قضايا

يكاد يندر أن تجد إنسان عراقي يمتلك فضيلة (المطابقة) بين ما يقوله ويعلن عنه جهارا"من جهة، وبين ما يفكر فيه ويعتقد به باطنا"من جهة أخرى، بحيث يبدو كما لو أنه يعيش بين عالمين منفصلين ومتناقضين ؛ يظهر الجرأة والجسارة في الحالة الأولى، ويضمر الاستكانة والتقية في الحالة الثانية . ولهذا قلما نصادف في حياتنا اليومية وجود من يعبر عن ومضات عقله بصراحة وخلجات نفسه بوضوح ، وهو ما يعتبر بالنسبة لعلماء النفس والاجتماع حالة متقدمة من حالات (سايكوباثيا) الشخصية بحاجة الى تشخيص الأعراض وعلاج المسببات .

وكما في كل الظواهر الاجتماعية والإنسانية الشاذة والغريبة التي يمكن مصادفتها في حياتنا اليومية، لا يشكل الفرد العراقي - في هذا الإطار - حالة استثناء كما قد يوحي عنوان المقال لمن يستهويه هذا الأمر ويستمرئه، وإنما هي ظاهرة من جملة ظواهر عامة وشائعة يمكن رصدها وتشخيصها لدى أفراد وجماعات أخرى في بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة . ولكن ما يتميز به الفرد العراقي عن سائر أفراد المجتمعات كونه (يتفوق) بأشواط على أقرانه في استبطان عقدة (الهاجس الأمني) واجتياف تبعاتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، لا في إطار وعيه الظاهر (الشعور) وما يتمخض عنه من تصرفات وسلوكيات غالبا"ما تتسم بالفضاضة والخشونة، الأمر الذي يسبغ عليها طابع التطرف في المواقف والعنف في العلاقات فحسب، وإنما في مطمور لاوعيه الباطن أو (اللاشعور) وما يتوقع أن يترتب عليه من تمثلات وتصورات غالبا"ما كانت مشحونة بفائض من القلق إزاء المستقبل، والخوف من المجهول، والريبة من الغريب، التوجس من المختلف .

والحقيقة انه إذا ما حاولنا إيجاد تفسير مقنع يميط اللثام عن أسباب تمكن هذه الظاهرة من شخصية الإنسان العراقي المدجنة واستيطانها داخل شعاب سيكولوجيته المترجرجة، فلعلنا لا نجانب الصواب حين نزعم ان العلة الأساسية التي وسمت تفكيره وبرمجة وعيه بالشكل الذي ينم عن قلة حيلة وانعدام إرادة وفقدان مصير، إزاء سلاسل متواصلة من سياسات وإجراءات التجويع الاقتصادي والترويع النفسي والتركيع السياسي والتضييع الإنساني، التي لم تبخل أنظمة الحكم السياسية السابقة واللاحقة في جعلها طقوس متوارثة بين أجيال المجتمع طيلة عقود متقادمة وتواضعات متراكمة، حتى أضحت جزء حيوي من تكوينه الذهني والسيكولوجي .  

ولعله لو بحثنا في سيرورات وديناميات تاريخ المجتمع العراقي، لوجدنا من الأسباب والدوافع القاهرة ما لا يجعل فقط من شخصية الفرد العراقي عرضة لدوامات الخوف والقلق والتوتر فحسب، وإنما يحلها الى كتلة مضطربة تتلظى بجحيم لا يطاق من جنون الارتياب والهلع من كل ما له صلة بمؤسسات الدولة الأمنية وعناصر السلطة القمعية التي تحيط به من كل جانب . لاسيما وان هذا الإنسان المقهور في إرادته، والمهدور في إنسانيته، والمغدور في حقوقه، قلما عرف فترة من فترات تاريخه المخضب بدماء الأبرياء والبؤساء، والمعفر بدخان الحروب والصراعات . استشعر خلالها انه يعيش في ظل (دولة راعية) تحميه من غوائل الخوف والعنف من الآخر، مثلما يتمتع برعاية (مجتمع حاضن) يجنبه الوقوع بين براثن العزلة والاغتراب . ولهذا غالبا"ما نجد ان مشاعر (الثقة) المتبادلة بين رجل الأمن ونظيره المواطن العادي، كانت - على الدوام - ليست فقط ضعيفة وهزيلة وإنما ملغية ومعدومة بالكامل، هذا ان لم تكن ملغومة بالحقد والضغينة والكراهية، بحيث ان الحديث عن هذا الأمر يبدو أشبه ما يكون بثرثرة سمجة منه بتوصيف حالة واقعية معاشة . 

والمشكلة ان التربية البيتية (الأبوية) والتنشئة الاجتماعية (القبلية)، ساهمتا – كلا"في مجالها الخاص - في تكريس مثل هذه المخاوف وترسيخ مثل هذه الهواجس، سواء عبر سيرورات (المجايلة) الفاعلة في مثل بيئة المجتمع العراقي، حيث الروابط الأسرية والصلات القرابية والانتماءات العصبية لها اليد الطولى في تنميط وعي الفرد ونمذجة سلوكه، أو من خلال الممارسات والإجراءات البيداغوجية والإيديولوجية التي لا تفتأ السلطات السياسية من حمل مكونات المجتمع على الامتثال لتعاليمها والاجتياف لقيمها، بحيث لا تترك أي مجال أمام من يتجاسر على ردم الهوة بين من يرمز الى الدولة / السلطة، وبين من هو خارج وصايتها المستمرة ورقابتها المتواصلة ! . 

***

ثامر عباس

عندما يُبنى النظام السياسي على عقيدة حزبية أو دينية، يكون التراجع عنها انهياراً، فبعد أنْ يقضي النظام عقوداً مِن التعليم والتثقيف بها، لحمل المجتمع عليها، منقوشة في الدستور وفي دفاتر المدارس، فلا مجال للتراجع، مع بقاء النظام نفسه، فلم ينفع الاعتذار ولا إعادة الاعتبار، لمَن أُعدم وغيب بسببها، والسُّؤال: ماذا لو خرج مصلحٌ مِن أبناء العقيدة نفسها، ألم يتغير النّظام؟ نعم، يتغير ولكنّ لا تبقى العقيدة قائمة، فإذا انهارت، انهار ما سواها. لا يكفي خلع النَّظام ثيابه، إلا الإصلاح الشّامل، الذي يقرّ بأنَّ الدَّولة لإدارة مصالح النَّاس، لا دين لها، ولا عقيدة ملفقة مِن الرّوايات. عندما أراد أحد ملوك أوروبا عزل الكنيسة عن الدّولة، أعلن أنه ليس ملكاً على «الضَّمائر»، فكان الإصلاح (لوكير، التّسامح في عصر الإصلاح).

يذكر التّاريخ ما فعله الخليفة عبد الله المأمون(ت: 218هج)، لما عاد إلى بغداد ووجد المطاوعة استغلوا الفراغ، وبما أنّ بغداد عاصمة، ومَن يهيمن عليها تخضع له الأطراف، أعلن منها تسيير دولته بعقيدة كلاميّة دينيّة، وهي «خلق القرآن»، وأمر امتحان الفقهاء بها، ووفقها يتحدد الإيمان والكفر، استمر عليها، مِن بعده، أخوه وابن أخيه، لكن ما إن أتى جعفر المتوكل (قُتل: 247هج) وانقلب عليها، لم تنته العقيدة فقط، بل انتهى النّظام نفسه، فصارت تتحكم فيه الميليشيات- بمصطلحات زماننا- والقول مشهور: «خليفةٌ في قفص/ بين وصيفٍ وبغا/ يقول ما قالَا له/ كما تقول الببّغاء»(الذَّهبيّ، تاريخ الإسلام). كذلك شاع ببغداد على لسان اللُّصوص والعيارين، السنة (307هج)، عندما قُلد المملوك نجح الطُّولوني في إدارة الشّرطة: «أخرج ولا تبالي/ ما دام نجح والي»(مسكويه، تجارب الأُمم).

مِن أمثلة العصر الحديث البليغة: ظهر ميخائيل غورباتشوف (1985-1991) مصلحاً، بعد سبعين عاماً (1917-1991) مِن هيمنة العقيدة المركزيّة في الدَّولة والمجتمع، ومع كلّ الجبروت الداخلي والخارجي، وإذا يتحول الإصلاح (البروسترويكا) كارثة على النّظام نفسه، لأن الإصلاح هزّ ثوابت العقيدة، كما أن الأنظمة التي تبنت العقيدة الدّينيَّة، تورطت بها، لأنَّ العقائد للأفراد لا تصلح تطبيقات في الدَّولة.

اتُّهم غورباتشوف كثيراً، ومازال متهماً، حتَّى بعد وفاته (2022)، بالعمالة لإسقاط الاتحاد السّوفييتيّ، لكن لا أحداً نظر بأنّ الإصلاح إذا بدأ لا يُعصَم منه النّظام نفسه، وهنا لا يعنينا الخطأ والصّواب، إنَّما نظام العقيدة، لأنْ تكون ضمير النّاس، لا يقبل الإصلاح بأدواته. هذا، وإذا كان نظاماً دينياً، فالإصلاح المرائي سيضر الدِّين والدُّنيا معاً. كنا نقرأ لافتات ضخمة، ببعض العواصم، تقول: «فلان ضمير الأُمة»، فتأمل.

ما تنجح به أنظمة، مِن تجديد، وتقدم بالأقوال والأفعال، لم تكن أنظمة عقائديَّة، عندها السّياسة فن الممكن تماماً، والداخل أهم مِن الخارج، ومعلوم أنّ عقيدة دولة، أي دولة، عابرة للحدود والأوطان، لا تكتفي بداخلها، بل تواجه أزماتها الدّاخليّة بتصدير ضررها إلى الخارج، وإشغال شعبها بالشّعارات، لا بالبناء وملاحقة التّطور، ويكون شعبها أولاً، فمَن لا ينفع شعبه عاجز عن إعانة غيره. هنا يكون التّجديد هلاكاً لنظام العقيدة، بينما حياةً لغيره، وحكاية الحرس القديم، ومواجهته للإصلاح، ليست خافية على أحد، فإذا اضطرت إلى الإصلاح فلا يتعدى التَّرقيع.

نسب لعَدي بن زيد (ت: 587م) ما نعتبره حكمةً، وإنْ اختلفت المناسبة: «نُرقّعُ دُنيانَا بتَمزِيق ديِننَا/ فلَا دِينُنَا يَبقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ»(اليسوعي، شعراء النّصرانيَّة قبل الإسلام)، وقد استشهد ابن خلدون بالبيت، ولم ينسبه (المقدمة)، غير أنّ الجاحظ (ت: 255هج) نسبه لبعض المجان (كتاب الحيوان). أياً كان القائل فالحكمة ظاهرة فيه. ترى بشار بن بُرد(قُتل:167هج)، أخذه وقال بما يفيد المقام: «نُرقّعُ بَعضَ دُنيَانَا ببَعضِ/وَنَترُكُ مَا نُرقّعُهُ ونَمضِي»(ابن أدمر، الدُّر الفريد وبيت القصيد).

***

د. رشييد الخيون - كاتب عراقي

 

أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف جعلتني أشعر بأنني محاصرة ذهنيا

بقلم: زينب الحسني

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت أحلام اليقظة الممتدة بمثابة هروب كنت في أمس الحاجة إليه، لكنها تحولت إلى دافع يزاحم أنشطة اليقظة.

لقد كان الجو حارًا بعد ظهر يوم الأحد. لذلك قررت أن أحتسي بعض الشاي المثلج وأشاهد صبيًا أشقرً لطيفًا - في نفس عمري تقريبًا، يرتدي سروالًا بنيًا وقميصًا أبيض - يلعب في الخارج بمضرب البيسبول . في السياق، يجب أن تعلم أنني كنت مجرد فتاة تبلغ من العمر سبع سنوات، أعيش في منطقة ريفية في لاغوس بنيجيريا، أحلم بالشخصية الرئيسية من فيلم لم أتمكن من إكمال مشاهدته بسبب انقطاع التيار الكهربائي. في هذه المرحلة، لم يسبق لي أن رأيت شخصًا أشقر أو مضرب بيسبول في الحياة الحقيقية. هذه هي أول ذكرى لي عن أحلام اليقظة.

