قضايا

كثيراً ما يتم طرح سؤال بخصوص النتاج الفكري لأساتذتنا في الفلسفة من الجيل الذهبي الذين غزوا جامعات عالمية كبرى، وعادوا منها بشهادات عليا كانت هي الأساس الذي بنوا عليه بحوثهم وكتبهم اللاحقة، فهل قدم هؤلاء ما يوازي سمعتهم العلميَّة ومكانتهم الأكاديميَّة، وما يجعلهم أصحاب اضافات جوهريَّة في مسار الفكر الفلسفي العربي؟

قد يكون الجواب المجرد من المسببات غير منصف بحقهم، إذا ما تمت المقارنة مع أساتذة الفلسفة العرب والمصريين على وجه التحديد، ومنهم أصحاب المدارس والاتجاهات الفلسفيَّة والمذاهب والتيارات التي شهدتها العقود الأولى من القرن العشرين، تلك التي أحصاها ونظمها جميل صليبا بداية الستينيات، وعاد اليها معن زيادة في مقدمة المجلد الثاني للموسوعة الفلسفيَّة العربيَّة، وقد صنّفها صليبا بسبعة تيارات رئيسية يمكن ايجازها بتيار الفكر المادي ممثلاً بفكر الطبيب اللبناني والمفكر الذي هاجر إلى القاهرة شبلي شميل، وتيار العقلانية كما فهمها مفكرون عرب من أمثال محمد عبده ومحمد فريد وجدي، وتيار المثالية وفي عداده وجدانية عباس محمود العقاد وجوانية عثمان أمين ورحمانية زكي الأرسوزي، والتيار الذي مثلته المدرسة التكاملية في علم النفس ولا سيما تكاملية يوسف مراد التي اهتمت بدراسة العلاقة بين الظواهر النفسية والظواهر الفسيولوجية، والتيار الوجودي وفي طليعته عبد الرحمن بدوي، وتيار الشخصانية الذي أراد أصحابه الرد على الوجودية من جهة، وعلى الماركسية من جهة أخرى، ومن كبار ممثليه رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي، والتيار السابع والأخير هو تيار الاتجاهات العلمية ويمثله يعقوب صروف صاحب مجلة المقتطف، وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود الذي نجح في تأسيس مدرسة وضعية عربية، لكن هذا التصنيف كما يراه معن زيادة غير شامل "ويقف عند الفترة الزمنيَّة التي وضع فيها من جهة، ويهمل تيارات فلسفيَّة عرفها الفكر العربي الحديث منذ مطلع القرن الماضي، كلماركسي والاشتراكي والتيار القومي من جهة أخرى".

أكررالقول ان الجواب قد لا يكون دقيقاً، لسبب بسيط ان أغلب تلك المدارس والتيارات الفلسفيَّة قد سبقت ظهور الجيل الفلسفي الأكاديمي الأول في العراق، من دون أن نهمل رواد النهضة الفكرية العراقية الحديثة الذين كان لهم دور تنويري مؤثر مع نهايات السيطرة العثمانية وبدايات تأسيس الدولة العراقيَّة مطلع العشرينيات، أما الجيل الفلسفي الذي تدرّج في تحصيله الأكاديمي فإنه في الأعم الأغلب لم يعط ثماره الفكريَّة والفلسفيَّة إلا مع مطلع الستينيات ولعقدين لاحقين آخرين، وهي ثمار لم تسهم لأسباب لا علاقة لها بشخصياتهم العلميَّة، في خلق تيار فلسفي عربي مجدد بروح عراقيَّة، مثلما حدث في حركة الشعر الحر، والفنون التشكيلية، وبقيت نتاجات الجيل الذهبي الأول في الفلسفة محدودة التأثير، إلا في حدود الجدران الأكاديمية المغلقة.

لعل أحد الأسباب التي حجبت المشاركة الفكريَّة والفلسفيَّة العراقيَّة في خلق تيار فلسفي عربي له بصماته وهويته، ظروف العراق الخاصة وأوضاعه السياسيَّة المتقلّبة، وغياب البنية المؤسساتية التي ترعى العلماء وتنشر نتاجاتهم، لكن بعضهم أيضاً لم يكن متفرّغاً لقضية الفلسفة، وكانت جهودهم مشتتة بين تخصصاتهم وهواياتهم الأدبيَّة، وإلا بماذا نفسّر أن يختتم مفكر وباحث حياته بديوان شعري شخصي ضخم بعدد صفحاته، ولم يختمها بعمل فكري، أو بكتاب يدوّن ذكرياته الدراسيَّة ومسيرته الأكاديميَّة والفلسفيَّة الطويلة؟.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

(وجهة نظر)

سؤال مشروع يطرحُ نفسه بقوة علينا نحن أبناء دول العالم الثالث عموما، ومنها دول الوطن العربي على وجه الخصوص، هذه الدول التي كثيرا ما نعتها العديد من السياسيين والمهتمين بالفكر السياسي، بالدول المتخلِفة، أو المخلّفة، وهم بهذا التوصيف مصيبون تماما لإدراكهم حالة التخلف البنيوي المزري الذي تعيشه هذه الدول على كافة مستوياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، هذا التخلف الذي راح يتجلى ساطعاً في سيادة العديد من الأنظمة التوتاليتاريّة/ الشموليّة، التي رهن قسم كبير منها قرارات البلاد الاقتصاديّة والسياسيّة للخارج، كما تجلى هذا التخلف في حالات الخلل الواضح في العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة التي يأتي في مقدمتها تبلور سلطات العشيرة والقبيلة والطائفة والحزب الواحد، والتمسك في إعادة إنتاج عصبيات هذه السلطات اجتماعياً وسياسياً وقفافياً، وكل ما يتفرع عنها من قضايا حالت دون تحقيق المقدمات الأساسيّة الموضوعيّة منها والذاتيّة للمجتمع المدني ودولة القانون والمواطنة، أما حالات التخلف على المستوى الثقافي والفكري، فقد تجلت في سيادة الجهل والتجهيل معا بحقائق الأمور التي تهم حياة الوطن والمواطن ومستقبلهما في هذه الدول، إضافة لزرع الخوف والعبوديّة والذل في وعي ونفسيّة الرعايا ولا نقول المواطنين من قبل هذه الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة، بدلاً من التأكيد على قيم الشجاعة والحريّة والعزّة في قول الحقيقة وممارستها.

من هذه المعطيات تأتي مشروعيّة التساؤل عنوان موضوعنا، هل الديموقراطية أولا؟، مع إدراكنا بأنه لم يزل الكثير من السياسيين والمهتمين بالفكر السياسي يراهنون على أن الديموقراطية هي الدواء السحري لكل مشاكل تخلفنا، في الوقت الذي يبدو أن هؤلاء يجهلون أن الديموقراطيّة في الغرب ذاته لم تكن هي الحل أولا، بل هي ذاتها كانت نتاج تحولات بنيويّة عميقة في  حياة هذه المجتمعات، حيث شكلت هذه التحولات (الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة) الأرضيّة التي قامت عليها الديمقراطيّة والدولة المدنيّة وترعرعتا، مع علمنا وإدراكنا أن الغرب وعبر سلطاته الحاكمة منذ أن وصلت الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة، قد عمل على دفع الديمقراطيّة وبأقصى حد ممكن في الاتجاه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، في الوقت الذي قوننها أو حاصرها في الجانب السياسي كما هو معروف للجميع.

على العموم، تظل الديمقراطيّة في سياقها العام إشكاليّة في مفهومها ودلالاتها وأهدافها وحواملها الاجتماعيّة، وما تعدد المفاهيم أو التعريفات التي تناولت ظاهرة الديمقراطيّة من قبل المفكرين والسياسيين الذين تعاملوا معها عبر التاريخ إلا تأكيداً على هذه الإشكاليّة، علما أن هذه التعدديّة جاءت في حقيقتها محكومة بمواقف طبقيّة وسياسيّة وأيديولوجيّة ينتمي إليها حاملها الاجتماعي، أو من نَظَرَ لها من المفكرين والكتاب والسياسيين، وهذا ما يؤكد تاريخيّة الديمقراطيّة، والدور الكبير الذي تمارسه هذه المرحلة التاريخيّة أو تلك، التي أنتجت هذه الصيغة من الديمقراطيّة أو تلك على الديمقراطيّة ذاتها أيضاً. لذلك من هنا جاء تعريف الديمقراطيّة أو مفهومها عند بعضهم، بأنها الحياة اليوميّة المباشرة، التي أفضل ما فيها ممارسة الفرد وتعبيره عن رأيه وقناعاته بعيدا عن أي خوف من سلطة أو قانون، طالما أن الذي يريد قوله أو ممارسته يصب في مصلحة الوطن والمواطن. أو جاء عند بعضهم الآخر أيضا، بأنها ظاهرة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة، لها قوتها الماديّة في جوهرها، ولها أشكالها وحركتها وتعدد محطاتها المتوافقة مع تعدد أشكال النظام السياسي القائم بشكل خاص.. عدوها الجهل، وحليفها الدائم العلم والعلمانيّة، وصندوق أسرارها وقوتها الجماهير المقهورة والمضطهدة والمستلبة بكل فئاتها وشرائحها .(1).

أما نحن فيمكننا أن ندلوا بدلونا في السياق ذاته إذا جاز لنا أن نعرفها لنقول بأنها: منهج في التفكير العقلاني، وأسلوب في الممارسة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.. ترمي أهدافها وحواملها إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وتأمين العدالة للمجتمع بكل مستوياتها وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة.. حواملها الاجتماعيّة تتبدل وفقا لطبيعة الصيغة الديمقراطيّة المنتجة أو السائدة وأهدافها عبر مراحل التاريخ المتتالية، وهذا في الحقيقة ما يؤكد عندنا أيضا، أن الديمقراطيّة وفقا لهذا التعريف تخضع  للتطور والتبدل في جوهرها مع تطور وتبدل عوامل نشوئها عبر التاريخ، كما يؤكد نسبيتها وينفي إطلاقيتها، في الوقت الذي يؤكد عناصر استبدادها مثلما يؤكد عناصر قوتها وعدالتها وإنسانيتها .

إذن إن الديمقراطية وفقا لهذه المعطيات ليست مقتصرة في ممارستها وأهدافها على تحقيق البعد السياسي للمجتمع كما يعتقد بعضهم، بل أن ممارسة الديمقراطيّة وأهدافها تصبان في مجمل النشاط الإنساني اليومي لحياة الفرد والمجتمع، بغية تحقيق العدالة والمساواة والاستقرار الاجتماعي. كما أنها ليست صيغة واحدة مطلقة، تُفرخ مجردة، صالحة لكل زمان ومكان، بل هي صيغ مشخصة ببعدها الاجتماعي التاريخي، وبحواملها الاجتماعيّة التي تأتي من داخل التاريخ وتعمل على تحديد أهدافها ووظائفها وطبيعة المؤسسات التي تنشط عبرها، وذلك وفقا لمصالح هذه الحوامل، ومصالح القوى الاجتماعيّة التي تعبر عنها في فترة تاريخية محددة.

نقول: إذا كانت هذه هي الديمقراطية في مفهومها ومعطياتها، فما هي أبرز مقوماتها، وبالتالي معوقاتها أيضا؟ .

مقومات الديمقراطيّة:

كثيرا ما اعتقد بعض المبشرين بالديمقراطيّة والمطالبين بها، كما أشرنا في موقع سابق، بأنها في حال تطبيقها لدى هذا المجتمع آو ذاك، ستشكل الرافعة التي بها ستتحقق النهضة والتقدم والرقي والخلاص من كل عوامل التخلف، وبالتالي فهي هنا الترياق الذي سيحقق الشفاء للمجتمع المُمَارس لها من كل أمراضه المستعصية منها والطارئة. وهذا الموقف من الديمقراطية برأيي هو موقف يفتقد إلى الكثير من المنطق والعقلانيّة والتاريخيّة بحق الديمقراطية وأهدافها وحواملها معاً، بل هو الجهل المعرفي بعينه، الذي إذا ما سعى دعاة الديمقراطيّة إلى تطبيقها في المجتمع بعيدا عن فهمها في نطاق تاريخيتها ونسبيتها، وهذا سيسيئ بالضرورة إلى الديمقراطيّة ذاتها، والانتقاص في المحصلة من أهميتها ودورها في بناء المجتمع. لذلك ومن هذا المنطلق المنهجي في فهم أهمية الديمقراطيّة، ودورها في بناء المجتمع، لابد لنا من الوقوف قليلا للإشارة إلى أبرز مقومات الديمقراطية هنا وهي:

أولا: الوعي الديمقراطي: لا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطيّة سليمة، إذا لم يكن هناك وعي ديمقراطي سليم أساسه التربية والتعليم لدى حملة المشروع الديمقراطي عبر التاريخ، بحيث يستطيع حملة هذا المشروع أن يدركوا عبر تربيتهم وتعليمهم آليّة عمل الديمقراطيّة وإنتاجها، وكذلك عوامل نشوئها، وما هي المساحة الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي تستطيع هذه الصيغة أو تلك من صيغ الديمقراطيّة أن تمارس نشاطها فيها. فامتلاك هذه الوعي/المعرفة، يشكل القدرة على التحكم وضبط آليّة ممارسة الديمقراطيّة وتحقيق الأهداف المرجوة منها، وبالتالي فإن أي جهل في هذه الآليّة المركبة والمتداخلة في مكوناتها، سيؤدي بالضرورة إلى إخراج الديمقراطيّة من تاريخيتها، ووضعها في دائرة مبدأ "سرير بروكست"، حيث سيعمل حملتها هنا، إما على مطمطة، أو قصقصت  الواقع المعاش، كي ينسجم مع رغباتهم وشعاراتهم الديمقراطيّة، وليس وفقا لخصوصيات هذا الواقع .

ثانيا: المسؤوليّة: تشكل المسؤوليّة الشرط الأساس لنجاح التطبيق الديمقراطي، فلا ممارسة حقيقيّة للديمقراطية دون تحقيق شرط مسؤوليّة الفرد تجاه نفسه، ومسؤوليته تجاه الآخرين. فالمسؤولية تشكل في الواقع الشرط الأخلاقي / ألقيمي لحاملها الاجتماعي، الأمر الذي يفرض عليه – أي الحامل الاجتماعي – أن يخضعَ لشروط عقلانيّة وعي وممارسة الديمقراطية، وبخاصة تاريخيتها ونسبيتها، بما يخدم المجتمع ومصالحه وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة .

ثالثا: توافر الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي: نستطيع القول في هذا الاتجاه: بأنه، لا ديمقراطيّة بدون ديمقراطيين. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا، هو، ما هي طبيعة هذا الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي؟ .

لقد أشرنا في موقع سابق، أن لكل صيغة من صيغ الديمقراطيّة حواملها الاجتماعية المسؤولة عن تطبيقاتها، ومعرفة آليّة عملها، وظروف إنتاجها، والمساحة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة التي يجب أن تتحرك فيها أو تشتغل عليها. وهذا يعني أن الصيغة الديمقراطية المطروحة للتطبيق وحواملها الاجتماعيّة كلاهما يرتبطان بجملة الشروط الموضوعيّة والذاتيّة التاريخيّة للوجود الاجتماعي في مرحلة تاريخيّة محددة، فعلى سبيل المثال لاالحصر، إن الصيغة الديمقراطيّة وحواملها من الطبقة الارستقراطيّة لدى اليونان التي كانت تعبر عن عدالة اجتماعيّة تقر بالعبوديّة والتفاوت الطبقي، هي غيرها في المرحلة التاريخيّة للنظام الرأسمالي، أو لدول العالم الثالث التي يغيب فيها الوضوح الطبقي ولم تزل تتحكم في بنيتها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة- أي وجودها الاجتماعي- المرجعيات التقليديّة، من عشيرة وقبيلة وطائفة.. الخ . إذن، نستطيع القول أو التأكيد مرة أخرى في هذا الاتجاه: إن طبيعة الحامل الاجتماعي ومدى وعيه لمفهوم الديمقراطي ودرجة مسؤوليته تجاه المهام المناطة بالديمقراطيّة التي عليه ممارستها في مرحلة تاريخيّة محددة، هي التي تلعب الدور الكبير في تحديد طبيعة النشاط الديمقراطي، ومستوى درجة نجاحه في تطبيق أهداف الديمقراطيّة من عدالة ومساواة واستقرار، التي يتضمنها هذا النشاط، ثم مستوى مطابقته للظروف الموضوعيّة والذاتيّة لهذا المجتمع في المرحلة التاريخية ذاتها .

معوقات الديمقراطيّة:

إذا كانت القضايا التي جئنا إليها أعلاه تشكل مقومات التطبيق الديمقراطي، فإن معوقاته تكمن حقيقة في غياب هذه المقومات. فغياب الوعي الديمقراطي أولا، والشعور بمسؤوليتها الأخلاقيّة لدى حواملها الاجتماعية ثانيا، إضافة إلى غياب هذه الحوامل الاجتماعيّة التي تمتلك هذين الشرطين ذاتها ثالثا، دفع بالديمقراطيّة أن تتحول إلى وسيلة لتحقيق المصالح الأنانيّة الضيقة لمن يحمل المشروع الديمقراطي في عالمنا الثالث المخلّف بشكل خاص، والذي غالبا ما تكون فيه الصيغ الديمقراطيّة المطروحة في مثل هذا الغياب، سلعا مستوردة من مجتمعات أكثر تطورا من المجتمع الذي يعيش فيه دعاة هذه الديمقراطية الفاقدة لشروطها الموضوعيّة والذاتيّة، أو هي تُفصل على قياس القوى الحاكمة، كما هو الحال لمن يطالب بديمقراطيّة وعدالة اقتصاد السوق الاجتماعي التي تطبق في الصين المتقدمة حضاريا اليوم بكل مستوياتها، على واقع دولة متخلفة ومنهارة اقتصادياً، ومعظم اقتصادها اليوم في يد القوى الأجنبيّة والبرجوازية المحليّة من الفئات الطفيليّة والسماسرة. والنتيجة ستكون هنا تحقيق ما نستطيع تسميته بـ" فوضى الديمقراطيّة الاقتصادية والسياسيّة معاً على اعتبار السياسة هي الاقتصاد المكثف، وهذا ما سيزيد في النتيجة من تعميق أزمات المجتمع بدلا من انفراجها، بل سيدخل المجتمع في صراعات داخليّة وحروب أهليّة بغية تحقيق مصالح أنانيّة ضيقة أبرز ما تسعى إليه القوى الحاكمة هنا من  مهام ووظائف هو الوصول إلى السلطة لتحقيق هذه المصالح والبقاء بها، هذا  وغالبا ما تتحرك في هذا الدولة أو تلك من مستوردي الديمقراطية، الصراعات الداخلية وفقا لمرجعيات ضيقة (عشيرة، قبيلة، طائفة، دين)، بالرغم من السعة الاجتماعيّة والوطنيّة في بنية الشعارات الديمقراطيّة المطروحة من قبل هذه الحوامل الاجتماعية المتصارعة على المصالح الأنانيّة الضيقة، وهناك أمثلة كثيرة على مأزق أو (فوضى الديمقراطيّة) في دول العالم الثالث بشكل عام، ومنها دولنا العربيّة بشكل خاص، التي سببتها تلك الشعارات الديمقراطيّة الفضفاضة المستوردة من مجتمعات أكثر تطورا، ستساعد في المحصلة شاؤا أم أبو على تعميق أزمة المجتمع والديمقراطية معا.

أما إذا أخذنا الجانب السياسي للديمقراطيّة في هذه المجتمعات أيضا، فنستطيع القول في هذا الاتجاه: إن الديمقراطيّة السليمة هنا تشكل عنصر إصلاح أساسي في المجتمع، وخاصة إصلاح السلطة، أي هي ستعمل في أبسط صورها على تحقيق تداول السلطة، وهذا في الواقع ما لا تسمح به السلطات الحاكمة في دول العالم الثالث ومنها دول وطننا العربي الشموليّة/ الكليانيّة على سبيل المثال، وهذه إشكاليّة قائمة بذاتها، غالبا ما كانت وراء قيام المعارضة وطرحها لشعارات المجتمع المدني ،هذه المعارضة التي لا تختلف هنا من حيث طبيعة تكوينها ومرجعياتها التقليديّة عن السلطات الحاكمة الشموليّة، وبالتالي ستكون دوافع ونوايا قسم كبير من هذه المعارضة شبيهة، إن لم تكن متطابقة مع مواقف ونوايا القوى الحاكمة ذاتها. لذلك ماذا يعني أن تلتقي المعارضة في سوريا - على سبيل المثال لاالحصر- في منزل شيخ عشيرة وهي ترفع شعرات المجتمع المدني، في الوقت الذي لا يمكن أن تتطابق فيه شعارات المجتمع المدني مع عقلية شيخ العشيرة أو القبيلة أو الطائفة.

من هنا نجد أن كلاً من السلطة وقوى المعارضة يدعيان بأنهما يعملان لمصلحة الشعب وحريته وعدالته وتحقيق مواطنته. هذا إذا ما أضفنا معوقاّ آخر من المعوقات التي تحول دون ممارسة الديمقراطيّة في عالمنا الثالث، وهو موقف الأصوليّة الدينيّة المتزمتة من ممارسة  الديمقراطيّة، حيث لم يزل قسم واسع من حملة هذا الفكر الأصولي يرفضون ليس قبول ممارسة الديمقراطيّة ممثلة بآلياتها ومؤسساتها في واقعنا، وإنما يرفضون مصطلح الديمقراطيّة ذاته، على اعتباره عندهم مصطلحاً غربيّا قادما من دار الكفر والرذيلة، وهو يناقض الشورى التي أقرها الله في كتابه العزيز، في الوقت الذي لم يستطيعوا حتى هذا التاريخ الاتفاق على تحديد آليات عمل هذه الشورى وتبيان أهدافها وحواملها الاجتماعيّة، وهم بذلك يبرهنون على جهلهم بمعرفة الشورى والديمقراطيّة معا، مثلما يسيئون لهما أيضا .

ختاما نقول: تظل الديمقراطية مشروعاَ إنسانيّا بالنسبة للمجتمعات البشريّة عموما ومنها مجتمعنا العربي على وجه الخصوص، يهدف في سياقه العام - إذا ما توفرت شروط تحققه الموضوعيّة والذاتيّة - إلى سعادة الإنسان وتقدمه ورقيه، بل وتفجير إمكاناته وإبداعاته وقواه الحيّة التي تعمل على إثبات وتنمية إنسانيته .

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

...............................

الهوامش:

1- راجع كتابنا: الديمقراطيّة بين الفكر والممارسة – إصدار دار العلم – دمشق – 1993- ودار التكوين دمشق – 2005.

تحليل من منظور علم النفس وألأجتماع السياسي

تنويه: معظم المنشغلين في السياسة سوف لا يقرأون هذا المقال لأنهم ينفرون من عنوانه، مع انه يشخّص الحقيقة. فأحدى اهم نقاط الخلاف بيننا نحن علماء النفس والاجتماع السياسي والأخوة السياسيين، انهم يشخصّون الخلل في الانتحاري الإرهابي بالاستيلاء على السلطة عن طريق العنف، فيما نشخصّه نحن في المعتقد الذي يحمله في رأسه ويسوقه إلى تحقيق هدفه. فنحن نرى أن السلوك، أيا كان نوعه: عبادة، قتل، تطرّف، تسامح.. ناجم عن فكرة أو معتقد، وأن اختلاف الناس في أفعالهم ناجم أساسا عن اختلافهم في الأفكار والمعتقدات التي يحملونها.

التحليل

ثمة حقيقة سيكولوجية هي.. إن كلّ المنتحرين، عدا الحالات الفردية، يقدمون على الانتحار إخلاصا لمعتقد يؤمنون به. ولا اختلاف في الفعل بين الطيارين اليابانيين الذي انتحروا بضربهم، في لحظة مباغتة، البوارج الأميركية الحاملة للطائرات وتفجيرها بطائراتهم في ميناء بيرل هاربر، وبين انتحاري إرهابي يفجّر نفسه بين الناس. فالفعل هو انتحار، والفرق يكمن في نوعية المعتقد الذي يدفع صاحبه إلى الانتحار. فهو عند الطيارين اليابانيين كان من أجل الوطن، فيما هو عند الانتحاري الإرهابي إلحاق أكبر الأذى بالآخرين. ولهذا علينا أن نجيب على هذا السؤال:

كيف تشكّل هذا المعتقد لدرجة أنه يجعل الفرد يستسهل إفناء نفسه والآخرين بعملية قتل بشعة؟

الانتحاري الإرهابي.. صناعة عربية

من متابعتنا الميدانية وجدنا أن الانتحاري الإرهابي هو صناعة عربية، وأن المصدر الأول في تشكيله هو السلطة العربية، وأنه ابنها بامتياز. وأن هذا لا يعود لظلم السلطة بالدرجة الأولى، بل لانعدام العدالة الاجتماعية المتمثل بثراء فاحش ورفاهية خرافية تتمتع بها قلّة، وحرمان تعاني منه الأكثرية، أفضى إلى اغتراب بين المواطن العربي وسلطته. وما لا يدركه كثيرون أن الاغتراب، فضلا عن كونه حالة مأزقية بين الفرد والسلطة، فإنه يجعل صاحبه يشعر بأن وجوده لا معنى له، وأنه يعيش حياة بلا هدف.

ولأن الحاكم العربي تتحكم فيه “سيكولوجيا الخليفة” التي يرى فيها نفسه انه امتداد للخليفة من 1400 عام، ولأنه استفرد بالثروة لضمان ديمومة سلطته، فإن بين المغتربين عن السلطة العربية من راح يبحث عن سلطة أخرى يجد فيها لوجوده معنى ولحياته هدفا، فوجدها في القاعدة ثم في داعش، بعد أن زين له من يراهم قدوة أنه سيكون بين هدفين لا أروع منهما: إما أن يفوز بتحقيقه دولة إسلامية يكون فيها أميرا، وإما يموت ويفوز بالجنّة، في حياة أبدية بها ما لذّ وطاب وحور عين وولدان مخلدون بخدمته.

ولهذا فإن الانتحاري الإرهابي ليس فقط يستسهل تفجير نفسه بل يستعذبه، لأنه مؤمن إيمانا مطلقا بمعتقده الذي لا أروع وأكرم وأعظم منه في نظره. ولهذا لم تستطع أميركا بعظمتها العسكرية ومعها حلف الناتو القضاء على الإرهاب، لأن السلطة العربية “ولادّة” لانتحاريين إرهابيين يعدّون الحياة أمرا تافها إزاء حياة أبدية في جنّات النعيم، ويعدّون النيل من حاكم يعيش حياة الأباطرة، فيما هم غرباء أذلاّء في وطنهم.. قصاصا عادلا وأمرا جهاديا.

الشخصية الإرهابية.. في اطروحة دكتوراه

في عام (2009) اشرفت في جامعة السليمانية على اطروحة دكتوراه للسيدة جوان احسان (صارت فيما بعد عضوا في البرلمان العراقي) تعدّ الأولى عراقيا وعربيا ودوليا من نوعها، وقد استضافتها اميركا لتقدم محاضرة عنها.

ما يعنينا هنا ان الباحثة التقت بالمحكومين بجرائم الإرهاب في السجون التابعة لوزارة الداخلية في اقليم كوردستان ومؤسسات السجون التابعة لوزارة العدل العراقية لتطبيق الاختبارات واستمارات المقابلات عليهم. وتبين ان نصف الإرهابيين يحملون الجنسية العراقية فيما توزع نصفهم على عشرة بلدان عربية هي: سوريا، السعودية، اليمن، السودان، تونس، فلسطين، الاردن، مصر، الكويت، والجزائر.. لتؤكد مقولتنا ان الإرهابي هو صناعة عربية.

وتوصلت في نتائجها الى ان الإرهابيين (لديهم شعور دائم بالغبن وغير راضين عن السلطة ومن يواليها)، وان الإرهابي يعتقد (ان ضحايا التفجيرات والعمليات الانتحارية.. شهداء) وان تلك العمليات (هي قمة الاستشهاد ) وان هدف الإرهابي في حياته هو (نصرة دينه والفوز بالجنة).

البندقية.. لن تقضي على الشخصية الداعشية

ثمة حقيقة سيكولوجية.. إن البندقية وحدها لن تخيف من يستسهل ويستعذب إفناء نفسه والآخرين، وليس بمستطاعها القضاء على داعش، وإن عقد مؤتمرات دعائية لمكافحة الإرهاب تبدأ ببهرجة وتنتهي بوضع توصياتها في الأدراج، وأخرى تدعو لتوافق سياسي ومصالحة وطنية تلتقي بوجوه متآلفة وتنتهي بقلوب متخالفة، لن تجدي نفعا، ما لم يتم توظيف السلاح المفقود في هذه المواجهة باستقطاب خبراء سيكولوجيين وعلماء تربية واجتماع يضعون إستراتيجية علمية يشكل تحقيقها ظهيرا اجتماعيا وسيكولوجيا يسهم في إنهاء داعش بزمن أقصر وتضحيات أقل.

وهنالك مفقود آخر لم تفكر السلطات السياسية باستخدامه في مواجهة داعش، هو أن المسألة الحاسمة في الفكر الداعشي هي التكفير، إذ يرى أن تفسير القرآن والسنة النبوية بكلام الفقهاء بدعة أبعدت الناس عن معرفة الحقيقة التي جاء بها القرآن، وقد تبناها جمال الحمداني (أبو نوح قبر العبد) وجماعته المنتشرة في الجزيرة والقرى بين الحدود العراقية والسورية، التي تكّفر من لا يقول بمثل قولها، فيما هنالك جماعة أشد غلوا يمثلهم أبو علاء العفري نائب البغدادي، لا يعذرون بالجهل مطلقا، حدثت بينهم ومجموعات أخرى خلافات تجاوزت الطرد والتسفيه إلى التصفية الجسدية، بينهم قاضي داعش التونسي أبو جعفر الحطاب الذي كفرته وقتلته، وقبله تمت تصفية قاضيها السابق الكويتي، أبو عمر الكويتي، الذي كفّر البغدادي. وقد أدى مسلسل التكفير إلى قتل 18 قائدا من أصل 43 من قيادات الصف الأول بين يونيو 2014 وأبريل 2015، ما يعني سيكولوجيا أن الحول العقلي( وهو مصطلح ابتكرناه وادخلناه في علم النفس العربي) يتحكم بالتفكير الداعشي. ولأن المصاب بالحول العقلي ينظر إلى الأمور الجدلية على أنها أبيض وأسود فقط، ومنغلق ذهنيا على معتقدات جزمية، ولن يتخلى عن آرائه حتى لو بدا له خطؤها، فإن هذا يعني أن هنالك خطرا كبيرا يتهدد داعش من الداخل، وهذا هو المفقود الفكري الذي لم يتم التفكير به أصلا في مواجهتها، ولم يفكر به القائمون على شبكة الأعلام العراقي، والاعلام العربي.

في ضوء منظورنا هذا، نرى ان العالم لن يستطيع القضاء على الإرهاب، وهذا ما اكده الجيش الأمريكي بتصريحه في (6 / 4 / 2024) بأن داعش ما يزال قويا في العراق وسوريا. ومع تعدد وتنوع الأسباب، فأن السبب الرئيس هو ان السلطة العربية ما تزال ولّادة للإرهابيين ممن باتوا يعدّون حياتهم البائسة أمراً تافهاً إزاء حياة أبدية يسعون إليها في جنات النعيم، وهم يعدون النيل من حاكم يعيش حياة الأباطرة، فيما هم غرباء أذلاء في وطنهم.. قصاصاً عادلاً وأمراً جهادياً، وأن فساد واستبداد الأنظمة العربية وعجز المواطنين عن تحقيق التغيير السلمي، يشكل بيئة مناسبة لتغذية الأفكار المتطرفة وبروز الجماعات الإرهابية.

اقتراح

نكرر القول بأن البندقية تقضي على الإرهابي جسديا ولن تقضي على افكاره التي يبثها بين الأطفال والمراهقين والشباب والمضطهدين ومن يرى أن السلطة مصدر شقاء له.

ولو كانت ظاهرة الإرهاب تقتصر على بضعة أفراد لأمكن القول أنهم قلة من المجرمين المرضى نفسيا في المجتمع، لكن الحديث يدور اليوم عن ملايين يسمون أنفسهم مجاهدين ويقتلون الناس بدم بارد. بل انهم نجحوا في ان يجعلوا صانعة الحياة ومانحة الحب ورمز التضحية والايثار والعطاء غير المحدود.. المرأة.. ان تكون قنبلة تقتل من حولها!

وعليه نقترح عبر جريدة (المدى ) العراقية عقد مؤتمر عربي في بغداد يشارك فيه أكاديميون وسياسيون ورجال دين واعلاميون من المعنيين بالإرهاب تحديدا لوضع استراتيجية لمكافحة الإرهاب تنفذ على مراحل، تبدأ من المناهج الدراسية بمرحلة الدراسة الأبتدائية وتنتهي بسياسة الدولة وخطط المؤسسات الامنية في مكافحة الإرهاب في العالم العربي.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بقلم: فرح عبد الصمد

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تتشكل حياة سكان شمال إفريقيا في فرنسا من خلال صراع مروع من أجل الانتماء، والذي يوصف بصدمة ما بعد الاستعمار

لم أتمكن من تناول الكثير من الطعام وكنت أترنّح معظم الوقت. غادرت القوة جسدي الضعيف. قلت لأولئك الذين استمعوا إلي: "أشعر أنني لست على ما يرام". أضفت: "إنه أمر مؤلم"، وأنا أشير إلى معدتي، ورأسي، ومعصمي، في حين أن ركبتي أو رقبتي لم تكن هي التي تزعجني. خلال تلك الأوقات، كان جسدي يشعر بأنه متأرجح بين التوتر وقلة النوم: مملة، تتخللها أحاسيس الطعن والالتواء والطعن. تمنيت أن يضغط أحد على ذراعي، فيعلمني أن كل ما يسحق دواخلي سوف يُهزم قريبًا. كلما حدثت حالات تفشي المرض، كنت أختبئ ممسكة بقلادة مرجانية تونسية تقليدية جعلتها بمثابة تعويذة.

كنت طفلة مريضة مجعدة الشعر تتجنب اللعب في الخارج. نشأت في غرب باريس، وقد برزت بالفعل بين أصدقائي الفرنسيين كطفلة كانت مثلهم ولكن ليس تمامًا - نصف بيضاء، عن طريق أمي، ونصف عربية، عن طريق والدي، الأمر الذي حكم عليّ بالعيش في غرب باريس. فئة مختلفة من الفرنسية. كنت أرغب بشدة في الاندماج، لأكون نسخة مما اعتقدت أنه "طبيعي". لكن معاناتي جعلت هذا الأمر أكثر صعوبة. لقد شكلت ذخيرة مدمجة تشمل الالتهابات الشبيهة بالأنفلونزا والبرد التي تركتني أسعل بانتظام حتى تحترق أضلاعي. لفترة من الوقت، كنت مصابة بقروح البرد المشوهة.

لقد رفض الأطباء والأصدقاء وحتى أفراد الأسرة تشخيصاتي الذاتية، وأصروا على المصطلح الغامض المألوف "الفيروس". أوه، إنه مجرد فيروس، كما يقولون، على أمل أن يقلل ذلك من قلقي. لكنها أثارت فضولي فقط. أي فيروس؟ ألديه اسم؟ هل يمكنني إجراء الاختبار؟ لماذا يأتي لي، على وجه التحديد وبانتظام، وليس لأي من أصدقائي البيض؟

بينما قام الأطفال الآخرون ببناء حصون من الوسائد، قمت بتطوير البروتوكولات الصحية (الأطعمة والفيتامينات والأعشاب) والحاسة السادسة لعلامات المرض. عندما ضرب الفيروس، قمت بنشر ترسانتي من الجرعات والعلاجات. وعندما فاجأتني قوتها، تركت نفسي يجرفني الضباب. كنت أخشى الليالي أكثر من أي وقت مضى، ونادرًا ما أجرؤ على التحقق مما كان تحت سريري.3879 مظاهرة في باريس

في مظاهرة في باريس بفرنسا، عقب إطلاق الشرطة النار على ناهل مرزوق في ضاحية نانتير؛ 2 يوليو 2023.

الحالة المزمنة التي عانيت منها تشبه الحالة التي تم تسميتها قبل وقت طويل من ولادتي. في عام 1952، كان فرانتز فانون البالغ من العمر 27 عامًا قد نشر للتو كتابه الأول، بشرة سوداء، أقنعة بيضاء، وهي أطروحته للدكتوراه المثيرة للجدل والمرفوضة حول آثار العنصرية على الصحة. كان فانون يتدرب في مستشفى سان ألبان في جنوب فرنسا عندما لاحظ سريعًا أن العاملين في المجال الطبي غالبًا ما يتجاهلون قلق المرضى في شمال إفريقيا ويقللون من شأنه. في ذلك الوقت، كان المغرب والجزائر وتونس (حيث ولد والدي) إما مستعمرات فرنسية أو محميات، وكان هؤلاء المرضى من المهاجرين من الجيل الأول، وهم رجال عبروا البحر الأبيض المتوسط في أعقاب الحرب العالمية الثانية لإعادة بناء فرنسا المتروبولية. ولم تكن الحياة سهلة بالنسبة لهم. عاش معظمهم في عقارات الطبقة العاملة غير الصحية الذين استفادوا من دخولهم الضئيلة واحتلوا أدنى درجات المجتمع الفرنسي. لقد نجوا من مجرد حنين عميق للوطن والعائلة التي تركوها وراءهم. وكان لديهم أعراض مماثلة لمرض غير معروف. ومن خلال ملاحظات فانون السريرية - التي من شأنها أن تؤثر على كتابه المؤثر بشكل كبير وتدفعه للانضمام إلى مستشفى البليدة-جوانفيل للأمراض النفسية في الجزائر - كتب مقالًا أساسيًا يكشف عن مجموعة مشتركة من الأعراض لما أسماه "متلازمة شمال إفريقيا".

اشتكى سكان شمال إفريقيا من الألم المراوغ. أوصافه، بحسب الأطباء الفرنسيين، كانت غير موثوقة. ويبدو أنهم يكذبون بشأن أمراضهم أو يبالغون فيها، ولم يصبحوا أكثر من مجرد إزعاج طبي. لكن فانون خصص وقتًا للاستماع. وعلى أسس تقليدية، كان من الصعب تفسير آلامهم. كتب فانون أنهم «يصلون محاطين بالغموض»، وباستثناء حالات نادرة، لم تظهر عليهم أي آفات جسدية. إنه يؤذي "في كل مكان" وليس في أي مكان على وجه التحديد. أراد الأطباء تشخيصهم من أجل إعطاء الدواء بشكل صحيح، لكن المرضى أصبحوا منزعجين من كل الأسئلة لأن معاناتهم كانت موجودة، وواضحة بشكل لا يطاق لوصفها. "إنه أمر مؤلم" - ولكن ما طبيعة هذا الأمر؟

فضح فانون الأحكام المسبقة التي غالبًا ما كانت تساوي هذه الآلام الغريبة بالغباء أو الجنون

في الخمسينيات، كانت فرنسا عند نقطة تحول. اندلعت حرب الاستقلال الجزائرية في عام 1954، والتي دعمها فانون بنشاط لبقية حياته القصيرة، وخسر الاتحاد الفرنسي (الذي حل اسمياً محل الإمبراطورية الاستعمارية) مستعمراته في جنوب شرق آسيا. عشية الاستقلال وإنهاء الاستعمار، وضع فانون نظرية مفادها أن الألم الجسدي الذي يعاني منه المهاجرون من شمال إفريقيا كان تجسيدًا للاغتراب العميق الجذور، ومظهرًا من مظاهر تبدد الشخصية. وقام بتحليل شكاواهم المشتركة من المعاناة الجسدية باعتبارها "نظرية اللاإنسانية":

بدون عائلة، بدون حب، بدون علاقات إنسانية، بدون شركة مع المجموعة، سيحدث أول لقاء مع نفسه في الوضع العصابي، في الوضع المرضي؛ سوف يشعر بأنه فارغ، بلا حياة، في صراع جسدي مع الموت، موت على هذا الجانب من الموت، موت في الحياة – وما هو أكثر إثارة للشفقة من هذا الرجل ذى العضلات القوية الذي يقول لنا بصوته المكسور حقًا: دكتور، سأموت؟

ناضل العمال في شمال أفريقيا للتعبير عن عجزهم الاجتماعي والعاطفي، المحفور في العنف الاستعماري والاقتلاع. أوصى فانون بالعمل بشكل جماعي على "معنى الوطن" لمعالجة حرمانهم وألمهم. لقد فضح تحيزات أقرانه التي غالبًا ما كانت تساوي هذه الآلام الغريبة بالغباء أو الجنون. على سبيل المثال، أصبح "الداء الخطير" ــ وهو التشخيص الذي تم اختراعه في مطلع القرن العشرين لمراعاة ميل العمال المفترض إلى تضخيم الحوادث بهدف المطالبة بالتعويض ــ مرتبطا فيما بعد بسكان شمال أفريقيا على وجه الخصوص: حيث تقاربت المخاوف الطبية والسياسية. لكن سكان شمال أفريقيا الذين دخلوا مستشفى فانون لم يكونوا مختلين أو ماكرين. لقد كانوا على ما يرام لأن الظروف المعاكسة في المجتمع الفرنسي سحقت إنسانيتهم.

قادني مقال فانون إلى التساؤل عن سبب إصابة سكان شمال إفريقيا الفرنسيين بالألم أكثر من غيرهم، وما إذا كان الأمر لا يزال كذلك، وما الذي يمكننا تعلمه من المدى الذي تلعب فيه ظروفهم الاجتماعية والثقافية دورًا حاسمًا في تشكيل وفهم الأمراض. أنا لست طبيبة مثل فانون؛ تجربتي أكثر ذاتية من كونها قابلة للاختبار بشكل موضوعي. بالنسبة لي، الألم شخصي وعالمي بشكل عميق. لديهما القدرة على جعلنا نشعر بالوحدة في العالم، ولكن أيضًا للتواصل مع مجموعة أوسع تعاني من نفس المحنة. لقد واجهت هذه الازدواجية منذ وقت ليس ببعيد.

في يونيو/حزيران 2023، بعد ساعات قليلة من قيام شرطي بقتل مراهق فرنسي من شمال إفريقيا يبلغ من العمر 17 عامًا يُدعى ناهل مرزوق، عند نقطة قريبة في ضاحية نانتير بباريس، أصابني ألم شديد لدرجة أنني بالكاد أستطيع التحدث. وخلافاً لعمليات القتل الأخرى – ما لا يقل عن 20 قتيلاً سنوياً على يد الشرطة الفرنسية في العقد الماضي – فقد تم تصوير هذه الحادثة. في التسجيل القصير، توقفت سيارة صفراء محاطة بدراجات نارية تابعة للشرطة وشرطيين راجلين. في البداية بدا الأمر وكأنه تفتيش عادي، إلا أن أحد رجال الشرطة يحمل مسدسًا موجهًا نحو السائق ناهل، ويحذره من أنه سيطلق النار. وعندما بدأت السيارة في التحرك، أطلق الشرطي النار، فاصطدمت السيارة على بعد أمتار قليلة. مات ناهل. وسرعان ما تم دحض المحاولة المؤسسية للتستر على الحادث عندما تسرب الفيديو عبر الإنترنت.

باعتباري مواطنة فرنسية من شمال إفريقيا، كان لدي شعور رهيب بأنني رأيت مثل هذا من قبل وثمة حسرة في القلب. وانضم إليها شعور مشترك بالغضب، مما أدى إلى احتجاجات عنيفة على مستوى البلاد اندلعت بعد وقت قصير من اغتيال ناهل. وكانت في ذهني ذكرى ناهلز آخرين، مثل الشاب زيد بينا وبونا تراوري، اللذين توفيا في عام 2005 أثناء مطاردتهما من قبل الشرطة في ضاحية باريسية أخرى، كليشي سو بوا. إن صور الهوية غير الواضحة لزيد وبونة، والتي تم تداولها على نطاق واسع في التلفزيون والصحف، قريبة إلى قلبي. كتبت سوزان سونتاغ في كتابها "فيما يتعلق بألم الآخرين" (2003): "عندما يتعلق الأمر بالتذكر، فإن التصوير الفوتوغرافي له التأثير الأعمق". "التصوير الفوتوغرافي هو بمثابة اقتباس أو حكمة أو مثل. " وفي حالة زيد وبونة، فإن صورهما بمثابة تحذير. إذا كنت تبدو هكذا، فقد تكون في خطر.

عرضت القنوات الإخبارية خبراء يلقون اللوم على ناهل في قتله (أو، إذا لم يكن هو، فوالدته).

سأل أحد الصحفيين بعد أسبوع من مقتل ناهل: "هل تعتقد أن هناك عنصرية في [قوة] الشرطة؟". أجاب قائد شرطة باريس: «لا على الإطلاق». لقد شعر بالصدمة من إمكانية اقتراح مثل هذا المصطلح. تواصل العديد من المؤسسات إنكار وجود العنصرية النظامية في فرنسا. ولكن، كما قالت عالمة الاجتماع كوثر هارشي* في مقال نشرته ذلك الصيف، فإن حياة الفرنسيين الأفارقة "أصبحت معرضة للقتل" بسبب فكرة كونهم عنصريين بشكل واضح. وكتبت: “إن العيش حياة كرجل عربي، رجل أسود، في فرنسا العنصرية هيكليًا، يعني العيش على مسافة قريبة من الموت”.

إن تجربة العنف هذه أعمق من مجرد حالات معزولة لوحشية الشرطة. في عام 2017، أفاد 80% من الشباب الذين يُنظر إليهم على أنهم عرب أو سود أنهم أوقفوا مرة واحدة على الأقل من قبل الشرطة، مقارنة بـ 16% لبقية السكان. في الفرنسية، تسمى هذه العنصرية السيطرة على الوجه أو "التحكم في الوجه"، وهو ما يشير بشكل فظ إلى أهمية المظهر العرقي، وهو نوع آخر من عدم المساواة الذي يحدد المساحات المتاحة لسكان شمال إفريقيا للعيش بأمان، وخاضعة لوصفات البيض حول ما يعنيه الأمن.

ومع انتشار الاحتجاجات في الصيف الماضي، تحولت في بعض الحالات إلى أعمال عنف. بعد ثلاثة أيام من وفاة ناهل، وسط فرض حظر التجول على نطاق واسع، أدانت اثنتين من أهم نقابات الشرطة "جحافل المتوحشين" وتعهدتا بمحاربة هذه "الآفات". باتباع مبدأ فوكو القائل بأن العقوبة ليست عملاً من أعمال العدالة، بل هي عمل من أعمال القوة، وعدوا بتهدئة السكان الأصليين المتمردين في القرن الحادي والعشرين والحفاظ على النظام (نظام من؟)أصبحت العقوبة الجماعية للمتحدرين غير المنضبطين من الرعايا المستعمرين، الذين كانوا ميالين عرقيًا للعنف مثل أسلافهم، مشهدًا عامًا على القنوات الإخبارية، حيث يتهم النقاد ناهيل بقتله (أو، إذا لم يكن هو، فوالدته) ). لقد تم إطلاق العنان لأسوأ الميول العنصرية في فرنسا. ولم تعترف النخب بالاختلاف العرقي باعتباره حقيقة أساسية فحسب، بل قامت بإضفاء طابع عنصري عليه وتسييسه لتقسيم الرأي العام. وكما تساءلت جوديث بتلر ذات مرة: متى تكون الحياة "حداداً"؟ فقط عندما تُفهم حياة المرء على أنها حياة – حياة محفوفة بالمخاطر ومحدودة. لكن نخب المجتمع الفرنسي لم تنظر إلى ناهل وأمثاله إلا على أنهم مجرد تهديد، ولا شيء غير ذلك. بالنسبة لهم، لم تكن حياته حزينة.

لقد نشأت أيضًا في إحدى ضواحي باريس، لكنني لم أكن في فرنسا الصيف الماضي. ومع ذلك فقد قمت بإعادة تشغيل مقطع الفيديو الخاص بمقتل ناهل مرارًا وتكرارًا على أمل أن تظهر المشاهدة المختلفة ذنب ناهل بطريقة أو بأخرى أو ربما اللجوء المشروع للدفاع عن النفس من قبل الشرطة. لكن كل مشاهدة كانت تؤكد عكس ذلك،، مما أثار استياءً متزايدًا من أن ألمي لم يكن يشاركني على نطاق أوسع من قبل أشخاص لا يشبهونني أو يشبه ناهيل. ولا يحدث العنف في عزلة، أو في الماضي فقط، كما حدث في عام 1961، عشية استقلال الجزائر، عندما قتلت الشرطة 100 متظاهر، وتم دفع الجزائريين إلى الغرق في نهر السين. هذه الأحداث، مثل ألمي المزمن، موجودة هنا والآن وهي حاضرة دائمًا.

الألم موضعي في الجسم. على هذا النحو، فإنه يعيدنا إلى دستورنا الجسدي، والذي يعتبر بالنسبة لمواطني شمال إفريقيا في فرنسا مرادفًا للهوية السياسية. أجسادنا هي مواقع ذات أبعاد متعددة ومتداخلة – رمزية، وحقيقية، وذاتية – تعمل معًا في تضاريس اجتماعية هرمية اكتسبت مؤخرًا من الإسقاطات الاستشراقية الاستعمارية. يقال لنا إننا ننتمي إلى أراض غريبة، تختلف جوهريا عن أوروبا، وأننا يجب أن نكون "متحضرين" ومحتلين. نحن موضوع للبحث العلمي الخارجي، ممنوعون من رواية قصصنا الخاصة - يجب أن يخبرنا الخبراء الأوروبيون عن هويتنا.

الألم هو "تجربة حسية وعاطفية غير سارة مرتبطة أو تشبه تلك المرتبطة بتلف الأنسجة الفعلي أو المحتمل"، وفقًا للرابطة الدولية لدراسة الألم. الألم يأتي من التمزق. يرسل الجسم إشارات إلى الدماغ بأن شيئًا ما ليس على ما يرام وأننا يجب أن ننتبه إليه. نحن الآن نفهم فكرة فانون عن "متلازمة شمال أفريقيا" تحت الشعار الواسع لصدمة ما بعد الاستعمار. هذا هو المجال الذي يدرس التفاعل بين الأقليات العرقية (أو المجموعات غير الغربية) وفشل علم النفس والطب النفسي التقليدي في تفسير الإرث أو الميراث أو ذكرى القهر عبر الأجيال. يسعى الانضباط إلى تحديد علاقات جديدة بين الشخصية والخبرة والجروح. ولا يتعلق الأمر بتأكيد الحتمية البيولوجية ــ فكرة أن جينات المرء تتحكم في سلوكه ــ أو تصنيف العرب على نحو ما على أنهم عرب. يتعلق الأمر بالاعتراف بمجموعات محددة من التجارب الموروثة والمكتسبة التي تظهر صراعًا بين كيفية تمثيل الفرد وكيفية تجربة هذا التمثيل، والذي قد ينشأ من إرث تاريخي مشترك. ولكن على عكس النهج التقليدي تجاه الصدمة أو الألم الذي يفضل صياغة نموذج قائم على الحدث (محفز واحد، استجابة واحدة)، أو الفصل الصارم بين ما قبل وما بعده، فإن ألم ما بعد الاستعمار مستمر. إن صدمة ما بعد الاستعمار هي "أسلوب حياة، وحالة دائمة من الأشياء"، كما كتبت الباحثة والمحللة النفسية جينيفر يوسين.

لا يمكن لأحد أن يصنف شخصًا ما على أنه إسباني من الجيل الثالث، لكن "المهاجرين" تعني العرب والأفارقة

المرضى الذين وصفهم فانون عاشوا، أو بالأحرى نجوا، في حالة متواصلة من الاغتراب، تفاقمت بسبب ظروفهم المادية. انضم العديد منهم إلى منازل العمال أو عاشوا في الأحياء الفقيرة الموحلة في نانتير، والتي وصل عدد سكانها بسرعة إلى 10000 ساكن، ومنها انضم مئات الجزائريين المؤيدين للاستقلال إلى الاحتجاجات التي تم قمعها بوحشية في باريس عام 1961. غالبًا ما اعتبرت الدولة الفرنسية الأحياء البائسة التي يكتظ بها سكان شمال إفريقيا خطيرة لأنها توفر أرضًا خصبة للنشاط السياسي، الذي يغذيه عزلتهم وفقرهم. تم تجديد حي نانتير الفقير في السبعينيات، وقُتل ناهيل في نفس المدينة بعد 50 عامًا، وهو مراهق يعيش حياة على هامش فرنسا. وكما كان الحال في الماضي، تظل الضواحي أماكن للنشاط والاحتجاج لأنها تبقي المواطنين والمهاجرين في مرحلة ما بعد الاستعمار في ما يسمى بـ "المناطق المحظورة".

في الخمسينيات من القرن الماضي، كان بإمكان فانون أن يقول عن المرضى في شمال إفريقيا إنهم "ضغطت عليهم فرنسا"، وبالتالي، فإن إرسال هؤلاء المرضى إلى شمال إفريقيا ليس له أي معنى. واليوم، يدعو اليمين المتطرف إلى "الهجرة مرة أخرى" لتطهير فرنسا من هؤلاء غير المرغوب فيهم. ولكن على الرغم من كون سكان شمال أفريقيا فرنسيين بأغلبية ساحقة، إلا أنهم ما زالوا يتميزون بجيلهم - الثاني والثالث والرابع. ومن خلال القيام بذلك، يخبرهم المجتمع الفرنسي أنهم لا ينتمون بشكل كامل. لا يمكن لأحد أن يعتبر شخصًا إسبانيًا من الجيل الثالث، لكن الجميع يعلم أن كلمة "المهاجرين" تعني العرب والأفارقة. بينما يمثل جيل واحد مرور الزمن، فإن تجربة العنف في شمال أفريقيا هي تجربة تحددها حوادث متكررة ضمن إطار أوسع من التهميش. العنف هو ثعبان ملتف يخنق بقوة أكبر عند كل منعطف.

نظرًا لأن العديد من سكان شمال إفريقيا الناطقين بالفرنسية يشعرون بشيء مزعج وغير طبيعي عالق في أجسادهم، فإنهم يبحثون اليوم عن متخصصين في الصحة العقلية ويكسرون المحظورات الثقافية. إنهم بخير جسديًا باستثناء هذا الألم الحارق الغريب والانزعاج الذي لا يمكن تحديده، مما يجعلهم قلقين إلى حد الجنون وفى حاجة إلى الاستماع إليهم. في عيادة فاطمة بوفيت دو لا ميزونوف للصحة العقلية غرب باريس، يتحدثون بصراحة عن الألم الناجم عن الهويات المتضاربة والاعتداءات الصغيرة ومختلف أشكال التمييز، وتأثيرات الخطاب اليميني المتطرف المتصاعد المناهض للعرب في وسائل الإعلام الرئيسية وفي الطبقة السياسية. قال بوفيت دو لا ميزونوف، وهو طبيب نفسي ومؤلف فرنسي تونسي، لصحيفة لوموند في عام 2019 إن هؤلاء المرضى يعيشون مع "ألم حقيقي غير مفهوم"، بعد أن تعرضوا لمعاناتهم على مدى عقود. لم يغير الزمن بشكل جذري متلازمة شمال أفريقيا، وهي صدمة منتشرة في فترة ما بعد الاستعمار تكافح من أجل التوفيق بين الخارج والذات.

يتطلب كونك مريضًا أن تتم مراقبتك، وخلع ملابسك، وفحصك، والحكم عليك. فهو يضع المرء بالفعل في علاقة غير متكافئة مع سلطة طبية، مما يضع الباحث في مواجهة متبرع، وشخص عادي وباحث، وهي ديناميكية السلطة التي تضع المريض في دور ثانوي.(التي اعتاد عليها سكان شمال أفريقيا، بحكم ظروف الحياة وثقل تاريخهم).ولا يختلف هذا التشابه عن التغطية الإعلامية الفرنسية لمواطني شمال إفريقيا، حيث تقوم النظرة المتطفلة بتشريح كل علامة انحراف من شأنها أن تبرر وضعهم الأدنى، وترفع دائمًا الأخبار التي تثبت صحة التحيزات الموجودة مسبقًا. كتب عالم الأنثروبولوجيا وعالم الاجتماع ديدييه فاسين عن امرأة من غرب إفريقيا تم إحالتها إلى عيادة نفسية عرقية خارج باريس بسبب مشكلة الأبوة والأمومة: "كل عبارة نطقتها أصبحت علامة تستحق التفسير، وهذا أيضًا يسبب الألم".

أنا الابنة الوحيدة لأم فرنسية بيضاء وأب تونسي عربي. لم أختر الواصلة واعتمدت على تفسيرات بهلوانية كلما سُئلت من أين أتيت حقًا، وهو سؤال تم طرحه بشكل متكرر محير لأنني كنت كبيرة بما يكفي لفهم ما يعنيه نصه الفرعي. لم أكن فرنسية بالكامل - وهذا ما كنت أعرفه من خلال نبرة سؤالي - ومع ذلك فقد استغرق الأمر مني عقودًا للوصول إلى الإجابة: لقد جئت من باريس وتونس، وبلاد الغال وقرطاج، والصليب والهلال، والبحر الأبيض المتوسط وحدائق مونيه، والزبدة وزيت الزيتون، والنبيذ والليمون. أنا الزيت والخل. أنا من دم لا يمتزج تقليديًا. قد لا يكون الأمر منطقيًا بالنسبة لك ولكنه ليس كذلك أو. سعيد الان؟ لكنهم لم يكونوا سعداء ولا مقتنعين. في بعض الأحيان يشكل هذان المكونان من هويتي اتحادًا خجولًا، وأحيانًا ينفصلان. وفي كثير من الأحيان، يبدو الأمر وكأنه عبئًا مستعصيًا يتطلب شرحًا وتنقلًا وتفاوضًا مستمرًا. في فرنسا، التمييز بين كونك فرنسياً أو الرغبة في أن تكون فرنسياً لا يرحم. أنت كذلك، أو لا تكون، وعندما لا تكون كذلك، فهذا أمر وحشي ولا رجعة فيه.

لقد نشأت في أواخر سنوات فرانسوا ميتران في فرنسا، في شفق مخيب للآمال لمسيرة عام 1983 من أجل المساواة ومناهضة العنصرية. وخلال تلك المظاهرة، قُتل السائح الجزائري حبيب غريمزي بوحشية على متن قطار ليلي على يد ثلاثة فرنسيين، بينما كان عشرات الآلاف من سكان شمال أفريقيا (وبعض الحلفاء) يسيرون من مرسيليا إلى باريس للتنديد بالانتهاكات اليومية والتمييز.على الرغم من هذا المظهر للمحاسبة المجتمعية التي يقودها الجيل الثاني من سكان شمال أفريقيا الذين سعوا إلى حياة أقل عنفاً من حياة آبائهم، فإن زخم التغيير لم يدم.ونتيجة لذلك، لم يكن هناك الكثير من الروايات المفعمة بالأمل التي يمكنني الاتصال بها.في دائرتي، كانت المسيرة مزحة؛ غالبًا ما تم تقديم الاستقطاب السياسي لقادتها كقصة تحذيرية لمواطني شمال إفريقيا بأنهم يجب أن يظلوا مذعنين من أجل تحقيق النجاح (يشار إلى "الرجل نعم" باسم بني أوي، وهو أيضًا مصطلح من الحقبة الاستعمارية تم تصديره من الجزائر).

لغتي الأم هي الفرنسية؛ أشعر بالألم بالفرنسية

لم أكن أنتمي إلى القصص والأساطير الوطنية الفرنسية على الرغم من أنني ولدت فرنسيًا لأبوين فرنسيين. لقد كنت ملطخًا بالنقص، وكان اسمي غريبًا، ولم يكن لدي أحد أتطلع إليه. لم أكن أعرف "نصفين" آخرين مثلي، ولا أن البوصلة يمكن أن تشير ليس فقط إلى شمال أو جنوب البحر الأبيض المتوسط - تلك الحدود الحضارية المزعجة - ولكن إلى مركز في مكان ما بينهما. في ظل غياب القدوة، كان علي أن أوضح بنفسي الأحاسيس التي بدت حقيقية ومخيفة. نظرت ووجدت نفسي على خلاف مع الأطفال الفرنسيين البيض من حولي، الذين يكافحون من أجل مصادقة "الفيروس" الذي هاجمني. شعرت وكأنني أشغل مساحة كبيرة جدًا، واضحة جدًا بملامحي العربية بينما لم تكن إنسانيتي مرئية بدرجة كافية. في كثير من الأحيان أردت ببساطة أن أختفي.

كانت تونس أرضًا غامضة رأيتها منذ صغري من خلال عدسة استعمارية: متخلفة وفقيرة وعنيفة ومنحطة. والدي (ألم يغادر هو نفسه للحصول على فرص أفضل؟) لم يخبرني كثيرًا حتى زيارتنا الأولى معًا في أواخر التسعينيات، الأمر الذي تركني في حالة من الصدمة الثقافية والمزيد من الارتباك حول سبب وجوب أن يكون هذا المكان الآخر جزء من وجودي. على أية حال، لم نتحدث العربية مطلقًا في المنزل، وهي لغة لا أتقنها بعد. لغتي الأم هي الفرنسية. أشعر بالألم بالفرنسية. فرنسا "محصورة فيّ".

لسنوات، شننت حربًا ضد نفسي حتى هدأت المتلازمة التي أعاني منها مثل الحكة. أدخلني والداي إلى مدرسة خاصة حيث كنت الطفل الوحيد من شمال إفريقيا في صفي، وكان من المتوقع مني أن أكون شخصًا آخر غير عربي من ضواحي باريس. لقد تجولت بقناعي الأبيض الرمزي وأسعدت الناس، بما فيهم أنا، إلى حد الاغتراب عن الذات. ولكن بعد وقت قصير من الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، أدركت أنني أنتمي إلى مجموعة تابعة غير قابلة للتغيير يُلقى عليها اللوم عن كل شيء، وأنني لن أستطيع أبداً أن أكون جيداً بالقدر الكافي، أو ذكياً بالقدر الكافي، أو لائقاً بالقدر الكافي، أو ودوداً بالقدر الكافي ــ أو إنسانياً بالقدر الكافي ــ لهؤلاء المراقبين.

وفي هذا الخطاب العام البغيض الذي شكله التمييز بيننا وبينهم، أصبحت "هم" مرة أخرى. لمرة واحدة، لم أشعر بالوحدة، حتى لو كان ذلك يعني أن أدرك أن مكاني كان في الأسفل، في الخارج، بعيدًا. عندها بدأت بقراءة فانون وأدركت أن ألمي كان حقيقيًا. لقد طمأنتني كلماته وبدأت أرغب في علاقات جديدة. إن التهميش والتمييز الواسع النطاق ضد العرب والمسلمين في ذلك الوقت دفعني إلى التفكير سياسياً في أسلافي وفي نفسي من خلالهم. أدركت العيش تاريخيًا وتعلمت أن الألم يلخص حكاية جسدية عن الحياة المعقدة لسكان شمال إفريقيا في فرنسا. إنه سؤال لا ينتهي أبدًا.

(تمت)

***

..........................

*كوتار هارتشي، من مواليد عام 1987 في ستراسبورغ، كاتبة وعالمة اجتماع في الأدب الفرنسي. نشأت في ستراسبورغ لأبوين من الطبقة العاملة من أصل مغربي (والدها عامل صيانة ووالدتها تعمل في دار للمسنين)

المؤلفة: فرح عبد الصمد كاتبة/Farah Abdessamad ناقدة فرنسية تونسية مقيمة في مدينة نيويورك.  تتمحور مقالاتها ومراجعاتها حول مناقشة الأفكار واللحظات التاريخية من منظور متعدد الثقافات .

 

"ما طار طير وارتفع ...إلا كما طار وقع"!!

منذ الصغر وهذا البيت الشعري الذي يجري مجرى الأمثال يتردد في خاطري ومن حولي، وقد سمعته من العديد من الذين مرَوا وأثروا بحياتي، ولا يزال مترددا، ويحضرني اليوم وأنا في خضم محاورة عميقة مع عدد من الزملاء عن الصيرورة الآتية للواقع السلوكي فوق التراب!!

إبتدأت المحاورة باستغرابي من سرعة الزمن وفقداننا الإحساس بالوقت، فالأيام تجري بسرعة فائقة، حتى ليفقد الناس طعمها وقيمتها ومعانيها، فالمخلوقات بأسرها في دوّامة الحركة المتسارعة التعجيل والساعية إلى آفاق المجهول المتسع المتشاسع.

قال زميلي: أن الضخ المعلوماتي وآليات التواصل وشبكات التفاعل الآنية، أفقدت الحياة الكثير من خصائصها التي عهدتها الأجيال السابقة، فأصبحنا نطارد سرابا!!

وبعد أن تشعب الحوار، ختمه بالقول: أخشى أن التوسع  سيدفع بنا إلى الإنكماش، وكأنه يلوح في أفق الواقع العالمي المعاصر!!

قلت إنها فكرة تصلح للكتابة!!

ضحك زميلي مودعا، وبدأت أكتب!!

إن ما يحصل في أي جرم كوني لا يمكنه أن يحيد، أو يشذ عما يتحكم بالكون المطلق من قوانين ومعايير ونواميس، لا تقبل أي خطأ مهما كان ضئيلا، فالمفردات الكونية تتحرك وفقا لنظام دقيق، وتحكمها معادلات متوازنة، ذات عوامل مساعدة أو معوّقة، وفقا لآليات التفاعل والعناصر الداخلة فيه، والنتائج المطلوبة.

وبما أن الأرض جرم ينتمي لمجموعة شمسية لازلنا لا نحيط بها علما، وأنها واحدة مما لا يحصى من المجموعات الشمسية، التي تمر بدورات حياتية وإستحالات كونية، وتدخل في محتدم الإحتراب المستعر في أرجاء الكون المعتم الحرّاق اللهّاب المعتقلات، فأن الأرض تعبّر عن تلك القوانين والسيرورات، وما فيها مختصر لآليات التفاعل الكوني الأعظم، وما في مخلوقاتها كافة يحقق ما فيها من الحالات المتواصلة مع مطلق معادلات الوجود الصاخبة المتعالية الأزيز والفوران.

فسلوك الموجودات الأرضية يتوافق مع إيقاع سلوك الأرض، ولا ينفصل عنه أو يشذ عن طبيعته ومراميه الدورانية الخلاّطة الولاّدة، المنهمكة بإعادة تصنيع الموجودات من عناصرها الأولية، الداخلة في جوهر كيانها وما تحتويه من طاقات تطلعية وإرادات صيروراتية.

وعندما ننتقل للإنسان فما في الأرض فيه، وما فيها من كونها الأكبر، وهذا يعني أن الإنسان فيه مختصرات كونية، وتعبيرات سلوكية متفقة والتفاعلات الحاصلة في أية بقعة كونية متحركة، ومحكومة بقبضة الدوران الخارقة الخانقة.

والكون يتسع وكل إتساع موعود بإنكماش أو إنكباس في مركزه، بقوة متناسبة وشدة إتساعه وتعاظم مطاطية قدراته الإنجذابية والتنافرية، المتحكمة بمصيره ومنتهياته المتماوجة المتقادحة، والمتسابكة في أوعية الفراغ الفوارة، والأرض يتمدد ما فيها وعليها وينقبض، وظاهرة المد والجزر تعبير واضح عن هذا النشاط الدوراني المتواصل مع موجودات كونية في مدارات مجموعتنا الشمسية، ومدارات وجودها  الفائقة الحركة والتفاعلات.

والأرض مضغوطة بغلافها الجوي أو قشرتها الغازية، التي تتدرع بها وتغلفها بقدرات كهرومغناطيسية ذات خصائص إنجذابية وتنافرية، فهي تتحرك كما تتحرك الرئة ما بين الإتساع والإنكماش، أي أن الأرض تتنفس كما الأحياء تتنفس، وهذه الحركة المنتظمة تشترك فيها المخلوقات وبدرجات وتنوعات متباينة وفقا لطبيعتها ودورها الحياتي.

ولا يمكن للأرض أن تحيا إذا إتّسع غلافها الجوي وترسها الغازي وتزعزعت طبقاته، لأنها ستكون عرضة لإختراقات إشعاعية وجُرمية هائلة، تقضي على الحياة فيها، ولهذا فأن عليها أن تحافظ على قدراتها الإحتضانية الكفيلة بديمومة الحياة وتجددها.

فالأرض كينونة حية متحركة ذاتيا وموضوعيا، وترتدي ثيابها وتتدرع بأواصر غازية متماسكة، ومقتدرة على مقاومة الصولات العنيفة، التي تستهدفها بتواصل وإنقضاض تدميري نيراني الطباع والتفاعلات، وهي تدرك مقومات حياتها وشروط بقائها وتدافع عنها، وكأي موجود حي تصاب بالخوف والقلق والإضطرابات السلوكية، التي تتلخض بالبراكين والهزات الأرضية والأعاصير والفيضانات وغيرها من التفاعلات التي تحققها الطبيعة الأرضية، وهي تحاول الحفاظ على حالتها الموائمة لأحيائها، وشخصيتها الكونية التي تتميز بملامحها وعلاماتها الفارقة.

ومشكلة الأرض أن مخلوقاتها تتناسى وتتعامى، وتنحدر إلى مسارات ذات متاهات ونهايات خطيرة، وكأنها منوّمة أو مخدرة بالأفكار والتصورات والمعتقدات التي تعاديها، وتقتلع إرادة قوانينها من أعماق موجوداتها، وخصوصا البشر الذي تسيّد على جميع المخلوقات، وتفوّق عليها بأعداده وقدراته الشرسة، وأصبح المالك الحقيقي للآرض والمتحكم بإتجاهات تفاعلات ما عليها، فهم الذي يقرر وينفذ ويتصور ويتوهم ويمضي في سلوكياته الفردية والجمعية القاسية.

وبما أن قوانين الوعاء تتحكم بمصير ما يحتويه، فأن الأرض تفرض قوانينها وإرادتها على ما يدور فيها وعليها من الأحداث والتطورات، ولا بد لها أن تتدخل وتدفع البشر إلى مواضعه التي يجب عليه أن يكون فيها.

فالأرض متوازنة السلوك، ولا تسمح بالإتساع الفائق، لأن ذلك السلوك لا يتفق ومناهجها الدقيقة المتعادلة، لكن البشر قد إتسع وتمدد وتمادى في نأيه عن التراب، وصار يمتلك القدرات الهائلة الكفيلة بصناعة الجحيمات الأرضية، والجهنمات المحتملة فوق الماء والتراب وفي الفضاء، أي أنه وكأنه قد بلغ منتهاه الإتساعي، الذي يعني أنه على شفا حفرة الإنكماش الرهيب، والمحق والغياب والعودة إلى مبتدءات المسيرة البشرية فوق التراب الحامي المتأهب المتقطب الملامح، والغاضب المتناقم المتحامل على موجوداته التي أنجبها من رحم ما فيه.

والإتساع البشري إتّخذ منحى توالد الأفكار العلمية ذات القدرات الفتاكة بمحيطها البيئي والتواصلي، إذ بلغت التصنيعات المدمرة أوجها، وصارت المصانع المتوثبة للصراع والتخريب الدامي في تسابق كمي ونوعي، لإنتاج ما هو هائل المحق والشراسة والتوحش، فما عادت القنابل الذرية والهيدروجينية وأخواتها بكافية، وإنما تعددت أنواع الأسلحة النووية وتداخلت حتى صارت الأرض قابضة على جمرة الهلاك، ولا تحتاج إلا لمجنون متهور يمتلك حق إتخاذ قرار الإنتحار الأرضي الذي تحققه ضغطة  على زر في حقيبة تحملها الأيادي المتأهبة للإنقضاض على الوجود الأرض بأكمله.

وذهبت الأفكار إلى مديات ما عاد البشر بقادرٍ على التحكم بها، لأنه أوجد ما يتحكم به ويسيّره ويستعبده، فالبشر هو المخلوق الوحيد الذي يبتكر ويخترع ما يًستعبده ويمتلكه تماما، ونحن نعيش في عصر الإستعباد بالمخترعات التي تعزلنا عن أنفسنا وبعضنا البعض، وتحوّلنا بموجبها إلى موجودات سرابية أو أرقام على شاشات ضوئية ملونة.

كما أن المعارف قد بلغت مستويات كبيرة أعجزت الرؤوس البشرية على إستيعابها وبرمجتها، بل أنها عطّلت الأدمغة وجعلتها مدمنة على أجهزة كأنها أذكى من البشر، حتى ليبدو أمام قدراتها المعرفية متضائلا متصاغرا ومفرّغا من آليات النشاط المعلوم، أي أن البشر أجهَز على ذاته وأفرغها من محتوياتها، بل وخربها ونسف أسس صيرورتها التماسكية القوية، حتى أضحى ما بين الحالة الإسفنجية والصلدة، وبهذا الكيان صار من الصعب عليه هضم المعلومات ووعي التطورات، مما سيؤدي به إلى الوقوع في حفر الإنكماش الرهيب، كما يشهد الزمن المعاصر العديد من مظاهرها التي أخذت تسري وتنتشر بوبائية غير مسبوقة، وبعدوى عولمية دامية محطمة لأركان الأمن والسلام والرحمة والطمأنينة.

وكذا يبدو أن بلوغ الذروة المعرفية قد بدأ بأخذنا إلى منزلقات تهالكية إنكماشية، ذات تعجيل متسارع ومتوثب للسقوط في وديان السكون، الذي يحلم بالحركة من جديد على سفوح أخرى ذات قمم أعلى، ليبلغها وقد تأهب لمنزلق بعيد!!

***

د. صادق السامرائي

 

""وفي هذا الواقع يُطلّ علينا التاريخ من نوافذ متعددة... ومادمنا نعود إليه مختارين أو غير مختارين واعين أو غير واعين، وما دمنا نستلهمه ونستوصيه، فمن الخير لنا أن تكون عودتنا أصيلة متبصرة"[1]

لماذا الوعي في الخطاب؟ لماذا الآن؟ في نظر المثقف المتأثر بالتاريخ أي تاريخ، هل هو المؤهل للتحدث للناس حول الحاجة لوعي في خطاب التاريخ، من يمكنه إقناع المجتمع القائمين على الثقافة أو كليات التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية؟ أصحاب المشاريع الأكاديمية ذات العلاقة بالتاريخ؟ لا: فأولئلك كلهم يأتون ويذهبون. المثقف أم المؤرخ؟ نعم، ولهما فقط. شرح سبب حاجتنا للوعي التاريخي لأنه ببساطة هو سبب وجود خطاب الوعي في حركة الثقافة الإجتماعية.

إن المؤرخ هو الذي يتخذ قرار إطلاق هذه المبادرة مفضلا على الآخرين، والأمر متروك له أيضا لجعل نفسه مبشرا بها مع أولئك المثقفين والأكاديميين الفاعلين الذين تأثروا بخطابات الوعي التاريخية. لماذا المؤرخ هو الناقل الرئيسي لرسالة " إننا بالحاجة إلى تغيير الخطاب من أجل الوعي بتاريخنا"، هذا هو جوهر خطاب الوعي، هناك عدة أسباب لهذا:

أولا: سبب عملي: كان على المؤرخ في عالمنا العربي الفعالية لإفساح المجال للمبادرة ومشروعها ضمن الحقل الثقافي الخاص. ومن الطبيعي أن نطلب منه أن يشرح قراره لمن يعنيه الأمر.

ثانيا: ثم هناك سبب تنظيمي: التسلسل الهرمي يدعو كل الفاعلين في مجال الثقافة التاريخية للعب الأدوار ابتداءا بالمؤرخ.

ومن أجل الالتزام بالجهد المطلوب، يحتاج الجميع إلى طرح سؤال مصيري قبل الانطلاق نحو فهم سبب تغيير شيء ما: ماهي مواصفات الشخص الشرعي"المؤرخ" القادر على تفكيك إشكاليات الحاجة إلى تغيير وتجديد الخطاب عن التاريخ من أجل بناء الوعي؟

وبالتالي، يكون هنا أساس مطلق المبادرة لتجديد الوعي التاريخي عبر تجديد الخطاب مهمة المثقف العارف بماهية التاريخ ومرتكزاته ومنعطفاته وآفاقه، أتوقع أن يأخذ المثقف- المؤرخ زمام المبادرة ويتحدث ويدافع عن المبادرة علنًا. شفهياً وكتابياً، بأي وسيلة متاحة له بلا تحيزات. ويمكن لنا الاستفادة من دراسات وأفكار بول ريكور في مجال السرديات التاريخية وأهمية الكتابة التاريخية ونظريته حول الخطاب التي جاءت لنقد الحداثة العلمية والتقنية التي صبغت الحياة الغربية بتصوراتها المتطرفة، ولعل عبارته المشهورة في كتابه (نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى) " فإنّ التخارُج القصدي المناسب لمختلف طبقات الفعل الكلامي هو الذي يجعل التسطير بالكتابة ممكنا [2]" ثم إن ما أثير في الندوة حول النفسية والإيديولوجية أمر واقعي ولكن ريكور يرى ضرورة إطلاق فاعلية البحث عن المعنى الممكن في النصوص التاريخية، فما يهم فعلا، هو الدلالة، والمعنى، والعالم الذي تقترحه وإمكانيات الوجود الجديدة التي تتضمنها. فلا يتعلق الأمر بالبحث عن نفسية ما، أوايديولوجيا في داخلها، بل الفهم الذي تقدمه لنا لكي نقيم فيها فإنّ " ما نفهمه في خطاب ما، ليس شيئا آخر بل تطلُّع ما [3]".3874 الوعي التاريخيكعادته في اقتناص الأفكار التجديدية، والعناية بالفكرة، والتلطف في العرض، والهدوء في الحوار، جاءت طلة المثقف المميز في تجربته الفكرية والفلسفية، الدكتور قادة جليد؛ فالفكرة ذاتها تقع ضمن النسق التاريخي الواقعي، إلا أنها كما هو متعارف عن صاحبها ليس توثيقاً للتاريخ بل توعية للمؤرخ والمثقف والأكاديمي وغيرهم، كون صورة واقعية للتاريخ، هي تجميع للعناصر الأنثروبولوجية في بناء الوعي الإنساني وشكل المكان في ذلك الزمن تطلعا بحسب نظرة ريكور لصياغة الفكرة الحضارية الراهنة، واستحضار المؤثرات غير المرئية في بلورة العامل الثقافي والاجتماعي لإنسان تلك الفترة الزمنية، ضمن الإطار السياسي الصاخب في كفاح الأجداد ضد الغزاة آنذاك.

لعلي ما استلهمته من مقالة أ,عيش حول الندوة ونظرة الدكتور قادة جليد، أننا ضمن أطروحة تجديد وعي الخطاب التاريخي في بناء النباهة السوسيوثقافية تواجهنا إشكالية ذات علاقة بالتاريخ ومطارحاته : هل يمكن الحديث عن التحولات القيمية في أي مجتمع دون العودة إلى السردية التاريخية الثقافية في هذا المجتمع؟

لا مناص أن الرؤية تحتاج إلى بيانات ومعطيات علمية تتناول الثابت والمتغير في القيم الاجتماعية والأخلاقية والفكرية عبر التاريخ بمراحله المتعددة، لكن هناك بعد منهجي يجب مراعاته، كون مجتمعنا ليس بنية متجانسة ومتشابهة، مما يعني أن التحولات القيمية ليس لها الإيقاع نفسه في جميع المجالات، عموما، شهد مجتمعنا تحولات على مستوى العمق السوسيوثقافي، كالزيادة الديموغرافية والأماكن الحضرية (المدن) وتراجع لنسبة الأمية، انحسار العائلة لصالح الأسرة النووية، وهذه التحولات كان لها وقع كبير في البنية الثقافية، على مستوى الذهنيات والأفكار والتصورات والمعتقدات والقيم . ومن بين القيم:

- انفتاح الشباب على التواصل الافتراضي، وتخلي بعض الآباء والأمهات عن المسؤوليات التربوية

- تفشي قيم سلبية مثل الغش والخيانة وعدم الجدية في العمل والأمانات والبحث عن الربح الجاهز والسهل وبأية وسيلة على حساب على الغير والمجتمع والوطن ...

