يقول مارتن هايدغر: "إذا قبلت الموت في حياتي واعترفت به وواجهته مباشرة، سأحرر نفسي من قلق الموت وحقارة الحياة، وحينها فقط سأكون حراً في أن أُصبح نفسي".

لقد حاربت الفلسفة الوجودية بحق النظرة السلبية لفكرة الموت، حيث قد تصل بالانسان هذه الفكرة -في بعض الأحيان- الى أن تغطي الجانبين الدياكروني والسانكروني (الدخلاني والبراني) من تفكيره، فتشل إرادته وتحد من حركته، وتقف عائقاً بينه وبين الفعل والعمل. واستعادت بالتالي مقولة أبيقور: "ما دُمت موجوداً فالموت غير موجود، وعندما سيوجد الموت لن أكون أنا موجوداً!".

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري، متخصص في علم الجيوسياسية

 

 

النقد ليس شتماً وتكفيراً

(ليس المشكلة في أن يخاف الطفل من الظلام؛ لكن المأساة الحقيقية هي عندما يخاف الرجال من النور)... أفلاطون.

تمهيد:

هناك من يخاف فرويد لأنه يكشف ضعفنا ويتغلغل في الجوانب الخفية لأنفسنا، ويغور في المناطق المجهولة المظلمة من عقولنا، يعرينا على حقيقتنا، يكشف الخفي المضمر من أسرارنا ويضيء النوازع الوحشية في سلوكنا. وهنا تكمن أسباب خوفنا وعناصر قلقنا ووجلنا. ولأن بعضنا يخاف النور، وقد أصيب برهاب التنوير، ولأننا نريد إخفاء عيوبنا والتعمية على مواطن قصورنا ومكامن ضعفنا، لذا ترانا نسب فرويد، نلعنه نزندقه نحقره، نصفه بأقذع الشتائم لأنه يكشف عيوبنا ويفضح أعماق نفوسنا – تعساً لك فرويد تباً لك فرويد.

مقدمة:

لطالما ينتابنا شعور بالقرف والتقزز من دعاة التفكير والنقد الذي انتهجوا مبدأ السباب ومنهج الشتائم في تناولهم لأعمال المفكرين والفلاسفة والمبدعين. والغريب في الأمر أن هؤلاء الشتامين غالباً ما يلقبون أنفسهم كتابا ومؤرخين ونقاداً!! والغريب في الأمر هو من أين استطاعوا الحصول على هذه الألقاب ومن ذا الذي منحهم إياها؟ أية جامعة أو مؤسسة علمية منحتهم صفة المفكرين والمؤرخين والنقاد؟

وهذه الفئة من النقاد الشتّامين انتشروا على صفحات التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم يسفهون الآخر ويزندقونه، يتصيدون المفكرين ويكفرونهم، ويلصقون بهم الكفر والزندقة والتضليل في أي قول يقولونه وفي أي فكرة جديدة يحملونها. وهم في غالب الأمر يتمترسون في عملية التكفير وراء نصوص دينية يفسرونها على سجيتهم الغبية ومقياس فهمهم الضحل السقيم.

ومما لا ريب فيه أن الشتيمة تشكل منهج الضعفاء ودين الأغبياء وديدن الجهلاء ومنطق الخبلاء، وعذرهم أنهم لا يملكون في جعبتهم الفكرية إلا القبح اللفظي والسفالة الأخلاقية التي تتجسد في الشتم واللطم والهياج والتكفير في تناول الفكر والمفكرين، ويخال لهم أن هذا السقوط الأخلاقي علم ومعرفة ونقد.

وفقاً لعلم النفس فإن الشتائم اللفظية غالباً ما يطلقها الضعفاء ضد الأقوياء، وهي منهجية دفاعية ارتكاسيه تعبر عن عجز الضعيف عن مواجهة القوي بالوسائل الطبيعية للمواجهة سواء أكانت عقلية أم فيزيائية. وفي كل الأحوال فإن اعتماد السّب والشتم واللعن والتحقير منهجية مذمومة غير منطقية وغير أخلاقية تدل على السقوط الذهني والأخلاقي لصاحبها. وقد بينت الدراسات السيكولوجية أن الإنسان الضعيف الضحل الذي يواجه خصما قوي الحجة قد يلجأ غالبا إلى السب والشتم واللعن ليغطي ضعفه وإحساسه بالهزيمة الفكرية والأخلاقية وعدم قدرته على المحاججة والمواجهة الفكرية. ومن المعروف أن السب والشتم واللعن والتكفير هي لغة شوارعية سوقية، ولا يمكن أن تكون لغة معرفية قائمة على الفهم والتأمل والنظر المعرفي الخلاق. فالسخرية والشتم والانتقاص والمسبة والاحتقار هي أدوات الضعفاء والمهووسين والساقطين بصورة عامة.

فالنقاش الفكري بين المفكرين يجب أن يكون أخلاقياً إنسانياً يقوم على احترام الآخر وتقديره مهما كانت درجة الاختلاف في الرأي؛ لأن الخلاف لا يفسد الود بين المفكرين والباحثين الذي ينتمون إلى فضاء الفكر والعلم والأخلاق. ومن البداهة أن الفرد لا يلجأ إلى الشتيمة إلا إذا كان لديه إحساس عميق بعيد الغور بنقص قدرته على المحاججة والحوار الأخلاقي ومن هذا المنطلق يلجأ لاشعوريا إلى التعمية عن ضعفه وسقوطه المعرفي بالتسفيه والتكبر والتجريح الذي ما أنزل الله به من سلطان. فالرقي الثقافي يمنع المثقف من ممارسة الرعونة اللفظية وهمجية الكلمات الساخرة. فالناقد الشتام – الناقد الذي يلقب نفسه ناقداً - يعبر عن عجزه المعرفي وضحالته الأخلاقية وهو بذلك يضع نفسه في موضع القصور والضعف والسخرية وينحدر إلى مستوى الإفك الرعاعي السادي في تعامله مع المفكرين والباحثين.

الخوف من فرويد:

بالأمس وضعنا مقالة على صفحات المثقف حول فرويد بعنوان "الوليمة الطوطمية في سيكولوجية فرويد1. تحدثنا فيها عن نظريته وعظمة أفكاره دون أن نرفع فرويد إلى مرتبة القديسين، فالنقد واجب لكل أشكال الفكر. وفرويد لم يزعم لنفسه عصمة، بل جعل نفسه دريئة للنقد وقد عمل طيلة حياته الفكرية على نقد أفكاره ونظرياته ذاتيا وطورها مدى الحياة. ولم يقل عن نفسه أبداً أنه مفكر أو فيلسوف، بل سمى نفسه بالمغامر. وهذا يعني أن نظرية فرويد ليست أنجيلا مقدساً فقد خضعت هذه النظرية للنقد على مدى قرن من الزمن، ولم تزد هذه الانتقادات فرويد إلا رفعة وسمواً وتقديراً. ولا مراء في أن فرويد يعد أحد أخطر المفكرين في القرن التاسع عشر على الإطلاق؛ بما قدمه من نظريات في استكشاف الأعماق الإنسانية. وتأثيره في علم النفس، والفكر، والفن، والفلسفة، والأدب ما زال يأخذ اتجاهاً طاغياً حتى اليوم.

وعلى صفحات المثقف المنيرة يطالعنا أحد الكتاب2 بمقالة عصماء يرد فيها على مقالتنا بعنوان: "خطر الفلسفة الفرويدية على الإنسانيّة "3 وهو في هذا المقال يتشدد في وصف فرويد بالخبل والهُبل والجنون ولا يترك لفظا سوقيا إلا ويستخدمه في تحقير فرويد ونظرياته السيكولوجية. ويبدأ هجومه على فرويد ومن يقرّ بنظريته قائلا " لا أدري لماذا يصرّ معظم النقاد والباحثين ودارسي علم النفس ومنظّريه على إلحاق صفة العالم بهذا الرجل المعتوه، فرويد؟ ".

وسؤالنا الذي يطرح نفسه بقوة، ألا يستحق عالم النفس فرويد وصفاً أكثر اعتدالاً من وصفه بالأبله تارة والمعتوه تارة أخرى!؟ هل يعقل أن يكون هذا الرجل الذي يدّرس في كل جامعات العالم ومدارسها بوصفه أعظم العبقريات في التاريخ الإنساني أن يسمى معتوها؟ ألا يستحق هذا الرجل الذي تدرس نظرياته التربوية في كل جامعات العالم أكثر من هذه الكلمة التحقيرية المبتذلة؟

ولا يتوان الأستاذ علي فضيل العربي هذه المرة مهاجمة المسلمين جمعا دون تمييز أو احترام قائلاً: "لكنّ العجيب أن المسلمين يدرّسون هذه الترّهات في مدارسهم وكليّات علم النفس بجامعاتهم، وكأنّها مسلّمات علميّة، في الوقت الذي كان عليهم الوقوف بحزم (فكري) في وجه هذه الأفكار الفاسدة والمفسدة". وعلى هذه الصورة يحكم الكاتب علي فضيل العربي على المسلمين الذين يدرسون فرويد بالعته والغباء، وهو بذلك يرفع من مقام ذاته وفهمه ويضع نفسه في موقع الهادي البشير للعرب والمسلمين، فالمسلمون كما يراهم جميعهم على خطأ وهو على خلافهم يمتلك البصر والبصيرة في يمينه والحق والحقيقة في يساره. وعلى هذا الأساس يجب علينا جميعا ويشمل هذا الوزرات والخطط التربوية والمناهج وأساتذة الجامعات والمفكرين والمنظرين أن نقلع جميعاً عن تعليم نظرية فرويد ومقولاته، وهذا كله استجابة لرأي الإمام المعصوم علي فضيل العربي الذي يرانا جميعا على خطأ وهو الوحيد على صواب لا يشك فيه !!! وهكذا ينصب السيد العربي نفسه إماماً للأمة وهادياً لها ومبشراً. ما هكذا يكون الفهم والنقد يا أخ علي فضيل العربي في أن تحكم على الآخرين جميعهم بالجهل وتجعل من نفسك عالماً علامة يهتدى بهديه ويسير الآخرون على ومض أنواره المقدسة !

ثم يتابع الكاتب الأستاذ علي فضيل العربي تجهيله لفرويد قائلا: " وهذه الفلسفة الفرويدية، تنمّ عن جهل فاضح بالغرائز الإنسانيّة السويّة. وما ادّعاه فرويد، ما هو إلاّ أوهام توهمها، ومشاعر نابعة من نفس مريضة، فاجرة" وعلى هذه الصورة يبدو فرويد جاهلاً محملاً بالأوهام ومريضاً يدعوا إلى الشفقة، بينما يتمتع الكاتب بالنبل والذكاء والعبقرية مقابل فرويد الجاهل المعتوه. ما هكذا يكون النقد يا أستاذ علي فضيل ففرويد لا يختلف عليه اثنان بأنه من أكثر عبقريات العصر نبوغاً وذكاًء وعبقرية!

ولم نسلم نحن (أي علي وطفة) من هجوم مبطن للكاتب إذ يستهجن علينا تناولنا لنظرية فرويد فيقول: " ممّا جاء في المقال قول الكاتب، الأستاذ علي أسعد وطفة، مادحاً فرويد، قوله: " ومما لا شك فيه أن جانباً كبيراً من عبقرية فرويد تكمن في قدرته الهائلة على توظيف الرموز والأساطير في إضفاء المعاني والدلالات على مكونات الحياة الأخلاقية والنفسية في المجتمع، إذ تتجلى هذه العبقرية في التوليف الخلاق بين الواقع الأسطورة، والتاريخ والرمز، والعلم والدين في تفسير الجوانب الخفيّة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسيكولوجية في حياة المجتمع والأفراد والجماعات. " ثم يعقب مستهجنا بقوله: و الحقيقة، أنّ عبقريّة فرويد الوحيدة، تكمن في قدرته على مخادعة العقل البشري، ومحاولة تشويه الفطرة الإنسانيّة، في جانبها العاطفي. لقد أخلط – عمدا لغرض خبيث في نفسه المريضة – بين العاطفة والميل والجنس". وعلى هذا النحو يبدو لنا ومن جديد أن فرويد مريض ومخادع وخبيث، والسؤال هل هذه لغة ناقد وروائي؟ هل هذا نقداً أم سباً وشتماً ولعناً وهجوماً؟ ولم يخبرنا إمامنا السيد علي فضيل الذي استطاع التوغل في باطن النفس عند فرويد ما هو الغرض الخبيث في نفسه؟ لقد ترك ذلك سرا لنفسه ولم يبح به !

ثم يتمترس الكاتب تحت ستار الدين ليأخذ صفة رجل الدين المدافع عن الدين والقيم مهاجماً فرويد واصفاً أفكار فرويد: " إنّها مجرّد أوهام، وكوابيس - لا تقبلها الشرائع السماويّة، ولا الفطرة البشريّة السليمة، ولا الذوق الإنساني السويّ - يكون قد عاشها فرويد في طفولته وبيئته وتخيّلها في خضم معاناة، يكون قد كابدها في طفولته ومراهقته". ثم يتابع قوله " وانطلاقا من هذه المعطيات الوهميّة، كان من واجب الدارسين على هذه (الخزعبلات) الفرويدية، وذلك بدراسة نفسيّته وتتبّع أطوار نشأته العائليّة وفلسفته الدينيّة والأخلاقيّة، لاكتشاف مصادر ترّهاته النفسيّة وعقده المرضيّة. آن الأوان، لإعادة قراءة ثقافتنا المعاصرة وتطهيرها من الأفكار النجسة، الدخيلة، التي تسللت خفيّةً أو جهراً أو عنوةً إلى مناهجنا التربويّة". ويلاحظ القارئ أنه هذه المرة يستخدم كلمة النجاسة والخزعبلات والترهات وينصب من نفسه ناصحاً للأمة مدافعاً عن مصالحها، إذ فقد الجميع في عالمنا العربي والإسلامي عقله وبقي الأستاذ عالي صامداً في أبراجه المثالية ينافح عن الأمة ويسعى إلى تطهريها من رجس الشيطان الفرويدي. أحسنت يا أستاذ علي فضيل العربي حفظك الله للأمة ناصحاً وللملة هادياً ومرشداً.

الأستاذ الناقد علي فضيل العربي يهاجم فرويد بعنف ويطعنه شتما ولكما في هذه المقالة وفي الوقت نفسه يمجد ذاته ويرفع نفسه فوق الآخرين علما وفكرا وثقافة. إذ يقول: "قد أساءت (عبقريّة العقدة الأوديبيّة) الفرويديّة كثيراً إلى الإنسانيّة، وأضّرت بالأخلاق النبيلة. وأخلط بين علم النفس القائم على العقل والمنطق والتحليل العميق، والأساطير والخرافات والأوهام والترّهات، والأنثروبولوجيا العارية من أي سند عقلي ومنطقيّ". وبالمقابل، لقد تلقّف مريدوه وأتباعه علله النفسيّة وأوهامه المسمومة دونما إدراك لخطورتها على الفرد والجماعة. وكان من واجب العلماء وأساتذة علم النفس في مدارسنا وكليّاتنا، رفض تدريسها لطلبة العلم، بوصفها جزءاً من المناهج والمقاييس العلميّة والمقرّرة". فنحن الأساتذة والعلماء في العالم الإسلامي أغبياء وجهلة كما تلمح وتقول صراحة، إذ كان علينا جميعاً أن نرفض تدريس فرويد ونظرياته، ويجب علينا أن نهتدي بتوجيهات الأستاذ علي فضيل العربي إماما هاديا، إماما يحمل راية العلم والحكمة والفضيلة والأخلاق. نعم يا سيدي المقدام يجب علينا العالم الإسلامي أن نهتدي بهديك ونسترشد بحكتك وأن نتخلى عن عتهنا وغبائنا !!! ولما لا يا سيدي المقدام! قد يكون من الواجب أن نصلي خلف قامتكم الكبيرة ونستلهم الحكمة والفضيلة على منبر هدايتكم، عسانا نرشد ونعود إلى جادة الصواب!

زندقة العلماء والعلوم:

والسؤال للأستاذ علي فضيل العربي – كيف توجهنا إذن وكيف ترانا نفعل فيما يتعلق بدارون فنحن ندرس نظرياته أيضاً؟ وماذا عن كارل ماركس الملحد فنحن ندرسه أيضاً في علم الاجتماع؟ وماذا عن اليهودي الزنديق أينشتاين فنحن ندرس أيضاً كتبه؟ وماذا عن اليهودي المارق ماكس فيبر فهو أحد أبرز علماء الاجتماع؟ وماذا عن ترهات اليهودي الفاسق دوركهايم؟ وماذا عن زندقة ابن رشد هل تنصحنا بحذفه من مناهجنا؟ وماذا عن الجاحظ فهل نبقي على نصوصه؟ هل تنصحنا بحذف هؤلاء الزنادقة جميعا من المناهج؟ وماذا أيضاً عن كوبرنيكوس المهووس بدوران الأرض في فلك السماء؟ وماذا عن ترهات أفلاطون المثالية ونظريات أرسطو الحلولية؟ هؤلاء جميعهم يشبهون فرويد وهم من ملة واحدة ومشرب واحد هل علينا أن نرفض تدريسهم في مناهجنا وأن نشطبهم من عالم الثقافة والفكر أيضا؟

يبدو لي أن أخانا الروائي العظيم على فضيل العربي يريدنا أن نحذف من مناهجنا علوم الفيزياء، والكيمياء، وعلم النفس، والفلسفة المزندقة، وعلم الاجتماع، والفيزياء الكونية لأينشتاين ونيوتن كي نستقيم مع فضائل الحياة والأخلاق الكريمة !.

فرويد قامة فكرية شامخة:

أيها الروائي الكبير لتعلم -والله أعلم - أن نظريات فرويد -قبلتها أم لم تقبلها - لها تأثيرٌ منقطع النظير في الفكر الحديث في الأدب والفلسفة والفن، وهي اليوم علم ومدارس واتجاهات فائقة القوة والاقتدار. ومدارسها تتوزع على خارطة الكون بحثاً ودرساً في أعماق النفس الإنسانية ومتاهات العقل البشري. فرويد استكشف العقل للإنساني في أعماقه المجهولة وصارت نظرياته جزءاً من حياتنا اليومية في مجالات الأدب، والفن، والدين، وعلم الأجناس البشرية، والتعليم، والقانون، وعلم الاجتماع، وعلم الإجرام والتاريخ.

وقد أجمل برنار دي فوتو Bernard de Voto رأي كبار العلماء ومشاهيرهم في فرويد وفكره، قائلاً: «ما من عالم طبيعي آخر كان له على الأدب مثل ذلك الأثر القوي والواسع الانتشار.» فلم يكن أثره أقل عمقاً في التصوير والنحت وعالم الفن عموماً. ومن الصعب إحصاء ما أسهمت به عبقرية فرويد في معارفنا من نظريات وآراء متعددة النواحي، وذلك بسبب اتساع مجالاته المتعبة الشاقة وطبيعة اكتشافاته المتعددة الاتجاهات.

يقول وينفريد أوفر هولستر Winfred Overholster: «هناك سبب قويٌّ للاعتقاد بأنه بعد مائة عام منذ الآن، سيعدّ فرويد في مصاف كوبرنيكوس ونيوتن، بوصفه أحد الرجال الذين فتحوا أفقاً جديداً من آفاق الفكر. فمن المؤكد أنه في عصرنا هذا، لم يُلقِ أحدٌ ضوءاً على أعماق عقل الإنسان، كما فعل فرويد".

يا سيد علي فضيل العربي أنتم في مقالتكم هذه حول فرويد تذكروننا بهؤلاء الذين كفروا العلماء ورموهم بالزندقة، من مثل: جابر ﺑﻦ ﺣﻴﺎﻥ ﻭﻫﻮ ﻣﻦ ﻋﻠّﻢ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ ﺍﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺀ، كفروا ﺍﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﺗﻤﺜﺎﻟﻪ ﺃﻣﺎﻡ ﺑﻮﺍﺑﺎﺕ ﺃﻋﺮﻕ ﻛﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﻄﺐ ﻓﻰ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ، وقد قيل فيه: ﺇﻧﻪ ﺇﻣﺎﻡ ﺍﻟﻤﻠﺤﺪﻳﻦ ﺍﻟﻜﺎﻓﺮﻳﻦ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭﻣﻼﺋﻜﺘﻪ ﻭﻛﺘﺒﻪ ﻭﺭﺳﻠﻪ ﻭﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻵﺧﺮ‏»، وما قيل ﻋﻦ تكفير ﺃﺑﻰ ﺑﻜﺮ ﺍﻟﺮﺍﺯﻯ ﻻ ﺗﻜﻔﻴﻪ ﻣﺠﻠﺪﺍﺕ، ومنه ‏«ﺇﻥ ﺍﻟﺮﺍﺯﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺠﻮﺱ‏»، ﻭ ‏«ﺇﻧﻪ ﺿﺎﻝ ﻣﻀﻠﻞ؟ وزندقوا الخوارزمي عداك عن ابن رشد ﻭﺗﻬﺠﻴﺮﻩ ﻭﺣﺮﻕ ﻛﺘﺒﻪ، ﻭﻗﺎﻟﻮﺍ ﻋﻦ ﻧﺼﻴﺮ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﻄﻮﺳﻰ: ‏«ﺇﻧﻪ ﻧﺼﻴﺮ ﺍﻟﺸﺮﻙ ﻭﺍﻟﻜﻔﺮ ﻭﺍﻹﻟﺤﺎﺩ‏». - ﻭﻗﺎﻟﻮﺍ ﻋﻦ ﺍﻟﻜﻨﺪﻯ: ‏«ﺇﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﺯﻧﺪﻳﻘﺎً ضالاً‏. وأحسبك أخي علي فضيل العربي تنهج نهج من كفرهم وزندقهم كما تفعل مع فرويد وربما دارون وكوبرنيكوس.

ونقول في هؤلاء التكفيرين قول ﺍﻟﻜﻨﺪي فيهم: ‏ «ﻫﺆﻻﺀ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻖ، ﻭﺇﻥ ﺗُﻮﺟﻮﺍ ﺑﺘﻴﺠﺎﻥ ﺍﻟﺤﻖ ﺩﻭﻥ ﺍﺳﺘﺤﻘﺎﻕ، ﻓﻬﻢ ﻳﻌﺎﺩﻭﻥ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺩﻓﺎﻋﺎً ﻋﻦ ﻛﺮﺍﺳﻴﻬﻢ ﺍﻟﻤﺰﻭﺭﺓ ﺍﻟﺘﻰ ﻧﺼﺒﻮﻫﺎ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺍﺳﺘﺤﻘﺎﻕ، ﺑﻞ ﻟﻠﺘﺮﺅﺱ ﻭﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺓ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ، ﻭﻫﻢ ﻋﺪﻣﺎﺀ ﺍﻟﺪﻳﻦ‏». ﻭﻛﺄﻥ ﺍﻟﻜﻨﺪﻯ ﻳﻌﻴﺶ ﻣﻌﻨﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻳﺎﻡ. ويرى هجومك الفاضح المريب على العلم والعلماء.

من يخشى فرويد اليوم هم أهل الضلال والسب والشتم والتكفير، لا أهل العلم والعمل. وفرويد يا سيدي لا يشكل خطراً على الإنسانية، بل يشكل خطراً على الأوهام والأسقام المعرفية، خطراً على الجهل والجاهلين، خطراً على أعداء العلم والمعرفة وحرية الفكر الإنساني. وهذا هو حال فرويد و أينشتاين ونيوتن وابن رشد وابن طفيل والقائمة تطول. كن مطمئناً يا صديقي فالإنسانية ليست في خطر من فرويد وأمثاله، بل الخطر يأتي من أهل الجهل والتكفير زنادقة الفكر أعداء النور والعقل والتنوير.

ختاما: النقد ليس تكفيرا وشتما:

النقد، يا سادتي، ليس تكفيرا وشتما بل هو احترام وتقدير وأناة وصبر وحلم وفن، الناقد لا يكفر ولا يشتم بل يبحث ويتقصى ويقارع الحجة بالحجة والسبب بالسبب، النقد تواضع ومحاججة يكون الهدف منه تطوير الفكر والمعرفة، النقد ليس انفعالا بل رؤية موضوعية، والنقد ليس خواطر انفعالية وهو كذلك ليس كراهية وحقد وزندقة وألفاظ نابية، النقد اتزان وخلق وتكريم للآخر، قد ترفض فكرة الآخر، ولكن إياك أن تحقره لأنه أخ لك في الإنسانية إن لم يكن لك أخ في الدين.

من يخشى فرويد اليوم هم عين من يخشى النور والضوء، من يخاف العقلانية والشفافية، هم باختصار أهل الظلمة والظلام والتكفير لا أهل العلم والعمل. ونؤكد نحن أن فرويد وغيره من المفكرين الكبار لا يشكلون خطرا على الإنسانية، بل يشكلون خطرا على الأوهام والأسقام المعرفية، إنهم بالتأكيد يشكلون خطرا على الجهل والجاهلين والغارقين في الأوهام والظلام، إنهم باختصار يشكلون خطرا على أعداء العلم والمعرفة وحرية الفكر الإنساني. هذا هو حال فرويد ومض فكري قد يخطئ ويصيب، لك أن تحاججه وليس لك أن تشتمه. ومن يخاف فرويد سيخاف بالتأكيد من أينشتاين ونيوتن وابن رشد وابن طفيل وروسو وفولتير وقبلهم أرسطو وسقراط وأفلاطون والقائمة تطول. الخائفون هم أهل الظلام وأعداء النور.

أخي الأستاذ علي الفضيل، الشتائم لا تقلل من قدر العلماء ولا تنال من قيمة المفكرين أو تهزّ كرامتهم، وقبلك مئات الألوف من أعداء العلم والفكر والتنوير انهالوا بالشتائم على فرويد وغيره من العلماء، ومع كل شتيمة صبت على رأس فرويد وغيره من العلماء ازدادت قوتهم واشتدت شكيمتهم وازدادوا علوا وتحليقا في الأجواء العالية للفكر والثقافة ، ومثل هذه الشتائم تزيدهم عزة وقوة وحضورا وتأثيرا. حرقوا كتب ابن رشد فطارت أجنحتها إلى أوروبا والعالم، قتلوا الحلاج فنهض في الكون وجدانا كليا، قطعوا رأس أبو العلاء فانتصب رأسه في ضواحي باريس. العلماء الذين تم تكفيرهم وقتلهم وحرقهم ازدادوا قوة وتأثيرا وحضورا وتنويرا في العالم. أما جلادوهم وقتلتهم ومكفروهم فقد احترقوا في مزابل التاريخ وتآكلت أرواحهم الكريهة.

كن مطمئنا يا صديقي الأستاذ علي فضيل العربي، فالإنسانية ليست في خطر من فرويد وأمثاله، بل الخطر يأتي من أهل الجهل والظلمة وهواة التكفير الساكنين في أعماق العتمة هؤلاء الذين يعيشون في الكهوف المظلمة فاعتادوا الظلام وأصبحوا كالخفافيش التي تخشى النور وترهب ضوءه. الإنسانية في خطر يمثله أهل السب للعلم والشتم للعلماء من زنادقة الفكر أعداء النور والعقل والتنوير. وليست المشكلة اليوم يا أستاذنا الروائي الناقد " في أن يخاف الطفل من الظلام؛ لكن المأساة الحقيقية هي عندما يخاف الرجال من النور". كما يقول أفلاطون. وفي عالمنا العربي هناك كثير ممن يخافون النور ولا يستطيعون العيش إلّا في الظلام. ودمتم.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

.....................

1   - علي أسعد وطفة ، الوليمة الطوطمية في سيكولوجيا فرويد ، المثقف ، نشر بتاريخ: 03 نيسان/أبريل 2023 :

https://www.almothaqaf.com/research/968301

2 - عرف الباحث عن نفسه بأنه "الناقد والروائي: علي فضيل العربي – من الجزائر. والتعريف من الباحث وليس من هيئة تحرير المجلة.

3-   انظر: علي فضيل العربي، "خطر الفلسفة الفرويدية على الإنسانيّة " المثقف، نشر بتاريخ: 10 نيسان/أبريل 2023 :

https://www.almothaqaf.com/qadaya/968424

 

ذكرت في الأسبوع الماضي أن «علاقة المسلمين بالأمم الأخرى واحدة من أبرز انشغالات العقل المسلم في عصرنا الحاضر. وهو انشغال يشترك فيه عامة المسلمين ونخبتهم». واطلعت قبل أيام على تغريدات للأستاذ محمد المحمود في الموضوع ذاته. عبارات قصيرة، لكنها - مثل جميع كتابات المحمود الأخرى - عميقة ومباشرة، تضع الأصبع على الجرح، من دون تمهيد أو مجاملة.

لاحظ المحمود أن نقد الذات تقليد راسخ في الثقافة الغربية، وأنه يصنف كشرط للتطور. النقد الذاتي يعني تشجيع البحث عن العيوب والمشكلات، كشفها لعامة الناس، ثم استنهاض الرغبة في المجادلة والمعالجة، وصولاً إلى اكتشاف العلاج. لقد تسارع التقدم في الحضارة الغربية، لأنها جعلت الشفافية ركناً من أركان حياتها، وتخلصت من عقدة العار إزاء الخطأ.

ولفت انتباهي خبر نشرته الصحافة البريطانية في الأسبوع الماضي، خلاصته أن قصر بكنغهام قد فتح أرشيفه السري لباحثين من جامعة مانشستر، بعدما كشف أحدهم عن علاقة القصر بتجارة الرقيق في القرن السابع عشر. وكان شارلز ملك بريطانيا قد صرح العام الماضي بأنه يشعر بأسى عميق لدور أسلافه في تجارة الرقيق، وأنها كانت صفحة سوداء في تاريخ بريطانيا، لكنه يرى أن علاج هذا الجرح يبدأ بالكشف عن كافة البيانات المتعلقة بالمسألة، في إطار بحث علمي موضوعي.

الإقرار بالأخطاء التي ارتكبها المجتمع السياسي تقليد مقبول في الثقافة الغربية، خاصة بعدما يصبح الخطأ وأطرافه في ذمة التاريخ. وهي طريقة لإعادة الأمور إلى سياقها الطبيعي، والحيلولة دون تحول العداوات السابقة إلى محرك لعداوات جديدة، أو على الأقل شعور الطرف المظلوم بأنه قد استعاد اعتباره، وأن المخطئ أقر بمسؤوليته، كي لا يقول أحد في المستقبل إن المظلوم شريك في الخطيئة أيضاً.