في البداية كان الأمر بمثابة هروب غير ضار، وملعب إبداعي حيث أطلق فيه للخيال العنان. كنت أستحضر مشاهد بشخصيات مختلقة، وأنسجها بسلاسة في حياة المشاهير الذين رأيتهم في المجلات أو على شاشة التلفاز  لدى جارتي. ومع مرور الوقت، بدأت أحلم في أحلام اليقظة لساعات متواصلة - كانت أحلام اليقظة تبدأ من تلقاء نفسها - وأحيانًا كنت أستيقظ في الليل وأحلم حتى الفجر. في أحد أحلام اليقظة المفعمة بالحيوية، جاءت فتاة جديدة إلى المدرسة وأصبحت أفضل صديقة لي، وأوقفت أخيرًا التنمر الذي كان يحدث لي في الفصل. وفي الواقع، لم تأت فتاة قط.

تدهورت الأمور عندما تراجعت مصادر دخل والدي، وأصبح من الصعب تلبية الاحتياجات الأساسية أصبحت أحلام اليقظة بمثابة خلاص لعدم قدرتي على التغلب على الفقر الذي سيطر على حياتنا. في رأيي، لم أكن أجلب دلوًا من الماء أو أتعامل مع إصابة في الضفيرة الصدرية؛ لقد عشت أسلوب الحياة الفاخر لكيمورا وكيندرا وكارداشيانز. لماذا أعود إلى عالم مليء بالصراع والتوتر بينما أستطيع أن أعيش في أحلام اليقظة الحية؟ قدم هذا العالم الخيالي في البداية راحة هائلة من مشاكل الحياة الواقعية. ومع ذلك، فإن تعطيل أنشطتي أثناء اليقظة، سيؤدي في النهاية إلى تفاقم الضغط النفسي.

تم تقديم مصطلح "أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف" (MD) في عام 2002 من قبل عالم النفس السريري إيلي سومر. إنها ظاهرة نفسية تتميز بأحلام اليقظة الواسعة التي تحل محل التفاعل البشري الواقعي و/أو تتعارض مع قدرة الشخص على العمل في مجالات مهمة مثل المدرسة أو العمل. وهى تنطوي على عوالم خيالية مفعمة بالحيوية وغامرة يخلقها الشخص داخل عقله، غالبًا للتعامل مع التوتر أو القلق أو التحديات العاطفية الأخرى. العديد من الأفراد الذين يعانون من أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف لديهم تاريخ من الصدمات في مرحلة الطفولة أو سوء المعاملة أو الاضطراب العاطفي،وبعض السمات، مثل الإبداع العالي والاستيعاب، قد تهيئ الأفراد للانخراط فيها.

غالبًا ما تتسم أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف بسمات تتداخل مع حالات الصحة العقلية الأخرى، مما يجعلها ظاهرة معقدة يصعب التعرف عليها وعلاجها. على سبيل المثال، يمكن أن تشبه السلوكيات المتكررة أعراض اضطراب الوسواس القهري (OCD). هناك أيضًا تداخل بين أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف واضطراب نقص الانتباه/فرط النشاط (ADHD): قد تساهم بعض أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه في عدم قدرة بعض الأشخاص على تنظيم نوبات أحلام اليقظة؛ وفي الوقت نفسه، قد تؤدي أحلام اليقظة المفرطة إلى عجز في الانتباه كأثر جانبي.  كتب سومر وزملاؤه أن أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف تبدو "ليست مستقلة تمامًا عن وجود اضطراب آخر، ولا يمكن تفسيرها بشكل كامل".

يختلف هذا النمط الإشكالي من أحلام اليقظة بشكل كبير عن نوع أحلام اليقظة التي يعيشها معظم الناس. لم تكن أحلام اليقظة مجرد رحلات خيالية غير ضارة.في أغلب الأحيان، كنت أتدرب على نفس المشاهد مرارًا وتكرارًا في أحد أركان الغرفة، وأقوم بتعديل المحادثات أو تعبيرات الوجه قليلاً. كنت أبكي عندما بكت شخصياتي، وكنت أضحك عندما تبكى. وعلى الرغم من أنني كنت أمشي بشكل قهري أثناء أحلام اليقظة، إلا أنني بذلت قصارى جهدي لإخفاء ذلك قدر استطاعتي خلف واجهة من السلوك المتواضع. لم تكن مشكلتي شيئًا يمكنني مناقشته بشكل علني أو طلب المساعدة بشأنه، حتى لو أردت ذلك. في موطني، أي شيء يشبه حتى ولو عن بعد شذوذًا سلوكيًا غالبًا ما يُوصف بأنه "بلاء" ويقابل بالريبة.

إن العيش مع إصابة في الضفيرة العضدية جلب لي المزيد من الألم الجسدي والعاطفي، مما زاد من وتيرة أحلام اليقظة. تركت جلسات العلاج الطبيعي آلامًا في جسدي، كما غمرتني استفزازات زملائي المستمرة بشأن مظهري. أصبحت أحلام اليقظة ملجأي الدائم، ووسيلة للخروج من جسدي وتخدير الألم. لقد عانيت من الشعور بالذنب والعار والإحباط في كل مرة استسلمت فيها لساعات من أحلام اليقظة. ومع ذلك، في هذه الأحلام، تمكنت النسخة المثالية من نفسي من تجربة الحب والقبول والكمال.

لقد حاولت الابتعاد عن الأمر، وتعهدت بالانسحاب نهائيًا. ولكن حتى أصوات الموسيقى يمكن أن تؤدي إلى حلقات تتصاعد إلى ساعات من الهروب الغامر. كثيرًا ما كنت أوبخ نفسي، وأتوسل بشدة إلى الله أن "يصلح" دماغي. عندما انتقلت إلى مرحلة البلوغ، بدأت أحلام اليقظة غير المنتظمة في إحداث تأثيرات بعيدة المدى، حيث تتداخل مع أنشطتي الاجتماعية ومساعي الأكاديمية. لقد حظيت بفرصة الحصول على موارد من الأصدقاء والعائلة لأتمكن من الدراسة في الجامعة. لكنني وجدت صعوبة في التركيز، خاصة عندما كانت الفصول الدراسية عبر الإنترنت بسبب فيروس كورونا (COVID-19). كان بإمكاني قضاء خمس ساعات في أحلام اليقظة بينما كان الموعد النهائي للمشروع يحدق في وجهي. كان لهذا الصراع أثره السلبي على أدائي الأكاديمي العام، مما كلفني فترة تدريب واعدة وفرص وظيفية.كما أنها عطلت أنماط نومي بينما زادت من التوتر والقلق وعدم الرضا عن الواقع. بدلاً من التعامل مع أصدقائي الحقيقيين، فضلت التراجع إلى الخيال. حتى المهام الأساسية مثل الطبخ والتنظيف والنظافة الشخصية أصبحت تحديات هائلة.

ومع اتساع الهوة بين أحلامي وواقعي، شعرت بالعجز عن عبورها. عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، طلبت أخيرًا المشورة الطبية سرًا.عرض المعالج الذي تواصلت معه عبر الإنترنت المساعدة، لكن التنقل من مسكننا الريفي إلى العيادة البعيدة كان مكلفًا وصعبًا من الناحية اللوجستية. بالإضافة إلى ذلك، في مكان حيث غالبًا ما يتم تجاهل مشاكل الصحة العقلية وتجاهلها، فقد أسيء فهم حالتي إلى حد كبير، حتى من قبل المتخصصين الذين حاولوا المساعدة.أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف ليست مدرجة أيضًا في نصوص التصنيف الرسمية مثل الإصدار الأخير من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM-5-TR) والأطباء النفسيون لا يعرفون ذلك إلى حد كبير.

لذلك كان علي أن أتعلم كيفية إدارة حالتي دون مساعدة مهنية وفي صمت. لم يكن الأمر سهلاً وكانت الرحلة مليئة بالانتكاسات ولحظات اليأس. لكنني وجدت العديد من الاستراتيجيات مفيدة، بعضها تم تطويره بشكل مستقل والبعض الآخر تعلمته من أشخاص لديهم تجارب مماثلة.

1. البحث عن  الدعم:

كنت أعتقد أنني الوحيدة التي تتعامل مع هذا الأمر، ولكن منذ بضع سنوات، اكتشفت مجتمعًا عبر الإنترنت يضم أفرادًا من جميع أنحاء العالم شاركوني في صراعي مع أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف. لقد كان ملاذًا حيث يمكنني أخيرًا التحدث بصراحة عن التحديات التي أواجهها دون خوف من الحكم أو سوء الفهم. التقيت بأشخاص آخرين أدركوا النطاق العميق لهذه المشكلة، أشخاصًا لم يسألوا: "لماذا لا تتوقفين؟"، بل عرضوا بدلاً من ذلك التعاطف والدعم والنصائح العملية. لقد انفتحت أيضًا على صديقي المقرب للمرة الأولى ولم أعد أشعر بالوحدة بعد الآن. أدى انخفاض الشعور بالعزلة إلى تقليل الحاجة إلى اللجوء إلى أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف.

2. البقاء حاضرا:

كانت إحدى الاستراتيجيات الأولى التي اعتمدتها هي أن أكون حاضرة: أضع يدي على صدري لأشعر بنبضات قلبيأو أعد الأوراق على فرع قريب للحفاظ على تركيزي على اللحظة. في الأساس، كنت أمارس اليقظة الذهنية. من خلال لفت انتباهي إلى هنا والآن، اكتسبت سيطرة أكبر على ميولي في أحلام اليقظة. لقد جعلني ذلك أكثر وعيًا بالمحفزات مثل الصباح الباكر والمسلسلات والمحادثات المكثفة والصراعات مع الأقارب والمهام المتكررة، بالإضافة إلى الأحاسيس التي شعرت بها خلال حلقات أحلام اليقظة .

3. الأنشطة البدنية:

إن المشاركة في النشاط البدني الذي يتطلب اهتمامي الكامل ساعد في تحويل ذهني عن أحلام اليقظة. أصبحت الهوايات مثل الرسم ونط الحبل والصور الفوتوغرافية وحتى صناعة الورق أدوات قيمة في ترسانتي. كما أنني أتطوع في مجتمعي مرة واحدة في الأسبوع لتعليم الشباب الفقراء مهارات حياتية مهمة؛ وهذا، على وجه الخصوص، ساعدني بشكل كبير.  ومع قضاء المزيد من الوقت في النشاط في العالم، قمت أيضًا بتقليل استخدامي لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي كانت تميل إلى زيادة مشاعر عدم الكفاءة بينما توفر أيضًا مادة لأحلام اليقظة. بدأت ألاحظ أن أحلام اليقظة أصبحت أقل إلحاحًا عندما تم إيقاف تشغيل تطبيقات التواصل الاجتماعي.

4. إنشاء حدود زمنية:

أدركت في وقت مبكر أنني بحاجة إلى وضع حدود بين أحلام اليقظة وحياتي اليومية. إن تحديد أوقات محددة للأنشطة سمح لي بالحفاظ على درجة من السيطرة على أفعالي القهرية. كنت أقوم بضبط المنبهات والتذكيرات بتسميات مثل "استكشف خمس صفحات من كتاب القانون الدستوري الموصى به" أو "أرسل رسالة نصية إلى تيم وسارة". وبمرور الوقت، تمكنت من تقليل تكرار ومدة حلقات أحلام اليقظة عن طريق وضع هذه الحدود الزمنية. وبالمثل، يتضمن العلاج السلوكي المعرفي (CBT) أحيانًا جدولة أنشطة محددة في أوقات محددة ومساعدة الأفراد على إنشاء إجراءات منظمة.

5. التعاطف مع الذات:

ربما كان الدرس الأكثر تحديًا وتحويلًا هو تعلم أن أكون لطيفًة مع نفسي. كان علي أن أتقبل أن أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف لم تكن عيبًا في الشخصية، وأنه لا يوجد أي خطأ جوهري في عقلي. لقد سمح لي التعامل مع نفسي بالتعاطف بالتقليل تدريجيًا من قبضة أحلام اليقظة على حياتي. أردت أن أكون محبوبة كشخص عادي وكامل، وهي الرغبة التي غذت أحلام اليقظة. الآن أقوم بتوجيه هذا البحث عن الحب بشكل مختلف.