لعلي لا أبالغ إذا قلت أن أغلب المجتمعات التقليدية إن لم تكن كلها تنتج رموزها التاريخية وتنقلها إلى أجيالها المتلاحقة وتربّيهم عليها. فهناك إذن ثقافة تاريخية موروثة؛ فالشخص لا يختار ثقافته التاريخية بل يرثها كما يرث البيوت والأراضي والأنتيكات والآثار عن والديه وأجداده. بينما مجتمع حضري أفراده تماهوا في حراك ثقافي نشط ويومي، مما جعل الأشخاص يتيهون داخل سوق دولي كبير للرموز الثقافية التاريخية (الدينية غالبا)، فيختارون منها ما يشاءون ويعرضون عمّا لا يتناسب وتطلعاتهم. وعليه تشكلت توليفة (bouquet) للرموز التاريخية الخاصّة بالمجتمع، ويأخذ من تلك الرموز القليل الذي يحتاجه لبناء هويّته في مشروع معيّن. وبذلك يتم إختزال ثقافة التاريخ في سرديات رمزية محددة. كما هناك صورة أخرى أنّ الثقافة التاريخية أصبحت سؤال وجواب (على طريقة المسابقات)؛ فالمتفاعل التاريخي في مجتمعاتنا يذهب إلى الأنترنت ويأخذ منها ما يريد، وهو سلوك عام حتّى عند غير الناشئة المتمدرسة. والمسألة متعلّقة بالذاكرة والخطاب وتوسع دوائر النسيان؛ فالناس لا يحفظون القيمة الوجودية في سرديات التاريخ ولكن الأنترنت توفّر لهم المعلومات الشكلية المطلوبة.

و بالتالي نحن أمام صورة جديدة لمجتمع يلاحق الزمن المعاصر في تمثلاته وبالاعتماد على التعدد في مصادر المعرفة وتثبيط عامل الذاكرة ودورها، بمعنى أنّ هناك إنتقال أو تحول أنثروبولوجيّ يرتكز على معطيات ومتطلبات زمن الحداثة . وحتّى المؤرخ الذي نقول عنه إنّه مهتم بالذاكرة والخطاب والوعي التاريخية في مجتمعنا، يشتغل بنفس الميكانيزمات أو الآليّات التي يشتغل بها المؤرخ المعاصر نفسه في المجتمعات الأخرى لكنه لا يجد الأرضية البحثية الفعالة في تجميع المعلومات والتحقيق والمراجعة والتشذيب والتدقيق إلا بشق الأنفس .

هناك عدّة مستويات لهذا الموضوع تهمّ المؤرخ، مثلما تهمّ الهيئات والمؤسسات المهتمة بالتاريخ ومعطياته ؛ فلا بدّ في تقديري تحقيق مصالحة ثقافية، تُطرح في إطارها أسئلة تجديدية، وأن ينشأ منها تفكر تاريخي جديد، وهذا ما يمكن أن نسمّيه بلحظة الإصلاح التاريخي الفلسفي والفكري الذي ستتفرّع عنه خطابات معاصرة وكتابات نقدية هادفة تعمل على تفسير التاريخ وعلى تبسيطه حتّى يلقى القبول من المجتمع.

ثمّ إنّ هذا الفكر بطبيعة الحال سيقدم لشواغله التاريخية الأجوبة الملائمة للتطلع الحضاري؛ حيث أن تتصالح مع تاريخك يعني أن تتصالح مع فكر الإنسانيّة المعاصرة. فأنا لا أعتقد أنّ ضعف الفكر التاريخي في مجتمع ما آت من الفكر التاريخي نفسه. فالضعف، ههنا، كامن في الثقافة السائدة في المجتمع أيضا.و هذا ما لمح إليه الدكتور قادة بإشارته لمشروع مالك بن نبي رحمه الله، فلكي ينهض الفكر يجب أن ينهض التعليم والاقتصاد وأن تطرح الأسئلة في مناخ من حرّيّة الرأي والتعبير. وهذا ما يقيم البرهان على وجود تكامل بين المعارف الإنسانيّة وبين مختلف قطاعات المجتمع؛ فالنهضة الفكريّة في التاريخ لا تنتج خطاب وعي إلاّ إذا قامت نهضة فكريّة في علوم الاقتصاد والسياسة والمجتمع وتوفّرت الحرّية الفكرية والاحترام المتبادل بين الشركاء في الفعل الثقافي والاجتماعي.

واقعا إننا نصطدم بأسئلة محيّرة. وعصر ما بعد الحداثة يفرض علينا طرح هذه الأسئلة بجد والاجتهاد في الإجابة عنها، لأن الحداثة قامت تحت ضغط الآخر المنافس؛ فالفرنسي تحول إلى الحداثة عبر الإهتمام بإصلاح التعليم لأنّ أمته انهزمت في معركة سنة 1870[4] مع ألمانيا، وقارن الفرنسي الجامعات الفرنسيّة بالجامعات الألمانيّة وهذا ما نجده في كتابات بول ريكور الذي رفضت أفكاره بداية لأنه كان مشغوفا بالفلسفة الألمانية وكل ماهو ألماني. إنّ الحداثة في مجتمع معيّن تقوم على أساس وجود تحدّيات من مجتمع آخر. والتحدي هو المهمّة التاريخيّة للوعي.

نختم بالقول أن الوعي والخطاب التاريخيين بحاجة لدراسات بطريقة موضوعيّة حتى نتمكن من تفكيك وتجاوز تلك الصور النمطيّة المركبة في ذاكرتنا التاريخية. وعلم اجتماع التاريخ كتخصص يمكنه أن يساعد على دراسة هذه الصور ويعمل على تفسيرها. ولعل تركيز الدكتور قادة على جاك بيرك وهو السوسيولوجي الفرنسي المعروف يندرج ضمن هذا السياق،  وهنا علينا أن نستوعب الأدوات المعرفيّة التي يمتلكها الآخر وبذلك نستطيع أن نطلق خطاب تاريخي مفعم بالوعي ونشارك فعلا في إنتاج معرفة جديدة وحضارة إنسانية.

***

أ. مراد غريبي – كاتب وباحث

......................

[1] قسطنطين زريق، نحن والتاريخ، دار العلم للملايين، 1985م ص47.

[2] بول ريكور، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى،المركز الثقافي العربي، 2003، صفحة69

[3] بول ريكور، من النص الى الفعل، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية 2001، صفحة 146.

[4] سبب المعركة كان طموح بروسيا بتوحيد الأمصار الألمانية وخوف فرنسا من تغير موازين القوى الأوربية إذا نجحت بروسيا في مسعاها. وتم ذلك سنة 1871م بقيادة بسمارك.

..................

للاطلاع على وقائع الندوة ومحاضرة د. قادة جليد

https://almothaqaf.org/qadaya/975478

 

(الخطاب الذي لا ينتج وعيا تاريخيا لا يمكن أن يكون خطابا تاريخيا).. د. قادة جليد

سؤال العقل والتاريخ إشكالية معقدة وخيوطها متشابكة تحتاج إلى نقاش عقلاني مثمر من قبل المفكرين والأكاديميين بعيدا عن العاطفة، والعشوائية للخروج برؤية جديدة موحدة ، وهو ما أشار إليه الدكتور قادة جليد باحث أكاديمي وأستاذ سابق بكلية الفلسفة بجامعة وهران (غرب الجزائر) داعيا النخبة إلى إعادة النظر في الخطاب التاريخي والثقافة الوطنية وأن يخضعان للبحث والتحليل حتى لا تبقى الأمة معطلة الطاقات، ويبدو أن الدكتور قادة جليد متأثر جدا بالفلسفة الهيغلية والنظرية الخلدونية وهو الذي اكد في محاضرته أنه يتبنى أطروحاتهما

المحاضرة التي ألقاها الدكتور قادة جليد في منتدى الكتاب بالمكتبة الوطنية الجزائرية كانت مشروع لكتابين حول نقد العقل الجزائري واستعمال هذا المفهوم يتجدد عند طرح أسئلة الناقوس لإصلاح الذهنيات في ظل التحولات التاريخية، التي فيها كل شيئ يتغير إلا المسألة الثقافية التي ظلت جامدة ما جعلها تمارس نوعا من المقاومة أي طريقة التفكير والطريقة التي يمكن الحكم على الأشياء، ومن خلالها يطرح السؤال إن كانت هناك إمكانية بناء نهضة بعقل غير واع، خاصة بالنسبة للعقل الجزائري ، وهل بمقدور الباحث الأكاديمي تفكيك العقل الجزائري وإعادة بنائه من جديد، وبالتالي زحزحة بعض التصورات، وهي إشكالية طرحها الدكتور قادة جليد ولأول مرّة في عالم الأفكار كون العقل الجزائري له بعدٌ معرفيٌّ ومضمونٌ تاريخيٌّ، فمن خلال ما جاء في المحاضرة نلاحظ أن الدكتور قادة جليد في أطروحته اعتمد على أفكار بعض المفكرين الغربيين على غرار جاك بيرك الذي قال أن شعبٌ غير مدروس لا يفهم نفسه ونقاط قوته وضعفه كيف يمكن له أن يتقدم ويدخل التاريخ؟ ، أمّا المفكرين الجزائريين ذكر الدكتور قادة جليد المفكر مالك بن نبي ورؤيته للزمن وهو يتحدث عن الدورة الحضارية ، كذلك الدكتور أحمد بن نعمان الذي تساءل عن نفسية الإنسان الجزائري وكيف ينظر إلى نفسه ؟، كما استدل بأفكار المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله عندما نادى بإعادة الاعتبار للثقافة الجزائرية وتقييمها، ومعرفة كيف يفكر العقل الجزائري، مبرزا كذلك رؤية المفكر محمد أركون للعقل والتاريخ، ودعوته إلى كتابة التاريخ الشفهي كما كتبه الغرب وانتقاده القراءة التاريخانية وما نقله التاريخ في كثير من المواضع، في مقابل التاريخية والوضعية التي لا تهتم إلا برصد الوقائع الثابتة وعدم الإهتمام إلا بالزمن التسلسلي للوقائع والأحداث.

من وجهة نظر قادة جليد فإن العقل الجزائري وبالرغم من أنه مرتبط بالتاريخ وبالتراث، إلا أنه موجود في الثقافة الشعبية ( الشفهية) فقط، مقدما مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي لها علاقة بالبناء الحضاري كمفهوم "الزمن" ورؤية الجزائري له ، حيث يرى أن مفهوم الزمن يُعَبِّرُ عن مفاهيم أخرى كالموت والفقر والجوع وإعدام المستقبل وعدم البقاء، أي النهاية الكلية للإنسان، أما الشق الثاني من المحاضرة فهي تتعلق بالتاريخ من خلال طرحه سؤالا عن الطريقة والكيفية التي نكتب بها التاريخ وبخاصة تاريخ الجزائر الذي له حدود بين ما هو معرفي وما هو إيديولوجي؟، مشيرا إلى ما قدمته المدرستين التاريخية المعاصرة والمدرسة الفرنسية ، عندما قالت أن الجزائر ليست أمّة والرد عليها بأنها وقعت في الانتقائية التاريخية ، يقول قادة جليد أن هذه الأطروحات ما هي إلا انغلاقا دوغماتيا إلى حد أن أصبح التاريخ مسرحا لصراعات بين هاتين المدرستين، وهذا يحتاج إلى فتح نقاش فكري ثقافي حول هذه القضايا بعيدا عن الشخصانية أو تقديس الأشخاص والخروج من السجالات السياسية والإيديولوجية في التفكير من أجل تقديم البدائل، وانتقد الدكتور قادة جليد الجامعة الجزائرية التي - كما قال هو- لا تنتج سوى مفاهيم مجردة ولا تعتمد على مناهج تطبيقية، داعيا إلى دراسة تاريخ الجزائر في طابعه البنيوي التزامني الكرونولوجي بعيدا عن العاطفة والقبلية والعصبية ، لأن التجرد من هذه الصفات يزيل الإنغلاقات الدوغماتية والمدونات المغلقة في تحليل الأحداث مثلما نراه عند محمد أركون وأبو القاسم سعد الله، وتحدث قادة جليد عن الدور الذي قامت به الحركة الدوناتية الوطنية الأمازيغية في مواجهتها الاستعمار الفرنسي، معبرا عن اسفه للتغييب الكلي لما سمّاه بالرأسمال الرمزي كالملكة روبا وهي امازيغية دوناتة قاومت الإستعمار والملكة ديلتا وأوغسطين وسانتا مونيكا، ليؤكد أنه لا يمكن تحقيق التقدم دون إشاعة النقد الذاتي.

في تعقيبه على ما جاء به الدكتور قادة جليد من أفكار يرى المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية الدكتور بهادي منير أن النخبة هي التي تنتج المعرفة بمختلف أشكالها والخطاب - سياسي كان أو تاريخي-، مرتبط بتصورات إيديولوجية وهذا النوع من الخطاب وجب الكشف عنه أمام التحوّلات التي نشهدها على كل المستويات اللغوية والفكرية، والتي من ورائها ظهرت تكتلات، فالمؤرخين اليوم كما يقول يكتبون انطلاقا من ضغوطات ولا يملكون البدائل لوضع مفاهيم جديدة ومنهم من لا يملك الجرأة لإعادة تفكيك الخطاب التاريخي وإعادة تشكيله من جديد، الملاحظ أن كل واحد من الطرفين له وجهة نظر مختلفة عن الآخر، فالفعل الثقافي في الجزائر كما قال الدكتور قادة جليد هو مقاومة ثقافية خاصة، خارج المؤسسات الرسمية، وأن النهضة العربية لم تتحقق بعد على أرض الواقع، والسبب كما أضاف يعود إلى غياب الإطار الإجتماعي، كما أن الفكر يفتقر إلى الخاصية الإجتماعية، والأطر الإجتماعية من وجهة نظره وحدها التي تدافع عن المشروع التنويري الذي يطمح إلى بناء العقل الجديد ، لفشارة فقط أن الندوة تخللتها نقاشات جادة فمنهم من قال أن المفكرين والمؤرخين كانوا مسيّسين وفي الغالب معارضين فحدثت صدامات وقال آخرون أن الحديث عن العقل الجزائري خطوة هامة جدا لتحليل الحالة العقلية للنخبة في الجزائر.

***

علجية عيش

 

بقلم: الدكتورة أنيا شتاينباور 2024

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

يصادف الثاني والعشرين من نيسان ٢٠٢٤ الذكرى المئوية الثلاثمئة لميلاد إيمانويل كانط. تقدم أنجا شتاينباور الرجل وتجعلك مستعدا لانتقاداته الثلاثة.

عندما سألني الطلاب أن أوصيهم بكتاب تمهيدي جيد للفلسفة، فقد اعتاد أستاذ الفلسفة القديم أن يتذمر من " نقد كانط للعقل الخالص ". للوهلة الأولى يبدو هذا سخيفا: لأن نصوص كانط، وخاصة أعماله المتأخرة، من الصعب قراءتها فهي تثير الخوف من الفلسفة في كثير من الذين يحاولون ذلك. حتى أن صديق كانط موسى مندلسون، أحد أعظم المفكرين في القرن الثامن عشر، أعلن أن نقد العقل الخالص كان "يزيل العصائر العصبية". ومع ذلك، أعتقد أن أستاذي القديم كان على حق. بمجرد أن تجد طريقة لقراءة كانط، يمكن لنصوصه أن تعلمك كيفية التفلسف جيدا. إنها معقدة ومنهجية ونقدية بشكل مُرض، وتحفزك على المصارعة والاختلاف معها.

إذا، كيف تبدأ؟ من المفيد معرفة القليل عن خلفيته واهتماماته وطريقة تفكيره بالإضافة إلى المفاهيم التي يستخدمها.

على عكس العديد من فلاسفة التنوير العظماء الذين لا نزال نتحدث عنهم، فإن إيمانويل كانط، الرابع من بين تسعة أطفال، لم يولد في عائلة تمتلك ثروة وامتياز. كان والده صانع لجامات، وكان اقتصاديا واجتماعيا أقل بكثير من محطة وآفاق السراج. كانت العائلة من أتباع التقوى، وهي جزء من حركة دينية ظهرت في القرن السابع عشر تهدف إلى تنشيط الحياة البروتستانتية وإحداث إصلاح في الكنيسة. على الرغم من أن كانط لم يكن متدينا كشخص بالغ - وهو أمر مشهور جدا لدرجة أن الكثيرين أشاروا بإصبع الاتهام إلى الفيلسوف المؤثر في الكنائس المهجورة بشكل متزايد في كونيغسبيرغ - إلا أنه كان يعتز دائما بهدوء العقل والإيجابية التي سيطرت على أسلوب حياة التقوى، الذي يذكره بالحكيم الرواقي. لقد اعترف بحرارة طوال حياته بالتأثير المبكر لطريقة تفكير والدته "الطبيعية" بالإضافة إلى مبادئها الأخلاقية القوية. وبدعم من الأصدقاء والجيران الذين اكتشفوا موهبة كانط، تم تجميع الرسوم الدراسية معا لإرساله إلى مدرسة جيدة، وإن كانت صارمة للغاية. على الرغم من أن التدريس كان جافا جدا لدرجة أنه بدا وكأنه مصمم "لإزالة أي اهتمام" حتى بالأفكار والأسئلة الأكثر إثارة، إلا أن كانط ظل صاحب فضول فكري. سجل كطالب في الجامعة، التي تمكن من إدارتها ماليا من خلال العمل كمدرس خاص وكذلك من خلال الفوز في لعبة البلياردو - وهي المهارة الأخيرة التي ساعدته على إعالة نفسه خلال معظم حياته المبكرة. وفي سن السادسة والأربعين، حصل أخيرا على درجة الأستاذية في المنطق والميتافيزيقا التي كان يتوق إليها، جالبا معها الأمن المالي.

عاش كانط طوال حياته في كونيغسبيرغ، التي كانت في ذلك الوقت المركز التجاري الصاخب لبروسيا. كان أصدقاؤه متنوعين - أفضل صديق له كان تاجرا إنجليزيا مهاجرا يُدعى جرين، وكان طلابه دوليين، يأتون من بروسيا والولايات الألمانية و خارجها، ولكن أيضا من روسيا ومنطقة البلطيق وبولندا. بقدر ما كان كانط مكرسا نفسه للأوساط الأكاديمية، كان النصف الثاني من كل يوم مخصصا للتواصل الاجتماعي: تناول الغداء مع الأصدقاء، ولعب البلياردو، ولعب الورق، والصالونات، والمسرح. تم تسهيل هذه الحياة الممتعة جزئيا من خلال التحول الثقافي أثناء الاحتلال الروسي لكونيجسبيرج بين ١٧٥٨ و١٧٦٢ مما جعلها أكثر ليبرالية وأقل صرامة اجتماعيا وتحيزا وانفتاحا على الكماليات.

في طليعة العلوم الطبيعية والميتافيزيقا، نشر كانط كتابه " التاريخ الطبيعي العام ونظرية السماوات" في وقت مبكر من عام ١٧٥٥. وفيه، اقترح تفسيرا ميكانيكيا بحتا لبداية الكون، والذي ظل لفترة طويلة كان الوقت بمثابة أساس جدي للمناقشات الفلكية. وبحلول الوقت الذي كان من المقرر أن تنشر فيه كتابات كانط النقدية حول الدين، كان عهد الحكام التنويريين الليبراليين المتتاليين فريدريش فيلهلم الأول وفريدريك الكبير قد انتهى، وكان الملك الجديد فريدريش فيلهلم الثاني قد أعاد تقديم تدابير أكثر صرامة، مما يعني أن كانط دخل في مشكلة مع الرقابة. لفترة طويلة من الزمن، كانت هناك شائعات بأنه قد يتم نفيه أو على الأقل تكميم فمه، مما يفقده الحق في النشر مرة أخرى. وبينما لم يحدث ذلك، تلقى كانط تحذيرا شديد اللهجة من الملك شخصيا، الذي اتهمه بإساءة استخدام منصبه كمربي للعقول الشابة لقلبهم ضد تعاليم الكنيسة. وبعيدا عن الخوف، رد كانط رافضا جميع الاتهامات، لكنه وعد بعدم نشر أي كتابات أخرى عن الدين طوال حياة الملك. في الواقع، بعد وقت قصير من وفاة الملك، نشر كانط أفكارا أكثر انتقادا للدين. في عام ١٧٩٦، عن عمر يناهز 73 عاما، ألقى كانط محاضرته الأخيرة.

الانتقادات الثلاثة

فقط بعد عقود من الانغماس في العلوم والفلسفة والعديد من المواضيع ذات الصلة والكتابة عنها، بدأ كانط عمله في مشروعه "النقدي". بمجرد أن بدأ البحث عن أشهر أعماله، نقد العقل الخالص ، تغير أسلوب حياته. لقد تحول من مثقف شجاع اجتماعي إلى أستاذ منعزل يتبع أسلوب حياة صارم، تحكمه الدقة والانضباط الذاتي المتزايد. ويشار إلى "فلسفة كانط النقدية" أيضا باسم "المتعالي". وهذا ليس مرادفا لـ "متعال": فهو لا يعني "ما وراء"، أو بطريقة ما من عالم آخر. بل إن الكلمة لها معنى تقني هنا. وهو يدل على التحقيق في "الشروط اللازمة لإمكانية حدوث ذلك". بكلمات أخرى، في نقد العقل الخالص يتساءل كانط: ما الذي يجب أن يكون موجودا حتى تكون المعرفة ممكنة؟ وقد تساءل فلاسفة آخرون: ما هو محتوى معرفتنا؟ ماذا يمكننا أن نعرف؟ وعلى النقيض من ذلك، يسأل كانط عن الشروط المسبقة للمعرفة الإنسانية. وبالمثل، في نقد العقل العملي يسأل كانط عن شروط الأخلاق، وفي نقد الحكم عن شروط الجماليات وغيرها من تطبيقات الحكم.

لماذا تُعرف انتقادات كانط الثلاثة الشهيرة بهذا الاسم؟ ما الذي ينتقدونه ولماذا؟ إنها انعكاس نقدي لحدود تطبيق العقل، وفي الوقت نفسه، لتقليد كانط الفلسفي. تلقى كانط تعليمه في العقلانية، وبالتحديد فلسفة لايبنتز كما نقحها كريستيان وولف. يعتقد العقلانيون أن المعرفة تنبع من العقل. لقد بدأت الشكوك حول دقة هذه الفكرة الأساسية تظهر عند كانط قبل سنوات من فترته النقدية، لكنه عندما قرأ ديفيد هيوم استيقظ تماما من “سباته العقائدي”. أصبحت "الدوغمائية" طريقة كانط للإشارة إلى العقلانية، في حين أشار إلى تقليد هيوم، التجريبية، باسم "الشك". التجريبيون، على عكس العقلانيين، يعتقدون أن المعرفة تأتي من الخبرة وحدها. من المفيد بشكل خاص توضيح التمييز بين العقل والفهم. "السبب" هو قدرة البشر على التفكير المنطقي. لا علاقة له بكونك ذكيا أو متعلما بشكل خاص. في حين أن هناك طرقا يمكنك من خلالها تحسين مهاراتك في التفكير، يعتقد كانط أن هذه قدرة نمتلكها جميعا، لذلك لا يُعفى أحد من التفكير بعقلانية. ويعني القدرة على استنتاج الاستنتاج من الأسباب وتجنب المغالطات مثل عقد معتقدات متناقضة بشكل متبادل. لذا فإن "العقل" هو ما نستخدمه للتفكير بشكل جيد؛ إنها مستقلة عن الخبرة. وعلى النقيض من ذلك، فإن "الفهم" يتعلق بالطريقة التي نفهم بها العالم، وبالتالي فهو يتعلق بالتجربة. ويأخذ هذا التمييز أيضا شكلا قبليا – “قبل الخبرة” وشكلا بعديا – “بعد الخبرة”. تنبيه المفسد: سيقول كانط أن العقل ليس شرطا كافيا للمعرفة. وهو يعتقد أننا بحاجة إلى مدخلات من العالم لامتلاك المعرفة، لذا فإن الفهم والطرق المعقدة التي يعمل بها العقل ويتفاعل مع الحواس والعالم الخارجي هي التي تمنحنا المعرفة. المعرفة هي أمر لاحق وأي محاولة للحصول على المعرفة بالعقل وحده لن تؤدي إلا إلى إغراقنا في "الظلام والتناقضات". في مجال الأخلاق، الذي يغطيه نقد العقل العملي ، يأتي العقل حقا في حد ذاته: يعتقد كانط أننا نستخدم العقل لنكون أحرارا في تفكيرنا حول المبادئ الأخلاقية، فهي بديهية.

لماذا هناك ثلاثة انتقادات؟ لماذا ليس فقط اثنين؟ من السهل رؤية الفرق في التركيز بين نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي. في النقد الأول ، اكتشف كانط ما نحتاجه لاكتساب المعرفة. ومع ذلك، بالنظر إلى الطريقة التي نفكر بها في القيم الأخلاقية، سرعان ما أصبح من الواضح أن التفكير الأخلاقي يعمل بطريقة مختلفة. وهذا ما عبر عنه في النقد الثاني. إذن، ماذا يفعل النقد الثالث، نقد الحكم؟ إنه موجود للتوسط بين عوالم النقدين الأولين. عند قراءتهما، يبدو لنا عالم الخبرة الحسية والعالم الأخلاقي، الطبيعة والحرية، منفصلين. فالحكم قدرة إنسانية تجمع بين الاثنين. وهناك دراسة الحالة الجيدة علم الجمال. البيان الجمالي يختلف عن بيان المعرفة: "الوردة حمراء" تختلف عن "الوردة جميلة". ومع ذلك، فإن الحكم على الجمال يختلف أيضا عن البيان الأخلاقي. تتطلب الأحكام الجمالية الاهتمام بالطبيعة، والخبرة الحسية، واستخدام الحرية الإنسانية، والخيال الذاتي.

لماذا تعتبر الانتقادات مهمة جدا، ولماذا تظل كذلك؟ لماذا اعتبر شوبنهاور أن نقد العقل الخالص هو "أهم كتاب كتب في أوروبا على الإطلاق"؟ لماذا شعر كوليريدج، عند قراءته، بأنه "كتب على يد عملاق"؟ هل لأن كانط على حق في كل ما يقوله في حالات النقد الثلاثة ؟ بالطبع لا. لكن هذا سيكون الشيء الخطأ الذي يجب البحث عنه في أي فلسفة. على سبيل المثال، اعترض الكثيرون -بشكل مبرر- على استنتاج كانط في كتابه نقد العقل العملي بأن الأخلاق مبنية على قواعد يجب على كل شخص أن يختارها بحرية بنفسه، وأنه يجب عليه بعد ذلك أن يطيعها "بشكل قاطع". إن ما يسمى بـ "الضرورات المطلقة" تعتبر ملزمة مسبقا بغض النظر عن الوضع. من الصعب العيش بهذه الطريقة الرسمية للغاية للنظر إلى الأخلاق. ومع ذلك، هناك الكثير مما يمكن قوله عنه، لأن كانط يعبر عن شيء مهم حول طبيعة الأخلاق والتفكير الأخلاقي. ومن خلال القيام بذلك، فقد تقدم بشكل ملحوظ في المناقشة الفلسفية. وبينما يمكن أن نقول إننا لا نستطيع أن نتبع نظامه في حياتنا، فإننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نتجاهله في الأخلاق الفلسفية. وينطبق الشيء نفسه على نقد العقل الخالص ، الذي غيرت أفكاره إلى الأبد طريقة تفكيرنا في كل من الميتافيزيقا ونظرية المعرفة. أخيرا، يقدم كتاب "نقد الحكم" عملا رائدا متميزا في وضع أسس الجماليات الفلسفية، والتي لا تزال صحيحة حتى اليوم. لذلك، بدلا من أن نتوقع من أي كتاب فلسفي أن يقدم لنا إجابات نهائية، فمن المفيد قراءته كمساهمة تفتح وجهات نظر جديدة وتجعل المزيد من الفلسفة ممكنًا.

الآن أنت جاهز تماما!

الآن لديك فكرة أساسية عن خلفية كانط ومشاريعه، لذا فأنت في مكان جيد بما يكفي لبدء قراءته، حتى انتقاداته الصعبة. كل شيء آخر تحتاجه سيتعين عليك إحضاره إلى الحفلة بنفسك. إن قراءة الفلسفة هي عملية بطيئة ويجب أن تكون هكذا دائما، لذا فإن الصبر هو أحد الأشياء التي لا يمكنك الاستغناء عنها هنا. يدعونا كانط، مثل العديد من الفلاسفة العظماء، إلى الانخراط بشكل نقدي في أفكاره، لذا كن مستعدا للتفكير بنشاط. وأخيرا، اتخذ قرارك بشأن قيمة مساهمته في عصرنا. لكن افعل ذلك بطريقة مستنيرة ومعقولة جيدًا. قم بعملك. هكذا تفلسف كانط، وينبغي لنا أن نفعل ذلك أيضا.

***

* الدكتورة أنيا شتاينباور 2024

.....................

المصدر

What You Need to Read Before You Read Kant

22nd April 2024 is the 300th birthday of Immanuel Kant. Anja Steinbauer.

https://philosophynow.org/issues/161/What_You_Need_to_Read_Before_You_Read_Kant

ماذا يعني حين يكون للمرء عينان في عالمٍ يكون فيه الآخرون جميعاً عمياناً، لستُ ملكةً هنا، كلا، أنا ببساطة الإنسانة التي وُلدتْ كي ترى هذا الرعب، يمكنكم أن تحسوا به، لكنني أحسه وأراه معاً" جوزيه ساراماغو (رواية العمى)

في متاهات الواقع المضطرب وتسارع وتيرة الأحداث من حولنا، نحاول أن نجتاز تضاريس الموضوعات والتحديات الملحة، ولكننا نظل غير مدركين لتداعياتها، تخيل مجتمعًا تتكشف فيه المناقشات، وتشتغل الأحداث، ويتم اتخاذ القرارات، واتخاذ الإجراءات، كل ذلك بينما يظل الأفراد في حالة من السبات المعرفي، وتقاعس الأدراك، هذا هو جوهر السرنمة الجماعية، وهي حالة ينخرط فيها الأفراد في عدد لا يحصى من المواضيع والقضايا دون أن يدركوا حقًا أهميتها أو تداعياتها فهي التفاعل والسير مع وتيرة الأحداث الاجتماعية دون وعي، ومن المناقشات السياسية إلى الخطاب الثقافي، يلوح في الأفق شبح المشاركة اللاواعية، الأمر الذي يلقي بظلاله على النفس الجماعية.

ويؤكد عالم الأجتماع العراقي الدكتور علي الوردي " ان الحياة الاجتماعية كلها عبارة عن شبكة من التنويم المتبادل، حيث ينوم الناس بعضهم بعضاً ويوحي بعضهم إلى بعض دون أن يشعروا، والتنويم الاجتماعي له أثر بالغ في شل التفكير، فالذي يقع تحت وطأته لا يستطيع ان يفكر الا في حدود ما يملي عليه الايحاء التنويمي العام، وأنت لا تستطيع أن تجادله أو تباحثه مهما يكن دليلك إليه صارخا، ان إطاره العقلي مغلق بشكل لا ينفذ إليه اي برهان مهما كان، يصح القول ان التنويم الاجتماعي موجود أينما وجد الانسان، ولا بد لكل انسان ان يقع تحت وطأته قليلا او كثيرا، وكلما ازدادت ثقافة الناس وتفتحت عقولهم ضعف فيهم اثر التنويم وقلت مخاطره".

في سياق المجتمع العراقي، الذي يتصارع مع عدد لا يحصى من التحديات الداخلية والخارجية، فإن ظاهرة السرنمة الجماعية أكثر تعقيداُ من ظاهرة التنويم الاجتماعي حيث تكاد تستفحل في ظل التأثير الرقمي متجسدة في الجري وراء الأيقاع الجمعي، فلم يعد الأيحاء الاجتماعي اللاعب الوحيد في صياغة السلوكيات الجمعية وأنما طريقة التفاعل مع الحدث وتشكيل التصورات الجمعية وخلق ردود فعل غير مسبوقة وتشكيل سلوكيات مركبة تتخذ وتيرة سريعة، ومن ثم تهدأ وتنتهي، وبالتالي تفاقم ذلك يسبب أزمة شاملة ومتعددة الأبعاد وغير مفهومة، نظراً لسيادة نمط خطي من السلوك الغير مستقر والغير قادر على تصور تعقيدات الظواهر، مما يزيد في الولوج بالعمى وسوء الفهم في وسط خلفية من الموروثات التاريخية، والتوترات الجيوسياسية، والفوارق الاجتماعية والاقتصادية، يتنقل الأفراد في تضاريس الحياة اليومية، وغالبًا ما يكونون غير مدركين للتيارات الأعمق التي تشكل تجاربهم، وسواء كان الأمر يتعلق بترندات الاحداث المحلية، أو الأنخراط والتفاعل مع الأحداث العالمية والقضايا الانسانية بشكل عام، فإن التأثير المنتشر للتأثر الغير واعي يتخلل النسيج المجتمعي، مما يحجب التصورات ويعيق الأدراك الواعي لما يحدث حولنا.

في جوهره مفهوم السرنمة الجماعية بمثابة تذكير بمزالق المشاركة اللاواعية و تعزيز الوعي والحوار، تستطيع المجتمعات تجاوز حدود السبات المعرفي، وتبني إحساس جديد بالقوة والفهم، وبينما نبحر في مشهد التحديات المجتمعية الذي يتطور باستمرار، من خلال تكثيف النداء للاستيقاظ من نشوة السرنمة الجماعية، لشق طريق نحو مستقبل أكثر وعياً...

**

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماعي في جامعة بابل

..........................

* السرنمة: هو  اضطراب النوم الذي ينتمي لعائلة الخطل النومي، ويُمثل هذا الاضطراب حالة مختلطة من النوم واليقظة، حيث يقوم المصاب بالاضطراب بأداء وظائف أو أعمال عادة تحتاج إلى حالة كاملة من الانتباه واليقظة، مثل التحدث، الجلوس في السرير، المشي تجاه الحمام، قيادة السيارة، الإيماءات العنيفة، الانتحار والقتل، وقد أستعاره عالم الأجتماع المعاصر إدغار موران كمصطلح، ووظفته بشكل أوسع في المقال أعلاه ..

 

أحياناً يصاب الانسان بالحيرة جراء رد الفعل الناجم عن سوء الفهم او حتى في موضوعة النقد وابداء الرأي . والنقد الموضوعي كما نعرفه حقيقة حضارية اكدها الفلاسفة الالمان في مقدمتهم " هيغل و هايدجر " وهما استخدما العقل النقدي الموضوعي في الحياة الثقافية حيث تشترط لغة التخاطب فيها (تفهم وجهات النظر، والإصغاء للطرف الآخر، وعدم المقاطعة في الحوار، وتجنب احتكار الرأي النقدي على أساس صورة الكمال، ورفض التعالي من باب ان النقد والناقد جناحان يتعاليان على الفكر والمفكرين والرأي والثقافة والمثقفين)، حتى ان الناس في المدينة الاغريقية الموغلة في القدم كانوا يتخاطبون بمنطق العقل ويتحاجون وفق منطق الاقناع، ومنطق الاقناع يسعف العقل النقدي في المحاجة العقلية القادرة على استقطاب الرأي الآخر.

والنقد العقلي، لا الإرتجالي، يعكس قيمة مهمة بين الاوساط التي تصغي وبين الذي يتحاور وبين الذي يمارس النقد .. والنقد من أجل النقد يعد قسرياً تهافتياً يخرج عن سياق المخاطبة العقلية، التي ترسم معنى للفكرة وتصحح مسارها او تضفي ما يغني جوهرها في محاجة برهانية موضوعية.. والغائية هنا تتمثل في إشاعة التخاطب في النشاط الاجتماعي الثقافي وتحويله الى ظاهرة ثقافية ليست نرجسية ذاتية قسرية تحتكم الى رد الفعل الانفعالي حين يقاطع هذا الرأي ويجاري ذاك .

إن النقد ووظيفته العليا التقويم والتقييم الموضوعيين اللذين يجعلان الناقد يعوف ذاته في خارج اطار الشخصنة، والاحتكام الى ثوابت النقد المتعارف عليها، وهي ثوابت ليست فردية ولا شخصانية ولا يسودها الاقحام الشخصي القسري للرأي ولا للانفعال، بل على العكس، الثابت في النقد يشترط الإقناع وتكريس المحاجة النافعة، وعدا ذلك يمسي هذا الاسلوب في النقد لآذعاً وهداماً وطارداً للإبداع الثقافي وبالتالي سلطوياً.

الفكر واطروحاته، عالم معقد بين الرؤى المتباينة والقضايا المتناقضة، والمحاجة في النقد الموضوعي تتيح للحياة الادبية والثقافية ان تحظى بمنظور اجتماعي يحقق رؤية اجتماعية عامة ذات منفعة تغني الفكر وتنعش الثقافة، وتستبعد احتكار الفكر واحتكار الثقافة، وبالتالي تشجيع الفكر المبدع لا كسر الابداع بقهرية النقد الانفعالي، وخاصة اسباغ صفة الناقد بصورة غير موضوعية لخلو المؤهلات والصفاة النقدية في إبداء الرأي والممارسة . فكيف يمكن تهذيب العقول بغية الارتقاء بمسؤولية الوعي النقدي الى المستوى الحضاري؟

الناقد يجمع بين الثقافة الواسعة والفكر العميق ويحيط بثوابت النقد وغائيته معرفية وليست غرضية أو نفعية أو تحريضية أو تهديمية، كما أنه ليس إحتكارياً في الرأي تزمتياً في إبداء النقد.. فكيف له أن يثبت العكس إذا لم يحتكم الى ثوابت الفكر وثوابت النقد الموضوعي سالفة الذكر؟

والناقد يتوجب ان يكون عليه رقيب يضبط مساره اذا ما خرج عن مسار النقد الموضوعي بإسباغ شخصنته، وإذا كان الناقد لديه وظيفة هي التقويم والتقييم وهو غير مؤهل لوظيفة النقد، فمن يضبط إيقاع الناقد الذي يمارس الإنتقائية الغرضية ؟

قال افلاطون (اذا كانت الفلسفة بنت العقل النظيف الحر، فإن الاستبداد يخنقها ويجهض ولادتها)، أما حيال منطق العقل النقدي نقول (إذا كان العقل النقدي يفتقر الى النضج فإن وظيفة الناقد تمسي قاصرة ومتهاوية والاحكام، التي تنضح عنها تكون احكاماً غير موضوعية وطارئة في عالم النقد وطاردة للإبداع .!!

***

د. جودت العاني

04 / مايس 2024

 

إن أحد أعمق المفكرين في القرن العشرين هو أكثرهم غموضاً. إن انتقاد "نيكولاس جوميز دافيلا" للديمقراطية قد يشرح إلى حد ما الأسباب التي تجعله يظل شخصية غير معروفة نسبياً في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، لأن الشعوب الغربية الحديث هم جميعاً أبناء عصر التنوير بطريقة أو بأخرى.

وُلد المفكر "نيكولاس غوميز دافيلا" Nicholas Gomez Davila سنة ١٩١٣ في بوغوتا، كولومبيا. وتوفي عام 1994 في نفس المدينة التي وُلد فيها. كان فيلسوفاً رجعياً كولومبياً يُشار إليه أحياناً باسم "نيتشه من جبال الأنديز".

سليل عائلة ثرية ذات علاقات جيدة مع، قضى دافيلا معظم شبابه في فرنسا، حيث التحق بمدرسة باريسية يديرها الـ "بينديكتين" Benedictine وهو نظام رهباني للكنيسة الكاثوليكية. أثناء تعافيه من نوبة طويلة من الالتهاب الرئوي، طور دافيلا حباً للأدب الكلاسيكي والذي استمر شغوفاً به طوال حياته. في الواقع، على الرغم من أن دافيلا لم يلتحق رسمياً بالجامعة مطلقاً، إلا أنه بحلول سن البلوغ كان بإمكانه التفاخر ببراعة فكرية واسعة النطاق تغطي كل شيء بدءًا من الاستفسارات الفلسفية واللاهوتية، إلى المشكلات التي لا تعد ولا تحصى في الفن والأدب والتاريخ.

بدأت شهرة غوميز دافيلا في الانتشار فقط في السنوات القليلة الماضية قبل وفاته، خاصة عن طريق الترجمات الألمانية لأعماله. لقد كان واحداً من أكثر منتقدي الحداثة تطرفاً، حيث يتكون عمله بالكامل تقريباً من الأمثال التي أطلق عليها اسم "المدارس" escolios ("scholia" أو "glosses").

كان غوميز دافيلا عالماً قضى معظم حياته في دائرة أصدقائه وداخل مكتبته. كان ينتمي إلى الدوائر العليا في المجتمع الكولومبي وتلقى تعليمه في باريس. بسبب التهاب رئوي حاد، أمضى حوالي عامين في المنزل حيث تلقى تعليمه على يد معلمين خاصين وطور حباً مدى الحياة للأدب الكلاسيكي. عاد في الثلاثينيات من باريس إلى كولومبيا، ولم يقم بزيارة أوروبا مرة أخرى، باستثناء إقامته لمدة ستة أشهر مع زوجته في عام 1948. قام ببناء مكتبة ضخمة تحتوي على أكثر من 30 ألف مجلد تمحور حولها وجوده الأدبي. وفي عام 1948 ساعد في تأسيس جامعة الأنديز في بوغوتا.

واقع لا يمكن تمثيله

على الرغم من درجة سعة الاطلاع التي يحسد عليها، لم يبذل دافيلا أي جهد كبير لنشر كتاباته. كان دافيلا رجلاً عادياً يفضل العزلة المنعزلة في مكتبته على الأضواء التي يستمتع بها من يسمون بالمثقفين العامين، وقد قيل إن دافيلا قال إن "الخطوة الأولى للحكمة هي أن نعترف، بروح الدعابة، أن أفكارنا ليس لها أي سبب للظهورقد لا تهم أي شخص." ومع ذلك، بناءً على طلب من أخيه، بدأ دافيلا في النهاية في تجميع ملاحظاته وتأملاته ومقالاته الغزيرة في عدد من المجلدات القصيرة. أشهرها، Escolios a un Texto Implicito (المقدم باللغة الإنجليزية باسم "شروح على هامش نص ضمني")، يتكون بالكامل تقريباً من "scholia" أو "glosses" - أقوال مأثورة موجزة مؤلفة بأسلوب أدبي يذكرنا الأعمال القديمة مثل حياة وآراء الفلاسفة البارزين لـ "ديوجين لايرتيوس" Diogenes Laertius وتأملات "ماركوس أوريليوس" Marcus Aurelius.

تشير كلمة "scholia" تاريخياً إلى التعليقات النحوية أو النقدية أو التفسيرية التي تحدد هوامش النصوص والمخطوطات. في كثير من الحالات (مثل تعليقات رئيس الأساقفة البيزنطي "أوستاسيوس" Eustasius على "هوميروس" Homer على سبيل المثال) أثبتت هذه النصوص الهامشية أنها مصادر معلومات مهمة للغاية حول جوانب مختلفة من الماضي القديم والعصور الوسطى. تتبع مدارس دافيلا نفس ترتيب الأفكار تقريباً، باستثناء أنها لا تصاحب أي نص مادي. بل هي تأملات في نص ضمني، وهو نص غير مكتوب لا يوجد إلا في ذهن المؤلف. على الرغم من إيجازها، فإن كتابات دافيلا (تشبه إلى حد كبير نظيرتها القديمة) تقدم للقارئ المتأمل تركيبة واضحة تعمل على إلقاء الضوء على التوجه السياسي والجمالي والروحي للعالم الحديث.

في عام 1954، نشر شقيقه المجلد الأول من أعمال غوميز دافيلا، وهو عبارة عن مجموعة من الملاحظات والأمثال تحت عنوان Notas I - ولم يظهر المجلد الثاني منه مطلقًا. ظل الكتاب غير معروف تقريبًا لأنه تم طباعة 100 نسخة فقط وتم تقديمها كهدايا لأصدقائه. وفي عام 1959، أتبع ذلك بكتاب صغير من المقالات تحت عنوان Textos I (مرة أخرى، لم يُنشر أي مجلد ثانٍ). تطور هذه المقالات المفاهيم الأساسية لأنثروبولوجية الفلسفية بالإضافة إلى فلسفته في التاريخ، وغالباً ما تكون بلغة أدبية مليئة بالاستعارات. في هذه المقالات، أعرب أولاً عن نيته في خلق "خليط رجعي" لأن الواقع، كما قال، "لا يمكن تمثيله في نظام فلسفي".

لم يقم غوميز دافيلا بأي محاولات لنشر كتاباته على نطاق واسع. فقط عن طريق الترجمة الألمانية (ولاحقًا الإيطالية والفرنسية والبولندية) التي بدأت في أواخر الثمانينيات.

على الرغم من أنه ليس من الواضح تماماً سبب اختيار دافيلا للـ "سكوليون" Scullion ـ أي آراء تم التعبير عنها في الأمثلة ـ كوسيلة تعبير مفضلة لديه، إلا أن المرء يشك في أن الاختيار كان مستوحى من قناعته الطويلة الأمد بأن الحياة لا يمكن اختزالها في أي نظام أو نظرية فلسفية فريدة. بعد أن شهد قرناً شابته الأيديولوجيات الشمولية المدمرة التي جلبت البشرية إلى حافة الغرق، بالنسبة لدافيلا كان أفضل ما يمكن أن يأمل فيه هو التطور المطرد لخليط فلسفي خيالي، على الرغم من عدم قدرته على فهم الحقيقة في مجملها.

في حين أن شك دافيلا في الأنظمة الفلسفية قد جعلته ـ كما لاحظ أحد الباحثين ـ "مفكراً في شظايا"، إلا أن هناك العديد من الموضوعات المتكررة المترابطة في جميع أنحاء عمله. من المهم بشكل خاص النموذجان الأساسيان اللذان رآهما دافيلا في التمثيل على مسرح تاريخ العالم. أول هؤلاء، والذي يمكن أن نسميه "الطوباوي التقدمي"، هو ـ كما يوحي الاسم ـ بطل القوى الديناميكية للتقدم. واقتناعا منه بأن "الأفضل دائما ينتصر، لأن ما ينتصر يسمى الأفضل"، يلتزم التقدمي الطوباوي بنظرة غائية للتاريخ. وهذا يعني أنه يعتقد أن التاريخ يتطور على طول خطوط عقلانية حتى يبلغ ذروته في نهاية المطاف في نقطة نهاية حتمية، مثل النهر الذي يتدفق ويتدفق على طول مجراه حتى يبتلعه بحر عنيد. كما يوضح دافيلا:

"يميل التقدمي الراديكالي نحو الحدث الوشيك من أجل تفضيل وصوله، لأنه في اتخاذ الإجراءات وفقاً لاتجاه التاريخ، يتطابق العقل الفردي مع عقل العالم. بالنسبة للتقدمي الراديكالي، فإن إدانة التاريخ ليست مجرد مهمة عبثية، ولكنها أيضاً مهمة حمقاء. مشروع عقيم لأن التاريخ ضرورة ومشروع أحمق"

زاهد في المناصب

بعد انهيار الدكتاتورية العسكرية في عام 1958، عُرض على غوميز دافيلا منصب كبير كأحد مستشاري رئيس الولاية، وهو ما رفضه كما فعل فيما يتعلق بالعروض اللاحقة، في عام 1974، ليصبح سفيراً في لندن. على الرغم من دعمه لدور الرئيس اللاحق "ألبرتو ليراس كامارغو" Alberto Lleras Camargo في إسقاط الدكتاتورية، إلا أنه امتنع عن أي نشاط سياسي بنفسه، وهو القرار الذي توصل إليه بالفعل في وقت مبكر من ممارسته ككاتب.

نتج عن هذا القرار انتقاداته القوية ليس فقط للممارسات السياسية اليسارية، ولكن أيضاً للممارسات السياسية اليمينية والمحافظة، على الرغم من أن مبادئه الرجعية الصريحة تظهر بعض أوجه التشابه مع وجهات النظر المحافظة. استندت أنثروبولوجيته المتشككة إلى دراسة وثيقة لـ "ثيوسيديدز" Thucydides و"جاكوب بوركهارت" Jacob Burkhart بالإضافة إلى تأكيده على الهياكل الهرمية للنظام في المجتمع والدولة والكنيسة. انتقد غوميز دافيلا بشدة مفهوم سيادة الشعب باعتباره تأليهاً غير شرعي للإنسان ورفضاً لسيادة الله. كما كان ينتقد بشدة المجمع الفاتيكاني الثاني الذي اعتبره تكيفاً إشكالياً مع العالم. وأعرب بشكل خاص عن أسفه لاستبدال قداس "ترايدنتين" Tridentine الكنسي اللاتيني بالقداس العامي لبولس السادس في أعقاب المجمع. على غرار "خوان دونوسو كورتيس" Juan Donoso Cortes. اعتقد غوميز دافيلا أن جميع الأخطاء السياسية نتجت في النهاية عن أخطاء لاهوتية. ولهذا يمكن وصف فكره بأنه شكل من أشكال اللاهوت السياسي.

إن الأيديولوجيات الحديثة مثل الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية، هي الأهداف الرئيسية لانتقادات غوميز دافيلا، لأن العالم المتأثر بهذه الأيديولوجيات بدا له منحلاً وفاسداً.

انتقاد الحداثة

ناقش غوميز دافيلا الكثير من المواضيع والأسئلة الفلسفية واللاهوتية ومشكلات الأدب والفن والجماليات وفلسفة التاريخ وكتابة التاريخ. لقد استخدم أسلوباً أدبياً في العبارات الموجزة مع حساسية كبيرة لمسائل الأسلوب والنبرة. الطريقة الأدبية التي طورها هي اللمعان الذي استخدمه للتعليق على العالم، خاصة في المجلدات الخمسة من كتاب "الاختيارات على نص ضمني: الاختيار" Escolios a un texto implícito: selección الذي صدر عام 1977 وتم نشره لغاية التسعينيات. لقد خلق "الرجعي" كقناع أدبي لا لبس فيه، وجعله نمطاً مميزاً من التفكير حول العالم الحديث في حد ذاته. حاول في أعماله اللاحقة تعريف "الرجعي" الذي تعرف عليه بطريقة إيجابية من خلال تحديد موقعه في مكان ما خارج الموقف التقليدي لليسار واليمين. على أساس الكاثوليكية التقليدية المتأثرة بالاستقامة الفكرية لنيتشه وآخرين، انتقد الحداثة ورأى نفسه مناصراً لـ "الحقيقة التي لن تموت".

إن النظرة الـ "غائية" Teleology للعالم التقدمي الـ "يوتوبي"  Utopianتقطع شوطاً طويلاً في تفسير انجذابه المتأصل إلى الأيديولوجيات المسيحية. وسواء كنا نتحدث عن "الثورة العالمية" الماركسية أو "نهاية التاريخ" النيوليبرالية، فإن الطوباوي التقدمي يصر على إيمانه المتحمس بقدرة البشرية على تحسين نفسها والتغلب على قوى الطبيعة. ومن خلال القيام بذلك، فهو يحاول من جديد تحقيق طموح الأسطورة الـ "بروميثيوسية" Prometheus.

الرجعي الأصيل

في مقابل الطوباوي التقدمي يوجد الرجعي الأصيل الذي اقتلع من جذوره وتشرد من خلال ما وصفه الكاتب الألماني "إرنست يونغر" Ernst Junger بـ "العملية العظيمة"، هو ذلك "الأحمق الذي يتبنى غرور إدانة التاريخ وعدم أخلاقية الاستسلام له". وبدلاً من التوافق مع الأهداف البرنامجية التي حددها التقدمي الطوباوي وفرق التدمير التابعة له، فإن أبطال الرجعية الحقيقيين "يقظون ولا يظهرون على لوحة إعلانات التاريخ"، وبالتالي يحاولون تجميع أجزاء العالم الممزق معًاً. كما يوضح دافيلا:

"أن تكون رجعياً لا يعني تبني قضايا محسومة، ولا المطالبة باستنتاجات محددة، بل يعني إخضاع إرادتنا للضرورة التي لا تقيدنا، وتسليم حريتنا للضرورة التي لا تجبرنا؛ بل هو العثور على اليقينيات النائمة التي ترشدنا إلى حافة البرك القديمة. إن الرجعي ليس حالماً حنيناً إلى ماضٍ ملغي، بل هو صياد للظلال المقدسة على التلال الأبدية".

باعتباره رجعياً، وليس محافظاً، يفهم الرجعي الأصيل أن تبني موقف محافظ أمر جدير بالاهتمام فقط في تلك العصور التي "تحافظ على شيء يستحق الحفاظ عليه". على عكس المحافظ العاطفي أو الرومانسي، فإن الرجعي الأصيل لا تراوده أوهام حول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. بل إنه يفهم أن "المغامرة الزمنية بين الإنسان وما يتجاوزه" يجب تجربتها هنا والآن. وإذا استعرنا مقولة من الباحث النمساوي "إريك فون كويهنلت ليديهن" Erich von Kuehnelt Ledehn فإن الرجعي الأصيل "يريد أولا أن يكتشف ما هو صحيح إلى الأبد، وصالح إلى الأبد، ثم إما استعادته أو إعادة تثبيته". إنه يمتلك عقلاً "سيادياً وليس مقيداً بالزمن".

ويترتب على ذلك أن الرجعي الأصيل يميل أيضاً نحو النظرة الدورية للتاريخ، أو الاعتقاد بأن تكشف التاريخ ليس، كما يعتقد الطوباوي التقدمي، تطوراً خطياً لا مفر منه، ولكنه عملية عضوية مشروطة بالطبيعة وتخضع لنفس القوانين من الصعود والهبوط، الولادة والاضمحلال. وكما يلاحظ دافيلا، فإن "عجلة الحظ" تشبيه للتاريخ أفضل من تشبيه "تطور البشرية".

لكن هذا لا يعني أن الرجعي الأصيل لا يستلهم من الماضي على الإطلاق. على العكس من ذلك، من أجل “إعادة بناء الكون المتحضر الذي يختفي من حوله في داخله”، يعتمد الرجعي الأصيل على الحكمة المقطرة لأصوات الماضي، التي يحافظ معها على مراسلات حميمة. بالنسبة لدافيلا، يتم إنجاز هذه المهمة بشكل أساسي من خلال القراءة. بعد أن جمع بنفسه أكثر من 30 ألف كتاب على مدار حياته، عرف دافيلا جيداً قوة "الاتصال مع النفوس الأخرى" و"أفكارهم الغريبة والصعبة والحادة" لإيقاظ الروح من سباتها العميق. وفقاً لاعتقاده بأن "النصوص الأدبية هي صيغ تعويذة تنقلنا إلى مناخات فكرية مختلفة"، لم ير دافيلا القراءة على أنها مجرد وسيلة لتعزيز تعليم الفرد ـ على الرغم من أن الأمر كذلك بالتأكيد ـ بل بالأحرى ممارسة روحية أساسية.

ذكر أن "كل كتاب نقرؤه يجب أن يتركنا أكثر ثراءً، أو فقرا، أو أكثر حزناً، أو أكثر سعادة، أو أكثر أمناً، أو أكثر غموضاً، ولكن لن يكون سليماً أبداً. إذا لم نشارك عند فتح كتاب ما باشمئزاز أو حب، فمن الأفضل أن نتركه حتى توقظ حاجة غامضة أو طلب محدد في نفوسنا العاطفة التي تنيرها مثل هذه القراءة. أي كتاب لا يجد سرنا، عاريات، مضطربات، ودماء، هو مجرد ملجأ مؤقت".

الطوباوي التقدمي

إذا حصل الرجعي الأصيل على المساعدة في مساعيه الجبارة من خلال الانخراط الذكي في العلوم الإنسانية، فإن الطوباوي التقدمي يعتمد على قوة التكنولوجيا المنتشرة في كل مكان، والتي تهدد "بتقنين الإنسان" وقطع علاقته بالطبيعة. وبتأكيده على أن "العوز الروحي يدفع ثمن الرخاء الصناعي"، أدرك دافيلا أن العالم المتكامل على نحو متزايد (وبالتالي المعرض للخطر) الذي أصبح ممكناً بفضل التقدم التكنولوجي لن يبلغ ذروته، كما يفترض الطوباوي التقدمي، بتحرير الإنسان، بل إلى "الاستبداد التام". "

واليوم، أصبحت بصيرة كلمات دافيلا واضحة للعيان. للحماية من التهديدات الوهمية التي يشكلها كل شيء، بدءًا من الأوبئة العالمية وحتى الهجمات السيبرانية المزعزعة للاستقرار، أثبت الإنسان المعاصر استعداده التام للتضحية بما تبقى من سيادته على مذبح دولة إدارية دائمة التوسع تقوم على التكنوقراط.

تسلط ملاحظات دافيلا المتعلقة بالتكنولوجيا الضوء على اختلاف إضافي بين الطوباوي التقدمي والرجعي الأصيل، أي مفاهيمهما المتباينة عن الحرية الإنسانية. في حين أن الطوباوي التقدمي يقدم فهماً مجرداً للحرية يعطي الأولوية للتحرر من جميع القيود المتصورة، فإن الرجعي الأصيل يفهم أن الحرية الحقيقية لا يمكن تحقيقها إلا عندما تقع في تفاصيل الزمان والمكان، حيث يتم تخفيف الحقوق والحريات الفردية من خلال الشعور بالاستقلالية، والواجب والمسؤولية تجاه مجتمعه. وبالتالي فإن الحرية التي يقدرها الرجعي الحقيقي هي حرية لشيء ما. يكتب دافيلا: "الحرية ليست غاية، بل وسيلة". "من يظن أنها غاية لا يدري ماذا يفعل عندما يصل إليها".

بالنسبة لدافيلا، فإن السياسة الحكيمة تتكون من "تنشيط المجتمع وإضعاف الدولة". ولكن من خلال الدفاع عن مفهوم مجرد للحرية، فإن الطوباوي التقدمي يقلب هذه الصيغة رأساً على عقب، لأن الحرية المجردة تأتي حتماً على حساب تلك المؤسسات الوسيطة، مثل الأسرة والكنيسة، التي تغذي أشكالاً أكثر اكتمالاً من الحرية وتقف بين الفرد والدولة كحواجز وقائية. كما يلاحظ دافيلا:

"قد لا تكون المؤسسة الاجتماعية مثل الأسرة ضرورية للبقاء مقارنة باحتياجات مثل تنفس الهواء. لكن انتهاك هذا النظام قد ينطوي على تدمير كل ما يتواجد داخله. وهكذا، في حين أن النظام قد لا يكون ضرورياً لبقاء الكائن الحي، فإنه قد يكون ضرورياً للحفاظ على كل ما هو بشري بشكل صحيح".

يتضمن مفهوم التقدمي الطوباوي للحرية اعتقاده بأن الإنسان الحديث قد تغلب على الحاجة إلى الله. وكما تقترح قصة عدن في الكتاب المقدس، إذا نجح الإنسان في التخلص من كل القيود، فسوف يصبح إلهاً خاصاً به. "وقال الرب الإله: هوذا البشر قد صاروا مثلنا، عارفين الخير والشر".

من منظور تقليدي، فإن هذا هو على وجه التحديد الهدف الذي حددته البشرية لنفسها خلال عصر التنوير، الذي سعت إلى استبدال الإيمان بالله بالإيمان بالعقل البشري. ومن وجهة نظر دافيلا، فإن نسب هذا الخطأ اللاهوتي تديمه الديمقراطية الحديثة، التي تكمل الإطاحة بالله من خلال وضع الإنسان في مركز الكون. وكما نلاحظ في أعمال دافيلا:

"إن الألوهية التي تنسبها الديمقراطية للإنسان ليست مجرد كلام شعري، ولكنها تطرح مبدأ لاهوتياً بحتاً. إن الديمقراطية تتحدث إلينا ببلاغة، وباستخدام معجم غامض، تعلن الكرامة الإنسانية، ونبل الأصل والمقصد، والهيمنة الفكرية على عالم المادة والغريزة. الأنثروبولوجيا الديمقراطية هي التي تتفق مع صفات الله الكلاسيكية".

قد يفسر هذا النقد إلى حد ما سبب بقاء دافيلا شخصية غامضة نسبياً في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. وفي السراء والضراء، فإن الغرب الحديث نتاج عصر التنوير بطريقة أو بأخرى، وأي هجر شامل للمؤسسات الديمقراطية لا بد أن يبدو اقتراحاً غير واقعي في نظر المراقب الصادق. ومع ذلك، كما ذكرنا سابقاً، فإن تفسير دافيلا على أنه ملكي مجنون يتوق لاستعادة الحق الإلهي للملوك هو إساءة فهم فكره برمته. من وجهة نظر دافيلا، فإن الخدمة المستمرة لمثل هذه "الحلول" السياسية الحالمة في كثير من الأحيان لا تؤدي إلا إلى تفاقم المشاكل ذاتها التي سعى مصمموها إلى حلها. يقول دافيلا: "إن المشاكل الميتافيزيقية لا تطارد الإنسان لكي يحلها، بل لكي يعيشها".

في الواقع، بالنسبة للرجعي الأصيل، فإن التكتيك الأضمن في التنافس المستمر مع الطوباوي التقدمي هو "متابعة آثار الخطى الإلهية في البرية البشرية" - ما وصفه الفلاسفة القدماء بالخير، والحق، والجميل. إذا كان صحيحاً، كما رأى دافيلا، أن "موت الله رأي مثير للاهتمام، لكنه لا يؤثر على الله"، فقد يكون هذا كافياً لتفسير مقولته "التاريخ الحديث هو حوار بين رجلين: أحدهما يؤمن بالله، والآخر يؤمن بأنه إله."

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

العديد من الفلسفات تعمل في ظل افتراض ان المعاناة سيئة. الهدف النهائي بالنسبة للبوذية، كما عبّر عنه بوذا في مثاله عن السهم المسموم، هو وقف المعاناة الشخصية من خلال القبول والتنوير. اما الرواقيون، فقد سعوا لإنهاء المعاناة في حياتنا من خلال العقلنة – خاصة التقسيم الثنائي للسيطرة.

فيلسوف القرن التاسع عشر فردريك نيتشة، يرى ان هذه الاتجاهات خاطئة: نحن يجب ان نصالح أنفسنا مع المعاناة ليس بالنظر اليها كشيء يجب تجاوزه، ولا كخطأ يمكن تصحيحه، وانما من خلال تأكيدها كضرورة وكجزء لا غنى عنه للحياة التامة.

في الحقيقة، بينما يسعى الرواقيون لتطهيرنا من الألم "اللاعقلاني"، وبينما يريد بوذا منا الهروب من دورة الشغف والرغبة (وبالتالي الهروب من المعاناة)، يرى نيتشه ان المعاناة يمكن النظر اليها كاستجابة أصيلة ومفهومة للحياة في عالم بلا نظام او هدف. في الحقيقة، العظمة غير ممكنة بدون المعاناة. في عمله (العلم المرح،1882)، يكتب نيتشة:

 "انظروا الى حياة أفضل الناس وأكثرها ثمارا واسألوا انفسكم هل ان الشجرة التي يُفترض ان تنمو الى علو كبير يمكن ان تتوقف عن النمو في الطقس السيء والعواصف، وهل سوء الحظ والمقاومة الخارجية، وانواع الكراهية والحسد والعناد وعدم الثقة والقسوة والجشع والعنف لا تنتمي الى الظروف المفضلة التي بدونها يصعب تحقيق أي نمو حتى في الفضيلة". وحول الدور الذي لعبته المعاناة في حياته، يكتب نيتشة في (نيتشة ضد فاغنر):

"بقدر ما يتعلق الأمر بمرضي، أليس من الصواب اني مدين له اكثر مما لصحتي؟ انا مدين له بصحتي وبفلسفتي ايضا".

اذا كانت هناك أشياء نقيّمها في حياتنا، فان نيتشة يريدنا ان ندرك باننا لا نستطيع تقييم تلك الاشياء بدون تقييم كل شيء أدّى لها. في مذكراته،يكتب:

"افرض اننا قلنا نعم للحظة واحدة، عندئذ نحن لم نقل فقط نعم لأنفسنا، وانما لكل الوجود. لأنه لا شيء يقف وحيدا، لا في أنفسنا ولا في الاشياء، واذا كانت ارواحنا قد اهتزت وفرحت على وتر السعادة مرة واحدة فقط، فان الامر كان ضروريا للابدية كلها لإحداث هذا الحدث الوحيد – وفي هذه اللحظة المنفردة عندما قلنا نعم، تكون كل الأبدية جرى احتضانها واستعادتها وتبريرها وتأكيدها".

السعادة لا توجد في عزلة، العظمة لا يمكن ان تحدث بدون معاناة. اذا اردنا تأكيد الحياة، لابد من تأكيد كل ما فيها، نتقبّلها بعيوبها. وفي العلم المرح، يكتب:

"فقط الألم العظيم هو المحرر الحتمي والنهائي للروح .. انا أشك بان مثل هذا الألم يجعلنا "أفضل"، لكني أعرف انه يجعلنا أكثر عمقا". ومع ان المعاناة ليست ممتعة تماما، لكنها تضفي علينا نوع من الحكمة المأساوية.

ربما المقياس الحقيقي للفرد، حسبما يقترح نيتشة، هو كمية الصدق الذي يمكنه تحمّله. وكما يذكر في Ecco Homo: "صيغتي للعظمة في الكائن البشري هي حب القدر: أي ان المرء لا يريد أي شيء يكون مختلفا، لا الى الأمام، ولا نحو الخلف، وليس في كل الأبدية. ليس فقط يتحمل ما هو ضروري، وانما يحبه".

نيتشه يطور هذه الأفكار الى مديات أبعد في عقيدته بالعود الأبدي، التي يتحدّانا بها لنعيش بطريقة نرغب بها ان نكرر نفس الحياة مرة بعد اخرى . كل غصة وحسرة، كل بهجة، كل يوم طويل من الضجر: هي في سلسلة متواصلة مرارا وتكرارا. فقط عندما نستطيع القول "نعم" للعود الأبدي يمكننا حقا مواجهة التحدي الذي أثاره حب القدر النيتشوي. 

***

حاتم حميد محسن

 

الفيلسوف كما اعتقد هو العقل الذي ينتج الأفكار والمفاهيم ويطرح الأسئلة الكلية الوجودية للوصول إلى ماهية الأشياء، والفيلسوف يسأل: ما الخير؟، ما الشر؟، ما المصلحة؟، أي يبد أ دائما سؤاله بما .. لماذا يبدأ الفيلسوف سؤاله بما؟ .. لأن السؤال بما هو سؤال عن الماهية؟.

أما المفكر، فقد يستعير مفاهيم الفيلسوف، ولكنه يفكر في جملة من القضايا أبعد من الفيلسوف، وبالتالي هو ينتج أجوبة عن مشكلات عامة وخاصة، فمثلا الذي يعرض لنا كتب التراث ويقرأها، فهذا يعد مفكر وليس فيلسوف، والذي يتحدث عن العادات والتقاليد في بلد من البلدان وفي علم من العلوم، فهذا نقول عنه مفكر وليس الفيلسوف، وكما قيل كل فيلسوف مفكر، وليس كل مفكر فيلسوف .

بيد أن الناس لا يميزون بين الفيلسوف والمفكر، وعندما سئل "مارتن هيدجر" قبل أن يموت: هل تجد مستقبلا للفلسفة للفيلسوف؟ .. قال لا، ولكن المستقبل للمفكر؟.. وعندما انتقد أحد الفلاسفة " لينين" .. قال عنه بأنه مفكر وليس فيلسوفا، بينما الفيلسوف لا حدود لفضائه، والفيلسوف جناح مفتوح يجتاح أقصى الحصون، وأكثرها انسدادا، ولهذا فالفيلسوف لا يجامل، وإذا رأيت فيلسوفا يجامل بحيث يكون من جهة يتحدث في اللاهوت ومن جهة يتحدث بالفلسفة، فهو واحد من أثنين: إما أنه ليس فيلسوفا، وإما أنه يكذب . فالفيلسوف لا يداهن مهما كان، وإذا ما حاول أن يداهن فربما يكون هناك نوع من الخوف، وهو ربما لا يريد أن يعرض نفسه للخطر فيستخدم التورية والرمزية وما شابه ذلك .

مثال ذلك ابن رشد حيث نجده في كتابه " تهافت الفلاسفة"  يختلف عن ابن رشد في فصل المقال فيما بين الحكمة من الشريعة والحكمة من الاتصال، فعندما تقرأ الكتابان لابن رشد تجد هناك فرق بين رشد هنا وابن رشد هناك، فابن رشد في فصل المقال يريد ألا يزعج الفقيه فقال:" لما كانت المعرفة بالمصنوعات كانت المعرفة بالصانع أتم "، وهنا استخدم ابن رشد كلمة الصانع ولم يستخدم كلمة الله، وفي نص آخر من ذات الكتاب قال ابن رشد " إن الحق لا يضاد الحق لما كان الشرع بمقصوده معرفة الصانع، ولما كانت الفلسفة أيضا معرفة الصانع، فالحق لا يضاد الحق" . وهنا نجد أن ابن رشد على الحقيقة لم بكن صادقا إذا كان مقصود الشرع معرفة الصانع، وكذلك الفلسفة نفس المقصد .

وهنا ابن رشد لم يكن صادقا، ولو كان صادقا لماذا لم يكتف هو بالشرع فقط بدلا من الفلسفة! . وهنا ابن رشد كان يخاف اللاهوتيين لأنهم فقهاء السلطان، وللأسف هم الذين طردوه من قصر السلطان .

ولهذا من النادر أن يُكتب نص خالٍ من المعنى، وما أكثر النصوص التي يجهد القارئ للوصول إلى معناها، ويصل. لأن الغموض في النص لا يعني خلو النص من المعنى، بل يعني أن المعنى ثاوٍ وراء النص.

لكن الفيلسوف ليس هو اللاهوتي  ولا يقترب منه إطلاقا، بل متحرر من الأجوبة اللاهوتية في سؤاله الفلسفي، والسبب في ذلك هو أن الفيلسوف ذو عقل برهاني، بينما اللاهوتي ذو عقل إيماني، وذلك دائما ما أقول عن القديس توما الأكويني بأنه لاهوتي وليس فيلسوف، وأقصد باللاهوتي هنا هو نفس ما قاله أستاذنا الدكتور أحمد برقاوي ذلك المؤمن بدين من الأديان ولكنه يسعى لتقديم خطاب تأويلي – عقلي للترسيمات الدينية المألوفة، والتي غالبا ما تكون أكثر قوة وتأثيرا من الترسيمات في حالها الأصلي، ولكنه، أي اللاهوتي يظل مشدودا إلى الكتاب المقدس أسماء النظر إليه أساسا لتفكيره.

والسؤال الآن: متي يتحول الفيلسوف إلى الأيديولوجيا، بحيث عنه بأنه فيلسوفا أيديولوجيا؟

اعتقد يكون الفيلسوف أيديولوجيا عندما تتحول بنية أفكاره التنظيرية إلى قبس من  الأفكار المعبرة عن غايات عملية، حيث يعتقد الفيلسوف عندئذ بأنها تعكس أهداف أمته أو طبقته أو فئته، في مرحلة تاريخية محددة، وتنطوي – هذه البنية –  كما يذكر أستاذنا البرقاوي على الوسائل الضرورية للنشاط العملي؛ من أجل تحقيق الأهداف التي تطرحها من خلال القدرة على الاقناع والإيمان بحقيقة أفكارها وإيمان -كهذا- هو الذي يحفّز الفاعلية النشطة للفلاسفة، ويوجد لديهم عصبية وحماسة شديدتين إن قوة الجانب الإيماني في الأيديولوجيا لا يكترث للجانب المعرفي، على الرغم من أنها تصاغ صوغًا نظريًا مفهوميًا في خطاب متماسك.

إذن الغاية من الخطاب الأيديولوجي غاية عملية كما قال البرقاوي، وليست علمية أو معرفية، لكن الأيديولوجي يسعى دائمًا لإظهار “علموية” خطاب غاياته، وفي كل الأحوال، إذا كانت الحقيقة العلمية حقيقية لذاتها، ومحكومة بطريقة إنتاجها والتحقق منها، وذات نتائج عملية غير مباشرة، فإن المعرفة الأيديولوجية ذات ارتباط لا تنفصم عراه بالوظيفة العملية التي تنشدها الأيديولوجيا.

ولقد شهدت السنوات الأخيرة مناقشات في الفكر الاجتماعي حول مسألة مهمة كما قال البرقاوي،، ألا وهي: هل يشهد عصرنا الراهن نهاية الأيديولوجيا؟ للإجابة عن هذه المسألة، يجب أن يميز بين مصير أيديولوجيا محددة، ومصير الأيديولوجيا بعامة.

إن لكل أيديولوجيا محددة عمرًا معينًا، والمقصود بعمر الأيديولوجيا المحددة ذلك الزمن الذي باستطاعة هذه الأيديولوجيا، أو تلك، أن تمارس في أثنائه تأثيرها في البشر، وتستمر في مد معتنقيها بطاقة روحية، تدفعهم إلى فاعلية نشطة، وتقيم في ما بينهم عصبية مشتركة.

إن أيديولوجيا ما تموت وتنتهي من أداء وظيفتها في حالين كما قال الدكتور برقاوي: في حال انتصار حاملها الاجتماعي، وبروز التناقض بين الأيديولوجيا، والممارسة العملية على نحو صارخ، فما إن يبرز تناقض كهذا، حتى تكف هذه الأيديولوجيا عن إنجاب القناعة بمنظومتها الفكرية، وبأهدافها العامة.

ألم تنظر الفلسفة وبخاصة الفلسفة الوجودية السارترية كما قال الدكتور برقاوي بأن الشخص مشروع، ولأن الشخص مشروع فإنه يغذ السير في الحياة من أجل تحقيق ذاته – المشروع . والمشروع هو ما لم يتحقق بعد، بهذا المعنى وبهذا المعنى فقط، فالمشروع هو الحلم. وكلامي ينصب على المشروع – الحلم بوصفه تصور الجماعات لعالم أرقى، مشروع الإنسان الذي يحلم بغدٍ أفضل، عن الجماعات التي تحلم بعالم سعيد، والمبدعون والمفكرون والفلاسفة والعلماء جميعهم يكتبون أحلامهم الكلية بوصفها أحلام الجميع. هذه الأحلام التي تتمنى عالماً أرقى هي أحلام يقظة، وكل أحلام يقظة هي في النهاية شكل من التفكير حتى لو كان بعضها غير واقعي.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

.............................

المرجع:

1- د. أحمد برقاوي: الأيديولوجيا وأصفادها، الأحد 2022/05/01

2- د. أحمد برقاوي: الأحلام والأيديولوجيات والأشرار، الجمعة 2022/07/01

3- أنظر حوار بدر العبري  مع د. أحمد برقاوي بعنوان العرب وعودة الفلسفة في الواقع المعاصر، يوتيوب..

الأفكار كالأشجار، ربما تذبُلُ أو تموت إذا حرمت من أسبابِ البقاءِ والديمومة. وسجنُ الأحياءِ قبرٌ لموتٍ مُعجَّل. ومصيرُ العقولِ مرهونٌ بحركتها الفكرية والعلمية. وربيعُها دوامُ النظرِ في صفحاتِ الكتبِ، وقراءةِ العلوم، وتدارسِ مسائلِ الخلقِ والكون.

قال لي يوماً: ما تفعلُ بكلِّ هذه الكتب، ولماذا تنفقُ كلَّ هذه الأموالِ من أجلِ شرائِها، العصرُ عصرُ التقنيةِ والسرعة، ولكَ أن تبحثَ ما تريدُ في محركاتِ البحث ومواقع الكتب، فتجدَ ضالتكَ!!

قلتُ له: نعم يا صديقي، هذا واقعٌ لا أتنصَّلُ من الاعترافِ به، والإذعانِ له، لكن هل برأيكَ، وبرغمِ كل هذه التقنياتِ، ارتقى فكرُ البشرية أم ارتدَّ ناكصاً إلى الوراء ؟َ! أتحدثُ بشكلٍ حصريّ عن الفكرِ العربي، والإسلامي بالذات.

قال: لا أظنهُ ارتقى إلى ما يجبُ أن يرتقيَ إليهِ البشرُ في أماكنَ أخرى من العالم.

قلتُ: العربيّ يا صديقي، وربما لأسبابٍ جينيةٍ أو تاريخية، أو نفسية، مجبولٌ على حب الدَّعةِ، واللهوِ والاتكالية. مطبوعٌ على حب الفوضى، وتخريبِ ما عمرهُ الآخرون. ومن سماتِ عقلهِ أنهُ يميلُ إلى التصلبِ في آرائهِ، ورفضِ كل تجديد إلا بشِقِّ الأنفس.

نشأت الحضاراتُ، وهي مجملُ النشاطِ البشريّ، في بقاعٍ عديدة من الأرض. قامت الحضارة الصينية في مكانها المعروف وبين الصينيين ومنذ آلاف السنين، وعرف عنها حب التصنيعِ وابتكار الأدواتِ والآلات. وقامت الحضارة السومرية والأكدية، محبةً للفنون والكتابة. وقامت الحضارة الإغريقية على حب التفلسفِ وكثرةِ الكلامِ، وروح الغزو، وتقديس الأرواح. وقامت الحضارةُ المصرية على تخليد الأحياءِ والاهتمامِ بما بعدَ الموتِ والتفنن بطرقِ حفظ الجثثِ والأموالِ، وتقديسِ الفراعنة. وقامت الحضارة الفارسيةُ على ابتداعِ الفنونِ والمهارات في صنعِ الجمالِ والزخرفةِ والنسج، بل والعلوم العقلية المختلفة والغلوّ في ما يختصّ بحيثياتِ الروحِ والتصوّف. كل هذا النتاج البشريّ تمَّ بإيحاءٍ خفيّ من سلطانِ الوراثةِ والجينات، وما اعتادَ عليه القومُ في كلِّ حضارة. ولو قرأنا التاريخَ القريبَ للعربِ والمسلمين على وجهِ الخصوص، ماذا تتوقع أن نجد؟ ما الذي قدّمهُ هؤلاءِ إلى إخوانهم البشر. جُبلَ العربيُّ المسلمُ على حبِّ أفكاره، وتقديسِ رموزهِ، والاستخفافِ بكل ما دونَ ذلك. يذمُّ الغربيّ وهو يكتبُ بالقلمِ الـ (باركَر) الذي صنعه الغرب، ويتشاتمُ القومُ وهم في مستنقعِ الخيبةِ سواء. يصدحُ بلسانهِ الطويل، على منابر المساجدِ بقتلِ الغربيّ المعتدي، والمخالفِ له في العقيدة، ولم يكن المقتولُ إلا عربياً مسلماً من أبناءِ جِلدَته، لأنه قال كلمة مدحٍ للغرب أو ظنّوا به هكذا. ينبذونَ المحتلَّ ونسوا أنهم قاموا في غفلةٍ من التاريخِ بغزوِ الآمنينَ واقتيادِ العذارى بين يديّ أمير المؤمنين!!! يتنافسُ الانجليزُ والعثمانيونَ على احتلالِ العراقِ وقبل أكثر من مئةِ عامٍ، فينتهزُ البشرُ الفرصة من أجلِ نهبِ بعضِهم بعضاً. لم يفكروا يوماً بتخليصِ أنفُسهِم من نير التسلط الفكري الجامد، قبل التخلص من سطوة المستعمرِ والغازي. يقضي الفقيهُ عمرهُ في صياغةِ الفتاوى التي تدعو إلى التخلصِ من أخيهِ المسلمِ، ولم يمس هذا الغازي بسوءٍ خوفاً من حرابِه وبطشه، أو قل: حفاظاً على مكتسباته. كانَ يؤمنُ بمقولةٍ خالدةٍ سمعتها من أفواهِ كثيرٍ من العقلاء وهي (كلُّ من يتزوجُ أمّي، فهو عمّي!!). ولي أن أسألَ سؤالاً لا أنتظرُ إجابته: هل نفعَ الدينُ البشرَ، أم كانَ أداةً وسلاحاً لإيقاعِ الضرر بالبلادِ والعِباد؟!