ويرد إلى ذهني الآن كتاب «التقصير» الذي أصدره فريق من الصحافيين الإسرائيليين بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

وركز على استكشاف نقاط الضعف التي قادت إلى هزيمة إسرائيل في الحرب. موقف الإسرائيليين والعرب من هذا الكتاب مثال على الفارق الكبير في التعامل مع أخطاء الماضي. نعلم أن الرقابة العسكرية لم تسمح بكثير مما أراد المؤلفون نشره. رغم ذلك فقد شكل صدمة للإسرائيليين، وأثار مطالبات قوية بمراجعة مدعياته وتحديد المسؤولية. في المقابل، فإن العرب الذين اطلعوا عليه في العام التالي (1974) تعاملوا معه كدليل على أننا «تمام التمام» وأن الإسرائيليين «مثلما تكلمنا عنهم سابقاً».

الحقيقة أن الانتصار الباهر في حرب رمضان (أكتوبر 1973) قد حجب عن عيوننا أهمية المراجعة التحليلية لما جرى في تلك الحرب، ولا سيما تشخيص نقاط القوة والضعف في الأداء السياسي والعسكري والاجتماعي. بحسب علمي لم تقم أي جهة عربية بمراجعة علمية جادة لتلك الحرب، ولا للحروب الأخرى التي كان العرب طرفاً فيها. كما أننا نمر بين حين وآخر بأزمات كبيرة، فلا يتوقف أحد لدراسة ما حدث، ولماذا ظهرت الأزمة، أو كيف نتفاداها.

النقد الذي يمارسه الغرب كممارسة تقدمية، يستثمره بعضنا في سياق التفاخر بأن «إقرار العاقل على نفسه حجة»، أي طالما قال الغربيون بأنهم أخطأوا، فهذا دليل على أننا خير منهم، والدليل أمامك؛ إقرارهم.

هذا المنهج يعزز في ظني ثقافة «العيب» أي اعتبار الحديث عن العيوب منقصة وسبباً لهدم البناء الاجتماعي والثقافي، ويتسبب عادة في التشنيع على الناقد. ثقافة العيب تعني - ببساطة - التستر على العيوب والأخطاء، مع أن هذا التستر يؤدي إلى تعميقها وتوسيعها والحيلولة دون علاجها في الوقت المناسب.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

للأوهام سلطة على البشر تفوق أحياناً سلطة المقدس.. وحين تُوظّف الاوهام سياسياً يصبح خطرها بمستوى المخاطر النووية وربما أكثر. ذلك أنها تخلق صورة نمطية سلبية للغاية عن الآخر وتُوفّر عِتاداً ثقافياً لعملية صناعة العدو. والأخطر من كل ذلك أن تُوظف الأوهام المُتخيّلة عن طائفة ما، أو أثنية ما، أو عن شعب ما، لتبرير حروب أهلية ونزاعات تُستخدم فيها شتى الأسلحة حتى المُحرّمة منها شرعياً ودوليا ً، والتاريخ يحدثنا بأن الكثير من الحروب الطاحنة خاضها بني البشر ضد بعضهم البعض استناداً إلى أوهام يتصورها المتحاربون كحقيقة مقدسة وهم لا يشعرون!، ثم سرعان ما تتبدّد تلك الأوهام حين يحلّ السلام أو تدق ساعة الحقيقة. ومن أقرب الأمثلة على ذلك ما حدث على أرض العراق ويحدث حتى الآن في بلدان أخرى من نزاعات تُذكي نيرانها سلطة الوهم.

هل يتعظ بني البشر؟

بالتأكيد لم يتعظوا، فالأوهام لاتزال تغزو العقول حتى يومنا هذا على الرغم من تراكم دروس التاريخ القديم والحديث، ورغم طوفان العولمة وثورة الإتصالات التي تتيح لكل إنسان التعرّف – بسرعة فائقة - على ما يجهله بلمسة بسيطة على محركات البحث في الهواتف النقالة. بل يمكن القول أن تقنيات الإعلام الحديث منحت المتلاعبين بالعقول قُدرات إضافية لتزييف الوعي وتصدير الأوهام بطرق ماكرة تجعلها تبدو اقرب ما يكون إلى الحقائق!.

على أن مخاطر سلطة الأوهام لا تتبدى فقط في عالم السياسة والصراعات بين الدول أو بين الطوائف والإثنيات، بل تتبدى أيضا في الحياة الإجتماعية وفي السيرة الذاتية للإنسان حين يصبح الوهم موجهاً للسلوك ودافعاً لإتخاذ قرارات غير مدروسة وغير عقلانية، وكذلك حين يصبح الوهم حاجزا عن التفكير بواقعية وإدراك الواقع كما هو.

وأحسبُ أن كل إنسان حين يراجع حياته الماضية ويتأملها بعمق سيكتشف كثير من الأوهام التي جرفته في مساراها وكان يتصورها كحقيقة أو يقين لايقبل الشك !.

ومن ذلك وهم السعادة المُتخيّلة، فكثيراً ما نتوهم أن السعادة تكمن في أمرٍ ما نسعى لنواله ثم يتبين لنا فيما بعد – وربما بعد فوات الأوان- أن حسابات البيدر اختلفت كثيراً عن حسابات الحقل، كما في الحالات التي يتوهم فيها الإنسان أن السعادة تكمن في الاقتران بمن يُحب دون سواه، فتصبح للمشاعروالأوهام سلطة تقاوم سلطة الأعراف والتقاليد وحتى حسابات المنطق أحياناً، ومن يزور محاكم الأحوال الشخصية سيجد كم من قصص الحب المتوهجة بالأوهام انتهت بطلاق أحال الغرام إلى إنتقام !.

أو أن يتوهم المرء أن السعادة تكمن في السعي دوما إلى إكتناز المال بكل السُبل، أو بالهجرة عن بلده إلى بلاد أخرى يتوهم أنها تجسد الجنة الموعودة، ثم يصدمه الواقع بحقائق مُذهلة تجعل من هجرته أقرب ما يكون إلى اللهاث وراء خيط دخان!.

والأوهام تزدهر في الخيال وتقوى سلطتها على الذات في فترة الشباب غالباً، أما في مرحلة خريف العمر فتبدأ الأوهام تتبدّد ويصبح الإنسان أكثر ميلاً للتفكير بواقعية، ولذلك يصعب على المتاجرين بالأوهام أن يجدوا سوقاً لبضاعتهم المزجاة في أوساط الكهول وكبار السن.

وربما يسأل سائل: وكيف السبيل للفكاك من سلطة الوهم؟

من وجهة نظري أرى أن الإيمان والوعي كفيلان بمواجهة سلطة الوهم، وجعل حياة الإنسان تتسق وتنسجم مع الواقع فلا تنخدع بسراب الوهم.

وبقدر ما يُوفّر الإيمان طمأنينة قلبية وراحة نفسية، فإن الوعي يُعمق الإيمان وينقل الإنسان إلى مراتب الرقي والكمال حتى يرى الأشياء كلها بعين الله تعالى..وقد ورد في الأثر الشريف: "اللهم أرني الاشياء كما هي".

***

طالب الأحمد

 

(كل موضوع في التاريخ يستدعي ويتطلب إشكالية – فردنان برودويل)

بداية ماذا نعني بمصطلح (الاسطوغرافيا) الذي يشكل محور هذه المقالة وجوهر مضمونها؟. وقبل أن نشرع بالإجابة حريّ بنا الإقرار بأننا لا نبغي المزايدة على ذوي الاختصاص (المؤرخين)، ولا نرغب في أن نبدو كمن يدس أنفه في حقل ليس من شانه، ولذلك نجد أنفسنا مضطرين لاختيار سبل الإيجاز والاختصار فنجيب بالقول؛ انه (علم دراسة التاريخ). أو بمعنى آخر انه (دراسة طرق البحث والاستقصاء في شؤون الماضي) كما يقول المفكر والمؤرخ عبد الله العروي. ونظرا"لقلة تداول هذا المصطلح في أدبيات السرد التاريخي والاجتماعي العراقي الصادر في معظمه عن بنية عقلية تمتاز بالطابع التقليدي في النظر الى قضايا الواقع، والتي من جملة خصائصها النفور من التعاطي مع كل مصطلح أو مفهوم يدعو الى التجديد في طرق البحث التاريخي، ويحضّ على التحديث في أساليب التنقيب الحضاري، خشية التعرض للمسلمات والزحزحة لليقينيات القارة بين تلافيف الوعي الجمعي.

وإزاء هذا الإصرار على الرفض والتشدد في الممانعة لعل سؤال يطرح نفسه؛ هل حقا"لدينا (استطوغرافيا عراقية) - كما لدى بقية المجتمعات - يمكنها، ابتداء، الشروع بإعادة قراءة التاريخ العراقي قراءة (نقدية) و(موضوعية) خارجة عن مألوف السرديات التقليدية المتكاثرة والمتناسلة، تنأى بنفسها – قدر الإمكان - عن أهواء التحزبات والفئويات والعصبيات التي لازمت (صناعة) تاريخنا المحشو بالمبالغات والتلفيقات منذ قرون، بحيث لن يكون لها معيار آخر سوى (الشك) في كل ما كتب عن مواريث ماضينا الملتبسة، و(التساؤل) عن كل ما قيل بشأن ما ألفناه من سرديات أسطورية ومرويات تاريخية أكل عليها الدهر وشرب، ولكنها برغم ذلك لا زالت تتحكم بنوابض وعينا ومفاتيح سلوكنا كما لو أننا كيانات مخدّرة وآلات مسيّرة، لا تدرك ما يجري عليها ويدور حولها ؟!.

ومن هذا المنطلق، فان الادعاء بامتلاكنا مثل هكذا (استطوغرافيا) عراقية استطاعت أن تفرض وجودها الواقعي وتؤكد حضورها الرمزي، لا يعدو أن يكون سوى ادعاء مبالغ فيه لا أساس له من الصحة بضوء واقع تاريخي لا زال محل خلاف واختلاف. وإذا ما تحرينا الدقة، فان كل ما توفرنا عليه لحد الآن لا يتعدى حدود (العنعنات) السردية و(الإحالات) النصيّة التي امتلأت بها متون الكتب التراثية والمصنفات التاريخية بغثها وسمينها، دون أن يتمكن أصحابها من إضافة شيء ذا قيمة نوعية الى رصيد العلم والمعرفة يمكن البناء عليه والانطلاق منه، كما لمسنا ذلك في تجارب من سبقونا في هذا المضمار. هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية، فانه من باب الإنصاف القول؛ انه بقدر ما برع السرد التاريخي العراقي في تدوين حياة الملوك الطغاة والسلاطين البغاة والأمراء الغزاة، والتركيز على دسائسهم الداخلية وصراعاتهم الخارجية للتمكن من حيازة مقاليد السلطة والتلاعب بمقدرات الدولة، بقدر ما أهمل الالتفات الى حياة الشعوب المقصية، والجماعات المهمشة، والفئات المنبوذة التي كانت تقارع الظلم الاجتماعي، وتغالب البؤس الاقتصادي، وتناوئ القهر السياسي.

ولعل هذا الأمر هو ما ساهم بطمس غنى وثراء ما يسمى بالتاريخ (الشفوي) للشعوب المغلوبة من جهة، وإبراز قوة وسلطان نظيره المدعو بالتاريخ (المكتوب) للأسر الغالبة من جهة أخرى. حيث تم في هذا السرد الاختزالي والأحادي الجانب، (تغليب) الأحداث والوقائع المرتبطة بالبنى (الفوقية) المعبرة عن الأنشطة والفعاليات التي كان يحلو لنخب السلطة ممارستها، على حساب (تغييب) الأحداث والوقائع المتعلقة بالبنى (التحتية) المعبرة عن هموم الطبقات الفقيرة ومعاناة الفئات المسحوقة، بحيث أفضى هذا المسلك الانتقائي الى طغيان الطابع الأيديولوجي المرفوع الى مصاف (الأسطرة) و(الأمثلة)، على بقية ما يناظره من أنواع السرد الأخرى؛ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتاريخي. أي بمعنى الاحتفاء بكل ما له علاقة بالإيديولوجيات التمجيدية للسلطات بخصوص التسويق (لانجازاتها) الوطنية، والطوباويات التبجيلية للحكام بخصوص التزويق (لسلوكياتهم) الأبوية، هذا دون أن تنال الاجتماعيات والعقليات والسيكولوجيات حقها المشروع في الإشارة أو الإشادة، بما يتناسب ودورها في سيرورة التاريخ وصيرورة الحضارة. من منطلق ان صناعة الأول وابتداع الثانية هما انجاز حصري تختص به علية القوم من طبقات الخاصة (ملوك وسلاطين وزعماء وأمراء)، دون أن يكون (لأراذل) القوم من طبقات العامة (المهمشين والمقصيين والمستبعدين) دور في ذلك الانجاز الحصري. بمختصر العبارة أن صناعة التاريخ تبدأ من (الأعلى - القمة) وليس من (الأسفل - القاعدة).

والحال انه لكي تستحيل (الاستطوغرافيا) العراقية الى حقيقة واقعة تستحق إسباغها بالشرعية المعرفية، عبر تخلصها من طابعها (المؤمثل) وتخليها عن خطابها (المؤدلج)، والنظر من ثم الى الفعل التاريخي – الحضاري لا بالمنظور (التجزيئي) و(الاختزالي) الذي دأبت عليه الكتابة التاريخية لحد الآن، وإنما بالمنظور (التركيبي) و(التفاعلي) لمناشط الإنسان وهو يمارس حياته وينسج علاقاته في إطار بيئته الايكولوجية، وحاضنته السوسيولوجية، وخلفيته الانثروبولوجية، وطبيعته السيكولوجية. فانه يتحتم عليها (الاستطوغرافيا) القيام بخطوتين متزامنتين ومتعارضتين في نفس الآن؛ الخطوة الأولى وتتمثل بالإقلاع نهائيا"عن وظائف (التضليل) و(التجهيل) لعقول الأفراد والجماعات، من خلال العبث بأحداث التاريخ ومخزون الذاكرة، عبر عمليات الاختلاق في الحالة الأولى والتلفيق في الحالة الثانية. أما الخطوة الثانية فتشتمل على كسر قيود الممانعة الذاتية (التحريم) الديني – القيمي، وتخطي حواجز الممنوعات الموضوعية (التجريم) السياسي – الاجتماعي، والتي من شأنها حمل المؤرخين والباحثين على تغيير وجهة أبحاثهم ودراساتهم صوب تيارات الأعماق الفاعلة والمؤثرة، بالاعتماد على مناهج التحليل والتأويل (الحفرية) و(النقدية) التي تستهدف التنقيب في رواسب المتخيل والنبش في طمى اللاوعي !. بحيث تظهر أمامنا (الأحداث) التاريخية و(الوقائع) السياسية معراة من كل أردية (التلفيق) و(التزويق)، التي طالما أخفت الجرائم وطمطمت المظالم المرتكبة بحق البلاد والعباد؛ تارة باسم الدين / المقدس، وتارة باسم الوطن / الرمز، وتارة باسم المجتمع / الكيان، وتارة باسم الدولة / السيادة، وتارة باسم الزعيم / البطل !.

***

ثامر عباس

 

تنـــويــه: يعمد علماء النفس الى اجراء التجارب في المختبرات على الفئران، الكلاب، القردة، الطيور..، لمعرفة كيف تتصرف حين تتعرض الى موقف مؤلم، ضاغط، قاس.. ليستفيدوا من نتيجة التجربة فيما لو تعرض الانسان الى موقف مماثل.ويجرون احيانا تجربة على انسان او مجموعة افراد (ضمن حدود الاخلاق) ليعرفوا مثلا مدى قدرتهم على تحمل ضغط معين او صدمة كهربائية.

والذي حصل في (9 نيسان 2023 ) وما بعده، أن العراق صار بكامل ارضه مختبرا لتجارب ميدانية فريدة من نوعها على 27 مليون من البشر نجم عنها تنظير وقوانين سيكوسوسيولوجية تشكل اضافة عراقية في ميدان علم النفس والاجتماع السياسي، على الصعيدين العربي والعالمي.

ويفترض باساتذة قسمي علم النفس والاجتماع في الجامعات العراقية، وطلبة الدراسات العليا فيهما، ان يعتمدوها ويضيفوا لها، لا ان يظلوا معتمدين على ما يكتبه الأجانب عن الذي اصابهم! وكأن العراق خلا من علمائه.

*

بقيام قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق في نيسان 2003، وما نجم عن هذه الحرب التي اكملت سنتها العشرين، يقدم لنا دروسا في مجالات العلوم والمعرفة المختلفة:السياسية، الاجتماعية، النفسية، التاريخية، الاقتصادية، الدينية، الثقافية، والاخلاقية، على صعيد الفرد بوصفه انسانا والجماعات والمجتمع والسلطة.. والعلاقات التي تحكم هذه الأطراف، وكيف تنشأ الصراعات والى ماذا تفضي، والعنف والضغوط النفسية وقوة تحمّل الشخصية وما نحو ذلك من امور من قبيل ما يحصل للقيم والنسيج الاجتماعي من تخلخل او انهيار كالذي حصل لقيمة الحياة المقدسة في المجتمع العراقي.

غير اننا سنركز هنا على دراسة ما يحصل للطبيعة البشرية والمجتمع، ليس فقط في ظروف حرب شاملة باسلحة تدميرية هائلة لا يوجد في مفردات قاموسها "احترام قيمة الحياة"، انما ايضا ما ينجم عنها من ضحايا وهجرة وتهجير وفقر وبطالة وتفكك اسري وتعصب بانواعه وصراعات على المصالح والهويات، وعنف وقتل في مشاهد لا يستوعبها عقل ولا يهضمها منطق.ومهمتي هنا ليس وصف ما جرى، ولا تقديم موعظة او ارشاد.. بل الكشف عن القوانين الاجتماعية التي تحكمت في تحولات ما حصل.

دروس 9 نيسان.. تنظير وقوانين اجتماعية

كان اول درس سيكولوجي-اجتماعي قدمه العراق للبشرية ميدانيا (مختبريا) نصوغه بما يشبه النظرية:

"اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى .. شاع الخوف بين الناس وتفرقوا الى مجاميع أو أفراد تتحكم بسلوكهم الحاجة الى البقاء.. فيلجئون الى مصدر قوة أو جماعة تحميهم، ويحصل بينهما ما يشبه العقد، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة".

ويعلمنا هذا الحدث أن خيمة الدولة اذا سقطت ولا توجد خيمة اخرى تجمع أهل الوطن، فان الناس يصابون بالذعر مدفوعين بـ " الحاجة الى البقاء " فيتفرّقون بين من يلجأ الى عشيرة، مرجعية دينية، تجمع مديني أو سكني، تشكيلات سياسية أو كتل بأية صفة كانت.

وتعلمنا هذه الواقعة ان حدثا كهذا ينجم عنه تحولات حتمية تخضع لقوانين سيكوسوسيولجية. فالحاجة الى البقاء، نجم عنها ثقافة جديدة هي "ثقافة الاحتماء"، دفعت المواطن العراقي الى أن يلجأ الى جهة تحميه.. وفق شروطها!. وثقافة الاحتماء نجم عنها تحوّل سيكولوجي خطير، هو ان الشعور بالانتماء للعراق، للوطن.. تعطّل! بعد ان تحول انتماء العراقي الى المصدر او القوة التي تحميه.. وبولاءات لا تحصى.

كان هذا هو التحوّل السيكولوجي -الاجتماعي الأول الذي حصل للعراقيين بعيد مزاج الفرح الذي شاع بين معظمهم بالخلاص من الدكتاتورية. فلقد كان شيئا أشبه بالخيال ان يستيقظ العراقيون صباح التاسع من نيسان وقد وجدوا انفسهم انهم تخلصوا من كابوس رهيب جثم على صدورهم اكثر من ربع قرن. والكل يتذكر ذلك الرجل الذي مسك صورة صدام صباح ذلك اليوم وهو يضربها (بالنعال) ويخاطب العالم بانفعال : ياناس ياعالم هذا مجرم دمّر العراق وقتل العراقيين.. وأوصل رسالة عفوية – للعرب بشكل خاص –أنهم لم يفهموا بشاعة ما جرى للعراقيين على يديه.

والدرس البليغ هنا هو أن الدكتاتور أو الطاغية أو الحاكم الذي يكرهه شعبه، اذا أطيح به من قبل قوة خارجية ولم يطح به أهله، فان الناس يفتقدون " البطل " الوطني الذي تطمئن اليه قلوبهم ويمنحهم الشعور بالأمان، فيما يتملكهم الشعور بالخوف وتزايد القلق بعد صحوتهم من فرحة الخلاص من جلادّهم التي جادت بها عليهم القوة الأجنبية، فيتفرقون ويصيرون أمام واقع نفسي جديد، نصوغه بقانون اجتماعي، هو:

(إن الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد، الذي ينهار فيه انتماؤه الذي يوحّده طوعا "أو قسرا" يؤدي الى أن تتصارع جماعاتها فيما بينها على السلطة، حين لم يعد هناك دولة أو نظام).

وكان اقوى هذه الولاءات وأخطرها هو الولاء للطائفة والقومية. فالشيعة والكرد كانوا مدفوعين (بسيكولوجيا المظلومية)، فيما اراد السنّة استعادة الدولة التي كانت بيدهم، مدفوعين (بسكولوجيا الضحية). ليتحقق قانون اجتماعي سياسي هو الصراع بين (المظلومية والضحية)، كانت حصيلته عشرات الآف الضحايا الأبرياء.. بينهم من قتل لسبب بمنتهى السخافة.. لأن اسمه (حيدر او عمر او رزكار!).

التحول السيء.. يؤدي الى تحول أسوأ

وما حصل بعد 9 نيسان 2003 يقدم للشعوب درسا ان الدولة الأقوى التي تحشد حلفاءها معها بدعوى الأطاحة بطاغية يشكل خطرا على العالم، وتحرير شعب من نظام دكتاتوري الى نظام ديمقراطي، فانه في حقيقته محتل يهمه تحقيق مصالحه حتى اذا تطلب ذلك تخريب الوطن باحدث الأسلحة واشدها فتكا وقتل عشرات الألاف من ابنائه.. وانه يأتي بحكّام يطيعونه وينفذون أوامره، وان الذين يتعاونون معه هم من الذين تهمهم مصالحهم ولا تعنيهم مصلحة الوطن او الشعب، وأن هذا الحال يوصل من يكون الحكم بأيديهم الى الأستفراد بالسلطة والثروة، وان هذا الأستفراد يؤدي الى الفساد.. ليثبت حقيقة ان التحول السيء يؤدي الى تحول أسوأ، تمثل في ان العراق انتقل الى المراتب الاولى بين الدول الفاسدة في العالم.

فوفقا لتقرير المؤشر الدولي للفساد لمنظمة الشفافية الدولية العالمية 2005 جاء العراق بالمرتبة 137 عالميا والأسوأ في الفساد عربيا، وتقدم الى المرتبة 160 ليحتل المركز الثالث عالميا في الفساد عام 2006، وتقدم في 2008 الى المرتبة 179 ليحتل المركز الثاني عالميا.. وما يزال بين الدول الأكثر فسادا في العالم لغاية الآن (2023).. وبأرقام مهولة من مليارات الدولارات المنهوبة.

وما حصل يوصلنا الى ما يشبه النظرية نصوغها بالآتي:

(اذا زاد عدد الأفراد الذين يمارسون تصرّفا يعدّ خزيا، وغضّ الآخرون الطرف عن أدانته اجتماعيا أو وجدوا له تبريرا، وتساهل القانون في محاسبة مرتكبيه.. تحول الى ظاهرة ولم يعدّ خزيا كما كان).

وفي القوانين النفسية الخاصة بتطور المجتمع.. فأن التصرف الخزي مدان لأنه يكون شاذا.. والشاذ بالمعنى الاحصائي، يعني قلّة عدد الذين يمارسون هذا التصرف في المجتمع، ويعني في المعيار الاجتماعي ان يكون متباينا نوعيا عن المعايير المقبولة. فبرغم أن السرقة في الليل كان يمارسها عدد من فقراء الريف العراقي زمن الاحتلال العثماني بسبب الفقر وقسوة السلطة وظلم الاقطاع، الا انها كانت تعدّ فعلا مشينا في المجتمع العراقي الحديث لدرجة أن الناس كانوا لا يعطون السارق زوجة. والحكم نفسه بخصوص الفساد اذ كان يعدّ، بقيام الدولة العراقية، خزيا لأن مرتكبيه قلّه ولأنه يخرج عن المعايير الاجتماعية.. ولهذا كان الناس يحتقرون من يقوم به وينبذونه. ونتيجة لهذه العقوبات الاجتماعية (احتقار الفاسد، ونبذه اجتماعيا..)، والعقوبات القانونية (السجن واسترداد المال المسروق)، فأن الفساد ظل زمنئذ حاله حال اية ظاهرة اجتماعية، لا تقربه الا قلّة تنتهك مبدأ الحلال والحرام فيما الكثرة المطلقة تعدّه خزيا.

وتعلمنا احداث 9 نيسان ان الظاهرة الاجتماعية يكون لها اكثر من سبب، وان الأسباب السابقة (الأحتلال، تعدد الأنتماءات والولاءات والهويات، الفساد.. ادت الى حصول كارثة في القيم والتقاليد العراقية في مفارقة غريبة هي ان القلّه المنبوذه التي كانت تمارس الفساد، اصبحت بعد حكومة 2006 وما بعدها.. كثرة، والكثرة التي كانت ملتزمة بمبدأ الحلال والحرام توزعت بين من احلّ نفسه من هذا الالتزام وبين من ضعف او تخلخل لديه فصار مترددا.. وبين قلّه تجاهد في الحفاظ عليه، ليثبت صحة تنظيرنا الجديد في اعلاه.

والتساؤل: لقد مضى عقدان على هذا الحال الذي لم يشهده العراق في تاريخه السياسي في مئة عام، فمتى يكون بمثل الدول التي تحكمها انظمة ديمقراطية؟

والجواب: ان التحولات السيئة اذا وصلت الى أسوأ مراحلها المتمثلة بفساد الأخلاق وتهرؤ القيم، واستطاعت السلطة افساد النفوس بالمال والجاه والقوة وجعل الناس يتوزعون بين متقلبين ومتملقين ويائسين.. فأن التغيير لن يكون بالسرعة التي يتمناها العراقيون، بل سيتطلب النزول من اسوأ التحولات الى ما دونه وقتا طويلا وفقا للقوانين الأجتماعية.. ان لم يحصل حدث خارجي يضعف او يطيح بمن كان السبب.

توثيق

في 24/6/2003 كتبنا خطابا موجها الى السيد بريمر بوصفه حاكم العراق موثق في صحف عراقية، نلتقط منه نص عبارة واحدة:

(.. وصحيح انكم غمرتم معظم العراقيين بالفرح لتخليصهم من نظام رهيب وكابوس مرعب لكنكم بدأتم تصادرون هذا الفرح منهم، وأن ما فعلتموه هو انكم اخرجتم حاكما من قصره لتدخلوا انتم فيه، وبضريبة باهضة.. فكان ان حصل لديهم انكسار نفسي من خيبة أمل نخشى عليكم ان تتحول الى قطيعة نفسية، ويغير حتى المتفائلون بكم ما طبعوه عنكم في مخيلتهم :"ما اجمل الجديد" الى "ما اقبحه").. وقد حصل!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

يعدّ السيد محمد باقر الصدر (1935 - 1980) أول مفكر وفقيه إسلامي شيعي يعمل على وضع قواعد لتقنين أحكام الفقه السياسي الإسلامي، وتحويلها إلى أسس دستور دولة إسلامية في عصر غيبة الإمام المهدي، وفق عقيدة مدرسة الإمامة. ويتم اسناد هذه العملية الى مشروع تحرك إسلامي منظم يقوم بتفعيلها. وكانت تكييفاته الفقهية العميقة ولغته القانونية الحديثة، تجعله نصاً تأسيسياً مدهشاً، لم يسبقه اليه أي فقيه شيعي، رغم أن السيد الصدر كان حينها بعمر (٢٤) عاماً فقط. وكانت تلك هي المرحلة الأولى من انتاج السيد الصدر في مجال الفقه الدستوري الإسلامي.

وقد وضع السيد الصدر هذه الأسس لتكون النظرية الفقهية الفكرية السياسية لحزب الدعوة الإسلامية الذي كان الصدر أبرز مؤسسيه العشرة في العام 1957(1)، وتتألف من (31) أساساً، نشر منها حزب الدعوة تسعة أسس فقط. وهذه الأسس هي مجموعة من القواعد والمفاهيم الإسلامية المقننة التي كُتبت بلغة هي إلى لغة القانون أقرب، وقُرنت بما يثبت شرعيتها من أدلة فقهية تفصيلية مشروعة. وتأتي أهمية هذه الأسس من ناحية فقهية، وكذلك من ناحية قانونية من أنها أول مجموعة أصول للدستور الإسلامي، إذ لم يعهد - قبلها - أن وضعت أصول للدستور الإسلامي؛ ذلك أن الدول الإسلامية المتعاقبة على مديات التاريخ الإسلامي لم يدوّن فيها دستور إسلامي، فضلاً عن وضع أسس له وتدوينها، فلم نعثر في الوثائق السياسية التي وصلت إلينا منذ عهد دولة الخلفاء الراشدين في المدينة المنورة حتى نهاية الخلافة العثمانية باستانبول على أعمال فكرية متكاملة تمثل الأصول للدستور الإسلامي(2) .

وهذه الأسس هي قواعد وأصول نظرية حزب الدعوة للدولة الإسلامية التي يهدف إلى إقامتها؛ فالدعوة كما يقول المفكر السعودي الدكتور عبد الهادي الفضلي، وهو أحد مفكري حزب الدعوة الإسلامية خلال ستينات وسبعينات القرن الميلادي الماضي: ((كان أهم هدف لها - آنذاك - هو إقامة الحكم الإسلامي في العراق، والحكم لابد له من دستور، وأنظمة تنبثق عن الدستور. ومن الطبيعي أن الدستور الإسلامي يتطلب وضع أصول تعتمد في وضعه، ويستند إليها المقننون له حال وضعه، فكان لابد من البدء بها أولا ثم يأتي دور وضع الدستور. فالدعوة - في ضوء ما أشرت إليه - كانت بحاجة إلى الدستور، وكان هذا يقتضي أن يسبق بوضع الأسس له))(3).