إن التحرر من أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف هو عملية مستمرة بالنسبة لي؛ لا تزال هناك أيام أتعثر فيها، لكني أحاول قبول ذلك دون الحكم على نفسي أو انتقادها. أنا لست مرهقة كما كنت من قبل. آمل أنه مع تزايد الوعي بقضايا الصحة العقلية في بلدي وإجراء المزيد من الأبحاث حول هذه التجربة على وجه التحديد، آمل أن يجد الأفراد الآخرون مثلي - الذين يتوقون إلى حياة أقل استهلاكًا للهروب إلى الخيال - الدعم والفهم الذي يحتاجون إليه.

(انتهى)

***

.......................

المؤلفة: زينب الحسني/ Zainab Al-Hassani . زينب الحسني هو اسم مستعار لطالبة قانون وشاعرة مقيمة في لاجوس بنيجيريا.

هوامش:

* تنجم إصابات الضفيرة العضدية عادة عن صدمة في الرقبة، ويمكن أن تسبب الألم والضعف والخدر في الذراع واليد. غالبًا ما تشفى إصابات الضفيرة العضدية جيدًا إذا لم تكن شديدة. يتعافى العديد من الأشخاص الذين يعانون من إصابات طفيفة في الضفيرة العضدية بنسبة 90% إلى 100% من الوظيفة الطبيعية لأذرعهم.

لم تكن أحلام اليقظة مجرد رحلات خيالية غير ضارة، ومن خلال تركيز انتباهي على هنا والآن، اكتسبت سيطرة أفضل على ميولي إلى أحلام اليقظة

مقدمة: لقد كانت الحرب منذ فترة طويلة موضوعا للسحر والخوف والتحليل. ومع ذلك، فإن أحد الجوانب التي غالبا ما تستعصي على فهمنا هو عدم موثوقية اللغة في الوصف الدقيق لعنف وأهوال الحرب. في هذا المقال، سوف نستكشف التحديات المعقدة التي نواجهها عند محاولة توضيح الطبيعة الحقيقية للحرب، مع تسليط الضوء على سبب فشل اللغة في كثير من الأحيان في التعبير عن جوهرها بشكل كامل.

مدى تعقيد العنف في الحرب

إن وصف عنف الحرب مهمة شاقة بسبب تعقيدها المتأصل. إن العنف في الحرب يتجاوز التعريفات البسيطة؛ فهو يشمل الأبعاد الجسدية والعاطفية والنفسية والمجتمعية. إن الطبيعة المتعددة الأوجه للعنف تتحدى الأوصاف التبسيطية، مما يجعل من المستحيل تقريبا على اللغة أن تشمل نطاقه الحقيقي بشكل كامل.

الذاتية والمنظور

سبب آخر لعدم موثوقية اللغة في تصوير عنف الحرب هو ذاتيتها واعتمادها على المنظور. يعاني الأفراد المختلفون من العنف ويتصورونه بشكل مختلف. تتشكل اللغة التي نستخدمها بطبيعتها من خلال وجهات النظر الشخصية والخلفيات الثقافية والتحيزات. ومن ثم، فإن محاولات رسم صورة موضوعية تفشل لأن اللغة غير قادرة على التقاط مجموعة متنوعة من التجارب.

حدود اللغة

اللغة، باعتبارها أداة نقل للفكر الإنساني، تمتلك قيودا متأصلة عندما يتعلق الأمر بتغليف أهوال الحرب. الكلمات، بغض النظر عن دقتها أو مقصدها، غالبا ما تكون غير قادرة على تحويل الواقع الغامر والعميق للحرب إلى مجرد تمثيل لغوي. لا يمكن التعبير عن عمق العواطف والتجارب التي تصاحب الحرب بشكل كافٍ ضمن حدود اللغة وحدها.

الانفصال العاطفي

عند محاولة وصف عنف الحرب، غالبا ما تفشل اللغة في نقل العمق العاطفي الذي يعيشه المشاركون. إن الألم والخوف والحزن واليأس الذي يصاحب الحرب نشعر به بعمق ولكن يصعب التعبير عنه باللغة. ونتيجة لذلك، ينشأ انفصال عاطفي بين الجمهور والتجارب الفعلية للحرب، مما يحد من فهمنا لتأثيرها الحقيقي.

عدم القدرة على وصف الصدمة

تنتشر الصدمات في سياق الحرب، وغالباً ما تكون ندوبها النفسية غير قابلة للوصف. إن المعاناة التي لا يمكن وصفها والتي يتحملها الأفراد المتأثرون بالحرب تخلق حاجزًا لغويًا يزيد من إعاقة فهمنا. إن تجارب العنف الشديد والرعب تتجاوز الحدود اللغوية لمفرداتنا، مما يجعل اللغة أداة غير كافية لنقل حجم هذه الصدمات.

التجريد من الإنسانية والعبارات الملطفة

ونظراً للطبيعة الوحشية المتأصلة للحرب، فقد تم التلاعب باللغة منذ فترة طويلة لتخفيف الحقائق القاسية. يتم استخدام العبارات الملطفة والجهود اللغوية اللاإنسانية لإبعاد أنفسنا عن الحقيقة المروعة. يشكل هذا الانفصال المتعمد الروايات التي نستخدمها، مما يزيد من عدم وضوح الحدود بين الحقيقة والخيال، مما يعيق الفهم الحقيقي لوحشية الحرب.

الفروق الثقافية وقضايا الترجمة

عند مناقشة العنف في الحرب، تشكل الحواجز اللغوية عقبة أخرى. تعد ترجمة الفروق الدقيقة في التجارب الشخصية من لغة إلى أخرى مهمة صعبة للغاية وغالبًا ما تؤدي إلى فقدان المعلومات وسوء التفسير. ونتيجة لذلك، يصبح من الصعب على نحو متزايد على المجتمعات المتنوعة أن تتواصل وتستوعب بشكل حقيقي العنف الذي شهدته الحروب المختلفة.

التجارب الحسية في الحرب

تشغل الحرب كل الحواس، من صوت الانفجارات الذي يصم الآذان إلى رائحة الدخان النفاذة. ومع ذلك، فإن اللغة محدودة في قدرتها على تكرار مثل هذه التجارب الحسية. إن محاولات وصف عنف الحرب تفقد الحدة التي توفرها الأحاسيس الجسدية الفعلية، مما يقلل من قدرتنا على فهم التأثير الكامل.

تأثير الدعاية والإعلام

وفي عصر وسائل الإعلام، تتفاقم عدم موثوقية اللغة في وصف الحرب. غالبا ما تشوه الدعاية والإثارة السرد، مما يغير الفهم العام. إن قوة الصور واللقطات الصوتية تحجب اللغة الدقيقة، مما يزيد من التحدي المتمثل في الفهم الدقيق لعنف الحرب.

خاتمة:

اللغة، بكل تعقيداتها وقيودها، تكافح من أجل تلخيص العنف الحقيقي الذي شهدته الحرب. إن تعقيد العنف، والتصورات الذاتية، والانفصال العاطفي، والحواجز الثقافية، كلها تساهم في عدم موثوقية اللغة. وباعتبارنا متعلمين بضمير حي، يجب علينا أن ندرك هذه القيود وأن نستكشف وسائل بديلة لسد الفجوة بين اللغة وفهمنا للأهوال التي تحملناها في ساحة المعركة.

***

محمد عبد الكريم يونسف - سورية

 

"انت لست ضعيفا ما دمت تقاوم"

مقدمة: أثارت القضية التي رفعتها دولة جنوب افريقيا لدى محكمة العدل الدولية بلاهاي ضد الكيان المحتل لأرض فلسطين بسبب الجرائم المرتكبة ضد المدنيين والاطفال والمرضى والمدارس والمستشفيات وممارسة الابادة الجماعية والتطهير العرقي والتمييز العنصري والتهجير القسري للغزاويين الكثير من ردود الأفعال سواء المرحبة في صفوف المنحازين للحقوق الفلسطينية أو المستنكرة بالنسبة للمساندين للإسرائيليين وانطلقت نقاشات في الدوائر السياسية والحقوقية وكذلك في الفضاءات الاعلامية والجامعية.

كما تم طرح المفارقات الفلسفية التي تتضمنها الأزواج المفوهيمية للحرب والسلام والحق والقوة وأيضا الحرية والعدالة والسيادة والمواطنة ووقع اثارة قضية تفكيك الاستيطان والعمل على انهاء الاستعمار وطرق القضاء على التمييز العنصري وتجفيف منابع الكراهية بين الشعوب والانتصار للحق والعدل بدل تفشي العنف والجريمة وانتشار الفوضى والقتال على الساحة الدولية وعولمة الفقر والمرض والازمات.

في هذا السياق، تظل الحرب، بحكم تعريفها، مجرد صراع بين أطراف غير راغبة أو غير قادرة على حل خلافاتها بوسائل أخرى. وبالتالي فإن الحرب هي توازن محض للقوى. وبالتالي، فإن نتيجتها في أغلب الأحيان تنطوي على خضوع أحد الطرفين المتحاربين للآخر. ومع ذلك، فإن الوضع الناتج عن ذلك، الحقيقة التي يرسيها توازن القوى هذا، ليس عادلاً للطرف المهزوم، لأنه، كما قال روسو، "القوة لا تصنع الحق". وعلى العكس من ذلك، يشير السلام إلى حالة اجتماعية يتفق فيها أصحاب المصلحة على حل النزاعات التي تعارضهم إلا بالقوة. وبالتالي فإن حالة السلام لا تعني عدم وجود خلافات، بل تعني وجود إجراءات معترف بها من قبل الجميع للتحكيم في النزاعات التي تنشأ بالضرورة عن الحياة في المجتمع. كما يبدو للوهلة الأولى أن السلام يتوافق مع حالة العدالة، لأن القرارات المتخذة في هذا الإطار تتخذ وفق قواعد مقبولة، وبالتالي مشروعة. وبهذا المعنى، يبدو أن الرغبة في السلام تتوافق مع الرغبة في العدالة. لكن هذا الارتباط يقوم على افتراض: التكافؤ بين الشرعية والمشروعية والعدالة. ومع ذلك، ليس لأن القانون أو الإجراء قانوني، فإن الوضع السياسي أو الاجتماعي الناتج عنه يكون مشروعًا، وبالتالي عادلاً. وفي بعض الأحيان يكون رفض خيار الصراع المفتوح باسم الحفاظ على السلام بأي ثمن بمثابة إدامة حالة من الظلم، وبالتالي التغاضي عنها. إن معالجة المشكل تفترض أننا نميز الرغبة في السلام والرغبة في العدالة. إن الرغبة في السلام تعني في المقام الأول الرغبة في الخروج من الاشتباكات والأعمال العدائية. ولكن هل يكفي أن نرغب في إنهاء الصراعات - ليست فقط الصراعات المسلحة على المستوى السياسي ولكن أيضًا الصراعات مع الآخرين في العلاقات الشخصية، وكذلك الصراعات مع الذات التي تقسم الفرد - لنريد السلام حقًا؟ أما الرغبة في العدالة، فهي تسكن الموضوع الأخلاقي كما تسكن الموضوع السياسي. ويتم التعبير عنها بشكل ملموس من خلال رفض الظلم، ومحاربة المصالح والامتيازات. ويمكن التعبير عن الرغبة في العدالة بدورها من خلال المطالبة بالاعتراف بالحقوق العالمية، والدفاع عن الأضعف، والمطالبة بالمعاملة العادلة. المشكل هنا يتساءل عن العلاقة بين السلام والعدالة. للوهلة الأولى، يبدو أن السلام والعدالة قيمتان لا يمكن فصلهما. من وجهة نظر العقلانية، يعتبر السلام والعدالة هدفين أساسيين للعقل. وكلاهما يعبر عن المطالبة بالعالمية العقلانية. إن العمل من أجل السلام يعني الابتعاد عن منطق الصراعات والمواجهات الخاصة. بالنسبة لكانط، فإن السلام الدائم هو هدف العقل العالمي -فكل الحروب التي أصبحت مستحيلة. ولكن ألا يمكن أن تكون هناك تناقضات بين السلام والعدالة؟ في بعض الأحيان نصنع السلام لأسباب أخرى غير العدالة – الهدوء والأمن، عندما نفضل الاستسلام بدلاً من الاستمرار في القتال. إن الرغبة في السلام هي إذًا استسلام، ولا تعمل من أجل العدالة. يمكننا أيضًا أن نصنع السلام ونعززه من منطلق المصلحة أو الإستراتيجية البحتة. على العكس من ذلك، فإن السعي لتحقيق العدالة يفترض أحيانًا أن نحمل السلاح، وأن ننخرط في المواجهة: حروب التحرير؛ الثورات. تحت أي ظروف إذن تعبر الرغبة في السلام حقًا عن الرغبة في العدالة؟ مما لا شك فيه أنه لا يكفي أن نرغب في السلام، بل أن نرغب فيه، أي أن نعمل من أجل السلام، من أجل سلام لا يمكن فهمه إلا على أنه نهاية للأعمال العدائية أو الصراعات، والذي لا يوجد سلام حقيقي إلا إذا فكرنا فيه. فيما يتعلق بالعدالة والحرية. إذا كان النزاع المسلح عبارة عن توازن محض للقوى، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن التوفيق بينه وبين انسجام الحياة الاجتماعية الذي تهدف إليه العدالة. ولكن أليست، مثل اتفاقيات ميونيخ، سلاماً ظالماً؟ هل رغبتنا في السلام تحمينا بشكل عام من الظلم؟ هذه بعض المعضلات التي يطرحها هذا المشكل، نحن نفترض هنا إمكانية وجود رغبة في السلام: فالناس لا يسعون إلى المواجهة فحسب، بل يمكنهم أيضًا أن يريدون السلام. ونتساءل عن طبيعة هذه الرغبة. ماذا يريد الناس عندما يريدون السلام؟ وعلى وجه الخصوص، فإن الرغبة في العدالة هي التي تحرك الرغبة في السلام. هل نريد السلام دائمًا لنرى العدالة تنتصر؟ هل يمكن أن تكون الرغبة في السلام مدفوعة بنوايا أخرى؟ اي واحدة؟ فهل هذه النوايا الأخرى، المخالفة للعدالة، سيئة بالضرورة، ومستهجنة؟ ألا يجب أن يتوقف العدوان على غزة لكي تتوقف المعارك الدنيوية حول المقدس الأخروي والتصادم بين الحضارات ؟