وهل لنا أن نتهمَ الدينَ بما حواه من تناقضاتٍ في طياتِ سُننه، بأنه هو السببُ في كل هذه الفوضى؟ أم أن الأداة التي اعتمدت في تطبيقه هي من الأدواتِ الجارحة لكبرياء الفكر الراقي للعقول البشرية. ما أعلمهُ عن الأنبياءِ، وهم الرجالُ الصالحون الذين بُعثوا من أجلِ سعادةِ البشر، أنهم يدعونَ إلى تحرير الرقابِ والأفكار من نير العبودية والتسلط والانغلاق بكل أشكاله. كونوا أحراراً في دنياكم؟ لا يستعبدكم الطمعُ؟ لكم دينكم وليَ دين، لا تُقصروا أولادكم على تربيتكم فهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم.... الخ.

حاول البشرُ السيطرةَ على جيرانه وبكل السبل المتاحة له، وحاول التخلص منهم حتى يرضيَ فضولَ وغرورَ عقله وجسده. وجاءَ من حفظ سطرين من سنن الأديانِ فحاول من جانبه أن يسيطر ويتسلط على أفكارِ البشر، لأنه يدرك مسبقاً أن السيطرة الفكرية تعني سيطرة تامة على كيان الإنسان تتبعها السيطرة المادية. ولا تستغربْ من أن هؤلاء لجأوا إلى ذاتِ الأدواتِ التي لجأ إليها المستعمرُ، من أجل إحكامِ السيطرة هذه. كلها حيلٌ ووجوهٌ تختلفُ أشكالُها، وتتفقُ في مضمونها ونتائجها الكارثية. ما وظيفةُ المثقفِ في ميدانِ هذه الإشكاليات المقلقة، والعواصف التي لا يهدأ لها أوارٌ، ولا تخفّ في وطأتها؟

على المثقفِ في مثل هذه الظروفِ والأوضاعِ أن يختارَ الطريقة الذكية والفكرية الخالصة كسلاحٍ مضادٍّ، من أجل كسرِ النعش الفكري وتخليص العقولِ من ظلمتهِ وضيقِ مساحته. هذا النعشُ هو الذي صممه ونقشه وصنعه الفكرُ الوصولي المستعمرُ مهما كانت صفته. لابد من كسرهِ، وإحراقه، حتى تعرجَ العقولُ بروحها الخلاقة إلى معارجِ الرقيّ، ومرافقة أشباهها من العقول المبدعة. لابد من الخروج على المألوفِ العتيق، ونبذِ التصلب والتطرفِ، وتوحيد الشخصية التي كثيراً ما وصفت بالازدواجية والوصولية والتبعية العمياء. وبعد الذي كتبتُه أعلاه، هل يمكنُ هذا، وهل لكل العقول أن تصل إلى ما ترسمه وتخطط له من تحول أم ستبقى هذه الكلمات محضَ أمنياتٍ فارغة، تجلس في نعش الأفكار؟!!

***

بقلم د. علي الطائي

 2024

مراجعة: جيفري هاوس، جامعة كريتون

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

يركز كتاب توبياس هوفمان على روايات اللغة اللاتينية عن الإرادة الحرة في أعمال الفلاسفة المسيحيين في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. يعتمد هؤلاء الفلاسفة على شبكة معقدة من التقاليد. إن تأثير أوغسطين واسع الانتشار، كما أن الأفكار الرئيسية من أنسيلم، وبرنارد من كليرفو، وبيتر لومبارد تشكل أيضا هذه المناقشات المدرسية. ومع تقدم القرن الثالث عشر، اكتسبت الأطر المفاهيمية للمفكرين القدماء الناطقين باليونانية - وخاصة أرسطو، ولكن أيضا نميسيوس وديونيسيوس الزائف - الهيمنة. وبطبيعة الحال، فإن الكتاب المقدس، الذي يتم تفسيره بعدد مذهل من الطرق المتنوعة، هو أيضا بمثابة مصدر موثوق. على الرغم من التعقيدات المختلطة أحيانا التي تحيط بهذا الموضوع، فإن هوفمان يقدم معالجة سهلة القراءة وواضحة وحتى ممتعة. يروي كتابه قصة عائلة من الأفكار أثناء توليدها، وتطويرها، وانتقادها، وإعادة تأهيلها، وإعادة تصورها، وقتلها، وإحيائها (حتى تحتوي هذه الدراسة على كل التقلبات والمنعطفات التي شهدتها رواية ثاكري). في الفصل الأخير، يتم تذكيرنا بالبراعة المذهلة للفلسفة المدرسية بالإضافة إلى حدودها.

يبدأ مسح هوفمان بتلخيص أغراض وحجج ثلاث شخصيات يختلف نهجها في حرية الإرادة بشكل لافت للنظر عن نهج خلفائهم في أواخر العصور الوسطى: أنسيلم، وبرنارد من كليرفو، ولومبارد. تناقش هذه الشخصيات السابقة ما يسمونه liberum arbitrium ، أو "القرار الحر"، في سياق الخطيئة، ويثير هذا السياق العديد من الأسئلة المركزية التي يطرحونها (مثل ما إذا كان القرار الحر يشمل حرية ارتكاب الخطيئة). نظرا لأنهم لا يعرفون شيئا تقريبا عن أخلاقيات أرسطو أو علم النفس الأخلاقي، فقد استمدوا إلهامهم بدلا من ذلك من الكتاب المقدس وأي وصول لديهم إلى المصادر الآبائية. أدت إعادة اكتشاف أعمال أرسطو الأخلاقية والنفسية إلى قيام خلفائهم في القرن الثالث عشر بإعادة تصور هذه الأساليب السابقة لاتخاذ القرار الحر. زود أرسطو الفلاسفة المدرسيين بتفسيرات للتداول والاختيار، بمخطط يمكن من خلاله تفسير التأثيرات السببية المختلفة للأشياء على قدرات النفس وتأثيرات تلك القدرات على بعضها البعض، مع تفسيرات لدور الإخفاقات المعرفية والشهية، وتلك الإخفاقات. ' الترابطات، لعبت في الخطيئة. لذا، بدءا من فيليب المستشار، نرى ظهور منظور جديد بشأن القرار الحر وأهميته. لا يضع فيليبس روايته في سياق الخطيئة، بل في سياق علم النفس. وهذه هي بداية ما يسميه هوفمان "المنعطف النفسي".

علم النفس البشري هو نظام فوضوي ومعقد من القدرات المعرفية والشهية العقلانية والحسية المترابطة. لكي نفهم الأخلاقيات المدرسية، علينا أن نفهم هذا النظام الرهيب. ومع ذلك، لكي نفهم القرار الحر، أو كما سيُطلق عليه في النهاية، الإرادة الحرة، فإننا لا نفعل ذلك. يتفق الفلاسفة المدرسيون عموما على أن القدرات المسؤولة عن الفاعلية والسيطرة والقرار الحر هما الوظيفتان اللتان يشترك فيهما البشر المتجسدون مع الملائكة غير الجسدية: العقل والإرادة. ولذلك يكمل هوفمان اعتبارات حرية الإنسان من خلال الاعتماد بحرية على المناقشات حول الحرية الملائكية. ليس فقط أن الروايات الأخيرة أكثر بساطة (حيث أنها مجردة من فوضى العاطفة الإنسانية والعقلية البليدة)، ولكن الأسئلة التي تتناولها - على وجه الخصوص، مسألة كيف يمكن لفاعل بدون عيوب أخلاقية سابقة أن ينتج خيارا شريرا - تتطلب من الفلاسفة تقديم تفسيرات مركزة حول أين تقع حرية الفاعل في التفاعل بين العقل والإرادة وأشياءهم.

يكرس هوفمان معظم جهوده لشرح الطرق التي يعالج بها المفكرون المدرسيون الأسئلة المستمرة حول الإرادة الحرة في الاستجابة لعلاجات بعضهم البعض. على الرغم من الاحتجاجات العديدة الأخيرة ضد هذه الممارسة، يقسم هوفمان فلاسفته المستهدفين إلى مثقفين، ومتطوعين، وتبديلات مختلفة للاثنين. المثقفون "يعرفون الفاعلية الحرة بشكل رئيسي بالإشارة إلى العقل"، ويعرفها الطوعيون "بشكل رئيسي بالإشارة إلى الإرادة" (5). ومن خلال نجاحه الواضح في إظهار خطوط التأثير والوراثة بين أعضاء كل مجموعة، يوضح هوفمان الفائدة الواضحة لهذه الفئات، بشرط أن يتم التعامل معها بالدقة والدقة التي يوفرها لهم: نحن نرى الطرق التي يتفاعل بها المثقفون والتطوعيون جادلوا ضد بعضهم البعض، والطرق التي عززت بها الأجيال المتعاقبة من كل مجموعة حجج أسلافهم، والطرق التي قدموا بها أحيانا تنازلات للمعسكر المعارض لخلق آراء صامتة أو هجينة (لم تكن ترضي أحدا بشكل عام). طوال العصر قيد المناقشة، ظلت المشكلات العامة لكل مجموعة كما هي: يجد المتطوعون صعوبة في تفسير مثل هذا الجهاز الغامض الميتافيزيقي مثل الإرادة ذاتية الحركة، بينما يجد المثقفون صعوبة في تفسير كيف أن الأسباب الطبيعية لا تتطلب العقل، ونتيجة لذلك، الإرادة أيضا.

يتفوق الكتاب في العديد من الفئات، وبشكل واضح في عرضه الصبور والواضح والمنهجي لأفكار معقدة بشكل محبط في كثير من الأحيان. أود التركيز على سمة من سمات العمل التي قد يتجاهلها القراء: فهي تحكي قصة عن تطور الأفكار حول الإرادة الحرة والتحكم والاستقلالية التي تعد نموذجا لطرق التدريس الفلسفية المتميزة لأي شخص يحتاج إلى التدريس أو الكتابة. حول تاريخ الفلسفة "المتعدد الأجيال". في معظم أجزاء الكتاب، "يختفي هوفمان"، جاعلا كل فيلسوف من العصور الوسطى إلى مركز الصدارة. وبالتالي، يتجنب الكتاب التحول إلى مجرد تلخيص أو إلى مناقشات عفا عليها الزمن تعرض اهتمامات معاصرة تفوق اهتمامات الفلاسفة قيد المناقشة. يسمح أسلوب العرض هذا أيضا للقارئ بفهم كيف تعلم مفكرو العصور الوسطى من بعضهم البعض (على سبيل المثال، يجمع دونس سكوتس بين تفسير بيتر جون أوليفي للصدفة المتزامنة مع وجهة نظر أنسيلم "الوصيتين" المعاد تصميمها لتطوير واحدة من الوصايا الثنائية). أكثر الروايات تأثيرا وإثارة للجدل حول الإرادة الحرة في الفلسفة المدرسية). نرى في هذه الأمثلة كيف توصل الفلاسفة، على مدى مائتي عام، إلى فهم أفضل - أو على أي حال، فهم أبعد - لهذه المشاكل. نرى أيضا كيف يؤثر تركيز الفيلسوف على مجال معين من مجالات الفلسفة دون المجالات الأخرى (مثل الميتافيزيقا على علم النفس) على تطور أفكار ذلك الفيلسوف. بحلول نهاية الكتاب، لدينا وجهة نظر متعددة الأجيال حول الاستراتيجيات البارعة التي استخدمها مفكرو العصور الوسطى لمعارضة آراء أسلافهم أو دعمها أو إعادة تصورها.

يقوم هوفمان ببناء دراسته للسماح لوجهات نظر كل فيلسوف مستهدف بالتألق دون تدخل كبير في المؤلف. لقد نجح في هذه المهمة من خلال إنشاء إطار عمل مبسط يقوم عليه بتركيب المشكلات الرئيسية التي سيتم مناقشتها مثل الطريقة التي يشرح بها الفلاسفة كيف أن الفاعل هو مصدر الفعل وكيف أن هذا الفعل مشروط. ثم يترك مفكري العصور الوسطى أنفسهم يناقشون هذه المشكلات. إحدى الطرق البارعة لتحقيق هذا الهدف هي البنية الموضوعية للكتاب. لا يبدأ هوفمان من البداية، إذا جاز التعبير، ويسير عبر كل ما يريد أن يقوله عن أنسيلم، ثم برنارد، ثم بونافنتورا، وهكذا حتى نهاية الكتاب الحتمية لوحدة أوكهام. يناقش كل فصل نطاقًا محدودًا من القضايا ويتعامل معها من منظور معين (على سبيل المثال، النظريات الفكرية الطوعية الهجينة أو الإرادة كمصدر للشر الأخلاقي). النطاق المحدود لكل فصل يعني أن المؤلف ليس مضطرًا إلى إجراء الكثير من التحولات بين أفكار الفيلسوف الواحد. يمكن للقارئ بسهولة أن يضع أهداف كل فصل في الاعتبار دون الكثير من التوجيهات المتطفلة من المؤلف. ومع ذلك، يقوم هوفمان بعد ذلك بتوزيع مناقشات كل فصل على الآخر بينما ننظر إلى المشكلات نفسها أو المشكلات المشابهة من وجهات نظر مختلفة. ولذلك فإن كل فصل متتالي يجلب شيئا جديدا إلى ما هو مألوف بالفعل.

قد يختلف المتخصصون في علم النفس الأخلاقي في العصور الوسطى مع تفاصيل بعض تفسيرات هوفمان، ولكن حتى التفسيرات الأكثر إثارة للجدل واضحة ومدافع عنها جيدًا ومعقولة. قام هوفمان أكثر من مرة بتصحيح التفسيرات الخاطئة الشائعة. هناك تفسيران فقط من تفسيرات هوفمان يبدوان لي مثيرين للإشكال، ولا يؤثر أي منهما على حجة الكتاب. الأول هو تأكيده على أنه، من وجهة نظر أنسيلم، بينما "من الممكن التصرف بناء على إرادة السعادة وعلى عكس إرادة العدالة، فإنه لا يرى أنه من الممكن تجاوز إرادة السعادة" (17). نظرا لأنه ليس من الواضح ما يعنيه "التجاوز"، فمن المحتمل أن يؤدي هذا الادعاء إلى تضليل القراء وجعلهم يعتقدون أنه من المستحيل على الوكيل تحقيق العدالة على حساب الميزة. ومع ذلك، في سقوط الشيطان ، يصف أنسيلم اختيار الملائكة الذين ثابروا على أنهم يفضلون العدالة على الميزة المتضاربة. ويشير هوفمان بحق إلى أن العدالة الطوعية، من وجهة نظر أنسيلم، هي شرط ضروري لضمان السعادة، لكن لا يترتب على ذلك أنه من خلال العدالة الطوعية يرغب المرء أيضا في السعادة.

أما الادعاء الثاني والأكثر إشكالية فيأتي في نهاية الفصل السابع، "الإرادة كسبب للشر". في الفصل السابق ("هل للشر سبب؟")، يقدم هوفمان عرضا لآراء أوغسطين حول أصل الشر الأخلاقي، أي إرادة الشر الأولى. يجادل أوغسطينوس بأن النية الطيبة لا يمكن أن تكون سببا لإرادة الشر؛ وبينما يمكن للإرادة السيئة أن تكون سببًا لإرادة الشر الأولى . بناءً على العمل السابق الذي قام به تي دي جيه تشابيل وبيتر كينج، يوضح هوفمان أن السبب الأول للشر (خطيئة لوسيفر)، والذي وصفه أوغسطين بأنه "سبب ناقص" ( مدينة الله 12.7)، ليس "سببا فعالا ناقصا" ولا "الحرمان من السببية الفعالة" (168). لا يمكننا أن نقول أكثر من أن السبب الأول للشر هو سبب ناقص، مما يجعل تفسير نقصه غامضا.

ثم يلجأ هوفمان إلى هذا العرض لأوغسطينوس ليبدأ فصله التالي بسخرية: يعتقد العديد من مفكري العصور الوسطى (مثل لومبارد، وويليام أوف أوكسير، وريتشارد مينيفيل) أنهم يتبعون خطى أوغسطين في شرح أصل الشر الأول ولكن وبدلا من ذلك يتمسكون بوجهة نظر متناقضة مفادها أن قوة الإرادة، التي هي خير، هي في الواقع سبب للشر الأخلاقي. بعد مسح وجهات النظر المتباينة لمفكرين مثل بونافنتورا، والأكويني، وسكوتس، وبويي، أنهى هوفمان الفصل بسخرية أوغسطينية ثانية: على الرغم من اختلاف هذه النظريات، "فإنها تتلاقى حيث قد لا نتوقعها على الأقل: حول فكرة أوغسطين بأن سبب الشر ناقص، أي أنه لا يوجد تفسير نهائي لسبب قيام شخص ما بفعل الشر" (195). ومع ذلك، لم يقدم هوفمان أدلة كافية لتأكيد هذا الاستنتاج الاستثنائي. على سبيل المثال، يشير بويي، الذي يوضح خطا فكريا اقترحه الأكويني، إلى أن تفسير الإرادة الناقصة هو الإهمال. هوفمان، مشيرا بشكل صحيح إلى أن هذا الإهمال ليس له سبب في حد ذاته، يقفز إلى استنتاج مفاده أن هذا الإهمال، من وجهة نظر بويلي ، "غير قابل للتفسير في الأساس" (195). بدلًا من ذلك، يبدو أن بويي اعتقد أنه قد شرح الأمر بشكل جيد للغاية من خلال اللجوء إلى السببية غير العرضية لكل حادث. ما فعله هوفمان هو ببساطة إثارة تساؤلات حول كيف يمكن للوكيل، في رأي بويلي، ممارسة السيطرة على الاجتهاد والإهمال من خلال مثل هذه الأسباب العرضية. ولا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يستنتج أن بويي يرى نفسه متقاربا مع أوغسطين؛ كما أن أي شيء يكتبه هنا لا يبرر التأكيد الأضعف على أن بويي ملتزم بوجهة النظر الأوغسطينية. يحتاج هوفمان إلى تقديم المزيد من الأدلة لمثل هذا الادعاء، استنادا جزئيا إلى تحقيق أعمق في كل من تفسير بويلي للسيطرة وفهمه للحركات الطبيعية واستعدادات العقل العملي.

لا توجد طريقة واحدة صحيحة لكتابة تاريخ الفلسفة، على الرغم من أن ممارسي الطرق العديدة الملائمة غالبا ما ينفذونها بشكل سيئ. لقد اختار هوفمان السماح للفلاسفة المستهدفين بعرض أنفسهم من خلال التقليل من صوته المؤلف والسماح للدراما الحقيقية للأفكار بالتكشف أمامنا أثناء قراءتنا. ولأنه ماهر للغاية في هذا الأسلوب، سيكون الكتاب نموذجا مفيدا لأي شخص يعمل في تاريخ الفلسفة في أي منطقة أو عصر. بالإضافة إلى ذلك، لأنه يرتب لتدفق واضح وجميل للأفكار والحجج والمناقشات، يمكن لأولئك الذين يعملون على الإرادة الحرة والفاعلية في الفلسفة المعاصرة الاستفادة من رؤية بعض الخلافات المألوفة تتكشف في سياق مختلف.

***

...............................

* توبياس هوفمان، الإرادة الحرة والملائكة المتمردة في فلسفة العصور الوسطى ، مطبعة جامعة كامبريدج، 2020، 292 صفحة، 99.99 دولارًا (HBK)، ISBN 9781107155381.

النص الأصلي:

Free Will and the Rebel Angels in Medieval Philosophy

Reviewed by Jeffrey Hause, Creighton University

2021.09.06

https://ndpr.nd.edu/reviews/free-will-and-the-rebel-angels-in-medieval-philosophy/

مدخل عام

التراث روح الأمة وذاكرتها وعنوان شخصيتها وعلامة حياتها فإنما الأمم تقاس عبقريتها بحماية تراثها فإن هي تنكرت لتراثها او عجزت عن حمايته فإنها ولا شك تكون قد انتقلت الى عداد الأموات

ومن المؤسف والمؤلم حقا  أن هذا الميراث الضخم من فلسفة وعلم وأدب وفن، وآثار و معمار، وتراث فلكلوري واجتماعي واقتصادي وهذا التراث الفكري الموجود في المخطوطات الذي خلفه لنا الأجداد، لا يجد العناية الكافية التي ينبغي أن نوجهها إليه في الوقت الحاضر، فميدان الاهتمام بالمخطوطات والباحثين العربية وتحقيق النصوص القديمة، لا يغري سوى فئة قليلة جداً من الدارسين، لأن العمل في هذا الميدان ربما لا يتيح لأصحابه ما تتيحه المجالات الأخرى من الصيت والشهرة، كما أن العمل في إحياء التراث ليس عملاً هيناً يسيراً، بل هو عمل شاق مرهق، تحف به صعاب لا تكاد تحصى (1) وعلى الرغم من ان  الدستور الجزائري في المادة 76 قد نص على ان  :" الحق في الثقافة مضمون وانه لكل شخص الحق في الثقافة بشكل متسا ٍو مع الآخرين وان الدولة تحمي التراث الثقافي الوطني المادي وغير المادي، وتعمل على الحفاظ عليه" الا ان واقع الحال لايتطابق مع ما قيل ويقال ضمن الدوائر التي تتكلم باسم الثقافة . لاسيما ونحن نرى ظاهرة الإهمـال، إهمـال المخطوطات وهي ظاهرة متعددة الأسباب ومختلفة باختلاف الدول العربية ومنها الجزائر، فهـي على العموم ظاهرة ملموسة. وهي إما إهمال من صاحب المخطوطة. أو إهمال في طريقة حفظ المخطوطة، أو تقصير من الدولة ومؤسساتها في غرس قيم الاعتزاز بالتراث عموما والمخطوطات على وجه التخصيص وحمايتها. فواقع المخطوطات في مؤسساتنا الثقافية أو المكتبات وهذا باعتراف اهل الاختصاص غالبا ما تنعدم فيها الفهرسة، وتقل فيها العناية بالمخطوطات، وكثيرا ما تكون عرضة للتمزق أو الإتلاف. (2)

من المفهوم الى الاشكال

يقول الأستاذ الدكتور / محمود فهمي حجازي:" المخطوطات كلمة بسيطة لكنها بالغة التعقيد، لأنه لا يوجد تخصص اسمه مخطوطات، بل هنـاك مجموعـة: تخصصات كالترميم والحفظ والخطوط والفهرسة والتحقيق، والتكشيف ذي الصلة بالتحقيق أو قد ينفصل عنه ثم التاريخ الثقافي. ولذلك هذه الأشياء أكثر تعقيداً مـن أن توصف بكلمة واحدة. إنها علم المخطوطات" وقد عرف المعجم الوسيط المخطوط بانه المكتوب بخط اليد أي انه كتاب لم يطبع بعد فهو لايزال بخط كاتبه او مستنسخ وكلمة المخطوط هي ترجمة لكلمة Manuscrit الفرنسية التي ظهرت الطباعة في مقابل كلمة مطبوع أما في اللغة انجليزية فيسمى Manuscript التي تعني في قاموس Colliers Dictionary الكتاب أو الوثيقة المكتوبة باليد، أو بالآلة الكاتبة، وخاصة قبل عصر الطباعة.وعلم صناعة المخطوطات باعتباره علما :عرفه أحمد شوقي بنين: (هو علم يبحث في تاريخ المكتبات وفي مصادر المخطوطات وفي الفهرسة وفي الوقفيات والتملكات وفي النساخة والمنسوخات وفي الجوانب المادية للمخطوط وفي كل ما هو خارج عن النص (Ex-libris). *ونحن من خلال هذا العمل الذي يغلب عليه الطابع الوصفي نسعى لاقتحام هذه الإشكالية التي اشارنا اليها في منطوق مقالنا من خلال التساؤلات التالية :

- ما واقع المخطوطات الجزائرية وما مصير ما هو مفقود منها؟

-هل نمتلك المعرفة الصحيحة والدراية اللازمة للمحافظة عليها؟ هل في عصر العولمة والكوكبة وثـورة الاتصـالات نمتلك القدرة على تأكيد هويتنا الثقافية والدفاع عن ميراثنا الحضاري واستراد ما سلب منا من مخطوطات؟ هل نمتلك كفاية الارتقاء الى ما يسمى علم المخطوطات؟ هل وفرنا الوسائل المادية والبشرية اللازمة للنهوض بالمخطوطات التي بين أيدينا وتسهيل الوصول اليها والاشتغال عليها تحليلا ونقدا؟ ما مدى قدرة مراكز المخطوطات في الجزائر على المحافظة على هذه المخطوطات وحمايتها؟

- وهل نحن نؤمن حقا بجدوى البحث عن هذا الكنز المفقود ونمتلك الإرادة الكافية للقيام بمهمة استرجاعه؟

هوية الجزائر الثقافية

يجب ان نعترف اننا سنعتمد في مقالنا هذا بشكل كبير على ما ذهب اليه الدكتور أبو القاسم سعد الله في مؤلفه الضخم تاريخ الجزائر الثقافي كفرش لموضوعنا ومادة تاريخية نؤسس عليها استنتاجاتنا فقد أشار رحمه الله الى انه كان هناك رصيد كبير من المكتبات قبل مجيء العثمانيين. فقد كانت تلمسان... عاصمة علمية مزدهرة بلغت فيها صناعة الكتاب، تأليفا ونسخا وجمعا، درجة عالية. وكذلك كانت بجاية وقسنطينة، بل إن إحدى الزوايا في مدينة وهران خلال القرن (15 م) كانت تضم مجموعة من الكتب العلمية والآلات الجهادية، فقد روى ابن صعد في (النجم الثاقب) أن زاوية إبراهيم التازي بوهران كانت تحتوي على الخزائن المملوءة بالكتب العلمية وآلات الجهاد وابن صعد التلمساني هو من علماء الجزائر البارزين عاش في القرن التاسع الهجري وترك جملة من المؤلفات منها مخطوط المناقب الذي تناول فيه عددا كبيرا من رجال التصوف، وروى التمغروطي في أواخر القرن العاشر:"  أن مدينة الجزائر كانت كثيرة الكتب وأنه لا يضاهيها بلد في ذلك من بلدان إفريقية، ولا سيما كتب الأندلس. وهذه هي عبارته :" والكتب فيها -مدينة الجزائر- أوجد من غيرها من بلاد إفريقية، وتوجد فيها كتب الأندلس كثيرا" وقد ذكر أيضا شارل فيرو الذي كتب عن المؤسسات الدينية في قسنطينة وعن العائلات الكبيرة بها، إن بعض هذه المؤسسات والعائلات كانت تحتفظ بمخازن من المخطوطات في حالة جيدة، وأن في هذه المخطوطات نوادر تعتبر فذة في موضوعها. وضرب على ذلك مثلا بمكتبة شيخ الإسلام بقسنطينة (عائلة الفكون) التي قال عنها إنها كانت غنية لا بالكتب الخاصة بالجزائر فقط، بل حتى بالكتب المتعلقة بالبلاد الإسلامية المجاورة ولقد كانت عائلة الفكون قد فازت بخطة إمارة ركب الحج منذ سنة 1638م ثم بوظيفة شيخ البلد في القرن الثامن عشر واستمرت في ورثتهم حتى سقوط المدينة في يد المحتلين الفرنسيين بل إلى غاية 1838. وقد روى العياشي في القرن الحادي عشر ) أنه شاهد بتكورارن (؟) بأعماق الصحراء مكتبة غنية يملكها الشيخ محمد بن إسماعيل وكانت تبلغ ألفا وخمسمائة كتاب) (3)

وفي سنة 1892 كتب المستشرق فانيان كلمة مؤثرة عن ضياع ما تبقى من مكتبة شيخ الإسلام الفكون، وروى كيف تفرقت وضاعت، وأن أحد الدائنين باعها بالمزاد العلني بطريقة وزن الورق القديم، وأن كيساً مليئاً بالكتب الثمينة قد يبع بثلاثين فرتكاً مما تضاءل عند مخطوطاتها ليصل إلى  2000کتاب

ولم يتبقى من أغنى مكتبة شرقية في الجزائر خلال العهد الاستعماري سوء 220 مخطوطة بعد الاستقلال وهي محفوظة بالمكتبة الوطنية الجزائرية حيث قام الباحث السنغالي حسن قوارزو بإحصائهاو فهرستها سن 1966 .

على أن الكثرة الغالية من المخطوطات الجزائرية تقلت إلى فرنسا عنوة يعد مصادرتها من قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر ابتداء من سن 1830م. والذي يرجع إلى مقدمة فهرس فانيان وهو أول قهر من مطبوع للمخطوطات الشرقية من عربية وتركية وفارسية محفوظة بالمكتبة الوطنية في الجزائر يجن أرقاما وأسماء لمخطوطات ضاعت من المكتبة، فقد ذكر من بين الوثائق الضائعة نحو 200 مجلد من بنتها سجلات القرارات الكايات والمئات من العقود والرسائل والوثائق الإدارية. وكما حدث الاعتداء على المكتبة الوطنية حدث أيضا على مكتبة جامعة الجزائر، وقد ثبت لأحد العلماء الجزائريين العاملين في حقل المكتبات والمخطوطات العربية خلافا لما شاع بعد الاستقلال أن مخطوطات مكتبة الجزائر لم تحرق مع غيرها من الكتب المطبوعة يوم احترقت المكتبة الجامعية في 7 جوان سن 1962 1962  حيث تم اتلاف و حرق أكثر من 400 ألف وثيقة و كتاب من مجموع 600 ألف، من طرف المنظمة الإرهابية: منظمة الجيش السري الفرنسية (OAS). كما تعرضت مكتبات المساجد وخزانات الزوايا والتكايا أكثر من غيرها للنهب والسرقة. وقد اتخذ هذا السطو أحيانا صيغة رسمية كما وقع لكتاب (العين) لعيد الرحمن بن خلدون الذي نقل من المكتبة الوطنية الجزائرية إلى المكتبة الأهلية في باريس.(4)

وقد شاعت حركة النسخ والاستنساخ في الجزائر حتى أنه كان لها اختصاصيون مشهورون. ومن شروطها جودة الخط وحسن اختيار الورق واتقان صناعة الوراقة والسرعة والمهارة في التوثيق والدقة في العمل وصحة النظر. وقد اشتهرت قسنطينة ببعض النساخ والخطاطين حتى قارنهم بعض الكتاب بابن مقلة في حسن الخط. ومن هؤلاء أبو عبد الله بن العطار الذي كان من أسرة شهيرة تولت الوظائف الرسمية في العهد العثماني. وقد عرف العطار بجودة الخط وربما اشتهر به على ابن مقلة الذي وضع أسس الخط العربي. وكان يقصده الخاص والعام في الوثائق والعقود. وكذلك اشتهر الشيخ إبراهيم الحركاتي. فقد كان مدرسا بالمهنة، ولكنه اشتهر أيضا بالنساخة وحسن الخط حتى أصبح مشهودا له بذلك.

وتشير المصادر إلى أنه كان بالجزائر خلال العهد العثماني بعض المشتغلين بصناعة الكتب عموما من وراقة وتجليد ونسخ وخط ونحو ذلك. فقد جاء في (منشور الهداية) أن الطالب محمد النقاوسي كان سمسارا في الكتب في قسنطينة وفي تلمسان اشتهر علي بن تجيرست بالاشتغال بالوراقة، كما كان يسمع الحديث في الجامع الكبير هناك. وروى ابن حمادوش عن نفسه أنه كان يشتغل بالكتب بيعا وتجليدا ونسخا في مدينة الجزائر وأنه كان يملك دكانا لهذا الغرض قبالة الجامع الكبير. وكان  في الجزائر سوق يدعى سوق الوراقين، ولعله هو سوق القيصرية الذي ذكر حمدان خوجة في (المرآة)أنه كان مخصصا لبيع الكتب وأن النساخين كانوا فيه بكثرة.

ولكن، أين ذهب كل هذا الكم الهائل من مخطوطات التراث؟

يقدر عدد المخطوطات العربية الموجودة في العالم بنحو مليوني مخطوط على أقل تقدير ويقدره الدكتور أبو السعود إبراهيم : بنحو ثلاثة ملايين مخطوط وفقاً لآخر إحصائية قامت بها هيئة اليونسكو التابعة لهيئة الأمم المتحدة .وما امتلكته الجزائر عبر تاريخها الثقافي يقدر بمئات الالاف على اقل تقدير.

فأين ذهب كل هذا التراث الضخم؟

أين هي مكتبة الجامع الكبير بالعاصمة التي تحدث عنها الرحالة والباحثون المسلمون؟ وأين مكتبات مساجد تلمسان وقسنطينة ومعسكر والبليدة والمدية وبجاية وعنابة ومازونة الخ؟ وأين الكتب التي حبسها صالح باي على مدرسته في قسنطينة، ومحمد الكبير على مدرسته في معسكر؟ لقد ضاعت وتبعثرت، ولم تعد تذكر في حوليات التاريخ. فعندما أراد ابن أبي شنب أوائل هذا القرن أن يصف ما بقي في الجامع الكبير بالعاصمة لم يذكر منها سوى بضع عشرات و في مكتبة شانتييه بفرنسا بعض بقايا مكتبة الأمير عبد القادر، أهداها الدوق دومال D'Aumale إلى بلدية هذه المدينة. وكان دومال هو قائد الجيش الذي استولى على الزمالة. ولكن ما (أهداه) دومال ليس سوى جزء ضئيل من مكتبة الأمير. وابن باقي المكتبات؟

ويضيف الدكتور أبو القاسم سعد الله في حديثه عن التاريخ الثقافي للجزائر انه اثناء البحث عن الزمالة كان الفرنسيون يستدلون عليها بأوراق الكتب والوثائق التي كانت تذروها الرياح وترمي بها في الأشجار. وكان بيربروجر وغيره صرحاء جدا حين أكدوا، وهم يحسبون أن التاريخ قد طوى تماما ولن يكشف عن أسراره، أن الضباط كانوا يشعلون غلايينهم بأوراق الوثائق في قصبة الجزائر سنة 1830، وأن الجنود كانوا يحسبون كل كتابة عربية قرآنا، فكانوا يحرقون الأوراق وما هي إلا وثائق ثمينة. ومع ذلك يتحدث الفرنسيون طويلا عن حرق العرب المسلمين لمكتبة الاسكندرية وينسون أنفسهم.

لقد اخذوا  معهم كل الوثائق والارشيف الذي جمعوه خلال حكمهم في الجزائر. وهو على ما قيل أطنان من الوثائق، والكثير منها مصنف، ولكن بقي أيضا الكثير غير مصنف ولا مفهرس. وهكذا حرموا الجزائريين إلى الآن من تراثهم الوطني، فالجزائري الذي يريد أن يبحث في حادثة أو شخصية أو ظاهرة اقتصادية أو مدينة من المدن ... عليه أن يحج إلى فرنسا وأن يقطع البحر لعله يحصل على معلومات عن أمر يتعلق ببلاده وجرى في بلاده، وربما قيل له ماذا تريد منه، وقد لا يبيحون له الاطلاع عليه أصلا رغم مرور الأجل الشرعي عليه.

لقد لعب الاستعمار دوراً خطيراً في تبديد الجزء الأكبر من التراث، ويتعجب المطلع على الكتب التي عنيت بحصر التراث وذكر أسماء المخطوطات من تلك الأعداد الهائلة التي نصت عليها، والتي ليس لها نظير في أية حضارة من حضارات العالم، ومنذ عصر التدوين.

ومن أسباب ضيع المخطوطات الإهمال والنهب والوباء. فقد روي أن الحاج أحمد قدورة وكيل ومفتي الجامع الكبير بالعاصمة كان مهملا لمكتبة الجامع، مما سمح لبعض العلماء بأخذ الكتب منها إلى بيوتهم وبيع بعضها خارج الجزائر. وقد تحدث ابن المفتي الذي وصف طابع وحياة العلماء خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر أنهم وجدوا عند الشيخ محمد بن ميمون، بعد وفاته، أكثر من أربعين كتابا من مكتبة الجامع الكبير. كما أخبر أنهم وجدوا عند الشيخ الطاهر بن الماروني عددا من الكتب التي أخذها من هذه المكتبة. وعند وفاة ابن الماروني أخذ ابنه الكتب إلى تونس وباعها وقبض ثمنها هناك. كما أخذ الشيخ عبد القادر بن الشويهت وعبد الرحمن المرتضى وابنه وغيرهم كمية أخرى من مكتبة الجامع. وهكذا تفرقت مكتبة الجامع الكبير نتيجة الإهمال وضعف الضمير.

ولعل أقسى تجربة مرت بها المكتبات هي التي عرفتها من الاحتلال الفرنسي وما رافقه من حروب وما نتج عنه من تخريب ومن هجرة كبار العلماء والأغنياء إلى الخارج مع بعض كتبهم ووثائقهم. وقد روى الفرنسيون أنفسهم قصصا مثيرة عما وقع لمكتبات قسنطينة ومعسكر وتلمسان وغيرها. والذي يطلع على تقارير بيروبروجر وديسلان المعاصرين للاحتلال ثم كتابات شارل فيرو ولالوي وأضرابهما يصاب بالاندهاش والصدمة والأسف. كما أن الذي يعرف ما وقع لمكتبة الأمير عبد القادر أثناء حادثة الزمالة لا يستغرب ما وقع لمكتبة الشيخ حمودة الفكون وباش تارزي في قسنطينة، ثم ما وقع لمكتبات الجامع الكبير وغيره من المساجد في هذه المدينة وفي معسكر وتلمسان وبجاية والعاصمة وعنابة، ومكتبات الزوايا ثم المكتبات العائلية في مختلف أنحاء القطر. وقد نفي المفتي ابن العنابي، من العاصمة فحمل معه بعض كتبه إلى مصر، وهي لا تزال إلى الآن تحمل ختمه وخطه. كما هاجر الشيخ الصديق بن يحيى من نواحي قسنطينة إلى تونس ومعه كل الوثائق التاريخية.

أما الكتب التي أرسلها الجنود الفرنسيون هدية إلى مكتباتهم المحلية في فرنسا فلا حصر لها .وبعد حوالي خمسين سنة من الاحتلال وجد السيد فانيان بقايا مكتبة الشيخ الفكون، التي كان يضرب بها المثل في الكثرة والتنوع والصيانة، تباع كما قال بطريقة مؤسفة وهي طريقة ميزان الورق القديم، وذلك حين اضطر بعض المدانين من العائلة إلى بيع كمية ضخمة من الكتب بثلاثين فرنكا فقط.

وفي سنة 1836 م كتب ادريان بيروبروجر إلى صديقه وأستاذه شامبليون فيجياك يخبره عن مغامرته في تلمسان ومعسكر لجمع المخطوطات العربية. فقال إنه تنكر في زي عسكري ورافق الحملة إلى معسكر لأنه قد سمع أن في تلمسان ومعسكر مكتبات تحتوي على مخطوطات (كثيرة جدا، بعضها عظيم الأهمية)، كما أخبره أنه قد جمع عددا كبيرا من المخطوطات (الشرقية) من معسكر وعاد بها إلى مدينة الجزائر في صندوق حمله على ظهر جمل. وفي الطريق مات له الجمل وضاعت الكتب ولم يحمل منها إلا ما رآه نادرا جدا واستطاع حمله على حصانه.

أما حظه في تلمسان فقد كان أحسن، حسب تعبيره. فقد جمع منها ومن ضواحيها (أكثر من مائتي مخطوط في مختلف الموضوعات كما كان حسن الحظ أيضا في حملها إلى مدينة الجزائر إذ استطاع نقلها في سفينة بخارية من وهران. ومما يؤسف له أن هذا التراث الجم الغفير، تفرق في جميع انحاء العالم، نتيجة الكثير من العوامل التاريخية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي مر بها الوطن العربي، وما تعرضت له الأمة العربية من هجمات استعمارية ومحن فكرية وثقافية، وقد كان للبعثات التبشيرية والتجارية والسياحية والرحالة والغزاة المستعمرين، الأثر الكبير في جمع ما تضمه بلادنا من نفائس المخطوطات ونوادرها. وتهريبها إلى الخارج، بحيث أصبحت مكتباتهم ومتاحفهم تزخر بآلاف المخطوطات.

- ولكن ما هو حال ما بقي من المخطوطات في الجزائر؟

العقبات التي تواجه المشتغلين بفهرست المخطوطات.

يشير الدكتور عبد الكريم العوفي في كتابه صناعة فهرسة المخطوطات في الجزائر (من 1431م إلـى 1830)، الى ان العمل في حقل المخطوطات، ولاسيما فهرسة المخطوط من أصعب الأعمـال، وذلك لما يمتاز به عن غيره من خصوصيات، في نواح عديدة يعرفها، الخبراء في هذا المجال. والمفهرس يحتاج إلى ثقافة واسعة، وإحاطة بشتى فنـون المعرفة الإنسانية، ومهارات خاصة؛ مستندا الى الأستاذ محمد عصام الشنطي في قوله " بضاعة فهرسة المخطوطات العربية، بضـاعة نـادرة وصـعبة،تحتاج إلى شغف، وأناة، وصبر، وثقافة تراثية واسعة وخبرة تراثية طويلة"  وقد حدد الدكتور عبد الكريم العوفي عشرة عقبات :

1- ليس في الجزائر عامة ثقافة تراثية -ولاسيما في الوسط التعليمي - تشـعر الناس بالقيمة العلمية والحضارية للمخطوطات، على اختلاف المجالات المعرفيـة التي تحملها، والمشتغلون في هذا الحقل عندنا ينعتون بأصحاب الكتب الصـفراء، وبالسلفيين . 02*  كما هو الحال في البلاد العربية عامة أن العـاملين فـي حقـل المخطوطات والفهرسة هم أساتذة اللغة العربية وآدابها، وقلة أخرى من أساتــذة التاريخ، وغياب أساتذة المجالات الأخرى عن الميدان 03*  انعدام كلي لمركز يعنى بإحيـاء التراث ؛ تعريفـا، وصـيانة، وحفظـا، وفهرسة، وتحقيقا، ودراسة، ونشرا، وهذا جانب سلبي أثر على تراث البلاد عامة، 4 - كثرة المخطوطات وتوزعها في المراكز المختلفة(عامة وخاصـة)، وفـى أنحاء متفرقة من البلاد، مما صعب مهمة الباحثين في الوصول إليها بسـرعة، إذ تبعد مسافات طويلة تزيد عن (1500) كلم في المتوسط العام، وقد أصبح التنقل في العقود الأخيرة صعبا، ثم أن الباحث يقوم بمجهودات شخصية، ونـادرا مـا يلقـى دعـما مـن الجهات الرسمية المسؤولة 05* من العوائق التي تعترض الباحث صد مالكي المخطوطات مـن يقصـدهم وعدم تمكينهم من الاطلاع على المخطوطات، خوفا على موروثهم -كما يعتقدون - فالكثير يجهل القيمة الخطيرة للمخطوط في نقل العلم، وتنوير العقول 07* أغلب الفهارس التي أعـدها الطلبة بإشراف أساتـذة متخصصين، اشتكوا من انعدام الخبرة لديهم في التعامل مـع المخطوطات، وهـذا الأمـر لا يخـص الطلبة، بل هو عام .فقد ذكر الطلبة أنهم يبقون أسابيع في فك رموز بعض المخطوطـات لصـعوبة قراءة الخط المغربي والأندلسي وكذلك الح، ال بالنسبة لتحديد موضوع المخطـوط، فهم يجدون صعوبة في التمييز بين علم وآخر لفقر معلوماتهم، كما تطرح مشـكلة، المجاميع وتحديد عنوان المخطوط واسم المؤل، ف ؛ إذ الطالب يصعب عليه التمييز بين الاسم واللقب والكنية والنسبة إلى الجد أو البلد أو الحرفة. وقل ذلك عن تحديـد، نوع الورق والتجليد وتحديد تاريخ النسخ 07* لما كانت أغلب المخطوطات-باستثناء مخطوطات المكتبة الوطن غيـرمعالجة فإن المفهرسين يجدون صعوبة كبيرة في قراءة بعض المخطوطات التي لم تفتح أوراقها منذ مئات السنين، فهناك عوائق صحية تحول دون رغبـة المفهـرس والباحث عامة . 08* عدم تشجيع الجهات المسؤولة العاملين في هذا الحقل، يعد عامل تثبيط للعزائم09* خلو المكتبات العامة والخاصة من الفهارس المنجزة للمخطوطات العربية فـي المراكز العلمية، في العالم العربي، وفى بعض البلدان الأوربيـة، التـي تمكـنهم مـن الوقوف على النسخ الأخرى للمخطوطات الموصوفة، وكذلك المصادر والمراجع التـي تساعد على إعداد مداخل المؤلفين والعناوين، باستثناء المكتبة الوطنية10* عدم طبع الفهارس المنجزة في المكتبة الوطنيـة، وفـى غيرهـا مـن الأماكن أمر محير، لأن بقاءها في أماكنها دون أن يستفيد منها البـاحثون خـارج، الجزائر كأنها غير موجودة، كما أن المفهرس في الجزائر يحتاج إليها فيما ينجزه . من فهارس وهذه واحدة أيضا من الصعوبات التي يلقاها المفهرسون.

كيف السبيل الى تجاوز هذه العوائق؟

وللتغلب على بعض هذه العقبات أقترح عبد الكريم العوفي الآتي :

1-  دعوة الجهات الرسمية في الدولة إلى إشاعة الثقافة التراثيـة بـين عامـة الناس وخاصتهم، وذلك عن طريق وسائل الإعـلام المختلفـة، وإقامـة نـدوات وملتقيات فكرية حول المخطوطات في المراكز المختلفة، ودعوة الخبراء من معهد المخطوطات (الهيئة المشتركة لخدمة التراث)، أو من مؤسسات أخرى لها خبرات، في هذا الحقل ليقدموا خلاصة تجربتهم في الموضوعات المعالجة .

2- إنشاء مركز لإحياء التراث على غرار ما هو الحال في عدد من البلـدان العربية وتقام فيه دورات تدريبية، حول الفهرسة والترميم والحفظ والتحقيق وهذا هو السبيل الأمثل لتكوين الإطارات المدربة على الفهرسة العلمية الدقيقة وهو مـا . تفعله بعض البلدان العربية.

3- دعوة مالكي المخطوطات في المراكز المختلفة إلى تقديم العون للبـاحثين، قصد الكشف عن كنوز المعرفة التي تحتفظ بها مكتبـاتهم وزوايـاهم لفهرسـتها، وتمكين الباحثين من الانتفاع بها.

4- ضرورة طبع الفهارس المنجزة على اختلاف أنواعها، وتوزيعهـا علـى المراكز العلمية المعنية بالتراث في البلدان العربية والإسلامية، وكذلك في البلـدان  الغربية وذلك في إطار التبادل العلمي، لأن ذلك يكون مـدعاة لجلـب الفهـارس المنجزة في تلك البلاد .

5- إعادة تجميع وترتيب الفهارس المنجزة وطبعهـا فـي أجزاء وتوزيعها على المكتبات الوطنية ومراكز البحث في الجامعـات للاسـتفادة منها وكذلك الحال بالنسبة لفهارس المخطوطات الإباضية في غرداية .

6- المرجو من المكتبة الوطنية ووزارة الثقافة والاتصال العمل علـى تجميـع هذا التراث المتفرق هنا وهناك، وتوفير وسائل صيانته وحفظه في أمـاكن لائقـة، حتى تضمن له أداء وظيفته.

7- إدخال مادة علم المخطوطات في مناهج التعليم بمعاهـد علـم المكتبـات، ليتعرف الطلبة على قضايا المخطوطات، وإذا أمكن إنشاء دبلوم في الفهرسة .

8- القيام بمسح شامل لأهم المراكز التي تحتفظ بالمخطوطات، ومحاولة جلب وسائل علاجها في مرحلة أولية، في انتظار مرحلة الفهرسة .

9- استخدام الوسائل التيكنولوجية الحديثة في الفهرسة، كالحاسوب والأقـراص، المليزرة والماسح الضوئي . وغيرها، نيتوالأنتر، والهارديسك.

***

................

الهوامش

1- يمكن العودة الى ملف مجلة الفيصل حول التراث العدد36

02- فهرسة مخطوطات المكتبة الوطنية الجزائرية في أعمال المستشرقين الفرنسين، صورية متاجر

جامعة سيدي بلعباس.

* علم صناعة المخطوطات اطلالة على مفهومه وموضوعاته الأستاذ داودي خليفة.

3- انظر تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الخامس، أبو القاسم سعد الله

4- فهرسة مخطوطات المكتبة الوطنية الجزائرية في أعمال المستشرقين الفرنسين، صورية متاجر

جامعة سيدي بلعباس.

5- صناعة فهرسة المخطوطات في الجزائر (من 1431م إلـى 1830)، لصاحبه أ د عبد الكريم العوفي. وهو أسـتاذ فـي جامعـة باتنـة، وجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، متخص في علم التّحقيق.

مع بداية القرن الأول للهجرة، بدأ الصراع بين القدريّة والجبريّة... بين من قال بوجود حريّة الإرادة الإنسانيّة، وبين من قال بعدم وجودها، هذا وقد كان للسياسة في هذا الصراع الدائر بين أهل القدر وأهل الجبر، الدور الكبير في تعميق الخلاف بين أصحاب التيارين، والذي ظل - الدور السياسي – قائماً بالحفاظ عليه حتى هذا التاريخ. فهذا "عبد الله بن عباس" يقول بالمنهج السلفي، وهو من عاصر الرسول ومارس السياسة في عهد "علي بن أبي طالب" حيث كان واليّاً على الكوفة، ثم انقلب على "علي" لمصلحة "معاوية" والبيت الأموي، وهو من روي عنه قوله: (كان يقال عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والتبدع). (1). وهذا الموقف السلبي أيضاً تجاه أهل الرأي، نجده عند ردِّ الخليفة "مروان بن الحكم" على القدريّة من المعتزلة عندما راحوا يقولون له اتقي الله بالعباد، فخاطبهم: (إنكم تأمرونا بتقوى الله وتنسون أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بعد اليوم هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه.).(2). وجاء هذا القول بعد أن نبه "مروان" "الحسن البصري" عن القول بالقدر برسالة جاء فيها: (... لقد بلغ أمير المؤمنين عنك قول في وصف القدر ولم يبلغه مثله عن أحد ممن مضى، ولا نعلم أحد تكلم به ممن أدركنا من الصحابة رضي الله عنهم، كالذي بلغ أمير المؤمنين عنك.).(3). وكذلك في رده على أهل المدينة ممن راح يضع الأحاديث ضد البيت الأموي بعد أن أوقف العمل بالرأي، حيث يقول: (لأن أحق الناس أن يلتزم الأمر الأول، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق لا نعرفها ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن، فالتزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم. (4). أي عثمان بن عفان.

أما مسألة تجذر السلفيّة وتبلورها في بعديها الفكري والسياسي لاحقاً، فكانت مع الخلفاء العباسيين بعد أن ضعفت سلطتهم أمام الأعاجم في إدارة شؤون الخلافة والرعيّة، حيث راح الأعاجم يتدخلون في تعيين الخليفة أو عزله، بل تحول الخلفاء إلى ببغاوات في قفص الخلافة كما يقول أحد شعراء عصر ضعف الدولة العباسيّة في عهد حكم الأتراك: (خليفة في قفص... بين وصيف وبغا. يقول ما قالوا له... كما يقول الببغا.)، الأمر الذي فسح في المجال واسعاً لتأثيرهم على قرارات الخلافة السياسيّة والإداريّة إضافة لظلمهم الرعيّة، وهذا يتطلب بالضرورة شرعنة سلطاتهم وما يقومون به، فوجدوا في الفكر السلفي الوثوقي ما يبرر لهم كل ذلك، وفي مقدمة هذه الشرعنة جاء إصدار الفتاوى والكتب التي تبرر وصول الخليفة إلى السلطة حتى ولو كان أمر الموافقة يقوم على موافقة شخص واحد من الرعيّة، أو الوصول إلى هذه الخلافة بالغلبة. كما هو الحال عند "بدر الدين بن جماعة" في كتابة (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام). أو كتاب 0الأحكام السلطانية) "للماوردي"، أو (الأحكام السلطانية) "لأبي يعلى الفراء" وغيرها من الكتب التي وضعت خدمة للسلطان قبل الرعيّة.

ومع توسع الفتوحات الإسلاميّة، ودخول شعوب كثيرة تحت مظلة الإسلام والخلافة الإسلاميّة معاً، فقد أعطي لهذه الشعوب  المجال واسعاً أيضاً، لتُدخل الكثير من مفردات ثقافتها وعقائدها في صلب العقيدة الإسلاميّة والتشريع الإسلامي وخاصة ديانات الفرس القديمة مثل المانويّة والزردشتيّة، وتعاليم الروانديّة والمقنعيّة وغيرها الكثير، وذلك خدمة لمصالح سياسيّة وقوى اجتماعيّة محددة وجدت في الدين الوسيلة الأكثر فاعليّة لتحقيق تلك المصالح، وخاصة مصالح القوى الشعوبيّة، الأمر الذي ساهم في كثرة الفرق والطوائف الإسلاميّة بفعل هذين العاملين، السياسة والفتوحات، وهذا ما جعل الخليفة العباسي "المهدي" في عصر القوة العباسي كما يقول السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) يوجد ديوانا خاصاً لمحاربة كل من راح يدس على الدين الإسلامي ويحاول إدخال مفاهيم دينيّة غير إسلاميّة على العقيدة الإسلاميّة، وقد عين عليه رجل سمي (صاحب الزنادقة)، مهمته التأكد من صحة عقيدة المسلم، ومن تُثبت عليه التهمة بالزندقة كان يقتل. والزندقة هنا راحت تتوسع في دلالاتها ليدخل في مضمارها ليس الذين حاولوا إدخال تعاليم دينيّة كالزردشتية والمانويّة وغيرهما فحسب، بل أدخل في عالمها من أعطى للعقل والحريّة الإنسانيّة اعتبارهما في تفسير النص الديني وتأويله خدمة لمصالح الناس أو تحريضهم ضد الخلفاء وكشف فسادهم.

مع سيطرة الأتراك على الخلافة في زمن المعتصم،  بدأ الفكر السلفي يُفرض بقوة على مسلمي الخلافة، وخاصة في زمن الخليفة " الواثق" الذي وصل إلى الخلافة بإرادة الأتراك، وهو الذي وضع تاج الخلافة على رأس القائد التركي " إشناس" وسلمه مقاليد إدارة شؤون الخلافة. وعند استلام "المتوكل" طُلب منه أن يصدر فرماناً عام"232هـ" يأمر الناس فيه بالتسليم والتقليد بالفكر السلفي الجبري، ورفض العقل أو القول به، بعد أن ساد استخدامه زمن المأمون والمعتصم، وأمر الشيوخ والمحدثين، بالحديث في السنة والجماعة، واعتماد النقل على حساب العقل للوقوف بوجه القدريّة والتصدي لهم. وهنا راحت الأمور تأخذ منحىً معاديّاً للعقل وحريّة الإرادة الإنسانيّة، وخاصة في عهد الخلفاء  العباسيين اللاحقين للمتوكل، كما جرى في عهد الخليفة "المعتضد" عام "278هـ"،عندما منع بيع كتب الفلسفة والمنطق.(5).

مع فتح مظلة هذه الأجواء المشحونة بالفساد والظلم والقهر والثورات ضد الخلافة وتغييب العقل، أخذت السلفيّة الفكريّة طابعاً رسميّاً محميّاً من الدولة/الخلافة، وراحت تُشكل لمن يقول بالرأي/العقل، محاكم تفتيش شبيهة بمحاكم الخليفة "المهدي"، ولكنها هنا تعمل لمصلحة الأتراك وتبرير سلطاتهم كأمر مقدر من الله، دون أن ننكر بأن هناك نيات حسنة لدى بعض الفقهاء ورجال الدين ممن اتخذ الموقف السلفي الفكري هذا سلاحاً ضد الفوضى الفكريّة والفقهيّة التي بدأت تسيء للدين وتعمل على تشويهه من قبل الحركات الشعوبيّة، مع وصول العباسيين إلى الخلافة وتدخل الأعاجم في إدارة شؤونها، وهناك أيضاً من ساهم في تبني الفكر السلفي وتعميقه في الساحة الفقهيّة، خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة سياسيّة أو ماديّة أو معنويّة، وهم الأكثريّة.

على العموم إن العقليّة السلفيّة هي عقليّة وثوقيّة، تعمل على تضخيم الانفعال والعاطفة والشعور والوجدان والإحساس لدى المسلم، على حساب العقل والمنطق والتمييز والإدراك، وهي عقليّة تقطع كل صلة بالعالم المعيوش، وتكفر كل ما هو حديث وإبداعي في حياة الناس بكل مستوياتها، طالما هي بعيدة عن حياة السلف، وبالتالي يجب محاربة هذه الحياة المعاصرة والنضال من أجل تجسيد أو تطبيق قيم ومثل الفكر السلفي ومنهجه. ومن هذا المنطلق أو المنظور الماضوي، اعتمدت الفقه وسيلة أساسيّة لخدمة أهدافها. أي (علم الفروع). أي المنظومة الفقهيّة لأهل الحديث، وهي منظومة معاديّة أو مناهضة للعقل وعلم الكلام، وقد كفرت وزندقت كلَ من اشتغل على المنظومة العقليّة وحريّة الإرادة، لذلك فإن من أولى أهدافها، تحريض المشاعر والعواطف وإلهابها، وجعلها بديلاً عن العقل في تقويم حياة الفرد والمجتمع، أو تقبيح وتحسين أفعالهم وتحديد ما عليهم أن يفعلوه وما عليهم أن يتركوه، مع اعتبار الماضي وحده هو المنطلق الوجودي والمعرفي لكل ما يعيشه الإنسان، وما سيأتي لاحقاً  في حياته.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من  سورية

................................

المراجع

1 – عبد الجواد ياسين- العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ- المركز الثقافي العربي- ط1- 1998- ص 157. \

2- عبد الجواد ياسين- العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ- المركز الثقافي العربي- ط1- 1998- ص 157.

3- المرجع نفسه- ص157.

4 – المرجع نفسه – ص 158

5- د0 حسن إبراهيم حسن- تاريخ الإسلام –ج1- دارالجيل – بيروت ط3- 1991- ص 23.

 

التجريد الصارخ من الإنسانية

فيما يلي الجزء الثاني من الدراسة التي قام الباحثان "إميل برونو" Emile Bruneau من جامعة بنسلفانيا University of Pennsylvania، و"نور كتيلي" Nour  Kteily من جامعة نورث وسترن Northwestern University بإنجاز دراسة مهمة شملت عينات كبيرة في أربع دول أوروبية: جمهورية التشيك (1,307)، والمجر (502)، وإسبانيا (1,049)، واليونان (1,049)، واليونان (1,307). = 934).

في الدراسة سعى الباحثان إلى فحص مدى التجريد الصارخ من الإنسانية وارتباطه بالعداء ضد اللاجئين في إسبانيا أيضاً، وهي دولة في أوروبا الغربية سبق أن أظهر الإسبان مواقف متسامحة نسبياً بين المجموعات في دراسات سابقة. تم بتوظيف عينة عشوائية عبر الإنترنت مكونة من 1188 مشاركًا إسبانيًا يمثلون كل إسبانيا تقريباً من حيث الجنس والعمر والمنطقة الجغرافية، وإن كانت ممثلة بشكل زائد قليلاً فيما يتعلق بالأفراد والنساء في منتصف العمر، باستخدام شركة استطلاع إسبانية "Netquest".

بالنسبة لمقاييس الحرارة التي يراجعها النظراء هنا مع المجموعات المستهدفة التالية: الإسبان، واللاجئون المسلمون والمسلمين، والغجر، والأفارقة، والأتراك، والمسيحيين، والأمريكيين، والفرنسيين، والألمان، والسويديين.  كما هو الحال في الدراسة تم تقييم المقياس السلوكي المعادي للاجئين مع تضمين الالتماس. ركزت التحليلات أولاً على المستويات المتوسطة للتجريد من الإنسانية ووجهة النظر من المواقف السياسية تجاه اللاجئين المسلمين. وكما هو الحال مع العينة التشيكية، تم تصنيف اللاجئين على أنهم أقل إنسانية بشكل ملحوظ من المجموعة: فقد صنف الإسبان اللاجئين المسلمين على أنهم أقل بـ 15 نقطة على مقياس الصعود من الإسبان.

تم تجريد اللاجئين من إنسانيتهم بشكل ملحوظ أكثر من جميع المجموعات التي تم فحصها باستثناء الأفارقة والمسلمين والغجر الذين نالوا الدرجات الأدنى. وعلى عكس النتائج التي تم الحصول عليها من جمهورية التشيك والمجر، كان الشعب الإسباني يعارض عموماً مناهضة اللاجئين. وظهر أكثر استعداداً بشكل ملحوظ لتقديم التماس لصالح مساعدة اللاجئين مقارنة برفضها. وكان الإسبان على استعداد لاستقبال ما يقرب من 20.000 لاجئ في المتوسط.

عند فحص العلاقة المتبادلة بين تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم والتعاطف، لاحظنا أن تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم كان مرتبطاً بشكل سلبي ضعيف مع سمة القلق التعاطفي. وبما يتوافق مع الدراستين في التشيك والمجر، ارتبط التجريد الصارخ من الإنسانية بقوة عند الإسبان مع كل من التحيز ومع المحافظة السياسية، والأهم من ذلك وجد الباحثان في سلسلة من الانحدارات المتزامنة أن التجريد من الإنسانية كان مرتبطاً بشكل فريد بكل من مقاييس النتائج، بما في ذلك المواقف (دعم السياسات المناهضة للاجئين، ورفض طالبي اللجوء اللاجئين) والسلوك (التوقيع على عريضة لدعم اللاجئين). بشكل منفصل.

في تحليل تصنيفات التجريد الصارخ من الإنسانية والتحيز تجاه المجموعة الداخلية مقابل كل مجموعة من المجموعات الخارجية المستهدفة، تبين أن الإسبان لم يجردوا الأمريكيين والفرنسيين من إنسانيتهم بالنسبة إلى المجموعة الداخلية، بل قاموا بتجريد مجموعتهم بشكل كبير من إنسانيتهم بالنسبة للألمان والسويديين. وعلى النقيض من ذلك، أعرب المشاركون الإسبان عن مستويات كبيرة من التحيز تجاه المجموعات الفردية (بما في ذلك الألمان والسويديون. ومن خلال تسليط الضوء على التمييز بين التحيز والتجريد الصارخ من الإنسانية، تم تصنيف الألمان، على سبيل المثال، أعلى بثلاث نقاط من المجموعة الإسبانية على مقياس التجريد الصارخ من الإنسانية، ولكن تم تصنيفهم أقل بمقدار 22 نقطة من حيث الدفء.

 واتساقاً مع العمل السابق، كان الإسبان في العينة بشكل عام داعمين للاجئين المسلمين مقابل معاديين لهم. على الرغم من ذلك، وجدنا أن اللاجئين المسلمين تم تصنيفهم على أنهم أقل إنسانية بكثير من الإسبان، والأهم من ذلك، أن التجريد الصارخ من إنسانيتهم كان مؤشرا هاماً على المواقف والسلوكيات العدائية المناهضة للاجئين، حتى عند السيطرة على التحيز، وسمة التعاطف، والمحافظة (كل منهما والتي تنبأت بشكل فريد ببعض النتائج على الأقل أيضاً). لذلك كانت النتائج متوافقة مع دراسة التشيك والمجر في توثيق الدور المهم والفريد للتجريد الصارخ من الإنسانية. تم ملاحظة وجود تناقض بين نمط التجريد من الإنسانية والتحيز عبر المجموعات، حيث يشعر الإسبان بالدفء تجاه مجموعتهم أكثر من أي شخص آخر، لكنهم ينسبون مجموعات أخرى معينة نفس القدر من الإنسانية - أو أكثر من ذلك - من المجموعة.

وعلى غرار العينة الإسبانية، صنف اليونانيون اللاجئين المسلمين على أنهم أقل بمقدار 15 نقطة على مقياس الصعود من اليونانيين. كما هو مشابه بشكل لافت للنظر للعينة الإسبانية، تم تجريد اللاجئين من إنسانيتهم بشكل أقل بكثير من المسلمين. وبمقاييس النتائج، كان اليونانيون في المتوسط على استعداد لاستقبال ما يقرب من 10.000 لاجئ. وعلى غرار الإسبان (وعلى النقيض من المجريين والتشيك)، كان اليونانيون يعارضون بشكل عام سياسات مكافحة اللاجئين. وبشكل ملحوظ أكثر استعداداً لتقديم التماس للحصول على مساعدة اللاجئين أكثر من معارضتها. كما هو الحال مع المجر والتشيك فإن تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم كان مرتبطا بشكل سلبي ضعيف مع كل من الاهتمام التعاطفي. ويرتبط بقوة أكبر مع كل من التحيز والأيديولوجية السياسية.

 على الرغم من أن العينة اليونانية شملت نسبة أكبر من النساء مقارنة بعامة السكان، إلا أنه تمت ملاحظة عدم وجود فروق كبيرة بين الجنسين في تصنيفات الصعود اللاجئون المسلمون.

وعلى غرار العينة الإسبانية، وجدنا أن اليونانيين لم يجردوا الأمريكيين من إنسانيتهم، بل وجردوا أنفسهم من إنسانيتهم. المجموعة بالنسبة لكل من الفرنسيين والسويديين. على النقيض من ذلك، وبما يتوافق مع العينات الأخرى، أبلغ اليونانيون عن مستويات كبيرة من التحيز لجميع المجموعات الخارجية (على سبيل المثال، تصنيف السويديين أقل بأكثر من 16 نقطة من اليونانيين في الدفء على الرغم من تصنيفهم على أنهم "متطورون" بمقدار 3 نقاط أكثر من اليونانيين). تقدم هذه النتائج معاً دليلاً على الارتباط المستقل للتجريد الصارخ من الإنسانية مع المواقف والسلوكيات المرتبطة بشكل مباشر برفض وحجب الدعم عن اللاجئين المسلمين في جميع أنحاء أوروبا.

في التحليلات المقارنة للتحليلات الاستكشافية، سعى الباحثان إلى مقارنة النتائج عبر البلدان التي تم أخذ عينات منها. ولاحظوا أن قدرتهم على إجراء مقارنات منهجية بين البلدان التي قاموا بفحصها كانت محدودة بطرق معينة ينبغي وضعها في الاعتبار. على سبيل المثال، لم تكن التركيبة السكانية للعينات (على الرغم من حجمها الكبير وتمثيلها النسبي) متطابقة، وكان لديهم عدد محدود من العناصر المتطابقة عبر البلدان، وقاموا بجمع البيانات التشيكية في وقت لاحق مقارنة بالدول الثلاثة الأخرى.

في جميع أنحاء العالم، تم فحص مقاييس الاهتمام التي تم تقاسمها عبر العينات الأربع: التجريد الصارخ من الإنسانية، والتحيز، وقياس السلوك (التوقيع على عريضة مؤيدة للاجئين).

استخدم الباحثان نظام تحليل التباين (ANOVA) أحادي المتغير مع اختبارات t لفحص الاختلافات بين المجموعات، مع قيمة p مصححة بواسطة Bonferroni بقيمة 0.0083 لتحديد الأهمية (أي تقسيم عتبة 0.05 على ستة لحساب اختبارات المقارنة الستة). بالنسبة لقياس نتائج العريضة الترتيبية، تم استخدام اختبار Kruskal-Wallis Htest مع اختبارات Mann-Whitney U لإجراء مقارنات زوجية.

كان نمط النتائج واضحاً ومتشابهاً بشكل لافت للنظر بالنسبة لجميع المقاييس: بالنسبة للتجريد الصارخ من الإنسانية، كشف تحليل التباين عن اختلافات كبيرة عبر الدولة. أظهرت المقارنات الزوجية أن كان تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم أعلى بين التشيك مقارنة بالمجريين. وأعلى بين المشاركين من كلتا المجموعتين مقارنة بالإسبان.

ومن المثير للاهتمام، أن مستويات التجريد من الإنسانية كانت قابلة للمقارنة بين الإسبان واليونانيين. بالنسبة للتحيز، كان هناك أيضاً تأثير رئيسي مهم. لاحظ الباحثان مستويات أعلى بكثير من التحيز بين التشيك من المجريين. ومستويات أعلى من التحيز بين هاتين المجموعتين مقارنة بالعينة من الإسبانية أو اليونانية.

كانت مستويات التحيز التي أبلغ عنها الإسبان واليونانيون متشابهة مرة أخرى، كما هو الحال مع التجريد من الإنسانية والتحيز، لاحظنا اختلافات كبيرة في توقيع الالتماسات عبر الدول. أظهر التشيكيون والهنغاريون ميلاً معادلاً للتوقيع على العريضة المعارضة لمساعدة اللاجئين. لم يلاحظ اختلافات كبيرة بين الإسبان واليونانيين للتوقيع لصالح تقديم مساعدات للاجئين.

كانت الارتباطات بين التجريد من الإنسانية وتوقيع العريضة متشابهة بالنسبة للإسبان واليونانيين. باختصار، أظهر التشيكيون والهنغاريون مستويات متوسطة أكبر من التجريد من الإنسانية، والتحيز، والسلوكيات المناهضة للاجئين مقارنة بالإسبان واليونانيين. علاوة على ذلك، كان الارتباط بين التشيك والمجريين بين التجريد من الإنسانية والتوقيع على العرائض العدائية أكثر وضوحاً منه بين اليونانيين. لم تختلف العينات من الإسبان واليونانيين عن بعضها البعض في أي من هذه المقاييس. أشارت العينة من التشيك إلى قدر أكبر من التجريد من الإنسانية والتحيز تجاه اللاجئين المسلمين مقارنة بالعينة من المجريين، ولكن حقيقة أن البيانات التشيكية تم جمعها في وقت لاحق مقارنة بالبيانات المجرية تجعل من الصعب التأكد مما إذا كان هذا يعكس اختلافًا حقيقياً بين هاتين المجموعتين، أو يوحي بذلك. هناك أدلة لصالح فكرة أن المواقف المعادية للأجانب ربما استمرت في الارتفاع في أوروبا الشرقية (وربما في أماكن أخرى) منذ ذروة أزمة اللاجئين.

وأخيراً، يجب ملاحظة أن الباحثان جمعا بيانات من عينة أوروبية تمثيلية كبيرة أخرى (العدد = 1,160) في الدنمارك في يناير 2021 - قبل 9 أشهر تقريباً من العينات المأخوذة من المجر وإسبانيا واليونان. نظراً لأن المسح الذي تم إجراؤه في الدنمارك سأل عن "المسلمين" وليس "اللاجئين المسلمين"، فإن الباحثان لم يدرجوه في النص الرئيسي في بالتحليلات الرئيسية، ولكنهم قاموا بتضمين هذه البيانات في المواد التكميلية لديهم.

 لاحظ الباحثان أن مستوى تجريد المسلمين من إنسانيتهم كان مرتفعاً جداً في الدنمرك، حيث حصل المسلمون على تصنيف أقل بمقدار 23 نقطة من الدول الاسكندنافية - وهو أقل بكثير من مستوى تجريد المسلمين من إنسانيتهم.

إن خلفية هذا البحث واحدة من أكثر الحالات دراماتيكية. شهد العصر الحديث هجرة جماعية بشرية، حيث فر ملايين الأفراد، معظمهم من المسلمين، من فظائع الحرب بحثاً عن ملجأ في أوروبا. وربما أدت هذه الهجرة (ولا تزال تؤدي) إلى توترات داخل الدول الأوروبية المتأثرة بالهجرة، ربما كان متوقعا نظرا لنطاقها. في هذه الدراسة، قام الباحثان بدراسة تأثير إحدى التصورات التي كانت في طليعة الخطاب المنبثق عن "أزمة اللاجئين" على قبول أو رفض اللاجئين المسلمين: التجريد الصارخ من إنسانيتهم. وباستخدام عينات كبيرة في أربع دول أوروبية (جمهورية التشيك، إسبانيا واليونان والمجر)، وجد الباحثان أن اللاجئين المسلمين قد تم تجريدهم من إنسانيتهم (ويكرهون) بشكل صارخ، وهو اكتشاف يشير إلى أن وجهات النظر اللاإنسانية الصريحة التي يواجهها المسلمون في الولايات المتحدة تمتد إلى مجموعة من الدول الأوروبية، وتؤثر أيضاً على اللاجئين بين صفوفها. وبعيداً عن دراسة المستويات المتوسطة، كان الباحثين مهتمين باستكشاف ما إذا كان التجريد الصارخ من الإنسانية مرتبطاً بدعم السياسات المناهضة للاجئين والسلوك المناهض للاجئين. واتساقاً مع التوقعات، وجد الباحثان أن درجة التجريد الصارخ من إنسانية اللاجئين المسلمين كانت مرتبطة بشكل فريد بمقاومة توطين اللاجئين، ودعم السياسات المناهضة للاجئين، والميل الأكبر إلى التوقيع على العرائض المعارضة لمساعدة اللاجئين. والأهم من ذلك، كان هذا صحيحاً على الرغم من إدراج مجموعة صارمة من الضوابط، بما في ذلك المحافظة السياسية، والتحيز، وسمة القلق التعاطفي وتبني المنظور (بالإضافة إلى المتغيرات الديموغرافية).

تقدم النتائج التي توصل إليها الباحثان عدداً من المساهمات المهمة. على الرغم من أن بعض الدراسات السابقة قد نظرت في دور التجريد الخفي من الإنسانية للاجئين المسلمين في المواقف المناهضة للاجئين على سبيل المثال. ركز الباحثان في هذه الدراسة على التجريد الصارخ من الإنسانية، وهو موقف واضح من التجريد من الإنسانية. والشكل العلني من التجريد من الإنسانية الذي يميل إلى أن يكون مرتبطاً بقوة أكبر من التجريد الخفي من الإنسانية بالمواقف والسلوكيات العدوانية.

في دراسة دور التجريد الصارخ من الإنسانية، قام الباحثان أيضاً بالتحكم في القلق المتعلق بالسمات التعاطفية وأخذ المنظور، وهي عوامل لم تؤخذ في الاعتبار من قبل عند تقييم الارتباط الصارخ للتجريد من الإنسانية مع النتائج بين المجموعات. لقد اعتقد الباحثان أن سمة التعاطف قد تكون ذات أهمية خاصة في سياق أزمة اللاجئين، لا سيما في ضوء الصور المؤلمة التي تم تداولها للاجئين وهم يغرقون أثناء قيامهم بالرحلة الغادرة إلى شواطئ أوروبا. من الجدير بالملاحظة أن سمة القلق التعاطفي كانت مرتبطة بالفعل بمستويات منخفضة من التجريد الصارخ من إنسانية اللاجئين، وكثيراً ما تنبأت بشكل فريد بانخفاض العداء تجاه اللاجئين (بما في ذلك التنبؤ بالسلوك في جميع البلدان الثلاثة - المجر واليونان وإسبانيا - التي تم تقييمها فيها).

لاحظ الباحثان أن الأفراد في كل من الدول الأربع التي تمت دراستها عبروا عن مستويات كبيرة من التحيز تجاه جميع المجموعات الخارجية، وغالباً ما يكون ذلك بهوامش كبيرة. وفي الوقت نفسه، وجدنا أن كلاً من الإسبان واليونانيين قاموا بتجريد مجموعته من إنسانيتها نسبة إلى مجموعتين خارجيتين (إسبانيا: السويديون والألمان، واليونان: السويديون والفرنسيون)، ولم يقم المجريون والتشيك بتجريد مجموعة واحدة على الأقل من إنسانيتها. وتبين هذه النتائج أنه حتى عندما يفضل الأفراد مجموعتهم على الآخرين، وقد لا ينظرون بالضرورة إلى أنها نموذج للإنسانية.

 تشير الدراسة إلى أن الأفراد في بعض الأحيان يصنفون مجموعتهم بشكل واعي وصريح على أنها أقل إنسانية من المجموعات الخارجية الأخرى، حتى على مقياس علني مثل التجريد الصارخ من الإنسانية. أمثلة على الذات - التجريد من الإنسانية في مجال العلاقات الشخصية). مزيد من تسليط الضوء على التمييز بين التجريد الصارخ من الإنسانية والتحيز: على سبيل المثال، على الرغم من أن الألمان يُنسبون عادةً إلى أعلى مستويات الإنسانية، إلا أنهم كانوا في كثير من الأحيان هدفاً لمستويات عالية نسبياً من التحيز. وفي جمهورية التشيك، تم تصنيف الألمان في مرتبة قريبة جداً من المجموعة من حيث الإنسانية، ولكن أقل بما يتراوح بين 20 إلى 35 نقطة مع مقياس الحرارة للشعور بالتحيز. ومن المثير للاهتمام أن هذا التمييز لم يمتد إلى جميع الفئات ذات المكانة العالية. على سبيل المثال، أبلغت جميع المجموعات عن انخفاض التحيز وانخفاض مستوى التجريد من الإنسانية تجاه السويديين، وارتفاع التحيز وارتفاع مستوى التجريد من الإنسانية لبعض المجموعات ذات المكانة المنخفضة (مثل المسلمين والغجر)، وانخفاض التحيز وارتفاع مستوى التجريد من الإنسانية بالنسبة للأهداف الأخرى ذات المكانة المنخفضة (على سبيل المثال، الأفارقة).

يجب أن يأخذ العمل المستقبلي في الاعتبار بشكل منهجي مجموعة من العوامل التي تتنبأ عندما يتوافق أو لا يتوافق التحيز والتجريد الصارخ من الإنسانية، بما في ذلك على الأرجح أبعاد مثل الوضع الاقتصادي والعلمي والسياسي النسبي للمجموعات، بالإضافة إلى التاريخ المحدد للعلاقات بين المجموعات.

تجدر الإشارة إلى أن التحيز لعب أيضاً دوراً مهماً بالتوازي مع التجريد من الإنسانية في التنبؤ بالنتائج المعادية للاجئين - في الواقع، كانت تقييمات مقياس حرارة الشعور مرتبطة بشكل فريد بجميع مقاييس النتائج في جميع العينات، وكانت في عدة حالات يكون المتنبئ الأقوى (عددياً). على الرغم من أن نمط النتائج يضيف إلى الأدلة السلوكية الحالية والعصبية التي تشير إلى أن الأحكام الصارخة المتعلقة بالتجريد من الإنسانية ـ وبعيداً عن أحكام الكراهية ـ سيكون من المهم للعمل المستقبلي تحديد أسباب مساهماتهم المستقلة في النتائج بشكل أفضل. على سبيل المثال، من الممكن أن ينبئ التجريد الصارخ من إنسانيتهم بالرغبة في استبعاد اللاجئين والمسلمين لأنه يرتبط بالنظر إليهم على أنهم تهديد. من غير المرجح أن يساهم المتوحشون الذين يشكلون خطراً على المجموعة الداخلية. في حين أن كراهية اللاجئين قد ترتبط بشكل منفصل بالرغبة في الابتعاد الاجتماعي عنهم أو ميل أكبر لمعاقبة المجموعة الخارجية المكروهة على التجاوزات المتصورة، حتى لو لم يكونوا كذلك ويُنظر إليها بالضرورة على أنها أقل إنسانية.