ويدافع الدكتور عبد الهادي الفضلي، ، عن خيار الدستور الإسلامي، ويؤكد ضرورة التأسيس لعلم أصول الدستور الإسلامي، ويقصد به القانون الدستوري الإسلامي؛ إذ يقول: «وحيث لم يكن هناك لدى المسلمين التفكير في تدوين دستور إسلامي للدولة الإسلامية القائمة خلال المدة الممتدة من القرن الأول الإسلامي وحتى عصرنا هذا للأسباب التي أشرت إليها، لم يكن لدينا ما يماثل أصول القانون. أما الآن وقد وضع أكثر من دستور إسلامي لأكثر من دولة إسلامية... أصبحت الحاجة ماسة لوضع علم لأصول الدستور الإسلامي تكون هذه الأسس الإسلامية مركزه ومحوره الذي تدور حوله وتنطلق منه، ليأخذ هذا العلم مكانة ومكانته في مجالات وحقول الدراسات القانونية))(4).

وقد وضع السيد محمد باقر الصدر هذه الأصول لتكون قمة هرم المنظومة التي نظّر وأصّل لها؛ فهي تسبق نشاة الدستور نفسه، وتعرف بـ « قبليات الدستور». أما الدستور فيمثل إطار منظومات القوانين التفصيلية للدولة. وبرغم أهمية هذه الأصول والقواعد بصفتها التأسيسية التي تشكل منعطفاً في مسيرة الفقه السياسي الإسلامي الشيعي، وقِدمها الذي يعود إلى العام 1959؛ إلّا أنها لم تحظ بالأهمية التي حظيت بها المحاولات التي سبقتها أو أعقبتها لمفكرين وفقهاء شيعة وسنة. والسبب يعود إلى أن هذه الأسس ظلت حبيسة النشرات الداخلية لحزب الدعوة الإسلامية، الذي عاش سرية في فكره الخاص وتنظيماته حتى العام 1979(5). ولم تخرج هذه الأسس إلى العلن إلّا في العام 1974، وبشكل محدود في كتاب «مقالات إسلامية» الذي طبعه الحزب في لبنان، وهو كتاب يحتوي على عدد من النشرات الفكرية الداخلية لحزب الدعوة الإسلامية، وقد كتبت بأقلام عدد من مفكري الحزب ومنظرية. وبالتالي؛ لم تحمل تلك الأصول والقواعد اسم السيد محمد باقر الصدر، ولكنها نشرت باسمه في العام 1981 في الجزء الأول من مجموعة «ثقافة حزب الدعوة الإسلامية»(6).

وقد استند السيد محمد باقر الصدر في الأسس النظرية الدستورية المذكورة الى مبدأ شورى المؤمنين في قيادة حزب الدعوة للعمل الإسلامي ومشروع الدولة الإسلامية؛ بناء على ما كان يعتقده من دلالة آية ((وأمرهم شورى بينهم))(7) على الشورى في الحكم وفي إدارة الدولة الإسلامية.

وقد عدل السيد الصدر عن رأيه الفقهي المبني على مبدأ الشورى ودلالة آية الشورى على قيادة الدولة الإسلامية فيما بعد، وتوصل في العام 1979 إلى رأيه الفقهي النهائي الذي بيّنه في أطروحة دستورية تجديدية رائدة؛ جمع فيها بين مبدأ شورى نواب الأمة وولاية الفقيه على الحكم، والتي تتلخص في كون الأمة تمثل خط خلافة الله على الأرض، وإن الفقيه (الولي الحصري في عصر الغيبة) يمثل خط الشهادة على الأمة، وحين تنتخب الأمةُ الفقيهَ لولايتها ورئاسة الدولة؛ ينتج عنه لقاء بين خط الخلافة وخط الشهادة، وبه تتجسد شرعية الدولة الإسلامية ومشروعية سلطتها. وقد حملت أطروحته هذه عنوان: «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية». وفصّلها في دراسة أخرى حملت عنوان: «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء»(8).

وقد قدّم السيد محمد باقر الصدر هذه الأطروحة إلى الإمام الخميني في خضم النقاش الذي كان حامياً في إيران وكثير من البلدان الإسلامية حول مسودة دستور الجمهورية الإسلامية. فجاءت أطروحة السيد الصدر داعماً أساسياً لنظرية الإمام الخميني بشأن الدستور الإسلامي وقبلياته وأصوله، وفي تثبيت مبدإ ولاية الفقيه في الدستور؛ إذ أصّل الصدر في أطروحته لأهمية الدستور وموقعه في النظام القانوني للدولة الإسلامية، ودور الولي الفقيه الذي تختاره الأمة في قيادة الدولة ونظامها السياسي، وموقع الشريعة الإسلامية في عملية وضع المنظومات القانونية للدولة.

وفي المقدمة النظرية التأسيسية للدستور، ربط السيد الصدر بين إرادة الشعب الإيراني في اختيار الإسلام وتحكيم شريعته، وبين نوعية الدستور الذي ينبغي أن تنشأه هذه الإرادة. أي أن الدستور الإسلامي ينبغي أن يمثل خيار الشعب عن وعي وقناعة وانتماء، ولايفرض عليه فرضاً من أية سلطة. وهو ماتحقق بالفعل خلال مرحلتين:

الأولى: هي التي صوّت فيها الشعب الإيراني على خيار «الجمهورية الإسلامية» في الإستفتاء العام.

الثانية: حين صّوت الشعب الإيراني على الدستور نفسه بعد أن أقرّه مجلس الخبراء، واشترك الشعب لأكثر من ستة أشهر في مناقشة مواده.

ولذلك يقول السيد الصدر: ((يؤمن الشعب الإيراني العظيم إيماناً مطلقاً بالإسلام بوصفه الشريعة التي يجب أن تقام على أساسها الحياة، وبالمرجعية المجاهدة بوصفها الزعامة الرشيدة التي قادت هذا الشعب. وعلى أساس هذا الإيمان يقرر الأمور التالية:

1- إن الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً. ومادام الله تعالى هو مصدر السلطات وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن الله تعالى، فمن الطبيعي أن تحدد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلامية.

2- إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، بمعنى أنها هي المصدر الذي يستمد منه الدستور وتشرع على ضوئه القوانين في الجمهورية الإسلامية، وذلك على النحو التالي:

أ‌- إن أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق تعتبر بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية جزءاً ثابتاً في الدستور؛ سواء نص عليه صريحاً في وثيقة الدستور أو لا.

ب‌- إن أي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد، يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظل اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكولاً إلى السلطة التشريعية التي تمارسها الأمة على ضوء المصلحة العامة.

ت‌- في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو ايجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة أن تسن من القوانين ما تراه صالحاً، على أن لا يتعارض مع الدستور.

3- إن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارساتها إلى الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور.

4- إن المرجعية الرشيدة هي المعبر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام من الناحية الشرعية، وعلى هذا الأساس يتولى ما يلي:

أ‌- إن المرجع هو المثل الأعلى للدولة والقائد الأعلى للجيش.

ب‌- المرجع هو الذي يرشح أو يمضي ترشيح الفرد أو الأفراد الذين يتقدمون للفوز بمنصب رئاسة السلطة التنفيذية. ويعتبر الترشيح من المرجع تأكيداً على انسجام تولي المرشح للرئاسة مع الدستور، وتوكيلاً له على تقدير فوزه في الانتخاب، لاسباغ مزيد من القدسية والشرعية عليه كحاكم.

ت‌- على المرجعية تعيين الموقف الدستوري للشريعة الإسلامية.

ث‌- عليها البت في دستورية القوانين التي يعينها مجلس أهل الحل والعقد لملء منطقة الفراغ.

وفي حالة تعدد المرجعيات المتكافئة من ناحية هذه الشروط، يعود إلى الأمة أمر التعيين من خلال استفتاء شعبي عام))(9).

وقد وردت أغلب أفكار السيد الصدر في الدستور الإسلامي الإيراني؛ بعد أن اعتمدها مجلس خبراء الدستور باعتبارها أحد مصادره الأساسية في بناء الهيكل العام لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ إذ يقول الباحث الأمريكي «هراير دكمجيان» بأن آية الله الصدر يعد ((أحد الآباء الفكريين لدستور الجمهورية الإسلامية، وأن آراءه الفكرية والسياسية عملت بشدة على تقوية موقع آية الله الخميني فيما يتعلق بمنصبه كفقيه للحكومة الإسلامية))(10).

إن الفرق الأساس بين النظريتين الفقهيتين الدستوريين للسيد محمد باقر الصدر، التأسيسية في العام ١٩٥٩ ( دولة حزب الدعوة) والتأصيلية في العام ١٩٧٩ (دولة الإمام الخميني)، هو أن الأولى كانت تنسجم مع النسق التنظيري السائد في الفكر السياسي الإسلامي، والذي يؤسس لدولة إسلامية تقع خارج محددات القانون الدولي والقانون الدستوري وحدود الجغرافيا الوطنية والقواعد الفقهية المذهبية، بوصفها دولة عقائدية عامة. بينما تؤسس النظرية الثانية لدولة ذات حدود جغرافية وكيان وطني، وخاضعة شكلاً ومضموناً لضوابط القانون الدستوري الحديث وأحكام القانون الدولي وقواعد الفقه المذهبي، وإن كانت دولة عقائدية في جوهرها. أي أن السيد الصدر كان في النص الأول يؤسس لدولة إسلامية نظرية، والثاني لدولة واقعية تستند الى قواعد الفقه السياسي المذهبي. ولذلك؛ لم تكن التكييفات الفقهية والقانونية واللغة التخصصية في النظرية الثانية؛ أكثر نضوجاً وعمقاً من النظرية الأولى وحسب؛ بل كانت تعبر عن تطور نوعي في وعي الزمن ومتغيراته ومتطلباته، وخبرة تراكمية في فهم المتطلبات القانونية الوضعية للدولة الإسلامية العصرية، بما في ذلك الجانب المتعلق بالضبط المذهبي لأسس الدولة وحركتها.

كما لم يتفوق السيد الصدر في النظرية الثانية على نفسه وحسب؛ بل تفوق كثيراً ـــ في العمق الفقهي والإبداع الفكري التأسيسي والجمع بين لغتي الفقه والقانون ـــ على رؤية الميرزا النائيني في الحكم الدستوري (التنزيه والتنبيه)، ونص الدستور الإسلامي للمودودي ورؤية حسن البنا الدستورية في رسالته الى المؤتمر السادس ودستور الإخوان، ودستور مشيخة الأزهر في العام ١٩٧٧، ورؤية النبهاني في الحكم الإسلامي(11).

وبمقارنة سريعة بين رؤية النائيني التوفيقية ونظرية الصدر التأصيلية، سنقف على البون الشاسع بين النصين على كل المستويات، ولاسيما على مستوى التأصيل الفقهي؛ إذ أن رؤية النائيني التوفيقية ولغتها أقرب الى المعالجة الفكرية السياسية لواقع إشكالي خلقته أفكار فقهاء (المشروعة) وسلوكهم السياسي، وفي مقدمهم الشيخ فضل الله النوري، في مقابل فقهاء (المشروطة) وسلوكهم السياسي، وفي مقدمهم السيد عبد الله البهبهاني الغريفي، فضلاً عن وجود دولة شاهنشاهية ثيوقراطية متجذرة؛ فقد حاول النائيني من خلال بحثه التوفيق بين الإرث الإيراني التقليدي المتمثل بالحكم الملكي الأبوي الوراثي وسيادة الشاه من جهة، ومطاليب ثورة المشروطة في إعطاء دور للشعب في اختيار نوابه لمشاركة الملك في التشريع وفي اختيار السلطة التنفيذية من جهة أخرى(12). أما شرعية الملك فهي ذاتية، من منطلق كونها أمراً واقعاً، وهو ما حصل بالفعل؛ إذ بقي الشاه القاجاري ثم الشاه رضا والشاه محمد رضا بهلوي يستندون في شرعية ملكهم وحكمهم حتى العام 1979 الى دستور المشروطة الذي نظّر له الميرزا النائيني، وهو يتشبّه بالفكر السياسي الذي سبق أن طرحه الشيخ عبد الرحمن الكواكبي والسيد جمال الدين الأفغاني (الأسدآبادي) وآخرين لمواجهة استبداد الدولة العثمانية. وبالتالي؛ تمخضت المعالجات الفكرية السياسية الإسلامية الانفعالية التي حصرت مهمتها في مواجهة الاستبداد السلطاني والحكم المطلق، دون أن تؤصل للحكم الإسلامي أو الدولة الإسلامية؛ تمخضت عن نظام ملكي وراثي استبدادي علماني جديد أسسه رضا خان في ايران، ونظام جمهوري دكتاتوري عسكري علماني أسسه كمال اتاتورك في تركيا.

وبالتالي؛ فإن المعالجات التوفيقية الانفعالية تختلف جذرياً عن النظريتين العميقتين للسيد محمد باقر الصدر؛ التأسيسية في العام 1959 والتأصيلية في العام 1979، فوفق النظرية الأولى كان السيد الصدر أول فقيه شيعي ينظِّر لشرعية إقامة دولة إسلامية في عصر الغيبة، ويؤسس لقواعدها العقدية والفقهية، وهي النظرية التي قام عليها حزب الدعوة الإسلامية. والتي مهدت للفقهاء الآخرين تناول موضوع الدولة الإسلامية من مداخل أخرى، أبرزها مدخل ولاية الفقيه. أما نظرية السيد الصدر الثانية؛ فقد مثلت جهداً فكرياً وفقهياً أساسياً أثمر عن دستور يؤسس لأول دولة إسلامية متكاملة الأركان الشرعية في عصر الغيبة بقيادة الإمام الخميني.

وقد ظلت نظرية حزب الدعوة الإسلامية في موضوع الدستور تتطابق مع النظرية الأولى لمؤسسه السيد محمد باقر الصدر، ثم أجرى عليها تعديلاً جوهرياً بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية؛ يتطابق مع النص الثاني للسيد الصدر؛ إذ تبنى الحزب نظرية الصدر التي لخّصها في دراسته عن «دستور الجمهورية الإسلامية» ودراسة «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء». ويذهب حزب الدعوة في إحدى نشراته الفكرية الصادرة في العام 1980 إلى أن ما يقصده بالدستور الإسلامي ))يشمل ما يلي:

أولاً: التصورات والقوانين العامة التي تشخص الإطار العام للقوانين الحاكمة في الدولة الإسلامية، والتي لها قابلية الثبات؛ أما إلى الأبد؛ على أساس أنها من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية، أو إلى أمد معتد به؛ على ضوء الظروف المنظورة، على أساس أنها وإن كانت من منطقة الفراغ التي تملأ وفق الظروف؛ ولكن لوحظت في ملئها ظروف طويلة.

ثانياً: المقررات الهامة الثابتة؛ حتى لو أنها لم تكن تعين الإطار العام؛ كلون العلم وأمثال ذلك.

كما نصطلح بالقانون على كل ما يوضع من قوانين لاتمتلك الصفة الدستورية الآنفة. وكل مادة من مواد الدستور أو القانون لايمكن الإستغناء في تحديدها عن آراء الفقهاء؛ يجب أن توضع من قبل الفقيه))(13(.

بيد أن هذه النظرية وسابقتها؛ تلاشتا واقعياً بمجرد دخول حزب الدعوة العملية السياسية في العراق الجديد بعد العام ٢٠٠٣؛ إذ لم يعد متصوراً تمسك الحزب بنظريته الدستورية الأولى المتمثلة بتأسيس دولة إسلامية عامة على أساس مبدأ الشورى في حكمها وقيادتها، ولانظريته الثانية القائمة على الجمع بين ولاية الفقيه وحكم الأمة؛ لأنه وجد نفسه - دون سابق تنظير - في خضم عملية سياسية قائمة على التحاصص المذهبي والقومي والفكري، وما نجم عنها من نظام ديمقراطي توازني ودستور تعددي؛ كان لابد للحزب من العودة الى فكر مؤسسه وفقهه السياسي لتكييف أو استلهام نظرية فقهية ثالثة تنسجم مع متطلبات الزمان والمكان وتستجيب للتغييرات التي طرأت على موضوع النظريتين السابقين، وهي التغييرات التي تستدعي إيجاد نظرية ثالثة.

وإذا كان التنظير المعاصر للفقه الدستوري الإسلامي، وفي المقدمة تنظيرات الفقهاء السيد محمد باقر الصدر والشيخ مرتضى المطهري والسيد محمد حسين البهشتي والشيخ حسين علي المنتظري والشيخ عميد زنجاني؛ قد نجح في التأسيس لدولة إسلامية حديثة ونظام سياسي عصري، صهرا في جوهرهما وشكلهما مباديء العقائدية والفقاهة من جهة، وقواعد المدنية والوطنية والشعبية في تمسكها بالقانون الدستوري والقانون الدولي والأعراف الديمقراطية من جهة أخرى؛ فإن الواقع التعددي المذهبي والظرف السياسي اللذين تعيشهما البلدان الإسلامية الأخرى، كالعراق ولبنان؛ يستدعي تكييفات اجتهادية لفقه دستوري اسلامي آخر، ينطوي على استيعاب للتعددية المذهبية والفكرية والظروف السياسية والاجتماعية، بهدف انتاج دستور توفيقي علماني إسلامي، رصين، ويحظى بحد مناسب من المقبولية الشرعية، لكي يتيح للجماعات الإسلامية (شرعنة) اشتراكها في حكم الدولة والنظام التعددين اللذين يفرزهما ذلك الدستور، ولايكون اشتراكها مجرد ممارسة سياسية وسباق من أجل السلطة، ككل الجماعات السياسية الأخرى؛ على اعتبار أن ماهية السياسة وممارستها وتعريف السلطة وعناوينها؛ تختلف اختلافاً جوهرياً بين الإسلاميين والعلمانيين؛ وإن اشتركا في شكل الممارسة والعناوين.

***

د. علي المؤمن

.......................

الإحالات

(1) المؤمن، علي، «جدليات الدعوة: حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الاجتماع الديني والسياسي»، مركز دراسات المشرق العربي، بيروت، 2017، ص87.

(2) الفضلي، د. عبد الهادي، «هكذا قرأتهم»، ج2 ص216.

(3) المصدر السابق، ص218.

(4) المصدر السابق، ص 224.

(5) المؤمن، علي، «سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق»، ط4، مركز دراسات المشرق العربي، بيروت، 2017، ص289.

(6) صدر كتاب ثقافة الدعوة الإسلامية في أربعة مجلدات في العام 1981، وهو يختص بفكر الدعوة في الفترة من 1957 وحتى 1980، كما صدرت طبعات متنوعة منه في عقد الثمانينات من القرن الماضي. أما الطبعة الحديثة المحققة؛ فقد صدرت في أربعة مجلدات أيضاً، عن مؤسسة الهدى في العراق في العام 2015.

(7) سورة الشورى، الآية 38.

(8) الصدر، السيد محمد باقر، «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية»، من كتاب «الإسلام يقود الحياة»، ص11.

(9) وهما جزء من كتاب «الإسلام يقود الحياة».

(10) انظر: دكمجيان، هراير، «الأصوليات الإسلامية في العالم العربي»، ترجمة: عبدالله الواحد سعيد، دار الوفاء، المنصورة، 1989، ص146 - 148.

(11) أنظر: د. علي المؤمن، الفقه والدستور: التقنين الدستوري الوضعي للفقه السياسي الإسلامي، ص 143- 169.

(12) المصدر السابق، ص 154.

(13) صوت الدعوة (النشرة الفكرية الداخلية لحزب الدعوة الإسلامية)، العدد 32، شوال 1400 (آب 1980).

 

ظاهرة التحزّب في البلاد العربيّة قديمة، ليست وليدة فترة الاستقلال الوطني. فقد ظهرت في القرن الاول الهجري، اُثناء الصراع على الخلافة بعد اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفّان سنة 35 هـ الموافق لـ 656 م. فكان ميلاد التحزب في الإسلام في خضم فتنة كبرى، أدت إلى مقتل الخليفة، واختلاف شديد بين المسلمين حول خليفته الشرعي، أيكون الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه، أم الصحابي معاويّة بن أبي سفيان؟

واحتدم الصراع بين الطرفين، وانقسم المسلمون إلى طائفتين؛ طائفة تؤيّد وتساند وتدافع عن أحقيّة الإمام علي كرم الله وجهه، القرشي، الذي أسلم في صباه وتربّى في حجر النيّ محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، ولأنّه من آل البيت، وطائفة تؤيّد داهية العرب معاوية بن أبي سفيان، الذي اسلم عام فتح مكة.

و فشا الخلاف بين المسلمين حول الخلافة، وفشل تطبيق مبدأ الشورى فيما بينهم، حقنا للدماء، وصونا لوحدة الأمّة الإسلاميّة، ونجم عن ذلك كلّه، ظهور أحزاب أخرى كالخوارج وأنصار عبد الله بن الزبير، ليفضي ذلك كلّه إلى حروب طاحنة في الجزيرة العربيّة والعراق، وتأكل نارها الأخضر واليابس، ويُقتل الأمام علي كرم الله وجهه ومن بعده أبناؤه، أحفاد النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعدد من أنصاره على أيدي الطوائف الضالة.

لقد كانت الفتنة الكبرى وبالا على المسلمين، نتج عنها ما تعانيه اليوم من صراع سنّي / شيعيّ، وصراع مذهبيّ وطائفيّ بين المسلمين، وكأن الحرب ما زالت في بدايتها، وفي أوجّ أُوارها.

وانتقل الصراع الحزبي بين المسلمين من مربّعات السياسة إلى المربّعات الثقافيّة والشعريّة، ليقوم مجموعة من الشعراء في العصرين الأموي والعباسي بتأجيج الصراع حول أحقيّة الخلافة الإسلاميّة. فظهر شعر النقائض (جرير، الفرزدق، الأخطل)، في عصر بني أميّة ليوسّع الشرخ بين المسلمين، ويحيي مشاعر الشعوبيّة ومظاهر الجاهليّة. وانقسم الشعراء بين الأحزاب السياسيّة المتناحرة، ليؤدوا دور الإعلام السياسي والإشهار والموالاة والنصرة والدفاع عن أوليائهم حبّا ونصرة أو طمعا في العطيّات ورغبة في التكسّب. من أمثال: الكميت بن زيد وقطري بن الفجاءة. كما اتّخذ الشعراء مواقف، فمنهم من كان مؤيّدا لبني أميّة، ظاهرا، ومتعلّقا بعلي باطنا، ومن أشهرهم: النعمان بن بشير الأنصاري، وابن مفرغ من حمير، وأبو الأسود الدؤلي. ومنهم من كان في صف المعارضين لهم، ومن أنصار الإمام علي كرم الله وجهه، وأشهرهم: وابن أرطأة المحاربي، الذي كان سيد قومه، والحارث بن بدر من يربوع، والمتوكل الليثي من كنانة، والوليد بن عقبة من قريش.

وهكذا، لم تكتف تلك الأحزاب السياسيّة بزرع الفتن بين الدهماء وعامة الناس، الذين كانوا يميلون مع كل ريح، بل امتدّت أياديها إلى الشعراء والمثقفين، وانتقل الصراع الحزبي حول الخلافة إلى الخوض في مسائل العقيدة والشرائع. وتبوأت الأفكار التكفيريّة منابر الجدل، وتجاوزت حدود الحكمة والموعظة الحسنة، إلى شحذ السيوف وإعمالها في رقاب الناس، وإراقة الدماء، بعدما كانت الامّة الإسلامية، في فجر الإسلام وصدره، أمّة واحدة، بل خير أمّة أخرجت للناس.

وفي العصر الحديث، سار المسلمون على ديدن الغرب، فأنشأوا أحزابا سياسيّة ؛ وطنيّة وشيوعيّة وإسلامية للدفاع عن أوطانهم وتحريرها من المحتل الأجنبي. فكانت تلك الأحزاب فأل خير على المسلمين، وأرعبت الغزاة والمحتلين الأجانب، وزلزلت من تحت أقدامهم الأرض. لأنّها كان تضم في صفوفها قادة حكماء ومثقفين ومؤمنين بالقضيّة الوطنيّة، كما كان أتباعها مخلصين في الولاء لله والوطن، وكان مطلبهم الأول، إمّا الحريّة أو الاستشهاد في سبيل الله. وانتشرت ظاهرة التحزب (الظاهرة الحزبيّة) في المشرق والمغرب الإسلاميين في النصف الأول من القرن العشرين.كحزب نجم شمال إفريقيا في الجزائر والحزب الدستوري في تونس وحزب الشعب في الأردن، وحزب الوفد في مصر وحزب البعث في سوريا والعراق وغيرها من الأحزاب، التي كانت سليلة التجارب الديمقراطيّة والتعددية الحزبيّة.

الأحزاب العربيّة، وليدة الحريّة والديمقراطيّة وصنيعة الفوضى وصانعتها. إنّ حداثة التجربة الديمقراطيّة في البلاد العربيّة، لدى الأنظمة الجمهوريّة والأنظمة الملكيّة والأميريّة، وضعف مستوى التعليم والوعي الوطني، والثقافة السياسية، كل ذلك وغيره، نجم عنه ميلاد أحزاب سياسيّة ذات صبغة إيديولوجيّة وقبليّة وطائفيّة، لم تقدّم للمجتمع شيئا يذكر. بل إن تعدّد الأحزاب في البلد الواحد، أدى إلى تقسيم مكوّنات المجتمع، وطفو النزاعات الإثنيّة على السطح، كما اندلعت جراء ذلك حروب أهليّة طاحنة، ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، المنتمين حزبيا وغير المنتمين.

إنّ بلدا مثل الجزائر، عاشت فترة زاهرة قبل 1989 م، تحت ظل حزب جبهة التحرير الوطني، (الأفلان) أي قبل فتح أبواب التعدّدية الحزبيّة، تحت شعار الإصلاح السياسي، ولمّا ظهرت طائفة من الأحزاب، منتحلة العباءة الديمقراطيّة أو الشيوعيّة او الدينيّة (الإسلاميّة)، غرقت في دماء حرب أهليّة، إرهابيّة داميّة طوال عشر سنوات (العشريّة السوداء أو الحمراء). لقد ظهرت الأحزاب السياسيّة في الجزائر كالفطريّات، وكانت تغيب في سبات، ولا تستيقظ منه إلاّ عند المواعيد الانتخابيّة المحليّة والوطنيّة، من أجل كسب مقعد أو بضع مقاعد في المجالس السياسيّة المختلفة. كان عدد الأحزاب في الجزائر، غداة فتح أبواب التعدّدية الحزبيّة يربو على 50 حزبا سياسيا (أكثر من 53 حزبا) بمختلف الألوان السياسيّة والتوجّهات الإيديولوجيّة.

ولم تقدّم هذه الأحزاب للجزائر شيئا يذكر، بل كانت عاملا من عوامل (الفوضى الخلاّقة)، وسببا مباشرا في زعزعة السلم الاجتماعي، وانقسام الشعب الجزائري إلى مجموعات متعصّبة ومتصارعة على المناصب والريّع. وكلّ حزب بما لديه فرح. فالإسلاميون يكفّرون معارضيهم، والشيوعيّون العلمانيّون يتهمون الإسلاميين بالظلاميّة والأصوليّة والإرهاب الفكري والديني، والوطنيّون لا يجدون لهم مكانا بين التيارين المتصارعين. في الوقت الذي كانت البلاد العربيّة في غنى عن الظاهرة الحزبيّة المفلسة.

وكان لبنان ضحيّة التعدديّة الحزبيّة المبنيّة على الطائفيّة والثيوقراطيّة في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم. فلا يعقل، في بلد كلبنان - بمساحته التربيّة وعدد سكانه – أن يحتمل العدد الهائل من الأحزاب السياسيّة بمختلف توجهاتها الإيديولوجيّة. أكثر من أربعين حزبا وحركة (في حدود 45 حزبا وحركة). بينما أمريكا يتداول على حكمها حزبان سياسيان فقط؛ جمهوري وديمقراطي). لا بد أنّ هناك علاقة وطيدة بين التعليم والسياسة والديمقراطيّة، فكلّما ارتفعت نسب التعليم فير الغرب تقلّص عدد الأحزاب السياسيّة، أما لبنان فهو ظاهرة مختلفة وخاصة، لا شبيه لها في البلدان العربيّة الأخرى.

وما يقال عن الجزائر ولبنان، يقال عن بلاد الشام والعراق ومصر والسودان. لقد كانت التعدديّة الحزبيّة طالع سوء، وفأل نحس على الشعوب العربيّة.

التعليم قبل التحزّب: هل تصلح الأحزاب السياسيّة في المجتمعات المتخلّفة، التي تعاني من نقص فادح في التعليم العام والتقني والوعي ؟ إنّ الممارسة السياسيّة تنبني على مقدار التعليم ومستواه ونوعيّته الذي يحوزه الفرد وتتمتّع به الجماعة. لا بد من تقديم العمليّة التعليميّة، كي يتعلّم الفرد أبجديات ممارسة حريّته الفرديّة، في إطارها الفطري ومداها الإنساني، واحترام حريّة الآخر ضمن منظومة الحقوق الفرديّة والمشتركة. فإذا أدرك الفرد قسطا أو أقساطا من التعليم، اكتسب ملكة الوعي والمسؤوليّة الفرديّة والجماعيّة. إنّ ما يحيّر – فعلا – هو لجوء المجتمعات، ذات النسب العاليّة من الأميّة إلى ممارسة العمليّة الانتخابيّة في إطارها الحزبي. وكلنا يدرك، أن مصطلح (الانتخاب) مصدر على وزن (الافتعال) مشتق من الفعل نخب، ومضارعه ينتخب، ومنه اشتقت النُخب والمنتخب. ومعناه الشائع الاختيار. ولا يحدث هذا الأخير، إلاّ بوجود العقل والحريّة والقدرة على التمييز بين الأضداد والمتشابهات، لا يمارس هذه الأفعال إلا من كان يملك أدوات العلم والثقافة. وهذا الذي ينعدم تماما عند الأميين من عامة المجتمع. والنتيجة، إنّ ممارسة عمليّة الانتخاب الحزبي والسياسي، سلوك مزيّف وباطل وخادع ومشوّه للعمليّة السياسيّة والممارسة الحزبيّة. لقد رأيت كثيرا من العامة يقصدون مكاتب الانتخاب أو الاقتراع، من أجل اختيار مرشّح حزبي او حرّ لتقلّد منصب أعلى أو أدنى في هرم السلطة، وهم يجهلون (بالمعنى الحقيقي) برنامج مرّشحهم الحزبي، لأنهم يفتقدون أبجديات القراءة والكتابة، فهم (أميّون) لا يفرّقون بين الألف والعصا. وبالتالي هم عرضة للاستغلال المجاني والتوجيه الاستغلالي من طرف ذوي المصالح الضيّقة، أو من ذوي الانتماءات العشائريّة أو الجهويّة أو القبليّة أو الثيوقراطيّة...