1) إذا كانت القوة لا تصنع الحق، فإن الرغبة في السلام هي بالضرورة تهدف إلى العدالة

في الكتاب الثاني، الفصل الثالث من العقد الاجتماعي (1762)، يوضح جان جاك روسو أن من يستسلم لقوة خصمه لا يشعر أبدًا بأنه مجبر على طاعته ملزمًا بل مقيدًا فقط: "إذا كان من الضروري الطاعة بالقوة، لا نحتاج إلى الطاعة بدافع الواجب، وإذا لم نعد مجبرين على الطاعة، فإننا لم نعد ملزمين بذلك." الآن، إذا كانت الحرب تتمثل في فرض إرادة المرء بالقوة على الخصم، فحتى عندما ينتهي الكفاح المسلح ويتقدم أحد الطرفين على الآخر، فإن الصراع يظل قائما. وبالتالي، يبقى ميزان القوى قائماً، ومعه عدم الاعتراف بشرعية الوضع السياسي الذي يترتب على ذلك. كما أن الأمر الذي تم إنشاؤه لا يتم التعرف عليه إلا من خلال الضرب. وعلى العكس من ذلك، فإن رفض أن تكون الحرب ملاذاً أو حلاً هو الحفاظ على أن السلام الوحيد، المرادف لغياب الصراع المفتوح، هو الذي يضمن في نهاية المطاف إقامة حالة مقبولة من الأغلبية بسبب شخصيته الصالحة. ما لم يكن الأمر مثاليًا بالطبع. هل يفتك الحق بمنطق القوة؟

2) الدخول في الحرب يمكن أن يتوافق أيضًا مع الرغبة في العدالة

إن كون الرغبة في السلام هي رغبة في العدالة لا يعني العكس، أي أن أولئك الذين يريدون الحرب سيظهرون بالضرورة الظلم. ويجب ألا نجعل السلم المدني مثالياً إلى درجة الاعتقاد بأن غياب الاضطرابات السياسية يعكس عدم وجود الظلم. عندما كتب كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشيوعي (1848) أن "تاريخ كل مجتمع حتى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراعات الطبقية"، فإنهما يذكراننا بأن الصراع محفور في قلب المجتمعات البشرية: إن اختلافات المصالح التي تغذيها رغباتهم تضع البشر في منافسة ومعارضة. داخل الدول وكذلك بين الدول نفسها. ومن وجهة النظر هذه، يمكن للسلام أن يحجب حالة بنيوية من الظلم. دعونا نتذكر أن بعض حروب الغزو الإمبراطوري وُصفت بأنها عمليات "تهدئة"، وأن المجتمع الاستعماري الذي تم إنشاؤه بمجرد هزيمة السكان المحليين لم يكن عادلاً على الإطلاق، كما هو الحال في الجزائر زمن الاستعمار الفرنسي لها حيث لم تكن المساواة بين المواطنين أمام القانون موجودة. وبالتالي، هناك سلام غير عادل يشكل في كثير من الأحيان بدايات الحرب القادمة، مثل معاهدة فرساي، التي عاقبت ألمانيا بشدة بعد الحرب العالمية الأولى والتي يتفق عليها المؤرخون. ويعتقدون أنها حددت إلى حد كبير قدوم الحرب العالمية الأولى. من الثاني. في انتقاد هوبز، أشار روسو إلى أن مفهومه للسلام المدني يعادل اختزاله في الأمن. ومع ذلك، فإن الحفاظ على النظام الاجتماعي كما هو يمكن أن يستوعب تمامًا الحفاظ على الظلم الصارخ داخل المجتمع. بين المجتمعات؟

3) إن الرغبة في العدالة تعني معالجة الصراع الاجتماعي من خلال المؤسسات السياسية

في كتابه "الأمير" (1532)، كتب نيكولا مكيافيلي أن "الحرب تكون دائمًا عادلة عندما تكون ضرورية، وتكون الأسلحة مقدسة عندما تكون المورد الوحيد للمضطهدين". ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يريد الحرب من أجل الحرب لأنها مكلفة بشكل منهجي للجميع. وبالتالي، يجب علينا دائمًا أن نفضل الحفاظ على السلام، ولكن بشرط واحد فقط هو النظر إليه من زاوية الاحترام غير المشروط للمؤسسات السياسية والحفاظ على النظام الاجتماعي. عندما كتب جون راولز في كتابه نظرية العدالة (1971)، أن "درجة معينة من الاتفاق حول مفاهيم العدالة ليست الشرط الوحيد لمجتمع إنساني قابل للحياة"، فهو يعني أن سياسة النظام لا تحتفظ بشرعيتها بين السكان إلا إذا فهو ينظم التعبير وحل الخلافات التي لا تفشل في الظهور مع مرور الوقت. ومن وجهة النظر هذه، فإن السلام يحدد كلا من شرط ونتيجة الفن السياسي المتمثل في الاتفاق على الخلاف. لذا فإن الرغبة في السلام تعني أولاً وقبل كل شيء الرغبة في منع الظلم ومحاربته باستمرار بوسائل القانون. الظلم الذي ينشأ عندما لا يتمكن جزء من السكان من التعبير عن مطالبه. فهل يمكن الحصول على العدالة بالمضي في طريق السلام ام بالتمسك بخيار الحرب والقوة؟

خاتمة

ويضع الجميع في أذهانهم صيغة كارل فون كلاوزفيتز: "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى". بشكل غير مباشر، يذكرنا أنه باسم السلام، يجب ألا نتخلى عن ممارسة السياسة: وهذا يعني، أولاً وقبل كل شيء، أن نتحمل بشكل جماعي المستوى غير القابل للاختزال من الصراع الموجود داخل المجتمعات البشرية وبعضها البعض. إذا كانت الديمقراطية، بالمعنى القوي للكلمة، يجب أن تظل ثمينة في نظرنا، فذلك على وجه التحديد لأنها تضمن، من حيث المبدأ، التعبير عن الخلاف ومراعاة الخلاف بفضل الشكل المؤسسي للنقاش. فمتى ينتهي التدمير الممنهج والاستهداف المستمر للسكان في قطاع غزة وحاضرة فلسطين؟ وكيف يحل العدل محل الظلم وتكف الدول القوية عن سياسة المكيالين تجاه الدول المتعثرة؟ الا ينبغي على المنتظم الاممي أن يعاقب كل من يعتدي على حقوق الانسان والمواطن في العالم مهما كانت قوته ومبرراته وتردع كل من يصادر سيادة الدول ويمنع حقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

بين العصف المأكول وطوفان الأزمات والمعالجة ببروستاريكا و طنية

عالم الأقتصاد العراقي:

سوف يكون محور البحث في سيمياء العنوان " فضاءات الأقتصاد العراقي، فالحفريات العميقة في الأقتصاد العراقي تبدو كغثاثة سياسية ومخاض عسير للتغيير، ولآن التنمية الأقتصادية هي الرافعة الديناميكية لحلحلة الأشتباكات الرثة والمزمنة منذ قرن من الزمن فهي كفيلة في أضفاء السوداوية والقنوط على الواقع العراقي، ولو إن المشكلة تبدو كشبكة عنكبوتية متشابكة المتاهات خاضعة لخيبات أصحاب القراروهلامية الجدية والعبثية السياسية والدبلوماسية مع غياب ثقافة المواطنة وتعدد الأنتماءات الفئوية والشعبوية، وضغوطات المحتل الأمريكي بعقوباتهِ التعسفية2018 والتي داست السيادة العراقية بغطرسة تغولية مريبة، وتنمر دول الجوار أيران وتركيا وأطماع الكويت الجارة في قضم الحدود والأستحواذ على الممرات المائية واستنزاف الخزينة بديون باطله أكثر من 65 مليار دولار أمريكي ، أن أوجاعنا وخيباتنا المأزومة والمهزومة ربما بقدم وعراقة هذا الوطن الجريح، وتبدو المخرجات الأقتصادية الرثة والمعيبة رديفة الوطن ومتلازمتها منذ وجودهِ الجغرافي والسياسي عام 1921 حتى اللص المحترف (بريمر) البغيض الذي أكتنز المليارات من النقد ووجه ثروات البلد ومصادر الطاقة لحساب أسياده في واشنطن أضافة إلى أحياء المحاصصة والفئوية الطائفية والأثنية والمناطقية البغيضة والتجاوز على كرامة العراق بألغائه مؤسسة الجيش العراقي الباسل والذي كان واضحا بلعب ورقة الجوكر الشيطانية في تخريب ليس فقط المنظومة الأقتصادية بل تخريب المنظومة الأخلاقية للشعب العراقي بأنتشار نزعة اللصوصية والجرمية والفساد المالي وتخدير الشعب بالأفيون والكرستال القاتل، فأصبح الفساد الأداري والمالي شائعاً في مؤسسات الدولة العميقة وهو اليوم يعتبر من أكبر التحديات التي تواجه الحكومات الأتحادية المتعاقبة، فهو بالتأكيد (يقوَض) الحكم السوي ويشوه السياسة العامة ويهدم مرتكزات القطاع العام والخاص والتالي يلحق الضرر بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، ومن خلال هذا الغوص الجاد في ألقاء الضوء الكاشف على محطات الوجع العراقي لذا صرنا نتشبث الخروج من الوحل التسلطي الخارجي، أو ربما البحث عن تلك القشة المنقذة في أستنساخ بعض النماذج الناجحة في بعض دول الخليج والعالم المتمدن، ولست سوداويا بل تفرض علينا الحقائق المأساوية والمؤلمة والتي كابدناها يبقى هذا البصيص من الآمال الواعدة بأستراتيجيات وردية واعدة تندس ضمن أحلامنا الممنوعة لآننا نعيش حرمانات كوميدية رثة ومعتقة نكابدها مرغمين، ولا زلنا نفتش في المعاجم القديمة عن كذبة كبرى تدعى (الوطن)!؟.