 ويثير البحث أيضاً بعض الأسئلة الجديدة والمثيرة للاهتمام حول الاختلافات العابرة للحدود الوطنية في التجريد الصارخ من الإنسانية والمواقف المناهضة للاجئين. حقيقة أننا أرسلنا استطلاعات رأي مماثلة حول المواقف المناهضة للاجئين في أربع دول أوروبية كبيرة في وقت مماثل (وهام) سمحت لنا باستكشاف الاختلافات عبرها، على الرغم من أنه من المهم أن نأخذ في الاعتبار القيود المفروضة على هذه المقارنات. وعلى وجه التحديد، نلاحظ أن تم جمع العينة التشيكية بعد حوالي عام ونصف من تلك الموجودة في المجر وإسبانيا واليونان، مما يجعل من الصعب تحديد ما إذا كانت هناك اختلافات في هذه العينة بالنسبة للآخرين.

على الرغم من أنها أكبر وأكثر تمثيلاً من المعتاد في الأبحاث الأنثروبولوجية، إلا أن عينات هذه الدراسة لم تكن عينات احتمالية للدول المعنية، ولم تكن متطابقة تماماً مع بعضها البعض. على سبيل المثال، قامت العينة التشيكية بتقريب التوزيعات الوطنية عبر العمر والجنس والتعليم، بينما في هنغاريا وإسبانيا واليونان، تم تقريب التمثيل عبر العمر والجنس والمنطقة الجغرافية. علاوة على ذلك، نلاحظ أن البيانات اليونانية تضمنت نسبة أعلى من النساء (على الرغم من أن الجنس، وهو الأمر المهم، لم يتنبأ بالمقياسين اللذين تمت مقارنتهما عبر العينات - تجريد اللاجئين من إنسانيتهم والتماس دعم تمويل اللاجئين). ومع وضع هذه التحذيرات في الاعتبار، فإن الاختلافات بين هنغاريا وجمهورية التشيك من ناحية، وإسبانيا واليونان من ناحية أخرى، ملفتة للنظر.

قام اليونانيون والإسبان بتقييم اللاجئين المسلمين بحوالي 15 نقطة أقل من المجموعة في مقياس التجريد من الإنسانية، وحوالي 25 نقطة أقل على مقياس حرارة المشاعر. بالنسبة للهنغاريين، كانت مستويات التجريد من الإنسانية والتحيز أعلى بكثير، حيث حصل اللاجئون المسلمون على تصنيف أقل بـ 26 نقطة من المجريين على مقياس التجريد من الإنسانية، وأقل بـ 40 نقطة في مقياس التحيز. وأشار المشاركون التشيكيون إلى تصورات أكثر سلبية، حيث صنفوا اللاجئين المسلمين على أنهم أقل بمقدار 39 نقطة كاملة من مجموعتهم على مقياس الصعود، وأقل بمقدار 57 نقطة من مجموعتهم على التحيز. لوضع هذه النتائج في سياقها، تجدر الإشارة إلى أن مستويات تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم بين المشاركين التشيكيين مماثلة لتلك التي لوحظت في عينة مجتمع عبر الإنترنت من الأمريكيين التي تم جمعها على موقع MechanicalTurk التابع لأمازون.

وهذا يضع تجريد اللاجئين المسلمين من إنسانيتهم في جمهورية التشيك من بين أعلى مستويات التجريد الصارخ من الإنسانية التي لوحظت تجاه أي مجموعة مستهدفة حتى الآن باستخدام مقياس "الصعود". ونظراً لأبحاث المسح السابقة فإن اكتشاف أن العينات في دول أوروبا الشرقية أبلغت عن معظم التصورات السلبية هو أمر غير مفاجئ نسبياً. والأمر الأكثر إثارة للدهشة، في ضوء هذه الأبحاث المتوفرة، هو التسامح النسبي مع اللاجئين المسلمين بين اليونانيين. تشير الأبحاث السابقة الوطنية من عدد من المصادر إلى أنه قبل أزمة اللاجئين، كان العداء تجاه المهاجرين والمسلمين مرتفعا في اليونان (أو أعلى) منه في المجر وجمهورية التشيك، وأن إسبانيا كانت أكثر تسامحا بكثير.

على سبيل المثال، أظهرت البيانات المستقاة من موجة 1999-2000 لدراسة القيم الأوروبية أن أكثر من 21% من اليونانيين كانوا غير راغبين في أن يكون لديهم جيران مسلمين، مقارنة بـ 15% من التشيك و11% من الإسبان.

وفيما يتعلق بالمواقف تجاه المسلمين، كانت الهجرة في المسح الاجتماعي الأوروبي 2008-2009 أسوأ بين اليونانيين من أي دولة من الدول الـ 23 الأخرى التي تم تقييمها (بما في ذلك المجر وجمهورية التشيك. ومع ذلك، في البحث المذكور هنا، كان اليونانيون - مثل الإسبان، وعلى النقيض من المجريين والتشيكيين - أكثر عرضة للتوقيع على الالتماسات لزيادة المساعدات للاجئين المسلمين بدلاً من تقليلها، وأظهروا بشكل عام مواقف إيجابية تجاه اللاجئين مثل تلك التي شوهدت في إسبانيا. علاوة على ذلك، كان الارتباط بين التجريد من الإنسانية والسلوك المناهض للاجئين في اليونان أضعف قليلاً من ذلك في المجر وجمهورية التشيك.

على الرغم من أننا لا نستطيع إلا أن نتكهن هنا، إلا أننا نرى بعض الاحتمالات التي يمكن أن تفسر هذا التحول (المحتمل) في اليونان والتي تستحق المزيد من الاستكشاف. على سبيل المثال، ربما تكون المواقف المتخذة وسياسات التكامل السخية نسبياً التي نفذتها الحكومة في اليونان في السنوات الأخيرة قد ساعدت في إرساء معيار العمل الإنساني والتسامح الذي شكل المواقف تجاه اللاجئين المسلمين.

إن التناقض ملحوظ مع الخطاب العدائي والسياسات التقييدية التي يطبقها كبار الساسة في جمهورية التشيك والمجر (والتي أقامت سياجاً مصمماً لإبقاء اللاجئين المسلمين خارج بلادهم). بدلاً من ذلك (أو بالإضافة إلى ذلك)، من الممكن أن يكون الاتصال المباشر وغير المباشر بين المجموعات الذي توفره قربهم الخاص من أزمة اللاجئين قد أثر بشكل إيجابي على مواقف اليونانيين تجاه اللاجئين المسلمين، بما يتوافق مع الأبحاث السابقة التي تظهر وجود علاقة بين الاتصال الإيجابي بين المجموعات وانخفاض التحيز، وانخفاض مستوى التجريد من الإنسانية (الخفي).

في الواقع، من الجدير بالملاحظة أن إسبانيا - وهي الدولة التي أظهرت باستمرار مواقف متسامحة نسبياً تجاه الهجرة - تحقق درجات أعلى في تقديرات التنوع الثقافي من جمهورية التشيك أو المجر، وكلاهما مجتمعات متجانسة نسبياً. وبطبيعة الحال، سيتعين على البحوث المستقبلية تحديد أي من هذه الاحتمالات (إن وجدت) يفسر هذه الأنماط بشكل أفضل. بالإضافة إلى القيود التي تمت الإشارة إليها بالفعل، من المهم أن ندرك أن البيانات الواردة هنا مترابطة، وبالتالي لا توفر سوى القليل من التبصر في العلاقات السببية. على سبيل المثال، نبين هنا أن التجريد الصارخ من الإنسانية يرتبط بشكل فريد بالمواقف والسلوكيات المناهضة للاجئين. من الممكن أن يؤدي التجريد من الإنسانية إلى ظهور مواقف وسلوكيات معادية للاجئين.

في الدول التي تم فحصها تمت ملاحظة أن التجريد الصارخ من الإنسانية كان مرتبطًا بشكل فريد بالمواقف والسلوكيات المناهضة للاجئين باستمرار. وفي مقارنات استكشافية، تبين أن درجة التجريد الصارخ من الإنسانية وارتباطها بالمواقف والسلوكيات العدائية مرتفعة بشكل خاص في عينات أوروبا الشرقية، حيث يكون الاتصال باللاجئين منخفضاً والخطاب المناهض للاجئين من قبل النخب السياسية بارزاً نسبياً.

بالنظر إلى الإمكانية الملحوظة لأولئك الذين يتعرضون للتجريد العلني من إنسانيتهم للرد بالتجريد من الإنسانية والعداء من جانبهم في ضوء حوادث العنف الأخيرة في عدد من البلدان الأوروبية، هناك حاجة ماسة إلى مزيد من العمل لفهم ومعالجة أفضل التجريد من الإنسانية هو السبب الجذري للصراع بين المجموعات.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

رداً على مقالة الأسبوع الماضي، كتب لي أحد الزملاء قائلاً: لو صحت الدعوى، لتحقق المراد اليوم. ففي العالم العربي عشرات الآلاف من مطوري البرامج الأكفاء، وثمة آلاف آخرون يتخرجون كل عام، من الكليات المتخصصة في فروع المعلوماتية. ومع هذا، لا نرى التطور الذي تزعمه المقالة. بل ما زالت الغالبية الساحقة من البرامج التي نستخدمها على مستوى الأفراد والشركات والحكومات أجنبية. حتى إذا كان للمطورين المحليين دور، فهو لا يعدو التنسيق والتهيئة، كي تلائم متطلبات البلد. وهذا عمل لا صلة له بالتطوير أو الابتكار.

فإذا كان الآلاف الذين لدينا اليوم لم يصنعوا شيئاً مهماً، فهل مضاعفة الرقم ستصنع التغيير... بعبارة أخرى: هل المشكلة في العدد؟ وهل نقول إنه يجب أن يكون لدينا مليون مطور ومبرمج حتى تتحول المعلوماتية إلى صنعة وطنية؟

رأيي أن هذا السؤال عبثي. لكنه - مع هذا - يلفت أنظارنا لنافذة مهمة، تكشف العوامل التي أدَّت إلى إخفاقنا في الماضي، والتي قد تؤدي إلى تكرار الإخفاق اليوم أو غداً. المسألة قطعاً ليست في العدد، مع أنه مفيد، في الجملة. دعوتنا تدور حول الإبداع والابتكار، وليس زيادة العدد.

ويتَّضح الفرق بين الكثرة والإبداع، من خلال المقارنة بين اقتصاديات الزراعة في الهند ونظيرتها في هولندا. يصل عدد المزارعين في هولندا إلى 660 ألفاً، يقابلهم 152 مليوناً في الهند (230 ضعفاً). وتبلغ قيمة الصادرات الزراعية الهولندية 132 مليار دولار، تقابلها 53 ملياراً في الهند (أقل من النصف). هل تعرف السر في هذا الفارق الكبير؟ السر هو أن هولندا واحدة من الدول العشر الأولى في قائمة الابتكارات التقنية الجديدة. وهي الأكثر إبداعاً في مجال الزراعة.

مرادنا إذن هو إيجاد البيئة الاجتماعية - الثقافية المعززة للإبداع والابتكار، وليس مجرد الزيادة العددية. نحن لا نستهدف تدريب مستعملين للبرامج والأجهزة المستوردة من الخارج، بل مبتكرين ومطورين يبدعون برامج وأجهزة جديدة. لهذا السبب دعوت في مقال الأسبوع الماضي إلى تعليم البرمجة في المرحلة الابتدائية، ثم جعلها إلزامية في المرحلة المتوسطة. ذلك أن الموضوع الذي يشغل ذهن الإنسان عند طفولته، سوف يتحول إلى هواية وشغف وجزء أساسي من حياته اليومية، حينما يكبر. كثير من الأطفال سوف يكتشفون برمجة الألعاب في سن مبكرة، وبعضهم سوف يتَّجه إلى حقول أخرى، مثل الزراعة والهندسة والعلوم الإنسانية، لكنه سيحمل معه القابلية لربط أي من هذه الحقول بحقل المعلوماتية، عندئذ سنرى الدخول السلس للذكاء الاصطناعي في الزراعة والطب والاتصالات والنقل والهندسة... إلخ. العنصر الرئيس في هذه الفكرة إذن هو تعميق انعكاس المعلوماتية في نفس الإنسان وعقله وجعلها جزءاً نشطاً من عالمه.

هذا شيء يختلف عن تعليم الحوسبة في الجامعة، وفق الطريقة التي اعتدناها في معظم الجامعات العربية حتى الآن. تعليمنا الراهن لا يهتم كثيراً بغرس الابتكار، بل يركز على إتقان استعمال الأجهزة والبرامج، ثم الحصول على شهادة جامعية تضمن للطالب وظيفة مريحة في حقل المعلوماتية أو في أي مجال آخر. أي أن الحوسبة جاءت في شكل إضافة إلى معلوماته، وليست كانشغال ذهني وشغف وهواية في حياته اليومية.

في الصورة الأولى نتوقع كثيراً من الإبداع. الأطفال الذين يتعلمون شيئاً، يبدعون فيه مبكراً. بل أدعي أن قابلية الإبداع واكتشاف الجديد لدى الشاب المراهق، أقوى وأكثر احتمالاً من نظيره المتقدم في العمر. والسرّ فيه أن خيال الطفل والشاب المراهق خيال منطلق، لا يتقيد بحدود العقل وقيوده، بخلاف الشخص الناضج الذي – تبعاً لموقعه الاجتماعي وقدراته المادية – يحصر تفكيره في المتعارف والمألوف، إلا في حالات نادرة. لقد بات مسلماً في عالم اليوم أن الخيال الجامح المنطلق، العابر للمعقولات، هو أبو الإبداع وأمه، وأضيف إليه أن زرع بذور الإبداع والابتكار، يبدأ في بواكير الحياة، كي يؤتي ثماره في تواليها.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

مدخل: من المفارقات اللافتة والمؤثرة عند الحديث عن الأمانة العلمية في المجال العلمي العربي والإسلامي المعاصر،  ما تطالعنا به التقارير العالمية من أخبار عن مؤسسات التعليم العالي العربية حول ظاهرة العبث الأكاديمي وتقنيات التزييف والغش والسرقة التي يتفنن فيها بعض من لبسوا لباس العلم والفكر والثقافة لباس الفرو مقلوبا ممن يسمون أنفسهم باحثين وأكاديميين وكتاب، وما خلفته هذه الظاهرة من كوارث في مستويات البنية الأكاديمية العربية، وعند تشريح هذه الجرائم الأخلاقية بحق المؤسسات والثقافة العلمية ونظم التعليم العالي عربيا من جهة، وفي حق أجيال الأمة من تحريف رسالة العلم وأمانة الضمير العلمي من جهة اخرى، نلحظ أن  الرداءة سلعة رائجة في أسواق التفاهة والتخلف السوداء ومجمعات الامتيازات العلمية المصطنعة تحت الطلب، ولا نستغرب ذلك في مجتمع أسئلة النقد والتحقق والمكاشفة والصدق والأمانة تمثل مثالية وحماقة وكفر وفسوق !!

ومصطلح "عبث" لا يعني "غير ممكن منطقياً" وإنَّما هو ما يتنافى مع المنطق، أو بالأحرى لا يحترم قواعده ولا يخضع لها، مع القيام بأعمال تجعل الآخر يقتنع بمعلومات ليست صحيحة، أو بجزء من الحقيقة الكاملة، أو ما يعرف بنصف الحقيقة إلى حين الفضيحة.. وترسخ المفارقات في الوعي العام وبعد تطورها تصبح  ثقافة إجتماعية في حقل من الحقول وذات أساس وجودي فعال بحيث تصبح ظاهرة قائمة بذاتها ومواضيعها، هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم، وهي نتاج تاريخ من الانحراف والنكسة والتحريف والاستدمار  الممنهج للرمزية العلمية والفكر الحي في مجتمعاتنا حتى يتمكن التخلف وثقافته من السيطرة والوقوف على محطات التضليل والتجهيل من أجل السيطرة والدمج في مشاريع العقول المقعرة التي تلتقط أمواج محددة من الفكر والحركة..

ماهية العبث الأكاديمي؟!

غالبا العبث هو أساس ومنشأ المفارقات التي يعمل على تغطيتها لغاية تحقق التضليل، أي إخفاء الواقع عبر الزيف، وهذا ما يحصل في العديد من المؤسسات الأكاديمية العربية  التي صوريا هي مخابر للعلوم  لكنها ضمنيا تفتقد لهويتها الأصيلة التي تعكس الدقة المنهجية والموضوعية، والمسؤولية الأخلاقية  أي هناك مصداقية تشترط في إنتاج العلم الصادق والمعرفة الصادقة، حتى يكون المنتظم فيها  أهلا  للحاق ببساتين أكاديموس العربية الحضارية كما عرفتها الزيتونة والقيروان والأندلس وبغداد ودمشق والقاهرة  قبل عدة قرون عندما كانت مقاصد عشاق العلم والمعرفة والحكمة..و تكتشف المفارقات أكاديميا حين نرى أن صفة العلمية لا تشغل إلا حيزا ضيقا ومحدودا في يوميات السواد الأعظم من رواد الجامعات، حيث المردود العلمي ضئيل جدا أمام الترجمات الحرفية لأعمال وأفكار وأطروحات أجانب دون إذنهم، ناهيك عن الاستثمار الشخصي تحت يافطة البحث العلمي بينما الحال البحث النفعي الخاص على حساب مستقبل الطلبة والباحثين وتضييق الخناق على الأدمغة العبقرية إما بالتسفيه أو سرقة جهودهم البحثية واستغلالهم في بناء هالات كارتونية من ألقاب وهمية لا يصدقها سوى الجاهلين بمستويات أصحابها العلمية التي لا تكاد تعادل مستوى الإعدادي أو اقل، للأسف هذه الظاهرة اكتسحت ربوع الحقول العلمية والأكاديمية في العالم العربي، فصارت ألقاب الدكتوراه والبروفسور والمنظر والفيلسوف والخبير وما هنالك تطلق بعشوائية توازي عشوائيات إدارة مؤسسات العلم والمعرفة والثقافة..

لا مناص أن هذه الظاهرة، هي موضع  اختلاف عند القائمين على الشأن الأكاديمي في مجتمعنا، لكنه اختلاف ليس من قبيل تعدد وجهات النظر وضبط الحقيقة وإنما إختلاف بلا مبرر أخلاقي أو موضوعي، حيث الاختلاف حول قراءة مفارقات الراهن الأكاديمي العربي عبر المكاشفات ووفق معطيات ذات عمق ومصداقية من شأنه إثراء النقاش حولها-الظاهرة-تشخيصا  ونقدا وعلاجا، تشخيصا على مستوى الأفراد والمؤسسات، ونقدا على مستوى النظم والإعلام،و علاجا على مستوى الأداء والمردود والانتاج العلمي، لأن تفكيك ميكانزيمات هذه المفارقات المسيطرة على العقول والإدارات والنظم والمشاريع يمكن أن  يعدل سلم القيم الأكاديمية المقلوب،حتى تنتظم أمور  التعليم والبحث العلمي وتنال الاوسمة الأكاديمية بجدارة أكثر من نيلها بوساطة أو زورا وبهتانا.

تيارات العبث الأكاديمي واستنساخ الشهادات:

وصلت الحال ببعض المؤسسات الأكاديمية الرسمية وغيرها في المجال العربي إلى فتح أبوابها لمدمني الغش والتزوير والسرقة مما خلق تيارات من العبث الأكاديمي منها:

. تيار الفانتازيا الثقافية

.تيار إدارة الوساطات

. تيار التسويق والإشهار لمزادات الشهادات والألقاب والمشاريع..

حتى اصبحت جامعاتنا العربية تعج بدونكيشوتات العلم والمعرفة، بينما تقييمها العالمي لا يكاد يظهر الا بعد ثلاثمائة وخمسين جامعة، والذي يعكس التناقض الجوهري بالنظر لفائض الكوادر العليا داخل الجامعات والمعاهد ومراكز الابحاث ونسب وقيمة الإنتاج العلمي والمعرفي، هذا التناقض هو في الواقع واجهة خلفية للإستنساخ العشوائي للشهادات والرتب والامتيازات دون ادنى موضوعية وتحت طائلة فشل ذريع  في إدارة اقتصاد المعرفة!!

صور العبث الأكاديمي عربيا1:

المؤكد أن ظاهرة العبث الأكاديمي هي من الظواهر السوسيوثقافية القاتلة حالها كحال الأفكار القاتلة التي تحصل في حياة الإنسان من جهة علاقته بالفكر المتطرف أو المنغلق، حيث لا تنبثق هذه الظاهرة بشكل عفوي أو عابر، وإنما تحصل بشكل إرادي مخطط له مسبقا، كما أن وقوعها لا يعني أنها ترسخت وسيطرت وأصبح مستحيل  تجاوزها والتغلب على صورها، وإنما يمكن  الحد منها وتوقيف آثارها حالها كحال كل الظواهر السوسيوثقافية الأخرى.

هذه الظاهرة تحصل في مختلف محطات الأكاديمي المزيف في المسار الأكاديمي2، فقد تحصل عند البعض في بدايات المشوار الجامعي، وقد تحصل عند آخرين في مرحلة الدراسات العليا، او ما بعد التدرج وعند آخرين قد تحصل في مرحلة الإشراف والتوجيه العلمية أوعند تسلم المناصب الادارية، وفي كل مرحلة من هذه المراحل تبرز هذه الظاهرة بتمثلات معينة وإنعكاسات محددة وإنحرافات مختلفة لكنها ذات هدف واحد التضليل وتزييف الواقع.

من جانب آخر، تحصل هذه الظاهرة تارة برغبة من الشخص وبإدراك منه، وتارة تحصل من دون رغبة منه وبإدراك، تحصل برغبة حين يقرر الشخص بإدراك منه حرق المراحل والتعدي على حقوق الغير وبيع كرامته، وذلك لعوامل وأسباب تتعلق بالشخص نفسه، قد تكون قاهرة لأنها تعود لمرحلة تربوية عميقة، وفي مقدمتها العامل النفسي كشعور الإنسان بالنقص وعدم الجدارة، ومنها العامل الاجتماعي كالغيرة والسعي وراء الشهرة والوجاهة، ومنها عوامل وأسباب اقتصادية تتعلق بالثراء الفاحش الذي يوهم صاحبه أنه يمكنه شراء كل شيء وصناعة الأسطورة واستكمال أركان النفوذ لديه..

كما تبرز هذه الحالة من دون رغبة من الإنسان ولكن بإدراك، وتتعلق بالعامل القيمي الفاسد مجتمعيا وجامعيا، فالتأثير الذي يحصل من هذه الجهة، يظهر حين يكون المجتمع يعيش الرداءة والمحسوبيات، وحين يسير الفرد ضمن هذا المجتمع وفق التيار الاجتماعي الكاسح ولا يشغل نفسه بالأساس القيمي الأخلاقي، ولا يربي نفسه على الجد والإجتهاد  بعفة وسداد، وهكذا حين لا يمنح الأشخاص الذين يجتهدون في تحقيق النجاحات العادلة اي اعتبار، هذا الانحراف القيمي إذا ساد في المجتمع فإنه ينتهي بالكثيرين إلى الإصابة بكل صور العبث.

ومن الصور الدالة على ذلك، المجاملة في منح النقاط وتقييم رسائل التخرج وتقييم الاطروحات ومنح الرتب على أساس القرابات والصداقات والزمالة في الجامعة والتوصيات من قامات النفوذ سياسيا واجتماعيا، فبدل أن نرفع من مستويات الصرامة للنهوض بالجد والنزاهة الأكاديمية، ننعش ثقافة الوساطات والمجاملات على حساب مستقبلنا العلمي والمعرفي، وهناك صورة أخطر تتمثل في التوجيه نحو السرقات العلمية والغش وتزوير النتائج والابتزاز المالي والجنسي التي يكون خلفها مشرفين وأحيانا يغضوا الطرف عنها وتنال تلك البحوث مباركة لجان التقييم إما استحياءا من المشرف المخضرم أو الزميل الصديق الذي سيبارك البحوث التي يشرفون عليها، مما جعل  العديد من جامعاتنا مصابة بفقر النزاهة والكفاءة والأمانة والشرف ..

وهكذا تتعدد الصور والحالات الدالة على ما يتركه العبث الأكاديمي من تأثير في قتل كل فسلات النهوض والإبداع والنجاح العلمية والمعرفية..

سبل مكافحة ظاهرة العبث الأكاديمي؟

اتخذت العديد من الدول الغربية مجموعةً من الإجراءات اللازمة للحد من ظاهرة العبث الأكاديمي، بينما عالمنا العربي لايزال يراوح مكانه في الإطار، إما بفقدان الإطار القانوني للحد من الظاهرة او عدم الصرامة والجدية في تفعيل قوانين الردع وحماية الحقوق الفكرية والعلمية وفيما يأتي أهم السبل:

* دراسة الحالات: يُؤدّي إجراء الدراسات النفسية والاجتماعية اللازمة على كلّ شخص من رواد العبث الأكاديمي إلى فهم الظاهرة  والأسباب الكامنة التي أدّت إلى إنحرافهم وخيانتهم للأمانة والمسؤولية.

* تجريم كل صور العبث الأكاديمي: من خلال اعتبار كل أشكال العبث أكاديميا جريمة يُعاقب عليها القانون بأقصى العقوبات لأنها من رتب الخيانة مع السهر على تفعيلها وتطبيقها.

* المعاقبة: تتّخذ بعض الحكومات الغربية العقوبة كوسيلةٍ للحدّ من أشكال العبث أكاديميا، كسحب الشهادات والفصل من الجامعات لكل من ثبتت بحقه جريمة العبث الأكاديمي، أو من يُشجّع على شكل من أشكال العبث، وتُسحب منه كل الامتيازات  المُحصّلة من هذا الفعل المجرم قانونا وتغريمه ماليا.

* تطوير آليات التقييم وتقنيات الرقابة: وذلك بوضع أنظمة للرقابة وتمحيص المقالات العلمية والرسائل والأطروحات والشهادات، مع مقاييس حازمة للأداء الأكاديمي سنويا.

* التشهير الإعلامي: وذلك بعرض قضايا الغش والتزوير والسرقات العلمية بعد فصل الجهات القانونية فيها، عبر وسائل الإعلام الرسمية.

* الإرشاد القانوني للأكادميين: الإرشاد القانوني لأفراد الوسط الأكاديمي حول مخاطر ظاهرة العبث مهمّةً جداً للحدّ منها، ويُمكن تنفيذ برامج توجيه وإرشاد وتوعية عبر ندوات ومحاضرات وتوزيع منشورات قانونية حول ذلك..

عن المصداقية؟

لا تتحقق المصداقية في أي مجال من المجالات الحيوية إلا من خلال بوابة إدارة أداء الكفاءات العملية عبر ركائز أخلاقية وفنية ونظام المساءلة والتحفيز الأدائي المستمر، مع التأكيد أن المصداقية محلها من الإعراب أكاديميا الحرية مع الأمانة، وهكذا نصل إلى مسألة أساسية وهي: أن أحد الأسباب الرئيسية لبروز ظاهرة العبث هو غياب حياة جامعية سليمة ومدنية في العديد من بلدان العالم العربي.

لذلك من الأهمية بمكان أن نرفض الاستئثارات والانتهاكات التي تحصل داخل العديد من الجامعات العربية، مهما كانت المبررات المطروحة والتي تُسوِّغ ذلك، ونقف ضد كل أشكال الانحراف والتهميش والفساد مهما كان الذي يقف وراءها. ولا بد أن نأخذ الدروس والعبر من التجارب العالمية في إصلاح الجامعات بأمريكا اللاتينية وافريقيا وجنوب شرق آسيا وبالطبع أوروبا وأمريكا الشمالية والتي حدثت فيها انحرافات وانتهاكات للقوانين وللأعراف، حيث إن هذا الواقع الأكاديمي المزري  يدمَّر في كل لحظة المجتمع والاقتصاد والمستقبل  العربية، ولذلك هجَّرت الكثير من  العقول والأدمغة  نحو الغرب تاركة  كل شيء وراءها..

وبكلمة: إن تحصين الجامعة من مخاطر العبث، يتطلب بلورة حياة جامعية جديدة، تتجاوز إنحرافات الواقع، وتسعى نحو إرساء دعائم وتقاليد الإصلاح والتنمية على  صعيد  كل مكونات الفعل  الأكاديمي الجامعي والإبداع العلمي.

فالتحصين لا يتأتى بالشجب وزيادة قائمة اللعن، بل بغرس أسباب الجودة والحيوية  والفعالية في حياتنا الجامعية. فالجامعات الراكدة، هي أقرب إلى الاختراق والاستدمار والتزييف على مستوياتها كافة.

أما الجامعة التي تحترم نفسها،  فإنها تمتلك الدينامية الكافية التي تؤهلها إلى مقاومة كل الأميين والعابثين ومجابهة كل محاولات الاختراق التي تهدد مستقبل طلابها وكوادرها.. فوجود الحياة الأكاديمية الجادة بكل مستلزماتها ومتطلباتها وآلياتها، يساهم مساهمة أساسية في إرساء دعائم التنمية  العلمية والجامعية.

***

أ. مراد غريبي

...................

1- يمكن العودة إلى كتابات البروفسور محمد الربيعي بصحيفة المثقف والحوار الذي أريناه معه ضمن مرايا فكرية

2- هناك تفكيك عميق  لأبعاد  الموضوع في كتاب الدكتور علي أسعد وطفة  " الأمية الأكاديمية"

بقلم: جون كلارك

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

يقول الدكتور جون كلارك: إن عبادتنا للعقل أصبحت مرضية.

الفلسفة في تراجع. تسمع ذلك في كل وقت. يتم تقديم الأدلة بانتظام:  هناك عدد أقل من الخريجين، وانعدام الوظائف، وانعدام الآفاق، ونقص الاهتمام بالثقافة، وما إلى ذلك. لقد أصبح ذلك حقيقة مملة.

ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك؟

هل أقلعنا عن حب الحكمة بشكل جماعي؟

في عالمنا الحديث، هل تخلصنا من عباءة كوننا الإنسان العاقل (الشخص الحكيم)؟

هل وصلنا بطريقة أو بأخرى إلى أن نكون فوق كل شيء؟

ألم نعد مفتونين بدورنا الجماعي بين جميع المخلوقات على هذا الكوكب المتمثل في كوننا عقلانيين؟

هذا لا يمكن أن يكون صحيحا.

المعرفة والاختيارات الجيدة – هذه الأشياء خالدة ولا مفر منها.

إذن ماذا حدث لنا؟

ماذا حدث لعقولنا الجماعية التي سمحت بتراجع الفلسفة؟

لا بد أن تكون الفلسفة مريضة.

من المؤكد أن هناك مرضا على قدم وساق، بلاء عقليا واسع النطاق ينتشر بين البشر – جائحة فكرية: مرض العقل، ومرض الثقافة، ومرض المجتمع. هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر عدم اهتمامنا الجماعي بالحكمة، وتراجع حبنا لجوهر هويتنا.

نحن بحاجة إلى طبيب. ويتبادر إلى ذهني والد الطب اليوناني جالينوس. قال جالينوس الشهير: "أفضل طبيب هو الفيلسوف أيضا". وربما يمكن للطب أن يساعد. لكن الطب مريض أيضا. الأطباء يقتلون أنفسهم بمعدل ينذر بالخطر. إن الإرهاق في الطب منتشر ومتوسع، وقد أصبح أكثر بروزا في الطب من أي مهنة أخرى. الأطباء يعانون ويموتون. المعالجون أنفسهم مرضى ويحتاجون إلى الشفاء. ربما أصابهم جائحة العقل أيضا؟

أنا طبيبة. لقد احترقت. لقد أصبحت مريضة نفسيا وكنت في حالة تدهور. لم أكن جميلة. لقد حاولت التعافي. ولحسن الحظ، لقد تم إنقاذي. لقد أنقذتني الفلسفة.

أنا جادة. حدث شفاء ذهني جاء على شكل شفاء حكمتي؛ من خلال شفاء معرفتي وإحساسي بالخير. وكما اتضح، فقد وجدت بنفسي أن الطب يحتاج إلى الفلسفة ليكون جيدا. لكنني توصلت أيضا إلى الاعتقاد بأن الفلسفة تحتاج إلى الطب حتى تتعافى من تراجعها. الفلسفة والطب يحتاجان لبعضهما البعض. يمكنهم مساعدة بعضهم البعض. أفضل فيلسوف هو أيضا طبيب، فهو شخص يفهم اضطرابات العقل وما هو مفيد للإنسانية. تحتاج الإنسانية إلى كلا الجانبين للعمل معا لشفاء حكمتنا الجماعية، وليس فقط إنقاذ الفلسفة، بل إنقاذ الطب، بل وإنقاذ عالمنا أيضا.

يحتاج الشفاء أولا إلى التشخيص، ومعرفة شاملة بالمرض قبل تطبيق العلاج المناسب. من خلال الإرهاق والتعافي، قمت بإجراء مثل هذا التشخيص، وقد ولد التشخيص من ملاحظة بسيطة مفادها أنه من خلال كوني أكثر عاطفية، تحسنت. ونشأت أسئلة عميقة، ليس أقلها: "ما هي العاطفة؟" مثل هذه الأسئلة تؤدي حتما إلى أسئلة المعرفة والخير - أسئلة فلسفية خالدة. لقد قادوني إلى تشخيصي الخاص، وتشخيص الطب. ومع ذلك، فقد أدت أيضا إلى تشخيص علل الفلسفة وانحدارها. لن يعجبك ذلك.

أتاراكسيا والفكر

أتاراكسيا هي الحالة الرواقية المثالية للهدوء، أو عدم اهتمام العقل. لكن بالنسبة لي، فإن الطمأنينة هي مرض الإفراط في التفكير، والغربة الشديدة عن عواطفنا. إنها حالة عقلية مجردة مرضية من الموضوعية الزائدة، والانفصال الذي لا ينضب، والافتقار العميق للحساسية. وتتمثل أعراضه في هدوء العقل، وعدم التأثر بالأحداث عدميا، والضياع في حالة ركود من المعرفة. وبالتالي فهو بطبيعته مرض أخلاقي ومعرفي.

لا يتم استخدام الطمأنينة هنا بالمعنى الأبيقوري للهدوء الدائم الناتج عن التحرر من المشاعر السلبية، ولكن بالمعنى الرواقي للتحرر من كل الاضطرابات العقلية/العاطفية على الإطلاق - على الرغم من أن كلتا الحالتين أعتبرهما مسجونتين عقليا وغير صحيتين بطريقتهما الخاصة. لفهم طبيعة مثل هذا المرض، يجب على المرء أن يفهم العقل البشري، وكذلك الاضطرابات في صيغته السائدة حاليا في الثقافة فيما يتعلق بالفكر والعاطفة، وكيف يساهم كل منهما في المعرفة والخير. سأكون مختصرا.

تطور الذكاء البشري لحل المشاكل. إنها تستخدم عملية عقلية يتم تنفيذها عن عمد، وهي عملية واعية، وبطيئة، ومنهجية، واختزالية، ومجردة، ومصممة لإنتاج معرفة موضوعية تمكن الفرد من ممارسة السيطرة على المستقبل؛ وبعبارة أخرى، للتخطيط. يشار إلى هذه العملية عموما باسم "التفكير". تعتبر مثل هذه العملية العقلية لعنة على عكسها - العاطفة - وهي عملية عقلية يتم تنفيذها غريزيًا وهي لا واعية، وعفوية، وسريعة، وشمولية (إجمالية)، وعلائقية، ومصممة لإنتاج معرفة ثمينة (ذات قيمة) بشكل حدسي. يشار إلى هذه العملية عموما باسم "الشعور". نظرًا لمركزية التحكم المتعمد من قبل العقل، فإن هذا يعني أن الإرهاق والطمأنينة هما من أمراض العقل الذي يتم التحكم فيه بشكل مفرط، وقمع للعقل التلقائي. يمكن ملاحظة علامات وأعراض هذا النوع من فرط الفكر وعلله على أنها تتراكم منذ العصور القديمة وحتى الوقت الحاضر.

إن الأمثلة على فرط الفكر لا تعد ولا تحصى في الفلسفة، وحتى المراجعة السريعة لتاريخ الفلسفة تسلط الضوء على الكثير منها. ديموقريطوس، فيلسوف ما قبل سقراط الذي أطلق عليه البعض لقب "أبو العلم الحديث" بسبب نظرياته الذرية المبنية على الملاحظة للمادة، اعتبر المعرفة المكتسبة من خلال التجربة الحسية بمثابة معرفة "غير شرعية" وهي خاطئة بطبيعتها، والمعرفة التي تم الحصول عليها من خلال تطبيق العقل الخالص بأنه "شرعي". رفع زينون، مؤسس الرواقية، العقل غير العاطفي بمصطلحات رواقية كلاسيكية على النحو التالي: "الشعور السيئ هو اضطراب ذهني بغيض للعقل، وضد الطبيعة". وبعد ذلك بوقت طويل، انتهى صراع رينيه ديكارت مع المعرفة بفكرته المبدعة: «أنا أفكر إذن أنا موجود» ــ وهو الاستنتاج الذي يستبعد بشكل واضح «الشعور» (كما في عبارة «أنا أشعر إذن أنا موجود») من عالم الحقائق البديهية. تحديد وجودنا. لكن ربما كان باروخ سبينوزا هو الأكثر صرامة في إعلانه عن أولوية العقل، في كتابه "

الأخلاق" الصادر عام ١٦٧٧:

"بدون ذكاء لا توجد حياة عقلانية: والأشياء جيدة فقط بقدر ما تساعد الإنسان في التمتع بالحياة الفكرية التي يحددها الذكاء. وعلى العكس من ذلك، فإن كل ما يمنع الإنسان من كمال عقله، وقدرته على التمتع بالحياة العقلية، فهو وحده يسمى شرا.

لم تكن الفلسفة الحديثة أكثر لطفا مع العواطف. يعبر فريدريك نيتشه، الذي كانت عدميته مؤثرة جدا في ما بعد الحداثة، عن إنكاره للعاطفة عن طريق رفضه للأخلاق، من خلال القول بأن الأخلاق “مجرد لغة إشارة للمؤثرات”. يستبعد جيسي برينز، في كتابه "ردود الفعل المعوية" (٢٠٠٤)، المشاعر غير المنضبطة من مجالات الإدراك من خلال الإعلان، "إذا كانت العواطف معرفية، فيجب أن تكون تحت السيطرة المعرفية". رونالد دي سوزا، في كتابه عقلانية العاطفة (١٩٨٧)، يجادل أيضا ضد الإدراك العاطفي بقوله أن “العواطف ليست معتقدات” وعلى هذا النحو لا يمكن تبريرها أو صحتها، وبالتالي لا يمكن أن تكون جزءا من المعرفة. وحتى نظرية العملية المزدوجة الحديثة، التي تزعم دمج الانفعالات في الوظيفة العقلية العالمية، تدرج الانفعالات تحت نموذج فكري ــ كما يتجلى في كتاب دانييل كاهنامان "التفكير بسرعة وبطء" (٢٠١١). ومع ذلك، في حين أن "النظام 2" الذي يبذل جهدا واعيا ومنطقيا يفكر بالفعل، فإن "النظام 1" التلقائي والحدسي والعاطفي لا يفعل ذلك؛ انها تشعر. الصيغة الأقل تحيزا فكريا هي "الشعور بالسرعة والتفكير البطيء".

من المؤكد أنه كانت هناك ردود فعل فلسفية ضد هذا الإفراط في الفكر. تتجسد فكرة تبني الدافع من خلال التخلي العقلي التلقائي في الحركة الألمانية  ("العاصفة والقيادة") في أواخر القرن الثامن عشر، والتي تمردت ضد القيود العقلانية لعصر التنوير من خلال تبني التعبير الحر عن المشاعر المتطرفة. أدت هذه الحركة إلى ظهور حركة مناهضة التنوير الألمانية والرومانسية في أوائل القرن التاسع عشر، وكانت الحركة الأخيرة بمثابة رد فعل ضد الترشيد العلمي الاختزالي للطبيعة ونسلها الآلي، الثورة الصناعية. تكمن الثقة في العاطفة أيضا في قلب الحركات الفلسفية مثل الفلسفة المتعالية، كما روج لها رالف والدو إيمرسون، وهنري ديفيد ثورو، ووالت ويتمان، مع إيمانها بخير الطبيعة البشرية وموثوقية الحدس البشري.

مثل هذه الصيغ المضادة للعقل البشري فيما يتعلق بالتأثير الحدسي قد يُنظر إليها على أنها دوافع تاريخية نحو التوازن العقلي. ومع ذلك، فقد تلاشت مثل هذه النوبات الفلسفية المتمثلة في اعتناق العواطف في عصرنا الحديث. إنهم لا يتركون خلفهم سوى أصداء روحهم.

علاوة على ذلك، لم تبقى الهيمنة الفكرية مقيدة في أذهاننا، بل تدفقت لتسيطر على ثقافتنا. لقد أصبحت الإنسانية تتماثل بعمق مع عقلها، وبالتالي تنظر إلى نفسها من خلال عدسة ميكانيكية اختزالية. تحظى علوم الدماغ بشعبية كبيرة عندما نعبر عن جوهر هويتنا من خلال عضو بشري واحد خارج السياق. إن العلم، وهو العملية النموذجية للمعرفة الفكرية، يتم توظيفه للإجابة على جميع الاستفسارات الحديثة تقريبا. نحن نعيش في عصر الفكر، ومنغمسون في منتجاته التكنولوجية الثانوية. فالمليارات اليوم يتغذون على أغذية مُدارة تكنولوجيا، ويعيشون في مساكن محوسبة، ويسافرون مسافات شاسعة في آلات متطورة، ويحيطون أنفسنا بجميع أنواع التكنولوجيات المتقدمة، ويتواصلون من خلال الوسائل الرقمية. لقد أثرت التكنولوجيا البشرية تأثيرا عميقا على الكوكب نفسه من خلال إضاءة الليل وتغيير الغلاف الجوي واستصلاح الأرض من خلال الزراعة والتعدين والسدود والمدن. يمكن الآن القول إن المنطقة التي تأثرت بالعقل البشري هي الكوكب بأكمله، مما أدى إلى تأسيس ما أطلق عليه البعض "الأنثروبوسين"، أو "عصر الإنسانية".

يتم تصور مستقبل البشرية إلى حد كبير من الناحية الفكرية أيضا. من الشائع في الثقافة اليوم أسطورة تتعلق بالإمكانات المطلقة للبشر؛ الإمكانية التي يعتقد أنها تكمن في مجال الفكر. حقيقة أن هناك جهودًا حثيثة يتم بذلها على الذكاء الاصطناعي ولكن لم نسمع شيئا عن "الحدس الاصطناعي" على الإطلاق، تدل على تحيز البشرية للجانب الإرادي الخاضع للتحكم في عقلها. حتى أن هناك حديثا أسطوريا عن "التفرد" القادم، عندما ستعمل معرفتنا الجماعية المتنامية بشكل كبير، من خلال التكنولوجيا، على تمكين البشرية بطريقة ما من "تجاوز علم الأحياء" وتصبح شيئا "ما بعد الإنسان". رجل الأعمال التكنولوجي بايرون ريس، في كتابه التقدم اللانهائي (٢٠١٣)، يعطي كلمات لأعلى حلم إيكاري للوعي البشري منذ ظهوره، فيما يتعلق بقدرة الفكر على حل المشكلة النهائية التي تواجه الحياة البشرية:

"بما أن التكنولوجيا تنمو بشكل كبير، وليس بطريقة خطية، فسوف نشهد تحسينات هائلة في أسلوب حياتنا في غضون سنوات قليلة فقط... هناك فرصة حقيقية أنك لن تموت أبدا، لأن الوفيات قد تكون مجرد مشكلة تقنية نقوم بحلها."

تفترض هذه الأفكار قدرة العقل البشري على الهروب ليس فقط من أجسادنا، بل من طبيعتنا أيضا.

جرائم الفكر

ولكن أليس كل هذا خللا؟ وفي حين أن قوة الفكر تتجلى بالفعل في كل هذه الإنجازات، فلا يحتاج المرء إلى النظر بعيدا للعثور على العلل التي يثيرها فرط الفكر لدينا. وأذكر القليل منها هنا:

- في أعقاب انحيازنا المؤيد للفكر في تصورنا لأنفسنا، قمنا بتفكيك الطبيعة البشرية، وبالتالي اختزلنا أنفسنا في مجرد آلات بيولوجية. ومن خلال القيام بذلك، فقد أبطلنا قيمة إنسانيتنا، حيث يتم تجاهل ونسيان الأجزاء التي لا تقبل الفهم والتحكم الآلي العقلاني.

إن القدرة المتقدمة على التلاعب بالجينوم البشري في خدمة المُثُل الجينية الاعتباطية تهدد بجعلنا ننسى طبيعتنا البرية الطبيعية والحد من الموارد الغنية التي تمثل تنوعنا.

لقد أبعدتنا التكنولوجيا عن ظروفنا المباشرة إلى واقع مجرد. لأغراض التواصل مع العالم، نتجول منبهرين بشاشات صغيرة متوهجة تجعلنا، ومن المفارقات، منفصلين عن علاقاتنا وغير مدركين لوضعنا الحالي. ومن الواضح أن مثل هذا التجريد يثير اشمئزاز العقل البشري.

لقد مات الملايين من الناس بطريقة عنيفة في الحروب الآلية الحديثة التي دارت رحاها من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية والأسواق المفاهيمية ـ وهي الحروب التي أصبحت ضرورية بفضل استراتيجيات عقلانية قائمة على السكان، ولكنها بطبيعتها تتجاهل المعاناة الإنسانية الشخصية.

لقد استخلصنا القرارات المالية من عواقبها الإنسانية، وبهذا فقدنا تعاطفنا مع الآخرين. إن المسؤولية الاجتماعية التي نتحملها عن تأثيرات استثمارنا على الآخرين وعلى عالمنا، تم تبريرها إلى ضباب حسابي غير حساس من النسيان الأبرياء.

- ومن خلال الاستفادة المجردة من الدخل/الربح المستقبلي في يومنا هذا من خلال التلاعب بسوق الأوراق المالية، فقدنا قبضتنا على الحقائق المالية الصعبة في الوقت الحاضر، وخلقنا شراباً مالياً ساماً يهدد بكارثة اقتصادية.

- من خلال التحقيق الشديد في طبيعة المادة، أطلقنا العنان للقدرة النووية المختلة على الإبادة الذاتية الذرية.

- لقد أحدث التأثير التكنولوجي البشري على عالمنا فوضى واسعة النطاق في شكل كوارث مثل الغبار، والضباب الدخاني الملوث، والأمطار الحمضية، والقائمة المتزايدة باستمرار من الانسكابات النفطية الهائلة، وكارثة مصنع بوبال للكيماويات، وتشرنوبيل، وخليج المكسيك. "المنطقة الميتة"، ورقعة القمامة في المحيط الهادئ، والانقراض الجماعي السادس للحياة على الأرض، وغيرها الكثير.

- إن حرق الوقود الأحفوري على نطاق واسع، وكذلك حرق الغابات الحية على الأرض، في خدمة تعزيز جهودنا للسيطرة، يلوث الهواء نفسه الذي يغطي كوكبنا والذي نعتمد عليه بشكل وثيق، ويهدد حضارتنا بأضراره. الانهيار العالمي الساخن.

هذا كله جنون. يُنظر إلى الجنون تقليديا على أنه حالة خارجة عن سيطرة عقلك. لكن هذا نوع مختلف من الجنون، جنون يأتي من السيطرة المفرطة على العقل! لقد أدى سعي الإنسان غير المتوازن إلى السلطة والسيطرة إلى خلق مرض عقلي ذاتي في هيئة ضعف إدراكي من خلال العملقة الفكرية، التي تقود البشرية، على نحو معاكس، إلى الاغتراب، والفوضى، وتدمير الذات. دعونا نطلق على هذه المحنة الثقافية اسم "الخرف الإمبريالي" - "جنون السيطرة". إنها سليلة مباشرة لكوجيتو ديكارت – نتيجة لتقييم الوجود من خلال فعل التفكير فقط، وليس الشعور.

ردود فعال عاطفية

من خلال العدمية التي نشأت من خلال فرط الفكر لدينا عن طريق الاختزالات العقلانية والتجريدات الفكرية، يفقد جنسنا البشري معرفته الحدسية العاطفية بالقيمة. ولكن في ضبابنا الليثي نسينا مكاننا في العالم ويبدو أننا لا نعرف ما الذي نفعله بأنفسنا. وهكذا فقدنا عقولنا معًا. ويبدو أننا فقدنا غريزة البقاء لدينا أيضًا.

ومن الواضح أن الإنسانية لا تعرف أنها تهدد نفسها بخسارة كبيرة. إن الثقافة السائدة تبحر بشكل جماعي دون رادع عن مسارها كما لو كانت مصابة بالجنون، وتبقى مخلصة بشكل صارم لفكرة خلاصنا الفكري الذاتي، غافلة عن العواصف التي تلوح في الأفق.

وهنا يمكن للطب أن يساعد. ومن خلال صراعها مع معاناتها، يمكنها أن تقدم الحكمة في خدمة الشفاء من جائحة الجنون المفرط في الثقافة. خذ بعين الاعتبار استعارة "الإرهاق". لقد انطفأ شيء ناري وساخن ومشرق وديناميكي وحيوي ومفعم بالحيوية. ولكن ما الذي يناسب هذا الوصف في النفس البشرية؟

أليست هي عواطفنا؟

سوف يشفي الطب نفسه من خلال الخروج برأسه المتحكم فيه بشكل مفرط إلى براري القلب غير المنضبط لإعادة اكتشاف التعاطف الذي هو سبب وجوده، وبالتالي التعلم مرة أخرى كيف يكون ضعيفا و متأثرا بمعاناة الآخرين. وهذا أمر مخيف وصعب في نفس الوقت. ومع ذلك، فإن الطب على دراية بهذا الصراع بين ما هو خارج عن السيطرة وما هو خاضع للسيطرة، بين الغموض والمعرفة. يأتي المرضى إلينا ومعهم سر أعراضهم، ويجب على الطبيب أن يسعى جاهداً للوصول إلى معرفة شاملة من أجل محاولة الشفاء - التشخيص (كلمة "gnosis" هي كلمة يونانية تعني "المعرفة") - ولكن الجانب الرئيسي للحكمة الطبية هو القبول الرصين لما لا يمكن السيطرة عليه. إن الحقيقة الواضحة المتمثلة في الوفيات البشرية الشاملة تجعل هذه الحقيقة غير المنضبطة واضحة بشكل مؤلم في الطب. إن ممارسة الطب في مواجهة مثل هذا الواقع غير المنضبط تتطلب قبول عجز البشرية وعدم معرفتنا الجماعية، مع ممارسة التعاطف في الوقت نفسه.

وبتوسيع هذا الدرس ليشمل الثقافة: لكي تشفى من إمبراطوريتها الخرفية، ومن جنون السيطرة عليها، يجب على الثقافة أن تعيد اكتشاف أن عواطفنا تسمح لنا بالتعاطف، وأن صحة مجتمعاتنا مبنية على التعاطف. لذا فإن أملنا في مستقبل إنساني أكثر إشراقا يعتمد في الأساس على التزامنا الرحيم ليس فقط بالصالح الفردي، بل أيضا بالصالح العام.

توسيع درس الطب ليشمل الفلسفة: هناك حكمة في قبول الجوانب العاطفية غير المنضبطة وغير المعرفية للعقل. يمكننا أن نكون عاطفيين بشكل معقول وفيها خير.

لكي تشفى من طمأنينتها، ومن نزاهة عواطفها – ومن أجل شفاء حكمتها – تحتاج الفلسفة إلى قبول واحتضان براري العقل. في بعض الأحيان سيتطلب ذلك عبور العتبة النفسية بين الخاضع للسيطرة وغير الخاضع للسيطرة، للانطلاق في عوالم الفكر اللاشعورية التي تشمل المشاعر العفوية - ليس ككيانات مشوهة تحتاج إلى السيطرة، ولكن كحالات عقلية تشمل الحقيقة. لذلك تحتاج الفلسفة إلى تحقيق السلام مع براري العقل وإدارة الصراع بين تلك العوالم والعقل المستأنس بحكمة، من أجل إيجاد توازن عقلي لا يكون غريزيًا جدًا ولا عقلانيا جدا. الحكمة والعقل موجودان في هذا التوازن. ولكن للقيام بذلك، يجب على الفلسفة أولا أن تغامر بالخروج إلى مناطق جامحة من الوعي الإنساني، لإعادة اكتشاف نظرية المعرفة القديمة الخالدة: تلك المعرفة بالقيمة – الخير والشر – تنبع حصريا من براري العقل، وجوانبه العاطفية. في الأساس، يجب أن تصبح الفلسفة عاطفية. هذا أمر ضروري. لا توجد وسيلة أخرى.

لا يمكن العثور على تراجع الفلسفة في أي أخطاء في العقلانية في حد ذاتها، ولكن في اغترابها عن نصف التجربة الإنسانية على الرغم من العلل التي أصابتها بسبب فرط الفكر وما تلا ذلك من تجريدها من المساعي العاطفية، داخل حصن فكري جاف ومرجع ذاتي.  الآن الفلسفة نفسها تكافح ضد الإرهاق. نارها تتضاءل من خلال الفكر البارد. إذا كان للفلسفة أن تشفى يوما ما، فسوف تحتاج إلى الشجاعة للخروج من هذا السجن التافه. إذا أراد أن يكون سليما ومعافى، فسوف يحتاج إلى تحرير نفسه، والسماح لنفسه بالخروج عن المألوف. يجب أن يغامر بجرأة بالخروج إلى مناطق عفوية جامحة من الوعي الإنساني ليكتشف ليس الذات الإنسانية المسيطرة والمبنية والمتحضرة، بل الذات البرية والطبيعية والشرسة. الفلسفة تحتاج إلى أن تصبح شرسة! إنها بحاجة إلى الخروج من برجها الآمن والمنظم، والخروج إلى العالم الجميل المخيف والمتضارب والقذر والمؤلم والدموي الذي نعيش فيه. هذا هو المكان الذي يمكنها أن تفعل فيه الخير. لذلك، على مستوى ما، تحتاج إلى التخلي عن طبيعتها المبالغة في العقلانية والاستسلام للحب الناري الذي يحمل الاسم نفسه، لإنتاج حب ما وراء المعرفة للحكمة. عندها فقط يمكنها البقاء والازدهار حقا.

***

....................

الكاتب: دكتور جون كلارك، دكتوراه في الطب، 2024

عمل جون كلارك لمدة خمسة وعشرين عاما في طب الأسرة في ساليناس، كاليفورنيا، وهو أستاذ مشارك في الطب السريري في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو. يقوم بتدريس منهاج الفن والفلسفة في الطب لطلاب الطب والمقيمين في ساليناس.

المصدر

The Healing of Philosophy

John Clark, philosophy Now, 2024.

بقلم: آدم فرامك وآخران

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

من المغري الاعتقاد بأن العلم يقدم رؤية للواقع من وجهة نظر الله. لكننا ننسى قيمة التجربة الإنسانية.

مشكلة الزمن هي واحدة من أعظم ألغاز الفيزياء الحديثة. الجزء الأول من اللغز هو كوني. لفهم الزمن، يتحدث العلماء عن إيجاد "السبب الأول" أو "الشرط الأولي" - وهو وصف للكون في البداية (أو في "الزمن يساوي الصفر"). ولكن لتحديد الحالة الأولية للنظام، نحتاج إلى معرفة النظام الكلي. نحن بحاجة إلى إجراء قياسات لمواقع وسرعات الأجزاء المكونة لها، مثل الجسيمات والذرات والمجالات وما إلى ذلك. تصطدم هذه المشكلة بحائط صعب عندما نتعامل مع أصل الكون نفسه، لأننا لا نملك رؤية من الخارج. لا يمكننا أن نخرج من الصندوق لننظر إلى داخله، لأن الصندوق هو كل ما يوجد. السبب الأول ليس فقط غير معروف، ولكنه أيضًا غير مفهوم علميًا.

أما الجزء الثاني من التحدي فهو فلسفي. لقد اعتبر العلماء أن الزمن المادي هو الوقت الحقيقي الوحيد ــ في حين يعتبر الزمن التجريبي، أو الإحساس الذاتي بمرور الوقت، تلفيقاً معرفياً ذا أهمية ثانوية. وقد أوضح الشاب ألبرت أينشتاين هذا الموقف في مناظرته مع الفيلسوف هنري بيرجسون في عشرينيات القرن الماضي، عندما ادعى أن زمن الفيزيائي هو الزمن الوحيد. مع التقدم في السن، أصبح أينشتاين أكثر حذرا. حتى وقت وفاته، ظل منزعجًا للغاية بشأن كيفية إيجاد مكان للتجربة الإنسانية للزمن في النظرة العلمية للعالم.

ترتكز هذه المآزق على افتراض أن الزمن الطبيعي، بنقطة بداية مطلقة، هو النوع الحقيقي الوحيد من الزمن. ولكن ماذا لو كانت مسألة بداية الزمن غير مطروحة؟ يحب الكثير منا أن يعتقد أن العلم يمكن أن يقدم لنا وصفًا موضوعيًا كاملاً للتاريخ الكوني، متميزًا عنا وعن تصورنا له. لكن هذه الصورة للعلم معيبة للغاية. في سعينا للمعرفة والسيطرة، أنشأنا رؤية للعلم كسلسلة من الاكتشافات حول كيفية وجود الواقع في حد ذاته، وهي رؤية عين الرب للطبيعة.

ومثل هذا النهج لا يشوه الحقيقة فحسب، بل يخلق إحساسا زائفا بالمسافة بيننا وبين العالم. وينشأ هذا الانقسام مما نسميه النقطة العمياء، التي لا يستطيع العلم نفسه رؤيتها. في النقطة العمياء تكمن التجربة: الحضور المطلق والمباشر للإدراك الحي.

خلف النقطة العمياء يكمن الاعتقاد بأن الواقع المادي له الأولوية المطلقة في المعرفة الإنسانية، وهو رأي يمكن أن نطلق عليه المادية العلمية. من الناحية الفلسفية، فهو يجمع بين الموضوعية العلمية (يخبرنا العلم عن العالم الحقيقي المستقل عن العقل) والفيزيائية (يخبرنا العلم أن الواقع المادي هو كل ما هو موجود). الجسيمات الأولية، واللحظات الزمنية، والجينات، والدماغ – كل هذه الأشياء يفترض أنها حقيقية في الأساس. على النقيض من ذلك، تعتبر الخبرة والإدراك والوعي ثانوية. وتتمحور المهمة العلمية حول معرفة كيفية اختزالها إلى شيء مادي، مثل سلوك الشبكات العصبية، أو بنية الأنظمة الحسابية، أو بعض قياسات المعلومات.

ويواجه هذا الإطار مشكلتين مستعصيتين. الأول يتعلق بالموضوعية العلمية. نحن لا نواجه أبدًا الواقع المادي خارج نطاق مراقبتنا له. الجسيمات الأولية والوقت والجينات والدماغ تظهر لنا فقط من خلال قياساتنا ونماذجنا ومعالجاتنا. إن وجودهم يعتمد دائمًا على الأبحاث العلمية التي لا تحدث إلا في مجال خبرتنا.

هذا لا يعني أن المعرفة العلمية اعتباطية، أو مجرد إسقاط لعقولنا. على العكس من ذلك، فإن بعض نماذج وأساليب التحقيق تعمل بشكل أفضل بكثير من غيرها، ويمكننا اختبار ذلك. لكن هذه الاختبارات لا تعطينا الطبيعة أبدًا كما هي في حد ذاتها، خارج طرقنا في رؤية الأشياء والتصرف بناءً عليها. تعتبر التجربة أساسية للمعرفة العلمية تمامًا مثل الواقع المادي الذي تكشفه.

المشكلة الثانية تتعلق بالجسدية. وفقا للنسخة الأكثر اختزالا من الفيزيائية، يخبرنا العلم أن كل شيء، بما في ذلك الحياة والعقل والوعي، يمكن اختزاله في سلوك أصغر المكونات المادية. أنت لا شيء سوى خلاياك العصبية، وخلاياك العصبية ليست سوى أجزاء صغيرة من المادة. هنا اختفت الحياة والعقل، ولم توجد سوى مادة هامدة.

وبصراحة، فإن الادعاء بأنه لا يوجد شيء سوى الواقع المادي هو إما كاذب أو فارغ. إذا كان "الواقع المادي" يعني الواقع كما تصفه الفيزياء، فإن التأكيد على وجود الظواهر الفيزيائية فقط هو تأكيد خاطئ. لماذا؟ لأن العلوم الفيزيائية – بما في ذلك علم الأحياء وعلم الأعصاب الحسابي – لا تتضمن تفسيرًا للوعي. هذا لا يعني أن الوعي شيء غير طبيعي أو خارق للطبيعة. النقطة المهمة هي أن العلوم الفيزيائية لا تتضمن حسابًا للخبرة؛ لكننا نعلم أن التجربة موجودة، لذا فإن الادعاء بأن الأشياء الوحيدة الموجودة هي ما يخبرنا به العلم الفيزيائي هو ادعاء خاطئ. ومن ناحية أخرى، إذا كان "الواقع المادي" يعني الواقع وفقًا للفيزياء المستقبلية والكاملة، فإن الادعاء بأنه لا يوجد شيء آخر غير الواقع المادي هو ادعاء فارغ، لأنه ليس لدينا أي فكرة عما ستبدو عليه مثل هذه الفيزياء المستقبلية، خاصة في علاقتها بالوعي.

الموضوعية والجسدية أفكار فلسفية وليست علمية

تُعرف هذه المشكلة باسم معضلة همبل، والتي سُميت على اسم فيلسوف العلوم اللامع كارل جوستاف همبل (1905-1997). في مواجهة هذا المأزق، يرى بعض الفلاسفة أنه يجب علينا تعريف "المادي" بحيث يستبعد الطوارئ الجذرية (التي تنبثق الحياة والعقل من الواقع المادي ولكن لا يمكن اختزالهما إليه) والروحية الشاملة. (هذا العقل أساسي وموجود في كل مكان، بما في ذلك على المستوى الميكروفيزيائي).من شأن هذه الخطوة أن تمنح الفيزيائية محتوى محددًا، ولكن على حساب محاولة تقنين ما هو محدد مسبقًا لما يمكن أن تعنيه كلمة «مادي»، بدلاً من ترك معناها لتحدده الفيزياء.

ونحن نرفض هذه الخطوة. وأيًا كانت الوسائل "المادية" فيجب تحديدها من خلال الفيزياء وليس من خلال انعكاس الكرسي ذو الذراعين. ففي نهاية المطاف، تغير معنى مصطلح "جسدي" بشكل كبير منذ القرن السابع عشر. كان يُعتقد في السابق أن المادة خاملة، وغير قابلة للاختراق، وجامدة، ولا تخضع إلا للتفاعلات الحتمية والمحلية. اليوم، نحن نعلم أن هذا خطأ في جميع النواحي تقريبا: نحن نقبل أن هناك العديد من القوى الأساسية، والجسيمات التي ليس لها كتلة، وعدم التحديد الكمي، والعلاقات غير المحلية. يجب أن نتوقع المزيد من التغييرات الدراماتيكية في مفهومنا للواقع المادي في المستقبل. لهذه الأسباب، لا يمكننا ببساطة تشريع ما يمكن أن يعنيه مصطلح "مادي" كوسيلة للخروج من معضلة همبل.

فالموضوعية والجسدية أفكار فلسفية وليست علمية، حتى لو اعتنقها بعض العلماء. فهي لا تتبع منطقيًا ما يخبرنا به العلم عن العالم المادي، أو من المنهج العلمي نفسه. ومن خلال نسيان أن وجهات النظر هذه هي تحيز فلسفي، وليست مجرد نقطة بيانات، يتجاهل الماديون العلميون الطرق التي لا يمكن بها أبدًا فصل التجربة المباشرة عن العالم.

نحن لسنا وحدنا في آرائنا. يعتمد وصفنا للنقطة العمياء على أعمال اثنين من كبار الفلاسفة وعلماء الرياضيات، إدموند هوسرل وألفريد نورث وايتهيد. قال هوسرل، المفكر الألماني الذي أسس الحركة الفلسفية للظواهر، إن التجربة الحية هي مصدر العلم. ومن السخف، من حيث المبدأ، الاعتقاد بأن العلم يمكن أن يخرج عن ذلك. إن "عالم الحياة" للتجربة الإنسانية هو "التربة الأساسية" للعلم، والأزمة الوجودية والروحية للثقافة العلمية الحديثة - ما نسميه النقطة العمياء - تأتي من نسيان أسبقية العلم.

قال وايتهيد، الذي قام بالتدريس في جامعة هارفارد منذ عشرينيات القرن الماضي، إن العلم يعتمد على الإيمان بنظام الطبيعة الذي لا يمكن تبريره بالمنطق. ويعتمد هذا الإيمان مباشرة على تجربتنا المباشرة. تعتمد فلسفة وايتهيد المزعومة على رفض "تشعب الطبيعة"، الذي يقسم التجربة المباشرة إلى ثنائيات العقل مقابل الجسد، والإدراك مقابل الواقع. وبدلاً من ذلك، جادل بأن ما نسميه “الواقع” يتكون من عمليات متطورة مادية وتجريبية على حد سواء.

لا يوجد مكان يتجلى فيه التحيز المادي في العلوم أكثر من فيزياء الكم، وعلم الذرات والجسيمات دون الذرية. الذرات، التي يُنظر إليها على أنها اللبنات الأساسية للمادة، كانت معنا منذ زمن الإغريق. قد تبدو اكتشافات المائة عام الماضية بمثابة تبرير لكل أولئك الذين جادلوا لصالح مفهوم ذري واختزالي للطبيعة. لكن ما كان يقصده اليونانيون وإسحاق نيوتن وعلماء القرن التاسع عشر بالشيء المسمى "الذرة"، وما نعنيه اليوم، مختلفان تمامًا. في الواقع، إن فكرة "الشيء" ذاتها هي التي تثير التساؤلات في ميكانيكا الكم.

يتضمن النموذج الكلاسيكي لقطع المادة كرات بلياردو صغيرة، تتكتل معًا وتتدافع في أشكال وحالات مختلفة. ومع ذلك، في ميكانيكا الكم، تتمتع المادة بخصائص كل من الجسيمات والأمواج. هناك أيضًا حدود للدقة التي يمكن بها إجراء القياسات، ويبدو أن القياسات تشوش الواقع الذي يحاول المجربون قياسه.

اليوم، تختلف تفسيرات ميكانيكا الكم حول ماهية المادة، وما هو دورنا فيما يتعلق بها. تتعلق هذه الاختلافات بما يسمى "مشكلة القياس": كيف تنخفض الدالة الموجية للإلكترون من تراكب عدة حالات إلى حالة واحدة عند الملاحظة. بالنسبة للعديد من المدارس الفكرية، لا تتيح لنا فيزياء الكم إمكانية الوصول إلى الطريقة التي يوجد بها العالم في حد ذاته. بل إنها تتيح لنا فقط فهم كيفية تصرف المادة فيما يتعلق بتفاعلاتنا معها.

نحن نقيم صنمًا زائفًا للعلم باعتباره شيئًا يمنح المعرفة المطلقة

وفقًا لما يسمى بتفسير كوبنهاجن لنيلز بور، على سبيل المثال، ليس للدالة الموجية أي حقيقة خارج نطاق التفاعل بين الإلكترون وجهاز القياس. وتسعى الأساليب الأخرى، مثل تفسيرات "العوالم المتعددة" و"المتغيرات الخفية"، إلى الحفاظ على حالة استقلالية المراقب للدالة الموجية. ولكن هذا يأتي على حساب إضافة ميزات مثل الأكوان الموازية التي لا يمكن ملاحظتها. ويتخذ تفسير جديد نسبيا يعرف باسم النظرية البايزية الكمومية (QBism) ــ والذي يجمع بين نظرية المعلومات الكمومية ونظرية الاحتمالية البايزية ــ مسارا مختلفا؛ فهو يفسر الاحتمالات غير القابلة للاختزال للحالة الكمومية ليس كعنصر من عناصر الواقع، ولكن كدرجات اعتقاد لدى العامل بشأن نتيجة القياس. بمعنى آخر، إجراء القياس يشبه الرهان على سلوك العالم، وبمجرد إجراء القياس، يتم تحديث المعرفة. يصفه المدافعون عن هذا التفسير أحيانًا بأنه «الواقعية التشاركية»، لأن الفاعلية البشرية مندمجة في عملية ممارسة الفيزياء كوسيلة لاكتساب المعرفة حول العالم. ومن وجهة النظر هذه، فإن معادلات فيزياء الكم لا تشير فقط إلى الذرة المرصودة، بل أيضًا إلى المراقب والذرة ككل في نوع من "مشاركة المراقب".

الواقعية التشاركية مثيرة للجدل. لكن هذه التعددية من التفسيرات، مع مجموعة متنوعة من الآثار الفلسفية، هي التي تقوض اليقين الرصين للموقف المادي والاختزالي بشأن الطبيعة. باختصار، لا توجد حتى الآن طريقة بسيطة لإبعاد تجربتنا كعلماء عن توصيف العالم المادي.

هذا يعيدنا إلى النقطة العمياء. عندما ننظر إلى موضوعات المعرفة العلمية، فإننا لا نميل إلى رؤية التجارب التي تدعمها. نحن لا نرى كيف تجعل التجربة وجودهم لنا ممكنًا. ولأننا نغفل ضرورة التجربة، فإننا نقيم صنمًا زائفًا للعلم باعتباره شيئًا يمنح المعرفة المطلقة للواقع، بغض النظر عن كيفية ظهوره وكيفية تفاعلنا معه.

تكشف النقطة العمياء عن نفسها أيضًا في دراسة الوعي. تركز معظم المناقشات العلمية والفلسفية حول الوعي على "الكواليا" - الجوانب النوعية لتجربتنا، مثل التوهج الأحمر المتصور لغروب الشمس، أو الطعم الحامض لليمون. لقد أنشأ علماء الأعصاب ارتباطات وثيقة بين هذه الصفات وبعض حالات الدماغ، وتمكنوا من التلاعب بكيفية تجربتنا لهذه الصفات من خلال العمل مباشرة على الدماغ. ومع ذلك، لا يوجد حتى الآن تفسير علمي للكواليا من حيث نشاط الدماغ - أو أي عملية فيزيائية أخرى في هذا الشأن. ولا يوجد أي فهم حقيقي لما قد يبدو عليه مثل هذا الحساب.

يتضمن سر الوعي أكثر من مجرد الكواليا/ qualia. هناك أيضًا مسألة الذاتية. التجارب ذاتية بطبيعتها؛ تظهر بضمير المتكلم. لماذا يجب أن يشعر نظام مادي معين بأنه موضوع؟ العلم ليس لديه إجابة على هذا السؤال.

على مستوى أعمق، قد نتساءل كيف يمكن للخبرة أن تمتلك بنية الذات والموضوع في المقام الأول. غالبًا ما يعمل العلماء والفلاسفة على صورة عقل أو موضوع "داخلي" يستوعب عالمًا أو كائنًا خارجيًا. لكن فلاسفة من تقاليد ثقافية مختلفة تحدوا هذه الصورة. على سبيل المثال، كتب الفيلسوف ويليام جيمس (الذي أثرت فكرته عن “التجربة الخالصة” على هوسرل ووايتهيد) في عام 1905 عن “الإحساس النشط بالحياة الذي نتمتع به جميعًا، قبل أن يحطم التفكير عالمنا الغريزي بالنسبة لنا”. هذا الإحساس النشط بالحياة ليس له بنية من الداخل إلى الخارج/الذات والموضوع؛ إنه التفكير اللاحق الذي يفرض هذا الهيكل على التجربة.

منذ أكثر من ألف عام، انتقد فاسوباندهو، الفيلسوف البوذي الهندي من القرن الرابع إلى الخامس الميلادي، تجسيد الظواهر في موضوعات مستقلة مقابل أشياء مستقلة. بالنسبة لفاسوباندو، فإن بنية الذات والموضوع هي تشويه معرفي عميق الجذور لشبكة سببية من اللحظات الهائلة الفارغة من ذات داخلية تمسك بجسم خارجي.

لتوضيح هذه النقطة، ضع في اعتبارك أنه في بعض حالات الاستغراق المكثفة - أثناء التأمل أو الرقص أو العروض عالية المهارة - يمكن أن تتلاشى بنية الذات والموضوع، ويتبقى لدينا إحساس بالحضور المحسوس. كيف يكون هذا الحضور الاستثنائي ممكنًا في العالم المادي؟ العلم صامت عن هذا السؤال. ومع ذلك، بدون هذا الحضور الهائل، يكون العلم مستحيلًا، لأن الحضور شرط مسبق لكي تكون أي ملاحظة أو قياس ممكنة.

سوف يجادل الماديون العلميون بأن المنهج العلمي يمكّننا من الخروج من التجربة وفهم العالم كما هو في حد ذاته. وكما سيتضح الآن، فإننا نختلف؛ في الواقع، نحن نعتقد أن طريقة التفكير هذه تسيء تمثيل منهج العلم وممارسته.

بشكل عام، إليك كيفية عمل المنهج العلمي. أولاً، نضع جانبًا جوانب التجربة الإنسانية التي لا يمكننا الاتفاق عليها دائمًا، مثل كيف تبدو الأشياء أو طعمها أو ملمسها. ثانياً، باستخدام الرياضيات والمنطق، نقوم ببناء نماذج مجردة ورسمية نتعامل معها كأشياء ثابتة تحظى بالإجماع العام. ثالثًا، نتدخل في مجرى الأحداث من خلال عزل الأشياء التي يمكننا إدراكها والتلاعب بها والتحكم فيها. رابعا، نستخدم هذه النماذج المجردة والتدخلات الملموسة لحساب الأحداث المستقبلية. خامسًا، نتحقق من هذه الأحداث المتوقعة ومقارنتها بتصوراتنا. وتشكل التكنولوجيا أحد العناصر الأساسية في هذه العملية برمتها: الآلات ــ معداتنا ــ التي تعمل على توحيد هذه الإجراءات، وتضخيم قدراتنا على الإدراك، وتسمح لنا بالتحكم في الظواهر لتحقيق أهدافنا الخاصة.

تنشأ النقطة العمياء عندما نبدأ في الاعتقاد بأن هذه الطريقة تتيح لنا الوصول إلى الواقع الصريح. لكن الخبرة موجودة في كل خطوة. ولا بد من استخلاص النماذج العلمية من الملاحظات، التي غالبا ما تتم بوساطة معداتنا العلمية المعقدة.إنها تصورات مثالية، وليست أشياء فعلية في العالم. نموذج جاليليو للطائرة عديمة الاحتكاك، على سبيل المثال؛ نموذج بور للذرة التي تحتوي على نواة صغيرة كثيفة تدور حولها إلكترونات في مدارات كمية مثل الكواكب التي تدور حول الشمس؛ النماذج التطورية للمجموعات السكانية المعزولة – كل هذه موجودة في ذهن العالم، وليس في الطبيعة. إنها تمثيلات عقلية مجردة، وليست كيانات مستقلة عن العقل. وتأتي قوتها من حقيقة أنها مفيدة للمساعدة في وضع تنبؤات قابلة للاختبار. لكن هذه أيضًا لا تأخذنا أبدًا إلى خارج نطاق الخبرة، لأنها تتطلب أنواعًا محددة من التصورات التي يؤديها مراقبون مدربون تدريبًا عاليًا.

لهذه الأسباب، لا يمكن "للموضوعية" العلمية أن تقف خارج التجربة؛ في هذا السياق، تعني كلمة "الهدف" ببساطة شيئًا ينطبق على الملاحظات المتفق عليها من قبل مجتمع من الباحثين باستخدام أدوات معينة. العلم هو في الأساس شكل من أشكال الخبرة الإنسانية مصقول للغاية، يعتمد على قدراتنا على الملاحظة والتصرف والتواصل.

إن الزعم بأن العلم يكشف عن «حقيقة» موضوعية تمامًا هو زعم لاهوتي أكثر منه علمي

لذا فإن الاعتقاد بأن النماذج العلمية تتوافق مع حقيقة الأشياء لا ينبع من المنهج العلمي. وبدلاً من ذلك، فهو يأتي من دافع قديم ــ وهو دافع موجود غالباً في الديانات التوحيدية ــ لمعرفة العالم كما هو في ذاته، كما يعرفه الله. إن الزعم بأن العلم يكشف عن «حقيقة» موضوعية تمامًا هو زعم لاهوتي أكثر منه علمي.

يجادل فلاسفة العلم المعاصرون الذين استهدفوا مثل هذه "الواقعية الساذجة" بأن العلم لا يبلغ ذروته في صورة واحدة لعالم مستقل عن النظرية. بل إن جوانب مختلفة من العالم ــ من التفاعلات الكيميائية إلى نمو وتطور الكائنات الحية، وديناميكيات الدماغ والتفاعلات الاجتماعية ــ يمكن وصفها بنجاح إلى حد ما من خلال نماذج جزئية. وترتبط هذه النماذج دائمًا بملاحظاتنا وأفعالنا، كما أنها مقيدة في تطبيقها.

تضيف مجالات نظرية الأنظمة المعقدة وعلوم الشبكات دقة رياضية إلى هذه الادعاءات من خلال التركيز على الكل بدلاً من اختزالها إلى أجزاء. نظرية الأنظمة المعقدة هي دراسة الأنظمة، مثل الدماغ أو الكائنات الحية أو المناخ العالمي للأرض، والتي يصعب نمذجة سلوكها: تعتمد كيفية استجابة النظام على حالته وسياقه. تظهر مثل هذه الأنظمة التنظيم الذاتي، وتشكيل الأنماط التلقائية والاعتماد الحساس على الظروف الأولية (يمكن أن تؤدي التغييرات الصغيرة جدًا في الظروف الأولية إلى نتائج مختلفة على نطاق واسع).

يقوم علم الشبكات بتحليل الأنظمة المعقدة من خلال نمذجة عناصرها كعقد، والروابط بينها كروابط. فهو يشرح السلوك من حيث طوبولوجيا الشبكة - ترتيبات العقد والاتصالات - والديناميكيات العالمية، وليس من حيث التفاعلات المحلية على المستوى الجزئي.

مستوحاة من وجهات النظر هذه، نقترح رؤية بديلة تحاول تجاوز النقطة العمياء. إن تجربتنا وما نسميه "الواقع" لا ينفصلان. المعرفة العلمية هي رواية ذاتية التصحيح مصنوعة من العالم وتجربتنا فيه تتطور معًا. يمكن إعادة صياغة العلم ومشكلاته الأكثر تحديًا بمجرد أن نقدر هذا التشابك.

لنعد إلى المشكلة التي بدأنا بها، وهي مسألة الزمن ووجود العلة الأولى. لقد تناولت العديد من الأديان فكرة السبب الأول في روايات الخلق الأسطورية. لشرح من أين يأتي كل شيء وكيف ينشأ، يفترضون وجود قوة مطلقة أو إله يتجاوز حدود المكان والزمان. مع استثناءات قليلة، يخلق الله أو الآلهة من الخارج ليؤدي إلى ما هو موجود في الداخل.

ولكن على عكس الأسطورة، فإن العلم مقيد بإطاره المفاهيمي للعمل على طول سلسلة سببية من الأحداث. السبب الأول هو قطيعة واضحة بين هذه العلاقة السببية ــ كما أشار الفلاسفة البوذيون منذ فترة طويلة في حججهم ضد الموقف الهندوسي الإيماني القائل بضرورة وجود سبب إلهي أول. فكيف يمكن أن يكون هناك سبب لم يكن في حد ذاته نتيجة لسبب آخر؟ إن فكرة السبب الأول، مثل فكرة الحقيقة الموضوعية تمامًا، هي فكرة لاهوتية في الأساس.