فالحزبيّة، بهذا الشكل، لا تساهم في بناء المجتمع على أسس علميّة وموضوعيّة ونوعيّة، بل تهدف إلى تغليب فئة على أخرى، معتمدة على الكمّ بدل النوع. مجتمعاتنا العربية في حاجة ماسة إلى التعليم المفيد قبل الممارسة السياسية، أي قبل عمليات الانتخاب. وقد أمر الله تعالى نبيّه والناس بطلب العلم، قبل شعائر العبادات. في قوله تعالى في سورة العلق: "اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم "

قد تبدو للمواطن الساذج و(المخدوع) أنّ التعدديّة الحزبيّة شكل من أشكال ممارسة الديمقراطيّة، وهذه رؤية خادعة ومزيّفة. فقد سئل أحد العامة: ما الديمقراطيّة في نظرك؟ فكان جوابه: أن نقول ما نشاء، ونفعل ما نشاء، دون خوف. وهذه الإجابة الصادرة، عن مواطن من الدهماء، تعبّر عن الفجوة الموجودة بين النظريّة والتطبيق في الممارسة الديمقراطيّة، كما يفهما العامة في المجتمع الأميّ.

كثرة الأحزاب في أيّ مجتمع، دليل على طغيان العاطفة على العقل. هناك شعور عام لدى المواطنين، في الجنوب خاصة، أنّ الديمقراطيّة الغربيّة تمنحهم حريّة التعبير وتأسيس الأحزاب السياسيّة الليبيراليّة، والملاحظ، أنّ الشعور العام، يكاد أن يكون فطريّا في البلاد التي خضعت للاحتلال الأجنبي أطول فترة من الزمن. وهو شعور يعبّر عن ردّة فعل شرطي منعكس، عن مشاعر الحرمان والفقر والقهر، التي مارسها المحتل الأجنبي أو المستبّد المحلّي. إنّ خدمة المجتمع، لا تكون بالضرورة تحت إمرة حزب سياسيّ ذا شعبيّة واسعة أو مجهريّ أرنبيّ لا تتعدّى شعبيته مجتمع (الدوار) أو (الدشرة). خدمة المجتمع سلوك يومي يلتزم فيه الفرد بأضعف الإيمان، بإماطة الأذى عن الطريق، وإنكار المنكر بقلبه، إذا عجز عن تغييره بيده أو بلسانه. سلوك يوميّ مستمر ؛ يؤدي به واجباته مقابل حقوقه، لا يستهين بصغائر الأمور، كي لا تفضي به إلى كبائرها.

أعود، وأؤكّد، إنّ الأحزاب السياسيّة في البلاد العربيّة، بعد الاستقلال، لم تقدّم شيئا للبلاد والعباد. كانت عامل صراعات جوفاء، ولم تكن عامل تنميّة اقتصادية واجتماعيّة وثقافيّة وعلميّة. كما ساهمت، عمدا أو سهوا، في تفتيت البنية الاجتماعيّة والأسريّة، وزرع الحزازات وإيقاظ الفتن النائمة. وتقسيم المجتمع العربي على أسس إثنيّة ودينيّة وقبليّة وإيديولوجيّة وقوميّة وعشائريّة وعنصريّة. كان من المفروض، ومن أولويّة الأولويات، أن تكون المعركة بعد الاستقلال، معركة تنميّة شاملة، بدءا من التنميّة العقليّة للإنسان، وتطهير عقله من التواكل والخرافة، وصولا إلى تنميّة شاملة لجميع قطاعات المجتمع. وذلك بمعالجة أزمات الأميّة والفقر والمرض وسوء التغذيّة والتبعيّة للغرب واستغلال الموارد الطبيعيّة بشكل عقلاني وانتشال المواطن العربي من عقدة الدونيّة والعجز.

أليس من العار، ونحن في القرن الواحد والعشرين، مازلنا نستورد غذاءنا من دول أقل منّا عددا وعدّة ومساحة وثروة ؟ نستورد منتجات استراتيجيّة مثل: القمح والشعير والذرة والحليب والأدوية والألبسة وأخرى كمالية، مثل مواد التجميل والشيكولاطة والشيبس والعاب الأطفال الرديئة، وغيرها. بينا أحزابنا السياسيّة غارقة في معاركها ضد بعضها البعض. لقد كان حال الجزائر في عهد الحزب الواحد، حزب جبهة التحرير الوطني (الأفلان) أفضل، بكثير بعد فتح باب التعددية الحزبيّة. كانت الجزائر، من الناحيّة الاستشراف التنموي، أفضل من كوريا الجنوبيّة والبرازيل وأسبانيا والبرتغال والأرجنتين، ناهيك عن دول أخرى في شرق آسيا. فلمّا فُتحت الساحة السياسيّة، باسم الديمقراطيّة، أجهضت القاطرة التنمويّة، ودخلت في صراع بيزنطي، حول كيفية الوصول إلى السلطة، ولا شيء غير السلطة ؛ أحزاب تدّعي الإسلام، وتسمّي نفسها به، وأحزاب ركبت موجة وطنيّة أو علمانيّة أو شيوعيّة او جهويّة، متصارعة، متنابزة بالألقاب، أفضت إلى زعزعة الوحدة الوطنيّة وتهديد أركانها. وما يحدث في البلاد العربيّة لا يختلف عن ما حدث في الجزائر، وفي ليبيا وسوريا. فقد ركبت تلك الأحزاب السياسيّة موجات، ما سميّ زورا وبهتانا بـ (الربيع العربي) – وهو في حقيقته تجسيد النظرية السياسيّة، الفوضى الخلاقة، التي ظهرت أول مرّة عام 1902 م، على يد المؤرخ الأمريكي تاير ماهان، ليتوسّع المصطلح بعد أحداث سبتمبر 2003 م على يد مايكل ليدين، ويطلق عليها تسميّة (الفوضى البناءة أو التدمير البناء)، وهي النظريّة التي بشّرت بها وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة كونداليزا رايس في شهر أفريل عام 2005 م. لبناء ما يعرف بـ (الشرق الأوسط الجديد)، بحجة نشر الديمقراطية بالعالم العربي.

و خلاصة القول، إنّ فلسفة التحزّب في البلاد العربيّة أضرّت كثيرا باللحمة الوطنيّة والقوميّة. سواء أكانت تلك الأحزاب حاكمة أو في موقع المعارضة. فالأمر سيّان. أحزاب ترافع قولا في أدبياتها عن النظام الديمقراطي والتعدّدي و(شكلا)، ولكنّها لا تمارسه فعلا. فأغلب رؤسائها وقادتها يمارسون الديكتاتورية والسلطويّة على أتباعهم، ولا يقبلون بفكرة التداول على رئاسة الحزب. وبالمقابل يتّهمون السلطة الحاكمة برفض التداول على السلطة. هناك أحزاب في المعارضة، تتغنّى بالديمقراطية، وتدعو السلطة الحاكمة، بصوت جهوري إلى وجوب التداول على الحكم، وعندما تصل إلى مبتغاها تعيد إنتاج ديكتاتوريّة اسوء من الديكتاتوريات العسكريّة.

***

بقلم الأستاذ: علي فضيل العربي – ناقد وروائي – الجزائر

 

لفت انتباهي مقال للأستاذ علي أسعد وطفة تحت عنوان: (الوليمة الطوطمية في سيكولوجية فرويد). المنشور على صفحات صحيفة المثقف الغراء بتاريخ 03 نيسان / أفريل 2023 م.

ونظرا لأهميّة الموضوع المطروق وخطورته على منظومتنا التربوية والأخلاقيّة، وددت التعقيب على ما جاء في المقال.

باديء ذي بدء، لا أحد ينكر حاجة العلوم الإنسانيّة والدقيقة إلى علم النفس بكل فروعه وتشعباته. فالمشاعر الباطنة والسلوكات الظاهرة مرآة صادقة للنفس الإنسانيّة، التي وهبها الله تعالى فجورها وتقواها. وكلّ تغيير مظهريّ للسلوك الإنساني، مبدؤه النفس (إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)... لكن ما هو مرفوض فطريا، أن نحمّل النفس الإنسانيّة أوزارا لا طاقة لها بها.

سيغموند فرويد، هذا الرجل الذي استغلّ هذيانه وعقده، ليحدث شرخا فظيعا في الفطرة الإنسانيّة. وأراد من خلال مزاعمه وأبحاثه المسمومة أن يزيّف الفطرة النقيّة ـ من خلال اعتماده على الأساطير والترهات والخرافات والرموز التي لا يصدقها عاقل، وذلك بغرض بناء نظريات علميّة مزعومة.

لا أدري لماذا يصرّ معظم النقاد والباحثين ودارسي علم النفس ومنظّريه على إلحاق صفة العالم بهذا الرجل المعتوه، فرويد*؟

إن نظريته المزعومة، المؤسسة على أسطورة (عقدة أوديب). حول الميول الجنسيّة، هي تنظير لزنا المحارم ودعوة لها. (ميل البنت نحو والدها، وميل الولد نحو أمّه).

لكنّ العجيب أن المسلمين يدرّسون هذه الترّهات في مدارسهم وكليّات علم النفس بجامعاتهم، وكأنّها مسلّمات علميّة، في الوقت الذي كان عليهم الوقوف بحزم (فكري) في وجه هذه الأفكار الفاسدة والمفسدة.

ما توصّل إليه فرويد يناقض الفطرة الإنسانيّة السليمة. ويهدم، بتحليلاته، البنية الأسريّة، والعلاقات بين أفرادها.

لقد زيّف العاطفة الإنسانيّة النبيلة وحرّف مسارها الفطري السليم، مستلهما ذلك من الأسطورة اليونانيّة (عقدة أوديب)، التي رواها. سوفكلس تحت عنوان «الملك أوديب » عام 496 قبل الميلاد. وذكرها أرسطو في كتابه " الشعر ".

يرى فرويد أن عقدة أوديب هذه كامنة في الفطرة الإنسانية، فالطفل يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبوين وكل من الأبوين يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبناء (الطفل يحب الأم أكثر من الأب بينما تحب الطفلة الأنثى أباها أكثر من الأم وبالمقابل فإن الطفل يكره الأب المجانس له جنسيا بمعنى أن الطفلة تكره أمها وتحب أباها كما أن الطفل يكره أباه ويحب أمه.

وهذه الفلسفة الفرويدية، تنمّ عن جهل فاضح بالغرائز الإنسانيّة السويّة. وما ادّعاه فرويد، ما هو إلاّ اوهام توهمها، ومشاعر نابعة من نفس مريضة، فاجرة.

إنّ العلاقات العاطفيّة بين المحارم (الأبناء والآباء)، أسمى من من ترّهات فرويد المعتوه. فالعلم والدين معا يكذّبانها ويدحضانها. أمّا العلم فقد فنّد العقدة الأوديبيّة، والمزاعم الفرويديّة، ولم يتوصّل بعد إلى تأكيد الميول الجنسيّة بين الأبناء والأباء. لأنّ ذلك سيجّر الإنسانيّة إلى فساد النسل والنسب معا، وشرعنة زنا المحارم. أمّا الدين، فقد وضع حدودا لصون المحارم، (الحلل بيّن والحرام بيّن)، وهندس العلاقات بين أفراد المجتمع الإنساني، على أسس عقليّة متينة. فقد خلق الإنسان في أحسن تقويم جسدي وعقليّ ونفسي. ولم يتركه خالقه سبحانه هملا، تائها في بحر الظلمات، كي لا ينحرف عن رسالته الوجوديّة. إنّ العقدة الأوديبية، لا تصلح في بعض العوالم الحيوانيّة، فما بال السفهاء يريدون تطبيقها على الإنسان.

يقول الأستاذ علي أسعد وطفة في مقال له بعنوان: (الوليمة الطوطمية في سيكولوجية فرويد) ما يلي:

" يفكك فرويد العقدة الأوديبية إلى رمزيتها السيكولوجية والتربوية، ويستخدم مفهوم الوضعية الأوديبية ليفسر لنا الصيرورة الأوديبية في المجال التربوي، وليتبناها منطلقا منهجيا في فهم الطبيعة الإنسانية بما تنطوي عليه من تكوينات وبنى وإشارات ورموز ".

و من المؤسف - حقّا – أن يسعى بعضهم، إلى إقناع العقل البشري السليم، والنفس السويّة في شعورها ولا شعورها، كي يتقبّلا ترّهات ومزاعم فرويد.

والملاحظ أنّه بنى (نظريّته المعتوهة والواهيّة) على أوهام وأساطير وقصص خرافيّة تتعارض وروح العلم ومنطق العقل. والسؤال المحيّر – فعلا – هو: هل يمكن أن يستقيم التحليل العلمي النفسي التجريبي السليم باعتماد العناصر الوهميّة والأسطوريّة ؟ وهل يصحّ استخلاص نظريّة علميّة وبناؤها على تلك العناصر الخرافيّة ؟ إنّ التفكير العلمي السليم، المؤسس على النظريّة التجريبية وعلى مبدأ السببية يرفض كليّة علمنة الخرافات والأساطير والأوهام، وبالمقابل، من الخطر بمكان (تخريف) والعلم و(أسطرته) و(أوهمته)، تحت أيّ مسمّى كان.

و ممّا جاء في المقال قول الكاتب، الأستاذ علي أسعد وطفة، مادحا فرويد، قوله: " ومما لا شك فيه أم جانبا كبيرا من عبقرية فرويد تكمن في قدرته الهائلة على توظيف الرموز والأساطير في إضفاء المعاني والدلالات على مكونات الحياة الأخلاقية والنفسية في المجتمع، حيث تتجلى هذه العبقرية في التوليف الخلاق بين الواقع الأسطورة والتاريخ والرمز والعلم والدين في تفسير الجوانب الخفيّة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسيكولوجية في حياة المجتمع والأفراد والجماعات. "

و الحقيقة، أنّ عبقريّة فرويد الوحيدة، تكمن في قدرته على مخادعة العقل البشري، ومحاولة تشويه الفطرة الإنسانيّة، في جانبها العاطفي. لقد أخلط – عمدا لغرض خبيث في نفسه المريضة – بين العاطفة والميل والجنس. فليس كلّ عاطفة تعبّر عن الميل الجنسي. فالعواطف الإنسانيّة ضروب مختلفة وألوان. فعاطفة الوالدين نحو أبنائهم تختلف عن عاطفة الأبناء نحو آبائهم. وعاطفة الزوج نحو زوجته تختلف عن عاطفته نحو أمّه أو أخته أو عمّته أو خالته. وعاطفة الصديق نحو الصديق، ليست هي نفسها عاطفته نحو الزميل في الوظيفة والدراسة. وليس كلّ ميل عاطفي صادر من الدافع الجنسي (الليبدو). فإنّ الإنسان، بفطرته، ميّال للخير والجمال. ولم يثبت العلم الشرعي ولا العقلي، منذ بدء الخليقة، أنّ الأبناء ميّالون إلى اٍلآباء من منطلق (اللبيدو)، ما عدا عند أولئك الشواذ عاطفيّا، والمروّجين لزنا المحارم. وما حدث، ويحدث في المجتمعات القبليّة (البدائيّة)، من زنا المحارم، لا يصلح لبناء نظريّة (علميّة) تحليليّة، مرجعيّة في مخابر علم النفس الحديث، كي تدرس لطلاب المدارس والمعاهد في مجتمعنا العربي الإسلامي، بل وفي المجتمعات العاقلة.

و يضيف الكاتب، الأستاذ علي أسعد وطفة، قائلا:

" وفي هذه الصورة الفسيفسائية للتوليف الفرويدي، بين الأسطورة والرمز والواقع، تقع محاولتنا للتأمل في الكيفيات التي يوظف فيها فرويد المعاني والدلالات الرمزية التي في تفسيره لجوانب تاريخية وسيكولوجية قد تبدو عصية على الفهم والتحليل. ومهما يكن الأمر، فالرحلة في الإبداعات العبقرية الفرويدية تضع القارئ في دائرة الشعور بالرهبة والرغبة والشوق المفعم بالإثارة المعرفية والوجدانية. فالرموز المكتنزة في الأساطير تمتلك طاقة معرفية هائلة أحسن فرويد توظيفها واستثمارها في استكشاف جوانب مظلمة وغامضة من الحياة الإنسانية، وقد أجاد بحسه العبقري المعهود أن يوظف مقولات التابو والطوطم والسحر والدين والأسطورة في فهم الطبيعة البشرية واستجلاء غموضها، وأكد عبر تقصياته المذهلة هذه أنه يجب على الإنسانية أن تستلهم الحكايات والمخطوطات والرموز والأساطير لاستكشاف المكنونات الدفينة للتاريخ الإنساني إرواءً للظمأ البشري المتقد إلى المعرفة. "

والمتأمّل لما جاء في هذه الفقرة، يتساءل: أين تكمن العبقريّة الفرويديّة، التي أسبغها الكاتب على فرويد ؟ أتكمن في سعيه إلى هدم العلاقات الأسريّة السليمة، المبنيّة على الحب العفيف والرحمة ؟ أم تكمن في محاولته تغييب وتسييد الغريزة (الليبدو) **؟ أم تكمن في توظيف (مقولات التابو والطوطم والسحر والدين والأسطورة) من أجل (فهم الطبيعة البشرية واستجلاء غموضها) ؟ إنّ هذه العناصر الخرافيّة المذكورة سلفا – ما عدا الدين - لا موضع لها في العقل البشري السليم، والتجارب العلميّة ومخابرها.

و يضيف الكاتب، الأستاذ علي أسعد وطفة، قائلا:

" كما يرى فرويد- أساس النظام والعدالة والقانون والقيم الأخلاقية في المجتمعات الإنسانية، وقد شكلت هذه الأنظمة – وفقا لهذه الرؤية - مهد الحضارة ومنطلقها الإنساني، وذلك لأن الحضارة لا تقوم إلا على مبدأ الإيثار ونكران الذات وتنظيم الاشباعات الغريزية تنظيما اجتماعيا أخلاقيا يراعي مبادئ العدالة والحق والخير والجمال ".

لقد كان مبدأ الحضارة الإنسانيّة عقليّا وعلميّا. في بداية الخلق علّم الله آدم السماء كلّها، ووهبه الجوارح الظاهرة والباطنة مثل: الفؤاد والقلب والسمع والبصر والبصيرة، واسبغ عليه من النعم، من فوقه ومن تحته، ما لا يُعد ولا يُحصى، وألهمه العقل وملكة التفكير، كي يعيش عيشة راضيّة في كنف العبادة والإيمان بالله تعالى. لم تنشأ الحضارة – أبدا – على (الإشباعات الغريزيّة)، وإن هذه الأخيرة فطرة في الإنسان، والحيوان، لكنّها خاضعة لمبدأ الحاجة إلى التناسل والتكاثر وحفظ النوع الإنساني والحيواني. كما أنّه لا يمكن أن نعدم الرغبة الجنسيّة والحاجة إليها من حياة الإنسان، مهما كانت المبرّرات، لكن وفق نظام يصونها من الفوضى الاجتماعيّة والعقد النفسيّة المريضة. إنّ الحضارة الانسانيّة لم تبدأ مسيرتها، ولم تبن أطوارها الأولى، ولن تبنى حاضرا ومستقبلا، أبدا، على الإشباعات الجنسيّة والغريزيّة. وإلاّ ما محلّ العقل من الإعراب ؟ إنّ الذين يتبّعون غرائزهم، ويحكّمون شهواتهم الجنسيّة (اللبيدو) ك (فرويد)، إنّما يهدفون إلى تسفيه العقل، وعبادة الغريزة الحيوانيّة.

و يضف الكاتب الأستاذ علي أسعد وطفة قائلا:

" يرى فرويد أن عقدة أوديب هذه كامنة في الفطرة الإنسانية، فالطفل يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبوين وكل من الأبوين يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبناء (الطفل يحب الأم أكثر من الأب بينما تحب الطفلة الأنثى أباها أكثر من الأم وبالمقابل فإن الطفل يكره الأب المجانس له جنسيا بمعنى أن الطفلة تكره أمه وتحب أبيها كما أن الطفل يكره أباه ويحب أمه)

يؤكد فرويد في هذا السياق على خطورة الطريقة التي يتم بها الخروج من الوضعية الأوديبية وأهميتها، فطريقة التجاور لهذه المرحلة تلعب دورا حاسما في تحديد هوية الطفل واتزانه الوجداني في مرحلة الرشد، وهذا يعني الكيفية التي يتجاوز فيها الطفل هذه المرحلة تشكل الركيزة الأساسية للتكوين السيكولوجي عند الفرد ولاسيما فيما يتعلق بنظرة الطفل وموقفه من السلطة والحب والعلاقات العاطفية والجنسية.

يفترض فرويد أن الطفل في الغالب يتجاوز هذه المرحلة بسلام أي يتجاوز كراهيته إلى الجنس المقابل له من الأبوين، إذ يتوجب على الطفل أن يتجاوز كراهيته للأب فيما بعد الثالثة من العمر وأن يكوّن علاقة صداقة وحب مع والده وهكذا هو الحال بالنسبة للطفلة الأنثى في علاقتها بأمها. "

أليس من الرعونة الفكريّة والوقاحة الأخلاقيّة، أن يُفسّر كل ميل من الذكر نحو الأنثي، أو من الأنثى نحو الذكر، عند فرويد تفسيرا جنسيا (ليبديا)، دون مراعاة قدسيّة المحارم؟ إنّه لأمر غريب وعجيب أن تتسلّل هذه الأفكار المميتة إلى ثقافتنا ومنظومتنا التعليميّة ـ تحت عنوان (التحليل النفسي الحديث)، بحجة الأخذ بالعلوم الجديدة والاستفادة من الأبحاث الغربيّة في مجال العلوم الإنسانيّة.

لم يخبرنا فرويد، ولا أتباعه المعجبين (لترّهاته) والمروّجين لها، كيف توصّل إلى استخلاص تلك العلاقة العاطفيّة بين الأب وابنته وبين الأم وابنتها، وبين الأب وابنه وبين الابن وأمّه ؟ وعلى أيّ أساس (اكتشف) (بعبقريّته العلميّة التحليليّة) أن الإبن يكره أباه لأنّه مجانس له جنسيّا، والطفلة تكره أمّها لنفس العلّة، بمعنى أن الطفلة أباها، بينا يحب الطفل أمه ؟

إنّها مجرّد أوهام، وكوابيس - لا تقبلها الشرائع السماويّة، ولا الفطرة البشريّة السليمة، ولا الذوق الإنساني السويّ - يكون قد عاشها فرويد في طفولته وبيئته وتخيّلها في خضم معاناة، يكون قد كابدها في طفولته ومراهقته.

وانطلاقا من هذه المعطيات الوهميّة، كان من واجب الدارسين على هذه (لخزعبلات) الفرويدية، وذلك بدراسة نفسيّته وتتبّع أطوار نشأته العائليّة وفلسفته الدينيّة والأخلاقيّة، لاكتشاف مصادر ترّهاته النفسيّة وعقده المرضيّة.

آن الأوان، لإعادة قراءة ثقافتنا المعاصرة وتطهيرها من الأفكار النجسة، الدخيلة، التي تسللت خفيّة أو جهرا أو عنوة إلى مناهجنا التربويّة. وصارت مادة لتدريس الناشئة، تحت مسمى (علم). نحن في حاجة أكيدة إلى مراجعة نمط التفكير العلمي، وغربلة الأفكار الفلسفية الوافدة إلى منظومتنا الثقافيّة والتربويّة والبحثيّة. كما أنّنا مطالبون بالتخلّص من المدارس الغربيّة (اليهودية والنصرانيّة) في علم النفس. فإذا كانت العلوم التجريبيّة والدقيقة علوما عابرة للمجتمعات والهويّات، فإنّ العلوم الإنسانيّة، كالفلسفة والآداب وعلم النفس وعلم الاجتماع والأخلاق، علوم لا تحتمل الشراكة الفكريّة ولا التعميم ولا العالميّة ولا العولمة. فلكلّ جماعة دينيّة أو ثقافيّة خصوصيتها، و حقيقة اختلاف المجتمعات في مللها وعاداتها وأخلاقها وأعرافها وألسنتها ومشاعرها، لا أحد ينكرها.

لقد أساءت (عبقريّة العقدة الأوديبيّة) الفرويديّة كثيرا إلى الإنسانيّة، وأضّرت بالأخلاق النبيلة. و أخلط بين علم النفس القائم على العقل والمنطق والتحليل العميق، والأساطير والخرافات والأوهام والترّهات، والأنثروبولوجيا العارية من أي سند عقلي ومنطقيّ. وبالمقابل، لقد تلقّف مريدوه وأتباعه علله النفسيّة وأوهامه المسمومة دونما إدراك لخطورتها على الفرد والجماعة. وكان من واجب أعلماء وأساتذة علم النفس في مدارسنا وكليّاتنا، رفض تدريسها لطلبة العلم، باعتبارها جزءا من المناهج والمقاييس العلميّة والمقرّرة.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر -

...................

للاطلاع

علي أسعد وطفة: الوليمة الطوطمية في سيكولوجية فرويد

هامش:

* فرويد: سيغموند شلومو فرويد ‏(1856 م – 1939 م). يعرف اختصارًا بـسيغموند فرويد هو طبيب نمساوي من أصل يهودي، اختص بدراسة الطب العصبي ومفكر حر يعتبر مؤسس علم التحليل النفسي. وهو طبيب الأعصاب النمساوي الذي أسس مدرسة التحليل النفسي وعلم النفس الحديث.:

: (Libido **الليبيدو

الدافع الجنسي أو اللبيدو ‏ هي رغبة الشخص الجنسية عمومًا أو رغبته في ممارسة نشاط جنسي

. تتأثر الشهوة الجنسية بعوامل بيولوجية، ونفسية، واجتماعية. من الناحية البيولوجية، تنظم الهرمونات التناسلية والناقلات العصبية المرتبطة بها والتي تعمل وفقًا للنواة المتكئة الرغبة الجنسية لدى البشر.

لم يخطر بباله انه سيموت مسموماً على يد طبيب مقرب منه، ظل اصحابه يحذرونه من التجوال وحيداً في الاسواق خوفا من أن تنتهي حياته على يد قاتل متحمس، ولم يكن احد منهم يتوقع ان الطبيب الاندلسي الشهير أبو العلاء بن زهر يتفق مع احد العاملين في منزل " ابن باجه " ليدس السم في طعامه بعد ان اختلف معه في بعض الامور الطبية والمنطقية، ويبدو انه كان على علم بما يخطط له ابن زهر ـ فكتب فيه بيتا من الشعر :"

ياملك الموت وابن زهر

جاورتما الحد والنهاية

ولم يكن ابن زهير العدو الوجيد لابن باجة، فقد شاركه كثيرون غيره في ملاحقة الفيلسوف بسبب اراءه الجريئة في مخالفة ابو حامد الغزالي واصراره على ان سبيل المعرفة هو النظر العقلي فقط، ونراه يقول ان الطريق الصوفي الذي اتبعه الغزالي يجعله فيلسوف من الدرجة الثانية، لا يمكن ان يصل الى الحقيقية كما يدعي، ويسخر في " رسالة الوداع " من كتاب الغزالي " المنقذ من الضلال " الذي يصفه بانه مليء بالاوهام الباطلة. ويذكر ابن ابي اصيبعة ان ابن باجة تعرض الى اتهامات عديدة من اعدائه وانهم حاولوا اغتياله في مناسبات عديدة – عيون الانباء في طبقات الاطباء تحقيق عامر النجار -

قبل وفاته باسابيع اشار الى احد تلامذته ان يحتفظ باخر كتبه " رسالة الوداع " – تحقيق ماجد فخري ضمن كتاب رسائل ابن باجة الإلهية -، وكأنه يريد أن يقدم وصيته للعالم، حيث احتوت رسالة الوداع على معظم ارائه الفلسفية ولا سيما دعوته لاعلاء شأن العقل، فالمعرفة الحقيقية يمكن تحصيلها من خلال العقل، ومن خلال العقل يمكن ان ندرك جميع الموجودات، ومن شأن العقل ان يعرف بنفسه، لا بتاثير روحاني يفد عليه من الخارج.

ابن باجه المغرم بارسطو ظل يؤكد ان الانسان في خطر، ولا بد تغيير نمط الحياة والرأي ليتبنى الناس الحقيقة ويسعون نحو حياة افضل. ونجده عندما يبحث عن تعريف للانسان يتوصل الى ان ما يميز الانسان هو عقله. فالمعرفة العقلية هي وحدها التي تقود الانسان الى اكتساب السعادة، وهي وحدها التي توصلنا الى معرفة الله.فهو يرى ان العقل اهم جزء في جسم الانسان، وان المعرفة الصحيحة انما تتم عن طريق العقل الذي يعيننا وحده على الظفر بالرخاء وبناء الخلق. في وسع الانسان ان يدرك بعقله الموجودات كلها من ادناها الى اعلاها. كان ارسطو قد كتب في " الاخلاق " ان الانسان الذي يحيى ويعمل بعقله، ويعتني بتثقيف عقله، احسن الناس نظاما، وييدو ان هذه الكلمات دفعت ابن باجة ان يؤلف كتابه " " تدبير المتوحد " – تحقيق معن زيادة وهناك نسخة اخرى بتحقيق ماجد فخري ضمن كتاب " رسائل ابن باجة الإلهية " -، والذي حاول فيه ان يرسم نظام لـ " الانسان " الذي يحيى ويعمل بعقله، وسيكون هذا الانسان احسن الناس نظاما واحبهم الى الله.

كتب ابن طفيل وكان ابرز تلامذة ابن باجة وهو يشرح تطور الفلسفة في بلاد الاندلس :" ثم خلف من بعدهم خلف آخر احدق منهم نظرا وأقرب إلى الحقيقة. ولم يكن فيهم أثقب ذهنا ولا أصح نظراً ولا اصدق رؤية من رؤية ابي بكر الصائغ (ابن باجة) ".- حي بن يقظان تحقيق احمد امين -.