حفريات عميقة في أقتصاديات الدولة العراقية

- أمريكا في العراق صراع على النفوذ ومآلات السيطرة ورهانات المستقبل بدت جلية للعيان للأعوام 2003 – 2016- 2014- 2018 – 2023 – 2024 وهي المخرجات البغيضة والمؤثرة للعقوبات الأمريكية على العراق عام 2018.

-الأقتصاد العراقي المستنزف في حضن الصندوق الدولي الأسود.

- كوابيس أضطراب بوصلة أسعار النفط يهدد الأقتصاد العراقي.

- سوداوية المخرجات السيئة للأقتصاد العراقي تنحو بأتجاه عالم الغثاثة السياسية والمخاض العسيرللتغيير.

- مزاد العملة الأجنبية فرية أمريكية (بريمرية).

- عدم الجدية في أقرار (قانون) حريمنع الأستحواذ والتسلط والبيروقراطية ويعطي المجال الأوسع لخنق للقطاع الخاص وعدمية أستدامة أستثمارية جديدة تعالج الثغرات المحبطة أمام التغيير.

- نعم الجفاف والتصحريقسو على زراعة العراق، قلة الأمطار تعمق الأزمات المائية وتزيد من معاناة أكثر من ألفي قرية على الفرات الأوسط تعاني شحة المياه، وإن العراق يستنزف خزين مياهه الجوفية للسنة الخامسة للتصحر، وبأعتقادي اللجوء للمياه الجوفية تكون للطوارئ فقط.

- العراق وتحقيق التوازن بين ثرواته الطبيعية ومستقبل الطاقة المستدامة.

- تراجع الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي والتأثير المباشر على السوق الموازية بأضطراب الأسعاروالتي تدفع فاتورتها البغيضة الطبقات الفقيرة والوسطى، كمثال لا للحصر سعر طبقة البيض اليوم الأربعاء 10\1\24لامس الثمانية آلاف دينار عراقي.

- البرلمان العراقي ومن بعدي الطوفان وغياب الرقابة البرلمانية والتشريعية.

المعالجة بوصفة بروستاريكا أصلاحية وطنية عراقية

 البحث في حيثيات مثل هذا الموضوع الدقيق والخطيرو الذي يلامس خبز المواطن وحريته ووجوده يجب على الباحث ان يركزعلى المعطيات السوسيولوجية ومآلاتها وتحدياتها ورهانات المستقبل لا ضير ولا ضررفي أستنساخ نماذج لمشاريع ناجحة بنقلة نوعية خدمية تلمس حياة المواطن في مآلات واعدة بالنماء والتغيير الحقيقي من دول أقليمية أو دولية، والتحرر من فايروس أسطورة تمجيد الفرد كما ظهرفي أنماط السياسة والأنثروبولوجيا الجمعية العراقية والعالم العربي .

المطلوب بديل حسب مقاسات العقلانية لا الغيبية، كما رفض أنماط الحياة المرتبطة بالرأسمالية البطريركية الذكورية ذات النزعة الأستهلاكية المتجهة إلى تدمير مسارات التنمية المحلية والدولية، ويجب حضور السيادة الوطنية على الأسواق المالية والنقدية، وأحياء وبث الروح في النقابات والمنظمات العمالية في وطننا العراق لكونها تمثل الضمانات الوحيدة لأعادة بناء عالم آخر أفضل متعدد الأقطاب مدني ديمقراطي بديلا وحيدا عن بربرية الرأسمالية الجشعة، نعم التماهي مع نماذج المشاريع الأقتصادية التنموية (الواعدة) بمستقبل أستراتيجي للشباب، وهي فرصة ثمينة للأطلاع على النهضة التنموية لدول عربية ناهضة بالواقع الأقتصادي للدولة بأستخدام منصات علمية حداثوية في توفير الأستدامة للموازنات المقبلة، وأضيف توسع الدولة في الأنفاق على المشاريع الأستراتيجية الكبيرة وأكتشاف المهارات والابتكارات للبحث عن البديل التقليدي بظل أستخدام الأستدامة المالية التي تدفع إلى التوازن بين الأنفاق والأيرادات حينها توفر للدولة (خمسة) روافد نقدية لدعم موجودات الغطاء النقدي في البنك المركزي العراقي، ومن هذه النماذج المشاريعية المستدامة " مشروع طريق التنمية " إنهُ رغبة دولية وأقليمية لآنجاز المشروع (أثني) بالعاجل للبدأ بالتنفيذ لكونه عامل ضغط لمكافحة الفساد وهدر المال العام وهو تدعيم للأستثماروالأستغناء التدريجي عن النفط كمصدر رئيسي لموازنة البلاد وبناء هيكلي للأقتصاد المستدام الغير نفطي ويبقى كمشروع ستراتيجي واعد للتغيير، وعندي هنا وهناك بعض الملاحظات ربما لها الأثر في الوصول إلى التغيير الشامل الأصلاح بمفهوم بروستاريكا عراقية وطتية:

-التوأمة بين مكافحة الأرهاب وهيئة النزاهة.

- أعادة تأهيل وأكمال مطار الموصل الدولي .

- نظام النزاهة الوطنية ضمان لتحقيق الحكم الرشيد.

- التقليل من أثر التصحرالجاثم على العراق الذي يستنزف خزين مياههُ الجوفية للسنة الخامسة وهناك ألفي قرية على الفرات الأوسط تعاني من مشكلة شحة الماء.

- مشكلة السكن يجب أن تكون من أولويات البرنامج الحكومي الحالي.

- الدفع الألكتروني يقلل من نسبة الفساد، البطاقات ستسهل الأمور اليومية.

- معالجة فك الأختناقات المرورية.

- أضطراب بوصلة الدينار العراقي في السوق الموازية بتأثرهِ أمام القوة الطفيلية للدولار الأمريكي.

وأخيراً وليس آخراً

لا ضير بالأستأناس بأفكاربعض أساطين الأقتصاد السياسي العالمي وصناع مشاريع الأصلاح البنيوي كتنظير للأستفادة من أفكارهم وتجاربهم في ماهية الدولة المدنية الديمقراطية منهم نماذج:

- كارل ماركس هو معلم الطبقة العاملة وصاحب شفرة (كود) التغيير: "بنضوج الوعي العام والأدراك " بحالته المأساوية الظلامية عند الجماهير المستلبة، طبعاً لأنفراط العقد الأشتراكي السوفييتي وأنفراد أحادية القطب العالمي بقيادة أمبراطورية الولايات المتحدة وكارتلات الشركات االعملاقة حركت أعلامها الموجه ولآن الأعلام بمفهومه الموضوعي كونهُ قوة خفية ناعمة مؤثرة وخصوصاً عندما يزحف بالتوجه الطفيلي في التغول وخلط الأوراق أوجدت كيان هلامي أسمتهُ (المواطن المستقر) أو المواطن المترف الذي تعرض طويلا إلى القمع والقهر الروحي أدى إلى نشوء المواطن المستقر "طوعيا " كما نرى اليوم في بعض دول الخليج، والشعب العراقي في ظل الحكم الصدامي ل 35عام، وسيكون عائقاً غثا وصعباً أمام التغيير ألأ خروج المواطن من داخل هذه الشرنقة المرعبة (دولابوسييه وكتابه العبودية الطوعية).

- الفقيد الدكتور فالح عبدالجبار فهويوضح مفهوم اللادولة هو شكل آخر موازي من أشكال التنظيم الأجتماعي غير مستند على تنظيم أجتماعي أو سلطات مستقلة، فهي دولة عميقة يستحوذ على سياساتها المال والسلاح السياسي، ففي نظر الدكتور عبدالجبار- عند ترجمة كتابه يسميها الدولة االغير رسمية تكون داخل الدولة وخارجها وأكتسبت أهمية سياسية وعسكرية دائمة من خلال قواعد شعبية لها، وبشكل أدق يسميها (الجماعات الهجينة) وإنها تعمل على بناء هياكل موازية للدولة مما يمنحها أستقلالية غير قانونية (كتاب اللادولة فالح عبدالجبار 2021)، وللأسف رحل المفكر الأكاديمي مبكرأ وترك غيابه كماً من الأسئلة والتوضيحات وهكذا الموت وأستحظرما قالهُ الأديب الفلسطيني غسان كنفاني عن الموت وهو ينعي نفسه: (وحدهم من يغلقون الأبواب دون أصدار ضجيج لحظة خروجهم لايعودون...).

- النزاهة الوطني ضمان لتحقيق الحكم الرشيد

يوم السبت 6كانون 2024 وصلتني دعوة - وأنا في بغداد الحبيبة - من منتدى بيتنا الثقافي في الأندلس حضور محاضرة عن نظام النزاهة الوطني ضمان لتحقيق الحكم الرشيد كانت محاضرة موضوعية واقعية بكم ثري من المعلومات الأقتصادية في موارد العراق الثرية الغير مستثمرة راقت لي المحاضرة وخصوصاً عند تبويبها المحاضر بتراتيبية ممنهجة تتماهى أكاديمياً بهذه المحاور:

1- النزاهة الوطني ضمان لتحقيق الحكم الرشيد

2- أجراءات وقائية تعزز الصناعة

3- سماع صوت الفئات المهمشة

أستاذ سعيد رشيد متخصص في مجال الحكم الرشيد وركزفي محاضرته الموضوعية على رافعة "النزاهة " متناولا الوضع العراقي بعد 2003 حتى اليوم مؤكداً: إنهُ لا توجد رؤية أقتصادية تنموية واضحة في العراق، فالمفروض أنما يصرف للتنمية اليوم يجب أن يجلب بعد سنوات أموال وخدمات ملموسة للمواطنين لكن شيئاً من ذلك لم يحصل بسبب الفساد الأداري والمالي، وأثني على ما طرحهُ المحاضر في مجالات تقويم الحكم الرشيد القائمة على النزاهة وبياض اليد والذات لهي كفيلة في وضع البلد على السكة الصحيجة أضافة لسن قوانين وقائية حديثة تواكب الرقمية الحداثوية.

****

كاتب وباحث وناقد أدب عراقي مغترب

في كانون ثاني \2024

 

غالبا"ما نقف عاجزين أمام لوثة غريبة ومحيّرة متوطنة داخل أوساط نخبنا الاجتماعية، ومتشبثة بتلابيب رموزنا الثقافية مؤداها؛ إخفاق أو عدم قدرة الفاعل الثقافي العراقي (المثقف) على الإفلات من قيود انتماءاته الأولية (الاثنية، القبلية، الطائفية، الجهوية)، وفشله في إظهار قدرته على التخلص من رواسب تأثيراتها الذهنية والنفسية سواء على صعيد مدركاته / تصوراته أو سلوكياته / علاقاته . هذا على الرغم من كل المحاولات التي يبذلها البعض منهم لتخطي تأثيراتها السوسيولوجية، والتغلب على إيحاءاتها السيكولوجية، والحد من أطيافها المخيالية . من منطلق كونه عنصر (فاعل) محسوب على ما يسمى بجماعات (النخبة) التي من المفترض ألاّ يليق بوعيها ولا يناسب أخلاقياتها استمرار التمسك بتلك التأثيرات والإيحاءات والأطياف، بزعم حسبانها مواريث يستوجب حمايتها من عوامل الاندثار ورعايتها من تجاسر المتطفلين . ناهيك عن العناد في الذود عنها والمحافظة عليها بكل تلك الحمية العصبية التي تصل في بعض الأحيان لحدّ الهوس، لاسيما وانه دائم المطالبة بان يكون رمزا"للمعرفة وعنوانا"للتنوير ومرتكزا"للحداثة .

وإذا ما تواضعنا على حقيقة سوسيولوجية تكاد تكون شائعة بين الناس ومألوفة لديهم مفادها؛ انه من الصعوبة بمكان العثور على فرد ما من أفراد مجتمعات المعمورة يكون خالي الوفاض من رواسب الماضي وشوائب التاريخ - بصرف النظر طبعا"عن مستوى تطور تلك المجتمعات في مدارج الحضارة - فان محاولة البحث في خوانق التاريخ وشرانق المجتمع التي يستبطنها وعي المثقف العراقي وتجتافها سيكولوجيته، ستبدو كما لو أنها بلا معنى أو دون جدوى طالما ان جميع البشر سواء في هذه الظاهرة . على اعتبار انه يتعذر وجود مجتمع بلا سرديات تؤسس لبدايات صيرورة هذا التكوين البشري أو ذاك، مثلما نحتفظ بأرشيفات تاريخه ومواريث أجياله ومخلفات حضارته .