يعتمد الزمن الفيزيائي في معناه على تجربتنا الحياتية للزمن

تشير هذه الأمثلة إلى أن "الزمن" سيكون له دائمًا بُعد إنساني. وأفضل ما يمكن أن نهدف إليه هو بناء حساب كوني علمي يتوافق مع ما يمكننا قياسه ومعرفته عن الكون من الداخل. لا يمكن للحساب أن يكون وصفًا نهائيًا أو كاملاً للتاريخ الكوني. بل يجب أن يكون سردًا مستمرًا يصحح نفسه ذاتيًا. "الزمن" هو العمود الفقري لهذه الرواية؛ إن تجربتنا الحياتية للزمن ضرورية لجعل السرد ذا معنى. مع هذه الرؤية، يبدو أن وقت الفيزيائي هو وقت ثانوي؛ إنها مجرد أداة لوصف التغييرات التي يمكننا ملاحظتها وقياسها في العالم الطبيعي. إذن فإن الزمن الفيزيائي يعتمد في معناه على تجربتنا الحياتية للزمن.

يمكننا الآن أن نقدر الأهمية الأعمق لألغازنا العلمية الثلاثة: طبيعة المادة، والوعي، والزمن. يشيرون جميعًا إلى النقطة العمياء والحاجة إلى إعادة صياغة طريقة تفكيرنا في العلوم. عندما نحاول فهم الواقع من خلال التركيز فقط على الأشياء المادية خارجنا، فإننا نغفل عن التجارب التي تشير إليها. لا يمكن حل الألغاز الأعمق بمصطلحات فيزيائية بحتة، لأنها جميعا تنطوي على حضور لا مفر منه للخبرة في المعادلة. لا توجد طريقة لفصل "الواقع" عن التجربة، لأن الاثنين متشابكان دائمًا.

إن "رؤية" النقطة العمياء أخيرًا يعني الاستيقاظ من وهم المعرفة المطلقة. إنه أيضًا احتضان الأمل في أن نتمكن من خلق ثقافة علمية جديدة، حيث نرى أنفسنا تعبيرًا عن الطبيعة ومصدرًا لفهم الطبيعة لذاتها. ونحن لا نحتاج إلى أقل من علم يتغذى على هذه الحساسية لكي تزدهر البشرية في الألفية الجديدة.

***

....................

المؤلفون:

1- آدم فرانك/ Adam Frank: أستاذ الفيزياء الفلكية بجامعة روتشستر في نيويورك. وهو مؤلف العديد من الكتب، آخرها كتاب الأجانب الصغير (2023).

2- مارسيلو جليزر/ Marcelo Gleiser: عالم فيزياء نظرية في كلية دارتموث في نيو هامبشاير، حيث يعمل أستاذًا للفلسفة الطبيعية في أبليتون وأستاذًا للفيزياء وعلم الفلك، ومدير معهد المشاركة متعددة التخصصات (ICE). وهو مؤلف جزيرة المعرفة (2014).

3- إيفان طومسون/Evan Thompson: أستاذ الفلسفة وباحث في معهد بيتر وول للدراسات المتقدمة بجامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر. وهو زميل الجمعية الملكية الكندية. أحدث كتاب له هو "اليقظة، الحلم، الوجود" (2015). رابط المقال على أيون 2019:

https://aeon.co/essays/the-blind-spot-of-science-is-the-neglect-of-lived-experience

أو في "أسس مشروعية تأويليّة للصّورة في الفنّ"

بقلم: جوهان ميشيل*

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

" إذا لم يكن من طبيعة صورة مرسومة أو مصوّرة أن تدل على معنى (منطق المعنى)، بل أن تثير انفعالا (منطق الإحساس)، وإذا ما فضلنا الشكل الجمالي على المضمون الدلالي، وإذا ما رفضنا قراءة صورة بمثل نص (أفلا يجعل هذا)، قيام تأويلية للصورة في الفن موضوع اعتراض في أساسها بالذات، في ادعاءها إدخال قوّة التصويري في حضن الخطاب، وفي إرادة انصهار المحسوس في العقلي، وتعنيف الصورة بجعلها تتكلّم بدل النظر إليها والإحساس بها؟"

" إن سطح المرئيّ مضاعف، على كلّ امتداده، بمخزون لامرئيّ" (م.بونتي)

"إنّ اللوحة بالنسبة إلى الهرمونيطيقي (المؤوّل) مثلما هو الحال بالنسبة إلى المصوّر، هي صورة - أحجية يكبت صمُتها خطابا ضمنيا؛ ولابدّ كي نعرف المعنى، من إعطاءها الكلمة، وجعلها تتكلّم أو، بتعبير آخر، جعلها تعترف. فالأثر الفنّي بالنسبة إلى الفينومينولوجي هو حضور صامت (الرسم شعر صامت) مكتف بذاته، روعة ظهورها يحبس أنفاسنا، ويجعلنا "صامتين من فرط إعجابنا". (ج. ميشيل)

***

" يفترض تأويل صورة في الفنّ على الأقلّ ثلاثة أشياء. الأوّل هو أنّ الصورة حاملة لمعنى أو عدّة معاني، وأنه يوجد فيها معنى بدل لا شيء، وأنه يوجد فيما وراء أو عبر المادية أو التشكيل الفني للعمل، أفق لمعقولية . والثاني، أنه، إذا ما وجد معنى، فإنّه يتعذّر الوصول إليه مباشرة، وأنه في جانب منه أو في كليته مخفيّ، غير شفّاف، معتّم وغامض وأنه يحتاج بالتالي عملا تأمليا وبحثا عن المعنى تسمّيه نتالي هاينيش Nathalie Heinich " عملية ألغزة" mise en énigme، " كما لو كان من المنطقي أن يطرح العمل الفني سؤالا، ويشكّل لغزا، ويخفي معنى خارجا و حتّى قبل أن نبحث عنه " (1). والشيء الثالث هو أنه يمكن التعبير عن معنى الصورة في خطاب، وأنه يمكن أن نجعل الصّور تتكلّم.

إنّ هذه الأشياء الثلاث ليست بالمرّة بَدَهَّية، إلى حدّ إرباك إمكانية قيام تأويلية أو هارمونيطيقا للصورة. وهي ليست بدهية إذا ما اعتبرنا أنّه ليس من طبيعة صورة مرسومة أو مصوّرة أن تعني signifier (منطق المعنى)، بل أن تثير انفعالا d’affecter (منطق الإحساس)، وإذا ما فضلنا الشكل الجمالي على المضمون الدلالي، وإذا ما رفضنا قراءة صورة بمثل نص . إنّ تأويلية للصورة في الفن ستكون إذن موضوع اعتراض في أساسها بالذات، في ادعاءها إدخال قوّة التصويري في حضن الخطاب، وفي إرادة انصهار المحسوس في العقلي، وتعنيف الصورة بجعلها تتكلّم بدل النظر إليها والإحساس بها.

إنّ رهان هذه المساهمة هو تبرير إسهام تأويلية للصورة، مع الأخذ بعين الاعتبار الاعتراضات الكثيرة التي واجهتها. إن ّرهان هذه المساهمة هو البحث، لا الاعتراض، بل تجديل الانفعال والتأويل، المحسوس والذهني، الإحساس والكلام. إنّ رهان هذه المساهمة هو اللعب على تعدّد معاني " sens" في اللغة الفرنسية التي تحيل إلى ما يولّد الإحساسات (soma) بقدر ما تحيل إلى تأثيت المعنى (le sens- sèma)، حتى نستعيد التمييز الذي قوم به ديدي - هيبارمان .

إنّ هكذا جدلية لا يمكنها أن تظهر إلاّ بشرط تفادي مزلقين، توجّهين متضادين، من جهة هرمونيطيقا تذهنّية خالصة وجافّة، تجعل من الصورة مجرّد تعلّة للخطاب، ومن جهة أخرى استيتيقا ما يتعذّر التعبير، والذي يجعل كلّ تأويل غير مسموع، باسم أولوية الانفعال على المفهوم. إنّ الرهان هذه الجدلية هو إذن معرفة وفق أي طريقة يمكن لتأويل الصّور أن يساهم في الآن نفسه في إثراء ميلها إلى التأثير فينا. وفق أية شروط يمكن لتأويلية أن تجعل الصور تتكلّم دون أن تسكت قوّتها الانفعالية؟

الفينومينولوجيا وتأويليّة الصورة

تُطرح الصورة المرسومة لأول وهلة بوصفها ظاهرة محسوسة. وتقدّم الصورة للناظر صامتة.و يبدو أن فينومينولوجيا الإدراك، وبدل أن تكون تأويلية، هي معدّة أكثر لجعل الصورة تُرى في ظاهريتها بالذات. إن الفينومينولوجيا، بالرغم من هيمنة المنهج الوصفيّ فيها، لا تعترض بالضرورة وفق جاك دارّيلا Darriulat، على فكرة التأويل ذاتها، لكن في نمط هارمونيطيقا تأويل شبيهة، في نظره، بمنهج تفكيك رموز أو أمثولة حيث يتعلّق الأمر بالبحث عن معنى خفيّ، مستتر ومشخّص، من خلال إظهار معنى أوليا أو حرفيّا. تؤوّل الهارمونيطيقا الصورة- اللوحة مثلما نفعل لنص استعاري allégorique . ولأنّ الصورة لا تفصح لأول وهلة عن امتلاءها الدلالي، فهي تتطلّب عملا حقيقيّا لتفكيك الشفرات حتى نكشف فيها عن اللغز الحقيقيّ. وسيكون الخطاب الفينومينولوجي شيئا آخر وهو الذي لن يطمح إلى كشف معنى خفيّ، بل إظهار معنى الصورة في حركة تجلّيها و ظهورها، وفي " حضورها الخالص"، في " مرئيّتها" الخالصة.

لا قيمة للصورة بالنسبة إلى شيء آخر، مثل ظهور حسيّ لحقيقة ذهنية، ذلك أن لها قوّتها التشكيلية والتصويرية الخاصّة، بوصفها حضورا خالصا. سوف يحضر العَوْدُ إلى الصورة ذاتها، المماثل للعود إلى الأشياء ذاتها الذي تدعو إليه الفينومينولوجيا، التأويل الهرمونيطيقي للمعنى الخفيّ. إنّ " اللوحة بالنسبة إلى الهرمونيطيقي مثلما هو الحال بالنسبة إلى المصوّر، هي صورة - أحجية يكبت صمتها خطابا ضمنيا؛ ولابدّ كي نعرف المعنى، من إعطاءها الكلمة، وجعلها تتكلّم أو، بتعبير آخر، جعلها تعترف. فالأثر بالنسبة إلى الفينومينولوجي هو حضور صامت (الرسم شعر صامت) مكتف بذاته، روعة ظهورها يحبس أنفاسنا، ويجعلنا "صامتين من فرط إعجابنا". (3)

يستحقّ التعارض الذي أقامه داريولا بين هرمونيطيقا وفينومينولوجيا الصورة، عناء التوضيح. مع ذلك فهو يخطأ بطابعه الجد ّ تبسيطي. دون حتى أن تثير المنعرج الذي أحدثه هيدجر الذي يفتح إذن الطريق إلى فينومينولوجيا تأويلية للكائن بوصفها حجب - انكشاف، والفينومينولوجيا الهوسرلية ذاتها، إذا ما تحمّست لوصف ظاهرية كلّ ظاهرة في مرئيتها، فهي لا تستبعد قطّ إمكانية تأويل ما لا يفصح عن ذاته مباشرة في الحضور المحض للشيء.

وما هو حقيقيّ بالنسبة إلى كلّ شيء هو كذلك بالنسبة إلى صورة- لوحة. فلا تظهر الصورة المرسومة إلاّ من مقطع جانبي معيّن بالنسبة إلى مُشَاهد يتموقع هو ذاته في وضعية معينة بالنسبة إلى اللوحة. وينفصل المشاهد، بحسب هذا المقطع الجانبي، وبحسب تغيّر الوضعية التي يمكن أن نتبنّاها، وبحسب الإضاءة والوسط الخارجي الذي ينفصل عنه، فلا يرى الشيء نفسه فحسب بل لن يستطيع الإحاطة بالصورة بنظرة واحدة كي يُطلق الظاهرية الخالصة. فهو ملزم، ودون حتى أن يكون له افتراض معنى مجازي بالمعنى الرمزي للكلمة، بالاعتراف بأنّ الجوانب البارزة لصورة تظلّل (تقلي بظلالها) على جوانب خفيّة تتطلّب تأويلا. لا يمكن لمعنى صورة أن يتجلّى تماما بواسطة مقطع جانبي واحد، بل بفضل جهد تأليفيّي لرسومات ليست هي ذاتها قابلة للتشميل. وحتى نقول ذلك مع مارلوبونتي ," إن سطح المرئيّ هو مضاعف، على كلّ امتداده، بمخزون لامرئيّ". (4) . إنّه " المخزون اللامرئيّ الذي يجعل من الضروريّ، وهذا منذ مرحلة الإدراكيّ، وجود عمل تأويلي لمعنى الصورة (فيما يمكن أن نسمّيه مع مارلوبونتي " تفسيرا مُلهم"«  exégèse inspirée  ») لا يَمْثُلُ في الشفافية المباشرة لوجودها (الصورة) الحسيّ. لأجل هذا تسمّى الفينومينولوجيا بعدُ تأويلية أو هارمونوطيقا، دون أن تتطابق معها. ليست المعاني الخفيّة لصورة قابلة للاختزال بالمرّة في وظيفتها الرمزية أو المجازية، لكنها مكوّنة لنمط ظهورها بوصفها كائنا تشكيليا. إنّ التغيّرات التخيّلية حول الصورة، وحول وجوهها اللامرئية أو التي ليست بعدُ مرئية، والتغيرات الموضعية للذات لإبراز الجانبية أو البروفايل الجديد، هي كثير من التغيّرات التأويلية.

إنّ خداع المرئيّة الخالصة للصورة، وللأثر بوجه عام، دون ملحق تأويلي، موجود في بعض التيارات المعاصرة، مثل الحدنوية (أو التبسيطية) minimalisme. من الواضح أنّ الطموح هو تنقية كل وظيفة رمزية في أثر فني ما: فلا يوجد ما نراه غير ما نراه (what you see is what you see) حتى نستعيد تعبيرا لأحد رواد هذا التوجّه (فرانك ستيلاّ (Franck Stella. ما من معنى خفيّ، ولا شيء للتأويل من وراء ما يمكننا ببساطة رؤيته في إدراك مباشر. إنّ الأثر الفنّي الحدنويّ (مثل مكعب بلوري شفّاف) ليس له أيّ إلغاز. فهذا الأثر صغير الحجم يطمح إلى أن يهب نفسه في حضور ماديّ خالص وأن يعرقل عملية التلغيز، أي أن نقول أكثر ممّا نراه. إنّ الطابع الطوطولوجي أو الحشوي للأثر الحدنويّ، مثلما يلاحظ ديدي - هيبرمان Didi-Hubermann يقوّي طوطولوجيا كلمة السرّ («  what you see is what you see  ») ما تراه هو ما تراه" : ما من جوّانية intériorité إذن. وما من كُمون. لا شيء من هذا " الاستعادة"retrait أو هذا " المخزون" réserve الذي يتحدّث عنه هيدجر مساءلا معنى العمل الفنيّ. لا وقت، إذن لا وجود لموضوع فحسب، موضوع " خصوصيّ". لا تراجع، إذن ما من لغز. ما من هالة. ولاشيء هنا "لا يعبّر عن نفسه"، بما أنه لا شيء يخرج وبما أنه لا يوجد حيّز أو كمون - مستودع مفترض للمعنى - حيث يمكن لشيء ما أن يختفي كي يخرج من جديد، لينبثق من جديد في أيّ لحظة. (5).

ودون أن يكون لنا أن نفترض حتّى وجود " مستودع للمعنى"، يجعل الأثر الفني يتكلّم، وأيّ كانت "حدنوية" المعنى، فهو لا يمنح نفسه في ظهوره حضورا خالصا. لنشاهد إذن المكعبات الشفافة لروبار موريس. فهي لا تظهر للمتفرّج إلاّ من جانبية (بروفايل) خاصّة ولا قطّ في كليّتها (totalité) ؛ فليست وجوه كلّ مكعّب قابلة للإدراك في نفس الوقت. فترتيب المكعبات يحمل المتفرّج على التجوّل بينها، محوّرا إذن إدراك كلّ مكعّب. إنّ نمط الظهور له قابلية التحوّل أيضا في علاقة بالضوء، وفي علاقة بالألوان و مكوّنات الأرض وجدران وسقف قاعة العرض، وأجزاء أجسام المتفرّجين المنعكسة على المكعبات. يشفط انعكاس المكعبات خارجا متعدّدا يمنح نفسه في المرآة. كل شيء يحدث كما لو أن المكعبات تمتصّ قطع محطّمة من الواقع: هنا وجه، وهناك كعب، وهنالك يد...تصبح المكعبات مرايا لعالم محيط بـ، ومتحوّل، مانحة الفرصة لتطواف شعريّ وتيهيّ لصور متلاشية. ويُحمل المتفرّج ذاته، بفعل انعكاسه على المكعبات، على متابعة أثر الإبداع، وإعادة تشكيل معنى الصورة، وحتى لو كان ذلك من أجل أن يرى نفسه، على الأقلّ مجزأ . ما من حاجة للجوء هنا إلى استعارة أو مجاز لفهم أنّه يوجد شيء ما للرؤية، من وراء مجرّد مكعبات شفّافة، لكن من خلالها بعدُ . ولو تحدّثنا تداوليا، فإنّ التجربة الكلبية للمكعبات تنقض كلمة السرّ للحدنويين minimalistes. وإذا ما وجدت معاني خفيّة، فهي ليست رمزية أو مجازية ؛ إنما تستخدم في تجربة جمالية ذاتها للموضوعات التي يترك ظهورها مخزونا للامرئيات invisibilités، وأفاقا متحوّلة للإدراك تستدعي مسارا تأويليا للمعنى.3831 المرايا المكعبة

المرايا المكعبة روبار مورّيس (1965/1971)

التأويلية الحَرْفِية والتأويلية المجازية للصورة

ليست التأويلية منحصرة، في مقابل ما يقترحه دارييلا Darriulat، في المجازية l’allégorèse وبوجه عام في تأويل معنى خفيّ، مقابل لرؤية جدّ عنيدة. يتعلّق الأمر دون شكّ بإحدى التشعّبات التي تعود إلى الإغريق ... إنّ هذا المتحوّل للهارمونيطيقا الذي جعله الحديثيون دنيويّا sécularisée أو مُعَلْمَنٌا، هو بالخصوص مسلّح وملائم لتأويل كلّ جزء من تاريخ الفنّ التصويري الذي يستقي مباشرة منابعه الأدبية من الأساطير والرموز والاستعارات أو المجازات allégories المتأتّية من التقاليد اليهودية المسيحية من جهة، والإغريقية اللاتينية من جهة أخرى. هو صحيح لاسيما بالنسبة لفن رسم تاريخ النهضة الإيطالية (وأقلّ صحّة عن فن رسم منظر النهضة الهولندية) حيث قد يكون نقل المناهج الموروثة للتأويلية النصية في خدمة تأويل اللوحات الفنية. يسلك المؤرخ وناقد الفنّ إذن طريقة ليست بعيدة عن طريقة الفيلولوجي أو المفسّر . فتكون مهمته، بوصفه مالكا لرسوخ في العلم متين، ردّ المعنى الظاهر للصورة إلى معاني ثانوية أو مجازية، ورسم جينيالوجيا العمل الفني وإعادة وضعه في سياقه التاريخي، واستنباط المصادر الأدبية التي أثّرت فيه. والمدرسة السجليّة في تاريخ الفنّ لهذا المنهج في التأويل هو البراديغم الايقونولوجي الذي وضعه في البداية واربورغ Warburg وتابعه فيما بعد بانوفسكي Panofsky خاصّة . ومن دون هذا الإسهام الإيقونولوجي سنمرّ بالتأكيد بجانب ناحية جوهرية لمعنى أثر فنّي. يغنم المتفرّج بفضل التقنيات المتينة للتأويل في فهمه الصورة:" هكذا يوضّح المعنى الإيقونولوجي البعد التخيّلي للأثر الفني ويرجعه إلى سياق ثقافيّ وليس تاريخيا فحسب. نفهم إذن بشكل أفضل طموح التأويل الإيقونولوجي : فهم العمل الفني، هو العثور على النظرة التي ولّدته، هو اعتبارها بالعينين التي وقع تصوّره من أجلهما. تباشر الإيقونولوجيا بهذا المعنى أريكيولوجيا حقيقية للنظرة". (6) (جاك داريلا 2007) " تأملات في المنهج الإيقونولوجي لتأويل العمل الفني").

تصلح هذه الإركيولوجيا للنظرة بالخصوص، لرفع الالتباس أو التأكيد على تناقضات المشاهد والشخصيات والأشكال. يقوم بانوفسكي بالبرهنة البارعة على هذا في محاولته عن " مشكل وصف الأعمال"، فيما يخصّ تأويل لوحة رسام البندقية فراشسكو مافاي Francesco Maffei (انظر اللوحة)3832 سالومي

"أيوديث" أو "سالومي" فرانشسكو مافاّي1650

حيث يظلّ الشكّ قائما حول معرفة هل الشخصية المحورية هي، إمّا سالومي Salomé (براس بابتيتست، Baptiste)، أويوديث Judith (برأس هولوفارنو d’Holopherne). وبانتباه شديد لتفاصيل العمل ولمصادره من الكتاب المقدّس التي أمكن لها أن تلهمه، يشير بانوفسكي إلى قرائن متباينة يمكن لها أن تميل بالتأويل صوب جهة أو أخرى . فالقرائن التي تميل نحو سالومي بالفعل، في تطابق مع إنجيل متّى، هي كون الرأس المقطوع لإنسان يوجد في طبق (يتعلق الأمر إذن بباتيست Baptiste). يمكن لهذا التأويل مع ذلك أن يوضع موضع التساؤل بموجب أنّ المرأة تمسك في يدها بسيف (منبهة إلى أنها صاحبة التنكيل)، بينما لم تكن هي، في رواية متّى، من نفّذ بيديه القتل. من هنا كان افتراض أن الأمر يتعلّق إذن لا بسالومي، بل بيوديث التي، في رواية الكتاب المقدّس، هي من قامت فعلا بقتل هولوفارنو. Holopherne .غير أنّ هذا التأويل الجديد يصطدم بواقع أنّه لم يكن يتعلّق الأمر قطّ في هذه القصّة بطبق حيث وضع فيه رأس هولوفارنو، بما أنّ يوديث يقدّمه مباشرة إلى خادمته: " إنه لأمر غريب إذن، لنا للوحة واحدة، مقطعين من الكتاب المقدّس مختلفين كليا وكلاهما مناسب أيضا، وعلى نحو سيء أيضا، بما أنّ الطبق ولا السيف يناسب سالومي، بينما يناسب يوديث السيف لا الطبق. إلاّ أنّ نقص القرائن الإضافية يمنعنا عن الحسم لصالح أحدهما دون الآخر." (7).

إذا كانت الإيقونولوجيا لا تسمح بالحكم القاطع في شأن هذه التأويلات، فإن لها في المقابل فضل الزيادة في فهم الأثر، والشهادة فيم لا يمكننا أن نبقى في مستوى الحضور المباشر الخالص للصورة لإدراك تامّ للمعاني، وبيان بواسطة تاريخ"الأنماط"، مثلما يقترح بانوفسكي، بأنّ ازدواجية الصورة في لوحة مافاي ليست سوى حالة معزولة في الفنّ الناشئ لإيطاليا الشمالية حيث يمكن ملاحظة نقلة رأت في طبق جان باتيست وقد صار أحد لوازم تمثّل يوديث. سينبثق من جديد إذن الاعتراض الفينومينولوجي الذي وفقه تمرّ المقاربة الهارمونيطيقة، في صيغتها الإيقونولوجية (صيغة لا تغطّي كل التوجهات الهارمونيطيقية، خاصّة توجه هيدجر وغادامير)، تمرّ بجانب الظهور الحسّي للعمل الفنّي، وميله إلى التأثير فينا بحضوره الخالص. إنّ الصورة باختزالها في منزلة وثيقة تاريخية، لن تكون لها قيمة في ذاتها، بل بوصفها توحي بموضوع، بنمط وبأسلوب، أي بوصفها " رؤية للعالم"، بوصفها " شكلا رمزيا" :" إنّ الأثر الفني إذن هو " عارض" symptôme" لنسق كامل من القيم، لعالم ثقافي يتعلق الأمر بإحيائه، إذ في لعبة الجمع هذه تأخذ الصورة كامل معناها. (8) وستكون الصورة، بموجب جعلها تتكلّم ودفعها إلى الاعتراف، وإرجاعها إلى منابعها الأدبية، إلى شكلها الرمزي، في نهاية الأمر مختفية عن الأنظار أو فاقدة للأثر. وسيتفوّق الكلام على النظر..وسيلوّث الخطابُ الإدراكَ الحسّي للأشكال، والألوان والرسوم.

هل هذا هو الحال حقّا؟ ألا يمكن، على العكس، أن ننتصر لكون الهارمونيطيقا الإيقونولوجية تسمح بالنظر إلى الصورة على نحو آخر، بالنظر بشكل أفضل، على الصعيد القيمي أو الأكسيولوجي، والإحساس بأكثر قوّة، على الصعيد الوجداني؛ نظرا وإحساسا لا يكون ممكنا إلاّ إذا وثقنا فحسب بالحضور الحسّي لتمظهر الصورة؟ ألا يمكننا أن نسند القول بأنّ الخطاب التأويلي لا يأتي ليعتّم obscurcir بل على العكس ليكشفrévéler القوّة العاطفية التي تثيرها اللوحة؟ هل يمكن حقّا أن نُتَّهم بالفكرانية أو بنزعة تعقلّية، إيقونولوجيا سعت إلى إزالة الانتشار المؤقّت لـ" أشكال الباتوس" (التفخيم الدرامي) في تاريخ الفنّ، من حيث أن الصورة تحمل بصورة متينة شحنة عاطفية وتمثّلا إيقونولوجيا؟ يمكن أن نعترض عليها بالاستناد إلى الدراسة التي أضحت نموذجا من نوع واربورغ بخصوص لوحة الربيع Printemps لبوتشللي، واستعادتها المتميّزة من ديدي هيبرمان. Didi-Huberman .3833 الربيع

" الربيع " لساندرو بوتشللي.

فيم يتمثّل المنهج التأويلي هنا؟

يفترض الوصف الذي يقترحه واربورغ للشخصيات وللمشهد والحركات معرفة بالخلفية التي تغوص بنا في العالم القديم، لا بل المسيحي (بحكم غموض الشخصية المركزية، تحت بعض سمات العذراء) . تمسح إذن المصادر الأدبية للعصر القديم والمصادر التاريخية أربعة قرون، بتعيين الديكور (حديقة فينوس بما فيها من أشجار البرتقال). وفي أقصى اليسار، يمدّ عُطارد (مبعوث الإله، صائد النجوم التي قد تُخفي الحقيقة) نحو برتقالة، النعم الثلاث المُغطّاة كليا (الجمال والفضيلة والوفاء) تشكّل دائرة وترمز إلى الانسجام في الحبّ. وفي المركز، فينوس، بطنها مكوّرة، في وضع الولادة، تقوم بحركة باليد في اتجاه النّعم، رأسها مائلة قليلا نحو اليمين، فوقها كيوبيد مُجانبا إياها (رمز الحبّ الأعمى)، وسهم متجه صوب النِّعم . وعلى اليمين، آلهة الربيع، التي تحمل فرعا من شجيرة الورد كحزام لفستانها وإكليل من أوراق الشجر على رقبتها، تزرع الزهور وهي تمشي في اتجاه المشاهد.. وفي أقصى اليمين، يطلق زفير نفخة صوب كلوريس، قابضا في ذات الوقت على جزء من جسده. وكلوريس، بنظرة حائرة متوسّلا إله الريح، وبحركة دفاع عن النفس ضدّ من يتبعه، يتقيأ زهورا، رمزا لوحدتهما الجسدية وإعلانا بقدوم الربيع.

يلجأ واربورغ، قبالة صورة مكثفة بالرموز وشخصيات أسطورية، إلى مجاز حقيقيّ، بالكشف خلف المعنى الحرفي للصورة عن معنى مخفيّ مجازي للربيع تحديدا . وللتأكيد على ذلك قام مؤرخ عصر النهضة بتقصيّ حقيقيّ عن المصادر الأدبية، والتأثيرات والدوائر الثقافية التي حامت حول بوتشللي. تصوّر لوحة الربيع إذن الأحداث والتوصيفات والشخصيات الآتية بالخصوص من قصيدة لبوليتيا ("مستشار خبير لبوتشللي"، مثلما يصفه واربورغ)، والمستوحاة بدورها من" الأبهة" لأوفيدوس Ovide وكتاب "في الطبيعة " للوكريتس Lucrèce . هكذا يلحظ واربورغ في "أورفيو"l’Orféo فقرة من الروزنامة Fastes يروي فيها "فلور Flore كيف لاحقها " زفير "؛ وأنها حصلت إذن كهدية زواج، القدرة على تحويل كلّ ما تلمسه إلى زهور" (10). إلاّ أنّه توصيف مثيل لما نجده، في يمين لوحة بوتشللي، بين كلوريس وزفير والتي يصفها واربورغ بـ" مشهد ملاحقة إيروسية" . هل أن هذا التأويل العَاِلمَ savante للربيع الذي اختزلتاه في سمات كبرى، يُلحق ضررا بإدراك الصورة في ظهورها الخالص؟ هل يتعلّق الأمر بإفراط تأويل surinterprétation، لا بل بـ" إسراف تأويلي" حتى نتحدّث مثل إيكو، الذي يطبق اصطناعيا الخطاب على الصورة، إلى حدّ جعلنا لا نبصر حضورها الحسّي؟ إنّ الوفرة المفصّلة للتحليلات الإيقونوغرافية يمكن بالتأكيد أن تُتَوٍّه المشاهد، إلى حدّ صرفه في النهاية عن الصورة ذاتها. لكن يسمح هذا التَّتْيِيه الثمين في المقابل بالرفع إلى حدّ كبير من فهم الأثر. ودون هذا التيه، سيظهر التقبّل العفوي للصورة مفقّرا كثيرا، لا من حيث المعاني فحسب، بل أيضا من حيث الأحاسيس. يساهم التيه الإيقونغرافي إلى النظر على نحو آخر، بعمق أكثر، وبكثافة أكثر فيما يجري في هذه الملاحقة الإيروسية . ولا يعني هذا إذن أن نقول بأنّ " الحسيّ" سيكون مجرّد تعلّة لكشف "الذهني" «  l’intelligible  » في الصورة (حقيقته المجازية). بل هو القول، بطريقة جدلية، بأنّ الانعطاف détour بالذهني (التأويل الإيقونغرافي والإيقوني) يسمح بجعل الحسيّ المباشر وسيطا بفعل العودة نحوه لإثرائه، ولتغييره إلى " حسيّ" وسيط. إنّ النظرة الإيقونغرافية لا تجعلنا نفهم بشكل أفضل فحسب، بل تجعلنا نحسّ بصورة أفضل أيضا بالمشاعر التي تتناقل بين الشخصيات وأفعالها. رغبة بالتأكيد ولكن عنف أيضا يرتّد صداه إلى عالم الطبيعة مثلما فكّر فيه لوكريتس. يبيّن ديدي- هيبرمان بوضوح فيما توسّع هذه الهارمونيطيقا الإيقونولوجية في الجملة، والتي هي أبعد من أن تكون مفقّرة، كلّ طيف الانفعالات والمشاعر على الأثر في " الربيع":

" ماذا نرى فعلا في هذا المشهد الذي لا يصدّق، غير كونه لعبة معقّدة ونزاع تجاذبات و تدافع، وجمال وعنف، ورأفة ووحشية؟ أليس من الوحشية مثلا، أن تبصق فتاة مِسْبَحَة من الأزهار أو يكون محبّ شبه معلّق في الهواء بلونه الخاص المخضرّ؟ أليس من الغريب أن تمثل صورة أمام نظرنا، على نفس مستوى، ملاحقة تؤدّي إلى الممارسة الجنسية ونتيجتها، (ولادة الزهور، أي الربيع)؟ أليس من الفريد أن نلاحظ بأنّ هذه الصورة، وهي أبعد من أن تمثّل الكائنات" الواقعيةّ "والقابلة للمشاهدة، تتمسّك بالأحرى بتمثيل شيء ما مثل فوضى الكائن، أي اختراقا للحدود- الجدّ منحرفة في الظاهر، مثلما هو الحال غالبا لدى بوتشللي - بين اللذة والرعب، بين هبة الحبّ والعذاب المنزّل؟" (11).

لا تردّ الهارمونيطيقا بالمرّة إلى الاستعارة وبوجه أعمّ إلى مجرّد البحث عن معنى خفيّ، ثانوي وكامن، وإلى البحث عن " منجم للمعنى". لقد قلنا ذلك، إنّ هذا المنهج التأويلي ليس إلاّ تشعّبا، مهما كان جدّ مهمّ، فإنه يجد أصداء قويّة مع المنهج الإيقونولوجي والإيقونغرافي الذي روّجت له مدرسة واربورغ وبانوفسكي، إلى حدّ يمكننا أن نأخذ فيه الإيقونولوجي على كونه فيلولوجيا للصورة l’iconologue comme un philologue de l’image . يوجد مع ذلك تاريخ للهارمونيطيقا يركّز على المعنى الحرفي، دون أن يحيل بالضرورة إلى معنى خفيّ؛ تاريخ يعود إلى النحويين الإغريق، إلى تفسير الكتاب المقدّس لآباء الكنيسة، إلى فيلولوجيا الإسكندرية، كي يتجدّد عصر النهضة، ثم في عصر الأنوار. يمكن للمعنى الحرفي أن يطبّق على كلمة، على جملة أو على خطاب ويشير إلى " المعنى الأولي لعلامة أو علامات، من حيث أن هذا المعنى تتقاسمه جماعة ألسنية". (12) إنّ المعنى الحرفيّ (sensus litteralis) يمكن أن ينزاح بذاته إلى معنى نحوي sensus grammaticus ومعنى تاريخيّ sensus historialis حينما يروي النصّ أحداثا متضمنة في حكاية (السرد في الكتاب المقدس).

فيم يمكن أن يطرح المعنى الحرفيّ لكلمة أو لخطاب مشكلاتِ تأويلٍ ويستلزم بالتالي هارمونيطيقا؟

أن نقول بأنّ المعنى الحرفي يشير إلى المعنى الأوّلي فذاك لا يعني بأنّ فهمه سيكون مباشرا. هذه النقطة مركزيّة تماما. وبعبارة أخرى، يمكن للمعنى الحرفيّ أن يتأثّر بما نسمّيه البعد الإشكالي للمعنى problématicités du sens. هو الحال مثلا بالنسبة لـغموض l’obscurité كلمة، (لغريب الكلام) لمعجمية جعلها تطوّر اللغة قديمة ومعانيها تغيّرت بحكم الاستعمال. يصبح التفسير، كالذي تمارسه مدرسة الإسكندرية، ضروريا إذن لمعرفة أيّ معنى كان في الأصل، لتلك الكلمة أو ذاك التعبير. يمكن للمعنى الحرفي أن يتأثّر أيضا بـلُبسambiguïté حينما يُنسب مؤلّف خطاب معنىً لا يناسب المعنى المعتاد للعلامة، بالخلط بينها وعلامة أخرى (يمكن أن يعني هذا الخلط نفسه القارئ أيضا). يمكن للمعنى الحرفيّ أن يربكه لَبْسُ عندما يمنع غياب النظائر d’isotopes من تحديد المعنى الحقيقيّ للفظ متعدّد الدلالات polysémique . وهذا حقيقيّ أيضا بالنسبة إلى الضمنيات implicites واللّميات sous-tendus عندما لا يسمح سياق الجملة كفاية بتثبيت المعنى. يمكن أن نعدّد إذن قائمة مشكليات المعنى المتعلق بالمعنى الحرفي: تناقض، معاني مضادّة... (13). والمهمّ أنها تستدعي تقنيات تأويل (نسمّيها تأويلات (تخوّل لنا، في حدود الإمكان، بناء معقولية : توضيح، تفسير، التأطير السياقي (التسييق) contextualisation...

يكمن السؤال منذئذ في معرفة إذا ما كان بإمكاننا نقل نُظم مُشكليّة المعنى وتأويلاته إلى الصور أو العثور إذن على تقنيات مماثلة. ألا يمكن أيضا اعتبار صورة على كونها غامضة، قياسا بالنصّ، حينما لا يظهر معنى تصوّر شخصية أو فعل بوضوح أكثر، حينما لا يتوافق معنى رسم أو مشهد مع دلالته المعاصرة؟ إنّ عمل تأويل مؤرّخ الفنّ هو تماثليا ذا قرابة بعمل الفيلولوجي أو المفسّر الذي يبحث عن إيجاد المعنى الأصلي لكلمة، وإلى تحيين مرجعيات الماضي لصالح توضيح أو تأطير سياقي تاريخي. ويمكن تعبئة التأويلات Interpretatio أيضا عندما تتعلّق مُشْكِلية المعنى بالالتباس. ويمكن أن تتعلّق بنسبة لوحة حتّى، قياسيا مع نسبة نص ّ حينما يوجد شكّ (والتباس ممكن) حول المؤلف أو الفنان الذي أبدعه (في حالة النسخة مثلا).إنّ تأصيل L’authentification الأثر تقنية نجدها في التأويلية النصية يقدر ما نجدها في تاريخ الفنّ، مثلا، عندما يعمل مورللي Morelli على الفصل فيما بين لوحات بالاستقصاء حول الجزئيات الخاصّة بأسلوب فنّان (بطريقة مماثلة لسبينوزا حينما يعمل على رفع الالتباس عن مؤلفي أسفار موسى الخمسة). يمكن للتناقض أن يعاكس، قياسيا بالخطاب، معنى صورة. رأينا ذلك مع لوحة مافي Maffei الذي قد يؤوّل " نمطها" إمّا بوصفها جوديث Judith أو بوصفها صالومي Salomé. إنّ المماثلة بين الخطاب والصورة من وجهة نظر مُشكلية problématicités المعنى (مثل التماثل البنيوي بين الهارمونيطيقا وتاريخ الفن من وجهة نظر التأويل interpretatio) تجد سندا خاصا إذا ما توجّهنا من جديد إلى بانوفسكي . يؤكّد داريلا في تعليقه بكل تناسق على القرابة بين الهارمونيطيقا (منظورا إليها بوصفها استعارية) والمنهج الإيقونغرافي والإيقونولوجي على نحو ما هو مستخدم لدى منظرّ الفنّ. قليل من الأشياء قيلت في المقابل فيما يتعلّق بما يسمّيه بانوفسكي الماقبل إيقونغرافي le pré-iconographique.. لكن، مثلُ هذا المنهج هو الذي تردّد صداه القويّ في هارمونيطيقا المعنى الحرفي. يتعلّق التأويل الماقبل- إيقونغرافي تحديدا بما يسمّى " المعنى الأوّلي" لصورة يقسّمها هو ذاته إلى " معنى فعلي"«  signification de fait  » و " معنى تعبيريّ"«  signification expressive  » : " ندركها بتعيين صور خالصة (أي : تكوينات معينة للخطّ واللون، أو كتل برنز أو حجر معينة، مشكّلة على نحو خاص) بمثل تصوّرات لموضوعات طبيعية (مثل الكائنات البشرية وحيوانات ونباتات ومنازل وأدوات الخ .)؛ وبتعيين علاقاتها المتبادلة بوصفها إحداثا ؛وبإدراك خصائص تعبيريّة معينة، مثلا، سمة الحِداد التي تنطوي على سلوك أو حركة، ومناخ حميميّ ومريح لمحيط داخلي" (15). إنّ تعيين هذه الأشكال وهذه التعبيرات (التي تمثّل عالم "الأنماط" motifs في تاريخ الفن وفق معجمية بافنوفسكي) يمكن أن يحدث بطريقة سَلِسَة، دون جهد تأويلي ذي دلالة. إنه حينما يصبح التعيين في المقابل إشكاليا (التباس ممكن بين الكائنات؛ تعارض حول معنى فعل...) وحينما يصبح الاشتغال على المعنى ضروريا ويتحرّك الماقبل - إيقونغرافي حقيقة بما هو هارمونيطيقا.

أن تتعلّق بالمعنى الحرفيّ أو بالمعنى المجازي أو الرمزي، فإنّ الاعتراض الرئيسيّ الذي يمكن أن نقوم به تجاه التقارب بين الهارمونيطيقا والايقونولوجيا والذي يبدو أن جزءا فقط من تاريخ الفن يتبنّاه، خاصة رسم تاريخ النهضة، الذي ولع به واربورغ وبانوفسكي، أو أيضا الكلاسيكية التصويرية التي كان بوسان Poussin أحد روّادها. كان التطابق هو أقلّ صدفة بقدرٍ لم تلعب فيه النصوص الكلاسيكية للعصر القديم أو للكلاسيكية وظيفة الإلهام فحسب بالنسبة إلى رسامي عصر النهضة أو للمدرسة الكلاسيكية، بل أيضا وظيفة نفوذ أخلاقي حقيقي ووظيفة تشريع للفن التصويري الناشئ، في اللحظة ذاتها التي نشهد فيها " تحرّرا" لمنزلة الفنّان وتقاربا مع عالم الأدباء الذي تمّ الترفيع من شأنه اجتماعيا. حقيقيّ أنه أثناء النهضة الايطالية حيث كان الرهان " وضع الرسام- الذي هو إلى وقتئذ مجرد صانع مرتبط بالنماذج التقليدية لـفقه الممارسة ومطالب المُشْرِفين - في منزلة شاعر كبير، أي منزلة معرفة فكرية أصيلة مضاعفة بحريّة و"بسيادة" فنيّة". (16) وهو حقيقيّ أيضا في عصر الكلاسيكية الفرنسية : " إنّ دور تراتبية الأنماط، التي تضع في القمّة الرسم المسمّى " للتاريخ" - أي تحويل نص إلى صورة، سواء كان دينيا أو مدنّسا- كان جوهريا في تلك الأولوية للعقلي على الحسّي، ومرتبطا بشكل واسع بالبحث عن معنى أو تقدير دلالة ُأولى. ومنذ الجيل الأوّل الأكاديميّ، تشهد المحاضرات التي التحق بها نخبة الرسامين في حلقة واسعة من العارفين الأدباء للمطالبة بهذا الخضوع للصورة للنص، والإحساس للمعنى". (17).

وبعبارة أخرى، فإنّ فليلوجية هارمونيطيقا (تأويلية) نظرية الفنّ، مثلما يمكن ترجمتها في مشروع إيقونولجي، سيضمن ويولّد من جديد في نفس الوقت إبستيمية خاصة لتاريخ الفنّ تتطابق مع أوج نَصْنَصَة textualisation الرسم التصويري، حيث تستمدّ الصورة معناها ومشروعية النصوص الكلاسيكية للعصر القديم والوصايا اليهودية - المسيحية.

يمكننا الاعتراض على هذا الاعتراض بأنّ المنهج الماقبل- إيقونوغرافي يمكنه أن يطبّق تماما على عصور لاحقة للنهضة، وأيضا على المرحلة المعاصرة، بشرط أن نقدر على أن نستنبط منها معنى حرفيا أو معنى ثانويا، دون الإحالة مع ذلك إلى نصوص كلاسيكية. وهو أمر حقيقيّ ويسمح في نفس الوقت بتوسيع التأويلية الإيقونولوجية إلى ما بعد النهضة والمدرسة الكلاسيكية .

بيد أنه ينبغي الاعتراف، بأنّ عصورا أخرى وتيارات فنية أخرى تقاوم بوضوح المنهج الماقبل- إيقونوغرافي والإيقونولوجي، عندما لا يوجد تاريخ ولا شخصيات ولا معنى مخفي، حتى قبل الفنّ المجرّد أو المفهومي conceptuel، بدءا ببعض رسوم المناظر الهولندية. هل يؤدّي مع ذلك، وضع الإيقونولجيا خارج الدائرة، من طبقات كاملة من تاريخ الفنّ، بالتأويلية إلى الفشل؟ هل للتأويلية، بما هي في البدء وليدة النصوص، منابعَ لتأويل صورة متمرّدة على كلّ تاريخ، لا بل على كلّ مجاز، صورة لا يمكن أن تكون منصّصة textualisée ؟ هل يمكن في نفس الوقت، لتأويلية، مُبرّرُ وجودها، البحث عن المعنى، وأن تساهم في التقاط القوى الحسيّة للصورة، دون أن تتعرّض لذمّ الفكرانية l’intellectualisme؟

التأويلية وإستيتيقا الرائع

[...] تفترض الإجابة عن هذين السؤالين* وضع التأويلية في مختبر استيتيقا الرائع.ألا يشهد الرائع، بوصفه ما هو، ببساطة وبصورة خالصة، عظيما، باستحالة كل فهم، وكل تعقّل وكل استعادة للمحسوس (الإحساس) في العقلي (المعنى) ؟ وسواء تعلّق باللانهائي الرياضي، أو وبالقوى الديناميكية للطبيعة، وبالقدرة الجمالية لنصّ أو لصورة، فبإمكان الرائعle sublime أن يوقّع على فشل كلّ تأويلية. هذا حقيقي، على الأقلّ من أول وهلة، إذا ما التفتنا نحو إستيتيقا بوالو Boileau (18)، في ترجمته وتعليقه على "مقالة في الرائع" المنسوبة (خطأ) إلى المؤلف الإغريقي لونجان Longin. يترك بوالو، في معركته مع الاستيتيقا العقلانية المابعد ديكارتية التي تَرُدَّ الجميل إلى التوافق مع القواعد، وللأثر جانبا من الإلغازية التي لا يستوعبها منهج، ويحمل جانبا من اللاعقلانية والمتعذّر إدراكه. هذا رائع يُحَسُّ أكثر مّما يبرهن عليه، يكثّفه بوالو في صياغة لـعبارة " لست أدري ما يسحرنا". ذلك أنّ" لست أدري ماذا" تعبّر فعلا عن سمة اللاتحديد للرائع الذي يمنح حضورا لمنطق الانفعالات أكثر من منطق العقل. ليس هذا الخارق للمعتاد الذي "يسرّنا ويحملنا" نتاجا، وفق بوالو، لأسلوب خطابي يغذّيه التأكيد والمبالغة. بل على العكس يمكن أن يصدمنا " مثل صاعقة" في البساطة الكبيرة لجملة أو لصورة عادية في الظاهر (على نحو "كن فيكون" في سفر التكوين).

هل ينفلت الرائع مع ذلك من نظام المعنى ؟ ليس الأمر كذلك لو نظرنا إلى النصّ عن قرب. إن المفارقة هي كون الحساسية المفرطة تشهد بتجربة مافوق - حسّي، بشبه صوفي، بقدر ما " يرفعنا الرائع أعلى تقريبا من الإله:" أن نقرّ، كما يقول بوالو، بأنّ الرائع هو اندساس في الخطاب للـ"مافوق طبيعي"، للإلهي، وللعجيب، و يعني انفتاح النص على متعالي يفيض على الكلمات، ومطابقة التجربة الجمالية بالتجربة الروحية للرّحمة". (19) وإذا ما تعالى الرائع على اللغة، فهل هو مع ذلك خارج كلّ فهم؟ أليست التأويلية الضمنية فاعلة من حيث قدرتها على التفكيك، في الرائع، لرموز أصل المقدّس، وفي كونها تؤوّل " السرّ الإلهي" الذي تبلور في بساطة "رائع القدماء" والذي بإمكانه تغذية فنّ وأدب المحدثين؟

إنّ إقرارا شبيها، بالرغم من ذلك، في مقابل الفروق ذات الدلالة، يفرض نفسه في التحليلية الكانطية للرائع، في فكرة العظمة أو في قوّة لا تقبل أن تقارن بأيّ قوة أخرى. غير أنّه لا يُبحث عن الرائع لدى كانط في أشياء الطبيعة أو في الفنّ، بل فينا فحسب. أليست إذن تجربة طفح débordement أو فيض للحواس sens (الأحاسيس) وللخيال الذي يفضي إلى فائق الوصف l’ineffable واللامعقول؟ هو على خلاف ذلك تماما. يشهد الرائع بحدٍّ للحواس والتخيّل في القدرة على تمثّل شيء ما جدّ عظيم أو لامتناه، دون مقارنة ممكنة. يوضّح كانط ذلك، في نقد ملكة الحكم، حينما ندخل لأوّل مرة في كاتدرائية القديس بيار في روما : يكون الخيال وقد بلغ أقصاه، عاجزا عن تمثّل المَعْلَم ككلّ. فيم يكون الرائع إذن تعبيرا، إن لم يكن للحواس والخيال؟ إنه التعبير عن ملكتنا الفوق- حسية (العقل)، القادرة وحدها على إنتاج الأفكار (الكلّ، النهائي...).

"ومن هذه الزاوية، لا شيء مما قد يكون موضوع الحواس يستحق أن يوصف بالرائع. بل لأنه يوجد بالتحديد، في خيالنا جهد للتقدّم نحو اللانهائي، وفي عقلنا تجربة للكلية المطلقة المعتبرة بوصفها فكرة واقعية، فإنّ الخيال يثير فينا، بالنسبة إلى هذه الفكرة، لملكتنا على تقدير عظمة الأشياء في العلم الحسّي، الشعور بحضور ملكة فوق حسيّة فينا". (20)

هذا الشعور الأخلاقي ليس إلاّ الاحترام. هو الحال مثلا في الرائع الديناميكي للطبيعة . مشهد البرق والرعد المهدّد، يردّنا بالتأكيد إلى " صغرٍ لا يذكر" . لكن، كما يؤكّد كانط، إذا ما كنّا في أمان، فإنّ هذه الظواهر ترفع قوّة الفكر إلى كثافة خارج المعايير " وتكشف فينا عن ملكة مقاومة من نوع آخر تمنحنا شجاعة تقدير أنفسنا بالنظر إلى عظمة الطبيعة". (21) يحصل للفكر البشري بواسطة الرائع، وعي بالطابع الاستثنائي لوجهته (الأخلاقية) وبسموّه حتى على الطبيعة. إلاّ أن هذه الملكة في "تقييم عظمة الأشياء في العالم الحسّي، هذا الوعي بماهيتنا الفوق - حسيّة، ليست ممكنة دون تأمل تأويلي. يجب أن تكون لنا القدرة على ردّ معنى ما يظهر في الطبيعة الحسيّة إلى اتجاه مرمانا الأساسيّ: أن نرى في العظمة الظاهرة للطبيعة علامة لعظمتنا. تدعّم تأويلية خفية إمكانية تغيير معنى ما يأتي من العالم الحسّي إلى فكرة فوق - حسيّة. وحيثما يجب على اختراق الرائع أن يجعل ما قبليا التأويلية خارج اللعبة في بحثها المتعطّس عن المعنى، تعود هنا بالذات الطريقة الملتوية بوصفها فهما لعلامات الإلهي (بوالو) أو بوصفها إبانة للفوق- حسيّ عبر عظمة الأشياء الحسيّة (كانط) . ينبثق إذن نقد استيتيقا الرائع التي تحطّم القوّة الصامتة للحسيّ، التي تجعل الطبيعة تعترف، والأثر والصورة لتجعل منها علامات لأشياء أخرى. وإذا لم توجد نظرية للرائع لدى نيتشه، فسنجد في المقابل دعوة إلى قلب للحواس، لجعلنا في وضع أفضل للاستماع " الموسيقى الفرحة للاحتفالات الديونوزوسية، مدويّة بإيقاعات سحرية وساحرة، ومُطْلِقة ضجيجا هائلا إلى حدّ الصراخ الحادّ، لكلّ إفراط الطبيعة المبتهجة في الفرح، في الألم أو المعرفة !". (22) ليس للمغالاة النيتشوية، في صداها الديونوزوسي، أي شيء من سموّ مثل أعلى نحو عالم فوق- حسيّ؛ بل هي لصيقة بالأرض، تعيش الجسد، بالذات لحما ودما.

نرى بوضوح هذا الإرث النيتشوي شغّالا لدى دولوز الذي يعنينا أكثر حينما يخضعه لاختبار فلسفة الفنّ. ذاك شأنه في مؤلفه حول فرنسيس بيكون (23)، حتّى لو بالارتكاز عل طريقة الفنان ذاته في التنظير لفنّه الخاص (24). فيم يمثّل الرسم في ذاته لدى بيكون (ومفكر فيه من دولوز) تحدٍّ حقيقيّ للتأويلية؟ ليس بالتأكيد مجازيا أو رمزيا، لكنه، خلافا للفنّ التجريدي، يظلّ مرتبطا بـ" الأشكال". وإذا ما وجدت " الأشكال " عند بيكون، فلا تظهر بوصفها " تشخيصيّة" أو تصويرية، أي كنموذج للتمثّل وبوصفها تاريخا للسرد. وتبرز الصور في التشخيصي، موضوعا وتشكّل فيما بينها مجموعا مرتبطا بعملية سرديّة. بيد أنّ الرسم البيكوني لن يكون " مجازيا" بل " تمثّليا" figural بموجب جهاز عزل الشكل الذي يخرجه عن دائرة المنطق السردي :" العزل هو إذن أيسر السبل، وضروري وإن كان غير كاف، للقطع مع التمثّل،وتحطيم السرد، ومنع الإبانة، وتحرير الشكل: التمسّك بالحدث". (25).هو الحال إذن حينما تعزل الأشكال من مضمار، وكرسيّ، أرجوحة، مثلا في " اللوحة الثلاثية " Triptyque 1970). لم يعد الرسم الحديث في حاجة أن يصير " مجازياّ"، بحسب بيكون، لأنه يمكن، في الآن نفسه، للفتوغرافيا أن تُشغِل من هنا فصاعدا هذه الوظيفة ولأنّ المجازي أو الاستعاري كان مرتبطا في الرسم القديم بوظيفة دينيّة . يمكن للرسم المعاصر إذن أن يتحرّر من " المجازي" ويبتكر طريقة جديدة في تدبير " الأشكال".

يطرح بيكون، فضلا عن مسألة السرديّ والتوضيحيّ، تحدّ ثان على التأويلية بموجب موقع " الإحساس" في أعماله. يفترض أن تؤثّر الأشكال مباشرة على الجهاز العصبي، والتأثير مباشرة على الحواسّ، على نحو أخذ المحسوس بثأره من المعقول، المحسوس الحركي من المعنى - الدلالي . يمكن لمنطق الإحساس وحده أن يمسك " المجازي " في الصور. يتعلّق الأمر باستخراج المعاني أقلّ من التقاط القوى، وخاصّة فعل القوى اللامرئية (الضغط و العطالة والجذب والجاذبية ...) على الأجسام؛ مثلما نرى ذلك في الأثر الفني، في دراسته من خلال لوحة البابا البريء س (1953):3834 بيكون

ف. بيكون عن لوحة البابا البريء "س" فاليسكاز (1953)

إن فَمَ البابا وهو يصرخ هو نتاج " القوى اللامرئيّة" (الجاذبية)، وهو مرموز إليه بحقل خطوط كثافتها عمودية، تمارس ضغطا شديدا على الشخصية، وبالنقاط المتراصّة للحفاظ على الجذب، وأسفل الجسم مستوحى من نقاط تلاشي تبدو فائضة عن اللوحة . يستخلص دولوز انطلاقا من بيكون استنتاجا لا ينطبق فحسب على الرسم، بل على "مجموعة الفنون" :

"لا يتعلّق الأمر في فنّ الرسم كما في الموسيقى بإعادة إنتاج أو اختراع أشكال، بل التقاط قُوَى. بل إنّه هنا لا يوجد فنّ تشخيصيّ. والعبارة الشهيرة لبول كلي " ليس ردّ المرئي، بل جعله مرئيا " لا تعني شيئا غير هذا. تتحدّد مهمّة الرسم بوصفها محاولة لجعل قوى غير مرئية، مرئيّة (26) (جيل دولوز (1995) عن فرنسيس بيكون، ص 57.)."

هنا نلمس أكثر أثر نيتشه على دولوز :جعل القوى تتحرّك في مواجهة الشكل، والمحسوس ضد الفكري، والإحساس ضدّ التجريد.

يمكن أن نفهم، و في موروث مماثل، لكنه يحمل نفسا مضادا للتأويلية أكثر وضوح أيضا، دعوى سوزان سونتاغ ضد التأويل والدفاع المتصل بالإحساس، في مقال حدث. (27) فلا يمكننا بالتأكيد أن نُركّب تماما هذه الأنماط للتحليل على أنماط تحليل دولوز من حيث أنها تفترض، بصورة مدهشة، " الشكل" في دلالته الجمالية (التي تحيل في معناها إلى الإحساس ولا إلى " الفكرة") و" محتوى" (الذي يحيل إلى المعنى، إلى " الرسالة")، أثرا فنّيا. إنّ فلسفة الفن الغربية آثمة إذن بإقرارها أولوية تعقليّةntellectualisante، تنسبها منذ أفلاطون وأرسطو، إلى "المحتوى" على حساب " الشكل". و يعترف سونتاج Sontag بالتأكيد بفضل التأويلية الفلسفية للقدماء، خاصّة مدرسة الإسكندرية، طالما أنها تسمح بانفتاح النصّ الكلاسيكي على مكاسب جديدة. فيكون التأويل ضمن هذا السياق الثقافي، عملا تحرّريا. فهو وسيلة للمراجعة والتخلص من الماضي الميّت. لكن، ستصبح التأويلية، مع الحدثيين، مشروعا " محافظا"، اختزاليا، "خانقا" (منغِّصا)، خاصّة انطلاقا من ماركس وفرويد. فالبحث عن محتوى معنى خفيّ يقوم على أساس كرهٍ " للأشكال" الجمالية، في نسيان للحواسّ، وعلى حساب " الطاقة والقدرة الحسيّة" (28). يلتحق سونتاج بوضوح بالنداء الدولوزي والبيكوني بتفضيل فنٍّ يقدر على التأثير مباشرة على جهازنا العصبي، ويضاف إليه البعد الإيروسي، في " مباشرية خالصة، يتعذّر ترجمتها، و على نحو ما حسيّة ". (29)، من أجل رؤية أفضل، واستماع أفضل وإحساس أفضل. إنّ حكمه، سنوتاج، إذن جازم:" بدل تأويلية لابد أن توجد إيروسية للفنّ". (30)

إن سونتاج على حقّ في تحديد الاستعمالات السيئة غير المراقبة للتأويلية التي شاعت في عصور أكثر من أخرى، والتي تموّه اصطناعيا معاني خفيّة، إلى حدّ العمى عن رؤية الصور. هل يجب مع ذلك استبعاد كلّ تأولية ؟ هل مازال للتأويلية ما تقوله عن صورة لا مجازية، لا سردية، وخالصة الكثافة؟ توجد تأويلية بالتأكيد خارج اللعبة، على الأقلّ في أحد استتباعاتها التي تتعلق بالمجازات والرموز، وباختصار، بالبحث في معنى مخفيّ. إضافة إلى أن بعض لوحات بيكون بدءا بلوحة " دراسة انطلاقا من لوحة البابا البريء س" فالفاسكاز، تحيل إلى إيقونغرافيا تصويرية يمكن أن تكون موضوعا لتأويل عالمٍ érudite، دون الحديث عن تأثير سوزان الكبير وهوس بيكون بأشكال الجثث والمجزرة التي لا يمكن أن نمنع أنفسنا عن ترديد صداها، مثل " أعمال باقية"، مع " البقرة المسلوخة" (1655) لرامبرند أو " الثور ورأس العجل" 51925) لسوتين Soutine.هذه " الصيغة للباثوس" يمكن أن تصنع سعادة الإيقونغرافيا.

يمكن أن نقول الكثير عن بعض اللوحات التجريدية، التي لا تحيل فحسب إلى ذاتها، بل يمكن أيضا أن تحمل دوافع " بقائها" . لنفكّر في الألوان الموحّدة لإيف كلاين’Yves Klein والتي يذكّرنا فيها الأزرق" الخالص " بسماء بعض اللوحات لجيوتو Giotto، والتي لا تخلو دلالتها من " روحانية" : الأزرق المكثّف بوصفه علامة حسيّة عن العالم اللامرئيّ. ولا يتعلّق الأمر فحسب بالتقاط الصور، بل بالارتفاع من خلالها إلى عوالم معنى. إنها مفارقة التجريدي، اللاتشخيصي واللاسردي، الذي يبدو الأكثر استعصاء على التأويلية المجازية والحرفيّة، لكنه يستدعي، أكثر من غيره من الفنون، بحثا عن معنى طالما كان إدراكه المباشر معلّقا:

"توجد قليل من اللوحات التي علقنا عليها كثيرا كلوحة" المربعّ الأبيض على أرضية بيضاء" الشهيرة، التي عرضها مالفيتش Malevitch في ديسمبر 1918 في الصالون الثاني للدولة في موسكو. هكذا تكون لوحة، ليست مع ذلك سوى" مساحة مسطحة مغطاة بالألوان " (الجمع" ألوان في نظام تجميع"، وفق تعريف دونيس Denis، ليست هنا ضروريا حتّى) لوحة ليستبالرغم من ذلك خالية من المعنى، وتَحْمِل على التأويل". (31)

من الضروري مع ذلك، الاعتراف بأنّ التأثيرات التي تحدثها الصور، دون أن تكون بالضرورة " مثيرة" «  sensationnelles  »، يمكن أن يكون فعلا مباشر على الجهاز الحسّي، دون القدرة على أن تكون مترجمة في معاني، ودن إمكانية " بديل" في الفهم، فيما يسمّيه باتاي Bataille "استخدام صرف" (32)، ويسميّه داريدا بعده " هيجلية دون تكليف" (33). وفي هذه الحالة، فإنّ المحسوس ليس محفوظا ومتجاوز من الذهني. تقلب الصورة كثيرا المحسوس وتترك المعنى معلّقا. هنا نهاية التأويلية، كل تأويلية في ادعاءها الهيجلي تحويل كلّ علاقة قوّة إلى علاقة معنى، والسموّ بالباتوس إلى لوغوس. أي حدّا للتأويلية يحملنا على الاعتراف بوجود شيء ما في سلطة الصورة، يمرّ مباشرة من جسد إلى جسد، ويظلّ في دائرة المحسوس، ويجعلنا حرفيا بلا صوت. فحتى بول ريكور بوصفه تأويليا هو مهيأ لقبول ذلك، في "محاولته عن فرويد "، في خصوص قوّة الرغبة :" ربما في موقع الرغبة ذاتها تكمن إمكانية المرور من القوّة إلى اللغة، ولكن أيضا استحالة استعادة تامّة للقوّة في اللغة". (34)" استحالة استعادة تامة ..."، إذن إمكانية " طاقاتية" دون " تأويلية"، أليست في حدّ ذاتها ثغرة، ونقيصة، ونقصانا. إنها كذلك من منظور داخلي للتأويلية في بحثها الدائب عن المعنى. لكنها تفتح في ذات الوقت الطريق إلى أحساس دون تأويل، ليس بلا علامة، والذي يكون " نحوه " «  grammaire  » أو منطقه انفعالي وتحت مقالي. affective et infradiscursive. يسمّيه دولوز مع بيكون " منطق الإحساس"«  logique de la sensation  » ، ويسميه سونتاج،" إيروسي" .

ليس الاعتراف بحدود للتأويلية رفضها. فليست هي كذلك بموجب، مثلما يلاحظ ذلك بول ريكور، إمكانية مرور بعض الانفعالات إلى الخطاب، عن طريق وساطة تأويلية . لكن، وخلافا لتأكيدات سونتاج، ليست كل تأويلية، تأويلية أعماق (بحثا عن معنى خفيّ) أو تعقلّية.

وإذا كان من الضروري الاعتراف بإمكانية ومشروعية إحساس دون تأويل، وإذا آمكن لبعض التأويلات عرقلة ومنع المحسوس، فلن يقال بأن كلّ تأويل هو ما قبليا عائقا أمام الإحساس. إنّ تأويلية لسطح الحواس، التأويلية الفينومينولوجية للتشكيلات، تأويلية وصفية للمعنى الحرفي، وتأويلية تاريخية للمعنى المجازي، هي كثرة في مناهج التأويل، تساهم في مفصلة الحواس والمعنى، والمحسوس والعقلي، الباتوس واللوغوس للصورة.

إن التجديل لا يعني هنا أن المحسوس لن يحتفظ به إلا من أجل تجاوزه بشكل أفضل إلى ذهني، بل إنّ الانعطاف التأويلي يسمح في المقابل بزيادة الطاقة الانفعالية للصورة . إن المحسوس في توسّطه يكون بالتأكيد، قد فقد مباشريته الأولى، لكنه يكون قد غنم في كثافته."

***

...................

المصدر:

https://doi.org/10.4000/methodos.10421

- هوامش:

* - جوهان ميشيل (1972): أستاذ في جامعة بواتييه وباحث في مركز دراسة الحركات الاجتماعية للمدرسة العليا للدراسات في العلوم الاجتماعية وعضو شرفي فيالمؤسسة الجامعية الفرنسية.

1- ناتالي هاينش (2008)"ما يحدثه التأويل. ثلاث وظائف للنشاط التاويلي". سوسيولوجيا الفن اوبيس 13، ص 20.

2- جورج ديدي هيبرمان (2008) التشابه بالاتصال, اركيولوجيا، اللاتزامنية وحداثة البصمة . باريس نشر مينوي ص 254.

3- جاك داريللا 2007 " تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي"

4- موريس مارلو بونتي " المرئي واللامرئي" باريس غاليمار ص 197.

5- جورج ديدي-هيبرمان 1992ما نراه ما يرنا، باريس نشر مينوي. ص 35.

6- جاك داريللا 2007, "" تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي"

7- إيروين بانوفسكي 1976، " مشكلة وصف الأعمال". نشر إيروين بانوفسكي , المنظورية بوصفها شكلا رمزيا، باريس نشر مينوي ص 244.

8- جاك داريللا 2007، "" تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي"

9-حيلة فونوس يمكن ان تذكرنا إما بتماثيل الرومانية او مثلما يرحظ ذلك واربورغ سلوك العذراء في الجمة .

10- واربورغ 2015 محاولات فلوزرنسية باريس هازان ص 73.

11-جورج ديدي هيبرمان 2015 محاولة حول الرغبة- الغطاء باريس غاليمار ص84.

12- آدا ناشكوهانتشوكو Ada Neschke-Hentschke 2015" المعنى الحرفي"، التاويل ن معجم الفلسفة باريس فران ص432.

13- جان ميشيل 2017، اومو تأويل باريس، هارمان

14- جاك داريللا 2007, "" تأملات حول المنهج الإيقونولوجي لتأويل الأثر الفنّي"

15- إريوين بانوفسكي 2021، ماحولات في الإيكونولوجيا باريس غاليمار ص23.

16- جورج ديدي هيبرمان (2008) التشابه بالاتصال ص93.

ناتالي هانيش، سوسيولوجيا الفن 2008 ص 13

18- نيكولا بوالو 1966 مقالة في الرائع تمهيد، باريس بال لاتر.

19- طوني قريرات 2020،"الفنالشعري، مقالة في الرائع " كنش الفرضيات : بوالو، غيرالخاضع .

20- كانط 1985 نقد ملكة الحكم باريس غاليمار ص 189-190.

21- كانط، نفس المصدر ص 203.

22- نيتشه 1977 ميلاد الترجيديا باريس غاليمار ص 40.

23- جيل دولوز 2022 فرنسيس بيكون " منطق الإحساس" باريس سوي

24- دولوز "1995، فن المستحيل، محادثات مع دافقيد سلفاستر باريس نشر البار سكيرة.

25- جيل دولوز، فرنسيس بيكون " منطق الإحساس" باريس سوي ص 12

26- نفس المصدر، ص 57.

27- سيزان سانتاغ " استئناف التأويل" بيغان كلاسيك 2009.

28- نفس المصدر ص 4

29- نفس المصدر ص 6.

30- نفس المصدر ص 10.

31- جاك داريللا " تأملات في المنهج الإيقونولوجي لتاويل الأثر الفنّي" 2007.

32- جورج باتاي 1967، الجزء الملعون باريس نشر مينوي.

33- داريدا 2014، الكتابة والاختلاف. باريس نشر سوي.

34- ريكور، 1965، في التاويل محاولة عن فرويد، باريس، نشرسوي، ص 79.

قبل أن تتعرض شعوب البلدان العربية لاكتساح الظاهرة الكولونيالية، لم تكن تفقه شيئا"عن معاني ودلالات مفاهيم من مثل ؛ الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية، اللهم إلاّ النزر اليسير مما تنطوي عليه من أفكار مبتسرة وتصورات مبهمة، حيث ساهمت في نشرها وتداولها جهود بعض الرحالة والمترجمين ممن استهوتهم مضامين تلك المفاهيم والمصطلحات، بحيث ضمنوها كتبهم وأدرجوها ضمن مصنفاتهم بصورة لا تخلو من التبسيط الواضح والاختزال الفاضح.

ولكن مع مطالع القرن العشرين كان لتلك الشعوب التي أدخلت عنوة في دوامات السياسة الاستعمارية شأنا "آخر مع تلك المفاهيم والمصطلحات التي أحيطت بهالة من الإعجاب الفطري والافتتان الساذج. إذ ما أن عمدت السلطات الاستعمارية - لتسهيل ظروف احتلالها وتهيئة مستلزمات استغلالها - الى إدخال بعض ما اعتبره البعض (إصلاحات سياسية) و(تحسينات اقتصادية) و(خدمات اجتماعية) و(انجازات حضرية)، حتى تهاوت النخب في تلك البلدان صرعى (الوهم الليبرالي) الذي برعت في تزويقه وترويجه كيانات (مدربة) ومؤسسات (محترفة) أوجدتها السلطات الاستعمارية لهذا الغرض. هذا بالإضافة الى وجود ثلة منقاة من السياسيين والمؤرخين والمستشرقين كمشاركين ومتعاونين مع تلك السلطات ؛ إما بوازع الالتزام الوظيفي – الرسمي كخبراء ومستشارين، أو بدافع الاهتمام العنصري – الإيديولوجي كباحثين ومفكرين.

وعلى ضوء هذه المعطيات وتلك المؤشرات، فقد اعتقدت تلك (النخب) إن تلك السياسة الممنهجة وما تمخض عنها من إجراءات ملموسة وممارسات فعلية، وضعتنا على أعتاب عصر جديد من التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بحيث صار بمقدورنا ولوج طور الحداثة (الليبرالي) البعيد المنال، ان لم نكن قد بلغنا أوان قطف ثماره والتمتع بمزاياه. لاسيما وان سلطات الاحتلال لم تتوانى في تغذية ذلك (الوهم - الحلم) فكريا"وتضخيمه سيكولوجيا"لدى عناصر تلك النخب التي لم تتوانى - دون تبصر وبلا تحفظ – في السعي الى توطينه اجتماعيا"، ومأسسته سياسيا"، وشرعنته إيديولوجيا"، عبر بحوث كتابها ودراسات مفكريها الذين أخذوا بالمظاهر دون الجواهر، واحتكموا الى الشكل دون المحتوى. لا بل ان هناك رهط من الأكاديميين التقليديين ممن حاولوا إيجاد جذور محلية للفكرة (الليبرالية) داخل بيئتنا الاجتماعية، مثلما سعوا الى خلق أصول لها في أوساطنا الثقافية.

والحال إذا ما نظرنا الى الطبيعة السوسيولوجية لمجتمعات العالم الثالث – وبضمنها العربية طبعا"- سنلاحظ ان الغالبية العظمى منها ذات بنى اجتماعية أقرب الى (البطريركية) منها الى (الليبرالية)، وأنماط اقتصادية أقرب الى (الإقطاعية) منها الى (الرأسمالية)، وأنساق ثقافية أقرب الى (الفولكلورية) منها الى (العقلانية). وهو ما جعل قسم كبير من مكوناتها شديدة الممانعة إزاء أية محاولة تستهدف انفتاحها أمام تيارات الفكر الغربي، لاسيما الإيديولوجية (الليبرالية) وما تنطوي عليه من قيم ومبادئ. سواء جاءت هذه المؤثرات عن طريق (التدخل) الخارجي المقنن والمشروط كما فعلت القوى الاستعمارية مع مستعمراتها السابقة، أو عن طريق (التقبل) الداخلي الممنهج والمتدرج عن طريق برامج التعليم الأهلي والرسمي من جهة، والانخراط بالسلك الوظيفي الحكومي من جهة أخرى. بحيث تتساوق عمليات الاستقرار السياسي والاجتماعي مع عمليات التطور الثقافي والحضاري، وهو ما ندر تحققه وتعذر حصوله إلاّ في حالات محدودة وتجارب فريدة كما نعلم!. 

وبصرف النظر عما لحق بالإيديولوجية (الليبرالية) – في بيئاتها الجغرافية والحضارية - من تشظي الى أنواع (سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية)، إضافة لما طرأ عليها من ارتدادت وتراجعات في أصل قيمها وكنه مبادئها التي تميزها عن سواها من الإيديولوجيات الأصولية والراديكالية (القومية والاشتراكية والشيوعية) التي لا تزال أطيافها ماثلة في الوعي الجمعي للكثير من المجتمعات، إلاّ أنها لم تبرح – وهذا هو الانطباع السائد -  محافظة على طبيعة خصائصها النوعية وثوابتها الأساسية من حيث كونها التعبير المباشر عن (حرية الفرد) من كل قيد و(تحرر المجتمع) من كل عائق.

وفي حين ان الإيديولوجية الليبرالية – في صيغتها الكلاسيكية - لا تقوم فقط على مأسسة السلطات وشرعنة المؤسسات، أي ان (الدولة المركزية – كما لاحظ بحق المفكر الاقتصادي العراقي عصام الخفاجي – لا تعني الحداثة. أنها خطوة في هذا الاتجاه، لكنها ليست خطوة كافية بحد ذاتها) فحسب، وإنما ترتكز أيضا"على أنسنة العلاقات وعقلنة التصورات. فلنا أن نتصور كم هي خاطئة ومضللة تلك الدعوات والمحاولات التي يستهدف أصحابها تكوين الانطباع ان مساهمة المستعمر (الليبرالي) في تكوين (دولة) ما ووضع (دساتير) لها ورفدها ببعض (الإصلاحات) هنا أو هناك، هي بمثابة مؤشرات كافية على اختراق الإيديولوجية (الليبرالية) لبنى المجتمعات التاريخية الراكدة وتفكيك منظوماتها القيمية والرمزية، فضلا"عن دور تلك المؤشرات في كسر حدة الممانعات التي كانت تبديها الجماعات التقليدية إزاء كل ما يمت بصلة لمبادئ وقيم تلك الإيديولوجية.

***

ثامر عباس  

 

"إن إنشاء الذكاء الاصطناعي سيكون أعظم حدث في تاريخ البشرية. ولكن يمكن أن يكون أيضًا الحدث النهائي."

الثورة الصناعية الثالثة، أي ظهور الإلكترونيات والاتصالات وأجهزة الكمبيوتر: تُعرف عادةً بالثورة الرقمية. استمرت الثورة الصناعية طوال الثمانينيات والتي حولت التكنولوجيا الميكانيكية والإلكترونية التناظرية إلى التكنولوجيا الرقمية. على غرار الثورة الزراعية والثورة الصناعية، كانت الثورة الرقمية بمثابة بداية عصر المعلومات المعروف أيضًا باسم عصر الكمبيوتر أو العصر الرقمي أو عصر الوسائط الجديدة. تشتمل هذه الثورة الرقمية على الإنتاج الضخم والاستخدام المكثف للدوائر المنطقية الرقمية كدوائر منطقية رقمية. وكذلك مشتقاته مثل الكمبيوتر والهاتف الخلوي الرقمي وأجهزة الفاكس. إن الاهتمامات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبيرة التي أحدثتها تسلط الضوء على طبيعتها الشبيهة بالثورة. تتضمن التحسينات المتقدمة طوال الثورة التلفزيون الرقمي، والديمقراطية الرقمية، والألعاب، والهواتف المحمولة، وشبكة الويب العالمية، والشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت، والمجتمعات الافتراضية، والموسيقى والوسائط المتعددة، والفجوة الرقمية وغيرها. إن التحول من التكنولوجيا الإلكترونية الميكانيكية والتناظرية إلى الإلكترونيات الرقمية كوسيلة لتخزين ونقل واستخدام المعلومات يعتبر نقطة انطلاق لما نشير إليه بالثورة الرقمية. بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين مع اعتماد وانتشار أجهزة الكمبيوتر الرقمية والتخزين الرقمي للمعلومات، مما أدى بدوره إلى تطوير أنظمة كمبيوتر أكثر تقدمًا قادرة على النسخ الرقمي والتشغيل الآلي للحسابات الرياضية التي تم إجراؤها يدويًا سابقًا. إنها تطوير التكنولوجيا من الميكانيكية والتناظرية إلى الرقمية. خلال هذا الوقت، أصبحت أجهزة الكمبيوتر الرقمية وحفظ السجلات الرقمية هي القاعدة. كما أدى إدخال التكنولوجيا الرقمية إلى تغيير طريقة تواصل البشر، الآن عبر أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة والإنترنت. وقادت هذه الثورة الطريق إلى عصر المعلومات والمعلوماتية. فما هي الثورة الرقمية؟ ولماذا أصبحت ثورة؟

الثورة الرقمية

تتميز التكنولوجيا الرقمية بخاصية التحول المستمر لنفسها، والتوسع التدريجي وتعزيز الإنتاجية عبر مجموعة واسعة من القطاعات والصناعات. لقد أدت أحداث محددة إلى اعتماد واسع النطاق للتقنيات الرقمية التي من شأنها أن تغير إلى الأبد الطريقة التي نتبادل بها المعلومات ونستخدمها، كما تمثل أيضًا بداية عصر المعلومات. بدءاً من اختراع الترانزستور الثوري في عام 1947، أدت التطورات التكنولوجية اللاحقة إلى جعل مكونات أنظمة الكمبيوتر أكثر كفاءة في استخدام الطاقة وموثوقية، مع انخفاض تكاليف التصنيع. أدى ذلك إلى تطوير أجهزة كمبيوتر تحتوي على دوائر معالجة أكثر تعقيدًا وذاكرة تخزين قادرة على الاحتفاظ بالبرنامج الذي يتم تشغيله والبيانات التي يعمل عليها. لقد أظهر هذا كيف يمكن أن تكون أجهزة الكمبيوتر متعددة الاستخدامات حقًا، بدلاً من أن تكون مُجهزة لمهمة معينة واحدة. في عام 1965، توقع جوردون مور أن عدد المكونات في الدائرة المتكاملة سوف يتضاعف كل عام، فيما أصبح أعظم تنبؤ تكنولوجي في نصف القرن الماضي، والمعروف أيضًا باسم قانون مور. بحلول الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانت العديد من الحكومات والجيوش والمنظمات الأخرى تستخدم بالفعل أجهزة الكمبيوتر لإدارة البيانات والوظائف الأكثر تعقيدًا. في موازاة ذلك، بدأ العلماء في النظر في تقاسم الوقت بين مستخدمي الكمبيوتر، ولاحقًا، إمكانية تحقيق ذلك عبر شبكات واسعة النطاق. تم تعريف الجمهور لأول مرة بالمفاهيم التي أدت إلى ظهور الإنترنت عندما تم إرسال رسالة عبر اختصار لشبكة وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة في عام 1969. تم توصيل أجهزة الكمبيوتر الأولى في ذلك الوقت، كما مكّن التطوير الإضافي للبرمجيات تسجيل الدخول عن بعد، ونقل الملفات والبريد الإلكتروني. وبنفس القدر من الأهمية، كان التطور الآخر في تكنولوجيا ضغط البيانات الرقمية هو تقنية الضغط التي تسمى تحويل جيب التمام المنفصل، والتي أصبحت فيما بعد أساسية للثورة الرقمية كأساس لمعظم معايير ضغط الوسائط الرقمية من أواخر الثمانينيات فصاعدًا، بما في ذلك تنسيقات الصور الرقمية المختلفة وترميز الفيديو والتنسيقات ومعايير ضغط الصوت ومعايير التلفزيون الرقمي. لقد أدى تحسين الأداء وخفض التكاليف إلى قبول واسع النطاق للتقنيات الرقمية واعتمادها، وبعد فترة وجيزة شقت طريقها إلى مجموعة واسعة من المعدات والسلع الاستهلاكية. شهدت فترة الثمانينيات ارتفاعًا كبيرًا في شعبية التكنولوجيا الرقمية، حيث ظهرت أجهزة الصراف الآلي ، والروبوتات الصناعية، والموسيقى الإلكترونية، وألعاب الفيديو، والصور المولدة بالكمبيوتر في الأفلام والتلفزيون، في الحياة اليومية. اشترى ملايين الأشخاص أجهزة كمبيوتر منزلية، وصنعت شركة موتورولا أول هاتف محمول في عام 1983 على الرغم من أن الهواتف المحمولة الرقمية لم يتم بيعها تجاريًا حتى عام 1991 وفي عام 1988 تم إنشاء أول كاميرا رقمية.