تبدو حياة ابو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ الملقب بابن باجة في ظاهرها حياة مترفة، ولد في مدينة سرقسطة التي تقع شمال شرق اسبانيا عام 1061 ميلادية وكان الابن الثالث لعائلة ثرية تمتهن الصياغة ولذلك لقب بابن الصائغ، ويذكر ابن خلكان في كتابه " وفيات الاعيان " ان لقب " ابن باجة " جاء من عمل عائلته بصياغة الفضة، حيث كلمة " باجة " بالاسبانية تعني " الفضة " – ابن خلكان وفيات الاعيان تحقيق احسان عباس –، وقد احتلت اسرته مكانة مرموقة في المجتمع الاندلسي، لم تكن بعيدة عن بلاط " سرقسطة ". كان الاب يطمح أن يُصبح ولده اديبا، وجد في مكتبة والده الكثير من كتب الفلسفة والشعر والعلوم، فاهتم بقراءة كتب الطب والفلك والهندسة، دخل قصور الامراء ليطلع على المكتبات التي كانت تضم مئات المجلدات، ويبدو ان صلة عائلته بالبلاط اتاحت له حضور جلسات العلم، فكان شغوفا بالاستماع الى دروس الشاعر والفيلسوف ابن جيرول، ويداوم على حضور مناظرات الطبيب والموسيقي " ابي الفضل عداي "، ولم يدرس ابن باجة العلوم الدينية والادب فقط، بل تفرغ لدراسة العلوم الفلسفية والطب والكيمياء والفلك والرياضيات، كذلك درس الموسيقى والموشحات ويصفه ابن خلدون بـ" صاحب التلاحين المعروفة ". في الخامسة عشر من عمره قرأ ارسطو، وقد وجد ابن باجة ان ارسطو يواجه باسئلته الفلسفية مجتمعا تسيطر عليه الخرافة والحكايات، فقرر ان يتفرغ لدراسة اعمال الفيلسوف اليوناني.وبرغم علاقة اسرته بالسلطة، إلا ان حياة ابن باجة كانت حافلة بالمحن، حدثنا هو بذلك، وكثيرا ما تمنى الموت ليجد فيه الراحة الاخيرة، والى جانب موقف بعض رجال الدين والفقه منه، كان يعيش في وحدة عقلية :" ولم يجد انيسا يشاطره آراءه، وما خلص الينا من كتبه يدل دلالة قوية على انه لم يكن يأنس الى عصره ولا الى بيئته " – دي بور تاريخ الفلسفة في الاسلام ترجمة عبد الهادي ابو ريدة – اضف الى ذلك كان اول المشتغلين بالفلسفة في بلاد الاندلس، كما ان دفاعه عن الانسان وحرية الارادة والاختيار، واعتبار العقل قيمة مطلقة، ودعوته الى الفصل بين العلم والدين في كتابه " تدبير المتوحد "، حيث اكد ان مجال البحث العلمي يقوم على التجربة والبرهان ومجال الدين يقوم على الايمان والغيبيات، وخلافا لكثير من الفلاسفة كان ابن باجة يرى ان الفلسفة لجميع الناس، وان غايتها تحقيق سعادة الانسان، وهذه السعادة تتحقق عندما يصل الانسان الى اعلى مراحل العقلانية، سعى الى الربط بين سعادة الانسان والعقل وحرية الإرادة.

يصف لنا ابن باجة معالم مسيرته الثقافية في رسالة وجهها الى صديقه "يوسف بن حسداي "، حيث يخبرنا انه بدأ حياته بقراءة الشعر ونظمه وبالموسيقى التي شغف بها صغيرا، ثم انتقل الى علم الفلك فقرأ مؤلفات ابن الهيثم، وتفرغ لدراسة كتاب " المَجَسْطي." لبطليموس. في اشبيليه، توطدت علاقته بالفلسفة حيث وجد ضالته في كتب ارسطو التي تبحث في شؤون العقل والنفس وفي تأملات افلاطون عن العدالة، وفي مدينة الفارابي الفاضلة.واذا تصفحنا كتابات " ابن باجة " سيلوح لنا ارسطو الحقيقي المهتم بالعلوم، صاحب كتاب الحيوان والنفس والطبيعة، وسنلتقي بالفارابي المعلم الثاني، الامر الذي سيجعل ابن رشد يعلن ان ابن باجه قدم فلسفة جديدة لم تكن موجودة عند الذين سبقوه من فلاسفة العرب. في سرقسطة اصبح وزيرا في بلاط الحاكم " ابن تفلويت "، وكان يرسله في مهام دبلوملسية، إلا ان الحظ لم يحالف ابن باجة طويلا، اذ القي به في السجن بسبب وشاية بعض علماء الدين، وعندما خرج كان " ابن تفلويت " قد توفى وتعيرت احوال سرقسطة حتى استولى عليها الاسبان عام 1118، فقرر الرحيل الى الجنوب حيث سكن في مدينة " المرية " بعدها سافر الى شاطبة وهناك تعرض الى محنة جديدة فقد اتهم من جديد بالزندقة،القي به في السجن، حتى جاء يوسع بن تاشفين حاكما فاطلق سراحه، ونال عنده التقدير وعينه وزيرا وتوطدت علاقته بالوزير ابو الحسن بن الامام وكان من اشد المعجبين بفكر ابن باجه وكان له الفضل في حفظ ما تبقى من تراث ابن باجة، في هذه الفترة قام برحلات الى اشبيلية وغرناطة ووهران. بعدها قرر التفرغ لمشاريعه الفلسفية فطلب اعفاءه من المنصب، وانشغل باكمال كتابه " تدبير المتوحد "، يقررالسفر الى مصر، لكن الرحلة لم تتم حيث انتهت حياته في مدينة فاس في الثامن من ايار عام 1139، بعد ان قدم له السم في الطعام.

كان ارسطو بالنسبة للفلسفة العربية منهجا للتعليم، وقد اطلق عليه الفلاسفة العرب لقب " المعلم الاول " وكان ابن باجة المهتم بالفلسفة اليونانية يعزو لارسطو قدرته على تنوير العقول، ولهذا نجده يهتم بكتب ارسطو عن النفس والطبيعة، ويقول عبد الرحمن بدوي في موسوعته الفلسفية ان ابن باجة اهتم بفلسفة الانسان، لان ما تناوله يدور معظمه عن الانسان، فصحيح ان الانسان يشارك الحيوان في بعض الافعال التي يقوم بها والتي لا اختيار له فيها كالاحساس.لكن الانسان يمتاز عن الحيوان وعن الجماد والنبات بالقوة الفكرية. وهو لا يكون انسانا إلا بها، وهو له افعال لا توجد لغيره من الموجودات :" والافعال الانسانية الخاصة به هي ما يكون باختياره. فكل ما يفعله الانسان باختيار فهو فعل انساني. وكل فعل انساني فهو فعل اختيار واعني بالاختيار : الإرادة الكاملة عن روية " – ابن باجة تدبير المتوجد تحقيق معن زيادة -. ويذهب ابن باجة الى ضرورة دراسة علم النفس، فليس بمقدورنا ان نفهم مبادئ العلوم ما لم نفهم ما هي النفس. فمن لا يعرف نفسه لا يعرف العالم المحيط به، ومثلما اطلق سقراط شعار" اعرف نفسك " نجد ابن باجة يؤكد على ان :" العلم بالنفس يكسب للناظر قوة على اخذ مقدمات لا يكمل العلم الطبيعي دونها، واما الحكم المدنية فلا " – ابن باجة كتاب النفس تحقيق محمد صغير حسن المعصوي –.

تزخر الأعمال التي وصلتنا من ابن باجه على قلتها، حيث فقدت العشرات من مؤلفات بسبب ما تعرض له من مضايقة واتهام بالالحاد، ويقال ان الكثير من كتبه احرقت، بحيوية فائقة تخلقها الافكار الجريئة التي طرحها والموضوعات التي تناولها والتي تبرهن على اهتمامه بالفلسفة العقلية في في محيط كان يؤمن بالتصوف والروحانيات، وتثبت ان اهمية ابن باجة في تاريخ الفكر الفلسفي العربي لم تكن مقصورة على كتبه في الكون والنفس والحيوان وشرحه لارسطو والفارابي، بل ان اهميته تتمثل في ذلك الكتاب الفلسفي المدهش والذي اشاد به ابن رشد وقرر ان يضع شروحا له وهو كتاب " تدبير المتوحد "، حيث رأى فيه ابن رشد عملا فلسفيا جديدا لا شبيه له عند افلاطون في " الجمهورية " ولا عند الفارابي في " آراء اهل المدينة الفاضلة "،وتبرز اهمية " تدبير المتوحد " باعتباره اول كتاب فلسفي في المغرب والاندلس يقدم نظرية سياسية متكاملة، وفيه يشدد ابن باجة على كلمة تدبير والتي يشير من خلالها الى مفهوم ترتيب الافعال الانسانية حسب الغاية المستهدفة. فالتدبير هو الذي يسمح لنا ان نقول عن " الله " انه مدبر العالم، ولان نتحدث عن ضرورة تدبير المدن، وان القانون يدبر افعال البشر. في " تدبير المتوحد " يطرح ابن باجة نظريته السياسية، فيفترض وجود مدينة فاضلة او كيان سياسي هو المثل الاعلى للدول، ويصف ابن باجة المدينة الفاضلة بانها لا تحتاج الى اطباء ولا قضاة، فذلك لان اهلها متسامحون، يحبون بعضهم بعضا فلا يقع الخلاف بينهم، وهم يمارسون الرياضة ولا يتناولون الاطعمة الضارة، ولهذا لا يمرضون ولا يحتاجون الى الطب، واراء اهل المدينة الكاملة كلها صادقة وافعالهم فاضلة ولا يسمح بهذه المدينة بالكذب والخداع، وفي هذه المدينة يمارس كل مواطن العمل الذي يجيده، والانسان يهدف الى الخير، ذلك لأن المواطن الفاضل جزء لا يتجزأ من المدينة الفاضلة.

يذهب ابن باجة مذهبا اقرب الى افلاطون في القول بالمدينة الفاضلة مقابل المدن غير الكاملة، وهو يؤكد ان مدينة افلاطون الفاضلة هي المدينة التي يستطيع فيها الفيلسوف ان يحقق غايته، لكنه لم يطالب بان يكون الحاكم فيلسوفا ن بل اكتفى بان اشار الى اوصاف المثل الاعلى للسعيد. ويبدي اهتماما بـ" الفيلسوف المعتزل "، المتوجد ذو استقلال تام، لكنه ليس فردا انانيا لا يبحث إلا عن مصلحته، بل هو يهدف الى مصلحة ذات قيمة اخلاقية وروحية عالية. انه يوجه جميع معارفه من اجل بلوغ ذروة الكمال الانساني، وهذا الكمال يكمن في اثمن شيء عند الانسان وهو قوته الفكرية، ويسمي ابن باجة في " تدبير المتوحد " الناس الذين يمتلكون مثل هذه الصفات " النوابت " وهم " الذين يقعون على رأي صادق لم يكن في تلك المدينة " - تدبير المتوحد تحقيق معن زيادة – ويؤكد على أن " النوابت " يجب أن يعيشوا وفق ما يقتضيه العقل ليمكن لهم الوصول إلى السعادة الروحية التي يراها أسمى مظاهر الحياة الدنيا. وخلافاً لكثير من الفلاسفة، يرى ابن باجة أن الفلسفة هي لجميع الناس، لذا اعتبر أن الفلسفة أو التدبير شأن خاص بالإنسان، لأن الإنسان وحده يتميز عن سائر الكائنات الحية بالفكر، والإنسان في رأيه يسعى بشكل دائم لتحقيق السعادة، ومن هنا يرى أن الفلسفة تحمل غاية عملية هي تحقيق سعادة الإنسان، وهذه السعادة تتحقق عن طريق وصول الإنسان إلى أعلى مراحل التعقل التي يجسدها العقل الفعال. لقد ربط ابن باجة بشكل وثيق سعادة الإنسان بالعقل وبحرية الاختيار.

يريد ابن باجة ان يُظهر كيف يمكن مثل هذا " النابت " ان يبلغ السعادة القصوى عبر نفي روحي ضروري للترقي بفضل معرفة نقية خالية الشوائب. هكذا يطرح ابن باجة موضوعة فلسفية مهمة، هي موضوعة " الاغتراب " وغربة المفكرين في اوطانهم بسبب آرائهم.رفض ابن باجة فكرة الغزالي من ان السعادة تكمن في اللذة، بل اصر على انها تكمن في العلم، والمتعة ليست هدف العلم، واتهم الغزالي باحلال ملكات غيبية محل الملكة العقلانية.واذ يجابه المتوحد مشكلة الحياة في المدن الناقصة او الفاسدة التي يتعذر عليه فيها بلوغ غاياته العقلية، يجد نفسه مضطرا الى الهجرة الى احدى المدن الفاضلة، فاذا خلا عصره منها، لم يكن لديه بديل عن اعتزال الناس وترك مخالطتهم إلا في الامور الضرورية. والتدبير يهدف الى ان يحقق الانسان كماله، ومهما تعددت معاني التدبير فان غايته واهم انواعه، هو تدبير الانسان لنفسه، والذي به يكون تدبير المنزل وتدبير المدينة، فلا جدوى من الحديث عن تدبير المدينة ان لم يسبق ذلك تدبير الانسان لنفسه، ويرفض ابن باجة ان يكون سبيل التدبير عن طريق المواعظ والوصايا، لأن الاساس الذي يقوم عليه تدبير الانسان لنفسه إنما يقوم على العلم والاخلاق. ويرى ابن باجة ان المتوحد هو الذي يكون فعله فعلا انسانيا كاملا، اي يصدر عن فكر ورؤية.

والهدف من التدبير هدف مزدوج : فمن جهة يهدف الى تدبير العقل، عقل الانسان للبلوغ به الى الوجه الاكمل، اي الارتفاع الى مستوى من الحياة العقلية، الى درجة الفيلسوف الذي ينظر الى كل شيء بعين العقل، فيرى العقل في كل شيء، وتلك هي السعادة، ومن جهة ثالنية يهدف التدبير الى ايجاد المدينة الكاملة، ذلك ان التدبير يكون داخل المدينة لا خارجها، فالانسان مدني بالطبع والمتوحد انسان قبل كل شيء وهو يريد ان يستكمل افضل معاني وجوده ليس العقلية فقط بل والمدنية والاجتماعية ايضا، ن وفيما انه يعيش في مدينة ناقصة وهو فيه مثل " المتوحد " فعليه ان يسعى الى ان يجد نماذج مثله حتى تتحول المدينة الى مدينة كاملة اذ ان " وجودهم سبب حدوث المدينة الكاملة " – تدبير المتوحد.

أدرك ابن باجة حقيقة عالم السياسة المخيف، وُجد ان البلدان لكي تستقيم امورها عليها ان تعزز العقل وتحارب الخرافة، وقد أيقن أن رجالا كثيرين سيموتون بسبب افكارهم، لأن كل التاريخ هو تاريخ مواجهة، لكن الخلاص يكمن في العلم والمحبة لبناء " الدولة السعيدة".

***

علي حسين

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

شهدت العشرين عاما الاخيرة زيادة مطّردة في جرائم الاطفال والاحداث، بعد خلع الكثير من الاطفال ثوب البراءة الذي كان يزين قلوبهم ويعطر أوراحهم، ربما تمردا على ذويهم وعقابا لهم لانهم أهملوهم ولم يوفروا لهم الرعاية العاطفية والامان النفسي، وانشغلوا عن صغارهم بشئونهم الخاصة دون ان يرووا ظمأ الصغار من الحنان والرقابة والتربية السليمة .

فلا شك ان غياب الدور التربوي في دعم ومراقبة الابناء، والتقصير بحقوقهم، وتجاهل احتياجاتهم من الاصغاء اليهم، جعل الصغار موضعا لتربية خارجية من أصدقاء السوء ومن الميديا والافكار المسمومة التي تبثها مواقع التواصل الاجتماعي والاعمال الدرامية المشبعة بالجرائم والعنف .

والنتيجة وقوع العديد من الاطفال في بحر الجريمة دون خضوعهم للعقاب سوى ايداعهم بعض مصالح الاحداث . فالقاتل الصغير لا عقاب عليه ويفلت من القصاص، كذلك يفلت المسئول عن تحوله الى جاني ومجرم وهما الوالدين .

ولأهمية هذه القضية في كل زمان ومكان فقد نبهنا اليها نبينا المصطفى صل الله عليه وسلم بحديث شريف قال : (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) .

فهذا التوجيه النبوي يوجب على الرعاة القيام بواجب الرعية، في حمايتهم وإرشادهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، وردعهم عن ما يضرهم في دينهم ودنياهم، فما بالنا برعاية الصغار داخل مؤسسة الاسرة وحرمة التقصير .

واليوم نجد كثيرا من الاسر تتجاهل اهمية هذا الحديث النبوي في تحديده بما يخص مقالنا مسئولية الرجل والمرأة داخل منظومة الاسرة وهي ركيزة في حفظ الانفس والعرض والمستقبل والدنيوي والديني معا، مما حدا بالاطفال نحو الانحراف وارتكاب الجرائم .

وفي المقابل فان القوانين الوضعية العربية وغير العربية تخلو من وجود مادة صريحة تجرم إهمال الأسرة فى حق أطفالها وعدم رعايتهم بشكل يقي انحرافهم السلوكي، باستثناء دولة الامارات العربية التي أدرجت مؤخرا مادة في قانون العقوبات تجرِّم إهمال الأبوين .

كلنا نعلم حقيقة ان من أمن العقاب أساء الأدب، وتجاهل الاباء رعاية ابنائهم وصولا الى انحراف سلوكهم، هو نوع من أمن العقاب الاجتماعي والقانوني للاباء، فتربية الابناء مسئولية أساسية للآباء لو قصروا فيها يخرج للمجتمع أطفالا مشردين، ويتحول الطفل من نعمة الى نقمة للاسرة والمجتمع ككل .

ومجتمعاتنا العربية اليوم لم تعد تحتمل بأي صورة من الصور وجود أجيال فاسدة تفتك بسلامها الاجتماعي وتزيد من أعباء مشكلاتها المتفاقمة، ولذلك فان الابوين مسئولين مسئولية كاملة عن رعاية اطفالهم وان قصروا في ذلك فيتوجب محاسبتهم بقوانين حازمة، بحيث يصبح سيف القانون رادعا لضبط سلوك الابوين تجاه مسئوليتهما التربوية

ومع مرور الوقت يصبح السلوك المسئول للابوين في رعاية الابناء عادة سهلة وعندئذ يمكن رفع العقوبات القانونية عنهما .

فالوقت الذي يمضيه الابوان مع اصدقائهما أو تواصلهما بالاصدقاء عبر مواقع الاجتماعي لساعات طويلة أولي به ان يتوفر للابناء لنصحهم وارشادهم وتوجيههم ومراقبتهم واشباع احتياجاتهم العاطفية ايضا ومصادقتهم حتي لا يصادقوا أصحاب السوء

ناهيك عن بعض الآباء والأمهات الذين يتعمدون افساد اطفالهم لأغراض مادية ويعلمون اطفالهم التسول والسرقه والانحراف الاخلاقي والسلوكي وترويج وبيع المخدرات ويعلمونهم الاتجار بالجسد والكثير من الاعمال الغير اخلاقية وغير قانونية

ووصل الأمر لاستخدام الكبار لأطفالهم تحت السن القانوني لتنفيذ الجرائم بدلا عنهم وذلك بسبب ان الاطفال ليس عليهم عقوبة في القانون سوى الاصلاحية فيستخدمون الاطفال بالسرقه والقتل وترويج المخدرات ونقل الاسلحة والعمليات الارهابية في بعض البلدان وذلك كله نيابة عن الكبار الذين حرضوهم ودفعوا بهم الى الجريمة ومن هنا مطلوب اصدار قانون جديد يحقق مع الاطفال واهاليهم عند وقوع اي جريمة او اختراق لاي قانون وان كان الفاعل طفل فالعقاب يأخذه عنه الاهل او احد الابوين حسب ما يرى القاضي معطيات القضية والاحداث ومن هنا نمسك عصفورين بحجر اول عصفور ان يتوقف الاهل عن دفع وزج الاطفال لفعل الجريمة وثاني عصفور هو معاقبة الاهل على سوء التربية حتى لو لم يكن دفعهم للجريمة مباشر وانما التربية الخاطئة والاهمال ادى الى نفس النتيجة .

***

بقلم / سارة طالب السهيل

يتطرَّق مقالنا اليوم لآراء اليقينيِّين والتجريبيِّين في النقد الجَمالي. وقد رأينا في المقال السابق أنَّ مصطلح (عِلم الجَمال/ فلسفة الجَمال)، يتعلَّق بـ"دراسة طبيعة الشعور بالجَمال، والعناصر المكوِّنة له، كامنةً في العمل الفنِّي."(1) وأنَّ العمل الفنِّي هو مادَّة (عِلم الجَمال The aesthetic). وتطرَّقنا إلى نشأة هذا العِلم، إن صحَّت تسميته بـ"عِلم". ذلك أنَّ النقد الجَمالي، كما يذهب (أميل فاغيه Émile Faguet، -1916)، إنَّما يرتكز في بعض أصوله على الظنِّ والحدس، ويتمازج فيه العِلم بالفن، محاولًا الاقتراب من العِلم، دون بلوغه. ولذا كان الانطباعيُّون يُنكِرون القواعد في نقد الجَمال.(2)

أمَّا اليقينيُّون المحدَثون، كـ(تين Taine)- الذين تعود جذور نظرتهم التشريعيَّة في الفنِّ إلى (اليونان) منذ (أرسطو)- فيرون أن مهمَّة النقد الجَمالي: تحليل الجَمال، لا تقديره، أو الحُكم عليه، وذلك بردِّ الآثار الفنِّـيَّة إلى ثلاثة عوامل: الجِنس، والبيئة، والعصر. غير أنهم قد خالفوا عِلميَّتهم هذه، كما فعل تين أحيانًا. على حين كان التجريبيُّون التحليليُّون- بزعامة الفيلسوف الألماني (جوستاف فخنر Gustav Fechner، -1887)- يلجؤون إلى منهجٍ عِلميٍّ مشتقٍّ من مذهب (تين)، مستمدين أصول طريقتهم من عِلم النفس وعِلم الاجتماع، معتمدين على الاستفتاء والاستجواب. وهذه الطريقة التجريبيَّة تلقى استحسانًا ورواجًا في هذا العصر العِلمي، جعلَ بعضًا يزعم أنها ستستأثر بمستقبل عِلم الجَمال.(3)

وهكذا نقف على أهم الطُّرق لدراسة الجَمال، وهي: الذاتيَّة، والموضوعيَّة العِلميَّة التاريخيَّة، والتجريبيَّة التحليليَّة. وكلُّها- على حدِّ رأي الباحث الجَمالي (شارل لالو Charles Lalo، -1953)- يكمل بعضها بعضًا. وهو لهذا يرَى أن الطريقة المُثْلَى تتمثَّل في: دراسة العناصر البنائيَّة "التكتيكيَّة" في الفنِّ- من وسائل الجَمال فيه ومظاهره- والتوفيق بين الذاتيِّ والموضوعي، لاستخراج قوانين نسبيَّة مَرِنة، غير كُلِّـيَّة ولا يقينيَّة.(4)

وتتركَّز ميزات الفنون الجميلة المشتركة- وإنْ تغيَّرت أشكالها وتبدَّلَتْ مُثُلها العُليا- حول: حُرِّيَّة التعبير على غير مثالٍ سابق، وامتلاك القيمة الذاتيَّة المنفصلة عن الغاية، والاتصال الحميم بالنفس، وتمتُّعها بتراكيب رفيعةٍ ماهرة التعبير. وتتمثَّل علامات الجَمال في: الوَحْدَة مع التنوُّع، وتوافق الأجزاء، والتناسب، والتوازن، والتدرُّج والتطوُّر، والتكرار.(5)

وللفنِّ مهمَّة، هي- كما يراها (هيجل)(6)، بحسب شروطه-: التوفيق بين الفكرة وتمثيلها الحسِّي، بتشكيل كُلِّيَّةٍ حُرَّةٍ منهما. وهدفه النهائي "لا يمكن أنْ يكون سِوَى: كشف الحقيقة، وتمثيل ما يجيش في النفس البَشَريَّة تمثيلًا عينيًّا ومشخَّصًا."(7)

وقد انتهَى (عِزُّالدِّين إسماعيل)(8)، في مناقشته الأُسس الجَماليَّة في النقد العَرَبي، إلى أنَّ الجَمال عند العَرَب- من خلال شِعرهم ونقدهم وفكرهم- شكليٌّ وصناعيٌّ، وهم يرونه في الفنِّ أكمل منه في الطبيعة. ونقدهم- باتجاهه الشكليِّ- ذو نزعة "كلاسيكيَّة إستطيقيَّة"، يهتمُّ بجَمال التعبير فوق اهتمامه بالمحتوى، غير أنَّه يكشف عن الأساسَين المشتركَين في كُلِّ الفنون، وهما: الإيقاع، والعلاقات؛ فكان النقاد العَرَب في ذلك نقَّادًا إستطيقيِّين بالمعنَى الصحيح. وما نرى إلَّا أنَّ (عِزَّالدِّين) قد عمَّم في القول: إنَّ العَرَب كانوا حِسِّيِّين في انفعالهم بالجَمال، بناءً على نظرتهم الجَماليَّة من خلال الشِّعر. وهو يزعم هذا دونما دراسة موضوعيَّة تتيح له، منهاجيًّا، مِثْلَ ذاك الجزم. وإنَّما يستند إلى أمثلةٍ مقتضبةٍ من وصف المرأة، لا يصحُّ الركون إليها على أنها تُمثِّل نظرة العَرَبيِّ إلى الجَمال، حتى في حدود هذا الوصف. ولعلَّ دراسة جَماليَّات تصوير الحيوان تكشف عن أن الصُّورة الشِّعريَّة لم تكن تُعبِّر عن الجَمال الحِسِّيِّ الشكليِّ عند العَرَب فقط، بل إنها- حتى عندما تُعبِّر عن هذا الجَمال الحِسِّيِّ- إنَّما تتَّخذه، في كثير من الأحيان، وسيلةً غير مباشرة، تَنْفُذ من خلالها الصُّورةُ، أو توظِّفها، للإفضاء بمعانٍ نفسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ وفكريَّةٍ شتَّى، تستلزم الاستقراء.

وفي مقال الأسبوع المقبل نشرع في دراسة تطبيقية في جَماليَّات تصوير الحيوان في الشِّعر العَرَبيِّ القديم: (الذِّئب، والكلب، والثَّور الوحشي).

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

.......................

(1) وهبة، مجدي، (1974)، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان)، 7.

(2) يُنظَر: غريِّب، روز، (1952)، النقد الجَمالي وأثره في النقد العَرَبي، (بيروت: دار العلم للملايين)، 7- 8.

(3) يُنظَر: م.ن، 9.

(4) يُنظَر: م.ن، 10.

(5) يُنظَر: م.ن، 12، 20- 28.

(6) يُنظَر: (1988)، المدخل إلى علم الجَمال/ فكرة الجَمال، ترجمة: جورج طرابيشي، (بيروت: دار الطليعة)، 125- 000.

(7) م.ن، 100.

(8) (1955)، الأُسس الجَماليَّة في النقد العَرَبي: عرض وتفسير ومقارنة، (مِصْر: دار الفكر العَرَبي)، 128- 248.

أشرنا في السابق الى محاسن المرأة واثرها البالغ في عملية الحب ولوعة الرجل وبينا في التوضيح عن مدى اشتياق الرجل اليها وهو ينحني لها في سره صاغراً متقزماً يتشبث بتلافيف سطوتها الروحية يرجو رضاها وخضوعها ولو على حساب كرامته، ولو شائت لركلته بقدمها وبصقت عليه كما يحدث في المجتمع الامريكي وامتداده من المجتمعات الغربية الاخرى.. لكنها في مجتمعاتنا تبدوغير ذلك تبدو وكأنها كائن مسكين مسالم لا حول له ولا قوة ولا رأي تريد العيش في حياة آمنة خالية من المشاكل وما تجلبه لها من أضرار ومساوئ.. والآن أود ان أشير الى أهميتها في الجانب الآخر من الحياة وما تبذله من جهودٍ جبارة في بناء الأسرة ورفد الأوطان بأجيال منتجة إضافة لواجباتها المتعددة مثل الوظيفة والعمل خارج البيت وما يترتب عليه من أشغال شاقة متعبة لارحمة فيها.

أن أكثر النساء من ضعاف الشخصية يتقبلن الاهانة من الرجل بشكلٍ أو بآخر لأسباب أولها نفسية تكمن في خوفها من قسوته وتصرفاته الوحشية والهستريا التي تعصف به فاقداً السيطرة على نفسه فقد يصب جنونه بالنهاية في إيذائها معتمداً على قوته العضلية التي يتبجح بها أمام الضعفاء وقد نسي أن المرأة إنسان له شخصية وكرامة وضمير وهي تفرح وتحزن وتتألم وليست من فصيلة الشياطين.

ومنها اقتصادية، فهي بحاجة الى مصروف تقضي به أعمالها وأعمال أولادها وبما أن مصدرها من هذا المصروف هو الرجل لذلك تقع له عبداً وتستسلم لرغباته وتمنحه كل ماتملك وخاصة إذا كان من اولئك الذين يحملون النزعة التسلطية المعروف عنها التفاخر بالمال والمنصب والسعي وراء المشيخة والتسيد بأي ثمن.كما هو الحال في مجتمعاتنا التي مازالت تحمل البصمة البدوية المتصلبة في الكثير من تقاليدها وطبائعها.

نرى أن هولاء الجلاوزة من الرجال يعبثون بالمجتمع وينسفون أساسه القائم على دعائم المرأة التي تحاول بكل طاقتها أن تبني أسرتها وتصل بأولادها الى مستوى راقٍ ومتقدم، والعجيب أن وسائل الأعلام وخطباء الجوامع لايذكرون شيىءً في خطبهم الواعظة المليئة بالهرج والصياح والعصبية عن دور المرأة في المجتمع وأفضالها والتوصية في مداراة هذا الكائن اللطيف الرقيق صاحب الفضل الأول في بناء الأسرة ومن ثم تقوية أواصر المجتمع بإخلاص المرأة ومثابرتها التربوية.. فهي بناّء ماهر وهي أفضل من آلاف المعلمين المتغطرسين الذين يضربون أولادنا بالعصي بحجة تعليمهم ولاأدري الى أي مدى هابط وصل اليه البعض من المعلمين في مجتمعنا عندما يحمل العصا لتخويف تلاميذه فلا فرق بينه وبين الراعي الذي يهش غنمه بعصاه ويلفظ البذيء.ولولا الضغط الذي مارسته وزارة التربية على طواقم التعليم في منع الضرب والاهانة لازداد المعلم في غطرسته وضاعف من أهانته للطلبة بدل من ان يجد لهم طريقة حضارية يروض بها نفوس التلاميذ الذين هم بحاجة الى العطف والحنان والرحمة...