والحال انه وان صحّ قولنا ان الغالبية العظمى من الناس يحتفظون في مخزون ذاكرتهم أو مخيالهم بشيء من مخلفات أصولهم السوسيولوجية، ومواريث منابتهم الانثروبولوجية، وترسبات مرجعياتهم الخرافية والأسطورية، بيد أن ذلك لا يشكل – بالنسبة لهم – عائق يحول دونهم والتطلع الى الأمام والتنطع صوب المستقبل، تجاوبا"مع سيرورات التغير واستجابة لديناميات التطور . لا بل ان بعض الشعوب استخدمت تلك الأرشيفات والسرديات التاريخية – بعد أن رممت بنائها ماديا"وشحنت مضامينها رمزيا"، ومن ثم وظفتها إيديولوجيا"واستثمرتها سياسيا"لاعتبارات جيوبولتيكية وجيواستراتيجية . ولكن، بالمقابل، هناك مجتمعات أخرى اختزنت بعادا"تاريخيا"موغل في القدم وامتلكت رصيدا" حضاريا"سباقا"في العراقة، إلاّ أنها - برغم ذلك - فشلت فشلا"ذريعا"في استثمار هذه المزايا التاريخية والحضارية التي طالما تاقت إليها بعض الشعوب وتحسّرت عليها بعض الأمم دون طائل .

ولعل من أشد المعاضل الوجودية فتكا"لبنية الوعي الاجتماعي وأكثرها ضررا"على مضامينها التصورية والاعتقادية، هي تلك المرتبطة ب(خوانق) التاريخ و(شرانق) المجتمع التي غالبا"ما يفشل الفاعل الثقافي في المجتمعات التي لا تبرح تتغذى مكوناتها على قيم  ماضيها البدائي، في التخلص من تأثيرها أو الحد من آثارها حتى ولو قطع البعض منهم شوطا"كبيرا"في مضمار التحصيل العلمي والتأهيل المعرفي . إذ تبدو – بالنسبة لهم - مسألة الإفلات من قبضتها والتملص من قيودها صعبة عقليا"ومكلفة سيكولوجيا"، وذلك جراء تعرضهم المستمر وخضوعهم المتواصل لعميلات (التنميط) الذهني والنفسي والقيمي والرمزي، عبر سيرورات المجايلة الاجتماعية والثقافية التي عادة ما تكون فاعلة وناشطة في هكذا نمط من المجتمعات (الأبوية) . ناهيك عن انخراطهم ضمن ديناميات (الاجتياف) و(التدجين) التي تفرضها عليهم وتمارسها ضدهم مؤسسات عديدة ومتنوعة وظيفتها تحقيق (الضبط) العقلي والنفسي والأخلاقي للأفراد والجماعات؛ ابتداء"من (الأسرة) سوسيولوجيا"، ومرورا"ب(المدرسة) بيداغوجيا"، وانتهاء" ب(الدولة) إيديولوجيا"

وعلى العكس مما كان متوقعا"أو مرجوا"، فان (خوانق) التاريخ قد ازدادت ضيقا"، و(شرانق) المجتمع قد تضاعفت سمكا"، مع فترة انتشار الإيديولوجيات الرديكالية وتصاعد ضجيجها (اليميني) و(اليساري)، إضافة الى اعتلاء أحزابها السياسية عرش السلطة والإمساك بأعنة النظام . حيث بات التاريخ حقل مستباح للمزايدة والمفاضلة باللجوء الى عمليات (الاختلاق) و(التلفيق) من جهة، وأضحى المجتمع مضمار منافسة ضارية لتسويغ ادعاءات (الأحقية) الوطنية و(الشرعية) السياسية بين مؤدي ومعارضي مختلف الإيديولوجيات المتصارعة من جهة أخرى . وهو ما أفضى الى انتكاس وارتكاس وعي (نخب) استمرأت الانخراط في عمليات (تأدلج) واسعة النطاق، بين خوانق سرديات تاريخية لا تني تتوغل في مجاهل الأسطرة والأمثلة من جهة، وبين شرانق أصوليات اجتماعية لا تفتأ تمعن في تأجيج مشاعر التعصب والتطرف من جهة أخرى .

***

ثامر عباس

 

لعبت الصحافة الثقافية، على امتداد تاريخها، دوراً محورياً في دعم المبدعين وإتاحة الفرصة لتقييم أعمالهم ونشرها ورفد المشهد الإبداعي بعديد من المبدعين الجدد، لا سيما البعيدين عن أضواء العاصمة إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً كبيراً في هذا الدور، وعلى الرغم من أن الصحافة الثقافية لم تختفِ من المشهد، لكن حضورها أضحى هُلامياً في المشهد الإبداعي.. الصحافة الثقافية تعيش أزمة حقيقية وتعاني من تراجع ملحوظ واختلال في المستوى الذي ظهر في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، كما يقول مختصون، بوقوع الصحافة الثقافية في إطار الأزمات الفرعية وتصفية الحسابات.

الصحافة الثقافية باتت في احيان كثيرة تفتقر إلى التركيز على الحياة الثقافية ومجتمع المثقفين، وتصب تركيزها على العلاقات بين المؤسسات الثقافية، وتبحث عن الفضائح داخل الأروقة الثقافية والأزمات التي تتصاعد داخل المجالس الثقافية، متناسية الإبداع الأدبي والثقافي الذي يجب أن يطيح بتلك الأزمات.

وللآسف نجد محرر صحافي أومسؤول صفحة ثقافية، لا صلة له أصلًا بالثقافة، هذا في الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون الصحافة جزءا من الثقافة وتدعمها وتغذيها، إذ لا يمكن اعتبار الصحافة كياناً بعيداً عن الثقافة ، ويجب رفع مستوى هذا التخصص كما كان من قبل، من توسيع إطار المفهوم الثقافي والاهتمام بالقراءة والشعر والأدب، وتغطية المجتمع الإبداعي من مثقفين وكتاب وقراء وظواهر أدبية، والخروج من عباءة تغطية أزمات الثقافة والمؤسسات الثقافية، فضلا عن تكوين كوادر إبداعية حقيقية داخل المؤسسات الصحافية.

الصحافة الثقافية يوصفها كثيرون بالمهمشة، سواء على صعيد الصحف والمجلات القائمة أو ضمن الصفحات الثقافية في صحيفة أو مجلة ما. والمؤسف فعلياً أن هذه الصفحات من السهل حاليا التخلي عنها وحذفها، فقط بسبب وجود إعلان أو مادة سياسية أو اقتصادية أو... يراد أن يتوسع بها، هذا يعكس النظرة المتدنية للثقافة بشكل عام والصحافة الثقافية بشكل خاص، وهو ما يهدد المشهد الثقافي لعدم وجود نقاد ومتابعين للمشهد الإبداعي ومتغيراته، كما أن هذا الأمر ينعكس على القارئ وطبيعة متابعته للحياة الثقافية، وهنا تنبع ضرورة ربط الصحافة الثقافية بنطاق التغطية الجيدة والتعامل معها على أنها جزء لا يتجزأ من التغطية الصحافية العامة، مع ضرورة تخصيص مساحة أكبر من التغطية والتعامل مع صحافيي الحقل الثقافي بقدر من الاهتمام والجدية، وكذا الحث على الارتباط بها أكثر، حيث إن الثقافة إحدى وسائل بناء الفكر والعقل.

الصحافة وسيط بين المؤسسات والقطاعات والمتلقين، لذا لا بد أن تكون على قدر المتغيرات والتطورات في جميع الساحات، ومنها الساحة الثقافية التي تهمشها غالبية المؤسسات الصحافية، وهذا ما يفسر تراجع المتابعة للحياة الثقافية بصورة أو بأخرى. وفي رأيي، لا بد من زيادة الوعي بأهمية هذا النوع من الصحافة المتخصصة، لأن الثقافة تمثل الوجه الآخر للمجتمع، الصحافة الثقافية تعاني من أزمات متعددة، بدءاً من المحاباة والمجاملات ووصولاً إلى التغاضي عن تغطية الأنشطة الثقافية المتنوعة، ولا سيما الشعر الذي يعاني من تراجع سواء للمتابعة أو التغطية.. إضافة إلى تركيز الاهتمام على العاصمة، وتجاهل الأقاليم التي تزخر بمبدعين يعانون من التجاهل والنسيان.

لا يقتصر دور الصحافة الثقافية، على الترويج أو التغطية للساحة الأدبية، بل من شأنها أن تعمل على رفع مستوى الوعي المجتمعي بالأدب عن طريق النقد الأدبي، الذي يشهد بدوره تواريا كبيرا في العقود الأخيرة، لاسيما مع فقد العلاقة بين الكاتب والقارئ لعدم تركيز الأخير على الأدب، أو العزوف عن القراءة بصفة عامة، خاصة مع الزيادة الرهيبة في أسعار الكتب وفي الوقت نفسه تدني الحالة الاقتصادية للمواطنين، الصحافة الثقافية ينبغي أن تستعيد مكانتها بدعم وتغطية جميع أشكال الفنون الأدبية من القصة القصيرة والرواية والشعر ومناقشة الظواهر الأدبية وتحليل المتغيرات التي تطرأ على المشهد الإبداعي بموضوعية، معتبرا أن التجاهل الحادث حاليا يبعث على إحباط الكُتاب والمبدعين.. كذلك القراءالمؤسسات الثقافية والدولة بصفة عامة، لا تهتم بالأنشطة الثقافية ولا تعطي لها مساحة وجود كافية أو حتى مخصصات مالية تحرك المياه الراكدة في مسيرة الإبداع فضلا عن الحاجة المجتمعية العامة بأهمية أن تعي الدولة قيمة دور المثقف وضرورة دعمه ودعم موقفه، بعيدا عن التهميش وتثبيط المواهب، من دون وعي أو وجه حق.

***

نهاد الحديثي

ظلّ الجدل محتدمًا بين تيارين، كلاهما يزعم امتلاكه للحقيقة ويدّعي الأفضلية، بل يتعصّب لفكرته لدرجة يتم فيها "شيطنة الآخر"، التيار الأول - يطلق على نفسه اسم "الإسلامي"، وإن كان يمثل طيفًا واسعًا غير متجانس من الذين يندرجون تحت هذا العنوان؛ أما التيار الثاني - فيصف نفسه ﺑ "العلماني"، حتى وإن كانت مرجعياته الفكرية مختلفة، بل ومتناقضة.

يرى بعض الإسلاميين، وبشكل خاص الإسلامويين، أن العلمانية مصطلح غربي، وهي بالأساس وجدت لحل مشكلة في الغرب، حتى وإن كانت نتائجها إيجابية في سياق تاريخي، بفصل الكنيسة عن الدولة، إلّا أنه لا يمكن تطبيقها على مجتمعاتنا، لأن الأرضية مختلفة تمامًا، والإسلام "دين ودولة".

ومثل هذه المبررات تلقى هوىً كبيرًا لدى جمهور واسع، حيث يتم تصوير العلمانية بأنها فكرة مستوردة، أي أنها لا تمتّ إلى عالمنا الإسلامي بصلة، وهدفها التغريب وقبول الاستعمار الثقافي، خصوصًا حين يتم ربطها بالإسفاف وإشاعة الرذيلة والانحلال الأخلاقي والفساد القيمي، بل إنها ملازمة للكفر، وذلك في إطار الدعاية السياسية والمنافسة المجتمعية ضدّ العلمانية.

 لكن ثمة آراء إسلامية منفتحة، تلك التي تعتقد أن لا وجود لمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، كما يذهب إلى ذلك محمد عمارة، ويدعو السيد محمد حسين فضل الله إلى "دولة الإنسان"، وبهذا المعنى يقدم الإسلام شؤون المجتمع وسياسة الدولة وأمور الدنيا في الحياة، و هو ما فعله النبي محمد (ص) حين اضطر الهجرة إلى المدينة المنورة، فوضع دستورًا هو نواة أولى لدولة مدنية تحترم الأديان، بعد أن كان في مكة مبشرًا .