الشبكة العالمية

نقطة تحول أخرى للثورة الرقمية كانت اختراع ما أصبح يعرف بشبكة الويب العالمية، بدءاً من عام 1989 عندما صمم تيم بيرنرز لي مجموعة قياسية من البروتوكولات أو قواعد الاتصال بين الأنظمة، يليها إعداد خادم لتخزين المعلومات وإنشاء برنامج متصفح، وهو برنامج يستخدم لعرض أنواع مختلفة من موارد الإنترنت والتفاعل معها. ومع توفر هذه العناصر، أصبحت شبكة الويب العالمية متاحة للعامة. لقد جعلت التحسينات التي تم إدخالها على الويب من السهل استخدامها بشكل متزايد، الأمر الذي أدى بدوره إلى جلب المزيد من المستخدمين إلى الإنترنت. أدركت الشركات أولاً ثم الأفراد إمكانية توسيع قدرات أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الرقمية الأخرى عند الاتصال بالإنترنت. توسعت شبكة الإنترنت بسرعة، وبحلول عام 1996 أصبحت جزءًا من الثقافة الجماهيرية وأصبح لدى العديد من الشركات مواقع إلكترونية. فكيف صارت الثورة الرقمية ظاهرة عالمية؟

يرجع ذلك إلى حد كبير إلى نجاح الشركات التي تستخدم التقنيات الرقمية وإلى التقدم في تقنيات النقل بما في ذلك شبكات الكمبيوتر والإنترنت والبث الرقمي، بدأت بلدان العالم المتقدم تشهد ازدهارًا اقتصاديًا طوال التسعينيات. بحلول عام 1999، كان لدى كل دولة تقريبًا اتصال بالإنترنت. وكان ذلك هو الوقت الذي أصبحت فيه الثورة الرقمية عالمية حقا، مع انتشار التكنولوجيات الرقمية إلى العالم النامي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبحلول أواخر عام 2005، وصل عدد مستخدمي الإنترنت إلى مليار شخص، وبحلول نهاية العقد نفسه، استخدم ثلاثة مليارات شخص في جميع أنحاء العالم الهواتف المحمولة. كان المزيد من الأفراد يستخدمون الإنترنت للتواصل والتفاعل مع المستخدمين والمنظمات الأخرى والوصول إلى المعلومات أو استخدامها أو إتاحتها، أو لمجرد الترفيه. أتاحت هذه التقنيات الجديدة للمستخدمين مشاركة الموارد وتطبيق مبدأ وفورات الحجم. بحلول 2010 وما بعده ، يشكل الإنترنت أكثر من 25 بالمائة من سكان العالم. كما أصبحت الاتصالات المتنقلة مهمة جدًا، حيث يمتلك ما يقرب من 70 بالمائة من سكان العالم هاتفًا محمولاً. أصبح الاتصال بين مواقع الإنترنت وأدوات الهاتف المحمول معيارًا في الاتصال. ومن المتوقع أنه بحلول عام 2015، سيتجاوز ابتكار أجهزة الكمبيوتر اللوحية أجهزة الكمبيوتر الشخصية بكثير مع استخدام الإنترنت والوعد بخدمات الحوسبة السحابية. سيسمح هذا للمستخدمين باستهلاك الوسائط واستخدام تطبيقات الأعمال على أجهزتهم المحمولة، وهي التطبيقات التي قد تكون أكثر من اللازم بحيث لا تستطيع هذه الأجهزة التعامل معها.

المجتمع المتعلم رقميا

نظرًا لأن التكنولوجيا أصبحت أكثر توجهاً نحو المستخدم وسهولة الاستخدام، أصبح الأفراد على جميع المستويات أكثر معرفة رقميًا وبدأوا في استخدام التكنولوجيا بطرق جديدة وفي عدد متزايد باستمرار من مجالات حياتهم. بحلول عام 2020، كان أكثر من نصف سكان العالم من مستخدمي الإنترنت النشطين. من وسائل التواصل الاجتماعي إلى التسوق عبر الإنترنت، ومن تطبيقات الويب التي تسمح بالعمل عن بعد إلى خدمات الترفيه عند الطلب، أعادت هذه الأنظمة تشكيل حياتنا اليومية إلى حد كبير. توفر هذه الأنظمة طرقًا جديدة لتعظيم فعالية الموارد المشتركة وبناء حلول موثوقة للمستخدمين الفرديين. لم يتم تصميمها لتسهيل جوانب متعددة من حياتنا فحسب، بل على نفس القدر من الأهمية، بدأ المستخدمون في القيام بدور نشط في إنشاء التكنولوجيا. وقد أدت هذه التطورات إلى إنشاء كمية هائلة من البيانات في الفضاء الرقمي، وبالتوازي مع ذلك، زادت القدرة على تخزينها بشكل كبير، مما دفع مجتمع اليوم إلى منتصف عصر المعلومات. لكن هناك فرق بين البيانات والمعلومات اذ يتم التفكير في البيانات باعتبارها "مادة خام"، أو حقائق غير منظمة؛ فعندما يتم تنظيم البيانات أو معالجتها بطريقة تجعلها مفيدة للمستخدم، فإنها تصبح معلومات تحمل معنى منطقيًا. فلماذا يهم هذا؟ نظرًا لأن التكنولوجيا سهّلت إنشاء كمية متزايدة باستمرار من البيانات وتخزينها ونقلها والوصول إليها، فقد أنشأت أيضًا أساليب وبنية تحتية للبيانات التي ستتم معالجتها وتصبح مدخلاً مهمًا للأنشطة الجديدة الموجهة نحو المعلومات. وكما رأينا خلال السنوات الماضية، أصبحت المعلومات "عامل إنتاج" مركزيًا، ولكنها أيضًا "منتج" يتم بيعه. كما تشكل الأنشطة المعلوماتية اليوم قطاعاً اقتصادياً كبيراً وجديداً يمثل الأساس للمرحلة القادمة في الثورة الرقمية مع ظهور التقنيات الجديدة. سنتحدث عنها أكثر في دورة التقنيات الناشئة. وفي الوقت نفسه، سنتابع في الفصول القادمة تطور وتقارب التقنيات التي مكنتنا من الوصول إلى هذه النقطة. فما هو الذكاء الاصطناعي؟ وما هي أصوله؟ لماذا الذكاء الاصطناعي مهم؟ وماهي استخداماته الرقمية؟ وما علاقته بالنت آب ؟

اختراع الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي هو عملية تقليد الذكاء البشري الذي يعتمد على إنشاء وتطبيق الخوارزميات التي يتم تنفيذها في بيئة حوسبة ديناميكية. هدفه هو تمكين أجهزة الكمبيوتر من التفكير والتصرف مثل البشر. ولتحقيق ذلك، هناك ثلاثة مكونات ضرورية: أنظمة الكمبيوتر والبيانات مع أنظمة الإدارة وخوارزميات الذكاء الاصطناعي المتقدمة (الكود). للاقتراب من السلوك البشري قدر الإمكان، يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى كمية كبيرة من البيانات وقدرة المعالجة. فما هي أصول الذكاء الاصطناعي؟

منذ القرن الأول قبل الميلاد على الأقل، سعى البشر إلى إنشاء آلات قادرة على تقليد المنطق البشري. تمت صياغة مصطلح "الذكاء الاصطناعي" مؤخرًا، في عام 1955 من قبل جون مكارثي. في عام 1956، نظم جون مكارثي وزملاؤه مؤتمرًا أطلق عليه اسم مشروع دارتموث البحثي الصيفي حول الذكاء الاصطناعي، والذي أدى إلى ظهور التعلم الآلي، والتعلم العميق، والتحليلات التنبؤية، ومؤخرًا التحليلات الإرشادية. كما ظهر مجال جديد للدراسة: علم البيانات.

تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي

ثلاث سمات رئيسية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

اتخاذ القرار الذكي

يمكن لمحاكاة الذكاء البشري بواسطة الآلات أن تستنتج حلاً سريعًا للمشاكل التي غالبًا ما تواجهها البشرية. يتم دعم الذكاء الاصطناعي من خلال تحليلات البيانات المتقدمة والتعلم الآلي، مما يعني أن الذكاء الاصطناعي يمكنه التعلم واكتساب رؤى جديدة بينما يستمر في التغذية بالبيانات الجديدة.

ومن خلال المدخلات المناسبة، يمكن للذكاء الاصطناعي التوصل إلى قرارات سريعة ودقيقة. بالإضافة إلى ذلك، تعمل خاصية الذكاء الاصطناعي على تعزيز الإنتاجية وتقليل الاعتماد على الدعم البشري مما يجعل الذكاء الاصطناعي مستقلاً بدرجة كبيرة وأداة ملائمة للاستخدام.

القصدية

غالبًا ما تُعتبر القصدية بمثابة السمات التقنية والوجودية لبرامج الكمبيوتر المستمدة من الخوارزميات وهندسة المعرفة. يمكن تفسير هذه السمة على أنها قدرة الذكاء الاصطناعي على تقديم رؤى من المعلومات في الوقت الفعلي والتفاعل بطريقة مشابهة لطريقة منشئيها ومستخدميها.

عادةً ما تعكس الاستجابات بقوة السياق الاجتماعي الذي يتواجد فيه المبدع والمستخدمون. بالإضافة إلى ذلك، مع تطور استيعاب البيانات وسعة التخزين وسرعة المعالجة والتقنيات التحليلية، يصبح الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على الاستجابة للقضايا بتطور متزايد. وهذا ما يميز الذكاء الاصطناعي كثيرًا عن الوظيفة الأساسية للآلات التي تقوم فقط بتنفيذ إجراءات محددة مسبقًا.

القدرة على التكيف والتنبؤ

يسهل التعلم الآلي على الذكاء الاصطناعي اكتشاف نمط البيانات التي تمت برمجتها مسبقًا، مما يمكّن قدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث التغيير الخاص به مع تغير الظروف. تعمل سمة القدرة على التكيف بشكل كبير على تعزيز التنبؤ واتخاذ القرار في الذكاء الاصطناعي.

ما أهمية الذكاء الاصطناعي؟

اليوم، يقوم البشر والآلات بتوليد البيانات بشكل أسرع مما يستطيع الإنسان استيعابها وتفسيره لاتخاذ قرارات معقدة. الذكاء الاصطناعي هو أساس كل تعلم الكمبيوتر ويمثل مستقبل عمليات صنع القرار المعقدة. أجهزة الكمبيوتر قادرة على حساب هذه المجموعات وأفضل التباديل الممكنة بكفاءة عالية، من أجل اتخاذ القرار الصحيح. يمثل الذكاء الاصطناعي بتطوره المنطقي والتعلم الآلي والتعلم العميق مستقبل صنع القرار.

استخدامات الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي موجود في حياتنا اليومية. فهو، على سبيل المثال، يستخدم من قبل خدمات الكشف عن الاحتيال في المؤسسات المالية، للتنبؤ بنوايا الشراء وفي التفاعلات مع خدمات العملاء عبر الإنترنت. هذه بعض الأمثلة:

الكشف عن الغش

 في الصناعة المالية، يتم استخدام الذكاء الاصطناعي بطريقتين. تستخدم التطبيقات التي تسجل طلبات الائتمان الذكاء الاصطناعي لتقييم الجدارة الائتمانية للمستهلكين. تعد محركات الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدمًا مسؤولة عن مراقبة واكتشاف مدفوعات بطاقات الائتمان الاحتيالية في الوقت الفعلي.

خدمة العملاء الافتراضية

تستخدم مراكز الاتصال للتنبؤ بطلبات العملاء والاستجابة لها دون تدخل بشري. يوفر التعرف على الصوت ومحاكي الحوار البشري النقطة الأولى للتفاعل مع خدمة العملاء. تتطلب الطلبات الأكثر تعقيدًا التدخل البشري. عندما يفتح مستخدم الإنترنت نافذة حوار على صفحة ويب ، غالبًا ما يكون محاوره عبارة عن جهاز كمبيوتر يشغل شكلاً من أشكال الذكاء الاصطناعي المتخصص. إذا لم يتمكن روبوت الدردشة من تفسير السؤال أو حل المشكلة، يتولى وكيل بشري المهمة. يتم إرسال فشل التفسير هذا إلى نظام التعلم الآلي لتحسين التفاعلات المستقبلية لتطبيق الذكاء الاصطناعي.

تطبيقات الذكاء الاصطناعي

هناك العديد من التطبيقات الواقعية لأنظمة الذكاء الاصطناعي اليوم. فيما يلي بعض حالات الاستخدام الأكثر شيوعًا:

التعرف على الكلام

يُعرف أيضًا باسم التعرف التلقائي على الكلام ، أو التعرف على الكلام بالكمبيوتر، أو تحويل الكلام إلى نص، ويستخدم التعرف على الكلام البرمجة اللغوية العصبية لمعالجة الكلام البشري إلى تنسيق مكتوب. تقوم العديد من الأجهزة المحمولة بدمج ميزة التعرف على الكلام في أنظمتها لإجراء البحث الصوتي - سيري، على سبيل المثال - أو توفير المزيد من إمكانية الوصول حول الرسائل النصية باللغة الإنجليزية أو العديد من اللغات المستخدمة على نطاق واسع.

خدمة الزبائن

يحل الوكلاء الافتراضيون وروبوتات الدردشة عبر الإنترنت محل الوكلاء البشريين طوال رحلة العميل. إنهم يجيبون على الأسئلة المتداولة حول موضوعات، مثل الشحن، أو يقدمون نصائح شخصية، أو منتجات البيع المتبادل أو اقتراح أحجام للمستخدمين، مما يغير طريقة تفكيرنا بشأن مشاركة العملاء عبر مواقع الويب ومنصات الوسائط الاجتماعية. تشمل الأمثلة روبوتات المراسلة على مواقع التجارة الإلكترونية مع وكلاء افتراضيين، وتطبيقات المراسلة، مثل سلاك وفيسبوك وماسنجر ، والمهام التي يؤديها عادةً المساعدون الافتراضيون والمساعدون الصوتيون.

رؤية الكمبيوتر

تتيح تقنية الذكاء الاصطناعي هذه لأجهزة الكمبيوتر والأنظمة استخلاص معلومات مفيدة من الصور الرقمية ومقاطع الفيديو والمدخلات المرئية الأخرى، وبناءً على تلك المدخلات، يمكنها اتخاذ الإجراءات اللازمة. هذه القدرة على تقديم التوصيات تميزها عن مهام التعرف على الصور.

مدعومة بالشبكات العصبية التلافيفية، تتمتع رؤية الكمبيوتر بتطبيقات ضمن وضع علامات على الصور في وسائل التواصل الاجتماعي، والتصوير الإشعاعي في الرعاية الصحية، والسيارات ذاتية القيادة في صناعة السيارات.

الذكاء المعزز والتصنيع الرقمي

تعمل الروبوتات التكيفية على معلومات جهاز إنترنت الأشياء ، والبيانات المنظمة وغير المنظمة لاتخاذ قرارات مستقلة. يمكن لأدوات البرمجة اللغوية العصبية فهم الكلام البشري والرد على ما يقال لها. يتم تطبيق التحليلات التنبؤية على الاستجابة للطلب، وتحسين المخزون والشبكة، والصيانة الوقائية، والتصنيع الرقمي. تعمل خوارزميات البحث والتعرف على الأنماط - التي لم تعد تنبؤية فحسب، بل هرمية - على تحليل البيانات في الوقت الفعلي، مما يساعد سلاسل التوريد على التفاعل مع الذكاء المعزز المولد آليًا، مع توفير الرؤية الفورية والشفافية.

التنبؤ بالطقس ومعرفة احوال المناخ

تعتمد هيئات البث على نماذج الطقس لإجراء تنبؤات دقيقة وتتكون من خوارزميات معقدة تعمل على أجهزة الكمبيوتر العملاقة. تعمل تقنيات التعلم الآلي على تعزيز هذه النماذج من خلال جعلها أكثر قابلية للتطبيق والدقة.

إكتشاف طبي لعيب خلقي

يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي أن تقوم بتمشيط كميات كبيرة من البيانات واكتشاف نقاط البيانات غير النمطية ضمن مجموعة البيانات. يمكن أن تؤدي هذه الحالات الشاذة إلى زيادة الوعي حول المعدات المعيبة أو الخطأ البشري أو الانتهاكات الأمنية.

النت آب والذكاء الاصطناعي

باعتبارها المعيار الذهبي في إدارة البيانات السحابية المختلطة، يدرك النت آب أهمية الوصول إلى البيانات وإدارتها والتحكم فيها. توفر صناعة النت آب بيئة موحدة لإدارة البيانات تمتد عبر نقاط النهاية ومراكز البيانات والسحب متعددة النطاق. فهو يسمح للشركات، مهما كان حجمها، بتسريع التطبيقات ذات المهام الحرجة، وتحسين رؤية البيانات، وتحسين حماية البيانات، وتحسين المرونة الوظيفية.

 كما تعتمد حلول النت آب للذكاء الاصطناعي على العناصر الأساسية التالية: يتيح برنامج الاستفادة من الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق محليًا وفي السحابة الهجينة. كما تعمل أنظمة ذات الفلاش الكامل على تسريع أعباء عمل الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق مع التخلص من اختناقات الأداء. كما يساعد برنامج الانتقاء على جمع البيانات بكفاءة على الحافة باستخدام نقاط نهاية إنترنت الأشياء ونقاط التجميع. كما يمكن استخدامه إنشاء نماذج أولية للمشاريع الجديدة بسرعة. فهو يسمح بتلقي بيانات الذكاء الاصطناعي وإرسالها من وإلى السحابة. ولقد بدأ النت آب أيضًا في دمج تحليلات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي في منتجاتها وخدماتها الخاصة، بما في ذلك الذي يستخدم مليارات نقاط البيانات والتحليلات التنبؤية ومحرك قوي للتعلم الآلي لتقديم توصيات دعم العملاء الاستباقية لبيئات تكنولوجيا المعلومات المعقدة. وهو تطبيق سحابي مختلط تم إنشاؤه باستخدام نفس منتجات وتقنيات النت آب التي يستخدمها عملاء لبناء حلول الذكاء الاصطناعي الخاصة بهم عبر مجالات متعددة.

خاتمة

" الذكاء هو القدرة على التكيف مع التغيير."

الذكاء الاصطناعي هو التكنولوجيا التي تقف وراء الثورة الصناعية الرابعة التي أحدثت تغييرات كبيرة في جميع أنحاء العالم. يتم تعريفه عادةً على أنه دراسة الأنظمة الذكية التي يمكنها تنفيذ المهام والأنشطة التي تتطلب ذكاءً على مستوى الإنسان. على غرار الثورات الصناعية الثلاث الماضية، يترك الذكاء الاصطناعي تأثيرًا مذهلاً على الإنتاجية. لقد برزت الثورة الرقمية في اختراع الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته ولقد غيرت ثورة الذكاء الاصطناعي الطرق التي يجمع بها الأشخاص البيانات ويعالجونها، فضلاً عن تحويل العمليات التجارية عبر مختلف الصناعات. بشكل عام، يتم دعم أنظمة الذكاء الاصطناعي بثلاثة جوانب رئيسية وهي: معرفة المجال، وتوليد البيانات، والتعلم الآلي. تشير معرفة المجال إلى الفهم والخبرة في سيناريو الحياة الواقعية حول سبب وكيفية حاجتنا إلى هندسة مهمة ما. يشير جانب البيانات إلى عملية إعداد قواعد البيانات المطلوبة للتغذية على خوارزميات التعلم. وأخيرًا، يكتشف التعلم الآلي الأنماط من بيانات التدريب، ويتنبأ بالمهام وينفذها دون أن تتم برمجتها يدويًا أو بشكل صريح. لا شك أن الثورة الرقمية قد أدت إلى تأثيرات اجتماعية واسعة النطاق وتغييرات واسعة النطاق في نمط الحياة. لقد أدت إلى زيادة وتحسين القدرة على التواصل والعثور على المعلومات المهمة. بالإضافة إلى ذلك، فقد جعلت العولمة ممكنة، مما أدى بدوره إلى إنتاجية أعمال أكثر فعالية وكفاءة. لسوء الحظ، يعتقد العديد من الناس أن الثورة الرقمية أدت إلى انخفاض الخصوصية الشخصية، وإضعاف الصحافة المهنية، وجعلت الفصل بين الحياة الشخصية والمهنية أكثر صعوبة. وبينما يزعم بعض الخبراء أن العالم قد انتقل من الثورة الرقمية إلى عصر المعلومات، يعتقد آخرون أن الثورة الرقمية قد بدأت للتو. والحجة وراء ذلك هي أن هذه التطورات الرقمية تعمل الآن على تغيير القطاع الصناعي. تعمل مجالات مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد وتصميم الكمبيوتر على تطوير المساهمات بشكل مستمر في العلوم، لا سيما في مجال تصميم الروبوتات. بعض هذه الروبوتات تعمل الآن مع البشر وبعض المنظمات تعمل مع الروبوتات فقط!

 في حين أن هذا قد يبدو كما لو أن الروبوتات يمكن أن تحل محل البشر في المستقبل القريب، إلا أن هذا التقدم التكنولوجي أدى في الواقع إلى زيادة إنتاج التصنيع. ومع الاختراعات الرقمية، أصبح البيع بالتجزئة عبر الإنترنت شائعًا جدًا أيضًا. يشتري الأشخاص باستمرار من تجار التجزئة عبر الإنترنت، ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه في النمو. لقد بدأت الثورة الرقمية مؤخرًا في التأثير على الصناعة الطبية أيضًا. سيكون هذا مهمًا بشكل خاص للطب الجيني، واستخدام المعلومات الجينية لخطط العلاج الشخصية. هناك شيء واحد مؤكد، وهو أن الثورة الرقمية غيرت حياة البشر، وجلبت معها جوانب إيجابية وسلبية. ومن المتوقع أن تستمر هذه التغييرات في النمو في المستقبل. فماذا ما يخبئ لنا المستقبل الرقمي؟ 

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

بقلم: آلان فور

ترجمة: أ. مراد غريبي

***

غالبا ما يشار إليها على أنها مصدر للقوة أو محفز للعواطف السياسية، لا تزال العواطف في السياسة غير مستكشفة. يقترح العالم السياسي آلان فور (Alain Faure)[1] تناول هذه القضية من زاوية المحاكمات والجروح التي عانى منها المسؤولون المنتخبون.

***

 

كما أظهر العالم السياسي كريستيان لو بارت (Christian Le Bart)[2] مؤخرا، من منظور اجتماعي تاريخي، لماذا تعتبر دموع السياسيين وضحكهم وغضبهم شيئا بعيد المنال في العلوم الاجتماعية (Le Bart 2018). الأعمال الأكاديمية التي تركز على التحول العاطفي والعنف الجسدي الرمزي للسلطة لم تتناول حتى الآن الموضوع إلا على الشرط المنهجي غير القابل للتفاوض المتمثل في عرض هذه المشاعر أو حتى تمثيلها، أي أنها تعبيرات مرئية وواضحة وقابلة للقياس الكمي. ولكن على مدى العقد الماضي، اهتمت التحقيقات الأصلية أيضا بالينابيع النفسية والحميمة التي تؤثر على الالتزامات السياسية. والهدف من ذلك هو مراعاة المشاعر والحماقات التي تشكل جزءا من التجارب الداخلية غير المرئية للعين المجردة، ولكنها قد تلعب دورا في تكوين الآراء، وفي بناء التمثيلات وحتى في السلوك السياسي. هذه هي الفرضية التي استخدمها بيير روزانفالون (Pierre Rosanvallon)[3] لتحليل أزمة عدم ثقة الفرنسيين تجاه السياسة عندما يشكك صراحة في المشاعر الشخصية للأسى والفوضى لدى الفرنسيين (Rosanvallon 2021).

في مجال العلوم السياسية، تركز العديد من الدراسات على الأجهزة العاطفية في الحركات الاجتماعية والمجالات الناشطة، ولكن دون مراعاة ما يسميه علماء النفس العواطف ذات الخبرة. في الآونة الأخيرة، رسم العلماء فرضيات حول كيفية استغلال الاستياء السياسي في أقصى درجات الطيف الحزبي.

من ناحية أخرى، لا توجد مجموعة من العلوم حول المشاعر السياسية لأولئك الذين يمسكون بالسلطة ويمارسونها. ومع ذلك، يبدو أن النخب السياسية تواجه محن عاطفية شديدة وكبيرة بشكل خاص. ومن هنا سؤال بسيط إلى حد ما في القراءة الأولى: إلى أي مدى تتداخل هذه التأثيرات الشخصية ذات الطبيعة الحسية والنفسية مع طرق ممارسة السياسة؟ ما هو الدور الذي تلعبه روافع الحميمية واللاوعي في المنافسة الانتخابية وفي فن الحكم؟ كيف، على سبيل المثال، تثير جروح احترام الذات والتمزقات الشخصية في حدوث هشاشة وعمى تؤدي إلى تحويل العمل السياسي؟

لاستكشاف هذا الطريق، سنبدأ من النتائج المستخلصة من الدراسات الاستقصائية التي أجريت حول ممارسة السلطة المحلية في فرنسا وإيطاليا واليابان وكندا (Faure 2021). التقينا وجها لوجه مع أكثر من مائتي زعيم سياسي من السلطات المحلية الرئيسية، مع قدر كبير جدا من الوقت لكل مقابلة تركز على التجارب العاطفية التي ربما ميزت مسارات حياتهم.

هذه هي البيانات،الدراسات الاستقصائية على مراقبة الحقائق الاجتماعية والهيمنة السياسية تتجاهلها أو لا تندمج في شبكاتها التحليلية. ومع ذلك، عندما تتحدث الحكومات عن السياسة على السطح، فإنها تروي قصة المشاعر التي تختلف عن التعبيرات العاطفية التي تظهر في الأماكن العامة. نحن نفترض أن هذه البيانات الحساسة تلقي الضوء على لغز طعم السلطة في ضوء جديد.

التوضيحات المنهجية في الترتيب هنا. لطالما أجريت المقابلات الفردية تحت وعد بالسرية وإخفاء هوية البيانات. لقد بدا لنا هذا الشرط، في الممارسة العملية، حاسما في الحصول ليس فقط على الكلمات الصادقة، ولكن أيضا على اعترافات حقيقية (سنعود إلى هذا). وتتيح النتائج المستخلصة من هذه الوثائق الحرفية فتح ثلاثة مجالات تعريفية. الأول يتعلق بالجروح والصدمات الموجودة في طفولة المسؤولين المنتخبين. تظهر الروايات التي تم جمعها بصمات عاطفية مدفونة غالبا ما تبالغ في تحديد مخاوفهم من قضايا النظام والسلطة والعدالة. أما المشروع الثاني فيتعلق بقصة الدهشة والحماس التي رافقت معاركهم الانتخابية الأولى. إن عرض المرء لنفسه في الساحة يثير بشكل واضح مزيجا قويا من الإثارة والفرح والفخر الذي يربط الالتزام السياسي باكتشاف مجتمع من الممثلين وكذا الارتباط العاطفي. وأخيرا، يتعلق المشروع الثالث بالروايات التي تصف مشاعر الحصانة، ولكن أيضا مشاعر العجز التي يعاني منها المسؤولون المنتخبون عندما يتولى هؤولاء  دور التمثيل في مكوناته الرمزية. يثير التجسد السياسي شحنة عاطفية مشبعة باليقين والعمى والحسرة. نحن نفترض أن تحليل هذه الأبعاد الثلاثة، التي لم يتم بحثها إلا قليلا في أبحاث العلوم الاجتماعية، يمكن أن يثري بشكل مفيد المعرفة الأكاديمية، وخاصة في العلوم السياسية، حول القضايا الكلاسيكية للتنشئة الاجتماعية والإقليمية والأهلية.

آثار وصدمات الطفولة

يتعلق اللغز الأول بالتجارب العاطفية التي تحدث في طفولة الأفراد والتي بمجرد أن يصبحوا بالغين، ستؤثر على تمثيلهم للجماعة والسلطة. في قصص الحياة التي يتذكرون فيها هذه التجارب، يصف الممثلون المنتخبون المشاعر الطفولية التي تترك آثارا. هذه العواصف العاطفية، لصدى العمل في علم النفس الإكلينيكي (Guéguen 2017)، تميز لحظة التنشئة الاجتماعية قبل السياسية التي تتميز بعدم نضج أدمغة الأطفال في مواجهة تعقيد عالم الكبار. في المقابلات التي أجريناها مع المسؤولين المحليين المنتخبين، خصصنا قدرا كبيرا من الوقت لسرد هذه الذكريات لمعرفة كيف تعلم المسؤولون المنتخبون عن النظام والعدالة والتضامن في طفولتهم. في حين أن الإجابات تعيدنا بشكل غير مفاجئ إلى تفرد كل مسار حياة، هناك حقيقة واحدة تستحق الذكر لتكرارها: يصر جميع محاورينا على كثافة الأعمال الدرامية الموجودة في قلب تاريخ أسرهم ومدرستهم. هذه الذكريات، التي تروي الأحداث التأسيسية والانفصال والصدمات، تحتل مكانا كبيرا عاطفيا. في الطريقة التي يتحدثون بها عن ذلك، يمكننا أن نرى أن هذه الجروح العاطفية قد ميزتهم في جسدهم. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن المسؤولين المنتخبين يربطون بشكل منهجي هذه الصدمات بما يعتبرونه حدة مبكرة لعدم المساواة والظلم والعنف في العالم. وأخيرا، هناك غياب تام للصلة بين طبيعة شهاداتهم وصورتهم الاجتماعية والسياسية. بغض النظر عن الجنسية والخلفية الاجتماعية والتوجه السياسي وحتى الجيل، يروي المسؤولون المنتخبون بعبارات متشابهة تماما المشاكل والأضواء التي تعكس تصورهم الطفولي للقوة والسلطة. والنتيجة غير متوقعة وتستحق التأكيد: فطبيعة البصمات العاطفية للأطفال لا ترتبط بالخيارات الحزبية والأيديولوجية التي سيعرضونها في مرحلة المراهقة وفي بداية مرحلة البلوغ.

وتتطلب شروط جمع هذه البيانات بعض التوضيح بقدر ما تحدد المنهجية المعتمدة النتائج. يعتمد بروتوكول المقابلة مع المسؤولين المنتخبين على الوعد بإخفاء الهوية الحرفي بشكل صارم، وخلال المقابلة، يتم تشجيع الثقة والتأمل وحتى تقديرها. لذلك يعتمد جهاز المقابلة هذا على عملية استماع يطلب فيها الباحث عمل ذاكرة محدد، مع تفاعلات تتذكر الأساليب الاستقرائية والاستبطانية للمعالج أو المحلل النفسي (Faure 2016). تتعلق البيانات التي تم جمعها بالمشاعر التي غالبا ما تكون مدفونة في الذاكرة أو لا توصف. يبلغون الباحث عن علاقة الأحداث للمسؤولين المنتخبين في المستقبل بالسلطة الأبوية والبنوة والموت والخوف والحب. وبالتالي، تتيح تقنية الأريكة الوصول إلى سجل عاطفي غير موثق إلا قليلا خارج الدوائر العلمية لعلم النفس السلوكي والتحليل النفسي. يكشف عن قدرة الأفراد على المرونة (Cyrulnik 2014).

بعد  مئات المقابلات التي تم تطبيقها بنفس البروتوكول، هناك نتيجتان بارزتان تستحقان الاهتمام. الأولى هي أن الروايات المؤلمة هي نفسها في البلدان الأربعة التي شملتها الدراسة، على الرغم من حقيقة أنها تعبر عن المشاعر وتعرضها بشكل مختلف تماما في سياقات ثقافية ومؤسسية مختلفة. في اليابان، على سبيل المثال، أظهر عمداء المدن الكبيرة والحكام الذين التقينا بهم، على السطح وللوهلة الأولى، غيابا تاما وصريحا للعواطف والمشاعر الشخصية، بينما في إيطاليا، كانت انفجارات الضحك والتواطؤ العلائقي فورية. ومع ذلك، في كلتا الحالتين، عندما تستكشف المقابلة الحديقة السرية للعواطف الأولية، يتم جمع ثقة حميمة متشابهة جدا حول الهوية والآخر والثقة بالنفس. يبدو الأمر كما لو أن بصمات الطفل كانت نتيجة ثوابت عاطفية تسبق المعادلات السياسية والإدارية والثقافية والتي، بطريقة معينة، تفلت منها أو تتجاوزها.

والنتيجة الثانية هي أن المسؤولين المنتخبين يعترفون بسهولة بأن هذه التجارب العاطفية التأسيسية لعبت في بعض الأحيان دورا حاسما في الطريقة التي يحكمون بها. ويتضح ذلك بشكل خاص في وصف حلقات إدارة الأزمات. في سياقات عدم اليقين والتوتر، عندما تكون الوساطات التقليدية غائبة أو ناقصة أو غير فعالة، أو عندما يستدعي الاستعجال خيارات واضحة، يعترف القادة السياسيون الذين نلتقي بهم بأن قراراتهم تكون عندئذ تحت التأثير المباشر للمعالم والقيم المستوحاة من هذه العلامات المؤلمة قبل السياسية. تتعلق الشهادات بالخيارات المتخذة في مجالات العمل العام المتنوعة مثل التعليم أو الأمن أو التضامن أو البيئة. الإشارة إلى الطفولة هي مرونة داخلية للمقاومة، في حالات الأزمات، لعالم الكبار المنطقي والعقلاني.

هذا هو اللغز الأول لدينا حول التجارب العاطفية والحسية للسلطة، وهو يؤثر دون استثناء على جميع السياسيين الذين وضعناهم "على الأريكة". إن المشاعر المؤلمة المحفورة في العقل الباطن ونفسية المسؤولين المنتخبين في المستقبل تشكل بعمق ذوقهم للسلطة وخوفهم السياسي من الحياة في المجتمع.

العواطف وأماكن الحماس

اللغز الثاني هو تسلسل المشاركة السياسية نفسها. عندما ينخرط الفرد لأول مرة في صراع سياسي، فإنه يتعرض لمصاعب عاطفية موثقة جيدا إلى حد ما من حيث رأس المال الاجتماعي وعلاقات الهيمنة. ومع ذلك، لا يعرف سوى القليل عن المادية الجسدية والحسية لهذا التعرض الأول للذات. ومع ذلك، فإن استطلاعاتنا تحدد تكرارا مذهلا هنا: جميع المسؤولين المنتخبين (المستقبليين) يروون محنة المعركة الانتخابية الأولى كتجربة استثنائية، مزعزعة للاستقرار ومبهجة على حد سواء. مهما كانت درجة أهليتهم بالمعنى الأنثروبولوجي (سنعود إلى هذا لاحقا)، يصر المرشحون الجدد على المتعة الشديدة التي شعروا بها في إلقاء أنفسهم جسدا وروحا في الحملة للمجادلة والإقناع والإحباط والإغواء والطعن والدحض والانتقام... تظهر روايات الحملة أنه من خلال الاجتماعات التحضيرية والمفاوضات والحشود، تنتج التجربة الانتخابية طفرة عاطفية تستدعي وتفاقم جميع الحواس. إنهم يتقدمون بأنفسهم، ويستثمرون أنفسهم دون حساب، ويقيمون صداقات غير قابلة للكسر، ويقومون بلقاءات حاسمة مع الموجهين ... في ذاكرتهم، أتاحت لهم الحملة الوصول إلى مسرح حساس مليء بالمبادرات والاكتشافات والتقلبات والمنعطفات. المعركة غير مؤكدة، فهي تتغذى على الوعود والآمال. تطرح الشهادات شكلا غير موثق من الحماس والدهشة: دخول السياسة هو تسلسل مشحون بالأدرينالين مشبع بتفاعلات لا تنسى. وتجدر الإشارة إلى أن النسيج العاطفي لهذه العناصر يوجد أحيانا في روايات السيرة الذاتية (Faure 2023). لفك رموز هذه البصمات الخاصة جدا، فتح المؤرخون منذ فترة طويلة مساحة للبحث في تاريخية التصورات الحسية (مثل آلان كوربان (Alain Corbin)[4] وهيرفي مازوريل (Hervé Mazurel)[5]). في صدى أعمال نوربرت إلياس (Norbert Elias)[6] وميشيل فوكو (Michel Foucault)[7]، تؤكد العديد من الأعمال، على سبيل المثال، أن التجارب الجسدية تقع مكانيا وزمانيا. وتستكشف مجلة حساسيات "Sensibilités" بشكل منهجي هذا الإدخال من خلال التأثيرات وعلاقة الأفراد بالحميمية والرغبة والموت. في هذا السياق الفكري، تقترح بعض الدراسات تقاربات تأديبية جريئة لربط التعلم الاجتماعي والنضج البيولوجي (Deluermoz et al. 2018). هذا الانجذاب العلمي للعالم الحساس لا يقتصر على التاريخ. يتم إجراء التهجين العلمي الأصلي أيضا في الطب النفسي حول دور الضوء (Deisseroth 2022)، وفي فلسفة الصور (Didi-Huberman 2023) وفي العلاقة الحميمة (Marin 2023)، وفي علم الاجتماع حول الدهشة الجماعية (Truc 2016) والأحلام (Lahire 2018).

يبدو لنا أن هذه الاستكشافات للحساسية يمكن أن تلهم العمل على السلطة وخاصة على الآليات الحسية والحساسية التي تميز دخول الأفراد إلى السياسة. هذا هو اللغز الثاني للمحاكمات الداخلية للسلطة. في مكوناتها الحساسة، فإن الثقة التي تم جمعها في استطلاعاتنا تنبئ دائما بظاهرة فريدة من الحماس وحتى الدهشة. من خلال التعرف على السياسة، يظهر الأفراد إحساسا بالإثارة والمتعة والفرح لكل من مجتمع الممثلين والمكان.

في هذه المرحلة، نختار منعطفا قصيرا في علم الطيور والفلسفة. في علم الآثار الخاص بها حول كيفية سكن الطيور في العالم، حددت فينشيان ديسبريت (Vinciane Despret)[8] أهمية الطريقة الجسدية والحسية التي تستثمر بها الطيور نظامها البيئي (Despret 2019). من خلال تحديد أحدث الدراسات التي تتساءل، على سبيل المثال، عن دور أصوات العصافير في الاتصال والتكيف مع البيئة، سلط الباحث الضوء على الدور الحاسم الذي تلعبه أجهزة الحماس الخاصة بهم. النطاق ليس فقط مكانا للدفاع عنه بدافع الضرورة، بل هي أيضا وقبل كل شيء مساحة من التعايش الحساس. بينما ركز علماء الطيور الاهتمام منذ فترة طويلة على الوظائف الحيوية للمعيشة والحماية والتكاثر، يشير الفيلسوف إلى العمل الأخير الذي يظهر أن تكامل الطيور في مساحة معينة مبني أولا وقبل كل شيء حول الوظيفة الرمزية للأغنية. تتنفس الطيور وتعلق نفسها ببيئتها في اهتزاز موسيقي تغذيه الإيقاعات والحركات والذكريات.

في علم الاجتماع، هذه الطريقة في إعادة النظر في مكان وعلاقة "الأحياء" بأراضيها والطبيعة هي موضوع أدب علمي جديد. يفكر المرء في الأعمال الرائجة حول أنطولوجيات الأرض التي تم تجسيدها مع برونو لاتور (Bruno Latour)[9]، أو تلك المتعلقة بالسياسة الكونية مع فيليب ديسكولا (Philippe Descola)[10] أو تلك المتعلقة بحياة النباتات مع إيمانويل كوكيا (Emanuele Coccia)[11] (Truong 2021). تتم دعوة الحساسيات إلى العلوم الاجتماعية على الملاحظة المزدوجة التي، من ناحية، ترتيبها شروط جو وروح الأماكن، ومن ناحية أخرى، أن هذا المجتمع (الذي يشمل عوالم الحيوان  والنبات) ينتج المعايير والقيم.

لكن هذا العمل لا يعالج إلا بشكل هامشي البعد السياسي للمعادلة. وبتعبير أدق، فهو جزء من شكل  السلطة يتم فيه تجاهل تأثيرات النخب السياسية في أحسن الأحوال، وفي أسوأ الأحوال استبعادها.

كل هذه الفرص تفتقر إلى العمل على الدور الذي يلعبه الحماس والفرح في المهن السياسية، أو على التسمم الأولي للمسؤولين المنتخبين الذين يلتزمون جسدا وروحا بالسياسة.

ماذا تخبرنا هذه العجائب والأهواء المتكررة في الشهادات؟ يقودنا السؤال إلى منطقتين رماديتين في تحليل المشاعر السياسية. الأول يتعلق بالأحاسيس الشخصية التي تمثل التجربة الأولى للمنافسة الانتخابية. لوصف هذا التسلسل، يتحدث الممثلون المنتخبون عن فرحتهم بفضح أنفسهم في الساحة الانتخابية، وابتهاجهم بتقاسم القيم، وحماسهم في إقناع الجمهور. عند وضعهم على خط المواجهة في قلب بيئة كثيفة بشكل خاص في التفاعلات البشرية، يشارك المرشحون في فوران عاطفي سيبقى محفورا إلى الأبد في ذاكرتهم. تعطي مقالات بليندا كانون (Belinda Cannone)[12] عن ينابيع العاطفة بعض الأدلة على هذه الديناميكية. على وجه الخصوص، يأخذ المؤلف المسار الأدبي والروائي لتفصيل أسرار المطلعين حيث "توجد الرغبة دائما مع الآخر ومن أجله". تخبرنا عمليات الاستيلاء على الحملة الأولى عن العلامات التي ستصبح نقاطا مرجعية في مهنتهم السياسية المستقبلية.

تتعلق المنطقة الرمادية الثانية بالنطاق العاطفي للسياسة، وتأثير المكان الذي يتم فيه اختبار رغبات وعجائب من هم في السلطة.

في المنافسة الانتخابية، ينخرط المرشحون في مساحة معينة بحماس، وغالبا حتى في حال تمجيد بالمعنى الحشوي للمصطلح، يسكنون منطقة من خلال الانغماس في المكونات المادية والثقافية والرمزية للمكان. وهكذا يبدو أن الحماس مع الآخرين يعمل في شركة واقعية: تتجسد الكلمات والإيماءات والمواقف في قلب نظام سياسي محلي محدد (Faure 2022). سوف نستلهم هنا من تحليلات الفيلسوف بابتيست موريزوت (Baptiste Morizot)[13] عندما يدعو المحللين إلى فصل تأثير العجائب. بقوله : يمثل الحماس كلا من "فرحة الوجود، وأن تكون جزءا منه".

الأثقال العاطفية للتجسيد السياسي

أخيرا، يتعلق اللغز الثالث على وجه التحديد بتحليل التسلسل السياسي الذي يجسد فيه الحكام وظيفتهم من خلال الإفراط في شخصنتها وفي جميع أشكال التجاوزات على المستوى العلائقي. بعيدا عن الكاميرات والميكروفونات، تبدو الحياة السياسية مثقلة بالعواطف والدوافع والإهانات والخيانات. هذا ما وراء الكواليس مكتوب بشكل جيد في مسلسلات شهيرة مثل Black Baron أو Borgen: يكمن قلب المؤامرات السياسية في الطبيعة الانتيابية للعلاقات الشخصية.

يوثق السياسيون الآن الطريقة التي تسلط بها الأعمال الخيالية الضوء على ممارسة السلطة (Lefebvre and Taïeb 2020). تتخلل الحياة اليومية للمسؤولين المنتخبين مشاعر عاطفية ومتفاقمة حيث تتشابك أسئلة التمركز حول الذات والمواقف الجسدية والحسرة والخيانة. تتم دعوة الحميمية والمنزل من خلال الروابط المضطربة بين الجسد والجنس والسياسة. تتخلل هذه العلاقات المهنة السياسية، وربما حتى تشترطها (Benedetti and Dupy 2023). نظرا لأن المدعووين يجسدون وظيفتهم في العاطفة، وأحيانا إلى حد عدم التعقل أو الهستيريا أو جنون العظمة، يبدو من الضروري تفصيل طبيعة ومنطق هذه الأحمال العاطفية بشكل أفضل.

للمضي قدما في هذا المسار، يتمثل أحد الخيارات في وضع نفسه في مكان المسؤولين المنتخبين، على غرار المؤرخين الذين يضعون أنفسهم في الذاتية والعاطفية من وجهة نظر الجهات الفاعلة التي تمت دراستها (Jablonka، 2014).

إن سياسة الأنا للمسؤول المنتخب ليست فقط نتاج السمات الشخصية والوضع الاجتماعي، بل هي أيضا مزورة في تجربة حساسة من الأهلية والمنافسة السياسية. تجدر الإشارة هنا إلى أنه في البداية، تم تطوير مفهوم سياسة الأنا من قبل العالم السياسي كريستيان لو بارت (Christian Le Bart)  لتأهيل استراتيجيات الاتصال التي تركز على الهشاشة الرحيمة. إنه الاستنتاج  من أجل إعادة انتخابهم، حيث يبالغ المسؤولون المنتخبون في أوراق التعاطف والقرب من الناخبين (Le Bart 2013) كما يؤكد أن الميل إلى سرد قصة الإخلاص والمثالية والأصالة في حياتهم المهنية ليس مجرد مسألة استراتيجية أو تلاعب. تزامن هذا التطور مع صعود الفردية، وهي الفترة التي فقدت فيها الأحزاب والهيئات الوسيطة شرعيتها. يتعامل الناخبون مع الانتخابات بعدم الثقة والسخط والغضب. وللتمسك بهذه الديمقراطية العاطفية في طور التكوين، يجب على  قادة الحكومات  تفضيل التعاطف من خلال التعلم، واستخدام عبارة جميلة من عالم الاجتماع 'لبكاء من أجل الحكم".

إن نهج الأنا السياسية يجعل من الممكن فك رموز التجاوزات العاطفية للمهنة السياسية وفهم أفضل للتسمم والعصاب الناجم عن التجسد. ومن المؤكد أن الشرعية المستمدة من صندوق الاقتراع تستند إلى برنامج انتخابي، وإلى علاقات القوة الحزبية، وإلى المهارات الإدارية. ولكن في جميع الشهادات، يصر المسؤولون المنتخبون على لعب الأدوار التي ينظمها الشعور المتناقض بالإعجاب والنفور الذي يرسله ناخبوهم إليهم باستمرار.

يذكرنا هذا الوضع بمراجعة نقدية قاسية بشكل خاص لكتاب بيير كلاستر (Pierre Clastres)[14]، المجتمع ضد الدولة (La société contre l'Etat). دافع عالم الأنثروبولوجيا (دون جدوى مع علماء السياسة) عن فكرة أن السلطة السياسية للزعيم في جوهرها ليست قسرية، ولكنها مبنية في علاقة ثقافية وجمالية وحسية مع المجتمع (Clastres 1977). بعد عشر سنوات، تم تطوير فكرة واجب القائد في التحدث المرتبط بالميول الإيمائية والخطابية من قبل مارك أبيليس (Marc Abélès)[15] في مسحه للحياة السياسية المجتمعية والكانتونية في مقاطعة يون(أوكسير Auxerre) (Abélès 1989).

يوضح عالم الأنثروبولوجيا كيف أن الانتخابات تشبه طقوس تكريس الموافقة على السلطة، على معايير تختلف اختلافا كبيرا من بلدية إلى أخرى. ويشدد على أن الأهلية الإقليمية، بالمعنى الأنثروبولوجي للمصطلح، تسبق وتحدد قواعد التمثيل السياسي. والمنافسة الانتخابية هي مسرحية ظل بقدر ما يتم الاختيار في المراحل الأولى وعلى أساس معايير تجسيد بعيدة كل البعد عن منطق الإدارة أو التمثيل. بعد خمسة عشر عاما، وضع الباحث نظرية هذه الفيزياء الدقيقة للسلطة من خلال دعوة المحللين للتفكير في التمثيل خارج الدولة (Abélès 2014). لكن هذا التيار من التحليل لم يزدهر حقا.

في مجال العلوم السياسية، تظل معظم الأبحاث حول النخب السياسية المحلية مرتبطة بالنماذج التفسيرية التي تميز دراسة آليات الهيمنة والاستغلال والتكاثر الاجتماعي (Douillet and Lefebvre). يتعلق لغزنا الثالث على وجه التحديد بهذه الرمزية غير الموثقة بشكل جيد للأعباء العاطفية والرمزية الزائدة التي يجسد منها المسؤولون المنتخبون إقليما. هذه النقطة العمياء في التحليلات تدعو إلى تحول في النظرة التي تعكس جزئيا النظرية الشهيرة لجثتي الملك التي اقترحها إرنست كانتوروفيتش في عام 1957. في ذلك، أوضح الفيلسوف أن الملك كان بالتأكيد إلهيا بنعمة القوة التي مارسها ونقلها، كضامن أزلي لموافقة الأفراد على السلطة. لكنه أضاف أن الملك كان لديه أيضا بعده الجسدي وغير معصوم، مصنوع من اللحم والأهواء، وأن رعاياه يحكمون باستمرار على سلوكه ومواقفه من خلال هذا المقياس. هذه الازدواجية الروحية والجسدية موجودة باستمرار لدى المختارين. يتم تملقهم لقدرتهم الرمزية على تجسيد المجتمع، ولكن يتم الحكم عليهم وانتقادهم باستمرار بسبب طريقتهم الجسدية في الحكم. تنبع الإثارة والتجاوزات الغامضة للتجسيد السياسي من هذا الكوكتيل الملتبس.

الضعف البشري..

"ليس فقط مسموح  للسياسيين الشعور والتعبير وحتى التراجع، ولكن يمكنهم القيام بذلك لأسباب تهمهم شخصيا. الضعف البشري مقبول سياسيا" (Le Bart 2018)

في فرنسا، ظل مكان العواطف في الساحات السياسية لفترة طويلة بالنسبة للعلوم السياسية موضوعا ثانويا للدراسة، في أحسن الأحوال غريبا أو تقنيا، وفي أسوأ الأحوال غير شرعي، على الرغم من العمل الرائد في علم الاجتماع السياسي (Braud 1971، Ansart and Haroche 2007).

في الختام،  كانت هناك استطلاعات مبتكرة على مدى العقد الماضي تركز على المشاعر التي تم التعبير عنها وعرضها من زوايا استغلالها السياسي وقدرتها على تعزيز التحرر (Traïni 2019، Blondiaux and Traïni 2018)، لكن لدينا القليل من المعلومات عن المشاعر، ربما لأن هذه البيانات الحساسة تطرح مشاكل منهجية ونظرية هائلة عندما يتعلق الأمر بفهرستها.  تشييئها وتصورها.

ولكن هل من الممكن الاستغناء عن أي جدل علمي حول الديمقراطية الحساسة على أساس أن التجارب الداخلية للسلطة هي أرض مجهولة؟ لا يوجد نقص في الأمثلة في الأخبار السياسية، حيث يبدو أن ممارسة السلطة مرتبطة بهذه الآليات الحميمة والحسية. على المستوى الوطني، هناك العديد من الأمثلة على الحكومات التي تنتقل فجأة من صورة المنقذ إلى صورة الظالم، الذين يعزلون أنفسهم بشكل جذري، والذين ينخرطون في اتصالات مفرطة شخصية داخل الشبكات الاجتماعية ... تتيح التحقيقات الغامرة أيضا مراقبة الانجرافات النرجسية أو المسيانية أو الأنانية. كما تحفز العواطف القوية السلوكيات التي تحد أحيانا من المعاناة المرضية والعقلية. فيفكر المرء في الإرهاق في ممارسة السلطة (كما هو الحال في الدنمارك) والعنف المفرط بين الأشخاص لحروب الخلافة داخل الهيئات الحزبية، ولكن أيضا في استراتيجيات الانسحاب الجديدة القائمة على النوع الاجتماعي على أساس المسؤولية (مثل تلك التي قام بها الوزراء الاسكتلنديون والنيوزيلنديون الأوائل).

في ختام كتابه عن عواطف السلطة، شدد كريستيان لو بارت على أن "نقاط الضعف البشرية" للإنسان السياسي هي في قلب اللعبة السياسية المعاصرة ويجادل من أجل القيام بعمل استكشافي يتجاوز التناقضات الثنائية، التي تم انتقادها بالتأكيد، ولكنها مستمرة، بين العقل والعاطفة، بين الحميمي والسياسي. إن الصدمات والحماس والعمى للمسؤولين المنتخبين كلها ألغاز علمية تتيح لنا الفرصة للمغامرة في هذا.

***

.........................

* آلان فور، في 23 يناير2024م. عن مجلة .حياة الأفكار

[1]  أستاذ العلوم السياسية فرنسي، باحث ومدير البحوث في العلوم السياسية في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS1). وهو عضو في مختبر Pacte (جامعة غرونوبل ألب - معهد الدراسات السياسية في غرونوبل - CNRS).

[2]  أستاذ العلوم السياسية في جامعة رين بفرنسا وصاحب كتاب عواطف السلطة الصادر سنة 2018.

[3]  مؤرخ وعالم اجتماع فرنسي. يركز عمله بشكل أساسي على تاريخ الديمقراطية والنموذج السياسي الفرنسي، وعلى دور الدولة ومسألة العدالة.

[4]  مؤرخ فرنسي، متخصص في القرن التاسع عشر في فرنسا. لقد أدى عمله إلى تقدم كبير في تاريخ الحساسيات الذي يعد أحد المتخصصين فيه على مستوى العالم.

[5]  مؤرخ وموسيقي فرنسي. مؤرخ للجسد والحساسيات والخيال، بحوثه مكرسة لتاريخ الأخلاق الأوروبية  طيلة القرن التاسع عشر الميلادي.

[6]  عالم اجتماع بريطاني ألماني من أصول يهودية وأحد كبار المفكرين في القرن العشرين، هو مؤلف كتاب حضارة الأخلاق

[7]  فيلسوف فرنسي ومؤرخ للأفكار وعالم نفس وعالم اجتماع ومنظر سياسي.

[8]  عالمة نفس بلجيكية وفيلسوفة العلوم، أستاذة في جامعة لييج.

[9]  عالم اجتماع فرنسي وعالم أنثروبولوجيا وعالم لاهوت وفيلسوف للعلوم، صاحب كتاب سياسات الطبيعة.

[10]  هو عالم أنثروبولوجيا فرنسي. نجل الكاتب والمؤرخ الإسباني جان ديسكولا، جعله بحثه الميداني في منطقة الأمازون الإكوادورية، أحد الشخصيات الرائدة في الأنثروبولوجيا.

[11]  فيلسوف إيطالي المولد ومحاضر في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية.

[12]  روائية وكاتبة مقالات فرنسية من مواليد تونس العاصمة، حاصلة الدكتوراه ومحاضرة في الأدب بجامعة كان الفرنسية.

[13]  هو أستاذ فلسفة فرنسي ومحاضر في جامعة إيكس مرسيليا.

[14]  وهو عالم إثنولوجي وأنثروبولوجي فرنسي، وكان باحثا في CNRS، وعضو في مختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعية ودرس في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. كان مفكرا بقلم حاد ونبرة جدلية في بعض الأحيان، ويعتبر تحرريا وفوضويا.

[15]  هو عالم أنثروبولوجيا وإثنولوجي فرنسي. يشغل حاليا منصب مدير الدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (EHESS) منذ عام 2005، وهو ملحق بمختبر أنثروبولوجيا المؤسسات والمنظمات الاجتماعية (LAIOS) ومدير الأبحاث في CNRS.

 

قلنا في مقدمة الموضوع أن في الأسلام فلسفة سياسية لأن ما قدمه هو أحكام وقواعد كلية في أكثره، وهذا هو طابع الفلسفة وأختلافها عن العلم، فالفلسفة تهتم بالنظرة العامة بالتعبير عن فكرة معينة، والعلم يهتم بالقوانين والفنون في التعامل مع الموضوع أو القضية التي يُتَعامل معها، فمثلاً فلسفة الأقتصاد شيء وعلم الأقتصاد شيء آخر، فنرى هناك فلسفة أقتصادية أشتراكية وأخرى رأسمالية، وثالثة مختلطة وهكذا، في حين أن علم الأقتصاد واحد عند كل المدارس الأقتصادية، فمثلاً قانون العرض والطلب، قانون الغلة المتناقصة وقانون باركنسون، وغيره من قوانين علم الأقتصاد . .

تعريف القاعدة الكلية: (قضية كلية منطبقة على جميع جزئيتها) (قواعد الفقه الكلية:إبراهيم علام). ومن المهم الأشارة الى أن القاعدة الكلية في الأسلام تستند الى مصادرها الخاصة، وهي القرآن والسنة النبوية، والعقل والعرف . والقواعد الكلية في الأسلام مُقسمة حسب الميدان الذي تشتغل عليه، ومنها ما تشتغل على أكثر من ميدان، فهناك ميدان عبادي، وهناك عقدي وأخلاقي، وأقتصادي وأجتماعي وسياسي. فالفقه السياسي يُبين للحاكم والمحكوم، وللعاملين في الدولة والحزب السياسي الأسلامي أحكام الأسلام في المجال السياسي، ومن خلالها يتعين المنهج والهدف في ميادين العمل والسلوك السياسي، لكي يكون له أطار يميزه عن غيره من الأحزاب والأنظمة السياسية، كما أن هذه القواعد تمنح الفقهاء والعاملين في الحقل السياسي الأسلامي مرونة كبيرة للتعامل مع المتغيرات والتحولات والمشاكل المستحدثة،  والمتسارعة، ومن ميزات القواعد الكلية في الفقه السياسي المرونة، والسعة الكبيرة ومنها  مايقع ضمن منطقة الفراغ التي تتيح للفقيه أو المفكر الأسلامي أن يضع الكثير من الأحاكم في المجال السياسي، بشرط أن تدور مدار القواعد والضوابط العامة التي سنذكرها في هذا البحث، وهي تختلف عن كليات العبادة التي تختص بالعبادات، وهي تتصف بالمحدودية والصلابة. .

أن سعة الحقل السياسي وما يتصف به من مرونة عالية، وتندرج تحته الكثير من المستجدات والوقائع المستحدثة، والحاجات المتجددة للأنسان، هو من أكسبها هذه الطبيعة المرنة، وجعل من الأداة العقلية في أستنباط الأحكام المتعلقة بالمجال السياسي أحد الأدوات المهمة، ولهذا السبب، وتقدير لهذه المهمة وما تتطلبه من مرونه، جعل الأمام الصادق (ع) يقول في هذا الصدد ( إنما علينا أن نُلقي أليكم الأصول، وعليكم أن تفرعوا )(وسائل الشيعة ج27،ص62 )، وقد قالها أيضاً الأمام الرضا (ع) (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع) (وسائل الشيعة: الحر العاملي)، فالقواعد الكلية حقل يفتح آفاق واسعة في إيجاد أجوبة شافية ووافية للمشاكل والمواقف والحاجات المستجدة، ضمن الأطار التي حددتها هذه القواعد، والتي تجعل من الحلول ذات طابع، وضمن أطار ولون أسلامي يميزه عن غيره من الفلسفات والأنظمة الغير أسلامية،.

وهنا ينبغي أن نذكر هذه أو بعض القواعد الكلية في الفقه السياسي، والتي تعتبر الأصول والمرتكزات التي نبني عليها الفروع، ومن خلال هذه القواعد الكلية للفقة العام والسياسي يستطيع العلماء والمفكرون الأسلاميون والمتخصصون أن يؤسسوا نموذج سياسي يلبي حاجات الناس، وما يفرضه مقام الحال السياسي في بُعديه المحلي والدولي، وسوف نقدم بعض الشرح لهذه الكليات، وبشكل مختصر لأن المقام لايسمح بأعتبار مانقدمه في هذه الورقه كمقالة ترتقي لمستوى البحث، لكي نحيل الباحث والقاريء الكريم للأطلاع على كتب كثيرة تخوض في هذا المضمار يمكنهم من خلالها التوسع والأطلاع. .

من القواعد الكلية في الفقه السياسي الآتي:

1- قاعدة لاضرر ولا ضرار، وتحت هذه القاعدة تندرج عدة عناوين ثانوية منها

أ- الضرر لايزال بمثله

ب- الأصل في المنافع الحل، وفي المضار المنع

ج- الضرورات تبيح المحضورات

د- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف

ذ- التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.

هذه القاعدة الكلية يمكن تطبيق عليها الكثير من الجزئيات، وتتسع للكثير من التطبيقات، ولكن نحن نختصر لبعض تطبيقاتها هنا . كلمة الضرر لا تحمل أكثر من معنى ألحاق الأذى، وهو أما أن يكون ضرر معنوي أو مادي، والضرر قد يقع على الفرد، ويشمل الضرر بكرامته، وماله، وجسده، وكذلك على الجماعة، بالأضافة على البلد، ويشمل الضرر على سيادته وحرمة أراضيه، وثروته، ومسؤولية الحاكم،والنظام السياسي أن لا يسمح بوقوع الضرر على المواطن والوطن، ويمنع كذلك وقوع الضرر على البلدان الآخرى، وهذا ما يُعلق عليه اليوم بمصطلح (حُسن الجوار )، وهو مبدأ سياسي تحرص الدول على تطبيقه، وكذلك تدعو له هيئة الأمم المتحدة وتحث الدول المنتمية أليها، وهو مبدأ يساهم في أستتاب الأمن، وأحلال السلام في المنطقة والعالم. فهذه القاعدة الكلية تشتمل تطبيقاتها في الفقه العام، والفقه السياسي الخاص، وتعتبر قاعدة ذهبية لما تشتمل من رعاية للحقوق، ومنع للتجاوزات . وأن لهذه القاعدة أصل في النص الديني، وهو الحديث النبوي (لاضرر ولا ضرار) رواه أبي سعيد الخدري عن رسول الله، ورواه مالك في مسنده، وأبن ماجه، وهنا نُشير الى العهد الذي عهد به علي بن أبي طالب ع الى واليه في مصر (مالك الأشتر) حيث أشار الى هذه القاعدة الكلية في الحكم، فجاء بوصيته لمالك الأشتر (ولاتنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، وأجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن ..) ويقول في نفس وصيته لمالك (وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع)، وهذه وأن كانت تعبير عن سياسة أقتصادية، ولكنها في نفس الوقت فيها ما مايدفع الضرر لكل الأطراف سياسياً، وهناك الكثير من الجزئيات التي ينطبق عليها هذا المبدأ سياسياً، إلا أننا نكتفي بما يسمح به المقام في هذا البحث.

2- قاعدة المساواة:جاء عن النبي ص في خطبة الوداع (أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد،كلكم لآدم وآدم من تراب، أن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت)، وفي حديث نبوي يقول (الناس سواسية كأسان المشط).

كما يمكننا الرجوع الى النص التأسيسي الأول، وهو القرآن الكريم، حيث تنص الآية وبشكل واضح وجلي على أصل المساواة في القيمة الإنسانية بين بني البشر، جميعهم، وبين الجنسين من ذكر وأنثى (يا أيها الناس اتقوا رَبكم الذي خَلقَكم من نفسٍ واحدة..)(النساء:1 )، كما أن النص القرآني واضح بالمساواة بين كل البشر والمجتمعات (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شُعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم...)(الحجرات:13)، هذا على مستوى النصوص، أما على مستوى التطبيق، فهناك الكثير من الوقائع التي تشهد على تطبيق مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع، ولعل ذكر واحده منها، وذلك في طلب أخ خليفة المسلمين عقيل من أخيه علي بن أبي طالب ع زيادة في حصته من الحنطة فأبا عليه ذلك، والتاريخ نقل لنا أمتعاض أخيه منه لمساواته مع الرعيه، فهجره الى معاوية بن أبي سفيان، ولايسعنا ذكر الكثير من الوقائع لضيق المقام . فالمساواة أمام القانون مبدأ أسلامي واضح، ويمكن سوق حادثة الأمام علي ع في تنازعه مع اليهودي وتقدمُهما للقضاء معاً على حد سواء، وأعتراض أمير المؤمنين علي ع على القاضي حين كناه لدليل صارخ على تأكيد وحرص الأسلام على المساواة بين بني البشر، فالمساواة أمام القانون أنجاز عظيم لحقوق الإنسان حققته البشرية، حيث جاء في المادة الأولى في الأعلان العالمي لحقوق الإنسان مايلي ( يولد جميع الناس أحراراً في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يُعاملوا بعضهم بعضاً بروح الأخاء)، وجاء في المادة العاشرة من الأعلان العالمي (لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين...)، فالأسلام له قصب السبق في إقرار مثل هكذا قوانين، وتطبيقها على أرض الواقع . يتبع

***

أياد الزهيري

 

وكات الأنباء

أقر مجلس النواب العراقي، أمس السبت (27 / 4 / 2024)، قانوناً يجرّم العلاقات المثلية ويعاقب مرتكبيها بالسجن لفترات تصل إلى 15 عاماً، في خطوة قال إن الغاية منها "الحفاظ على القيم الدينية".

وذكرت رويترز أن قانون "مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي"، يهدف إلى الحفاظ على "كيان المجتمع العراقي من الانحلال الخلقي ودعوات الشذوذ الجنسي التي غزت العالم".

ويحظر القانون العلاقات المثلية ويفرض عقوبة "بالسجن لمدة لا تقل عن 10 سنوات ولا تزيد على 15 سنة على مرتكبيها"، وينص على السجن لمدة لا تقل عن 7 سنوات لأي شخص يروج "للبغاء أو الشذوذ الجنسي".

كما يفرض القانون الذي حظي بدعم الأحزاب الشيعية المحافظة (أكبر ائتلاف في مجلس النواب العراقي)، عقوبة السجن "لمدة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات على أي شخص يغير جنسه بيولوجياً أو يرتكب ممارسة مقصودة للتخنث أو يروج له".

توطئة

 بدءا.. نحن مع أي اجراء يهدف الى الحفاظ على الأخلاق بمعناها الراقي. ولكننا لسنا مع اجراء يخص ملايين العراقيين وسمعة الدولة العراقية ما لم يكن للعلماء والمفكرين رأي في الظاهرة التي اتخذ البرلمان العراقي اجراءا قانونيا يتضمن عقوبات بالسجن او الاعدام.

 ما حصل في قرار مجلس النواب الخاص بالجنسية المثلية، يثير مفارقتين:

الأولى: انه اشار الى الحفاظ على" القيم الدينية" و"كيان المجتمع العراقي من الانحلال الخلقي"، فيما الكارثة الحقيقية التي اصابت المجتمع العراقي هي ما حصل للاخلاق والقيم من تدهور في العشرين سنة الأخيرة اوصل الى ان يصبح الفساد الذي كان يعدّ خزيا في الاخلاق العراقية.. الى فعل مشروع وانتهاز فرصة!، وضطرار الفرد إلى أن يعرض نفسه سلعة في سوق السياسة الذي يجبره على التخلي عن قيمه الإنسانية والعمل بما يأمره به مصدره السياسي، وايصال الوضع العام بالعراق الى أن يكون طاردا للذين يمتلكون منظومات قيمية صحية، بخاصة العلماء والمفكرين والمتدينيّن المتنورين والمثقفين والفنانين.

 والثانية: ان مركز الأبحاث الفرنسي كشف عن وجود 36 ملياردير، معظمهم كانوا فقراء.. وأن من بين هؤلاء من كان وراء قرار مجلس النواب!، غالبيتهم منتمون الى احزاب اسلامية!

الجنسية المثلية من منظور علمي

على مدى اربعين سنة.. كنت قد عاصرت ما حدث بالمجتمع العراقي من ظواهر، واجرينا دراسات الميدانية سواء في ميدان جرائم القتل البشعة، البغاء، المخدرات، العنف، أو المثلية.. توصلنا فيها الى الحقيقة الأتية:

"حين يمر المجتمع في ازمة حادة، فأنه ينتج عنها ظاهرة سلبية، يكون الشباب اكثر ضحاياها".

دليل ذلك، ان حالات البغاء ازدادت زمن الحرب العراقية الايرانية، وظهرت ايضا ما اصطلح في حينها على تسميتها شعبيا" (طنطا).. وتعني الشباب المتميعين الذين يستخدمون (المكياج) لتجميل وجوههم، وزرق الهرمونات لتكبير الصدر.. والتشبه بالنساء في تصرفاتهم فيصفهم الناس بــ (المخنثين) أو (المثليين) أو (الشاذين جنسيا")، وقد التقينا بهم وقدمنا دراسة علمية عنهم رفعت الى الجهات العليا واخذت بتوصياتها!.. في مفارقة ايضا، أن النظام الديكتاتوري كان يستعين بالعلماء في دراسة الظواهر الاجتماعية السلبية، ويأخذ بتوصياتهم ومقترحاتهم، فيما النظام الديمقراطي يستبعدهم ويعتمد فقط على العقل السياسي المصاب،معظمه، بالدوغماتية!

الأسباب العلمية للمثلية الجنسية

اولها: اسباب اسرية تتعلق باساليب تنشئة خاطئة في الطفولة، مصحوبة بانعدام التوجيه والارشاد بمرحلة المراهقة، والشعور بالضياع بمرحلة الشباب.

وثانيها: اسباب تتعلق بالتحولات الديمقراطية واشاعة الحرية، وظهور منظمات المجتمع المدني التي تطالب باحترام حقوق الانسان. واعتقد ان حالات (المثلية) هذه صار بين افرادها ما يشبه التنظيم الذي يهدف الى انتزاع الاعتراف بحقوقهم كما هو الحال في عدد من المجتمعات الغربية، دون اخذهم باعتبار ان المجتمع العراقي مجتمع اسلامي له قيمه التي تختلف عن قيم المجتمعات الغربية. وسبب اخر اعتقد انه الارجح والاذكى، هو ان هؤلاء (المثليين) يريدون ان يعلنوا عن انفسهم ليكشفوا للعالم الغربي كم هم مضطهدون ومستهدفون بالقتل لعلهم يحصلون على لجوء في دولة اوربية، ويأتي القانون الأخير ليؤكد حجتهم.. وانتظروا ما سيفاجئكم! بعد تصريح الخارجية البريطانية بأن القانون (خطير ومثير للقلق) وتصريح الخارجية الأميركية بأن القانون (سيضعف قدرة العراق على تنوع اقتصاده وجذب استثمارات أجنبية).

 وثالث الاسباب: هو ان الكثير من حالات المثلية هذه نضعها في الطب النفسي تحت مصطلح (اضطراب الهوية الجنسية).. وتعني تحديدا" ان الفرد " المثلي " يشعر انه ولّد في الجسم الخطأ. فالولد يشعر نفسيا" انه انثى ولكنه مولود في جسم ذكر، وهنا يحصل اضطراب بين هويته النفسية ومشاعره الانثوية وبين هويته البايولوجية وما مطلوب منه التصرف كرجل.

 تنبيــه

 وهذا ما نريد ان ننبه مجلس النواب والحكومة العراقية والناس بشكل عام، الى ان هؤلاء المثليين من هذا الصنف جاءوا بتركيبة نفسية وبايولوجية خاطئة، وانهم كالمرضى الذين لا يكونوا مسؤولين عن مرضهم. وعليه فان اساليب التعامل مع هذا الصنف تحديدا" يجب ان تختلف، ولا يصح مطلقا تجريمهم.. ما يعني ان القانون الذي اصدره مجلس النواب يرتكب جريمة بسجن من جاء بتركيبة بايولوجية خاطئة.

 قد يقول بعضهم، ان ما ذكر هو رأي شخصي، وعليه فانني استشرت طبيبا نفسيا عراقيا مقيما في لندن هو الدكتور رياض عبد، واليكم نص اجابته:

 (إنني مدرك تمام الإدراك بإن موضوع المثلية الجنسية من المواضيع الشائكة في مجتمعنا كما هي الحال في معظم المجتمعات الإسلامية المحافظة. وهذا على العكس من الحال في المجتمعات الغربية التي تتبع أسلوب الحوار العلني المفتوح فيما يخص المشاكل الإجتماعية بما فيها الجنسية منها.

وهنا أود أن أصحح بعضا من هذه الآراء الخاطئة عن موضوع المثلية الجنسية ومسبباتها.

 أولاَ: المثلية الجنسية هي حالة بشرية وجدت على إمتداد التأريخ البشري المعروف، وكذلك هي حالة موجودة في كافة المجتمعات البشرية في العالم المعاصر بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللغة أو المستوى الحضاري أو الإقتصادي. وهي ظاهرة موجودة في كافة المجتمعات الإسلامية المعاصرة على العكس مما قد يدعيه البعض.

إن النظرة العلمية الحالية لظاهرة المثلية هي أنها في اغلب الأحوال نتيجة خلل تكويني يؤثر في نمو وتكوين الدماغ البشري والذي يبدأ في المراحل الجنينية ويستمر الخلل طوال حياة الفرد المصاب. وفي الوقت الحاضر ليس هناك علاج معروف يمكن أن يغير المثلي الى سوي سواء بإستعمال العقاقير أو العلاج النفسي أو الإجتماعي. وبإختصار فإن المثلية ليس لها علاقة بالتربية البيتية وليس لها أي علاقة بالتفسخ الخلقي أو الإجتماعي أو بقدرة الفرد على أن يمارس دوراَ إيجابياَ في المجتمع).

 توصيات

 في ضوء ذلك.. نتقدم بتوصيتين:

 الأولى: أن يعيد مجلس النواب العراقي المحترم النظر بالقانون واجراء التعديلات العلمية بما يحافظ على القيم الدينية والاخلاقية للمجتمع العراقي، وبما لا يجعله يرتكب جريمة بحق من جائوا بتركيبة نفسية وبايولوجية خاطئة.

والثانية: الاستعانة بالأطباء والأستشاريين النفسيين في التعامل مع الذين سيلقى القبض عليهم ودراستهم قبل احالتهم الى المحاكم المختصة، والأخذ بما يقترحونه بخصوص من تستدعي حالته ادخاله الى مسشفيات الطب النفسي.. ونحن على استعداد لتنفيذ هذه المهمة.

اللهمّ هل بلغت.. اللهمّ فاشهد

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

28 نيسان 2024

 

وكيفية التعامل معها

بقلم: جريجوري تشانسي

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

يعد العنف المنزلي، المعروف أيضا باسم عنف الشريك الحميم، مشكلة خطيرة في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم. تؤثر جرائم العنف المنزلي على الملايين من الرجال والنساء على حد سواء، وتشمل العديد من الأشكال المختلفة.

على الرغم من أنك على دراية بموضوع العنف المنزلي، إلا أن الإحصائيات صادمة: أكثر من 12 مليون شخص في الولايات المتحدة وحدها هم ضحايا هذا العنف.

سواء كان العنف المنزلي أو الجسدي أو الجنسي أو الاقتصادي، غالبا ما لا يتم الإبلاغ عنه وهو مجال يساء فهمه إلى حد كبير. توضح هذه المقالة عشرة من أكثر أشكال العنف المنزلي شيوعا، بالإضافة إلى ما يجب فعله إذا كنت ضحية.

أنواع العنف المنزلي

في حين تختلف الإحصائيات اعتمادًا على البلد أو السكان الذين شملهم الاستطلاع، إليك الأشكال الأكثر شيوعا لجرائم العنف المنزلي .

الاعتداء الجسدي

يتضمن الاعتداء الجسدي أي نوع من السلوك العدواني الجسدي أو الهجوم، أو حجب الاحتياجات الجسدية (مثل الطعام)، أو التهديد بالقيام بذلك.

غالبا ما يكون هذا النوع من الإساءة هو أول ما يتبادر إلى ذهن المرء عندما يفكر في العنف المنزلي، لأنه من الصعب إخفاءه. الصفع، الخنق، الضرب، البصق، وحتى القتل — هذه أشكال من الإساءة تهدف إلى جعل ضحايا العنف المنزلي عاجزين. يتعرض شخص واحد تقريبًا كل 20 ثانية للإيذاء الجسدي من قبل شريك حميم في الولايات المتحدة.

العنف الجنسي

يتضمن الاعتداء الجنسي نشاطا جنسيا غير رضائي أو استغلالي. حوالي 1 من كل 5 نساء و1 من 12 رجلاً تعرضوا للعنف الجنسي من قبل الشريك الحميم.

بعض الأمثلة على أشكال الاعتداء الجنسي هي إرسال محتوى جنسي غير مرغوب فيه، واللمس غير الرضائي، والاغتصاب. إن ممارسة الجنس سابقا بالتراضي مع شريك لا يمنعهم من ارتكاب الاعتداء الجنسي أيضًا.

سوء المعاملة العاطفية

على الرغم من صعوبة تعريفها مقارنة بجرائم العنف بسبب طبيعتها غير الجسدية، إلا أن الإساءة العاطفية تعتبر شكلاً خطيرًا وشائعًا من أشكال العنف المنزلي. يتم تعريفه عادةً على أنه أي سلوك يستغل ضعف شخص ما أو انعدام أمانه ويمكن أن يكون في كثير من الأحيان ضارًا (إن لم يكن أكثر) من الإيذاء الجسدي.

عادة ما ينطوي الإيذاء العاطفي على تقويض ثقة ضحية العنف المنزلي أو سلامتها النفسية، ويمكن أن يشمل أيًا مما يلي:

تشويه إحساس المرء بالواقع (المعروف أيضًا باسم الإضاءة الغازية)

السخرية أو الإهانة

إهانة الشريك في الأماكن العامة أو الخاصة

التهديد بإنهاء العلاقة

التهديد بإيذاء الضحية أو نفسه

إجبار الضحية على تعاطي المخدرات أو الكحول

الإساءة المالية

الإساءة المالية هي شكل من أشكال إساءة معاملة الشريك الحميم والتي غالبًا ما تمر دون أن يلاحظها أحد. ويحدث ذلك عندما يسيطر المعتدي على أموال الضحية ويمنعها من الاستقلال المالي.

بدءا من حرمان الشريك من أي سيطرة على الشؤون المالية للأسرة إلى حرمانه من القدرة على العمل وكسب أجره، فهو شائع بشكل خاص عند كبار السن. قد يتم تزوير توقيعات كبار السن أو اختلاس الأموال من معاشاتهم التقاعدية أو حساباتهم المصرفية.

المطاردة

المطاردة هي شكل آخر منتشر من أشكال العنف المنزلي، حيث أثرت على 10% من النساء و2% من الرجال. تُعرّف قوانين العنف المنزلي العنف بأنه فعل الحفاظ على القرب من شخص آخر والذي يسبب خوفًا معقولًا على سلامته.

مع ظهور الاتصالات عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكن أن تشمل المطاردة أيضًا المطاردة عبر الإنترنت، وهو شكل جديد نسبيًا من المضايقات. تمت ملاحقة العديد من الضحايا من قبل شركاء سابقين إلى الحد الذي يحتاجون فيه إلى أوامر زجرية. قد يكون لدى الضحية بالفعل أمر تقييدي ضد المطارد، الذي يلاحقه في انتهاك لأوامر الحماية.

العزل

العزلة هي شكل من أشكال سوء المعاملة المستخدمة للسيطرة على الضحية عن طريق إبعادها عن الأصدقاء أو أفراد الأسرة. ومع ذلك، قد يكون العزل أيضا آلية تكيف تستخدمها ضحية الأشكال الأخرى من العنف المنزلي: على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يعزل نفسه لإخفاء الأدلة على الاعتداء الجسدي.