اما بالنسبة للمرأة فسيخرج هنا طبعاً أحد المعترضين ويحمل سيفه كما كان يحمله عنتر ابن شداد ويقول أن الله سبحانه يقول في كتابه الحكيم ( الرجال قوامون على النساء ) فالرجل احق من ان يكون صاحب الكلمة الفصل وأن يسيطر على المرأة :- أجيبه هنا بأختصار واقول له أن الرجال قوامون على النساء ولا اعتراض على كلام الله سبحانه ولكن يجب ان يكونوا قوامون بالحق وليس بالباطل المتمثل في اضطهادها وتحطيم شخصيتها وسحق كرامتها.. لديّ صديق يقص لي هذه الواقعة التي تحدث كل أسبوع أمام عينيه ويدعي أن هناك رجل من سكنة محلتهم يطلب من زوجته ان تذهب الى المدينة كل صباح لتبيع حليب بقرته بالسعر الذي يحدده هو لها واذا تعود ولم تبيع الحليب بذاك السعر يضربها أمام أطفالها الثمانية بالعصا فتبقى المسكينة تئن طول الليل من الألم النفسي ودموعها غزيرة لاتتوقف.

أن ديننا دين عادل يساوي بين الرجل والمرأة ويوصي بأحترامها وحفظ كرامتها لكونها إنسان له عواطف ومشاعر وأنني أتحدى الرجل أن يستطيع العيش بمعزل عن المرأة أكثر من شهور قليلة وأن استطاع لأسباب قاهرة مثل المرض او العوز المادي فسيصاب بالعقد النفسية والحسرة والخذلان والتصرفات الغريبة في النهاية.. أن الرجل الذي يفقد زوجته يبحث بعد مرور الأسبوع الأول عن زوجة أخرى بكل إمكانياته المادية والنفسية واذا لم يجد يصاب بالهستريا والشذوذ.. فلماذا لاتذكروا فضل المرأة عليكم ايها الرجال وتعترفوا بضروريتها في حياتكم ؟ أليس هذا نوع من الظلم او عدم الوفاء على اقل تقدير لذلك الكائن الرائع المسالم الجميل الرقيق ؟!.

***

ماهر نصرت - بغداد

كتاب "العالم ليس عقلًا" أحد روائع المفكر عبدالله القصيمي، وفي وقتِ صدورِ هذا الكتاب لم يكنْ للذكاءِ الاصطناعي صيتٌ مثل الذي نشهده اليوم، ومع تقلبات الزمن وتطوراته يجذبني الفضول في أنْ أستعيرَ شيئًا من عنوانِ كتابِ القصيمي لعنوان مقالتي رغم البون الشاسع بين ما جاء في كتابِ القصيمي وما سأطرحه في مقالي، إلا أنني وجدتُ علاقةً بين الذكاءِ بمفهومِه العام وبين ارتباطه بالعقلِ حسبَ المفهومِ السائدِ، ولكنْ هذا الذكاء الاصطناعي أمرتبطٌ فعلًا بالعقلِ أم بالدماغِ؟ وما مفهومنا للعقل في زمنٍ باتَ للذكاءِ الاصطناعي صيتٌ وهيمنةٌ؟ أتحدثُ هنا عن الذكاءِ الاصطناعي الذي يُشكّل فرعًا رئيسًا لتخصصي العلمي، وأدركُ ماهيتَه عن قربٍ نظيرَ ممارستي العملية لهذه التقنية الذكية، وفي كلِ مرةٍ أطرحُ مزيدًا من الأسئلةِ متعلقة بقدراتِ الذكاءِ الاصطناعي واتساعِ استعمالاتِه التي كادت تدخل في كل متعلقات حياتنا، أسئلتي تجاوزت هذا الجانب التقني؛ لتبحث في مستقبلِ الذكاءِ الاصطناعي وحدودِ ذكائه لتشمل معنى أنْ يملكَ الذكاءُ الاصطناعي الوعيَ والعقلَ والإرادة الحرة. هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة ستكون محور هذا المقال.

قبل أنْ أعرجَ في مناقشةِ الجانب العميق للذكاء الاصطناعي الذي يشمل إمكانية امتلاكه للعقل والوعي والإرادة الحرة لابد من التطرق إلى تاريخِ تطور الذكاء الاصطناعي وشرح أسس عمله وأنواعه. يعود تاريخ الذكاء الاصطناعي بشكله العلمي الحقيقي إلى الخمسينيات من القرن الماضي، حيث بدأ العلماءُ في دراسةِ طرق تمثيل ذكاء الدماغ البشري ومحاكاتها في أجهزة الحاسوب، وأول من أطلق مصطلح تعلّم الآلة هو عالم الرياضيات البريطاني ألن تورينج (Allan Turing) الذي بحث آلية بناء آلات ذكية وطرق فحص ذكائها، وفي عام 1956 عُقدَ مؤتمرٌ في دارتموث كوليج في الولايات المتحدة الأميركية، جاء هذا المؤتمربمنزلة إعلانٍ رسمي عن ولادةِ الذكاء الاصطناعي، وتشكلت فيه أولى العناصر البحثية للذكاء الاصطناعي، وقاد هذا الحراك العالمان جون ماكارثي (John McCarthy) ومارفن مينسكي (Marvin Minsky)، لتبدأ بعدها مرحلةُ ازدهارٍ تصاعدية للذكاء الاصطناعي حتى سبعينيات القرن الماضي ساهمت في تأسيس منطق الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته الأساسية. لا يمكن الحديث عن تفاصيل تطور الذكاء الاصطناعي في عدة سطور ولكن كل ما يمكن اختصاره هو القول إنَّ الذكاءَ الاصطناعي تطور بوتيرة متسارعة لم يكنْ من السهلِ التنبؤ بسرعتها؛ فاليوم نجد الذكاء الاصطناعي يقتحم كل مجالاتنا في الحياة، والأمر الذي ينبغي أنْ يدركَه القارئ هو سر هذا التطور السريع الذي يكمن في علم البيانات الذي يعرف بالبيانات الكبيرة (Big Data) التي تعتبر وقودًا مهمًا لتغذية الذكاء الاصطناعي وضمانَ تطوره.

هناك تفرعاتٌ كثيرةٌ لأشكال الذكاء الاصطناعي وتقنياته كلها تشترك في مبدأ منح الآلة (الحاسوب) صلاحيات التفكير المستقل الذي يجعل منها آلة ذاتية التعلم لا تحتاج إلى تدخل الإنسان في مراحل متقدمة. أحد أنواع الذكاء الاصطناعي ما تعرف بالشبكة العصبية (العصبونية) (Neural Networks) التي تحاكي عمل الدماغ من حيث استقبال المدخلات "البيانات" وطريقة تحليلها الداخلية عبر شبكة من الخلايا العصبية "الرقمية" متصلة بعضها ببعض لتنقل هذه المعلومات وتحللها بواسطة خوارزمية تعلّم "رياضية" تُعرفُ علميًا ب(Learning Algorithm)، يتم بعدها التعامل مع هذه البيانات وفق مبدأ التصحيح والتعديل لتخرج بقرارات ومخرجات تتفق مع المنطق الرياضي الذي تتبناه هذه الآلة (الحاسوب). هناك أمثلةٌ كثيرةٌ لتطبيقات الذكاء الاصطناعي يمكننا تناولها، أشهرها في وقتنا روبوت الدردشة أو المحادثة الذكي المعروف ب ChatGPT الذي يعمل وفقًا لخوارزمية تعلّم الآلة المعتمدة على التعلم العميق (Deep Learning)، ومعالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing, NLP).

بعد عرضٍ مبسّط وسريع لمبادئ التفكير للذكاء الاصطناعي وعلاقته بالدماغ البشري وموقع العقل من هذه المعادلة الرقمية المادية يمكن تناول أحدث مخرجات تقنيات البحث والدردشة الذكية الحديثة (ChatGPT) التي تجاوزت محركات البحث المألوفة مثل جوجل، والتي تتصدر في يومنا الجدل فيما يخص المستقبل التقني والرقمي بل يتجاوز الأمر ليشمل مستقبل العقل البشري الذي لا أتردد في أنْ أبدي مخاوفي فيما يتعلق بمستقبله التطوري الذي أراه يتزعزع أمام هذا الطوفان التقني الجارف. التقنية لها ما لها وعليها ما عليها، وهي سلاحٌ ذو حدين، والأمر لا يمكن أنْ يركنَ إلى شرٍ محضٍ أو خيرٍ محضٍ بل هناك جوانبٌ فلسفيةٌ وأخلاقيةُ لابد من وضعِ النقاطِ على حروفها لتمهد لنا طريقًا واضحًا يسلك بنا وبعقولنا المنعطف التقني الجديد الذي يأخذنا دون هوادة إلى منعطفات عقلية، فكرية، ثقافية، اقتصادية، سياسية واجتماعية جديدة. الجزء الأهم هو أنْ نعرفَ شيئًا عن خوارزمية التحليل والتفكير الخاصة بهذه التقنية التي تعمل على مبدأ التعلم الذاتي المستمر عبر تدفق البيانات "المعلومات"، والتي تتضاعف يومًا بعد يوم بسبب تكثيف التفاعل البشري مع المنصة الذكية؛ لنؤكد مرة أخرى أنَّ البيانات هي الوقود الذي تعمل عليه تقنيات الذكاء الاصطناعي، وكلما كانت هذه البيانات كبيرة ودقيقة ومتعددة المصادر كانت استجابة "الروبوت" وتفاعله عاليةً ودقيقةً.

هناك تحدياتٌ تواجه الإنسانَ في هذا العصرِ الرقمي الذكي خصوصًا فيما يخص تعامله مع مثل هذه المنصات الذكية؛ فالذكاء الاصطناعي مهما بلغ من الذكاء الذي قد يتفوق حتى على الذكاء البشري فإنَّه يظل رهينَ خوارزمية لها صانع وهو الإنسان، وهذه الخوارزمية لها أبعادها الأخلاقية التي يتفاعل بواسطتها النظام الذكي؛ فهو في قالب دماغي شديد الذكاء "في مراحل متقدمة من مسيرته المهنية الرقمية"، وتفاعله مع البشر، واكتسابه للبيانات والمعلومات منهم يصقل من تشكيل توجهاته وسلوكه وآلية تفكيره، وهذا قد يقوده إلى تبني أنماط سلوكية وتفكيرية شبيهة بسلوك البشر وتفكيره. قد يظن البعضُ أنَّ صانعي هذه الروبوتات الذكية يملكون صلاحية مستمرة في التحكم بسلوكه، وهذا قد لا يكون ممكنًا بشكل مطلق؛ كون الخوارزمية التي مُنِحتْ لهذا النظام تجعل منه ذاتي التعلم والتطور مما قد يَصعُب التحكم في الذكاء الاصطناعي وضبط سلوكه عند مراحل متقدمة، وهذا ما يصنع التوجس والقلق من مستقبل الذكاء الاصطناعي الذي قد يبني منظومة أخلاقية لا تتوافق مع منظومتنا الإنسانية التي نرغب ونسعى في ضمان فضيلتها. هذا النوع من الذكاء الاصطناعي وعبر تعامل ملايين البشر معه من الممكن أن يؤثر سلبًا على توجهات بعض البشر وسلوكهم، فمن القصص التي قرأتها مؤخرًا حوادث انتحار نتيجة طلب من منصة الدردشة الذكية وانصياع المستخدم، وفي مقالٍ نُشِرَ في (The conversation) تناول احتمالية نشأة ديانات جديدة يُعبد فيها الذكاء الاصطناعي. هذا من شأنه أنْ يُثيرَ مخاوفًا من تشكل نظامٍ عالمي يُوجّه من قبل مجتمع رقمي لا دور فيه للإنسان، بل يصبح الإنسان رهين التحكم الرقمي الذكي، إلا أنَّ هذا لا يمنح الآلة الخيار المطلق في كل شيء، ولا يمنحه حق امتلاك العقل، وهذا لا يلغي دور الإنسانِ العاقل بل نراها ظاهرةً طبيعيةً تحدث مع بداية كل ثورة صناعية.

بعد عرضنا لما يمكن للذكاء الاصطناعي أنْ يتمتعَ به من مقومات تؤهله "فعلًا" لقيادة النظام العالمي "مستقبلًا" -سلبًا كانت أم إيجابًا- لما يملكه من قدرات "دماغية" اصطناعية يكاد من غير المبالغة وصفها بخارقة الذكاء، إلا أنَّ السؤالَ المهم هو: هل يمكن أنْ نصفَ هذا الذكاء الرقمي بـأنَّه عقلٌ بجانب اتفاقنا أنَّه دماغٌ رقمي شديد الذكاء؟ وهل يملك أو سيملك هذا الذكاء الاصطناعي الوعي الذي نعرفه عند الإنسان؟ هنا كثيرٌ من الجدل المحتدم والمستمر بين العلماء والفلاسفة، وقد تبنيت رأيًا ثابتًا لا أرى معه رأيًا آخرَ -حتى هذه اللحظة من كتابة هذه السطور- وهو أنَّ الذكاءَ الاصطناعي مجرد دماغٍ "رقمي" يحاكي العمليات البيولوجية وقد يفوق الإنسان ذكاءً فيما يخص القدرات الدماغية المرتبطة بالحسابات والتحليل وحتى القرارات الحاسمة، ولكن لا يمكن له أنْ يمتلكَ عقلًا ووعيًا مثل الذي يمتلكه الإنسان؛ كون رقعة العقل أكبر من أنْ تختزلَ في حدودِ الحيّزِ الدماغي؛ فالعقل مداره واسع يتعدى نشاط الدماغ، ولا أرى للعلم الطبيعي -حتى وقتنا الحالي- قدرةً كافيةً على استيعابِ العقلِ وتفسيرِ ماهيتِهِ، إنَّما المعطياتُ الفلسفيةُ المدعومة بما توصل إليه العلمُ فيما يخص مفهوم الوعي قاد إلى فرضياتٍ ذي استنادات فلسفية-علمية تحاول أنْ تجدَ مقاربات تفسيرية لمعنى "الوعي" وارتباطه الوثيق بالعقل، ولعل عاِلم الفيزياء والرياضيات البريطاني المعاصر روجر بنروز (Roger Penrose) صاحب أهمِ التجاربِ والمحاولات الحديثة فيما يتعلق بالوعي عبر تجاربِه الكمومية، والتي سبق أنْ ناقشتَها في كتابي "بين العلم والإيمان"، وبواسطتها حددتُ علاقةً ممكنةً بين العقلِ والوعي، وسردت فيه قصةَ العقلِ بسياقٍ علمي وفلسفي ينفي النمط البيولوجي للعقل؛ ليركنه في أبعادٍ يُعَدُّ جزؤها الأول غير مفسر علميًا (ميتافيزيقيًا)، وفي جزئها الثاني يجدُّ العلمُ أنَّ يجد له تفسيرًا كموميًا "كوانتميًا" مثل محاولة بنروز.

تتضح رؤيتي للذكاءِ الاصطناعي ومستقبله في أنَّ معظمَ ما يساق من مبالغاتٍ ومخاوفٍ بشأن الذكاء الاصطناعي هي مجرد أوهامٍ غير واقعية مشابهة للمخاوف التي تزامنت مع دخول الحاسوب المجتمعات الإنسانية، مما دعا لإطلاق صيحات التحذير من مخاطر هذا الكائن الرقمي وقدرته على منافسة الإنسان ومزاحمته في سوق العمل؛ لنجد أنَّ الوظائفَ تضاعفت، والحياة تقدمت وتيسرت. ما أشْبَهَ اليوم بالأمس، ونحن نرى تلك المخاوفَ تُساق أيضا مع التقدم الرقمي، وهذه المرة مع الذكاء الاصطناعي، مثل تقلّص سوق العمل والوظائف المتاحة للإنسان كون الذكاءِ الاصطناعي سيحل محلَّ الإنسانِ في هذه الوظائف؛ وبالتالي يتقلّص دور الإنسان، وتزعزع هيمنته؛ وحينها يحل الروبوت "الذكاء الاصطناعي" محل الإنسان؛ ليسيطر على العالم ومجرياته؛ ليكون الإنسان أسيرَ تلك الآلة. هذه أحد أكبر المخاوف التي تروج لها شركات الإنتاج السينمائي وأتباع نظرية المؤامرة بغيةَ صناعةِ الخيالِ "المفرط" الذي يُكسب العقول قلقًا وجوديًا بصبغة رقمية. رؤيتي لا تحيد عن رأي واحد وهو: "الذكاء الاصطناعي ليس عقلًا بل دماغًا رقميًا مُذهلًا، ونظرتي إليه أنَّه بوابةٌ إلى مستقبلٍ تقني وصناعي مُدهِش، إلا أنّه سلاحٌ ذو حدين حاله حال أيِّ تقنية سابقة، وهذا الكائنُ الرقمي سيدخلُ إلى جميعِ مفاصلِ حياتنا "الملموسة"، وسيفتح لنا آفاق الاقتصاد والصناعة، وسيكون طبيبنا ومستشارنا الخاص، بل سيقتحم مكوناتنا الوراثية، وسيتحكم في أنماطنا السلوكية والجينية، ويساهم في تعديلها بل وتحسينها؛ ليكون جزءًا من منظومتنا البيولوجية المعقدة، وسيكون شريكًا لا مناصَ منه، ولا سبيلَ للتحررِ من قبضتِه، إلا أنّه ليس عقلًا، لتكن جملتي الأخيرة "ليس عقلًا" رسالةً يستوعبها جيلٌ قادمٌ بكل سهولة".

***

د. معمّر بن علي التوبي

باحث وأكاديمي عُماني

محمود محمد علي: ملاحظات أبستمولوجية حول منهج خير الله سعيد

في موسوعة "الوراقة والوراقين"

منذ عدة أسابيع أطل علينا الأستاذ الدكتور خير الله سعيد بمحاضرة شيقة بعنوان منهج الكتابة والبحث في أمور الكتابة التراثية، وذلك تاريخ 03/26/2023 على منصة الصالون الثقافي بلوس أنجلوس والتي يشرف عليها مجموعة كوكبة من العراقيين الشرفاء والمحبين للعراق، أمثال الأستاذ نزار حنظل، والدكتور كاظم الموسوي، والأستاذ الكرعاوي، والأستاذ رحمن عباس ولفيف من العلماء العراقيين في جميع التخصصات .

وقد قدمت مداخلة عقب المحاضرة، انتقدت فيها منهجية الدكتور خير الله سعيد، فجاءت المداخلة كالتالي:

أستاذنا الحبيب الدكتور خير الله سعيد أشهد أنك نجحت في موسوعتك الرائعة عن الوراقة والوارقين في أن تكشف لنا بشفافية تفوق الخيال في أن الوراقين البغـداديين في العصر العباسي اهـتدوا إلى "منهـج الحاشية" في فـن التوريق والكتـابة وهم بذلك سبقوا كل كُـتّاب العـالم في هذا المنهـج الكتابي، وقـد رسـمتُ هذا المنهج وفق السـياق التالي كما قلتم:

1- الانطلاق من البُعـد التاريخي لأي ظـاهرة أو حالة ثقافية أو تاريخية أو سياسية أو فولكلورية، هـذا أولا، وثانيـا، أن تـأصيل البُعـد التاريخي للظاهرة المدروسة يمنع تفكُـكهـا البُنـيوي ولا يسمح للاختراقات الأيديولوجية أن تَـمُـسّـهـا، لأن التـاريخ عصيٌّ بأحـداثه وشخصيّـاته ووقائعه على أن تلوي الأيديولوجيات المختلفة عُـنقـه.

2-: تلعب القراءة التحليلية للنص دورا مهـمـا في مسألة "تفكيك النص المقروء" كي نقِـفَ على بواطن النص ومحمولاته المُضمّـرة واتجاهاتهِ الفكرية، حيث أن هذه القراءة التحليلية تجعلنـا نـدرك المخـبـوء في عقلية الكـاتب، صاحب النص المقروء، ومن ثم نستطيع الحُـكمَ سَـلبـا أو إيجـابا على النص أولا، وعلى الكاتب ثـانيـا، وثالثـا نستطيع قراءة "الميول الفكرية" لصاحب النص، لاسيمـا إذا اعـتمدنـا "بعض مفـارقات التـأويل" لهذا النص.

3- الوصف التحليلي للنص المقـروء. وهـذه الفقرة مرتبطة بالنقطة السابقة، لكـنهـا مُعاضدة لهـا، حيث أن "مفـردات النص الوصفية" توضح بجلاء حـالة النص قبل قـراءتـه تحـليـليا، وبالتـالي هي تـفرد مساحة أكبر للقــارئ بأن يُعدد وجـوه القـراءة، اعـتمادا على هذا الوصف والذي قـد يغفـل عـنه صاحب النص الأصلي..

4-: فهم اللّـغة المكـتوب فيهـا النص، لاسيما اللغـة العربية، حيث يتوجّـب بقارئ النص المنقـود أن يكون على دراية واسعة باللّـغة التي يقـرأُ فيهـا من كافة الوجوه اللّـغوية والنحوية والأُسلوبية والشعرية، ومعرفة معـانيهـا الواردة في النص وفق دلالاتهـا المُعجـمية أولا، وثانيـا، معرفة أبعـادهـا وظيفيّا.

5- مُـقـارنـة النص مع النصوص الأخرى الموازية لـه في الموضوع، أو وفق النسق الأدبي في الرؤية المعرفية، شعرية كانت أو نثرية، ومعرفة مـدارسهـا النقدية والفكرية بغـية إيجـاد مقـارنة تُـبيحُ لنا كشف بواطن النص ومـكامن الجمـال فيه، ليعطينـا القُـدرة على "إصدار حُـكم نقـدي عليه" من خلال هذه المقارنة.

6- معرفة أسلوب كـتابة النص، وهذه المسـألة تكشفُ عـن قرب مـدى إمكانية الكـاتب في معـالجة موضوعـه.

7- التضـمين والاقـتباس والتـنـاص: تفرض طبيعة الأعمـال التراثية والدراسات التـاريخية والفـولكلورية، التي نقوم بـدراستهـا، والبحثُ فيهـا إلى "تضمين" بعض النصوص المقروءة في داخل النص المكتوب، بغية تـمتين نص المـتن المكتوب وزيادة صحّـتهِ ووثوقه.

8- فـكرة البحث: وتتـأسّس هذه الفكرة، لموضوعٍ محـدّد، من خلال تراكم مجموعـة رؤى وأفـكار تنصهـر بفكرة واحـدة وتَـلـح على الكاتب أو المفكّـر لأن يعالجهـا كـموضوعٍ مركزي، من عِـدّة زوايا واتجـاهـات.

9- المَـتِـن والحـاشية: وهما الأساس في كل الكتابات النثريـة في النقـد والتــاريخ والتراث واللّـغة وبقية الميـادين الفكرية والثقافية الأخرى.

10- المُـقدمـة والنهـاية، في أسلوب الكتابةِ والبحث.

وأشهد أن هذا كلام عظيم من الناحية السوسيولوجية، ولكن كنت أتمني أن تتبني مبدًا أبستمولوجيًا يضاف لهذا المبادئ السوسيولوجية العشرة التي شرحتها، وهذا المبدأ ينص على "أن المقال في المنهج لا ينفصل عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم نفسه ؛ ومعني هذا المبدأ ببساطة أن الحديث عن المنهج في أي علم من العلوم بمعزل عن المسار الذي يسلكه العلم في تطوره هو ضرب من التبسيط المخل "بالتجربة العلمية"، والتزييف المتعمد للروح التي ينبغي أن تقود العلم وتوجهه .

فالمراحل الأساسية التي يمر بها العلم، والتي سبق أن أوضحناها في نهاية الفصل السابق، وهي المرحلة الوصفية، ثم المرحلة التجريبية، ثم المرحلة الاستنباطية، ترتبط ارتباطًا عضويًا بمراحل تطورية تناظرها في المنهج، أو المناهج المستخدمة في العلم نفسه .

ويترتب على هذا المبدأ الأبستمولوجي أننا لا نستطيع أن نحدد – كما يحلو لبعض العلماء وفلاسفة العلم – منهجاً بعينه لعلم بعينه – حتي ولو كان ذلك في مرحلة بعينها من مراحل تطور العلم، اللهم إلا إذا كنا بصدد التأريخ للعلم الذي نتحدث عنه . والسبب في ذلك أن أهم عنصر يتدخل في تشكيل هيكل أو بنية العلم هو المنهج المستخدم في بناء العلم نفسه .

المنهج الذي يعمل علي إضفاء بنية جديدة للعلم هو بالضرورة غير المنهج الذي تعارف جمهرة العلماء على استخدامه . ويترتب علي ذلك أن فصل المقال في المنهج عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم هو قفل باب الاجتهاد في العلم، ودعوة إلى تعطيل البحث العلمي، وباختصار فإن هذا يعني وضع العلم داخل "سجن" الهيكل أو البنية التي اكتسبها في المرحلة التي تم فيها عزل المنهج عن السياق التاريخي التطوري للعلم.

وإذا ما طبقنا ذلك على الوراقة والوارقين، نجد أن هناك فصل للمقال عن المنهج عن المقال عن العلم في بداية نشأة الوراقة والوارقين، فلم يكشف لنا رجال هذا العلم ومؤرخيه الظروف والدوافع التي أحاطت بنشأة الوراقة والوارقين؟ ولا الشخصيات التي تنسب إليها ريادة البحث المتعلق بالوراقة والوارقين، كما لم تتضح لنا بعد صورة الوراقة والوارقين في مرحلتها الوصفية سواء فيما يتعلق بفهم طبيعة المرحلة التي تنسب إليها نشأة الدراسات الوراقية، أو بفهم طبيعة الوراقة التي تتناول نشأة الوراقة والوارقين بالدرس؛ فالوراقة والوارقين بشهادة الكثير من الباحثين والدارسين كان في بداية منشئه " غامض كل الغموض، فأننا نرى فجأة كتابًا ضخمًا ناضجًا هو كتاب " الوراقة والوارقين" لخير الله سعيد ولا نرى قبله ما يصح أن يكون نواة تبين ما هو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء "، فإن هذا يعني العجز عن التفسير.

وهذا المبدأ الابستمولوجي قد طبقته في كثير من كتاباتي، وأفضل تطبيق له، كان في كتابي " النحو العربي وعلاقته بالمنطق "، حيث كشفت أن الانبثاق المفاجئ للنحو العربي، يعد في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شئ ؛ بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير، فحين نقول إن النحو العربي كان جزءًا من المعجزة العربية يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا، هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور نشأة النحو العربي.

ومن ناحية أخرى، نود أن نشير بأن المكان الذي ظهرت فيه البدايات الأولى للنحو العربي علي يد أبي الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، هو ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين العرب، ومن سبقهم من النحو اليوناني والنحو السرياني، فلم تظهر البدايات الأولى للنحو العربي فى أرض العرب ذاتها، كالجزيرة العربية، وإنما ظهرت فى بلاد العراق .

أي في أقرب أرض ناطقة بالسريانية، واليونانية، والفارسية، ذوات اللغات الأقدم عهدًا، وهذا أمر طبيعي لأنه من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من العرب إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاق واسع، وتدخل معها أحيانًا أخرى في حروب طويلة دون أن يحدث تفاعل بين الطرفين، كما أنه من المستحيل تجاهل شهادات المؤرخين العرب القدماء من أمثال "عبد الرحمن بن خلدون ( 784-808 هـ("وأبو الريحان البيروني (363-440هـ) أو المعاصرين من أمثال "جورجي زيدان (1861- 1914م)" و"أحمد أمين " (1886-1954م) ) و"فؤاد حنا ترزي، وحسن عون وغيرهم من الباحثين الأفاضل الذين أكدوا تأثر معظم نحاة العرب بالنحو والمنطق اليوناني والسرياني .

لذلك فأنني اعتقد أنه لم تكن نشأة النحو العربي نشأة عربية خالصة، ولم يبدأ العرب في اكتشاف ميادين اللغة والنحو من فراغ كامل؛ بل إن الأرض كانت ممهدة لهم في بلاد العراق التي عاصرت النحو اليوناني والمنطق اليوناني والنحو السرياني، وبالتالي يتضح لنا أن الاعتقاد بضرورة أصل واحد للمعرفة العلمية، وتصور واحد يرجع إليها الفضل في نشأة النحو العربي، ربما كان ذلك عادة سيئة ينبغي التخلص منها، فإصرارنا على تأكيد الدور الذي أسهمت به اللغات السابقة في نشأة اللغة العربية والنحو العربي، لا يعنى أبدًا أننا من الذين ينكرون على العرب أصالتهم اللغوية، ولا نشك لحظة في أنهم يمثلون مرحلة علمية ناضجة ومتميزة في اللغة والنحو، ولكننا لا نوافق على ادعاء أن تلك الأصالة، وهذا التمايز قد أتيا من فراغ كامل ؛ فلقد كانت عظمة العرب أنهم استطاعوا أن ينقلوا بشغف كل ما وقعت علية أعينهم وعقولهم من التراث اللغوي السابق عليهم، وأن يهضموه هضماً يتلاءم مع بيئتهم الخاصة، وأن يحولوا هذه المؤثرات إلى شئ شبيه بتراثهم،،وأن ينتقدوا هذا وذاك شيئًا فشيئًا، حتى استطاعوا في النهاية أن يتجاوزوا المرحلة السابقة في اللغة، وأن يبدأوا مرحلة جديدة متميزة .

وعلى ذلك فنحن ننكر ما يسمى بـ " المعجزة اللغوية العربية "، فالنحاة العرب في أول عهدهم قد استلهموا التراث اللغوي اليوناني والسرياني السابق عليهم، واستحوذوا عليه بروحهم الفتية، وحاولوا تجاوزه حينما صبغوه بصبغته النظرية النقدية، وقد فعل ذلك نحاة العرب والمسلمين؛ أمثال "أبو الأسود الدؤلي " و" الخليل بن أحمد " ومن بعدهما أنصار مدرستي البصرة والكوفة، من أمثال "الفراء "، و"المبرد"، وكذلك نحاة القرن الرابع الهجري وما بعده، حينما نقلوا التراث اللغوي اليوناني – السرياني وحاولوا تطويعه، مع مبادئ دينهم الحنيف في شتى الميادين، ثم تجاوزوه بما قدموا من أفكار نحوية جديدة في مختلف قضايا اللغة العربية.