أمّا العلمانيون فإنهم أيضًا يحاولون "شيطنة" التيارات الإسلامية، ولا يفرقون أحيانًا بين الإسلاميين والإسلامويين، بل ويعتبر بعضهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن كل ما يمتّ إلى الدين بصلة هو متخلّف ورجعي، حتى وإن قصدوا بذلك بعض الطقوس والشعائر، التي تمارس باسمه، وتمثل درجة تطور الوعي الديني والمجتمعي في حقبة زمنية معينة، وهذه قد لا يكون لها علاقة بالدين، وإنما تندرج في خانة التديّن، وهكذا يتم الخلط بين الدين والتديّن، فتكال الاتهامات تحت هذه المسوّغات، في حين أن الدين منظومة قيم إنسانية وأخلاقية، تدعو إلى السلام والتسامح والعدالة والمساواة والشراكة والإخاء.

وقد حاول بعض العلمانيين الابتعاد عن المفهوم المبالغ فيه للعلمانية المغالية، "العلمانوية"، فتبنوا مفهوم "الدولة المدنية"، وهي حسب بعض تفسيراتها، تقف على مسافة واحدة من جميع المجموعات الثقافية الدينية والقومية واللغوية والسلالية، وتحمي جميع أفراد المجتمع. وقد يكون من المفيد استخدام مصطلح "الدولة القانونية" التي تقوم على المشروعية القانونية، بمعنى حكم القانون، وتتجسّد شرعيتها السياسية برضا الناس وتقديم المنجز لهم، فللدين حقله الروحاني والعقائدي والإرشادي، أما السياسة فهي ميدان للمصالح، وحتى لو اجتمعت العقيدة مع المصلحة، فلا بدّ من تكييفهما مع الواقع المتطوّر باعتباره هو الأساس والمتغيّر.

وإذا كان بعض الإسلاميين، والإسلامويين بشكل خاص، يميلون إلى "أدلجة" الدين وتسيسه بالضدّ من تعاليمه، بتبرير أعمال العنف والإرهاب، وهو ما قامت به تنظيمات القاعدة وداعش وأخواتهما، بحيث فقد طابعه الروحاني والأخلاقي والإنساني، فإن بعض العلمانيين يتنكرون للدين ودوره، كمرجعية للمجتمع. ويذهب محمد أركون إلى نقد العلمانية، التي كانت في بدايات عصر التنوير طاقة تحرريّة، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى نوع من التسلط والهيمنة، كما هي العلمانية في ألمانيا النازية وفي الكتلة الاشتراكية وبعض نسخها العالمثالثية.

هكذا تفسخت العلمانية، خصوصًا عند استعمار أمم وشعوب، ونهب ثرواتها وخيراتها، بزعم تمدينها، إضافةً إلى دعم أنظمة استبدادية متخلّفة مفروضة عليها بفعل النظرة المركزية الأوروبية، التي ما تزال مهيمنة في النظر إلى شعوب البلدان النامية، وذلك لضمان مصالح الغرب، وخير مثال على ذلك، الموقف من حرب الإبادة على غزّة، حيث أصبح العقل دغمائيًا وذرائعيًا ومصلحيًا، وأصبحت العلمانوية دينًا جديدًا، لا يقل دغمائيةً عن دغمائية الإسلامويين أو المتأدينين، خصوصًا برفض التعددية أو العجز عن استيعابها، فضلًا عن احترام حقوق الإنسان وحريّاته الأساسية، ولاسيّما حقه في الحياة والعيش بسلام وتقرير مصيره بنفسه.

وإذا كان هناك علمانيون يميلون إلى قبول المرجعية الإسلامية للدولة المدنية، فإن بعض الإسلاميين أخذ بمصطلح العلمانية المؤمنة، أي غير الإلحادية ذات المرجعية الإسلامية، وهؤلاء ينفتحون على التيارات العلمانية، ولا يجدون ضيرًا في ذلك، في إطار مصالحة تاريخية ومبادرة شجاعة لجعل الدولة مدنية بامتياز، مع كون الإسلام مرجعيتها الحضارية بكلّ ما يحمل من معان إنسانية وأخلاقية سامية.

***

د. عبد الحسين شعبان

موازاة مع استحضاري في هذا المقام كل مقالاتي السابقة في شأن الخصوصية الثقافية والسياسية المغربية مقارنة مع باقي الدول المغاربية ودول المشرق العربي، يبقى من الواجب أن نسائل أنفسنا، أفرادا وجماعات ومؤسسات، جميعا عن الأمد الممكن مغربيا لبناء الصرح الوطني المتراص للحسم النهائي في منطق التنشئة المنتجة للإنسان الكامل.

الوضع المغربي شبيه إلى حد ما بأوضاع ألمانيا زمن ماركس الإيديولوجيا الألمانية وليس مؤلف الرأسمالية. عاش هذا البلد حالة تأخر مادي مرحلي مذلة مقارنة بالتطورات والتحولات الكبرى التي أحدثتها النهضة الأوروبية خاصة بفرنسا وبريطانيا. فإذا كان الفلاسفة (كارل ماركس ونيتشه أساسا) وراء دفع ألمانيا للبحث الموضوعي على أسباب تأخرها والشروع في بناء صرح دولة ومجتمع جديدين يستدرك الواقع المتخلف الذي كبس على أنفاس الألمانيين، فإن لنا كمغاربة كنز فكري، عايشناه ولا زلنا ننقب بكل ما لدينا من قوة لسبر أغوار أعماقه، مؤمنين كامل الإيمان كونه يشكل مشروعا للنهضة المغربية. إنه مشروع الدكتور عبد الله العروي المستحضر لأفكار ابن خلدون وابن رشد ومحيي الدين بن العربي وغيرهم والمستند على الماركسية الموضوعية التاريخانية، وما تراكم من قبلها ومن بعدها من نظريات فلسفية غربية. بفعل أهمية تراكماته المعرفية، تنبأ المفكر المغربي مبكرا بفشل الإيديولوجيا العربية المعاصرة (برامج كل من محمد عبده ولطفي السيد وسلامة موسى والأرضية السياسية للوحدة المصرية-السورية...)، وعبد طريقا خاصا به متحديا الصعاب والمنعرجات الخطيرة التي كادت أن تتسبب في تعميق هدر المورد الزمني في وطنه كوعاء متحمل لمراحل برامج التحديث الضرورية في المجالات الثقافية والاقتصادية العلمية والسياسية.

الخصوصية الوطنية والفكرية المغربية جعلت المرحوم الحسن الثاني يصرح مبكرا وبشكل علني ورسمي بتشابه أوضاع المملكة ببنيتها الترابية بأوضاع ألمانيا الفيدرالية (تشابه تاريخي). هذا الوعي المتقدم على زمانه بهذه الحقيقة هي التي جعلت مغرب العهد الجديد يراكم المنجزات بسرعة قياسية رافعا بذلك من القيمة التاريخية لثورة الملك والشعب. لقد تجاوز المغرب بآليات مؤسساتية عصرية اعتماده الحصري على المثقفين التقليديين ومنطق نقلهم لثقافاتهم المتواترة المرتبطة بمهنهم من جيل لجيل (كالمعلمين ورجال الدين ...). لقد أصبح تأثير المثقفين العضويين التنويريين واقعا مغذيا للسياسات العمومية. إنهم صنف الفاعلين الجدد المؤثرين بفكرهم المنظم على طبقاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم الوظيفية والمهنية. لقد عبروا عن نوع من الحكمة والأمل في مساعيهم لتحقيق تطلعات الطبقات الاجتماعية المتوسطة. لقد أبانوا عن قدرات اجتهادية وازنة في بحثهم المتواصل لابتكار غايات جديدة ترتقي من خلالها الثقافة والأخلاق في المجتمع المغربي مستهدفين تشخيص الوقائع التاريخية الموضوعية في الماضي والحاضر، ومن تم استنباط الدروس والعبر العقلانية التي تخدم المستقبل. أكثر من ذلك، جند العهد الجديد رجال الدولة في كل المجالات لسبر أعماق المنتوجات الفكرية للمثقفين الكبار ذوي المشاريع الفكرية المتكاملة التي تقدم برامج عامة لتحديث العقل المغربي على أسس موضوعية وقابلة للتفعيل (حتمية ترسيخ الحداثة بالمغرب مسألة وقت فقط). هكذا، بفعل التراكمات الواقعية الملموسة، ارتقت نظرة المغاربة إلى مستقبلهم، بحيث أصبحوا مقتنعين بفساد أطروحات المثقف السلفي والمثقف الانتقائي والليبرالي الانتهازي والتقني الذي لا يستجيب لمتطلبات الحكمة والتبصر. كما يمكن القول بثقة عالية أن الدولة المغربية أصبحت في مستوى السعي لخلق الظروف المساعدة لتمكين المثقف الثوري من الظهور للوجود ومساعدته للقيام بما ينتظر منه. إنه وضع جديد مشجع لهذه الفئة الريادية من المثقفين. في نفس الوقت، وتيرة تطور الأوضاع يسرت مشاركتهم الوازنة والمؤثرة في العلاقات الخارجية التي تقيمها الدولة، بحيث توسعت هوامش تفاعلاتهم مع التطورات العالمية بالشكل الذي يمكنهم اليوم من تجديد ثوريتهم الوطنية عبر الاحتكاك بالآخر.

في هذا السياق، للتعبير كون المغرب قد انتقل من مرحلة إلى أخرى في مسار مشروعه الديمقراطي الحداثي، نشرت على حائط حسابي الرسمي على الفايسبوك يوم 13 يناير 2024 تدوينة تحت عنوان "عتاب وجود.." بمضمون أبرزت من خلاله الحاجة الملحة لتحويل النسق التنشئوي المغربي إلى آلية حديثة وناجعة لتخفيف ضغوط الماضي، والاستجابة لتطلعات جيل الخمسينات والستينات والسبعينات، ومن تم ربط الثقافة المغربية المعاصرة عند أجيال الحاضر والمستقبل بالتطورات الكونية وبتراكم ابداعاتها الإنتاجية والاستفادة من صلابة جسور التواصل بين العلم والفلسفة. لقد تعمدت القول: "لم تسعفنا الحياة لنكون من المساهمين في ابتكار النظريات والكشوفات العلمية وتطوير الانتاج المادي النافع لحياة المغاربة والافارقة والبشرية كونيا (إنه واقع المنظومة التعليمية المنتجة للفئات العريضة من الشعب المغربي) ... لم تسعفنا كذلك في إغناء النظريات والتجارب العلمية للحسم في القضايا الجديدة والتقرب من الحقائق المطلقة ... لم تتح لنا الفرصة لنبدع في الغوص تفكيرا في المجهول الغابر عن منجزات العلم ... لم نتفلسف بما يكفي .... انبهرنا لقضايا غير عادية، فكرنا فيها، وطرحنا الأسئلة في شأنها، لكننا اضطررنا لمعرفة النتائج من الآخر لضعف إمكانيات مؤسساتنا التعليمية والبحثية..... لكننا نتضرع ملتمسين من صانع منطق وجودنا ألا يصنفنا من القطيع عديم الفائدة ..... نطلب من الله الرحمة والمغفرة...".

إنها متاهات الماضي المضنية وإكراهات رفع تحديات الحاضر لخدمة المستقبل. لم تتح لعامة الشباب المغربي فرص التفكير في مفهوم "الإنسان الأعلى" للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه المتشابه مع مفهوم "الإنسان الكامل" للشيخ محيي الدين بن عربي. هذا الأخير، اعتبر أن الوجود المحقق هو الله عز وجل، مطلق النعوت التي لا توصف (القدرة والعلم والحرية والإرادة...)، الشيء الذي جعله ينتصر لفكرة كون الوجود الإنساني وجود بالظل (ليس حقيقيا). الصفات الحسنى بالنسبة له ليست محدودة ولا نهائية ولا تكمن في ذات الله ولا يتصف بها إلا من خلال اتصاله بالخلق. الواحد بالنسبة لابن عربي لا ينتسب له التعدد والكثرة.