من خلال إبقاء الضحية معزولة، قد يتلاعب المعتدي بنظرته للعالم ويحاول تأطير إساءة معاملته على أنها "طبيعية". يمكن أن تزداد العزلة بمرور الوقت إلى درجة حرمان الضحية تمامًا من نظام الدعم الاجتماعي الخاص به.

المتابعة

السيطرة هي شكل من أشكال سوء المعاملة المستخدمة للحفاظ على الهيمنة على الضحية. وبما أنها تتداخل مع العديد من أشكال العنف المنزلي الأخرى، فهي قضية أساسية في العنف المنزلي ككل.

في كثير من الأحيان، يمكن أن تكون العلاقات المسيطرة ضارة للغاية ويصعب تحديدها بدقة. تتضمن بعض أنواع سلوكيات التحكم ما يلي:

مراقبة المكالمات الهاتفية أو الرسائل النصية

إجبار الشخص على ارتداء الملابس أو التصرف بطريقة معينة

الوصول بشكل غير متوقع للاطمئنان على الضحية

انتهاك خصوصية المرء

جعل الضحية يعتقد أنه غير قادر على إدارة وظائف معينة بمفرده

الإساءة الروحية

يمكن أن يتضمن الاعتداء الروحي إساءة جنسية أو جسدية أو عاطفية ويحدث في سياق علاقة بين المعتدي الذي يتمتع بسلطة روحية أو دينية مزعومة على الضحية.

على سبيل المثال، قد يُظهر المعتدي الروحي سلوكًا مسيطرًا أو خجلًا أو عنفًا تحت ستار التبرير من قبل دينه المختار. ولا يحدث الإساءة الروحية داخل المؤسسات الدينية فحسب، بل في العلاقات الشخصية أيضًا

إساءة الوالدين

لا يقتصر العنف المنزلي على الشركاء الرومانسيين أو الجنسيين فحسب، بل يمكن أن يحدث أيضًا بين أفراد الأسرة. وعلى الرغم من أنه يشار إليه أحيانًا بالعنف المنزلي، إلا أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأشكال أخرى من العنف المنزلي.

تتضمن إساءة معاملة الوالدين أي شكل من أشكال الإساءة الجسدية أو العاطفية أو الجنسية للطفل ، بالإضافة إلى الإهمال أو الفشل في التصرف. غالبًا ما تكون إساءة معاملة الوالدين للطفل مصحوبة أيضًا بإساءة معاملة الزوج.

جرائم العنف الأسري المقترن بالحمل

على الرغم من أن إساءة معاملة الشريك الحميم التي تنطوي على الحمل ليست فئة خاصة بها من الجرائم المنزلية، إلا أنها منتشرة على نطاق واسع وتضر بكل من الأم والجنين. قد يكون سوء المعاملة موجودًا مسبقًا في العلاقة أو يمكن أن ينشأ مع الحمل، ويمكن أن تكون الآثار جسدية ونفسية.

تشمل أشكال سوء المعاملة التي تنطوي على الحمل ما يلي:

تخريب تحديد النسل

الحمل القسري أو الإجهاض

الاعتداء الجسدي الموجه إلى بطن المرأة أو أي مكان آخر

اعتمادا على الحالة، يمكن أن يزيد أو ينقص الاعتداء الجسدي أثناء الحمل. في الواقع، في الحالات التي يقل فيها هذا العدد، تحمل بعض الضحايا كوسيلة للدفاع عن النفس.

***

......................

المصدر:

https://www.cobbdefense.com/top-10-most-common-domestic-violence-crimes-and-how-to-seek-help

1- ثالثة الأثافي:

كتبت قبل عشر سنوات مقالًا عن الرفاعي بمناسبة بلوغه الستين وكان عنوان المقال: (من الإسلام السياسي إلى الإيمان النقدي)، تحدَّثتُ فيه عن انتقالة الرفاعي من تجربة "الداعية الأيديولوجي" إلى تجربة "المؤمن النقدي"، حيث يكون الإيمانُ أوسعَ من مجرَّد لفافة عقائدية مغلقة، بل تجربة روحية منفتحة. ثم عدت في افتتاحية العدد المزدوج من مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" (59-60) وكتب مقالًا ثانيًا عن محطَّات الوعي لدينا في العراق في دراسة المسألة الدينية، واتخذت من قصة صدور المجلات البحثية حول القضايا المتعلقة بدراسة الدين منطلقًا لتجييل الدراسين الدينيّين عندنا، فذكرت ثلاثَ مجلات، هي: (العلم، والأضواء، وقضايا إسلامية معاصرة)، واعتبرت أن كل مجلة تمثِّل تيارًا في الوَعي بالسُّؤال الديني، له إشكاليته وأسلوبه في دراسة تلك الإشكالية. وها أنا اليوم أعود بمقالٍ ثالث عن الرفاعي وتجربته وهو على بُعد أشهر من إكمالِ عامه السبعين، حيث يجتمع ميلادُه الشخصيُّ بميلاد العددِ "الثمانين" من مجلته/ مجلتنا (قضايا إسلامية معاصرة).

2- التَّداوي بالتفلسف:

هناك سؤال كبير حول مهمة الفلسفة وجدواها في الحياة، وقد طُرح هذا السؤالُ بعدة صيغ، منها الشكل الآتي: ماذا تقدم لنا الفلسفة؟ وكيف يمكن لها أن تسهم في تحسين حياتنا البشرية؟ وبنحو أكثر جذرية: هل بقي للفلسفة ما يمكنها الانشغال به أم أن العلوم تكفَّلت بهذه المهمة ولم يعد للفيلسوف مهنة؟ من المتوقع ألا تعجب هذه الأسئلةُ الفلاسفةَ كثيرًا، فلا أحد منهم يقبل أن يكون عاطلًا عن العمل أو عرضةً للاستخفاف والتَّهكُّم! ومن هنا تنوَّعت ردودُ فعل الفلاسفة؛ البعض منهم كان أكثر تواضعًا فقبل الانشغالَ بالموضوعات التي لم يتبلور فيها بعد رأيُ للعلم، والبعض الآخر حاول اختلاقَ مهمة للفيلسوف هي أشبه بالعمل اللغوي، حيث تقتصر وظيفة الفيلسوف على التأكّد من صحة وسلامة استخدامنا للغة في الحياة العلمية والعامة، وفحص دلالات المفردات في مجال التداول البشري بنحو تكون قابلة للتحقّق والاختبار التجريبي. وهناك فئة ثالثة تتحدث عن وظيفة أخرى للفلسفة، وهي اختراع المفاهيم، ودراسة الخيارات الممكنة التي تستحق أن نعيش وفقًا لها، فنحن في النهاية، وهذه هي تجربة الكائن البشري داخل الزمن، مضطرون أن "نختار"، ضمن مساراتٍ محدودةٍ في الغَالب، ما يرسم الباقي من مستقبلنا. إن دراسة الخيار الأفضل، الملائم لأهدافنا، هو عملُ الفيلسوف الحقيقي، هكذا يقول هذا الفريق من الفلاسفة.

مهما يكن، فالشيء الوحيد الذي تجتمع عليه الآراءُ المتقدمة، ويوجد غيرُها بطبيعة الحال، هو أنَّ "التفلسف" قد كفَّ عن الادِّعاءات الضخمة، فلم يعد مسموحًا، لا للفيلسوف ولا غيرِه، الكلام عن المنظومات الفلسفية الشاملة التي تفسّر كلَّ شيء، وتجيب عن كلِّ شيء، وتضع الحلولَ لكلِّ مشكلة. لقد أصيب العقلُ بصَدع كبير، ولم تبق –مبدئيًّا- ثمة فلسفة لكل الناس، ولا ثمة جواب لكل مشكلة. وإذا ما كان للإنسان من "منقذ من الضلال" فهو يتلخص في التركيز المستمر على تحليل "طريقة التفكير السليم" ودرء أكبر قدر ممكن من الأخطاء المحتملة، والتفكير السليم يبدأ أولًا وقبل كلِّ شيء في السّؤال الصحيح.

3- هوامل وشوامل أبي حيان:

أنا من القرّاء الذين لا يدقِّقون في أسانيد منقولات التوحيدي؛ لأنني أرى أن المهم في كلامه ليس ما يحكيه بل ما يريد هو قوله. ثم إن التوحيدي، وفي أحيان كثيرة، يضع بلغته الفخمة وبلاغته الفريدة ما يختاره هو على لسان غيره المنقول عنه. من هنا، فإن منقولات التوحيدي تحظى بنفس أهمية آرائه المباشرة، بل وتعبّر عنها في غالب الأحيان. في واحدة من منقولاته يقول على لسان الخليل بن أحمد الفراهيدي: (لا تجزع من السؤال فإنه ينبّهك على علمِ ما لم تعلم). وفي الليلةِ العاشرة من "الإمتاع والمؤانسة" يخصِّص التوحيديُّ حكاياته لـ"نوادر الحيوان"، ويذكر مصدرَه فيقول: إنها جاءت من سماعي و"سؤالي" للعارفين بهذه الموضوعات. وفي الليلة (التاسعة عشرة) نقل عن إبراهيم بن الجنيد قوله: (أربع لا ينبغي لشريف أن يأنف منهنّ وإن كان أميرًا)؛ عدَّ منها: (وإن سُئل عمَّا لا يعلم أن يقول لا أعلم)، ثم كرر النقل نفسه بصيغة أخرى في الليلة (الواحدة والثلاثين)، فقال: (والسؤال عمّا لا يعلم ممن هو أعلم منه). ومن يتتبع كتابات أبي حيان يجده من أكثر الناس شغفًا بالأسئلة، إلى حدِّ أنْ جعل من السؤال شعارَه المفضل ووصيتَه لقرّائه، فقال (اهتكْ سُتورَ الشكِّ بالسّؤال) (البصائر: 6 / 126).

وكما هو معروف فإنَّ خلاصةَ العملِ الكبير الذي قام به أركون في أطروحته (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) كانت حول وجود هذه النزعة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وبدل أن تكون كتبُ الفلسفةِ ومصنفاتها التقليدية ميدانَ هذه النزعة والمعبّر عنها؛ رأى أركون أنَّ "الأدب" هو من فعل ذلك، ولهذا اتخذ كتبَ مسكويه والتوحيدي مادةً لبحث وتحليل وملاحقة هذه الفرضية. وبخصوص "الهوامل والشوامل" انتهى أركونُ إلى أنَّ مسكويه لم يكن على نفس المستوى من حساسية ورهافة أسئلة التوحيدي، فبينما كان الأخيرُ قلقًا وإشكاليًّا، يبحث عمن "يعرف الفَحْوَى ويَلْحَق المَرْمَى" من هوامله (انظر المسألة الخامسة) نجد أن مسكويه يبدو واثقًا بعدّته العقليَّة التحليلية ويجيب بوثوقية عالية؛ متوقعًا أنْ يُفْضِيَ التوحيديُّ بـ "شَوَامِلِه" إلَى بَرْدِ اليقين.

لم تكن أسئلةُ التوحيدي خاصةً بعصرها، بمعنى أنها لم تكن تعبّر عن حاجة إنسان القرن العاشر الميلادي فقط، فحتى نحن، وبعد أكثر من ألف سنة من رحيل التوحيدي، ما زلنا نتساءل معه نفس الأسئلة. وما يميز أسئلةَ أبي حيان أمران:

 (الأول) أنه جعل الإنسانَ محورها دون اعتبار لأي دين أو عرق أو منطقة، فتساءل عن أحواله كلِّها؛ في علاقته بالمعرفة (مسألة 62)، وفي انصرافه عمّا يجهل (مسألة ١٥)، وفي حبه للعاجلة (مسألة ٥٥)، وفي شوقه لما مضى (مسألة ٦)، وفي تواصيه بالزهد ثم حرصه على الدنيا (مسألة ٤)، وفي تَحَاثِّه على كتمان الأسرار ثم هتكه لها بالإفشاء (مسألة ٢)، وفي حيائه من القبيح ثم تبجحه به (مسألة ٨) ... إلى غير ذلك من حالات الإنسان النفسية والاجتماعية والمعرفية (سياسته، غضبه، فرحه، إلفته، مديحه، تصابيه، خياله، إشمئزازه، حسده، نظافته ووسخه، انقياده وتمرده، خوفه، خبثه، بذاءته، احتياله، عدوانه، جده وهزله، ضجره وقسوته، تشاؤمه وتهكمه، جبنه ورعونته، عفته وخلاعته، وخفته ووقاره ...) إلى ما يفوق العد والإحصاء من الحالات التي تناولها أبو حيان حتى قال هو نفسه عن الإنسان في كلمة خالدة: (إن الإنسانَ قد أُشْكِلَ عليه الإنسانُ) (مسألة ٦٨).

والأمر (الثاني) الذي يميز أسئلةَ أبي حيان هو "أشكلتُه" للقضايا التي جعلها موضعًا للتساؤل، فهو لا يعتبر تلك القضايا مجردَ موضوعاتٍ "بحثيَّة" يمكن الإجابة عنها بالمتوفر من معلومات شائعة، بل يضع نفس تلك المعلومات موضع بحث وتحرٍّ فيدعو إلى (تحديد نظر وتجديد اعتبار) (مسألة ٥٥)، وهو يقصد إعادة تعريف المشكلة محلّ السؤال وتجديد أساليب الاستدلال فيها. أما النتيجة، فستكون كما قال: (وإذا تنفَّس الاعتبارُ أدى إلى طرق مختلفة) (مسألة ٤٩) وهذا ما يبحث عنه التوحيدي: (الطرق المختلفة)، لذا كان آخر سؤال له في "هوامله" عن تنقُّل الإنسان بين المذاهب الفكرية وما يعنيه ذلك أو ما يستلزمه من الخروج عنها جميعًا (مسألة ١٧٥).3813 قضايا اسلامية 80

٤- هواملُ وشواملُ الرفاعي:

على مدى أكثر من سبعة وعشرين عامًا (١٩٩٧ – ٢٠٢٤) احتوت مجلةُ "قضايا إسلامية معاصرة" على (١١٣) حوارًا منفردًا (أقصد بـ "المنفرد" غير تلك الحوارات العامة في الندوات النقاشية المشتركة)، كانت حصةُ الرفاعي وَحْدَه منها (٦٢) حوارًا، أي أكثر من نصف الحوارات. امتازت هذه المادة الغزيرة من الأسئلة بأمور، منها:

أولًا: أنها شيَّدت جسرًا من التثاقف بين نخبة كبيرة من المثقفين في العالم العربي وإيران والغرب (من بين الأسماء العربية نذكر: محمد أركون، حسن حنفي، محمد عمارة، يحيى محمد، عبد المعطى بيومي، محمد حسن الأمين، محمد حسين فضل الله، عبد الهادي الفضلي، محمود البستاني، طه عبد الرحمن، عبد الوهاب المسيري، فتحي المسكيني، علي حرب، رضوان السيد، عبد المجيد الشرفي، وجيه كوثراني، هاني فحص، تركي الحمد، محمد أبو القاسم حاج حمد، السيد ولد أباه، محمد عابد الجابري، احميدة النيفر، نادر كاظم، هشام داود، أبو يعرب المرزوقي، برهان غليون، عبدالله إبراهيم، ماجد الغرباوي، غالب الشابندر ... إلخ. ومن الأسماء الإيرانية: مصطفى ملكيان، داريوش شايغان، حسين نصر، صادق لاريجاني، محمد مجتهد شبستري، عبد الكريم سروش، محسن كديور، محمد علي التسخيري، عبد الله جوادي آملي ... إلخ. ومن الغربيين: يورغن هابرماس، ريتشارد بورك هوفر، ستيفن ايفانز، محمد ليغنهاوزن).

ثانيًا: أنها وضعت جميع الاتجاهات الفكرية في ندِّية متقابلة؛ فيها الكثير من التعارف والهموم البحثية المشتركة دون قطيعة أو رفض مسبّق.

ثالثًا: أنها تشكل سيرةً لتطور الحياة الفكرية عند جيل كبير من المثقفين العراقيين الإسلاميين، وبنحو خاص سيرة الرفاعي الذاتية، في المنفى الإيراني ثم في العراق بعد ٢٠٠٣. يمكن التعامل مع تلك الأسئلة ليس فقط كاشتغال للعقل في موضوعات إشكالية وتحوّلات هذا الاشتغال وتطوراته بل واستجابة للتحديات التي عاشها هذا الجيلُ في سياقٍ خاص داخل الزمان والمكان، وعلى لسان الرفاعي بوصفه أحدَ أهمّ ممثلي هذا الجيل.

٥ – التساؤل بوصفه سيرةً ذاتية:

يوضح الرفاعي علاقةَ الأسئلة بالتفكير الأيديولوجي فيقول: (الأيديولوجيا تقوض الأسئلة المفتوحة؛ لذلك لا يبقى في فضائها أيُّ سؤال مفتوح، وتحرص أن تقدم إجاباتٍ جاهزةً لكل سؤال مهما كان). يعتبر الرفاعي فكرةَ الإجابات الجاهزة عن كل سؤال "منطقًا تبسيطيًّا" للتفكير الأيديولوجي الذي يعطل "التفكيرَ التساؤليَّ الحرَّ المغامرَ"، ثم يشير في المقابل إلى دورِ ووظيفةِ التساؤل في الحياة الفكرية، فيكتب: (لا يتطور المجتمع ما لم يكن تفكيره تساؤليًّا على الدوام. التفكير التساؤلي هو الذي يمكِّننا من الوصول إلى ما هو ممنوع التفكير فيه) (التأكيد في النص مني). ويضيف: (وظيفة الأسئلة وظيفة أساسية: إنها تفتح أفق النقد والمراجعة، وتدعو العقل لفضح الأخطاء، تلك الأخطاء التي كانت لزمن طويل تعد من الحقائق واليقينيات النهائية) (التأكيد في النص مني، راجع "الدين والظمأ الأنطولوجي"، ط٤: ١٧٣، ١٧٤، ١٧٥).

بناء على ذلك يحقّ لنا التساؤلُ حول أسئلة الرفاعي نفسها: إلى أي حد يمكن اعتبارُها "مدخلَه الخاصَّ" للوصول إلى "الممنوع من التفكير فيه"؟ "الممنوع" الذي كان الرفاعي، ومِن خلفه الجيل الذي ينتمي إليه، يعيش فيه ويتحرك في دائرتِه؟ وهل كانت أسئلتُه "فاضحةً" للأخطاء؟ وما هي طبيعة تلك الأخطاء ومجالها؟

في موضع آخر يتحدث الرفاعي عن ارتباط علم الكلام الإسلامي بالعصر الذي ولد فيه، فيرى أن هذا العلم هو تعبير عن أسئلة المجتمعات الإسلامية القديمة وما واجهته من تحديات، ثم يصف تلك المقولاتِ والآراءَ المنبثقةَ عن تلك الأسئلةِ بأنها (لا تعرف أسئلة حياتنا الراهنة، الأسئلة المنبثقة من تحديات وهموم ونمط حياة يختلف عن نمط الحياة الذي انبثقت عنه التحدياتُ الماضيةُ اختلافًا تامًّا) (مقدمة في علم الكلام الجديد، ٢٠٢٣: ٤٩).

والسؤال هنا أيضًا: ماذا تكشف أسئلةُ الرفاعي من "تحدياتٍ، وهمومٍ، ونمطِ حياةٍ مختلف" في تجربة مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، وخصوصًا في مرحلتَي المنفى الإيراني وما تلاه في تجربة العراق بعد ٢٠٠٣؟

أخيرًا، وفي موضع ثالث غير ما تقدم، يتناول الرفاعيُّ علاقةَ المتكلم الجديد بـ"الحسّ التاريخي"، وبالرغم من إيمانه بوجود نمطٍ من الأسئلة يسميها بـ(الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى) لا يمكن التوصل إلى أجوبة نهائية بشأنها، وهي تحديدًا ما يختص الدينُ بالإجابة عنها (مقدمة، ٢٠٢٣: ٢١، ١٠٤، ١٩٣)، فإنه ينفي عن الشيخ محمد عبده أن يكون "متكلمًا جديدًا"، والسبب في رأيه هو أن عبده يفتقد لهذا "الحسّ"، الذي يعني الوعيَ بالعصر وتحولاته العميقة في المعرفة ومكانة الوحي فيها، وبالتالي فهم وظائف الدين القديمة، ليقول في النهاية: (ولا يمكن أن يتحرر كلُّ فهم للدين ونصوصه من الأفق التاريخي الذي ينبثق فيه) (الدين والظمأ الأنطولوجي، ٢٠٢٣: ١٣١، ١٤٢).

والسؤال هنا: ما هو "التاريخي" في الدين الذي كشفتْه أسئلةُ الرفاعي؟ وهل تنامى فيها هذا الحس التاريخي؟

٦ – المسكوت عنه في الأسئلة:

كأيِّ كاتبٍ محترفٍ يبرع الرفاعي في تجريد المشاكل التي يدرسها. يتمثل التجريد هنا بطرح المشكلة (أي مشكلة كانت) كسؤال نظري تتوارى خلفه المشاكلُ التي بعثتْه في أرض الواقع، حتى يبدو الكاتبُ وكأنه مجرد "عقل محض" يفكر ويتساءل ويحلِّل وينظّر بمعزل عن الإكراهات والإلزامات التي دفعت بتلك المشاكل إلى صدارة اهتمامه وعنايته. إن هذا التجريد يعقّد مهمة الباحث الذي يريد إفراغَ تلك الكتابة من طابعها التجريدي وإنزالها موضعَها التاريخي، لأنه سيكون بحاجة إلى دراية دقيقة بذاك الواقعِ المتواري لكي يفهم ما سكت عنه صاحبُ النصّ. فلنلاحظ هذه الجملة كمثال على الجُمل التجريدية: (تطور الفكر الإنساني في كل العصور يقترن دائمًا بالأسئلة الكبرى، الأسئلةِ الحائرة، الأسئلةِ القلقة، الأسئلةِ الصعبة، الأسئلةِ التي تتوالد من الإجابة عنها أسئلةٌ جديدةٌ) (مقدمة، ٢٠٢٣: ١٠٢). إن هذه الجملة الفخمة تبدو لي عاليةَ التجريد، لأنها لا تبوح بالأجواء التي تخلق تلك الأسئلة (الكبرى، الحائرة، القلقة، الصعبة، الولود).

والآن إذا ما أردنا الإجابةَ عن الأسئلة التي أثرناها في الفقرة السابقة حول قضايا (١- الممنوع التفكير فيه، ٢- هموم ونمط الحياة، ٣- الحس التاريخي) كما تكشفه "هواملُ الرفاعي" في مسيرةِ مجلةِ "قضايا إسلامية معاصرة"، فإن هذا يتطلب منا كتابةَ سيرته الفكرية، وبالتبع سيرة الجيل الذي ينتمي إليه، طيلة المدة التي مهّدت لولادة المجلة وفي جميع المراحل التي مرت بها. وهذه وإن كانت مهمةً جليلةً، خصوصًا في ظل النقص الكبير الذي نعاني منه في مجال الدراسات التاريخية المعنية بتجييل المثقفين الدينيين في بلدنا (العراق)، إلا أنني لن أترك الموضوعَ لغيري تمامًا، بل سأثير عدةَ نقاط مجملة في فهم هذه القضية التاريخية راجيًا أن تساعد هذه النقاطُ الباحثين المهتمين بأمثال هذه الأبحاث في تطوير دراسةِ الموضوع.

- ذكرتُ سابقًا أنَّ عددَ حواراتِ المجلةِ بلغتْ (١١٣) حوارًا، وأن حصة الرفاعي منها -إذا ما استثنينا تلك الحوارات المترجمة-في حدود (٦٢). وفي تقديري أن تلك الأسئلة والحوارات تكشف عن وجود ثلاث مراحل؛ وهي: ١- مرحلة التفكير بالتراث من داخل التراث، و ٢- مرحلة أشكلة التراث ومساءلته، و ٣- مرحلة تحويل التراث إلى مادةٍ بحثية تخضع للمتاح من المعرفة البشرية، ومن ثمة القطيعة مع المناهج التراثية كافة.

- كانت المرحلةُ الأولى من أسئلة الرفاعي مخصصةً للفكر السياسي الإسلامي، ومفهومِ الدولة فيه، وشكل النظام السياسي، وحين تَساءل عن الديمقراطية ربطَها بالبيئة الغربية ومجتمعاتها الداخلية، ولكنه مع ذلك أثار قضيةَ انتخاب الحاكم الإسلامي، ومسألة البيعة وتشكيل الأحزاب، وحدود الحريات في النظرية الإسلامية (انظر: حواره مع محمد باقر الحكيم، ومحمد حسن الأمين في العدد الثاني). وهذه الأسئلة وإن كانت جريئة في ظل نظام سياسي ديني يدير الدولةَ الإيرانية، ولكنها تمثل جزءًا مألوفًا من المشهد الثقافي الإيراني، الذي بدأ حينها بطرح هذه الأسئلةِ (يتضح هذا من حواراتِ العدد الأول الثلاثة المترجمة عن الفارسية؛ والتي تحدّث فيها ثلاثةٌ من أبرز الباحثين السياسيين الإيرانيين عن الموضوع، هم: عباس عميد زنجاني، حسين بشيريه، محمد جواد لاريجاني).

- في المرحلة ذاتها نجد ثمة انفتاحًا حذرًا على المشاريع الفكرية العربية في قراءة التراث، ومحاولة التعرّف على المشهد الثقافي العربي (كان هذا مرتبطًا بمطلع عقد التسيعنيات بعد انتهاء "الحرب العراقية/ الإيرانية"، وتدفّق الكتاب العربي على إيران واشتهاره في جامعاتها ونواديها الثقافية)، وفيها بداية التساؤل عن إعادة تعريف الغرب: هل هو استعماري فقط أم أن هناك أشكالًا أخرى للغرب يتمايز فيها التاريخيُّ الاستعماريُّ عن "الديمقراطيِّ المعاصر" (حوارات العدد الثالث، وخصوصًا مع محمد حسن الأمين). 

- كانت مسألةُ فهم النصوص المقدسة حاضرةً في العدد الرابع المخصص لاتجاهات التفسير، والحوار كلّه مع إسلاميين صميمين (محمود البستاني، وجودت سعيد) ولكن السؤال المركزيَّ هو (ما هو الموقف من اتجاهات التفسير الحديثة التي تربط النصَّ بأفقه وبيئته وقارئه؟).

- تستمر أسئلةُ الرفاعي في الأعداد التالية عن التراث ونصوصه المقدسة، محاولًا منحَ النقد والمراجعة مشروعة من داخل التراث؛ فتعدُّد القراءات يقابلها انفتاحُ التجربة الإسلامية على النقد، وشرعية الاتجاهات الحديثة في التَّعاطي مع النصّ يأتي في سياق بلورة نظرية إسلامية للنقد، ونقد الممارسة السياسية يتغذى من تجربة الأنبياء في تقوبم سلوك المجتمعات الغابرة (انظر حوارات العدد الخامس، ١٩٩٩).

-  حظِيت مسائلُ فلسفة الفقه ومقاصد الشريعة بتغطية موسعة في أسئلة هذه المرحلة (الأعداد ٧ إلى ١٣). ولكن مع العدد ١٤ فصاعدًا يبدأ الانفتاحُ على فئةٍ أخرى من الإسلاميين (حسن حنفي، محمد عمارة، يحيى محمد، محمد حسين فضل الله، طه عبد الرحمن، وغيرهم) حول علم الكلام الجديد والسؤال عن مجاله وإشكاليّاته، والخشية من نزعته "الالتقاطية". نحتاج أن نصل إلى العدد المزدوج (٢٠-٢١) حتى يبدأ الكلامُ عن (التسامح ومنابع سوء التفاهم) مع محمد أركون، ولكنَّ ذلك لا يمضي دون مساءلةٍ لفكرة "تعدد المناهج" ومخاطر التعمية في التحليل، ومسألة علاقة البحث التاريخي بالتوراة والإنجيل دون القران (تتم الاستعانة هنا بأعمال طه عبد الرحمن)، ونقد التجربة العلمانية، وأمور أخرى كانت بمثابة النقد العنيف لأركون (ينبغي التذكيرُ أن سعيد شبار هو من أجرى الحوار مع أركون، وليس واضحًا مقدار اجتهاده في طرح الأسئلة أو حتى استقلاله الكامل فيها).

- تشهد خاتمةُ هذا المرحلة مع الأعداد (٢٣) حيث بقيت الحواراتُ تستضيف المسيري ليتحدث عن "انحيازات المعرفة"، وحديث التحرير (الرفاعي نفسه) عن (استيعاب النقد للتراث والمعرفة الحديثة) والاستيعاب هنا يعني الشمول، وكأن النقد للتراث يصاحبه نقدٌ للمعرفة الحديثة (التي وصفها المسيري بالمنحازة، وفي نفس السياق تأتي الحواراتُ مع عبد الله إبراهيم عن "المركزية الغربية").

- تبدأ المرحلة الثانية من الأسئلة في العدد (٢٤-٢٥) الذي يتزامن مع تغيير النظام السياسي في العراق (صدر العدد في صيف/ خريف عام ٢٠٠٣). تُدشّن هذه المرحلة بالحوار مع الجابري والشرفي (هناك تمييز بين لغة الحوارَين يحملني على تأكيد اجتهادِ سعيد شبار في الحوار مع الجابري، لأنه ما زال يتحدَّث عن "حقيقةِ" الصحوة الإسلامية! وهو ما يختلف تمامًا عن الحوار مع الشرفي الذي أجراه الرفاعي، وينص على نظرة الإسلاميين السكونية ذات الطابع الجدلي، وعدم وجود هويات نقية، ونزعة الأيديولوجيا في تفكير الإسلاميين). أما العدد (٣٣-٣٤) فيصعد بالنقد حدًّا أعلى مع محمد الطالبي حينما يبتدئ في وضع مسألة إمكان حوار المسلم، الساكن داخل ديانته الخاصة، مع الأديان الأخرى موضع تساؤل جذري.

- لن تتأخر المرحلة الثالثة من الأسئلة كثيراً، إذ يبدو أن انفجار العنف في العراق قد أتى متزامنًا مع صدور العدد (٣٧-٣٨) الذي حمل حوارًا مع برهان غليون تحت عنوان (حين تنحسر الثقافةُ ينفجر العنف). في هذا الحوار تحديدًا يبدأ الحديثُ عن فشل مشروع التحديث، وعن العنف العدواني الذي نشأ عن هذا الفشل، وضرورة "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين" وأن الموقف التعبوي في التعامل مع الغرب، وثقافته، ومناهجه، وفكره، وقيمه، وفهمه للحقوق والحريات هو الذي أفضى إلى أجواء الاحتراب التي نشهدها.

10- منذ الحوار الأخير مع غليون، ومرورًا بالحوار الغنيّ جدًّا مع محمد أركون في العدد (٤٣-٤٤) (٢٠١١)، ستنتقل أسئلةُ الرفاعي إلى مرحلة الاكتمال والنضج كما تمثلها مجلة (قضايا إسلامية معاصرة)، وسلسلة مؤلفات الرفاعي حول الدين (الدين والنزعة الإنسانية، الدين والظمأ الأنطولوجي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الدين والكرامة الإنسانية ... إلخ)؛ تتخلص الأسئلةُ في هذه المرحلة من سطوة التراث ومناهجه (يتزامن هذا مع استقرار الرفاعي في العراق سكنًا ووظيفةً) ولا تتردد في تحويله إلى مادة تاريخية يُعاد تفكيكُها وتحليلها وفقًا للمعرفة البشرية، بل وتتجه المجلةُ إلى نقل حواراتِ الباحثين الغربيين في المسألة الدينية دون غضاضة.

٧ – رحلة استعادة الأسئلة واليقظة العقلية:

لقد عكست هذه الأسئلة مراحل شاقة من التفكير والتحرر من ثقل التراث؛ فبعد أن بدأت بالسؤال عن الإصلاح الفكري من داخل التراث وبمناهجه، انتهت المسيرةُ في عام ٢٠٢٤ إلى أن يكتب الرفاعي عن (مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث)؛ الكتاب الذي يمثّل مراجعةً نقديةً للكثير مما كان يتبناه الرفاعي نفسه، بل وتحررًا من الأسئلة القديمة التي كان الرفاعي يطرحها على الأشخاص ذاتهم، الذين ينتقدهم في هذا الكتاب: (حسن حنفي، ومحمد عمارة، وجودت سعيد، وداريوش شايغان، وغيرهم).

يطيب لي أن أختم هذه السطور بثلاثة اقتباسات تختصر تحولاتِ الرفاعي مع الأسئلة، اثنان منهما وردا في الكتاب المذكور، والثالث في آخر مقال كتبه إبان تدويننا هذا البحث؛ في الاقتباس (الأول) يتحدث الرفاعي عن علاقته بـكتابات "سيد قطب" وما تركه كتابُ "معالم في الطريق" في نفسه حول مصير "الأسئلة"، وفي (الثاني) يشير إلى مآلات الرفاعي بعد رحلته مع الأسئلة في المهجر، وكيف استقبله أصدقاؤه القدامى بعد طول انقطاع. أما (الثالث) فيوضح نتيجة هذه الرحلة للرفاعي، وهي الشعورُ العميق بضخامة الكينونة البشرية وضرورة مقابلتها بـ "تواضع" حيث تتحول الأسئلة إلى "مهنة" شخصية تقوم على مهمة "دحض" الأجوبة الخاطئة. ومن الاقتباسات هذه يتضح أن هذه الأسئلة التي سلّطنا الضوء عليها كانت "استعادة" للتفكير النقدي الذي دثرته التنظيرات الأيديولوجية الإسلامية من جهة، ويقظة للعقل السليم وُلدت في أحضان تجربة مؤلمة مع المنفى من جهة ثانية. إنَّ ما يميز انتقالة الرفاعي، التي تحدثت عنها في أول مقال لنا قبل عقد، هو ذاته ما أسميناه حينها بـ "تجربة الإيمان النقدي"، من جهة ثالثة.

وإليكم الاقتباسات الثلاثة:

الاقتباس الأول:

(كنتُ معذبًا محرومًا فاختطفني "معالم في الطريق". سيد قطب أديب ساحر، يتقن كتابة الأناشيد التعبوية للمراهقين البؤساء أمثالي. أناشيد تذكي العواطف، توقد المشاعر، تعطّل العقل، يتوقف عندها التفكير النقدي، وتموت في كلماتها كلُّ الأسئلة) (مفارقات وأضداد، ٢٠٢٤: ١٦٢).

الاقتباس الثاني:

(في أول زيارة للوطن شهر حزيران ٢٠٠٣، بعد غياب نحو ربع قرن في المنفى، التقيتُ بعد عودتي بأصدقاء من الذين مكثوا مرابطين في العراق. كانوا يسألون كثيرًا في الدين أسئلة متنوعة، فوجئوا بجوابي عن شيء من أسئلتهم، قائلين بأنها لا تتطابق مع ما كنت أقوله لهم سنوات السبعينيات من القرن الماضي. قلت لهم: هذه علامة سلامة عقلية. العقل الذي يواصل إثارة الأسئلة العميقة، ومراجعة القناعات الراسخة، ومساءلة ما يقرأ ويتعلم، هو عقل يَقِظ) (مفارقات وأضداد: 85، مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، 2005: 5-6).

الاقتباس الثالث:

(في الكتابة عن هذا الموضوع [يقصد المتخيّل الديني] وغيره أقترح إجابات، لم أراهن يومًا على أنها جزمية أو نهائية. القارئ الذكي يتنبه إلى أن كتابتي تحاول إثارةَ الأسئلة، أكثر من تقديم الإجابات الجاهزة. هذه الأسئلةُ أسئلتي الشخصية، فقد كنت ومازلت مشغولًا بأسئلة الوجود، وأسئلة المعنى. في أسئلتي أفكّر عدة سنوات، وألاحق كلَّ كتاب ومعلومة حولها، وأقرأ كلَّ شيء أظفر به يتناولها، وأسعى لاكتشاف الطرق المتنوعة لتفسيرها والجواب عنها، وأحاول أخيرًا تقديم تفسيري وجوابي. من يراقب سيرتي الفكرية يرى كيف عبرَ عقلي عدةَ محطات ولم يتوقف، بفضل تلك الأسئلة. ليست هذه الرحلة الشيقة عبر المحطات إلا سلسلة دحض للأجوبة الخاطئة عن أسئلة الوجود والمعنى في حياتي). (جريدة الصباح البغدادية، الصادرة بتاريخ 28-4-2024).

***

د. علي المدَن

كاتب وباحث عراقي متمرس في الفلسفة الإسلامية والدراسات الشيعية.

.......................

ملاحظة: هذه افتتاحية العدد الجديد من مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 79-80، (2024 م- 1445 ه). المجلة تحت الطبع، تصدر عن مركز دراسات الدين في بغداد قريبا.

 

بقلم: آنا فيرينا مولر/ ميديكا مونديال

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

يعد العنف ضد المرأة أحد أكثر انتهاكات حقوق الإنسان شيوعا. فهو يشكل تهديدا لحياة المرأة، ويعرض صحتها الجسدية والنفسية للخطر، ويشكل تهديدا لرفاهية أطفالها. إن للعنف ضد المرأة عواقب على المجتمع ككل. ويمكن العثور على مرتكبي هذه الجرائم في كل الأوساط الاجتماعية والاقتصادية، وأغلبهم من الذكور.

في المجتمعات التي شكلتها السلطة الأبوية ، يعد العنف ضد المرأة تعبيرا عن علاقات القوة غير المتكافئة بين الرجل والمرأة. لذا فإن أسباب هذا العنف لا يمكن العثور عليها على المستوى الفردي فحسب، بل أيضا، وبشكل خاص، على المستوى الهيكلي للمجتمعات. ويجب القضاء على هذه الأسباب لمنع المزيد من العنف. لا يمكن تحقيق العدالة بين الجنسين ما لم يتم حل الهياكل الكارهة للنساء . عندها فقط ستتمكن النساء والفتيات من عيش حياة خالية من العنف.

ما هي الأشكال التي يتخذها هذا العنف؟

هناك طرق مختلفة يظهر فيها العنف: العنف الجنسي، والجسدي، والنفسي، والاجتماعي، والمالي. العنف الجنسي هو أحد أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي وهو تعبير عن التمييز. لا يتم التمييز ضد النساء على أساس جنسهن فقط. وكثيرا ما يتعرضون أيضا لأشكال إضافية من التمييز ، مثل العنصرية أو رهاب المثلية أو التمييز ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي تؤثر على بعضها البعض وتعززها.

ما هو "العنف المنزلي"؟

يشير العنف "المنزلي" أو "العائلي" ، المعروف أيضا باسم "عنف الشريك الحميم"، إلى أي عنف يرتكبه أشخاص ضمن علاقات اجتماعية وثيقة. وهذا انتهاك معترف به دوليا لحقوق الإنسان. والغرض من هذا العنف هو ممارسة السيطرة والسلطة. على الرغم من أن مصطلح "المنزلي" قد يُنظر إليه على أنه يشير إلى منزل أو أسرة معيشية، إلا أن العنف غالبًا ما يُرتكب داخل الأسرة الأوسع أو من قبل شريك سابق. ليس مكان الحادث هو الذي يحدد هذا الشكل من العنف، بل الشخص الذي يرتكب العنف، لذلك تفضل ميديكا مونديال استخدام مصطلحات مثل "عنف الشريك الحميم" أو "العنف في بيئة اجتماعية قريبة" بدلا من "العنف المنزلي". '.

ما هو العنف النفسي؟

يشير العنف النفسي إلى الأفعال التي تؤدي إلى إصابات عاطفية وعقلية للمتضررين. ويتجلى العنف النفسي في شكل تخويف من خلال النظرات أو الإيماءات أو الصراخ، أو الإكراه أو التهديد - مثل التهديد بإبعاد الأطفال عن المرأة أو التهديد باستخدام العنف الجسدي. إن الإذلال والتعليقات المهينة والتمييزية والسخرية العامة هي أيضًا أشكال من العنف النفسي. غالبا ما يكون العنف العاطفي مصحوبا بسلوك السيطرة أو السيطرة أو الغيرة الشديدة أو عزلة المتضررين. يمكن أن يحدث العنف النفسي أيضا عبر الإنترنت في شكل "عنف عبر الإنترنت".

ماذا يعني مصطلح "العنف الجنسي"؟

يشير العنف الجنسي إلى الأفعال الجنسية ضد إرادة الشخص الآخر. وهذه جريمة ضد الحق المحمي قانونا في تقرير المصير الجنسي. العنف الجنسي هو أحد أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي. وهي تتراوح بين التحرش اللفظي مرورا باللمس غير المرغوب فيه ووصولا إلى الاغتصاب وبتر الأعضاء التناسلية للإناث.

لماذا يتم ارتكاب العنف الجنسي؟

العنف الجنسي هو دائمًا وسيلة لممارسة السلطة، أو السيطرة على شخص ما، أو قمع الشخص الآخر. ويأخذ هذا شكل أفعال جنسية عنيفة لا تتم بالتراضي. بمعنى آخر، يتم التركيز على "العنف"، وهذا ذو طابع جنسي: فالهدف ليس الإشباع الجنسي في المقام الأول.

تحت أي ظروف يتم ارتكاب العنف الجنسي؟

ويشكل العنف الجنسي انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان. في حالات الأزمات والحرب يتم استخدامه بشكل شائع كأداة للقوة ويستمر استخدامه في أوقات السلم أيضًا. وهو تعبير عن الهياكل الأبوية، وهو منتشر في جميع أنحاء العالم في جميع الثقافات والأديان والمجتمعات. يمكن العثور على العنف الجنسي في جميع الأوساط الاجتماعية والاقتصادية.

ما هي عواقب العنف الجنسي في زمن الحرب؟

في الحروب، أحد أسباب استخدام العنف الجنسي ضد النساء هو إذلال الرجال على الجانب الآخر. إنها رسالة رمزية شنيعة لها جذور في طرق التفكير الأبوية . في الواقع، جزء من السبب وراء إمكانية استخدام العنف الجنسي في زمن الحرب لتحقيق هذه التأثيرات هو أن جميع أطراف النزاع تشترك في طريقة التفكير هذه. في جميع أنحاء العالم، لا تزال النساء، وخاصة أجسادهن، تُعامل على أنها ملك لأزواجهن وآبائهن وعائلاتهن.

ما هي الرسالة الرمزية للعنف الجنسي في زمن الحرب؟

إذا تعرضت امرأة للاغتصاب، فغالبًا ما يعتبر ذلك بمثابة ضرر لممتلكات الرجل (أي جسدها). والرسالة للعدو أنه لم يتمكن من حماية امرأته. غالبًا ما تنطوي حالات الاغتصاب في زمن الحرب أيضا على مزيج من الدوافع الجنسية والعنصرية: حيث يُنظر إلى المرأة على أنها رمز لمجموعة عرقية أخرى، ويُظهر اغتصابها التفوق المفترض للمجموعة التي ينتمي إليها مرتكب الجريمة على تلك المجموعة الأخرى.

من هم مرتكبو العنف ضد المرأة؟

ومن بين مرتكبي العنف ضد المرأة أشخاص من كل مجتمع أو جنسية أو دين أو عمر أو مستوى تعليمي أو خلفية اقتصادية. غالبية مرتكبي الجرائم في جميع أنحاء العالم هم من الذكور، وفي حالة العنف الجنسي فإنهم تقريبا من الذكور. ويأتي معظمهم من البيئة الاجتماعية القريبة للمتضررين. إن الصورة المنتشرة على نطاق واسع عن حالات الاغتصاب التي يتم ارتكابها ليلا في الحديقة من قبل شخص مجهول هي في الواقع أكثر ندرة. ويتحمل مرتكبو هذه الجرائم المسؤولية الفردية الوحيدة عن أفعالهم ويجب تقديمهم إلى العدالة. ومع ذلك، من المهم أيضًا الاعتراف بالأسباب الهيكلية للعنف ومكافحتها.

ما هي أسباب العنف ضد المرأة؟

إن الشخص المتأثر بالاغتصاب ليس هو الشخص المسؤول عن هذا العنف أبدا. فلا سلوكها ولا مظهرها ولا ملابسها يمكن أن يبرر العنف. ومن أمثلة الأسباب على المستوى الهيكلي العنف المتأصل في التمييز الذي تمارسه المؤسسات الخاصة والعامة أو كجزء من التدابير السياسية. وتستند المعاملة غير المتساوية للمرأة إلى قوالب نمطية عفا عليها الزمن وتحديد الأدوار بين الرجل والمرأة. يتم بناء جنس الشخص اجتماعيا. لا يوجد تحديد "طبيعي" أو "بيولوجي" حصري للجنس. وهذا يعني أن الذكورة هي أيضًا بناء اجتماعي. ونظرا لإطار توقعات الدور الأبوي ، فإنه غالبًا ما يرتبط بالعدوان. ومن أجل مواجهة العنف ضد المرأة على جميع مستويات المجتمع واتخاذ تدابير وقائية، طورت منظمة ميديكا مونديال نهجها المتعدد المستويات .

التعريف: الأسباب الهيكلية للعنف ضد المرأة

ولا يحدث العنف ضد المرأة على أساس نوع الجنس على مستوى الفرد فحسب، بل إنه متجذر في الهياكل الثقافية والمؤسسية للمجتمعات. ويشار بعد ذلك إلى التفاعل بين السلوكيات التمييزية على المستويات الثلاثة بالعنف "البنيوي". ويمكن رؤية العنف الهيكلي، على سبيل المثال، في القواعد والقوانين والتقاليد والعادات التمييزية، وكذلك في اللغة الكارهة للنساء. ولتأثيرات هذه الهياكل تأثير لا واعي وواعي على الناس في طريقة تفكيرهم وفي طريقة تصرفهم. في المقابل، يستمر الأشخاص الذين تم تكوينهم اجتماعيا داخل هذه الهياكل في الحفاظ عليها، مما يؤدي إلى دورة تضمن استمرار وجود التمييز الجنسي وظهوره، وبالتالي الحفاظ على العنف ضد المرأة الناتج عن هذا التمييز الجنسي.

أمثلة على الأسباب الهيكلية للعنف ضد المرأة

في حين يُنظر إلى الهيمنة والسلطة والقوة على أنها ذكورية، فإن صفات مثل الخضوع أو السلبية أو التساهل يتم تخصيصها للنساء. وحتى يومنا هذا، تؤدي هذه الصفات إلى استبعاد النساء من عمليات ومناصب صنع القرار السياسي المهمة. ويؤدي هذا النقص في التمثيل في المجالات ذات الصلة في المجتمع إلى إهمال احتياجات المرأة وترسيخ العنف. ويمكن رؤية انعكاسات ذلك أيضا على مستوى التشريعات: على سبيل المثال، ربع جميع البلدان فقط لديها قوانين تتعلق بالاغتصاب في إطار الزواج. وحتى في ألمانيا، لم يصبح الاغتصاب في إطار الزواج غير قانوني إلا في عام ١٩٩٧. مثال آخر على العنف الهيكلي هو التحيز الجنسي في مكان العمل. ويشمل ذلك الخطاب المعادي للنساء، وانخفاض الأجور والرواتب بشكل كبير لنفس العمل، ونسبة أقل بكثير من النساء في المناصب الإدارية.

ما هي عواقب العنف على النساء المتضررات؟

يمكن أن يؤدي العنف إلى عواقب جسدية أو نفسية أو اجتماعية خطيرة، أو حتى الموت. وينطبق هذا أيضًا على العنف الجنسي. يمكن أن تشمل عواقب العنف الجنسي العقم والأمراض المنقولة جنسيًا والصدمات النفسية والاكتئاب والقلق ونوبات الذعر. أحد أسباب الشكاوى النفسية الجسدية هو قمع تجربة العنف، وهو أمر ترى العديد من النساء أنفسهن مجبرات على القيام به. وكثيرا ما يتم إلقاء اللوم على النساء لإثارة العنف، أو لا يتم تصديقهن، أو يتم وصمهن في بيئتهن الاجتماعية.

ما هي عواقب العنف على عائلات المتضررين؟

إن العنف ضد المرأة هو دائما أيضا عنف ضد أطفالها، حتى لو لم يتعرضوا لهجوم مباشر. فمجرد مشاهدة العنف، على سبيل المثال، يمكن أن يكون كافيًا للتسبب في اضطرابات النوم أو اضطرابات النمو أو العدوانية أو القلق. علاوة على ذلك، هناك جانب آخر خطير للغاية يجب أخذه بعين الاعتبار وهو توريث السلوك العنيف والصدمات إلى الأجيال اللاحقة. يتعلم الأطفال الذين يتعرضون للعنف أو يشهدونه وعواقبه قبول هذا العنف كوسيلة لحل النزاعات. يمكن للنساء اللاتي تعرضن للعنف الجنسي أن ينقلن التجربة المؤلمة إلى أطفالهن وأحفادهن دون وعي كصدمة عبر الأجيال ، والتي تظهر على شكل قلق أو توتر أو استجابات وقائية. وهذا يمكن أن يكون له تأثير سلبي على الترابط داخل الأسرة.

"يجب أن يكون هناك تغيير في التفكير هنا، وبعد ذلك سنرى الحكومات والمجتمع المدني يظهران المزيد من التضامن مع النساء والفتيات في مناطق النزاع."

ما هي عواقب العنف ضد المرأة على المجتمع ككل؟

للعنف ضد المرأة عواقب بعيدة المدى على المجتمع. الصدمة عبر الأجيال ، والتي يمكن أن تنتقل من الناجين من العنف الجنسي إلى أطفالهم، تؤثر سلباً على الصحة النفسية لأسر بأكملها. لا سيما في حالة العنف الجماعي، مثل العنف الجنسي في زمن الحرب ، يمكن أن تشعر الشبكة الاجتماعية بأكملها بالآثار الضارة لأجيال. إن الهياكل الأبوية، القائمة على التحيز الجنسي وغيره من أشكال التمييز، تخلق بشكل مباشر مناخاً من العنف لا تشعر فيه النساء بالأمان عند التنقل في الأماكن العامة أو عيش حياتهن بشكل كامل.

ونظرا للقيود المفروضة على النساء فيما يتعلق بحصولهن على التعليم أو اختيار المهنة، فإن المجتمعات غير قادرة على الاستفادة من إمكانات نصف سكانها. وترتبط هذه الفرص التعليمية الضعيفة للفتيات والنساء ارتباطًا مباشرًا بالفقر ووفيات الأطفال والأمهات، فضلاً عن أزمة المناخ. يمكن للكوارث الطبيعية أن تعيق الوصول إلى التعليم . وتدمر الفيضانات الطرق المؤدية إلى المدارس والفصول الدراسية، ويؤدي الجفاف إلى سقوط الأسر في براثن الفقر. ومع ذلك، يحتاج العالم إلى فتيات وفتيان متعلمين جيدا يمكنهم تطوير استراتيجيات للتخفيف من عواقب أزمة المناخ ولعب دور نشط في تشكيل مجتمعهم.

ما هي عواقب العنف ضد المرأة على الدولة والاقتصاد؟

إن مشاركة المرأة في العديد من القطاعات السياسية والاقتصادية مقيدة بشدة بسبب التمييز ضدها. وتشير الدراسات إلى أن مدى مشاركة المرأة له تأثير مباشر على استقرار الدولة ونجاحها الاقتصادي . وتعاني النساء اللاتي تعرضن للعنف بشكل متكرر من إصابات جسدية ونفسية، مما يؤدي إلى غيابهن عن مكان العمل، مما يقلل من إنتاجية الشركات ويضر بالاقتصاد الوطني.

ويتحمل المجتمع أيضا تكاليف العنف ضد المرأة في شكل تكاليف البيوت الآمنة للنساء، والقضايا أمام المحاكم، وعمليات الشرطة، والعلاج النفسي أو الطبي. علاوة على ذلك: وكما هو معترف به في قرار الأمم المتحدة رقم 1325 ، فإن العنف الجنسي يشكل عقبة خطيرة أمام مفاوضات السلام الناجحة، كما أنه يشكل تهديدًا للسلام والاستقرار على المدى الطويل. إن اتفاقات السلام التي يتم التوصل إليها دون مشاركة المرأة أو النظر في احتياجاتها لا يمكن أن تكون ناجحة على المدى الطويل.

العنف ضد المرأة: قضية تخص الدولة

ولا ينبغي التعامل مع العنف ضد المرأة باعتباره قضية شخصية، بل كمشكلة مجتمعية يمكن، بل ويجب، منعها. ومع ذلك، فإن حالات العنف على أساس النوع الاجتماعي، مثل قتل الإناث، غالبًا ما تظهر في وسائل الإعلام أو حتى في قضايا المحاكم تحت المصطلح التافه "الدراما العائلية". إن اختيار اللغة هذا هو جزء من المشكلة الهيكلية التي تجعل العنف ضد المرأة يبدو أقل ضررا. كما أنها لا تحدد بوضوح الأسباب أو المسؤولين عنها. وعلى الدولة واجب منع العنف ضد المرأة. كما أنها ملزمة بتوفير الحماية والدعم للمتضررين وملاحقة مرتكبي هذه الجرائم. وما لم تكن هناك استراتيجية حكومية شاملة ومتماسكة تأخذ في الاعتبار أسباب العنف ضد المرأة، فلن يكون هناك تطوير للتدابير التي لها تأثير فعلي.

أمثلة على فرص تدخل الدولة

يمكن تقديم دورات تدريبية للموظفين في قطاعي الرعاية الصحية والقانونية لرفع مستوى وعيهم بالعنف ضد المرأة. وعلى وجه الخصوص، فإن العمل الإعلامي، ورعاية الأطفال والتعليم المنصفين بين الجنسين، والتثقيف في مجال حقوق الإنسان، وسياسة عدم التسامح مطلقًا مع العنف، كلها تدابير يمكن أن تمنع العنف وتساعد على التصدي للمواقف المعادية للنساء.

ما الذي يمكن أن يفعله المجتمع لمكافحة العنف ضد المرأة؟

يمكن لكل فرد أن يكون نموذجًا يحتذى به في السلوك المنصف بين الجنسين. إن التساؤل والتفكير في سلوكنا ومعايير المجتمع يمكن أن يكشف أين قمنا دون وعي بتبني طريقة تفكير وسلوك متحيزة جنسيًا والتي تم تصميمها لنا من قبل مجتمعنا أو داخله.

التضامن مع المرأة يقوي التماسك الاجتماعي. كما أنه يقلل من المساحة المتاحة للعنف ضد المرأة. إن الإشارة بوضوح إلى أننا ضد كل أشكال العنف ضد المرأة والتمييز يساعد على إرسال الإشارات الصحيحة.

هناك طريقة أخرى لاتخاذ موقف وهي مقاطعة المنتجات التي تكره النساء وانتقاد أي تنسيقات ترفيهية تظهر التمييز. وهذا يساعد على وقف إدامة القيم الكارهة للنساء.

إن الأشخاص الذين يعملون في قطاعات مثل التعليم والإعلام والثقافة والإعلان، أو حتى تطوير ألعاب الكمبيوتر، لديهم وظيفة معينة كنماذج يحتذى بها ويمكنهم المساعدة في توسيع نطاق تأثيرات الصور الأكثر إنصافًا بين الجنسين.

يتحمل الأشخاص الذين يمارسون العنف مسؤولية فردية عن أفعالهم، حيث يمكنهم هم أنفسهم اتخاذ القرار ضد العنف.

يمكن لشهود العنف الاتصال بمراكز الاستشارة المناسبة والمساعدة في ضمان ترتيب الدعم.

المراقبة واتخاذ الإجراءات: أمثلة على عملنا

تعمل منظمة ميديكا مونديال والمنظمات الشريكة لناعلى رفع الوعي العام بالعنف الجنسي وتثقيف الناس حول أسباب وعواقب العنف ضد المرأة. إن عامة الناس وصناع القرار مثل السياسيين مدعوون للتعامل مع قضية العنف ضد المرأة. وتشمل أهدافنا اتخاذ تدابير ضد العنف الجنسي والعنف القائم على نوع الجنس، فضلا عن تقديم المساعدة الخالية من التمييز للناجين.

1. العمل التوعوي العام: كسر محرمات العنف الجنسي:

وكجزء من عملنا للتوعية العامة، فإننا نتواصل مع مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة من أجل كسر المحرمات في المجتمع بشأن هذه القضية، وإحداث تحول هيكلي. على سبيل المثال، قامت منظمتنا البوسنية الشريكة " أطفال الحرب المنسيون" بتنظيم معرض للصور بعنوان "التحرر" للفت الانتباه إلى المواقف التي يواجهها الأطفال المولودون نتيجة للعنف الجنسي في زمن الحرب وأمهاتهم. تقدم منظمتنا الشريكة ميديكا ليبيريا برامج إذاعية لتثقيف سكان القرية حول حقوق المرأة. يمكن للمستمعين الاتصال أو إرسال أسئلتهم إلى المستشار القانوني كرسالة نصية. ويتم أيضًا مخاطبة الرجال بشكل مباشر، من أجل إقناعهم بدعم النساء والفتيات بشكل فعال.

2. الدعم المتكامل للنساء والفتيات المتضررات من العنف:

تقدم منظماتنا الشريكة مساعدة متكاملة وطويلة الأمد للناجين من العنف الجنسي، من خلال اعتماد نهجنا المراعي للإجهاد والصدمات  وتشمل أمثلة الدعم الاستشارة الطبية والنفسية والاجتماعية والمساعدة القانونية والتدابير المدرة للدخل. تنظم منظمتنا البوسنية الشريكة بودوغنوصت التدريب البستاني والزراعي للنساء والفتيات حتى يتمكن من تأمين معيشتهن بشكل مستقل.

ومن خلال القيام بأعمال المناصرة السياسية ، تعمل منظمة ميديكا مونديال مع المنظمات الشريكة لها لدعوة الجهات الفاعلة السياسية إلى تنفيذ السياسات التي تلبي احتياجات الناجين من العنف الجنسي. نعمل على رفع مستوى الوعي بين السياسيين والحكومات في جميع أنحاء العالم حول قضية العنف ضد المرأة، ونطالبهم بدعم حقوق المرأة وإنفاذ القوانين القائمة لحماية المرأة. ويجب أن تؤخذ مصالح واحتياجات الناجين في الاعتبار في عمليات صنع القرار السياسي. ولا بد من تحطيم الهياكل التي تديم العنف حتى يمكن منع العنف على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك، نقوم بحملة نشطة لضمان حصول الناجين من العنف الجنسي (في زمن الحرب) على الدعم المناسب و/أو التعويض.

أمثلة من ألمانيا وجنوب شرق أوروبا وأفغانستان

في ألمانيا، تدعو منظمة ميديكا مونديال إلى الالتزام باتفاقية اسطنبول لمناهضة العنف ضد المرأة وجدول أعمال الأمم المتحدة "المرأة والسلام والأمن". كما نطالب الحكومة الألمانية بتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم ١٣٢٥ بشكل صحيح من أجل ضمان حماية النساء والفتيات في مناطق النزاع وإتاحة الفرصة لهن للمشاركة في عمليات السلام. وفي كوسوفو، ساهمت ميديكا جاكوفا في الجهود التي أدت إلى منح معاش شهري للنساء والفتيات اللاتي تعرضن للاغتصاب خلال حرب كوسوفو. وفي تموز ٢٠٢٢، أصدر برلمان البلاد في البوسنة والهرسك قانونا بشأن الاعتراف القانوني بالأشخاص الذين ولدوا نتيجة الاغتصاب في زمن الحرب، بعد سنوات عديدة من الحملات التي قامت بها المنظمات الشريكة لنا.

***

.......................

المصدر

https://medicamondiale.org/en/violence-against-women/causes-and-consequences

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

هذه التجارب - التي هي مجرد وهم أكثر من كونها هلوسة - يمكن أن تكون جزءًا صحيًا من عملية الحزن

***

في الأسابيع التي تلت وفاة طبيب الأعصاب أوليفر ساكس، رأى صديقه جوناثان وينر ساكس يقف في شارع مزدحم في نيويورك. ثم حدث الأمر مرة أخرى: على بعد حوالي عشرين قدمًا، كان هناك رأس ساكس الأصلع، ولحية بيضاء كثيفة، وجسم طويل، يجلس على مقعد في الحديقة.

لم يركض وينر بعد ظهور ساكس هذا، أو جلس بجانبه على المقعد ليسأل عن صحته. كان يعلم أنه لم يكن هو حقًا. "لم تكن هناك لحظة من البحث"، يتذكر وينر، وهو كاتب علمي. "مجرد التفكير في أنني رأيت ذلك وتذكره على الفور كان مستحيلاً"

عندما يموت شخص قريب منك، فإنه يختفي ولا يمكن العثور عليه بعد الآن. هذه هي اللحظة المحددة التي يبدأ فيها بعض الأشخاص المكلومين برؤية ذلك الشخص مرة أخرى: في شارع مزدحم، في السوبر ماركت، بالقرب من الزاوية أمامنا. وهي تجربة كتب عنها ساكس بنفسه في كتابه الهلوسة (2012). في تجربته السريرية، رأى ما يصل إلى ثلث الأشخاص الثكالى أو سمعوا عن أحبائهم بعد وفاتهم، حتى أن الكثير منهم رأوا قططهم الميتة. توقف وينر عن رؤية ساكس بعد مرور المزيد من الوقت، لكنه لا يزال يلمح والده الذي توفي عام 2016.

هناك مجموعة واسعة من هلوسات ما بعد الفجيعة كما يشير إليها علماء النفس. يقول آلان وولفلت، مستشار الحزن ومدير مركز الموت وانتقال الحياة: "لقد قيل لي هذا ألف مرة". "يوجد شخص ما في المركز التجاري ومن مسافة بعيدة يرى والده." غالبًا ما يواجه الناس شخصًا ما للتأكد من أنه ليس هو.

في دراسة أجريت عام 1971 بعنوان "هلوسة الترمل"، وجد طبيب من ويلز أن ما يقرب من نصف الأرامل لديهم تجارب هلوسة مع أزواجهم. وقد حدثت هذه الحالات في أغلب الأحيان في السنوات العشر الأولى من الترمل، لكل من الرجال والنساء، وكانت أكثر احتمالاً كلما طالت مدة زواج الزوجين. وقد كررت دراسة أجريت في عام 1985 هذه النتائج بناءً على مقابلات مع سكان دارين لرعاية المسنين، ووجدت دراسة أحدث من عام 2015 أن 30 إلى 60 في المائة من الأرامل تعرضن لتجارب هلوسة بعد الفجيعة. في بعض الأحيان، لا يرى الأشخاص أحبائهم فعليًا، ولكن لديهم شعور أو إحساس بوجودهم.

تقول ماري فرانسيس أوكونور، التي تدير مختبر الحزن والخسارة والضغط الاجتماعي في جامعة أريزونا: تلك اللحظة في الشارع، عندما يظهر من تحب في زاوية عينك، أو أمامك، هي مجرد وهم أكثر من كونها هلوسة. عادة ما تأتي الهلوسة مصحوبة باعتقاد يدوم إلى ما هو أبعد من مجرد لقاء بصري، على سبيل المثال، أن الشخص لا يزال على قيد الحياة. ولكن هذا ليس ما يحدث عادة عندما يرى الناس أحبائهم المفقودين.

يقول وولفلت إنه أقرب إلى سلوك الشوق والبحث، وهو جزء أساسي من الحزن وقبول حقيقة وفاة الشخص. يقول: "أستطيع أن أعرف في رأسي أن والدي قد مات". "لكننا لم نخلق كبشر للوصول إلى حقيقة الموت بسرعة وكفاءة.

عادة ما تحدث هذه الأوهام البصرية عندما نكون في وضع الطيار الآلي أو عندما نكون شاردين. بصفتها عالمة أعصاب في مجال الحزن، تشرح أوكونور هذه الظاهرة في سياق الطريقة التي يقوم بها الدماغ باستمرار بالتنبؤات حول العالم. وتقول: "إنها تساعدنا على تخيل ما يمكن أن يحدث وكيف يمكننا الاستعداد له".

تظهر الأبحاث أن 71% من الأشخاص "العزيزين" يشعرون بأحبائهم بعد وفاتهم

بعد الخسارة، بينما يقوم الدماغ بتصفية المعلومات الإدراكية الواردة، فإنه يستمر في القيام بذلك من خلال الاعتقاد العنيد بأن من نحب لا يزال موجودًا؛ بمعنى ما، فإن الخلفية التي تساعد في تشكيل تصورنا لم يتم تحديثها بعد. تقول أوكونور: ""إذا كان هناك أي إشارة إدراكية في البيئة قد تكون مرتبطة بما سيكون عليه الأمر عند رؤية أحبائنا في هذا المكان، فإن دماغهم سوف يملأها لنا". "إن الدماغ جيد حقًا في اكتشاف الأنماط وملء الأجزاء التي قد لا تكون موجودة."

إن معتقداتنا حول العلاقات هي التي كانت مهمة جدًا ومن المرجح أن يتم تحديثها بشكل أبطأ. عندما ترتبط بشكل وثيق بشخص ما، خاصة عندما تكون طفلاً لأحد الوالدين، فإن هذا الارتباط يخلق اعتقادًا بأن هذا الشخص سيكون موجودًا دائمًا من أجلك. تقول أوكونور: "لهذا السبب يقول الناس: "أعلم أن هذا يبدو جنونًا، لكنني أشعر أنهم سيدخلون من الباب مرة أخرى".

معظم هذه التجارب الوهمية حميدة. حتى أن معظم الأرامل الذين درسوا في عام 1971 وجدوها مفيدة؛ ووصف 6% فقط اللقاءات بأنها غير سارة. في عام 2021، عندما سأل الباحثون أكثر من 1000 شخص عن شعورهم برؤية أحبائهم بعد وفاتهم، قال 71% منهم "يعتزون بذلك"، وقال 20% إنهم سعداء بحدوث ذلك، واعتقد 68% أن هذه التجربة مهمة لعملية حزنهم.

وقد وجد وولفلت، من خلال الروايات المتناقلة، أن الأشخاص الذين يكونون بعيدًا عن أحبائهم عندما يموتون يكونون أكثر عرضة لرؤيتهم بعد ذلك. ويقول: "في حين أن الأشخاص الذين يرون جثة ميتة، يبدو أن لديهم سلوكًا أقل بحثًا وشوقًا".حتى عندما تكون بعيدًا عن شخص ما، فأنت تعرف مكانه. تقول أوكونور: "سوف تعرف كيفية الوصول إليه".إنهم يعيشون في مكان ما. عندما نحزن بشدة، يحاول دماغنا أن يفهم: أين هذا الشخص؟

تشعر أوكونور بالقلق فقط إذا كانت رؤية أحد أفراد أسرته ميتًا تؤدي بالشخص إلى تجنب مواقف أو أماكن معينة، أو إلى تغيير سلوكياته بشكل كبير. اعتقدت إحدى عملائها المكلومين الأوائل أنها رأت والدها، وكانت قلقة للغاية بشأن رؤيته مرة أخرى. وتقول: "كان هذا إلى حد كبير لأنه تعرض لحادث صادم حقًا، وكانت خائفة من الشكل الذي سيبدو عليه". بمجرد أن تحدثت هذه العميلة عن مخاوفها مع أوكونور، تبددت مخاوفها. بالنسبة لمعظم الناس، على الرغم من الشعور بالشوق أو خيبة الأمل، إلا أنها ليست تجربة مزعجة. يقول وولفلت: "إنه ليس بالأمر السيئ، على الرغم من أنه يسبب الألم".

في كتاب صدر عام 1983 بعنوان "تشريح الفجيعة"، وصف الطبيب النفسي بيفرلي رافائيل هذه اللقاءات بأنها "تفسيرات إدراكية خاطئة "، مرددًا صدى بعض أفكار فرويد حول الحزن. في مقال "الحداد والكآبة" (1917)، كتب سيجموند فرويد أن الناس يمكن أن يكون لديهم مثل هذه المعارضة لفكرة أن أحباءهم لم يعدوا موجودين وأن "الابتعاد عن الواقع والتعلق بالشيء يتم من خلال ذهان الهلوسة والرغبة".

لكن أوكونور يقول إن التفكير مؤقتًا في أنك رأيت شخصًا ميتًا على قيد الحياة لا يحتاج إلى تأطيره على أنه "ذهان" على الإطلاق. هذا يعني أنك لا تزال مرتبطًا بهذا الشخص، وليس عليك قطع هذه الروابط لتحزن بشكل صحيح، كما كتب عالم النفس كريستوفر هول، الرئيس التنفيذي للمركز الأسترالي للحزن والفجيعة. وكتب: "الموت ينهي الحياة، وليس بالضرورة العلاقة". "بدلاً من "قول الوداع" أو البحث عن خاتمة، هناك احتمال أن يكون المتوفى حاضراً وغائباً في نفس الوقت." قد يعني هذا رؤية صديقك أو والدك في بعض الأحيان خارج زاوية عينك. ويمكن أيضًا أن يكون الأمر أكثر وضوحًا: التحدث معهم بصوت عالٍ، أو زيارة الأماكن التي يحبونها عمدًا والشعور بوجودهم هناك.

"لا أستطيع مقاومة الرغبة في إعادة التأكيد على أنه ليس هو حقًا"

من الشائع أن يمر الناس بتجارب مع أحبائهم المتوفين عبر العديد من الثقافات، على الرغم من أنه يمكن تفسير ذلك بطرق دينية أو روحية أو نفسية مختلفة. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجريت على الأرامل اليابانيات أن أولئك الذين تركوا الطعام للموتى لديهم مرونة نفسية أكبر.في الصين، وصف الناس أحبائهم الذين يزورونهم بأنهم حشرات، "نادرا ما تطير بعيدا، كما تفعل الحشرات عادة، مما يتيح للمفجوعين فرصة التحدث إلى الحشرات كما لو كانوا يتحدثون إلى المتوفى"

كان لدى ساكس نفس التجربة التي مر بها وينر مع والديه. قال في مقابلة حول الهلوسة مع الإذاعة الوطنية العامة (NPR) في عام 2012: "بعد وفاة والدتي، ظللت أفكر أنني كنت أراها في الشارع. أعتقد أنه ربما كان هناك بعض التشابه الطفيف في المشية أو الوضعية أو الحجم". ". في كتابه "الهلوسة"، كتب ساكس عن بعض الأشخاص الذين يدركون أشياء غير موجودة بعد فقدان حاسة السمع، مثل سماع أشياء متخيلة بعد فقدان السمع. يمكن التفكير في فقدان شخص تهتم به بنفس الطريقة. وقال: "من المؤكد أن المرء يتساءل عما إذا كان الأمر بهذه الطريقة". "إن وفاة شخص محبوب ومألوف يترك فجوة في حياة المرء."

في عام 2020، توفي أحد أصدقائي المقربين. في العام السابق، كان قد عاد إلى منزله في كاليفورنيا، لذلك لم نر بعضنا البعض منذ أشهر. ومع ذلك، لم أكن أنظر أحيانًا من فوق كتفي إلا بعد وفاته، إذا رأيت شخصًا ببنيته البدنية، أو أعبر سيارة مترو أنفاق مزدحمة لأقترب من شخص يرتدي مثله. يقول صديق آخر، كينجو، الذي شاركني هذه الخسارة، إنه مر بتجارب مماثلة - غالبًا عندما يرتدي شخص ما قبعة صغيرة بالطريقة التي اعتاد عليها صديقنا، أو يرتدي بنطال جينز بأساور أو سترة متماسكة جيدة.

سوف يشعر كينجو، في البداية، بفرحة مفاجئة. "أرى مؤخرة رأس صديقي وهو لا يراني. أستطيع أن أفاجئه!" ثم يتوقف الزمن ويصبح هناك انقسام بين هذا الشعور والواقع. يقول: "هذا الشعور الذي تشعر به عندما تفوت خطوة على الدرج". "ثم صورة بانورامية بطيئة وحزينة بينما أحاول رؤية الشخص من زوايا أخرى. أنتقل إلى جانبه. الوجه يؤكد ذلك. قد يتبعهم كينجو لفترة أطول مما يعتقد. "سرقة النظرات، لا أستطيع مقاومة إغراء إعادة التأكيد على أنه ليس هو في الحقيقة."

***

....................

المؤلفة: /Shayla Love كاتبة في Psyche. وقد ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.

رابط المقال على سايكى / PSYCHE  بتاريخ 2 أبريل 2024:

https://psyche.co/ideas/why-so-many-of-us-see-our-loved-ones-after-they-have-died

إنَّ الآية التاسعة والعشرين من (سُورة التوبة)، التي يردِّدها مُشوِّهو الإسلام من الإرهابيِّين: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ، وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ»، لو فُهِمت بصياغتها اللُّغويَّة المشيرة إلى «القتال»، لا إلى «القتل»، لانتفت دلالتها على المبادأة بالعُدوان، بغير عُدوان من الطَّرَف الآخَر. ثمَّ لو جُعِلت في سياقها القرآني، الناهي عن العُدوان أصلًا، بأيَّة صورة من الصُّوَر، لَما بقي لأولئك فيها من استدلال. حتى إنَّ «الجِزية» المشار إليها في نهاية الآية إنَّما تبدو عِقابًا مفروضًا على من تُفرَض عليهم لبدئهم بالعُدوان، وكشَرطٍ للكفِّ عن مقاتلتهم، ولكيلا يعودوا إلى مثلها من بَعد. ذلك أنَّه ما دام «القرآن» ينهى عن العُدوان، ويرفع لافتة «لا تعتدوا»، ولافتة «لا عُدوان»، ولافتة «لا إكراه في الدِّين»، فإنَّ كلَّ مخاطَبٍ يفقه اللُّغة، ويربط الكلام بعضه ببعض، سيُدرِك أنَّ الأمر كلَّه دفاعيٌّ لا هجومي، وحِمائيٌّ لا حماسيٌّ لقَسْر الناس وعَسْفهم والتسلُّط عليهم.

كذا استطرد (ذو القُروح) في نقده الفكري الثقافي لبِنية العقل الاتباعيَّة، على اختلاف المِلل والنِّحَل والأزمان ومذاهب الاتِّباع. مُردِفًا: على أنَّ من الناس من يظنُّ مفهوم الاتِّباع هو اتِّباع الماضي فقط، ويظنُّ الإبداع في المقابل والتجديد يرادفان الانسلاخ من الهُويَّة، والتراث، واللُّغة، ومن الشخصيَّة الحضاريَّة، جهلًا أو اعتقادًا!  ومَن يرى هذا هو أضلُّ من حمار أهله، مع الاحترام لحمار أهله، طبعًا! ذلك أنَّ العقليَّة الاتِّباعيَّة للآخَر، أو للسائد، أو لثقافة القطيع المعاصر، أدهى من العقليَّة الاتباعيَّة للتراث وأَمَر. من حيث إنَّ العقليَّة الاتباعيَّة للتراث مرضُها جزئي، وقابلٌ للعلاج، لكن العقليَّة الاتباعيَّة الأخرى (للآخَر) تعاني مسخًا بنيويًّا، يتعذَّر إصلاحه. قلتُ:

  - لكن هؤلاء الذين أشرتَ إليهم إنَّما ينتقون ما يشاؤون، ويقتطعون ما يظنُّونه يخدم خِطابهم الأيديولوجي، وأهواءهم السياسيَّة، من سياقه النصِّي والواقعي، فإنْ لم يجدوا ما يبغون، استمدُّوا معين المرويَّات، التي يفرح بها أربابُ العُنف والإرهاب وأربابُ الطَّعن معًا؛ لأنَّ فيها- ممَّا يدعم خِطابهم وأغراضهم- ما لا يعثرون عليه في كتاب الله.

- وحسبك بهذا وذاك من انحرافٍ قرائيٍّ للنُّصوص، بعد الانحراف الفِكري، يبعث على الإشفاق!  وهؤلاء- بطبيعة الحال- يستندون إلى ممارسات طوائف متطرِّفة جاهلة من المسلمين، تَلِج من باب ما يُمكِن أن يُسَمَّى التعسُّف في فهم الحقِّ واتِّباعه أو فرضه. حيث يتحوَّل «الحَقُّ»- وَفق فهم تلك الطوائف- وعلى يديها إلى شعارٍ مطلَق، مبتوتٍ من سياقاته، وأسبابه، وواقعه، يُستباح تحت رايته كلُّ شيء!  فيصبح غايةً تُبرِّر الوسيلة. وليست في الإسلام غايةٌ تُبرِّر الوسيلة، حتى لو كانت الغاية عبادة الله. غير أنَّ هذا السلوك- المعروفة نظائره في كُلِّ أنظمة التاريخ السماويَّة والأرضيَّة- ليس بحُجَّةٍ، لا على الحَقِّ، بما هو كذلك، ولا على النَّص، طِبق سياقاته الصحيحة، والمعبِّرة عنه في بناءٍ متكامل. ويقف إلى جوار المهوِّنة والمهوِّلة هؤلاء- أي أصحاب الخِطاب المهوِّن ممَّا كان يواجهه الرسول الكريم من تحدِّيات، والمهوِّل ممَّا اتَّخذه من إجراءاتٍ للمواجهة- خِطابٌ رديفٌ يسير على النهج نفسه، مهوِّنًا من حال الثقافة الاجتماعيَّة في الجزيرة العَرَبيَّة قبل الإسلام وبعده، بما في ذلك من تصوُّراتٍ أُسطوريَّةٍ وظُلْمٍ وسلوكيَّاتٍ منكَرة.

- كيف ذاك؟

- لقد بلغ الأمر ببعضهم إلى إنكار الواقع الاجتماعيِّ والثقافيِّ الجاهلي، الذي امتدَّ في الناس إلى وقتٍ قريب، بل ربما ما زال ممتدًّا إلى الوقت الراهن، من عقائد، وعنصريَّات، ووَأْد بنات- وإنْ معنويًّا- إلى غير ذلك ممَّا جاء الإسلام ثورةً عليه، قبل ألف سنة وبضعة قرون!  فتراهم ما يفتؤون يهوِّنون من تلك الأحوال، ويلتمسون لأهلها المعاذير، ولشواهدها التأويلات، وكأنَّ العَرَب كانوا على سراطٍ مستقيم؛ فلا شِرك فيهم، ولا ظُلْم، ولا غَدْر، ولا وَأْد، وبالجملة لا فرق بين ما قبل الإسلام وما بعده! 

- عجيب!  مَن هؤلاء؟

- زمرةٌ من القوميِّين المعاصرين، وبعض القَبَلِيِّين، من العَرَب البائدة العائدة!  وهي قوميَّةٌ مَقيتةٌ وقَبَليَّة، تَدُسُّ رأسها في رِمال الرُّبع الخالي، تقديسًا للقبيلة، والآباء، والأعراف المتوارثة. متأوِّلين، مثلًا، مقولات مثل «إنَّما بُعِثتُ لأُتَـمِّم مكارم الأخلاق».

- يبدو أن رؤوس هؤلاء هي التي ما زالت تعيش ثقافة «الما قبل»، أو تحنُّ إليها!