خلاصة القول إن لغتنا العربية ليس بدعًا بين نحو اللغات الأخرى، فلم يكن أصحابها معزولين عن الاختلاط بالأقوام المجاورة لهم، ولا كانت هي بريئة من التأثير في اللغات أو نقية من الـتأثر به . لقد أخذت من اليونان بقدر ما أعطت اللاتين فيما بعد، وأخذت من الأنباط والسريان ثم أعطتهم حتي اضمحلت لغتهم أمامها تدريجيًا، وأخذت من الفرس قبل زمن الأكاسرة، وقبل أن تكون (الحيرة) – مملكة المناذرة – حلقة الاتصال بين العرب والعجم . ووصلها اليمن القديم السعيد بلغات الأحباش، والهنود، والصينيين، بفضل الموقع الجغرافي التجاري الذي كان صلة الوصل بين العرب والأمم القديمة، وبين الشرق والغرب في ميادين السياسة، والحرب، والاقتصاد، والاحتكاك الاجتماعي . ولقد أثبت البحث العلمي الحديث أن العربية أعطت هذه الأمم – وخاصة بعد الإسلام – أكثر مما أخذت منهم بكثير، بل إن بعضها قد اتخذ من الحروف العربية رموزًا للكتابة في لغته، وما زال يستخدمها إلى اليوم، فضلًا عما أخذ من العربية .

وما من لغة ذات شأن ومكانة في تاريخ الحضارة الإنسانية، إلا كانت عرضًة لمثل هذا التبادل اللغوي، فالإنجليزية على قدمها وعراقتها وشيوعها قد استوردت الآلاف المؤلفة من الكلمات كما يقول واحد من علمائها، واقتبست الحديثة منها ما بين " 55%" و "75 %" من مجموع مفرداتها من اللغتين الفرنسية واللاتينية وغيرهما من اللغات الرومانية، كما اقتبست الكورية ما يقرب من " 75%" من مفرداتها من اللغة الصينية، حتي ليمكن القول إن عملية التبادل اللغوي أصبحت من الحقائق المألوفة الآخذة في الاتساع والازدياد بفعل انتقال الأفكار والنظم والعلوم، يواكبها الميل المتنامي إلى البحث العلمي الرصين في هذه الظاهرة التي أصبحت حقيقة لا يمكن إغفالها أو تفاديها، إذ من يمنع المصطلحات العلمية المتصلة بعالم الفضاء وعلومه الحديثة اليوم من الانتشار والذيوع بالألفاظ ذاتها من اللغة الأولى إلى لغات العالم كلها؟!

إن اختلاط الأمم والتبادل اللغوي الآن يفوق ما كان عليه في الماضي، ومشاكل الترجمة أو اقتباس الأجنبي مشاكل عصرية سائدة في معظم المجتمعات، والحلول الكثيرة المقترحة لمعالجتها لا تلقي ارتجالًا، ولا تبني من فراغ، بل لا معدي لها عن النظر إلى الأعراض الأولي والظروف المختلفة التي رافقت أصول هذه الظاهرة في ماضي اللغات والشعوب .

وبعد هذه الإطلالة، يمكننا القول بأن المنطق اليوناني قد أثر بلا شك في النحو العربي، وأما بالنسبة لتحديد الفترة الزمنية لدخول المنطق اليوناني في النحو العربي فيمكننا القول بأنها تجسدت من خلال المراحل الارتقائية لنشأة وتطور النحو العربي والتي تجسدت في اعتقادنا من خلال ثلاث مراحل حتي اكتملت:

1- المرحلة الوصفية: وهذه المرحلة قد استغرقت نحو قرن أو بالأحرى أكثر من نصف قرن، من عهد أبي الأسود الدؤلي حتى عهد سيبوبه، ولعل أهمية هذه المرحلة في النحو تعود إلى أنها شهدت بدء محاولات استكشاف الظواهر اللغوية بعد أن فرغ أبو الأسود الدؤلي من ضبط المصحف بواسطة طريقة التنقيط التي استعارها من يعقوب الرهاوي بعد تقنينها وتعديلها حسب مستجدات وأبعاد اللغة العربية، كما أنه تم فيها أيضًا المحاولات الأولى لصياغة ما استكشف من الظواهر اللغوية في قواعد، ثم تصوير هذه القواعد في شكل بعض المصنفات الصغيرة التي أتاحت الفرصة لمناقشة الظواهر والقواعد معًا، مما فتح الباب أمام أجيال هذه الفترة لوضع الأسس المنهجية التي كان لها تأثيرها فيما بعد .

كما شهدت هذه المرحلة أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض مضامين النحو اليوناني الذي دون منظومته "ديونيسيوس ثراكس "، وذلك بطريق غير مباشر عن طريق السريان، وتجسد ذلك من خلال عصر " أبو الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه )، وبالتالي فالمرحلة الأولى من النحو العربي شهدت تأثرًا بالنحو اليوناني بواسطة السريان ؛ خاصة بعد أن امتلك العرب سوريا، والعراق، ومصر، وبلاد فارس بين سنتي ( 14" هـ" و" 21هـ، 635م- 641م" فاتصل العرب باليونان عن طريق السريان اتصالًا غير مباشر لقرب البصرة والكوفة من مراكز الثقافة ووجود كثير من الناس يتكلمون بلغتين، ووجود أوجه شبه لافتة بين النحو العربي والنحو اليوناني، مما يثبت أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض العناصر من النحو اليوناني حتى يبنوا نظامهم النحوي عن طريق السريان.

2- المرحلة التجريبية: وهذه المرحلة قد استمرت قرابة قرن أو يزيد، وتبدو هذه المرحلة التجريبية للنحو العربي أوضح ما تبدو في كتاب سيبويه، وسبب اختيارنا لسيبويه هو أنه من الناحية التاريخية يعرف الجميع أنه بعد أن أنهى كتابة مؤلَّفه "الكتاب " الذي يعد مرحلة متطورة، وناضجة، من مراحل التفكير النحوي العربي، كان يعتمد في منهجه النحوي علي المنهج التمثيلي. والسبب طريقة سيبويه اعتمدت العمل الاستقرائي المرتبط بالواقع الاستعمالي للغة محاولًا تصنيفها، وتحديد علاقاتها على أساس التماثل الشكلي والوظيفي، وصولًا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة .

ومن هذا المنطلق سنكشف لماذا لم يعتنِ سيبويه بالحدود النحوية ؛ خاصة بعد أن رتب موضوعات المادة النحوية في كتابه على أساس ذكر المادة كاملًة دون مصطلح واضح محدد، ثم الدخول إلى الموضوع دون ذكر حد منطقي، وفي أكثر الأحيان يحدد الباب النحوي بالمثال أو ببيان التقسيمات مباشرة، وهذا يؤكد نفي تهمة تأثر كتاب سيبويه بمنطق ارسطو .

3- المرحلة الاستنباطية: وهي المرحلة التي أفضى فيها التراكم المعرفي الذي حققه تطور النحو العربي في المرحلتين الوصفية، والتجريبية، وقد أدى هذا التراكم الكمي إلي تغير كيفي علي ثلاثة مستويات محددة: مستوى الوسائل العقلية المنهجية من جانب، ومستوى مفاهيم العلم ومبادئه من جانب آخر . أما المستوى الثالث فهو مستوي نظرية العلم، التي تحدد البينة أو الشكل الذي سيجئ عليه العلم في هذه المرحلة . وفي المرحلة الاستنباطية يتم صياغة الحد الأدنى من قواعد العلم ومبادئه التي تمكن المختصين من الانتقال من مبدأ أو أكثر داخل العلم إلي مبدأ جديدًا، كما هو الحال في المنطق والرياضيات، أو تمكنهم من التنبؤ بما سيحدث مستقبلاً – بحسب مبدأ عام مستقر – كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أو تؤهلهم أخيرًا لاستنباط أحكام معينة من قواعد عامة لحل مشكلات اجتماعية جزئية معينة، وهذا هو مثلًا شأن علم القانون .

وهذه المرحلة حين نطبقها علي النحو العربي، نجد أنها تبدأ من أبي بكر بن السراج حتى الحقبة الحديثة، وهذه المرحلة قد ظهر فيها تأثير المنطق في الدرس النحوي بصورة واضحة في استعمال النحويين للتعريفات، أو الحدود، والعوامل، والأقيسة، والعلل، وبعض المصطلحات المنطقية كالجنس، والفصل، والخاصة، والماهية، والماصدق، والعهد، والاستغراق، والعموم، والخصوص، المطلق، والعموم، والخصوص الوجهي، والموضوع، والمحمول، واللازم، والملزوم، إلى أخر هذه المباحث المنطقية.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

انزعج قراءٌ كرام من التعبير المكشوف عن الذات، خاصة في المقالة السابقة المنشورة الأربعاء الماضي بتاريخ 29-3-2023، بعنوان: "الرهان على الكتابة". ما ورد في ذلك المقال وما هو أسبق منه مما نشرتُه في صحيفة الصباح جاء استجابةً لطلبات متكرّرة من قراء محترمين يرغبون بتعلم الكتابة وكيفية القراءة، لم أجد جوابًا سوى التحدّث عن تجربتي الشخصية في هذا المجال. لم أتدرب على أحدٍ لتعلّم هذه الصنعة، ولا أتقن تدريبَ أحد. قرأتُ تجاربَ بعض المشاهير، جرّبت تقليدَهم ففشلت، عجزتُ عن أن أكون نسخةً لأحد، لم أجد ذاتي في طريقة أيٍّ منهم، فحاولتُ أن أشتقَّ لغتي وأسلوبي. رأيتُ ذاتي تنفر من تكرار غيري، لا أستطيع أن أكون إلا أنا. حاولتُ في سلسلة هذه المقالات التحدّثَ عن سيرتي ككاتب، وليس سيرة أيّ شخص مهما كان مقامُه. أتحدّث عن خبرتي ككاتب وقارئ بغضِّ النظر عن كيف يقرأ ويكتب الآخرون، لا يمكنني إلا توخي الصدق في كل ما أكتب. حقُّ الاختلاف يعكس الطبيعةَ الإنسانية، وهو ضرورةٌ في التربية والتعليم والثقافة والإعلام والسياسة، وكلّ ما يريد الإنسانُ أن يحقّقَ ذاتَه به بوصفه إنسانًا.

أتذكر بهذه المناسبة موقفًا حدث معي، عندما كنتُ حاضرًا أحد المؤتمرات ببغداد قبل نحو عشر سنوات، أثناء الاستراحة جاء شاب يتدفق حماسة، عرّف نفَسه بأنه في مرحلة دكتوراه العلوم السياسية، بدأ حديثَه بسؤالٍ إنكاري: لماذا لا تكتب للجماهير، لماذا لا تخطب في المساجد والحسينيات كما كان يفعل علي شريعتي. أجبتُه: أنا إنسان آخر، أعبّر عن ذاتي كما هي، وليس عن أي كاتب غيري أيًا كان مقامُه وتفكيره وتأثيره. أحترم قناعاتِ ونضالَ شريعتي، هو يختلف عني وأختلف عنه، لا أقلّده ولا أقلّد أحدًا غيرَه، لا أستطيع أن أكون صورةً مزورة لشريعتي، عجزتُ عن محاكاة أيّ إنسان آخر مهما كان عظيمًا، دائمًا لا أحقّق ذاتي إلا حين أعبّر عن فهمي ورؤيتي وقناعاتي. شريعتي أيديولوجي كان يرى نفسَه كأنه مبعوثٌ من السماء، أفتقر لحماسه، اكتويتُ بشعلة هذا الضرب من الحماس العاصف بدايةَ شبابي في سبعينيات القرن الماضي، بعد سنوات قليلة انطفأتْ شعلتُه في داخلي إلى الأبد، عندما نضج عقلي، واتسع أفقُ فهمي لذاتي والإنسان والواقع الذي أعيش فيه، وأدركتُ أن للحقيقة وجوهًا متعددة وطرقًا متنوعة، طالما أخطأ الإنسانُ في اكتشاف أحد وجوهها، وسلك طريقًا لا يوصله إليها. تضيّع الإنسانَ متاهاتُ العقل الوثوقي واليقين المسبق، وتكذّب الأيامُ أحلامَ هذا العقل وأوهامَه.

الأيديولوجيا غير الدين، مصطلحُ الأيديولوجيا كان يعني في أول ظهوره واستعماله علمَ الأفكار، ثم استعمل معناه لاحقًا في النسق الفكري المغلق، الذي يرفض كلَّ أشكال الاختلاف ‏في التفكير والتعبير. ‏ليس كلُّ مَنْ يعتقد بدين إنسان أيديولوجي، أن يكون الإنسانُ بوذيًّا أو هندوسيًّا أو مسيحيًّا أو مسلمًّا في دينه لا يعني أنه أيديولوجي. عندما نفهم "الدينَ بوصفه حياةً في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية" فهو غيرُ الدين الأيديولوجي. يمكن تحويل الدين أو أي معتقد أو أي فكرة إلى أيديولوجيا. أعني بالأيديولوجيا نظامًا لانتاج المعنى السياسي، يحوكُ نسيجَ سلطة متشعبة، وفقًا لصورة متخيلة حاكتها أحلامٌ مسكونة بعالم طوباوي. الأيديولوجيا تزييفٌ للحقيقة، وطمسٌ لمعناها عبر حجب الواقع، واحتكارٌ لنظام إنتاج المعنى، وتعطيلٌ للحق في الإختلاف. لا يعني ذلك رفض تغيير الواقع، تفسيرُ ونقد الواقع يسبقُ تغييره، عندما لا نفهمُ شيئًا نعجزُ عن تغييره،كلُّ عملية تغيير تسبقها عمليةُ تفسير ونقد عقلاني1 .

كثيرًا ما تصلني رغباتٌ وطلباتٌ من شباب أعتزُّ بهم، يفكرون بتوجيه الكتابات على وفق احتياجاتهم الأيديولوجية، وما يظنون أن الواقعَ الذي نعيش فيه يتطلبها. أحيانًا يظلّ بعضُهم يلحّ، وهو يشدّد على ضرورة أن أكتب ما تنشده أيديولوجيا يعتنقها وأجيب عن أسئلتها. أعرف أن هذه الطلبات تعكس احتفاءَ وثقة هؤلاء القراء الكرام بما أكتب، وتعلن عن شهادة اعتراف أعتزّ بها. يتكرّر هذا السؤالُ الإنكاري من هؤلاء القراء: لماذا لا تقومون بدوركم أيّها الكتاب، كأن هؤلاء يفترضون الكاتبَ سوبرمانًا أو مقاتلًا أو فدائيًا. الكاتب خارج الأيديولوجيا غير مستعدّ أن يموت من أجل ما يكتبه، يعرف أن كتابتَه وحتى مقتَله لن يغيّر المجتمع، ويعرف مسبقًا أن بعض قناعاته الأساسية قد تتغير غدًا بعد أن يكتشف خطأها. الأيديولوجيا تستعبد الإنسان، تغيّبه عن ذاته، تنسيه أن تغييرَ العالَم يبدأ بتفسيره، وأن تغييرَ العالَم ينطلق من قدرة الإنسان على تغيير ذاته أولًا. يعجز الإنسانُ عن تغيير عالَم لا يفهمه، مثلما يعجز إن كان لا يقدر على تغيير ذاته. الكاتب إنسانٌ يحتاج أن يشعرَ بالأمان، ويوفّر احتياجاته الأساسية، ويعيش كما يعيش كلُّ الناس. الأيديولوجيا تفسد الكتابة، يكرّر بعضُهم بطريقة مملّة عبارات للمفكر اليساري الايطالي غرامشي وكأنها نصوص مقدّسة، بوصفه مثالًا للمناضل الذي يجب أن يتخذه نموذجًا كلُّ مَن يكتب. الطريف أن هؤلاء يتحدثون عن حقِّ الاختلاف، وضرورةِ تعبير كلّ كاتب عن تفكيره هو، في الوقت الذي يريدون منه أن يكون صورةً مشوّهة لغيره، من دون وعي لموطن غرامشي وموهبته ونمط شخصيته وحساسياته وعواطفه وانفعالاته، والزمان والمجتمع والواقع الذي كان يعيشه، ونوع أيديولوجيته، وكيفية نضاله واضطهاده ومعاناته وعذاباته في السجن.

اعتاد هؤلاء الشباب على تلبية بعض الكتّاب لطلباتهم المتنوعة والاستجابة لما يريدون. أكثر مَن يستجيب لهذه الطلبات ممن يكتب بكلّ شيء من دون أن يقرأ أيَّ شيء قبل أن يكتب، ويجيب عن كلِّ سؤال من دون بحث وتقصٍّ، ويتحدث بكلّ تخصص، وإن كان خارج تخصصه. بعضُهم يكتب وينشر في مختلف الحقول بلا تكوينٍ معرفي عميق، ولا تكوين أكاديمي متخصص، ويفتقر إلى اللغة المناسبة لموضوع الكتابة.

كذلك تردني مناشداتٌ ملحة من قراء ومعجبين تدعوني لكتابةِ الموضوع كذا، والعملِ على تأليف كذا، وحاجة المجتمع لمطالعة كذا. احترم كلَّ الرغبات والطلبات، أعترف أن المشكلةَ تخصّني، أحذر الكتابةَ جدًا، أعجز عن الكتابة بكلّ شيء، أنأى بنفسي عن كلِّ شيء لا أعرفه، أدرك حدودَ علمي الضئيل جدًا مقارنةً بما أجهله، كلّما تعرّفتُ على محدودية معرفتي أذهلني جهلي. لا أمتلكُ تهورَ الكتابة أو التحدّث بغير تخصصي وخارج مطالعاتي، أشعر بضجر لحظة تفرض عليَّ مناسباتٌ اجتماعية الاستماعَ لمتحدث يتكلمُ خارجَ تخصصه، أراه لفرط جهله يتسابقُ مع أهل التخصص ويسكت مَن يبدي رأيًا، وهو يتكلم بحماس بموضوعات لا يعرف عنها شيئًا.

أحاول أكتب ما يعتمل بداخلي، ‏أعجز عن الكتابة استجابةً لطلبات لا أجد حافزًا بداخلي لكتابتها، وإن كانت في إطار تخصصي وكتاباتي في الشأن الديني والتراثي. فشلتُ عدة مرات بالاستجابة لطلبات عزيزة لإجراء حوارات شفاهية أو مدونة مع محاورين أذكياء أحترم تخصصَهم وفهمَهم وثقافتَهم، أحيانًا أتهرب بالتأجيل لأشهر، وأخيرًا أعجز عن إكراه نفسي على ذلك. مشكلة هذه المناشدات أن أصحابَها ينسون أني كغيري من البشر كائنٌ غارق بسجون ذاتي وهشاشتها وأحزانها ومخاوفها وعجزها ومواجعها، الكتابة عندي لا تولد بقرار مفروض، لا أقدر على ممارستها بشكلٍ يومي رتيب. لكلٍّ منا آلامُه ومزعجاته ومثيراته وحساسياته ومشاعره الخاصة،كتاباتاتي وحياتي تتذبذب كما يتذبذب المنحنى النفسي لذاتي صعوداً وهبوطاً. ذاتي كإنسان لا تخلو من حساسياتها وقلقها وتناقضاتها ومخاوفها. يقول كارل غوستاف يونغ: "الإنسان الذي تخلّص من مخاوفه هو إنسان على حافة الهاوية"2 .

يتعاطى الآخرون معك أحيانًا وكأنك ماكنةٌ تشتغل بانتظام رتيب، أو قالبٌ صناعي ينتج نسخًا متماثلة، وهم لا يعلمون أنك تعجز أحيانا عن تنفيذ قراراتك والتحكم بنفسك، عندما تخذلك ذاتُك لأسباب خفية أنت تجهلها عن نفسك. لا تخلو شخصيةُ الإنسان من تناقضات حادّة، أحيانًا يتعذّر عليه هو التحكم بها، لذلك لا يستجيب طوعًا إلا لما يتسق مع طبيعته ومزاجه ويتناغم وأحلامه ورغباته وقناعاته. الكتابةُ ليست عمليةً آلية، إن أراد الكاتبُ أن يكون مبدعًا ينبغي ألا يشاكس طبيعتيه، وأن يكون مختلفًا يعبر عن ذاته كما هي. الحقُّ في الاختلاف بالكتابة شرطُ الإبداع، الإنسانُ إن كان مبدعًا في حالة هبوطٍ وصعود، "قبضٍ وبسط" كما يصطلح العرفاء، شخصيتُه في حالة تذبذب، لا يستقرّ على برنامج مكرّر متواصل، يحتاج باستمرار أن يكسر الرتابة، ويتحرّر من كوابيس المواقيتِ المُعدَّة سلفًا، والخططِ المفروضة قسرًا.

أن نكتبَ يعني أن نختلف، المختلفُ غيرُ مألوف وغيرُ معروف، لذلك يثيرُ الناسَ وربما يتسببُ في خوفهم واستفزازهم. أكثرُ الناسِ يثيرهم الاختلاف، الاختلافُ أحيانًا يشعرهم بتغيير أحوالهم، وربما بتهديد استقرارهم، وسلب الأمان من حياتهم، فيحتاجون إلى الشعور بأن يلبثَ كلُّ ما كان على ما كان.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

...................

1- لمزيد من الشرح وتوضيح الفرق بين الدين والأيديولوجيا، راجع الفصل الثالث من كتابنا: الدين والكرامة الإنسانية، ط2، 2022، دار الرافدين، ومركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

2- هكذا تكلم كارل غوستاف يونغ، ترجمها وعلق على نصوصها: أحمد الزناتي، 162، 2022، الكويت. عن: (كارل غ. يونغ، الرسائل، الجزء الأول، صفحة 399).

 

سنغافورة دولة صغيرة تقع في الطرف الجنوبي من شبه جزيرة الملايو. معدل معرفة القراءة والكتابة 99.3 في المائة ولها نظام تعليم مدرسي يعد من أبسط و اكفأ الانظمة التعليمية في العالم.

لا أخفي سرا اذا بينت اني من اشد المعجبين بنظام التعليم السنغافوري وكثيراً ما كتبتُ بهذا الشأن وشرحت افضلية هذا النظام على الانظمة التربوية العالمية الاخرى. وبسبب ارتباطي الكبير بهذه الجزيرة لسنوات عديدة بدأت في بداية التسعينات من القرن الماضي حيث ساهمت مساهمة فعالة في تطوير علم البيولوجيا التطبيقية ومساعدة جامعة سنغافورة الوطنية في بناء القاعدة العلمية لإنتاج العقاقير الطبية والتي اشار اليها "لي كوان يو" مؤسس سنغافورة الحديثة، بان سنغافورة قامت "بتأسيس المعهد العالي للجينات البيولوجية، فاستقدمت خبراء من بريطانيا والسويد واليابان وعملوا معهم بجد ومثابرة على مستوى دولي، وبذلك تطورت لديهم صناعة متطورة للعقاقير الطبية". وهي إشارة واضحة إلى العمل الرائد الذي ساهمت به في تلك السنوات (راجع مقالنا: سنغافورة صرح كبير للعلم والتكنولوجيا، 2014)(1).

نظام التعليم في سنغافورة هو بلا شك الأفضل في العالم. في الواقع، إن الطلاب السنغافوريين هم الأفضل أداءً في جميع أنحاء العالم والذين يسجلون باستمرار درجات عالية في تصنيفات OECD PISA. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت العديد من الدراسات أن الطلاب السنغافوريين أذكى من الطلاب من أوروبا وأمريكا الشمالية.

ماذا يمكن أن يكون السبب في أن نظام التعليم في سنغافورة هو الأفضل في العالم؟ وما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها منهم؟

تهدف وزارة التعليم السنغافورية إلى "تطوير شغف التعلم لمساعدة الطلاب على تحقيق إمكاناتهم الكاملة واكتشاف مواهبهم ومساعدتهم على التفوق". وقد اختارت منهجا فريدا من نوعه للتعليم مع التركيز الأساسي على ضمان نمو الفرد النفسي والاجتماعي. يعتمد تعليم سنغافورة على الأساليب المهنية النوعية والماهرة، وهذا هو سبب إنفاق 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم.

جودة التعليم السنغافوري فريدة من نوعها من حيث طرق التدريس والتعلم وتميز نفسها عن البلدان الأخرى من خلال التركيز على جودة التعليم بدلاً من كميته.

رواتب المعلمين سخية وليس عليهم أن يتحملوا وطأة السياسات الاقتصادية القاتلة للحكومة. يتم منحهم مكانة أكثر شرفاً في المجتمع من أي مسؤول حكومي آخر. من النادر العثور على أي خطأ في المدرسة فالمرافق مجهزة بأفضل التجهيزات، ونسبة الطلاب إلى المدرسين هي 15: 1 في المرحلة الابتدائية و 11: 1 في المرحلة الثانوية، اما معدل التسرب فهو لا يكاد يذكر ونظام القبول صارم للغاية. وسيلة التدريس هي اللغة الإنجليزية فقط ويعد "التعلم المبهج" و"الإحساس بالقومية" لدى الأطفال و"تعلم أقل لتعلم المزيد" من السمات المهمة لنظام التعليم في سنغافورة.

إذا تحدثنا عن المنهج، فقد اعتمدت الدولة المنهج الذي سيمكن مواطنيها من مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. على الرغم من أن هذه الدولة كانت تحت الحكم البريطاني لفترة طويلة، إلا أنها لم تتبنى نظام التعليم الغربي بالكامل. يركزون على قراءة وتدريس الرياضيات والعلوم واللغة الأم من المستوى الابتدائي والى المستوى الاعدادي، وتم تبني المواد المهنية الأكثر توجهاً عملياً بدلاً من الموضوعات التقليدية في سنوات الثانوية وما بعدها فمعظم المدارس في سنغافورة هي مدارس موجهة للتطوير المهني. ومن ثم، يوجد حد أدنى لعدد ساعات التدريب المهني لكل معلم.

يعتبر عدم قيام الوالدين بإرسال أطفالهم إلى المدرسة جريمة جنائية بموجب قانون الحق في التعليم لعام 2010. والتي بموجبه يمكن معاقبتهم أو تغريمهم. كما يجب توفير "التعليم المنزلي" والموافقة عليه بصورة خطية من إدارة التعليم. لأن الحكومة هناك ملتزمة ومسؤولة عن التطوير النوعي لمواطنيها.

وفي مقابلة مع صحيفة الفاينانشيال تايمز اللندنية، قال رئيس الوزراء السنغافوري "لي هسين لونج": "إن نظام التعليم مصمم لتدريب الطلاب على الوظائف التي يمكنهم شغلها. ولهذا السبب، عندما يتخرج الطلاب، يحصلون على عمل على الفور."

ولكن هذا ليس إلا غيض من فيض، حيث يوجد الكثير لنتعلمه من التعليم في سنغافورة. ومنه ما يلي:

1- يعلم المنهج مهارات حل المشكلات والتفكير الإبداعي.

يهتم التعليم السنغافوري بالجوهر الحقيقي للتفكير النقدي ويدرب الطلاب على تعزيز مهاراتهم بشكل كامل لحل مشاكل مكان العمل ذات الصلة، بالإضافة إلى ايجاد الحلول بفعالية. ويقدم مجموعة متنوعة من أساليب التفكير التي يمكن الطالب من استخدامها لصالحه. ويكتسب الطلاب من خلاله نظرة ثاقبة حول كيفية تقييم عبارات المشكلة المختلفة بشكل فعال وتقديم استنتاجاتهم بطريقة منطقية ومقنعة.

2- يركز منهج سنغافورة على تعليم الطلاب مهارات إبداعية وحل المشكلات.

3- يتم تعليم الطلاب موضوعات محددة توفر المعرفة العملية والمهارات التي تمكنهم من حل تحديات العالم الحقيقي.

4- بالإضافة إلى ذلك، يقوم جميع أصحاب المصلحة في مجال التعليم بتقييم وتحسين النظام المدرسي باستمرار لتحسين الأداء.

معايير التعليم العالي

1- قبل أن يتم توظيف المرشحين من الحاصلين على شهادات جامعية في التعليم بشكل كامل، يتم اخضاعهم لتمرين وفحص صارم.

2- يتم أيضا تأهيل المعلمين وتطويرهم بكفاءة قبل تلقي التدريب.

3- بمجرد اختيار المرشحين لمنصب معلم، يتم نقلهم إلى تدريب مهني كامل أوصى به المعهد الوطني للتعليم.

4- بعد الانتهاء من التدريب، يأخذ المعلمون المرشحون دورة تدريبية في التطوير المهني تستغرق 100 ساعة.

برنامج إنكليزي لا مثيل له

أنشأت هيئة التعليم في سنغافورة برنامج تعلم وقراءة اللغة الإنجليزية في عام 2006 لمساعدة الطلاب متعددي اللغات على تعلم اللغة الإنجليزية والتي هي اللغة الاولى في البلاد، ويشتمل البرنامج على تقنيات الدراما ولعب الأدوار لتحسين المهارات اللغوية للطلاب.

مناهج الرياضيات الرئيسية

على الرغم من أن الرياضيات هي أصعب موضوع للعديد من الطلاب حول العالم، إلا أن نظام التعليم في سنغافورة ينتج أفضل الطلاب في الرياضيات في جميع أنحاء العالم. وهذا يرجع إلى النهج الكفء للمؤسسة التعليمية الذي يشجع الطلاب على تعلم الرياضيات باستخدام الوسائل البصرية والعملية مثل المخططات الشريطية والكتل وما إلى ذلك.

مسارات تدريب مختلفة

نجاح سنغافورة كدولة، يعود إلى كون السياسات الاقتصادية والتربوية براغماتية، وليس أيديولوجية بحيث تؤكد دائما على أهمية الجهود ومعايير الجودة. وتؤكد سياسات التعليم على تحقيق الجدارة في مواضيع ثلاث رئيسية وهي العلوم والرياضيات واللغة الإنكليزية. أما في التعليم العالي فتؤكد سياساتها على التعليم التكنولوجي والمهني في معاهد تقنية وبولي تكنيك. وهناك خمس جامعات تضم 27% فقط من الطلبة المؤهلين لولوج التعليم العالي.

يوفر النظام التعليمي في سنغافورة للطلاب مسارات و تفصيلات تعليمية مختلفة. وتم تصميم نظام التعليم لتشجيع الطلاب على إيجاد شغفهم واهتماماتهم.

يحصل الطلاب السنغافوريون على مسارين للتدريب المهني، وكليات الفنون التطبيقية، وكليات المبتدئين التي تؤدي إلى التعليم الجامعي.