- أجل، هم أحفاد (أبي جهل) غربًا، و(قيس بن عاصم المنقري) شرقًا. فصاحب خِطابٍ كهذا يحاول أن يزعم لك أن «مكارم العَرَب» ثابتة منذ ما قبل الإسلام، محتجًّا بقوله: إنَّ الرسول قد قال: «إنَّما بُعِثتُ لأُتَـمِّم مكارم الأخلاق». مع أنَّ الحديث وردَ بلفظ «بُعِثتُ لأُتمِّم حُسْنَ الخُلُق»، أو «حُسْنَ الأخلاق».(1) والفرق واضحٌ بين عموميَّة «مكارم الأخلاق» ونسبيَّتها المطلقة، وبين خصوصيَّة «حُسْن الخُلُق» ومعياريَّتها المشروطة بصِفة «الحُسْن». ومن هنا فلفظ الحديث يتَّجه إلى إحسان التعامل السلوكيِّ بين الناس، على حين تتجه عبارة «مكارم الأخلاق» لفتح المعنى على مصراعيه، ليستوعب كلَّ ما يمكن أن يُتأوَّل على أنه من «المكارم»، من عادات وتقاليد وأعراف، يراها أهلوها من جملة مكارمهم. وإذا وَلَجَ المرء هذا الباب، فقد كان من مكارم الأخلاق عند العَرَب وكان من شيمهم: «الظُّلْم»- مثلًا- و«الغَدْر»، و«شرب الخمر»، و«وَأْد البنات». ثمَّ إنَّ «الأخلاق» التي بُعِث الرسول لتتميمها لم تَرِد منسوبةً لا إلى «ما قبل الإسلام» زمنًا، ولا إلى «العَرَب» عِرْقا. وأكثر من ذلك، فإنَّ صفة «الجاهليَّة» نفسها، التي أُطلِقت على العَرَب، هي صفة تَنْسِبُ إلىهم البُعْدَ عن «المكارم» و«حُسْن الأخلاق» معًا؛ لما كان يتَّصف به معظمهم من طَيش، ونَزَق، وسَفَه، وظُلْم، وغَدْر، وتَرَوٍّ من الحياة بأيِّ ثمن.(2)

- هذا تمجيدٌ للعُروبة الجاهليَّة، على طريقة كُفَّار (قُريش): «اِمدحْ آلهتنا»!

- العِرق دَسَّاس!  لذا يمتدُّ هذا، من بَعد، إلى إنكار ما أنكره المصلحون الدِّينيُّون والاجتماعيُّون عبر العصور الإسلاميَّة؛ فهؤلاء- حسب ذلك الخِطاب- محض متطرِّفين، عدوانيِّين، سَطَوا على مجتمعاتٍ آمنةٍ مسالمة، خيِّرة نيِّرة، ولمآرب سياسيَّة، أو لهوسٍ دِينيٍّ عنيفٍ بحت، شعاره:

وما نَيل (المناصبِ) بالتمنِّي  :::  ولكن تُؤخذ الدُّينا غِلابا

- لا تُنكر أنَّ أولئك المصلحين لم تخل حركاتهم من العُنْف والعَسْف والغُلُو!

- نعم، لكن إذا صَحَّ انتقاد ما يقع من أولئك المصلحين من العُنْف والعَسْف والغُلُو، فما يعني ذلك تبرئة المجتمعات التي ثاروا عليها، والزعم أنه لم يكن فيها من العُنْف والعَسْف والغُلُو مثل ذلك أو أشد. ولو تجرَّد هؤلاء من الأهواء، لأقرُّوا أنَّ الحال في الجزيرة العَرَبيَّة، حتى خلال القرون المتأخِّرة، ما كانت بِدْعًا من حال العالم العَرَبي والإسلامي، بل حال العالم بصفةٍ عامَّة. واقرأ إنْ شئت- على سبيل النموذج- ما سجَّله الرحَّالة، من مستشرقين وغير مستشرقين، حول عقائد العَرَب وممارساتهم في الجزيرة العَرَبيَّة، خلال العصور الإسلاميَّة المختلفة، لترى العجب العجاب. واقرأ إنْ شئت أيضًا- على سبيل النموذج- ما سجَّله الباحثون من المؤرِّخين والآثاريِّين حول بعض المجتمعات إلى جوار الجزيرة العَرَبيَّة كذلك، لترى مثل ذلك.

- هل من شاهد؟

- الشواهد كثيرة. خُذ، على سبيل المثال، ما سجَّلوا حول مكانٍ اسمه (جبل المنيجة)، جنوب (وادي فيران) بجنوب (سيناء)، حيث ارتبط المكان بأساطير دِينيَّة قديمة لدَى عَرَب سيناء، تُعَدُّ استمرارًا لتقاليد وثنيَّة نَبَطيَّة، بقيت حتى العصر الحديث. فمن عادتهم أن يزوروا الجبل- الذي يبدو، كما يرجِّح بعض الدارسين، أنَّ المقصود به (جبل المناجاة)، الذي ناجى منه (موسى) ربَّه- وذلك في كلِّ سنة، آخِر الصيف، بعد موسم البَلَح، فيذبحون للجبل عند سفحه، فوق النبع الكبير هناك. وتفصيل ذلك: أن يَذبح كُلُّ فريقٍ من أولئك الأعراب «ذبيحة عامَّة، فيأكلون منها، ويوزِّعون على الفقراء، ويقرؤون الفاتحة لموسى وملائكة فيران! ويقولون إنَّ كلَّ مَن أحبَّ الاشتراك في الذبيحة العامَّة، ربطَ مِقْوَدَ الجمل بخِرقة، علامةً لذلك؛ حتى إذا ذُبِح الجمل علَّقوا مِقْوَدَه في شجرة طرفاء هناك تبرُّكًا. وبنَى العَرَب قديمًا على رأس الجبل مزارًا، لعلَّه المعبد النَّبَطي.»(3) 

- هذا هو الواقع في بعض المجتمعات، وبعضه ما زال إلى اليوم.

- ولكن إذا سجَّل المؤرخون هذا، أو أنكره المنكرون- عقلًا أو ديانة- قفز على المنصَّة غيورٌ أعور ينافح عن سمعة آبائه، وما لَهُ من وسيلة سِوَى وسيلة النَّعام، أو المغالطات، أو الهجوم بهدف الدفاع. فيُضحي منكرو المنكرات متَّهمين بالتطرُّف، لدَى أصحاب الخِطاب المطبِّل لما وجد عليه الآباء، من خيرٍ أو شرٍّ، على طريقة «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون»: لماذا يُتَّهم المسلمون بالشِّرك؟ ويُتَّهم العقلاء الحكماء، ومنهم (أبو الحَكَم/ أبو جهل)، بأنه ذو عقلٍ خرافي، ومتعصبٌ أعمى لموروثه؟  يفعلون ذلك تمامًا كما فعل أسلافهم، وكما يفعل معاصروهم من ذوي الأهواء، حين يتَّهمون (محمَّدًا) بالتطرُّف في مواقفه من مشركي الأعراب وغير الأعراب، بما توارثوه من أباطيل ذهنيَّة وعَقديَّة وسلوكيَّة. ولا غرو، فتلكم عقليَّةٌ واحدةٌ اتِّباعيَّة، ومِلَّةٌ سرمديَّة، قديمًا وحديثًا، عربًا وعجمًا، غربًا وشرقًا، تبدو «باقية وتتمدَّد».

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.....................

(1)  يُنظَر: وِنْسِنْكْ، أ. ي. (ولفيف من المستشرقين)، (1986)، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي عن الكتب الستة وعن مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، (إستانبول: دار الدعوة)، 1: 194 (بعث)؛ 2: 75 (خلق).

(2)  يُنظَر كتابنا: (2006)، نَقْد القِيَم: مقارباتٌ تخطيطيَّةٌ لمنهاجٍ عِلمِيٍّ جديد، (بيروت: مؤسَّسة الانتشار العَرَبي)، 56-58.

(3)  يُنظَر: الفاسي، هتون أجواد، (1993)، الحياة الاجتماعيَّة في شَمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة في الفترة ما بين القرن السادس قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، (الرِّياض: ؟)، 239- 240.

 

(لو أن الإنترنت كانت اقتصادًا قوميًا أو اقتصاد دولة، فإنها كانت ستُصنّف بين اقتصادات العالم الخمسة الأولى، أي بعد الولايات المتحدة والصين والهند واليابان مباشرة) ـ ديفيد دين في تقرير ماكينزي  2012

تأثير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على العلاقات الاجتماعية، مثل الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في صداقات المراهقين اليوم. أسئلة خطيرة تطرحها أخلاقيات التعامل، وقواعد الاتصال الاجتماعي الجديد إزاء استخدامات الهاتف الذكي بصحبة الآخرين، وكيف تؤثر على المواعدة والعلاقات المتعددة في عالم اليوم.

كيف تكون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات جزءًا من عمليات صياغة الهوية والتعبير عنها، مثل إنشاء ملفات تعريف على وسائل التواصل الاجتماعي على المواقع الشهيرة.

كيف تكون صور السيلفي وتمثلاتها الفنية والشعورية، جزءا من تلك العملية؟ ، وإلى مدى تكون هناك فوائد أو عيوب تترجم أنماطا أو أنساقا للتعبير عن أنفسنا عبر الأنترنيت؟

هناك هواجس أخرى، يثيرها علماء الاجتماع، في سياق تحليل ظاهرة المجتمعات عبر الأنترنيت، من بينها تأثير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي على التعبيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والأنشطة المجتمعية والحملات الموازية.

ويستحضر السؤال السوسيولوجي هنا، مظاهر التحفيز وتنوعه، خصوصا فيما يتعلق بتأثير الأنشطة وتداعياتها على القيم المجتمعية والسلوكات الاجتماعية. وهو ما يحدد بالتالي حضور التأثير الموازي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والويب في عمليات بناء الانتماء الاجتماعي، لاسيما بين المجموعات المهمشة أو الهامشية، وبخاصة الأقليات العرقية والثقافية وما إليها.

وتأسيسا على ذلك، أضحى علم الاجتماع الرقمي، يبرر تأويلاته الفلسفية انطلاقا مما تختزله الفجوات ، مع  يرافق ذلك من وسائل وطرق احتيالية يصل بها سماسرة الثروة إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وجميع موارد الويب المتصلة بها.

قطعا ولابد وأن لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، تأثيرات على المجتمع، ويستمر مع تدحرج رغباتنا في تشكيل عالمنا بطرق ما زلنا في بداية فهمها.

لكن الفجوات الرقمية اليوم، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقات الافتراضية للأشخاص، من جميع أنحاء العالم، قد غيرت المجتمع بطرق عديدة، من التبادل الثقافي إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية. فقد أعادت كتابة العديد من قواعد الاشتباك، كما أتاح مجتمع الإنترنت العديد من الطرق الجديدة للتفكير والتواصل، وهو ما سيمكن من الوصول إلى مصدر غير محدود تقريبًا من المعلومات، بدءًا من المواقع الإخبارية وحتى مصادر الأخبار المحلية.

 الآن، يمكننا الوصول إلى أي مصدر للأخبار من أي مكان. ومن زاوية معكوسة، يمكن استيعاب طفرات هذا التحول الرقمي، وإدراجه ضمن عالم رؤيوي يطور التفكير بالوجود وقدرة البشرية على الامتداد فيه والتعايش معه.

لكن تختلف سرعة الاستيعاب تلك، حسب المنظومة المستعملة والتكلفة ومدى توفر النطاق الترددي وانحيازاته الفنية والتكنولوجية.

وعلى الرغم، من هذا التفوق، فقد أدى استخدام الإنترنت إلى تقسيم رؤيتنا كمرافقين للتجربة إياها، على مستوى نوعية الحياة وتداعيات الصور المبثوثة من مواقع اجتماعية مختلفة، حيث تترجم أحيانا أشكال الرفاه المجتمعي وطبقياته. ما يشكل خطرا في الشعور بالتمايز والطبقية والتقعير الهامشي لشرائح معينة من المجتمع.

لكن الأبعاد الأكثر حضورا في تينك الفجوات، دخول مثالب النصب والاحتيال في حقل الدراسات والأبحاث والتصنيفات والمدونات الأدبية والعلمية. فعوض أن يمكن هذا التنوع معاشر الباحثين والدارسين من تعزيز أطاريحهم ورؤاهم، من خلال تبادل المعلومات والمعارف والبيانات عبر الأنترنيت، أضحى الذكاء الاصطناعي المنذور حديثا عبر تلويناته الخدماتية عالية الدقة، كتطبيق شات جي بي تي، المتخصص في المحادثة والإجابة على الأسئلة المختلفة، ومحاكاة المحادثات البشرية عبر تقنيات حديثة ومتطورة، وذلك باعتماد

تطبيقات منفردة على مجموعة من المراجعات البشرية التي تساعده على التعلم لإجراء محادثات ناجحة كالتي تحدث بين الأفراد، (أضحى) يسبب خرقا فاضحا في متلازمات الأخلاقيات وقيم البحث والترقي العلمي، استدعى من علماء الاجتماع الرقمي، التفكير بعمق في مستقبل العدالة عبر الأنترنيت، وتقاطعات ذلك مع منظومة التعليم وعلوم الجامعة والانتقالات التكنولوجية ذات الصلة.

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

تعددت الآراء، وأحتدمت النقاشات حول موضوع البعد السياسي في الأسلام، ومجال أشتغاله في المجال السياسي، وهل يشكل البعد السياسي كباقي الأبعاد الأخرى الأخلاقية والعقدية والتشريعية، التي تشكل الهيكل الفكري للأسلام، وهل تمثل السياسة وحدة من وحدات بناءه الأيديولوجي، وهل هناك مداليل تؤكد أنتماء هذا البعد الى الأسلام، وهل هناك مبررات تجعله جزء لا يتجزء من الكل الأسلامي كدين متعدد الأبعاد، ويمثل نظرة كونية للوجود، وشاملة للحياة. من خلال التعرف على نطاق الأسلام في حياة الفرد والمجتمع والدولة تتضح لنا واقعية،أو عدم واقعية الأسئلة التي طرحناها أعلاه، ومن خلالها سوف نعرف بأن فلسفة السياسة في الأسلام جزء طاريء على الدين الأسلام، أم تشكل جزء عضوي منه، وهنا أود أن أُبين أهمية هذا البعد في حياة الفرد والدولة والمجتمع، وعلى أساس هذه الأهمية يصبح البعد السياسي أحد الأبعاد التي أكد عليها الأسلام بأعتباره المجال العملي لتطبيق العناصر الأخلاقية والقيمية والعقدية في عالم الممارسة والتطبيق بأعتباره ديناً جاء لبناء الحياة وتشيدها على تصورات ورؤى من صميم الأسلام بأعتباره ديناً شمولياً، بل ويمثل أتباعاً لأمر ألهي الى البشر لأعمار الأرض وأقامة العدل الألهي عليها (هو الذي أنشأكم من الأرض وأستعمركم فيها)(هود61). أعمار الأرض وأقامة بناء أنساني عليها يتطلب خريطة عمل، وأستقرار أجتماعي عماده العدل، وهذا لايمكن القيام به إلا بأقامة نظام سياسي ينظم العلاقة بين بني البشر، ويفرض النظام ويمنع الأختلاف والفوضى، لكي تتهيأ أرضية مستقرة وصلبة للبناء والتنمية.

قبل البدء بتقديم المدلولات على وجود البعد السياسي في الأسلام، نتطرق قبل ذلك الى أهمية حضور البعد الديني في تلبية حاجات الأنسان وتحقيق سعادته في الحياة، وأن العقل والتكنلوجيا أثبتت بأنها غير كافية، بل أثبتت قصورها بتلبية كل الحاجات النفسية والروحية، لأن هناك أبعاد في طبيعة الأنسان لم يدركها العقل والعلم الأنساني، وهنا نُشيرالى ما ذكره الطبيب والمفكر الفرنسي الكسيس كارل في كتابه الشهير (الأنسان ذلك المجهول) في صفحة 41 (ومن الواضح اننا نحن المراقبين، غير قادرين على تتبع الشخصية البشرية في كل منطقة تمتد أليها، لأن فنوننا لا تفهم الأشياء التي لا أبعاد لها ولا وزن)، ويُشير في صفحة 13 من كتابه (وواقع الأمر أن جهلنا مطبق. فمعظم الأسئلة التي يوجهها أولئك الذين يدرسون الجنس البشري الى أنفسهم تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية مازالت غير معروفة)، وينتهي الى القول بأن (معرفتنا بأنفسنا مازالت بدائية في الغالب)، ويقتبس عن مفكر أسمه (برجسون) يصف فيه عقل الأنسان بأنه يتصف بعجز طبيعي عن فهم الحياة)ص16، أضافة لما سبق أود أن أنقل لكم في هذا الصدد ما نقلته صحيفة الكومبس السويدية في مقال منشور فيها بتاريخ 27/ 3/2024 م مفاده (عن مكتبة في مدينة نورشوبنك في السويد، حيث يزور الكتاّب هذه المكتبة من كل أنحاء العالم المهتمين بالظواهر التي لا يجد العلماء لها تفسير، وبقيت غامضة لهذا اليوم)، فمادام العقل الأنساني عاجز عن الفهم الكلي لطبيعة الأنسان، تأتي هنا الحاجة الماسة الى الأستعانه بخالق الأنسان، نستلهم منه ما عجزنا من معرفته، وهذا ما يقتضي منا الأستعانة بالوحي كمصدر من مصادر المعرفة في فك أسرار كينونة الأنسان، لأن البشر أعترف بعجزه عن المعرفة التامة لحقيقة الإنسان وأبعاده الوجودية، وقد أشار الأمام علي (ع) الى عالم الأنسان المليء بالأسرار الشديدة التعقيد فيقول : وتحسب أنك جرم صغير   وفيك أنطوى العالم الأكبر.

وقبل أن نتطرق الى المساحات التي يشتغل عليها الدين نذكر تعريف للدين على حد تعريف الشيخ محمد حسين الطباطبائي في كتابه الشيعة في الأسلام، فيقول (الدين هو منهج الحياة البشرية ومنحاها الذي صدر من الله عن طريق الأنبياء، ويشتمل على التعاليم النظرية والرؤية الكونية، ويتضمن القوانين والأحكام العملية المتلائمة مع تلك الرؤية الكونية والعقائد النظرية، لغرض هداية الإنسان وتحقيق سعادته الحقيقية في الدنيا والآخرة، وهذا الدين يتمثل بالأسلام الأصيل)، ويُشير الطباطبائي في تفسير الميزان الى حد الدين في مجال تدخله في حياة الأنسان، فيقول (حد الدين هو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الأحتياج). بعد أن قدمنا تعريف للدين، والذي يتضح من خلاله بشكل مجمل الأبعاد والمجالات التي يشتغل عليها، وهي مجالات مكانية وزمانية وموضوعية، ولكن الذي يهمنا هنا هو المجال الموضوعي، وخاصة السياسي منه، بأعتباره أحد الموضوعات التي تدخل ضمن النطاق الذي يشتغل عليه الدين.

هناك مداليل كثيرة تدل دلالة واضحة على العلاقة الصميمية بين الدين والسياسة، بل تؤكد الصلة العضوية للوظيفة السياسية في الأسلام، وذلك بلحاظ قيام الدين بتنظيم علاقة الإنسان مع سائر الناس، ومع المجتمع الإنساني بشكل عام، كما إن الدين يمثل أطاراً للسياسة، فمثلاً أذا أراد المجتمع أن يرسم منهج سياسي، ويتطور في مساره السياسي في أدارة المجتمع، فالأسلام يترك للناس زمام الأمور، ويفوض لهم أمرهم السياسي، ولكن الإسلام يضع أطاراً لتصوراتهم وممارساتهم السياسية، بحيث لا يخرجوا من حدود الله في حرامه وحلاله، وأن يكون الجانب الأخلاقي له محوريته في العمل السياسي، وهذا ما يختلف فيه عن النظرية التي قدمها السياسي الأيطالي نيكولاي مكيافيلي في السياسة التي يبعد فيها مكيافيلي العامل الأخلاقي والتي يجعل من غياب الأخلاق في السياسة عامل مهم في تثبيت حكم الحاكم، وأدامة سلطانه.

من المهم الأشارة الى نقطة مهمة وهي إن الأسلام قدم فلسفة سياسية، لأن الفلسفة السياسية ترتكز على كليات، وهذا يعطي مرونة كبيرة للإنسان في العمل والأجتهاد السياسي، في مجابهة التغيرات، وتلبية الحاجات المتغيرة للإنسان، فالتشريع الأسلامي يشتمل على قواعد كلية، وأصول عامة تفي بأستنباط الكثير من الفروع التي يحتاجها المجتمع البشري على أمتداد الزمن، فالشارع المقدس لا ينظر الى خصوصية المصاديق، بل يركز على المغزى العام الذي يمكن أستخدامه عبر الزمن، والذي يستوعب المتغيرات، فمثلاً نأخذ قاعدة (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج:78). هذه الآية تعطينا قاعدة كلية تحت عنوان (لاضرر ولا ضرار)، وهي تمثل عنوان ثانوي في الفقه العام، وفي الفقه السياسي بشكل خاص، حيث يعالج الكثير من المشاكل والمواقف السياسية التي تواجه السياسي في عمله الحزبي والحكومي، والأمر نفسه ينطبق على الآية الكريمة (وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عَدو الله وعدوكم)(الأنفال:60)، حيث تمنحنا هذه الآية قاعده كلية في واجب محاربة الأعداء، وضرورة أعداد القوة لهم، وهناك من النصوص المكملة في السنة النبوية التي تحدد الأصول والضوابط الأخلاقية والشرعية للحرب أذا وقعت مع العدو، (فالمنظومة التشريعية والقيمية التي يطرحها الأسلام لا يمكنها أن تستغني عن الأطار السياسي الذي يؤمن بها من أجل أن تجد طريقها الى التنفيذ)(العقل السياسي الأسلامي:ص13 قاسم شُعيب). يتبع

***

أياد الزهيري

بقلم : مارك فيرنون

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

انسَ المفهوم الرومانسي الحديث لـ "هذا النوع من الحب ". الحب الحقيقي يعني النظر إلى ما هو أبعد من الزوجين والتوجه نحو الحياة.

إنها لإحصائية معبرة أن السؤال "ما هو ...؟" السؤال الأكثر شيوعاً على جوجل العام الماضي كان: ما هو الحب؟ربما تكشف هذه الحقيقة المزيد عن المجتمع الذي يسأل محرك بحث على الإنترنت شيئًا كهذا، أكثر مما تكشفه أي إجابة عن طبيعة الحب.ولكن إذا لم يكن جوجل، فأين يمكننا أن ننظر لفهم الحب؟ تصر آلات صنع الخيال في هوليوود وبوليوود على أن هناك إجابة واحدة فقط تستحق الانغماس فيها: النوع الرومانسي. ويبدو أن معظم الناس يوافقون على ذلك، ولو بشكل افتراضي. فيُجرون إلى البحث عن الشخص الذي سيجعلهم "كاملين" عبر موقع المواعدة، أو من خلال شعور أقل وضوحًا، على الرغم من شعورهم بالرغبة الشديدة التي تزرعها نفس الثقافة السائدة التي تصر على أنه يجب علينا العثور على "الشخص". لا يعني ذلك أن أصولها حديثة. منذ أن كتبت الشاعرة سافو، في القرن السابع قبل الميلاد، عن الحب الذي يتموج تحت جلدها مثل الريح عبر الأشجار، تم تصور الحب الرومانسي على أنه لا يقاوم، وهي تجربة حاسمة تمثل ذروة الوجود الإنساني.

ومع ذلك، تشير إحصائيات جوجل إلى أن هناك بحثًا عالميًا صامتًا يجري أيضًا - ومن الواضح أن الكثير منا غير راضين عن الرومانسية كإجابة. قد تكون المشكلة الحقيقية إذن هي أن الثقافة المعاصرة تتركنا غير مستعدين للتفكير في الحب بأي شكل من الأشكال سوى بطريقة أحادية البعد. وكما استولى الزواج على احتكار التأكيدات العامة على الحب، فإن فكرة الرومانسية قيدت ما يمكننا أن نتخيله كعلاقة حب.

لم يكن لدى اليونانيين القدماء، على عكسنا، كلمة واحدة للحب، بل كلمات كثيرة. كما يُلاحظ    كثيرًا، كان لديهم philia (الصداقة) و eros (الرغبة)، و storge (المودة)، و agape (الحب غير المشروط). ولعل هذا جزء آخر من مشكلتنا. تدعونا لغتنا إلى التفكير في الحب كشيء واحد وموحد، في حين أنه ليس شيئًا من هذا القبيل. وأظن أن الكلمات ليست كافية لمعالجة هذا النقص الحديث. ما نحتاجه هو إحساس جديد بتجارب الحب المتنوعة. ومن حسن الحظ أن هناك مخزناً آخر يمكننا أن نعتمد عليه من أسلافنا القدماء: وليست كلماتهم، بل أساطيرهم، هي التي يمكن أن توضح لنا الأمر.

بمعنى ما، نحن مثقلون بهيمنة الحب الرومانسي؛ فلا يمكن تجنبها ببساطة لصالح الصداقة، على سبيل المثال. هذا لن ينجح أبدًا: فالإثارة الجنسية هي ببساطة قوية للغاية. لكن الأساطير القديمة يمكن أن تساعدنا في إدراك سبب نجاح الرومانسية، حتى لو كانت قصيرة الأجل. ولعل الأسطورة التي تجسد جاذبية الرومانسية بشكل أفضل هي فكرة أريستوفانيس عن رفقاء الروح، من ندوة أفلاطون. تقول القصة أن البشر كان لديهم في الأصل رأسان وأربعة أذرع وأربعة أرجل. لقد كان شكلنا مثل الكرات المستديرة وسقطنا على وجه الأرض بسرعة كبيرة. انزعجت الآلهة من عرض القوة هذا. ومن ثم وضع زيوس خطة. من شأنه أن يقطع البشر إلى نصفين، ويترك لكل منهم رأسًا واحدًا وذراعين وساقين فقط.

كان هؤلاء الأنصاف المشوهون مشهدًا مثيرًا للشفقة. وعلى وجه الخصوص، فقد اعتادوا على تكريس جزء كبير من طاقتهم المحدودة الآن للبحث عن نصفهم المفقود. كانت الرغبة في العثور على النصف الآخر المفقود لا تقاوم. استمر الأفراد في البحث على الرغم من الانفصال المتكرر والكوارث الرومانسية معتقدين لا يعرف الكلل أن الشخص المناسب - "الشخص" - موجود هناك. لقد شعروا أن الوعد بالحب لم يكن أقل من الكمال.

لقد عاشت الأسطورة حياة طويلة، وهي تصف بدقة حتى يومنا هذا التجربة الداخلية لأولئك الذين يشعرون أن الحياة غير مكتملة بدون هذا الحب. في الواقع، لم تصل طريقة تفكير أريستوفانيس حول الحب إلى نهايتها المنطقية إلا في القرن الثامن عشر، عندما كتب جان جاك روسو عن كيفية وقوعه في الحب عندما كان شابًا. وقال إنه فقط بعد تلك التجربة، يمكنه التأكد من أنه عاش حقًا. وكانت النتيجة أن الحب الرومانسي أصبح الهدف في حد ذاته. لا يهم من وقعت في حبه، طالما أنك وقعت في الحب. المثالي التجريبي يغتصب الواقع الشخصي المعقد. هذا هو السبب في أن الرومانسية تمسك بنا في قبضتها وتفرغنا في هذه العملية. الأمر نفسه ينطبق على البحث العقائدي عن السعادة.

لكن من الأهمية بمكان أن أسطورة توأم الروح الأصلية لأفلاطون لا تنتهي بسعادة عبثية ووهمية، بل تتطور. وهنا قد يكون لديها ما تعلمنا إياه، حيث تقترح مخرجًا للهروب من معقل الرومانسية. زيوس يشفق على البشر النصف. يقوم بتحريك أعضائهم التناسلية بحيث يمكنهم عند لقائهم أن يتعانقوا ويجدوا القليل من التحرر لشغفهم. الجنس هو طعم مؤقت للوحدة، وهو يساعد، ولو إلى حد ما. لذلك عندما يمر هيفايستوس، إله الحرفيين، ويتمنى للزوجين، تتحدث هذه الشخصيات المأساوية بصوت واحد. دعونا معًا، يصرخون: دعونا نذوب في بعضنا البعض!

لكي يكون للحب مستقبل، يجب أن يكون الأزواج قادرين على الانتقال من الوقوع في الحب إلى الوقوف في الحب

يتكرّم هيفايستوس. ويصبح الاثنان واحدًا. ويكشف الوضع الجديد عن طريقة أخرى يمارس بها الحب. يصبحان ملتصقين معًا، يحدقان في عيون بعضهما البعض فقط، يفقد العشاق الاتصال ببقية الحياة . يأخذ الموت لونًا جذابًا، بسبب عدم الاهتمام بأي شيء آخر، ويحلمون بمشاركة آخر نفس معًا - وهو خيال يستمر في التعبير الفرنسي الملطف، الموتة الصغرى ، وفي الذروة الرومانسية لروميو وجولييت. ولكن كما قال عالم النفس إريك فروم في كتابه "فن الحب" (1956)، لكي يكون للحب مستقبل، يحتاج الأزواج إلى أن يكونوا قادرين على الانتقال من الوقوع في الحب إلى الوقوف في الحب. يجب أن يتعلم العشاق احتضان ما يكمن خارج الثنائي المريح من أجل البقاء. وكما أوضح فرويد، فإن الحب الثنائي يمكن أن يكون راعيًا، لكنه يمكن أن يكون أيضًا خانقًا ومنفرًا، وتشير حكاية أريستوفانيس إلى أنه يجب تجاوزه.

السؤال هو كيف؟ كيف يمكن توجيه الطاقة التي تطلق الرغبة الرومانسية إلى الخارج بحيث تغذي الشغف ليس فقط بالحياة المشتركة، بل بالحياة التي نعيشها معًا نفسها؟ هناك أسطورة قديمة أخرى، والتي أصبحت الآن شبه منسية، تقدم لنا الإجابة على هذا السؤال. إنه يدور حول إله الحب الرضيع الذي نعرفه باسم إيروس، ولكنه يقدم لنا أيضًا شخصية أخرى أقل شهرة، وهو أخوه.

وُلد إيروس لأفروديت وبدا كل شيء على ما يرام في البداية. ولكن بعد ذلك، لاحظت أفروديت شيئًا أزعجها. لم يكن الطفل ينمو. وبقيت أجنحته كالبراعم. فشل جسده السمين في تطوير العضلات. كان الأمر كما لو كان ممسوسًا بروح تشبثت بالطفولة، ورفضت أن تصل إلى مرحلة النضج. أصبحت أفروديت قلقة واستشارت أختها الحكيمة ثيميس. نصحتها إلهة المشورة الجيدة (التي يُترجم اسمها حرفيًا بـ "ما ينجح") بأن تنجب طفلًا آخر، هذه المرة من آريس، إله الحرب الشجاع. أمرت ثيميس أن يُسمى الرضيع الثاني أنتيروس، وسيكون مساويًا لإيروس. فعلت أفروديت كما قالت أختها، ونجح الأمر. كان الابنان متنافسين. لقد تزاحما وتشاجرا وتقاتلا، ومع ذلك أحبا بعضهما بعضًا أيضًا، وطالما لعبا جنبًا إلى جنب، كان إيروس يتطور بشكل طبيعي. ومع ذلك، عندما كانا منفصلين، لاحظت أفروديت أن إيروس  يتراجع.

ما يجلبه أنتيروس هو العائق، وهو المعادل الرومانسي للتنافس بين الأشقاء الذي يكرهه الأطفال الصغار كثيرًا في تدافعهم لجذب انتباه الوالدين، على الرغم من أنه، مثل التوترات في علاقة البالغين، يمكن أن يكون هو من يصنعهم، عندما يتم التعامل معه بحساسية. يجلب أنتيروس الشجاعة اللازمة لمقاومة الخيال المحيطي المتمثل في الاختفاء بين ذراعي شخص آخر، وبدلاً من ذلك يشرع في العملية الصعبة المتمثلة في تكوين حياة خالية من الحب.  ويمكننا القول إن ما يمثله هو الروحانية الصحية التي تكمن وراء مشاجرات العشاق وشجارهم، والتي إذا أمكن التفكير فيها والتعلم منها، فإنها تؤدي إلى النضج. ينقل مثل القرن السادس عشر هذه الديناميكية الأنتروتيكية: "شجار العشاق هو تجديد للحب". إذا كان إيروس هو إله الحب الذي يطلق سهامه على الناس ويثير جنونهم بالرغبة، فإن أنتيروس هو إله الحب الذي يعارض الجنون بمزيج من براجماتية عمته وقوة والده.

بالنسبة للمشاهدين، من غير الواضح ما إذا كان الاثنان يمارسان الحب أم أنهما متورطان في شكل من أشكال الانتهاك المتبادل

لكن الأسطورة تخبرنا أكثر. كانت ثيميس، عمة أنتيروس، معروفة أيضًا بمهارتها في جلب الطاقات المتضاربة إلى عملية الشفاء. اليوم، أصبح خلفاؤها معالجين للأزواج: فهم يميلون إلى الاهتمام أكثر بكيفية تعامل الأزواج المضطربين مع المشاعر التي تطلقها خلافاتهم، بدلاً من اهتمامهم بكيفية تجنب الخلافات في المقام الأول. الغضب والكراهية والخوف والضعف في العلاقات الصعبة يمكن أن يكون فرصة. هذا ليس نصفك المفقود، كما يشير المعالج، ولكنه شخص قد تجد معه المزيد من التكامل والكمال لنفسك. لا تكتمل الحياة من خلال الحب، كما يوحي الخيال الرومانسي، ولكن من خلال الحب يمكنك العثور على المزيد من الحياة. وعلى العكس من ذلك، فإن عدم القدرة على التعامل مع الصراع يعد مؤشرا جيدا للطلاق.

من الجدير التأمل في التفاصيل التي تقول إن أنتيروس كان يساعد شقيقه فقط أثناء اللعب معًا. وعندما انفصلا، تراجع إيروس. ربما ينقل هذا قيمة الالتزام في العلاقات، وهو الالتزام الذي يوفر حاوية للصعود والهبوط، مما يسمح بتجاوزها. ليس هناك "السعادة الأبدية" الثابتة، بل هناك حاجة مستمرة للعب معًا. فهي تشير إلى أن العلاقة الجيدة تأتي من المستقبل، وليس الماضي، كما توحي أسطورة أريستوفانيس. الحب مصنوع أكثر منه موجودا.

في كتابه أنتيروس: أسطورة منسية (2011)، يجمع كريج ستيفنسون أدلة على أن شقيق إيروس ربما لم يختف بعد كل شيء. يناقش قصيدة دانتي جابرييل روسيتي "مصباح البطل" (1875)، والتي تدور حول مصباح مخصص لأنتيروس والذي لا يمكن إضاءته إلا إذا استمر الحب مدى الحياة - على عكس الحب المجنون الذي كان يكنه ليندر لهيرو، مما دفعه إلى محاولة عبور البحر للوصول إليها عدة مرات ويغرق.

في الوقت نفسه، يمكن قراءة مشهد المصارعة الشهير من رواية دي إتش لورانس "نساء في الحب"، كما يقول ستيفنسون، باعتباره وصفًا للتنافس بين إيروس وأنتيروس. روبرت بيركين وجيرالد كريش يتقاتلان "بسرعة، وحماس، وإصرار، وفي نهاية المطاف بلا جدوى". يتعلم بيركين من العدوان، الذي يتم التعبير عنه بثقة ولكن بشكل كامل في القتال: زواجه من أورسولا برانجوين يجب أن يجمع بين عناصر الوحدة والتعاسة حتى ينجح. لا يمكن تحقيق الانفصال في الاتحاد إلا من خلال إبقاء الأضداد في حالة توتر، كما قرأ الناقد فرانك كرمود عن لورنس. يجب على العشاق أن يصلوا إلى " توازن يتجاوز المفهوم العادي للحب الجنسي".

في الأساس، تدور أسطورة إيروس وأنتيروس حول شكل مثلث من الحب. يتقاتل الأخوان كأخوة، ويتنافسان لجذب انتباه أفروديت. هذا النوع من الحب هو الذي يمنح الحياة، لأن إيروس وأنتيروس يمكن أن يرغبا في شيء خارج اهتماماتهما الثنائية المباشرة. حبهما ثلاثي: يشتعل من شخص أو شيء يتجاوز حبهما لبعضهما البعض. إن التنافس بينهما يجذبهما نحو العناصر الخارجية في الحياة، أي الحياة نفسها. ومن ثم، ينضج إيروس.

لقد بنى أفلاطون أسطورة أنتيروس في أحد حواراته. يبدو أن العنصر الثلاثي أثار اهتمامه بشكل خاص. في محاورة= فايدروس، يصف ما يحدث عندما يقع الأفراد في الحب (وهذا أمر مألوف): تجبرهم الحوافز الرومانسية على الاندفاع معًا، مدفوعين بالرغبة. بالنسبة للمشاهدين، من غير الواضح ما إذا كان الاثنان يمارسان الحب أم أنهما متورطان في شكل من أشكال الانتهاك المتبادل. لكن بعض العشاق ينعمون بما يسميه أفلاطون بالديناميكية المضادة. يبدو الأمر كما لو أنهما قادران على تمييز أنفسهم عن بعضهما البعض، والتراجع قليلاً، وملاحظة ما يجري. تنفتح بينهما مساحة ثالثة. فهو يجلب القدرة الأساسية للوعي الذاتي.

يمكن للزوجين أن يكتشفا ليس فقط كيفية العيش معًا، بل أيضًا كيفية العيش معًا بشكل جيد.

هذه الفجوة لها تأثير كبير على العلاقة. لم يعودا مدفوعين فقط بشهوتهما لبعضهما البعض. وبدلاً من ذلك، بمرور الوقت، تتطور علاقة حميمة أكثر اتساعًا، والتي لها صفة تشبه الصداقة. تتبادر إلى ذهني كلمات الكاتب والشاعر الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري: "تبين لنا التجربة أن الحب لا يتمثل في التحديق في بعضنا البعض، بل في النظر معًا في نفس الاتجاه". كعاشقين، ينظر شخصان إلى عيون بعضهما البعض فقط؛ كأصدقاء، يمكنهما التطلع إلى الأمام معًا. لقد بدأا في رؤية الحياة التي تكمن وراءهما، وبدعم من بعضهما البعض - يقفان الآن في الحب - لديهما الموارد اللازمة للخطو إلى المستقبل معًا.

الأمر المثير للاهتمام في رواية أفلاطون هو أنه يعتقد أن هذه الصداقة المعززة للحياة هي نتيجة الحب المثير. فلسفته ليست إنكارًا للأيروس، بل توجيهها بمهارة، رغم صعوبة تحقيقها. وهذا ما يفسر المعنى الأصلي لعبارة "الصداقة الأفلاطونية" - ليس أن الإثارة الجنسية لم تكن أبدًا محسوسة بين هؤلاء الأصدقاء (وهي فكرة كان سيعتبرها أفلاطون شكلاً من أشكال الإنكار)، بل بالأحرى أن التعبير الجنسي عن الصداقة الأفلاطونية لا يمكن الشعور به أبدًا بين هؤلاء الأصدقاء. بل يتم دمج التعبير الجنسي للعنصر الرومانسي وتجاوزه. في المصطلحات الفرويدية، تتسامى الغريزة الجنسية. وتصبح طاقتها متاحة للسعي الشغوف للفلسفة - وهو احتمال جذاب بالنظر إلى أن الفلسفة، بالنسبة لأفلاطون، تعني تنمية الحياة التي تؤدي إلى الازدهار. وللتعبير عن نفس المشاعر بطريقة أقل خطورة، يمكن لمثل هؤلاء الزوجين أن يتوصلا ليس فقط إلى كيفية العيش معًا، بل أيضًا إلى كيفية العيش بشكل جيد معًا.

الحب الثلاثي، حيث يتم تخصيص مساحة في العلاقة للحياة (والحب) خارج حدود الزوجين، هو أعلى أشكال الحب الإنساني لأنه يجعل الحياة الجيدة ممكنة. وكما يقول الفيلسوف أنتوني برايس في كتابه "الحب والصداقة عند أفلاطون وأرسطو" (1989)، فإن "الروح الواعدة وذات الدوافع الجيدة تكون متقبلة ومستجيبة لفتح آفاق جديدة". إنه حب أقل خوفًا وأنانية من حب نرجس، وفيه مجال للآخرين على عكس عشاق أريستوفانيس الملتصقين ببعضهم البعض. وباستخدام عبارة إيريس مردوخ في قراءتها لأفلاطون، فإن هذا الحب لديه "وعي وحساسية أكبر تجاه العالم الذي يتجاوز الذات".

ولكن هذا يثير سؤالا مهما. إذا أردنا طريقة للخروج من الحدود الرومانسية، فأين يمكننا أن نشيد بأنتيروس اليوم؟ يشير كريج ستيفنسون إلى أن ما نسميه شعبيًا تمثال إيروس الموجود على نافورة شافتسبري التذكارية في بيكاديللي هو في الواقع أنتيروس. الذى نُحت عام 1893 على يد النحات ألفريد جيلبرت الذي شعر أن حياته تعكس صراعات إخوته المتنافسين على الحب. رأى جيلبرت في إيروس انعكاسًا لشخصيته المندفعة وأراد أن يختبر بنفسه الواقعية المرتبطة بأنتيروس. لا بد أنه شعر أن أنتيروس هو الإله الأنسب لاستحضاره في قلب هذا الجزء الرومانسي من لندن. أنا شخصياً أقدم لأنتيروس انحناءة خفية وموقرة في كل مرة أمر فيها. إنه شكر حذر للجانب المعقد من الحب.

(تمت)

***

............................

المؤلف: مارك فيرنون/Mark Vernon  معالج نفسي وكاتب يعمل أيضًا مع Project Love. حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة اليونانية القديمة، ودرجات علمية في اللاهوت والفيزياء. وهو مؤلف كتاب التاريخ السري للمسيحية: يسوع، الحبر الأخير، وتطور الوعي (2019)، كوميديا دانتي الإلهية: دليل للرحلة الروحية (2021)، والذكاء الروحي في سبع خطوات (2022). يعيش في لندن.

رابط المقال على أيون/ AEON بتاريخ 13 فبراير 2013:

https://aeon.co/essays/true-love-lies-beyond-the-claustrophobia-of-romance

نهى الإمام عليّ أعوانه أن يسلبوا المال ويستبيحوا السبى وهو فى رأيهم حلال. قالوا: أتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ فقال: إنما القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ونحن منه، ومن لجّ حتى يصاب فقتاله منى على الصدر والنحر.

وصاح بهم يوم صفين: «خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلوا عنهم، فإنّ الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم». وسن لهم آداب البطولة التى تتأسس على سنة الفروسية أو سنة النخوة حين أوصاهم ألا يقتلوا مُدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يكشفوا ستراً ولا يمدوا يداً إلى مال.

ولم يكن ليغتنم الفرصة التى تأباها سنة النخوة أو تحول بينها وبين شرف البطولة إنْ فى الحرب أو فى السلم. كان عمرو بن العاص يجترئ عليه بما يغض من حقه ويقدح فى دعوته، وطفق ينعته بين أهل الشام بالهزل والدعابة ويأمر بسبِّه على المنابر حتى وجب ردّه وإدحاض زعمه، فقال رضى الله عنه فى بعض خطبه:

 عجباً لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن فيِّ دعابة وأنى امرؤ تلعابة: أعانس وأمارس (أمازح وأغازل النساء). لقد قال باطلاً ونطق آثماً. أمَا وشر القول الكذب: إنه ليقول فيكذب، ويَعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد ويقطع الآل (القرابة والرحم). فإذا كان عند الحرب فأى زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القوم سبته، أما والله إنى ليمنعنى من اللعب ذكر الموت.

وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، وأنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه أُتية (عطية) ويرضخ له على ترك الدين رضيخة (القلة مثل العطية).

وقد جاءته الفرصة مواتية وابن العاص مُلقى على الأرض مكشوف السوأة لا يبالى أن يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء، فصدف بوجهه عنه آنفاً أن يصرع رجلاً يخاف الموت هذه المخافة التى لا يرضاها من مُنَازله فى مجال الصراع، ولو غير عليّ أتيح له أن يقضى على عمرو بن العاص لعلم أنه قاضٍ على جرثومة عداء ودهاء، فلم يبال أن يصيبه حيث ظفر به، ولا جناح عليه.

هذه البطولة النادرة التى تأبى الهوان للأعداء لا تجهز على الضعفاء وهم أشبه بالأموات، ولا تعادى امرأة ولا رجلاً موالياً ولا جريحاً عاجزاً عن نضال ولا ميتاً ذهبت حياته ولو ذهبت فى سبيل حربه، هى بطولة لم تنفصل فى ميدان الحرب والنزال عن شواغل المعرفة الإلهية واستنباط حقائق الأشياء، ولا نسيان الآخرة أو التفكر والاعتبار بجعل ذكر الموت وطلب الحق مصادر تأسيس للعقيدة التى قامت عليها نوادر البطولة.

وهى كذلك لا تنفصل مطلقاً عن التجرد للحق والجهاد فى الله. وكذلك كان ديدن الإمام يطلب الحق من حيث هو كل لا يتجزأ ولا يعرف التفرقة بين دنيا وأخرى، لأنه حق فى الدنيا وحق فى الآخرة، وفيه يجاهد مجاهدة الشريف المستقين بما عند الله، إذ ذاك يصنع الأبطال التاريخ، وتظل الأجيال اللاحقة تستمد منهم الآمال والآفاق، ولا يزال كل أمل مع كل أفق بحاجة شديدة إلى تلمس خطى البطل، لتفتح أمام باصرته سبل الهداية ومباشرة اليقين فى طريقة السير، وتستهديه ليرشده خارطة التوجه، هنالك يكون البطل حاضراً لا يغيب.

ولذا كان لسير الأبطال وتراجم العظماء ممّن صنعوا التاريخ وأسهموا فى بناء الحضارة دورٌ فى وعينا الحاضر، وهو بلا شك دورٌ عميق بحجم الحضارة وبحجم المعرفة التى تقوم فيها.

لا يغيب دور البطولة من وعينا إلا إذا غابت عنه القيم، ولك أن تتخيل عالم نعيش فيه بغير قيم!

هذه القيم العلويّة التى يجسدها البطل كما جسدها الإمام، نحن أحوج ما نكون إليها فى مواجهة معاول القيم الرخيصة الساقطة الهدامة: قيم الغفلة والنكسة والنكوص والتردى.

فالبطولة صناعة إلهية، والأبطال فى التاريخ هم الأعلام البارزة، الرزق المبارك للبشرية، وحين يكون البطل ربيب رسالة وصفى صاحب الرسالة يكون أجدر بالبقاء فى حاضرة الوعى المعاصر وحاضنة القيم العلوية التى لا يغفلها الشباب فى كل زمن أو فى كل عصر إلا واستبدلوها، مع الغفلة، بقيم ساقطة هدّامة.

هكذا يصبح الحال مع الأبطال: مقياس تفوق وامتياز إذا وجدوا فى الأمة، ومقياس تخلف وتردى إذا فقدت الأمم وجودهم أو ظهر فيها من يتشبّه بهم لمجرد التشبه على الدعوى العريضة لا يقوم عليها دليل.

 «وللحديث بقيّة»

***

د. مجدي ابراهيم - مصر

 

مفتتح: مع مطلع كل سنة جديدة ونهاية شهر أكتوبر من كل سنة ميلادية نستذكر شخصية فكرية وثقافية أثرت في العديد من المعطيات الثقافية العربية والإسلامية، وتركت بصمتها في ذاكرة الثقافة العربية والإسلامية من طبنجة إلى جاكرتا، مثقف فكره نال قسطا كبيرا من التفكر والتأمل، ومحاضراته جابت ربوع العالم من الجزائر إلى تونس وباريس والقاهرة ودمشق وبيروت وبكين وطوكيو، لم يتوقف عن دق أجراس الوعي ويرفع الصوت عاليا من أجل النباهة الثقافية والوعي الحضاري، إنه المفكر المهندس المرحوم مالك بن نبي، هذا المثقف الثائر على الاستعمار وقابليته والمنادي بالاتحاد والوحدة والتعاون والتحرر من كل قيود الامبريالية، المفكر الذي كشف مكامن الضمور الحضاري في النفس والإجتماع العربية والإسلامية، إنه ابن الجزائر البار الذي ترك تاريخا مفعما بالعقلانية والحكمة والنباهة لمنحيات النهضة وشروطها، سنحاول في رحاب هذه السلسلة من المقالات الوقوف على أهم حيثيات نظريته الثقافية ورؤاه ومطارحاته حول الثقافة والحضارة والتربية والتاريخ والأخلاق، مع الوقوف عند بعض المنعطفات الهامة في حياته الفكرية والثقافية والتي حاولت تشويه صورته والتقليل من مشاريعه النقدية والإصلاحية، حيث نركز أساسا على رسم معالم تأسيسه الفكري والثقافي ومشواره الثقافي الممتد لقرابة خمسة عقود من الزمن...

مالك بن نبي المثقف

عرف فكر مالك بن نبي -رحمه الله -اهتماما كبيرا في العقدين الأخيرين، وشهدت صفحات الجامعات ودور النشر ومواقع الشبكة العنكبوتية العديد من الدراسات والمؤلفات والكتابات حول فلسفة الحضارة ونظريات الثقافة والحضارة والتربية عند مالك بن نبي، ونالت كتب مالك بن نبي إقبالا عظيما في معارض الكتب عبر العالم العربي والإسلامي وهناك من ذهب لمحاولة مقاربة فكر بن نبي مع مفكرين آخرين ضمن المجال العربي والإسلامي أو خارجه، فكانت مرحلة حافلة باكتشاف هذا المفكر الفريد في جغرافية العرب والمسلمين، كما كان هناك جدل حول أفكاره التجديدية وآرائه النقدية وثورته الثقافية في عصر الفكر القومي والمخاض الأصولي ضمن مهب المعركة العربية ضد المستعمر الغربي، وفي سياق كل هذه الموجة الجديدة من مكاشفة فكر مالك بن نبي تلك،هناك أسئلة مهمة، تطرح على كل من يعبر بدراسة فكر مالك بن نبي: ماذا عن مالك بن نبي المثقف؟

أصناف التعامل مع فكر بن نبي:

قد يبدو السؤال السابق للوهلة الأولى إما عجيبا أو عاديا، لكن بلحاظ كل النظرات الثقافية من طنجة إلى جاكرتا بخصوص فكر مالك بن نبي نقف على ثلاث متعاملين:

1. أولئك الذين يستغرقون في التبجيل والاطناب في عرض سطحي لافكاره الحية دون استلهام لما وراء ذلك الفكر من منهج ورؤية ومشروع وتطلع

2. أولئك الذين يستصغرون اجتهادات مالك بن نبي وتضحياته ومواقفه وآرائه التنويرية التجديدية لحاجة تاريخية في أنفسهم عطلت إرادة العبور من الفردانية إلى الشخصانية في ذواتهم والعجيب انه اغلبهم متدينون متناسين الآية من سورة فصلت..

3. أولئك الذين درسوا مالك بن نبي بروح علمية موضوعية منفتحة على تفاصيل مشروعه زمكانيا وثقافيا وانثروبولوجيا فلم يبخسوا مالك بن نبي حقه بل شكلوا جسرا للتواصل بين جيل بن نبي والزمن العربي والإسلامي المعاصر بمنهج نقدي إبداعي لا يركن عند السطح بل يغوص في الاعماق ويتجه نحو الآفاق، مؤمنا بأن التجديد تراكمي بين الأجيال لا مكان للقطيعة الكلية أو الأحادية الفكرية والتسقيط فيه، هؤولاء هم من عانقوا فكر بن نبي للنهضة وليس الخمول أو الاستهزاء..

كيف ننظر لآثار مالك بن نبي؟

الثقافة في نتاج مالك بن نبي تحتل المساحة الأكبر والمفهوم الأبرز، لكن ما وراء الثقافة بإشكالياتها ومشكلاتها ونظريتها وعلاقتها بالحضارة ومفهومها الجدلي كان هناك تجديد الرشد الاجتماعي، لأن المتفحص لمسيرة مالك بن نبي الثقافية منذ ثلاثينات القرن الماضي ولآخر يوم من حياته يكتشف أن الرجل لم يتوان لحظة عن إرشاد من حوله بمعاملات الوعي الثقافي للفرد والمجتمع..

وهنا أتساءل: متى ننظر لمالك بن نبي واقرانه من المجددين نظرة تليق بمستويات التضحية والإجتهاد والإبداع التي صنعوها في واقعهم ولاتزال تستقطب أولي الألباب؟

إن النظرة التي صورها عبد الوهاب حمودة رحمه الله ورشيد بن عيسى وعبد العزيز حمودة ومولود عويمر وأسعد السحمراني وزكي الميلاد وعبد الجبار الرفاعي وصائب عبد الحميد وغيرهم الكثير ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن، تمثل قفزة نوعية في استدعاء مرحلة الروح من جديد لدى جيل الأمة العربية والإسلامية المعاصر..

يفهم من أغلب القراءات المعمقة لفكر مالك بن نبي، أن الثورة الثقافية المعلنة من مالك بن نبي على التخلف بشتى تمثلاته، لم تكن ثورة إلتقاطية أو انتقامية، ولا ثورة بسيطة أو مصلحية ضيقة، ولكنها كانت ثورة عقلانية بسلاح العلم والمعرفة والحكمة، التقت ضمنها العلوم والقانون والتاريخ والفلسفة والأدب والفقه المقارن ومقارنة الأديان والفنون والسياسة -بمفهومها الخالص من الدجل والسحر- والإقتصاد والتربية والسوسيولوحيا والإستراتيجية وما هنالك من معارف استثمرها في بحثه لمشكلات الثقافة الكبرى. ولازلت هذه الثورة مستمرة إلى يومنا هذا، الأمر الذي يدفعنا نحو تعميق النظر والفحص والتحليل لرؤى ومطارحات مالك بن نبي الثورية الثقافية..

حتى لا نبخس بن نبي تضحياته

لكن هناك من المفكرين من وجد في أبحاث مالك بن نبي ما يدفع نحو الانقلاب عليها، وذلك بعد أن بالغ البعض في التبجيل وسطحية النظر وعدم اقتحام النسق الخاص الذي يقصد به المفكر السعودي زكي الميلاد (ما بعد مالك بن نبي)، مما دفع بفكر مالك بن نبي إلى ذروة التحنيط بدل التواصل والإبداع، هذه الوضعية أغضبت بشدة شيخ من أمثال غازي التوبة الذي اتجه نحو قلب فكر مالك بن نبي من التبجيل إلى التسقيط لنظرية الحضارة عند مالك بن نبي، متبنيا الجدلية السلفية في مقابل الجدلية الفلسفية، ومنحازا لنظرية صراع المفاهيم في مقابل نظرية صراع الأفكار عند مالك بن نبي (يمكن العودة إلى كتابه الفكر الإسلامي المعاصر ص77، دار القلم 1977،)...

خلاصة الأمر: إن التنوع حقيقة إنسانية وتاريخية، ونحن بحاجة إلى رؤية حضارية جديدة للتعامل مع الحقائق، بما يؤدي إلى استثمار هذا التنوع في سياق إثراء الوعي الثقافي ورسم معالم التطلع الحضاري وتعميق خيار اكتشاف ما بعد مالك بن نبي دون أن نبخس مالك بن نبي وغيره من رواد الثقافة والوعي والنهضة في عالمنا العربي مآثرهم وأفكارهم ونضالهم وتاريخهم الحافل بالانجازات المهمة حتى اللحظة الراهنة...

(يتبع)

***

مراد غريبي - كاتب وباحث / الجزائر

 

بقلم: أنيتا غيريرو، نيكاراغوا

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

إن العنف ضد النساء والفتيات متأصل في الأعراف الاجتماعية المقبولة على نطاق واسع والتي تساهم في كثير من الأحيان في عدم المساواة بين الجنسين، بما في ذلك استحقاقات الذكور وهيمنتهم وسيطرتهم على أجساد النساء.

"من المخيف أن تعتقد أنك قد لا تعود إلى المنزل حيا في يوم من الأيام."

***

تتعرض واحدة من كل ثلاث نساء  للعنف الجسدي أو الجنسي في حياتها. وفي حين لا يوجد سبب واحد لهذا العنف، فإن بعض العوامل الأقوى والأكثر ثباتا هي الأعراف الاجتماعية الضارة التي تساهم في عدم المساواة بين الجنسين.

وتستند هذه المعايير إلى المعتقدات والتوقعات المشتركة حول كيفية تصرف الناس. وهي تشمل استحقاق الذكور، والهيمنة والسيطرة على أجساد النساء والفتيات، والأدوار الصارمة للجنسين، كما أبرزها بحث أجرته منظمة أوكسفام في 12 دولة عبر أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ.

تعرف على عشرة من هذه الأعراف الاجتماعية التي تدفع إلى العنف ضد النساء والفتيات.

1. يجب على المرأة أن تكون خاضعة لأفراد أسرتها الذكور في كافة جوانب حياتها:

غالبا ما تؤدي الأدوار الصارمة بين الجنسين إلى توقع خضوع المرأة لأفراد الأسرة الذكور. عندما تتزوج، يُتوقع من المرأة أن تطيع زوجها، وأن تتصرف وفقا لرغباته، وألا تسعى جاهدة من أجل اتخاذ القرار على قدم المساواة. وإذا انتهكت هذه المعايير فقد تواجه العنف الجسدي الذي يستخدمه الأزواج كعقاب أو تأديب.

وفي جزر سليمان، وافق 49% من المشاركين على أن الزوجة الصالحة يجب أن تطيع زوجها حتى لو كان مخطئا.

2. من المتوقع أن يمارس الرجال سيطرة قسرية:

في حين يُتوقع من النساء والفتيات أن يكن خاضعات، يُتوقع من الرجال أن يمارسوا السلطة والسيطرة في أسرهم وعلاقاتهم، وهو ما يمكن أن يظهر إليه بطرق مختلفة. في العلاقات التي يرجع تاريخها، يمكن أن تظهر هيمنة الذكور في شكل مراقبة الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي.

توصل بحثنا في منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي  إلى أن الشباب لديهم سيطرة كبيرة على استخدام شركائهم لوسائل التواصل الاجتماعي وهواتفهم - حيث يقول 80% من الشباب أن أصدقاءهم الذكور يراقبون هواتف شركائهم الإناث.

في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي يمثل العنف ضد النساء والفتيات مشكلة كبيرة ومستمرة. على سبيل المثال، قُتلت 1831 امرأة على يد رجال في عام 2016، وتقع 14 دولة من أصل 25 دولة بها أعلى معدلات قتل الإناث في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.

3. للرجال الحق في تأديب النساء بسبب سلوكهن "غير الصحيح":

كشف بحثنا أن هناك اعتقادا قويا، بين النساء والرجال على حد سواء، بأن العنف مقبول، بل وضروري، عندما يستخدمه الرجال لتأديب النساء لعدم قيامهن بمسؤولياتهن أو عندما ينتهك سلوكهن الأعراف الاجتماعية. ووجد البحث التونسي أن العنف الجسدي مبرر عندما لا تطيع المرأة زوجها.

وفي جزر سليمان، وافق 65% من النساء و35% من الذكور على عبارة "من المقبول أن يضرب الرجل زوجته ويؤذيها إذا لم تقم بالأعمال المنزلية حسب رغبته".

4. لا تستطيع المرأة إنكار جنس شريكها الذكر:

في العلاقات الحميمة، تخضع خيارات النساء والفتيات فيما يتعلق بأجسادهن لسيطرة شركائهن الذكور والاعتقاد بأن أجساد النساء يجب أن تكون متاحة دائمًا للرجال. وتساهم هذه المعايير في اغتصاب الشريك الحميم وغيره من أشكال سوء المعاملة، وهي أكثر أشكال العنف شيوعا ضد النساء والفتيات.

يقول الشباب في تونس أن المرأة يجب أن تكون مستعدة دائمًا لإشباع رغبات الرجل الجنسية. وفي جزيرة سليمان، يعتقد 52% من الرجال أن المرأة ملزمة بممارسة الجنس مع زوجها حتى لو لم ترغب في ذلك.

5. التحرش الجنسي أمر طبيعي:

تساهم الأنماط السائدة حول الحق الجنسي للذكور في السيطرة على أجساد النساء في التحرش الجنسي وغيره من أشكال العنف الجنسي. وفي كولومبيا، قالت امرأة شابة: "أعتقد أن كل شيء ينشأ من حقيقة أن الرجال ينظرون إلينا كأشياء جنسية وكأشخاص يحتاجون إليهم لإشباع احتياجاتهم الجنسية".

ويتجلى ذلك بقوة من خلال البحث الإقليمي الذي أجرته  والذي وجد أن 75% من الشباب ذكروا أن أصدقائهم الذكور يعتقدون أن التحرش أمر طبيعي.

في كل عام، تتزوج 15 مليون فتاة قبل سن الثامنة عشرة. وأغلب هؤلاء الفتيات محرومات من حقوقهن الإنسانية الأساسية في الصحة والتعليم والسلامة والسلامة البدنية.

6. تتعرض النساء للعنف بسبب ارتداء ملابسهن "الاستفزازية":

من بين البلدان المشاركة في الدراسة، من الشائع رؤية المجتمعات تلقي اللوم على تصرفات المرأة لتبرير الحق الجنسي للذكور والعنف. غالبا ما يتم وضع وصمة العار على أولئك الذين تعرضوا للعنف - وإلقاء اللوم على الناجين بسبب سوء المعاملة.

وفي البحث الإقليمي الذي أجرته لاك LAC، ألقى سبعة من كل 10 شبان تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاما باللوم على النساء في العنف الذي تعرضن له بسبب ارتدائهن ملابس "استفزازية" أو الخروج إلى الشارع في وقت متأخر من الليل.

7. يجب أن تصبح جميع النساء أمهات:

تعود جذور العنف ضد النساء والفتيات إلى اختلال توازن السلطة الأبوية بين الرجل والمرأة، وإلى الاعتقاد السائد بأن الرجال يحمون أسرهم ويعولونها ويتمتعون بالسلطة عليها، وأن النساء الصالحات يعطين الأولوية لصحة ورفاهية أسرهن. إن أهم أدوار المرأة بعد الزواج هي خدمة زوجها وإنجاب الأطفال وتربيتهم.

وجدت دراسة  لاك  أن 79% من الشابات يعتقدن أن "جميع النساء يجب أن يصبحن أمهات". وهذه المعتقدات قوية للغاية لدرجة أن إحدى الشابات في كوبا قالت: "أعتقد أن كل امرأة هي أم، حتى لو لم يكن لديها أطفال".

8. يتم تقدير الفتيات كزوجات وليس كأفراد:

بالنسبة للفتيات، فإن التوقع الاجتماعي لإظهار الخضوع يمكن أن يؤدي إلى الزواج المبكر، والذي يستخدم أيضا للتحكم في حياتهن الجنسية. غالبا ما يُنظر إلى أجساد الفتيات على أنها أصول يمكن أن تنخفض أو تزيد قيمتها اعتمادا على تصورات المجتمع ومفاهيمه حول مساهمة "الشرف" في الزواج المبكر. في نيجيريا، تم تلخيص ذلك على النحو التالي: "أنت تستحقين كزوجة أكثر من كونك ابنة."

لقد أُجبرت أكثر من 700 مليون فتاة في جميع أنحاء العالم على الزواج قبل سن الثامنة عشرة. وهؤلاء الفتيات أقل احتمالا للذهاب إلى المدرسة، ويميلن إلى المعاناة من مشاكل الصحة الجنسية والإنجابية، وأكثر عرضة للتعرض للانتهاكات من قبل أزواجهن.

"نحن بحاجة إلى كسر دائرة العنف. لفضح الوحوش في المنزل. يجب علينا تثقيف جيل جديد حول إنهاء العنف ضد المرأة. لوريتا تايكا، من جزر سليمان، التي تستخدم فن الشارع لتقول كفى للعنف ضد النساء والفتيات.

9. العلاقة بين الجنسين هي التوجه الجنسي الوحيد المقبول:

يؤدي التمييز والتهميش إلى جعل بعض النساء والفتيات أكثر عرضة للعنف، وهذا يشمل النساء والفتيات ذوات الإعاقة، والمطلقات والأرامل، والعاملات في مجال الجنس، والنساء المثليات والمتحولات.

وجد البحث الإقليمي الذي أجرته LAC أن 73% من الشابات (20-25) و67% من الشباب (20-25) يعتقدون أن أصدقاءهم يعتقدون أن المثليات لا ينبغي أن يظهرن ميولهن الجنسية في الأماكن العامة.

10. المطلقة أقل قيمة:

تواجه النساء المطلقات والأرامل أشكالا معينة من العنف بسبب المعتقدات التمييزية حول أدوار المرأة وقيمتها.

وفي بابوا غينيا الجديدة، سلط البحث الضوء على تهميش النساء المطلقات والأرامل، اللاتي يُنظر إليهن على أنهن أقل قيمة - لأنهن لم يعد لديهن القيمة النقدية لمهر العروس. علاوة على ذلك، فهي تعتبر ملكا لعائلة القانون التي دفعت ثمنها في المقام الأول. ولذلك، فإنهم لا يحظون بالاحترام في عائلاتهم، وفي كثير من الأحيان لا يتمتعون بالحماية من العنف.

وجد البحث الإقليمي الذي أجرته لاك أمريكا اللاتينية والكاريبي أن 59% من الشباب والشابات (20-25) يعتقدون أن أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل النساء يعانين من العنف هو افتقارهن إلى الاستقلال المالي.

دعونا نتوقف عن التفكير أنه أمر طبيعي

في كل يوم، وفي كل مكان، وفي جميع أنحاء العالم، تواجه النساء والفتيات العنف. يمكننا تغيير هذا.

إن حملة أوكسفام العالمية "كفى" لإنهاء العنف ضد الفتيات تجمع الناس من جميع الأجناس والأعمار والخلفيات معًا لتغيير الوضع الطبيعي. ويهدف إلى تحدي وتغيير الأعراف الاجتماعية الضارة التي تبرر الانتهاكات، إلى تلك التي تعزز المساواة بين الجنسين واللاعنف.

***

.......................

حقوق الطبع والنشر © 2024 أوكسفام الدولية. كل الحقوق محفوظة.

https://www.oxfam.org/en/ten-harmful-beliefs-perpetuate-violence-against-women-and-girls

 

إشكالية فكر وعجز تجربة وفواتير باهظة

 غصّت الحياةُ السياسية العربية منذ مطالع القرن العشرين بالصيغ والتجارب الحزبية السياسية التي تشكلت على خلفية تحولات سياسية وعسكرية واجتماعية عربية ودولية، لم يكن فيها للعرب والمسلمين الدور المهم والكبير لناحية إثبات الحضور والمشاركة في البناء الوطني والقومي.. فقد كان للدول الكبرى الأثر الأكبر والأشد تأثيراً في اقتسام كعكة النفوذ والمصالح الاقتصادية في منطقتنا هذه..

ومن الواضح أن نشوء الأحزاب العربية في تلك الفترة لم يكن يحظى بالشعبية المطلوبة لإحداث التغيير الداخلي المنشود، بل كانت بمجملها صدى للآخر، رغم رفعها شعارات نوعية كبرى لناحية الاستقلال والتحرر، ومحاولة تنظيم انقسامات المجتمع وصراعاته الأفقية والعمودية، ومن ثم ضرورة العمل على البناء والنهضة..

أطلق على تلك الأحزاب التي حملت لبنات الاستقلال الوطني الأولى بالأحزاب الوطنية التي حكمت بعض بلداننا العربية بعد نهاية عهد الاستعمار الخارجي..

لكن الواضح أن الصيغ والتجارب الحزبية الأشد تأثيراً وقوة في مجمل الحياة السياسية العربية كانت تجارب حكم الأحزاب الواحدية التي رفعت شعارات كبرى للبناء السياسي والاجتماعي العربي، باسم التحديث والتنمية والتقدم والنهضة العلمية، فسيطرت على كل الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، باسم تحقيق مشروع التنمية والاستقلال الوطني، في مقابل إشباع حاجات المواطنين في المأكل والمسكن والتعليم والصحة، ولكن للأسف دونما تحقيق لأدنى تلك الشعارات الكبرى..!!. حيث بقي الصراع والعنف والعصبيات الحزبية والتاريخية مهيمنة رغم محاولات قمْعها وحبْسها في القمقم.

لقد قامت الأحزاب العقائدية الشمولية "المشحصنة" بنزع السياسة من المجتمع، واقتصار ممارسة السياسة على إطار واحد، ممسك بكل مفاصل المجتمع، ومنعه خارج هذا الإطار، باعتباره القائم على السلطة "متعهد التنمية"، أي أنها بنت وجودها كله على حكم الفرد والإيمان بقدراته الخارقة، وأنتجت هياكل إدارية بيروقراطية واسعة وعميقة، وبنت أيضاً أنظمة قوية متماسكة وصلبة، ولكن كل ذلك جاء على حساب تضعيف ما تبقى من مؤسسات وهياكل الدولة-الأم، مما أفقدها قدرتها على السير الطبيعي الطوعي نحو أهدافها التنموية السياسية والاقتصادية كأية دول أخرى، عبر الاشتغال اليومي الروتيني الطبيعي على تأمين مصالح الناس والمجتمع، خاصة وأنها (أي الدول الشمولية العقائدية) قدمت نفسها على أساس أنها "دولة-رعاية" و"دولة-أم"، اجتماعية وعملية..

هذا الفهم والنهج والموروث السياسي القومي الذي سلكته أحزاب القومية العربية بالذات (يسارها ويمينها على حد سواء)، والذي لم يبدأ مرحلة الانحسار الحقيقي الآن، بل منذ زمن الناصرية وخروج حزبها من السلطة في مصر، مروراً بحركات التحرر القومية في عدة دول عربية أخرى، أقول: هذا الفهم والمنهج المكرّس لعقلية الاستفراد وسلوكية الحكم الشمولي الواحد هو الذي مهّد الطريق وهيأ الأجواء لتعمق الأمراض الاجتماعية والسياسية وإثارة الضغائن الداخلية وتفجر الغضب الشعبي ضد فواتير حكم تلك الدول الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي فواتير باهظة التكاليف والأثمان على كل المستويات والأصعدة.. حيث أضحى كل الناس يتساءلون عن ماهية الحصيلة الإنتاجية الوطنية والقومية لعقود طويلة من تطبيق استراتيجيات السياسة والاقتصاد والتنمية والتقدم العلمي وغير العلمي المفترض أنها كرستها وتبنتها وطبقتها تلك الأحزاب المشخصنة.. فماذا تحقق؟! وأين هي الإنجازات النهضوية العمرانية التنموية الكبرى بالمقارنة مع دول أخرى سبقتها أشواطاً في البناء والتنمية والتقدم والتطور العلمي ووإلخ؟! هل تمت الاستفادة من ثرواتها ومواردها الهائلة في طريق الصالح العام المجتمعي أم في طريق الذات الفردية؟!..

لقد دفعت كثير من مجتمعات العرب المحكمة عقائدياً وشمولياً الأثمان والتكاليف المادية والمعنوية لتلك السياسات الاجتماعية من مستقبلهم ومستقبل أجيالهم الاقتصادي والاجتماعي، وهم الذين تحمّلوا أيضاً عبء المعاناة الشديدة المتواصلة من هيمنة وسطوة قوانين الفشل التنموي والاقتصادي وأحكام الاستثناء وسطوة البيروقراطية المستبدة، وتعطيل العمل بالقوانين والدساتير، والقفز فوق العدالة، بعد الهيمنة على الفضاء العام للمجتمع، وإخراجه بالقوة من فضاء السياسة العام الذي كان من المفترض أن يتحمل هؤلاء الناس أنفسهم -عبر مختلف أنواع الجسور والتوسّطات ما بين الدولة والمجتمع- مسؤولية المشاركة في تحديد مسيرته واتجاهاته وبرامجه ومختلف سياساته.. لكي يكون لهم دور مهم في بناء بلدهم ومجتمعهم..

وبالنظر لعدم وجود إمكانية لنشوء تلك التوسّطات المجتمعية المدنية القادرة على تأمين مصالح المجموع العام في مواجهة سطوة النظام وهيمنته على كل مفاصل الدولة، بحيث أصبحت الدولة القائمة دولة النخبة لا دولة الأمة، كان من الطبيعي أن يلجأ الناس إلى تكوينات مجتمعية أهلية محلية تساعدهم في قضاء حوائجهم وكسب معاشهم وقوتهم، وتلبية الحدود الدنيا من عيشهم..

إن انزياح الدول العقائدية المشخصنة –كسلوك عمدي انتهجته نخب الحكم الطغيانية- عن مهمتها الأساس في البناء المؤسسي المدني المتين الراسخ والقائم على حكم المواطنة والقانون والحقوق، وخدمة تطلعات أبنائها وتنمية اجتماعها ومواطنيها، وتحقيق درجة متقدمة من التطور السياسي والعدالة الاجتماعية والمساواة لهم، بعد تأمين متطلبات عيشهم الوجودي المادية والرمزية كمواطنين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات، من دون تمييز ولا تفرقة طائفية أو جهوية أو اثنية أو قومية، واتجاهها لتكون دولة "النخبة" الخاصة و"الطليعة الحزبية الثورية" العاجية، إن ذلك الانزياح المقصود هو الذي دفع وبقوة الغالبية العظمى من مكونات مجتمعها الاثنية والطائفية والأقوامية والمذهبية إلى كراهية تلك الدول النخبوية، والحقد عليها، وتبني عداوتها بصورة عمياء، بل والرغبة العارمة في مواجهتها وإسقاطها.. أي إصدار حكم إعدام نهائي بحقها.

وقد جاء انحسار الدولة أو المرحلة السابقة من السلطة في خضمّ تلك الصراعات الدموية، نتيجة الدفع بعامل القسر والإكراه والضغط الذي مارسته تلك الأحزاب الشمولية النخبوية التي استنزفت دولها، بحق أبنائها ومجتمعاتها الأهلية.

من هنا يمكن القول بأن التعايش الاضطراي الذي فُرض على مجمل المكونات السياسية والتكوينات المجتمعية في تلك البلدان (أقليات عرقية ودينية وأقوامية ومذهبية) التي حكمها حزب واحد وفرد واحد ومنظومة واحدة حديدية صلبة، لم يستمر طويلاً حتى انكشف ما تحته من تصدعات وتخلخلات وتشظيات، كانت محجوبة زمناً طويلاً بحجاب سميك من شعارات: المصلحة القومية العليا، وحتمية المواجهة التاريخية والصراعات الكبرى، وغيرها.. ولكن سرعان ما تبين أن حضور تلك المكونات القديمة المخفية في ذاتية الأفراد والمجتمع أقوى وأرسخ وأكثر تجذّراً من حضور أية شعارات ومقاصد وأهداف سياسية عامة أو خاصة بهذا الحزب أو ذاك، وأنّ كلَّ محاولات السيطرة عليها أو تطويعها أو إلغائها طوعاً وقسراً لم ولن تجدي نفعاً على الإطلاق.. كما تبين أن اندماج تلك التنوعات والمكونات المجتمعية لم يحدث بصورة عملية واقعية، ولم يكتمل بصورة طبيعية حقيقية في صلب المشروع الوطني العام، بسبب سياسات القهر والردع والكبت والقسر والوصاية والهيمنة السلطوية الفوقية التي طبّقتها عليه تلك النخب المستأثرة بالثروة والقوة والسلاح.

ولأنَّها استُبْعِدتْ قسرياً، لمْ تشارك تلك المكوّنات في بناء الهيكل الوطني التاريخي العام لبلدانها الأم، حتى مع بعض حالات الاختراق التي نجحت فيها تلك السلطات في كسب ود بعض ممثلي تلك المكونات القومية والدينية، ولكن بقيت الغالبية العظمى منها مستبعدة عن ساحة المشاركة الوطنية، ومقصيّة عن ساحة العمل الوطني العام التي يفترض أن يتشارك فيها الجميع، وأن تتسع للجميع بحكم أن النتائج ستؤثر على الكل سلباً أم إيجاباً..

ولهذا يأتي تأكيدنا الدائم على أن الأيديولوجيات الشمولية والقناعات الشعبوية الثابتة (دينية كانت أم علمانية) التي تبنتها دول النخبة العقائدية، وأحزاب العقائد الاصطفائية الخلاصية العربية (على المقاس والنمط الهتلري الألماني والشيوعي الستاليني السوفييتي العتيق الراحل لغياهب التاريخ) والتي حكمت بعض بلدان العرب والمسلمين بقوة الحديد والنار وقهر الناس والمجتمعات، وفرضتْ رؤاها وقناعاتها وسياساتها الذاتية والموضوعية الفاشلة والعقيمة (بحكم التجربة التاريخية المريرة التي مررنا بها معها طيلة ستين سنة تقريباً) على الجميع (أقليات وغير أقليات) لا تبني أكثر مما تهدم، ولا تقدم أكثر مما تؤخّر، ولا تطوّر المجتمعات والدول أكثر مما تجعلها عرضة باستمرار وعلى الدوام للفتن والاضطرابات والعنف والصراعات والحروب الأهلية بين وقت وآخر.. كما أنّ الأفكار والقناعات "الهوياتية" المغلقة (الزائفة بطبيعة الحال) لا تحضر الشعوب والأمم، ولا تمنحها صفة المدنية والحداثية، وتضع أمامهم كل معوقات التنمية الإنسانية.. خاصّة مع توظيفها لمقدرات الدولة لخدمة أجندات مصلحية ونفعية خاصة.. وهذا ما قامت به تلك النخب التي بنت نظماً قوية تضخمتْ وتورمتْ مختلف أبنيتها وأجهزتها الإكراهية الذاتية على حساب تآكل و"تقزيم" و"تفشيل" مؤسسات وهياكل الدولة الأساسية البنيوية التي تعيش في كنفها، وتستنزف خيراتها وتنهب مقدراتها.

إنّ تلك الأحزاب العقائدية -ودول ومجتمعات النخب العقائدية- لا يمكن أن تؤسس أو تبني فعلياً وواقعياً (كما جرى وحدث في كثير من دولنا ومجتمعاتنا العربية وغير العربية على امتداد عقود طويلة من حكمها التسلطي البوليسي الأرعن والدموي) مجتمعات التنمية الإنسانية، ودول الحكم المدني الصالح، لأنها تقوم وجودياً على النقيض الوجودي من فكرة الإنسانية ذاتها ومن فكرة التنمية نفسها، فالشمولية والمركزية والهيمنة والتحكم والتّسلُّط والفردية هي عناصر الحكم العقائدي، بينما التنمية تشارُك، وخدمات ومؤسسات، وتبادل أفكار ومعطيات، والتنمية تنمية الفرد، وتنظيم مهاراته، باعتباره حجر الزاوية في بناء وتطوير ومن ثم تنمية أي مجتمع، حيث أنه لا يمكن لأي بلد أن ينمو وينهض ويتنامى ويتقدم على طريق الرقي الحضاري العلمي والتقني من دون تنمية أفراده ثقافياً وعلمياً ومعرفياً، وهذا شرط أساسي لازم، وكذلك العمل أيضاً على رفع مستواهم ومداخيلهم عبر زيادة إنتاجية الفرد من خلال تهيئة وبناء مختلف قطاعات الدولة لخدمة وإنجاز ذلك الهدف الكبير.

كما لا يمكن السير في طريق التنمية الصحيح من دون وجود نظام معرفي قيمي عملي يمكنه دفع وتحريض وتحفيز أجمل وأرقى ما في داخل الفرد من طاقات ومواهب وإمكانات هائلة للبناء والعمل المنتج الخلاق.. فالإنسان العربي –الذي لم يرق ليصبح مواطناً بعدْ نتيجة عهود الطغيان وحكم الأيديولوجيات العقائدية الشمولية- يمتلك قدرات وطاقات خلاقة ومبدعة إذا ما تم استثمارها على طريق العمل والبناء والتطوير بعد معرفتها ووعيها من الداخل أولاً، وثانياً بعد خلق الأجواء المجتمعية الملائمة لنموها وتكاملها على مستوى الخارج والفعل العملي التجريبي.

ومسؤولية المثقف على هذا الطريق كبيرة، وهي تتركز على تنوير الرأي العام بكل ما من شأنه المساهمة في بناء الوعي الفعّال لدى أفراد الأمّة لمواجهة (وإسقاط) ثقافة العسكرة والقطيع و"الإمّعية"، وتفكيك منظومات العقليات الأيديولوجية التي تسببت في إعاقة هذا النمو، و"تفشيل" التنمية والتقدم الحقوقي المدني الحر.

***

نبيل علي صالح

كاتب وباحث سوري

في المثقف اليوم