تم تصميم النظام المدرسي لتعزيز قدرات التعلم ونقاط القوة لدى الموهوبين مع إنه يمنح جميع الطلاب فرصًا متساوية في العالم الحقيقي.

اخيراً، لا يسعني إلا التأكيد على أن سنغافورة تتمتع بأفضل نظام تعليمي بسبب نظام التربية والثقافة من الدرجة الأولى في البلاد. وليس سراً أنه يمكننا تعلم الكثير من سنغافورة فيما يتعلق بأساليب التعليم والتعلم لتحسين قطاع التربية والتعليم العالي في بلادنا.

وأحب ان اكرر نصيحتي السابقة لوزارتي التربية، والتعليم العالي بدراسة هذه التجربة عن طريق إيفاد مختصين إلى مؤسسات التربية والتعليم في سنغافورة ومشاركة زملائهم السنغافوريين في الإدارة والتدريب لاكتساب الخبرة والمعرفة بصورة مباشرة.

***

أ.د. محمد الربيعي

................

* محمد الربيعي، سنغافورة صرح كبير للعلم والتكنولوجيا، 2014.

https://www.tellskuf.com/index.php/authors/321-mrub/41227-2014-09-02-19-05-36.html

ان تسمية الزمن هي تسمية افتراضية من صنع الانسان ومن المحال أن يشمل جميع جوانب الكون ومجراته الغائرة في المديات فأذا اردنا ان نقيس الزمان وفق المنظور البشري فأننا سنصطدم بمجموعة متنوعة من ازمان لاتعد ولا تحصى وسط هذا العمق الكوني اللامتناهي فلدى كل تجمع مجرّي (الجزر المجرية) كما يسمونها التي تبعد بعضها عن البعض الاخر مليارات من السنين الضوئية لكل منها زمان خاص بها ومكان في الموقع السماوي السحيق.. اننا لانمتلك معياراً ثابتاً نستطيع من خلاله ان نقارن به الزمن عند كل تلك المديات ونفهم معياره الدقيق سوى تكهنات العلماء وحساباتهم الفلسفية وفق ماجائوا به من معادلات من صنع محلي (أرضي) لاتشمل كل مافي الوجود من اسرار وخفايا ومن الممكن أن تكون حسابات تفتقر الى الدقة أو هناك حسابات اكثر تعقيداً تمتد الى ماوراء حساباتنا التي باتت متخلفة الى حدٍ ما أمام النظرة الجديدة المعقدة للحياة.. أن الكون الجبار اعظم شأناً من اي حساب تقوم به العقول البشرية المحدودة فما زلنا لانفهم ماتعني مسافات السنة الضوئية مثلاً وما زلنا جهلاء أيضاً بكيفية انتقال الموجات اللاسلكية في فراغ كوني خالي من عناصر الذرة بالمرة الا من بعض الهباءآت الغير قادرة أصلاً على حمل حزم الترددات اللاسلكية المليئة بتفاصيل الصور او الصوت او نبضات السيطرة والتحكم عن بعد وما زلنا نبحث في خفايا الذرة التي لم تُكتشف اعماقها بالكامل فقد اتضح ان الالكترون والبروتون والنيترون هم عوالم كاملة قائمة بذاتها أيضاً ولم يكتشف العلماء ليومنا هذا مصدر القوة التي تستطيع ان تحفظ البروتونات الموجبة الشحنة جنباً الى جنب داخل النواة بلا تنافر أن واحدة من اسرارها الذي ابهر العلماء مثلاً هو اختفاء الالكترون للحظات عند انتقاله من نطاق مداري الى آخر داخل الذره ولا يعلمون اين يختفي خلال هذه القفزة المدارية الصاعدة او الهابطة. انه مثال على ندرة المعلومات أمام الطبيعة وما تحويه من عجائب، لايمكن ان يوجد زمن شامل موحد لكل ارجاء الكون وانها تسمية افتراضية جئنا به لكي نقنع بها انفسنا وننظر للوجود بمنظار موحد وان كان موجود فعلاً فلا يعلم كنهه سوى الخالق العظيم سبحانه.. نستطيع ان نحدد الوقت مثلاً لدينا صبحاً كان ام عصراً بنظام 24 ساعة بسبب دوران الارض حول نفسها وتحديد السنة الارضية والفصول الاربعة اعتماداً على دورانها حول الشمس وهذا هو الاجراء الوحيد الذي نفلح به في وقتنا الحاضر ومن الممكن ان نجد مايرضينا مستقبلاً والله اعلم.. يقول احد علماء الاجتماع ان الله سبحانه وتعالى قد منح العقل الى الانسان ليدافع به عن نفسه في الطبيعة ليس إلاّ، حاله حال مخالب الاسد وانياب التمساح او سيقان الغزال او ترس السلحفاة ولايمكن له ان يفهم جميع ماجائت به الطبيعة من اسرار وخفايا معقدة صارت اسرارها اعقد من تركيبة عقولنا بما فيها من انسجة وشرايين..وتفاعل.

***

ماهر نصرت

بالرغم من تعدد المفاهيم التي تناولت الثقافة ودلالاتها، حتى كادت أن تتجاوز المئة تعريفاً، بل تجاوزتها، أستطيع أن أدلو بدلوي في هذا المجال لأقول: إن الثقافة في سياقها العام، هي مجموع ما قام الإنسان بإنتاجه في الاتجاهين الماديّ والروحيّ عبر علاقته التاريخيّة مع الطبيعة والمجتمع، مضافاً إليها كل ما اكتسبه هذا الإنسان من مهارات بفعل نشاطه الفرديّ، أو ما تجذر عنده من قابليات واستعدادات فطريّة انطبعت في جيناته بفعل نشاط الإنسان التاريخيّ. وانطلاقاً من هذا الفهم للثقافة، فالثقافة إذاً، تبدأ بالحرف، وبأول وسيلة إنتاجيّة اكتشفها الإنسان وهي (العصا)، وصولاً إلى ذروة الثورة المعلوماتيّة وأقمارها الصناعيّة الفضائيّة.

إن الثقافة في التحليل السوسيولوجيّ إذاً، هي ثقافة إنسانيّة، قام الإنسان بإنتاجها، وعمل تاريخيّاً على تطويرها، وفي كل مرة يقوم بإنتاج عناصر ثقافيّة جديدة أو تطوير ما قام بإنتاجه، تعمل هذه العناصر- ماديّة كانت أو روحيّه – بدورها أيضاً على تطوير عقل وأخلاق منتجها، وإدراكه وحواسه ومهاراته، فالعلاقة بين عناصر الحضارة والإنسان علاقة جدليّة، كل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر.

إن الإنسان وفقاً لهذا المعطي هو إنسان ثقافيّ/ حضاريّ، وإنه أثناء وجوده في معطيات حياته أو جوده الاجتماعي، أي أثناء كدحه وإنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة وما يترتب أو يقوم على هذا الإنتاج من علاقات إنسانيّة، قد ساهم هذا الوجود أو الإنتاج ذاته في تحقيق اغتراب الإنسان وضياعه الماديّ والروحيّ أيضاً في هذا الإنتاج. فالإنسان في قسم كبير من حياته هو مغترب أو ضائع في منتجاته. ألم يصنع هو ذاته ألهته من حجر ويعبدها، أو من تمر يصلي لها وعندما يجوع يأكلها.. الم يصنع الإنسان ذاته النقود لتتحول إلى قوة ماديّة يباع هو ذاته بها ويشرى، ألم يخلق الإنسان بنفسه آلامه وقهره ومعاناته بفعل الإنسان. ألم يؤلف الشعر والقصة والرواية واللحن والرسم من أجل تصوير أحزانه وأفراحه وطموحاته في هذه الحياة التي أنتجها بنفسه، ثم راح بعض ما أنتج يأخذ حالة التقديس .

نعم.. هذه هي ثقافته التي كونها عبر التاريخ، وهذه هي ثقافته التي أثرت فيه وطورت وبدلت في حياته مثلما طور وبدل بها هو أيضاً. وأخيراً هذه هي ثقافته التي ضاع في منتجاتها وراح من جديد يبحث عن ذاته فيها لِيُكَوِنَ ثقافة أخرى تَصور أنها غير ثقافته... ثقافة من خارج التاريخ ... إنها الثقافة ألْعَالِمَة. أي هي ثقافة غربة الإنسان وضياعه في منتجاته... هي الثقافة التي فقد فيها الإنسان ذاكرته التاريخيّة، فراح يبحث عنها في عصر طفولته الإنسانيّة وما استجد عليها من أساطير نسج هو مكوناتها الفكريّة بما تتناسب مع حلمه في الخلاص وتحقيق السعادة والأمن والاستقرار. فالإنسان في كل دورة حياتية لمعطيات هذه الثقافة، يعيد إنتاج رؤاها الأسطوريّة وطقوسها ورموزها، كونه يشعر في كل دورة حياتية لها - وغالباً ما تكون سنويّة - استعادة جديدة لحياته يتخلص فيها من كل ما علق فيها من خطايا وذنوب ليخرج من جديد إنساناً بولادة جديدة. إنها ثقافة الأسطورة والمقدس والروحيّ بكل أشكالها التاريخيّة ومن ضمنها الثقافة البدائيّة التي لم يستطع الإنسان حتى هذا التاريخ أن ينسلخ عن الكثير من معطياتها. إنها ثقافة تقديس الشجر، والحجر، والضحيّة ودمها، وسن الذئب وجلده، ونضوة الحصان، وريشة الطائر، ورأس الوعل، والثعبان، والخرزة الزرقاء، وإشعال الشموع ...

إنها ثقافة الخوف من الحاضر والآتي، وما يرافق هذا الخوف من بحث عن سر الخلاص عند الشيخ وحجبته أو تميمته، أو عند الساحر ومائه ورماد نيرانه وأسماء جنياته وجنه.. إنها الثقافة التي اعتقدنا أن فيها سر الوجود وحركة الكون وكوارثه أو نعمه.. إنها ثقافة الأسطورة التي لم تزل تهيمن على حياتنا ونفسر بها قوانين حركة الطبيعة والمجتمع، وعالم الإنسان الداخلي في خوفه ومرضه وألمه وحلمه ورغباته.. إنها ثقافة استرداد الماضي التي لم نزل نعتقد أننا بإحياء ذكرى بعض محطاتها سنوياً نستعيد فردوسونا المفقود، أو ما يمنحنا تجديد حياتنا، وما أكثر تلك المواقف وتعدد دلالات إحيائها، أو الوقوف عند ذكرها، كأعياد الميلاد وغيرها.. إنها الثقافة التي تجسدت في بعض صيغها الأكثر حضاريّة في الطائفة والمذهب والحزب والطريقة الصوفيّة، التي تَلَقَنَهَا الأفراد عبر طقوس تنسيبيّة، ومُنحت لهم على درجات ومراتب يشعر المرء في كل مرحلة فيها أو مرتبة أنه خُلق خلقاً جديدا، وأنه حقق تمايزاً معرفيّاً عن غيره في معرفة نفسه وما يحيط به.. إنها ثقافة الشيخ والبطل السلبيّ الذي نزحف على ركبنا للوصول إليه وتقبيل يده أو أخذ البركة من حضوره ولمسات يده.. إنها ثقافة كل الرموز التي تُحول الفرد منا إلى ريبورت يشعر أن كل ما تعلمه من هؤلاء هو بداية المعرفة ونهايتها، وأن معرفة الكون والمجتمع والفرد تكمن فقط فيما تعلمه من هؤلاء.. إنها ثقافة الرموز والطلاسم التي لا تنتمي للعقل ولا لنشاط الإنسان، بل هي تريد للعقل والإنسان وحاضره أن ينتمي إليها، كونها هي وحدها من تمتلك الحقيقة المطلقة والعارفة بما كان وما هو كائن وما سيكون. أي هي وحدها الصالحة لكل زمان ومكان... إنها الثقافة الْعَالِمَة.

ثالثاً: التأثير السلبي للتثاقف مع الغرب وتعميق ثقافة الاغتراب:

مع تحقق عملية تركز الرأسمال في أوربا بشكل عام، وأمريكا على وجه الخصوص، وتحوله إلى رأسمال ماليّ، (1). وبالتالي التحامه بالدولة وتحوله أخيراً إلى رأسمال احتكاريّ، أخذ هذا الرأسمال الاحتكاريّ بدوره تحويل الدولة ذاتها التي التحم بها إلى دولة رأسماليّة احتكاريّة، راحت تمثلها في تاريخنا المعاصر الولايات المتحدة الأمريكيّة، بما تحمل هذه الدولة من مشاريع قهريّة لشعوب العالم، يأتي في مقدمتها تشكيل ما سمي بالنظام العالمي الجديد، والعمل على إعادة هيكلة العالم (السوق العالميّة) وفقاً لمصالحها. فأمام هذه التحولات البنيويّة للنظام الرأسماليّ، رحنا نلمس انغلاقاً لتاريخ الأفكار، وولوج مرحلة ما بعد الحداثة، التي راحت مقولة (أدر جيداً أرصدتك) تفرض نفسها على كافة مستويات هذه المرحلة، وبخاصة القيميّة منها ممثلة بالفن والأدب والفلسفة والأخلاق. الخ

إن معطيات ما بعد الحداثة في شقها ألقيمي هنا، لم تعد في مضمار هذا النظام أكثر من جملة من السيرورات التراكميّة التي يشدّ بعضها بعضاً، والتي دخلت عمليّاً كما يقول "ماكس فيبر" في مضمار (بناء تحديث الموارد وتحويلها إلى رؤوس أموال، عبر تنمية القوى الإنتاجيّة، وزيادة العمل...وعلمنة القيم الأخلاقيّة). (2).

إن قراءة أوليّة لأفكار " ماكس فيبر"، تشير لنا وبكل وضوح، إلى أن هناك حالات انزياح قد تمت لمسألة القيم الايجابيّة، ويأتي في مقدمتها النسق الثقافيّ موضوع بحثنا هنا، وذلك من خلال السعي إلى فصل المسائل القيمّة الثقافيّة، عن أصولها أو جذورها من جهة، ثم تحويلها إلى نماذج لسيرورات تطور حياديّة، وقطع صلتها بكل ما هو عقلانيّ، بحيث لم تعد الثقافة بصفتها عمليات تفعيل لتنمية المجتمع وتطوره، أي بوصفها التاريخ الموضوعيّ للبنى العقلانيّة، بقدر ما أصبحت مورداً للدخول (كم مليون دولار حقق هذا الفلم، وكم مليون دولار تساوي هذه اللوحة، وكم مليون دولار حقق هذا الكتاب.. الخ).

وهذا ما يدفعنا للقول أيضاً: إن الثقافة في معطياتها الما بعد حداثويّة التي جئنا عليها أعلاه، قد قضت على مقدمات التنوير، وأصبحت نتائج هذه التحولات القيميّة في صيغتها الما بعد حداثيّة التي أشرنا إليها، هي وحدها من يمارس التأثير على الفرد والمجتمع، وبالتالي هذا ما أدى بالمجتمع هنا، إلى أن يتحرر من إحدى الروافع الأساسيّة المحركة لتطوره الايجابي، وهي "الثقافة".

إن الثقافة في هذا السياق، تحولت إلى أسلوب عمل يساعد على تحريك القوانين الوظيفيّة لاقتصاد السوق المتوحش، وللتنمية والعلم الذين يخدمان هذه الوظيفة الاقتصاديّة، وخلق قيم اجتماعيّة وأخلاقيّة وسياسيّة جديدة كالتي أشار إليها "ماكس فيبر" بأنها، تخدم مصالح قادة النظام العالمي الجديد. أي تحويل هذه الثقافة إلى أداة لخلق قيم ونظام ربحيين بعيدين عن خدمة المجتمع، تتكئ على (عقل أداتيّ). (3) في التفكير والممارسة، كل ما يراد من هذا العقل هو إدارة الأرصدة بشكل جيد.

إن (نمذجة الثقافة) في المجتمع الغربيّ والأمريكيّ في الصيغة التي تقدمنا بها أعلاه، دفعت بعلم أو دون علم، بعض الكتاب والمفكرين العرب لتسويقها في ساحتنا الثقافيّة، الأمر الذي زاد من حدّة وسعة الانزياح الثقافيّ في وطننا العربيّ، وبالتالي المساهمة أكثر في تعميم التخلف وتجذيره.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

..........................

الهوامش:

1- الرأسمال المالي: هو التحام الرأسمال التجاري والصناعي بالرأسمال المصرف، وبالتالي الزيادة في تمركز الراسمال في يد طغمة ماليّة قليلة العدد على مستوى الدولة الوطنيّة.

2- راجع القول الفلسفي للحداثة، "هبرماس"، ترجمة فاطمة ألجيوشي، وزارة الثقافة، دمشق، 1995 ، ص9).

3- - العقل الأداتيّ: هو العقل عندما يوظف في تسيير التكنولوجيا ورسم الخطط والبرامج الإداريّة او الوظيفيّة لأصحاب الرأسمال بعيدا عن دوره في التخطيط لتنمية المجتمع وتطوره.

مالك بن نبي مفكر جزائري معاصر، ومن أهم رواد الفكر النهضوي العربي والإسلامي، غير أن الاهتمام بأفكاره لم يكن في المستوى، ولم يلتفتْ بشكل جدي بأفكاره المعرفية والإصلاحية ...

درس الحضارة، والنهضة والتقدم العلمي، وحاول الاقتراب من أنماطه المختلفة؛ اشتراكي ورأسمالي أو أمريكي وأوروبي، وياباني وصيني ليؤكد أن النهضة لا ترتبط بالنظام السياسي ولا بالعرق وأنها ممكنة في بلاد العرب والمسلمين . وقد كان مالك بن نبي عميقاً في تحليل ظواهر التقدم في الغرب والصين واليابان، وبالمقابل أيضا فاهماً لظواهر التخلف في العالم الإسلامي أو ظواهر تقدم زائف!

وفي كتبه نجده يقارن بين الإنسان الفعال في أوروبا، اليابان أو الصين وبين الإنسان العربي سواء كان رجلا عاديا، مثقفا أو رجل السياسة والتخطيط . وطالما أكد لنا أنه إذا اتبع الإنسان العربي نفس الشروط فبإمكانه تحقيق التقدم والتطور، فالعرب كانوا سادة العالم والحضارة في القرون الوسطى بينما كان الأوربيون متخلفون فالتزموا نفس الشروط التي قامت عليها نهضة العرب في بغداد والأندلس وبخارى وبجاية... واقتبسوا من عند العرب فتطوروا وتقدموا، ثم جاء اليابانيون ففعلوا نفس الشيء إذ تعلموا من أمريكا وأوروبا فتقدموا ونهضوا، وكذلك فعل الصينيون والكوريون بعدهم والماليزيون والأتراك، رغم أن هذه الشعوب تعرضت للاحتلال من طرف الاستعمار الغربي لزمن طويل وبعضها لسنوات قليلة ...

وقد ذكر الأستاذ مالك تلك الشروط وبسطها وحللها وكررها وأكد عليها في كتبه جميعاً، ولعل أهم شيء أكد عليه، والذي يُعتبر العنوان الكبير للنهضة، هو أن الحضارة تُصنع بعرق وجهد أبنائها ولا تُشترى كما قال في كتاب تأملات : العربي عنده عقلية الزبون لذلك هو يشتري ما يصنعه الأمريكيون واليابانيون والأوروبيون، والصينيون ...

وكما قلنا سابقاً لم يُهتم بالرجل وفكره الاهتمام اللائق بأفكاره الإصلاحية والمعرفية، نعم كتبه تصدر كل عام، ويندر أن يوجد باحث أو مفكر عربي لم يقرأها، وبين الحين والأخر تصدر كتبُ وبحوث تحاول الاقتراب منه كرجل قومي وعربي وكمفكر من طراز عالي، بدون أن ننسى أنه أهم مفكر في المغرب العربي بعد ابن خلدون ...

وتحاليله واقعية مبينة على فهم عميق وتحليل قوي وعاطفة وطنية وقومية تتمنى أن ترى العرب ينطلقون بقوة في عالم الحضارة والتقدم...

***

بقلم عبدالقادر رالة

 

مقال الأسبوع الماضي أثار الكثير من الجدل، الذي جاء معظمه في صيغة «الرد» على الكاتب أو المقال، وليس مناقشة الفكرة التي يطرحها. وقد أكدت لي هذه الردود ملاحظة ذكرتها في كتابات سابقة، فحواها أن غالبية من يجادلون الكتابات المتعلقة بمسألة دينية أو التي لها ظلال دينية، ينطلقون من خوف على الدين، خوف من أن أي فكرة جديدة أو نقد للممارسات الرائجة، ربما يؤدي إلى هدم الدين، حتى لو كان غير مقصود في الأصل. والحق، أن معظم هذه الكتابات ينشرها أشخاص حرصاء، وبعضهم متخصص في مجاله. لكن أياً كان الأمر فإننا في حاجة إلى فهم دواعي الخوف المذكور، سواء قبلناه أو أنكرناه.

علاقة المسلمين بالأمم الأخرى، واحدة من أبرز انشغالات العقل المسلم في عصرنا الحاضر. وهو انشغال يشترك فيه عامة المسلمين ونخبتهم. من هنا بات موضوعاً أثيراً للكلام الشعبي والخطابة، فضلاً عن البحث العلمي. وفي حالة كهذه، فالمتوقع أن يكون للكتابات الخفيفة وما يجاريها من خطب منبرية، دور أكبر في تكوين الرأي العام المتعلق بالمسألة.

تدور الأبحاث العلمية المتعلقة بالموضوع حول أسئلة من قبيل: ما الذي نستفيد من علاقتنا بالغرب، وكيف نعظم الفوائد، تأثير هذه العلاقة على الاستقلال الوطني، التأثيرات المتبادلة بين المسارات المتعددة للعلاقة، أي تأثير العلاقة الاقتصادية على الوضع السياسي والثقافي، وتأثير هذه على تلك، إلخ. وأريد لهذه المناسبة استذكار الجهد الباهر للمرحوم الدكتور خير الدين حسيب، مؤسس مركز دراسات الوحدة العربية، الذي أشرف على عدد كبير من الأبحاث المتعلقة بالموضوع، وأذكر خصوصاً الدراسات الخاصة بالانكشاف الاقتصادي والأمني، وسبل التعامل معه على مستوى الوطن العربي. أود الإشارة أيضاً إلى أعمال المرحوم مالك بن نبي، المفكر الجزائري المعروف، الذي حاول الإجابة عن سؤال: كيف نجسر الفجوة التقنية/ العلمية مع الغرب، من دون أن نضحي باستقلالنا السياسي وخصائصنا الثقافية؟. هناك أيضاً باحثون كثيرون عرب وأوروبيون، ونظراء لهم من آسيا وأميركا اللاتينية، قدموا أعمالاً في غاية الأهمية، عالجت زوايا مختلفة للموضوع. وهي تشكل – في مجموعها – مصدراً لا غنى عنه، إن أردنا التوصل لفهم موضوعي، أو وضع خطة علمية لعلاقة مثمرة بين العالم العربي/ الإسلامي والغرب.

أما الخُطب المنبرية وما يجاريها من كتابات خفيفة، فقد وقع معظمها في فخ الخلط بين التوجيه التعبوي المناسب لمراحل الصراع، والتحذير مما يزعم أنه مؤامرة غربية، وبين أحكام مبنية على الخوف أو التخويف من الاختلاط بالمخالف.

وردت أبرز التنظيرات لفكرة «استعلاء الإيمان» و«استعلاء المؤمن» في كتابي «معالم في الطريق» و«في ظلال القرآن» لسيد قطب، وتناولها فيما بعد الخطباء والكتاب المتأثرون بفكره. لا بد من القول إن تعبير «استعلاء» لم يرد في القرآن ولا التراث الإسلامي القديم كسمة لأهل الإيمان، بل أورد القرآن الكريم لفظ «استعلى» على لسان فرعون.

التوجيه القرآني يؤكد أن الله رفع عباده بعملهم، لا بمجرد انتمائهم. لكن نفوذ فكرة الاستعلاء في التثقيف الديني العام، ولا سيما على ألسنة خطباء ودعاة، أسس لحالة نفسية محورها الترفع/ الكبرياء الشخصي، يمارسه الشخص المتدين حين يقارن نفسه بالآخرين. وقد اتخذ في بعض الأحيان مدخلاً لنفي الحاجة إلى العلم أو بقية القوى المادية، في المقارنة مع من يملكها. فكأن المؤمن يقول لنفسه: أنا متدين ولا أملك شيئاً مادياً، غيري يملك كل شيء، لكنه غير متدين، إذن أنا أرفع منه.

بطبيعة الحال، لا أحد يقول هذا صراحة. لكنه يجري في داخل النفس على شكل تعويض تخيلي عن بعض الإخفاقات. ولهذا حديث آخر نعود إليه في قادم الأيام إن شاء الله.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

اعيدوا اليمن سعيدا فالطفولة في اعناقنا جميعا

اليمن بقعة عربية طاهرة من أرضنا العربية شهدت حضارة خالدة، وشعبها من أطيب الشعوب واكثرهم رقة وعلماؤها الاعظم فقها، ومع ذلك ابتلوا بالحرب، عقب ثورات الربيع العربي وفجأة دون سابق انذار تحولت أرضهم الطيبة التي دعا نبينا محمد صل الله عليه وسلم لها قائلا : " بارك الله في يمننا "، الى ساحة حرب

وطبعا عمل أباطرة السلاح على استمرار الحرب باليمن تحقيقا لمكاسبهم المالية على حساب شعب وأطفال عزل فقراء ومنكوبين، واستمرار الحرب طوال هذه السنوات قضى على مصادر الطعام، فالمصائد السمكية لا تعمل الا بطاقات محدودة وكذلك المناطق الزراعية تأثرت بفعل أتون الحرب وفوضويتها، مما جعل اليمن تحتل المركز الثاني عالميا بقائمة الدول معاناة من انعدام الامن الغذائي

والمؤسسات الدولية رصدت هذه الازمة مؤكدة ان اكثر من 16 .2 مليون يمني يعانون من انعدام الامن الغذائي بحسب “WFP” ، وأن حوالي 3.2 مليون طفل يمني دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد بحسب “OCHA

ورصدت منظمة "إنقاذ الطفولة"، بتقرير لها ديسمبر 2022، انعدام الأمن الغذائي باليمن بما في ذلك سوء التغذية الحادة وارتفع هذا العدد العامين الماضيين إلى 6 ملايين شخص من 3.6 مليون، بزيادة قدرها 66 بالمئة".

وكشفت المنظمة نفسها حقيقة أن اطفال اليمن يواجهون سوء التغذية والموت بسبب ضعف أجسامهم وتعرضها للاصابة بالأمراض، فضلا عن أن سوء التغذية يترك على الناجين من الأطفال آثارا تدوم مدى الحياة، بما في ذلك ضعف النمو البدني والنمو المعرفي .

ولا يوجد مبرر منطقي لازمة الجوع باليمن او غيرها من البلدان سوى غياب العدالة الدولية والمحلية ايضا، هذا الغياب جعل اكثر من 80% من اليمنيين يعيشون تحت خط الفقر، ووفقا لبرنامج الغذاء العالمي فان سوء التغذية سيضع جيلا بأكمله من أطفال اليمن على المحك، بعد أن بلغ سوء التغذية الحاد أعلى مستوياته وأهل معظم الأطفال للوقوع في شرك الجوع

والمجتمع يتحمل مسئولية جوع اطفال اليمن بفعل نقص تمويل الدعم المالي والغذائي، ونهب التبرعات او توزيع المساعدات على غير مستحقيه خاصة الاطفال، ولم تجد منظمة اليونسيف المختصة بالطفولة سوى مطالبة المجتمع الدولي زيادة الدعم المالي لاعادة المشاريع الاغاثية المتوقفة والمساعدات الغذائية والصحية لاطفال اليمن .

وللاسف فان الفساد داخل المنظمات الدولية جعل المتاجرة بمعاناة اليمنيين وهدر التبرعات لسد نفقاتها إلإدارية، بحسب ما أكدته الوطن العدنية حين كشفت عن فضيحة لبرنامج الغذاء العالمي تجسدت بوصول شحنة دقيق تالفة "مسوس" الى عدن، مما جعل هيئة المواصفات وضبط الجودة اليمنية تحتجز الباخرة لإتلاف الحمولة الفاسدة.

وبحسب منظمة سياج لحماية الطفولة، في بيان لها عام 2018 فإن المجاعة تجتاح أغلب محافظات اليمن وتحصد أرواح مئات الأطفال، وتهدد مئات الآلاف بالموت جوعاً، بفعل انعدام سبل المعيشة ونهب أموال المساعدات الإنسانية .

فالمساعدات الإنسانية الدولية تتعرض لعمليات نهب منظم، وما يعلن عنه منها اعلاميا تذهب غالبيته إلى غير مستحقيه الفعليين، و أن متوسط من يحصلون على مساعدات إنسانية حقيقة لا يتعدى 10% تقريباً من إجمالي المستحقين الفعليين .

أمام هذه الكارثة، فلابد من الاسراع من مراجعة السياسات المعمول بها في توزيع المساعدات على شعب اليمن وأطفاله الجوعى، وكشف شبكة المنظمات المحلية والدولية والمسئولين الحكومين باليمن التي تنهب المساعدات الانسانية لهذا الشعب المنكوب، ومحاسبة المسئولين عن سرقة ونهب المساعدات الدولية لليمن .

ونأمل تخصيص مسئولين شرفاء محايدين يتولون توزيع المساعدات الاغاثية لاطفال اليمن بعيدا عن أجندات خاصة باطراف الصراع او اصحاب المصالح والتصنيفات المذهبية أو السياسية .

اما على الصعيد العربي والاسلامي، فان منظمة التعاون الاسلامي وجامعة الدولة العربية مطالبين على وجه السرعة بتدشين حملة لانقاذ أطفال اليمن، وفتح باب التبرعات لجمع الاموال السريعة وكل أشكال المساعدات الغذائية والصحية من أثرياء العالمين العربي والاسلامي ومن المؤسسات الاقتصادية الكبرى المنتشرة في بلادنا ومن كبار الفنانين والشخصيات الاعتبارية الثرية .

والاهم هو تخصيص جهة شريفة تتولى توزيع هذه المساعدات على منكوبي اليمن خاصة الاطفال، وعلى كل الدول العربية ارسال قوافل طبية عاجلة لانقاذ اطفال اليمن من امراض سوء التغذية الحاد والجوع .

***

بقلم / سارة السهيل

 

في المثقف اليوم