على أساس هذا الاعتبار، اجتهد ابن عربي في تحديد ماهية "الإنسان الكامل". إنه المخلوق الذي يجب أن يكون دائم السعي لتحقيق الأسماء الحسنى فيه وعلى وجه الأرض (القدرة، والعدل، والرحمة، والعلم، والحق، والحكمة، ....)، وأن يسموا عن غرائزه طامحا ملامسة الأعلى الحقيقي. الحسنة التي نالها هذا الشيخ، الذي يعتبر من رواد التصوف، تتجلى في رفضه للواقع وكونه عاكس معتقدات عصره والإيديولوجيا الدينية الاستغلالية. المتصوف هو الذي لا يطفئ نورُ معرفته نورَ ورعه. لقد كان ابن عربي موسوع المعرفة التي امتدت إلى الشعر والأدب. ولادته في مرسية سنة 1165م، وحياته بالأندلس كان لهما وقع كبير على عقلانية مواقفه الدينية. يُعرف لدى المتصوفين باسم (الشيخ الأكبر)، أما في الشرق الأوسط، فُعرف باسم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.

نفس العلاقة بين الخالق والمخلوق تناولها الفيلسوف فريديريك نيتشه بمنطلقات مختلفة. لقد اعتبر الإنسانية حبلا مشدودا بين الحيوان والإنسان المتفوق، داعيا إلى خلق إنسان جديد لا يكل ولا يمل في تقليد الله بهدف ارتقاء حقيقة التقرب إليه. أمام سلطة الظلم والاستغلال التي مارسها رجال الدين في ألمانيا، وما أشاعوه من معتقدات واهية، لم يجد نيتشه من سبيل لإثارة انتباه الجمهور سوى الدفع بتأليه الإنسان. من أشهر أقواله "الإله قد مات" (ولم يقل الله)، قتلناه بسبب ما راج دنيويا باسمه معلنا بذلك موت القيم والعادات السائدة المعاكسة للحرية والإبداع. غير مبال بالعواقب، تجرأ فريديريك على مواجهة رواد الدوجماطيقية وإيديولوجيتها الوثوقية، القطعية، التوكيدية، الإيقانية.

بالنسبة لهذا الفيلسوف الألماني، الإنسان، المسؤول دنيويا على مصيره وسيد نفسه، مطالب بشرعنة ذاته ساعيا إلى تأليهها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وبذلك تكون المساواة في الرزق خرافة. بسبب شدة تذمره من المعتقدات السائدة، اعتبر الإنسان القوي، المقابل للإنسان العبد، لا يضيع الفرص باحثا عن الزعامة والقيادة. بكتابه "هكذا تكلم زراديشت"، الشخصية الدينية التي عاشت بإيران الحالية، ركز نيتشه على مسار هذا الشيخ وتمكنه من تأسيس أقدم ديانة قبل ظهور الكتاب اليهودي المسمى "التناخ" (توراة – نفيئيم – كتوفيم/ ختوفيم). سيرا على نفس المنهج لهدم المعتقدات الواهية، عرف نيتشه الإنسان المتفوق كونه إله نفسه، يخلق كل القيم والمبادئ بنفسه ولنفسه، ويجدد قدرته على التحكم في مصيره بشكل مستمر مبدعا في تنويع وتوسيع معاني العدالة والحب والصدق والعلم من أجل تراكم المنافع المادية وخدمة الصالح العام (على كل إنسان أن يساهم في صناعة حقائق عصره، والحقائق تتغير بتغير العصور).

وفي الختام، نستحضر فقرة معبرة للغاية من كتاب "بين الفلسفة والتاريخ" للدكتور عبد الله العروي: "لم أفهم شيئا من نيتشه لأنني قرأته مبكرا جدا، ولكن على الخصوص لأنني كنت ضحية منظومة تربوية سيئة التصميم، غير ملائمة، وفي حاجة أن يعاد فيها النظر رأسا على عقب" (المدارس الثانوية الفرنسية-الإسلامية). إنه الاستحضار الذي قادني للعودة إلى نص كارل ياسبرز كمحفز معرفي للتقدم في مسار ترسيخ مقومات الإنسان الكامل مغربيا بتقوية ميولاته للتفلسف بأدواته المعروفة: الدهشة باعتبارها الأصل والشك الذي يثور على المعرفة ويدفع إلى بلوغ اليقين وسؤال الوعي بالذات التي يوصلنا إلى حقيقة الأشياء".

***

الحسين بوخرطة

مهندس احصائي-اقتصادي ومهيئ معماري

تبنى أغلب العلاقات على أسس معينة فعندما نسمع بالعلاقات الإجتماعية سيتبادر إلى اذهاننا العلاقات الطيبة فالإنسان بطبيعة الحال كائن اجتماعي يحب التواصل مع الآخرين ومشاركتهم أفكاره وآراءه وكذلك أفراحه وأحزانه، ومن الطبيعي أن تكون العلاقات متينة ومبنية على أساس الصدق والأمانة في التعامل فكل طرف في هذه العلاقات يكون مهتم بجعل صاحبه أو شريكه أو تحت أي مسمى يُعنى بالعلاقات الإجتماعية سعيداً ويتمنى له الخير بعيداً عن الحقد والمصلحة الذاتية والعلاقات المؤذية، ويمكن أن نتطرق هنا إلى أنواع العلاقات في كل المجتمعات من العالم فهناك أكثر من نوع فمنها العلاقات العائلة وهي ليست من اختيارنا وانما هي موجودة قبل ولادتنا ووهناك علاقات العمل وهي علاقة زملاء العمل مع بعضهم وعلاقة رئيس العمل والمرؤوسين، وعلاقات الصداقة وهي اسمى العلاقات والتي تكون على اساس الحب الحقيقي بين الاطراف وحب الخير والتعاون فيما بينهم وهي التي تجعل من الحياة مكانا افضل للعيش وتجعلنا سعداء، وهناك علاقات تبادل المصالح وهي مشروعة كون كل طرف يستفاد من الاخرى بطريقة أو بأخرى وليس فيها غش او تلاعب فيما بينهم وانما الصدق اساس هذه العلاقات  ولا ضرر ان تكون هذه العلاقات على اساس المصلحة من قبل الطرفين فالكل بكل الاحوال مستفيد منها، وبقي ان نذكر العلاقات السامة والتي هي محور حديثنا لهذا اليوم كونها من العلاقات التي انتشرت بشكلٍ واسع في جميع المجتمعات وهذه العلاقات مبنية على اسس شريرة فبدلا من أن تعطي الامان والثقة بالنفس تكون مصدرا للضعف والزعزعة والشعور المستمر بعدم الامان فهي علاقات سلبية ومؤذية تؤثر على الصحة النفسية والعقلية، لكن كيف نعرف اننا في وسط علاقة سامة وسلبية والاجابة على هذا التساؤل تكون بصورة دقيقة وذلك عندما يكون الشخص في موضع يعطي فيه اكثر مما يأخذ وتستغل بطريقة بشعة فقد تكون العلاقة على اساس المصلحة الذاتية كأن يلجأ اليك احدهم في أوقاته العصيبة لكن عندما تحتاجه لا يكون إلى جانبك ويحاول التسويف وخاصة إذا تكرر الحال ! . ولمعرفة أنك في علاقة سلبية أو ما تسمى في الوقت الحاضر التوكـسك مع من حولك فيمكن توضيح بعض النقاط التي تم البحث فيها وجمع آراء كثيرة حولها ومنها:

1- تشعر بعدم الراحة أثناء وجودك مع الطرف الآخر .

2- الشعور بالتهديد والخطر من المواجهة أثناء الحديث مع المقابل .

3 - الشعور بالاستغلال وعدم إحترام الطرف الآخر لك .

4- الشعور بقلة الثقة بالنفس أثناء الحديث معه، وقلة الدعم من قبله .

5- يأخذ طاقتك الإيجابية كونه ينشر سلبيته عليك فكل كلامه شكوى ويتحدث عن نفسه بطلاقة وعندما تحاول إبداء رأيك والتكلم عن مشكلة من مشاكلك يغلق باب الحوار وينهي المحادثة معك .

وبكل تأكيد هناك المزيد وحسب الموقف، وهنا يتوجب على الأشخاص الذين يعيشون بمثل هكذا علاقات أن يبدأوا بالتفكير بالانسحاب من تلك العلاقات التي تعد هدر للصحة النفسية والجسدية ويتم ذلك عن طريق أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه بالدرجة الأولى بالابتعاد عمّا يضره، طلب العون من العائلة والمقربين للتخلص من هكذا علاقات من خلال النقاش والمشورة لإيجاد الحلول اللازمة، يمكن الاستعانة أيضاً بكتب التنمية البشرية التي تهيء النفس لمواجهة مثل هكذا مواقف. وفي ختام هذه المقالة يمكن القول أن الإنسان قد يُخدع في بعض العلاقات لكن عليه أن يتعلم من التجارب التي عاشها والاستفادة منها ليتخطى مثل تلك العلاقات غير المرغوبة والضارة أبعدنا الله وإياكم عنها.

***

سراب سعدي

 

كيف يجب أن ننظر إلى ماركس اليوم؟ هل نعتبره مفكراً للاإنسانية كلها وليس لقسم منها فقط؟ لا شك في ذلك . كفيلسوف وكمحلل اقتصادي وكأب مؤسس لعلم الاجتماع الحديث ودليل لفهم التاريخ الإنساني؟ .بلى، لكن الميزة المهمة هي الشمولية العالمية لفكره . لقد فكر الفلاسفة قبله بالإنسان ككل لكنه كان الأول الذي فهم العالم ككل من الناحية السياسية والاقتصادية والعلمية والفلسفية في آن واحد .

***

قبل اعوام استعانت به احدى الصحف البريطانية التي تنتمي الى اليمين المحافظ أن يكتب لها مقالا عسى ان تتمكن من استعادة اهتمام القراء بها، بعد ان شهدت تراجعا كبيرا في التوزيع، وعدم اكتراث رواد السوشيال ميديا بموقعها الالكتروني، فقرر اليساري المتشدد "سلافوي جيجك " ان يخوض التجربة، وأن يفاجأ جمهور الصحيفة بمقال عن كارل ماركس، وقد حدثت المفاجاة حيث نَّفذ عدد المجلة من المكتبات، وكادت عمليات البحث عن المقال في الانترنيت أن تسبب مشكلة فنية لموقع المجلة الالكتروني، وعندما تعرضت هيئة تحرير المجلة الى توبيخ من بعض قادة اليمين المحافظ، كان جواب رئيس التحرير،  لا مفكر في العصر الحديث يمتلك القدرة على جذب القراء مثل السلوفيني صاحب الشعر المنكوش والصور المثيرة للاستغراب والكتابات التي  تحاول استعادة كارل ماركس .

كان سلافوي جيجك قد كتب في الذكرى الـ " 200 " لميلاد ماركس من ان صاحب "رأس المال " كثيرا ما كان على حق، فماركس كما يقول جيجك هو:" الشبح الذي يظل يطاردنا، والطريقة الوحيدة لإبقائه حيا هو التركيز على تلك الرؤى التي تصير الآن أكثر واقعية من زمنه نفسه " .

في كتابه " ان تكون ماركسيا في الفلسفة " – ترجمه الى العربية الياس شاكر – يرى لوي ألتوسير أن الهوس بهيغل في حقبة ما بعد الحرب العالمية الاولى كان محاولة لمحاربة ماركس. ويذهب ألتوسير بعيدا حين يقول  أن " ماركس ترك هيغل وراءه في لحظة محددة من تطوره ومن ثم صاغ مفاهيمه ومناهجه الاصيلة "

ما من كاتب حظي بقراء اكثر من ماركس، وما من فيلسوف بعث من الآمال في نفوس الناس اكثر منه، ولم يثر صاحب نظرية من الحوار والتعليقات والشروحات اكثر منه .. وما من مفكر احدث تاثيرا مماثلا لما احدثه ماركس في القرن العشرين، وما ان يطرح اسمه حتى يثار سؤال مهم: هل انتهى عصر ماركس بغياب الاتحاد السوفيتي ونهاية عصر الانظمة الشيوعية؟ وهل ان كارل ماركس لم يعد موجودا في بلاد زعمت انها وريثته الحقيقية الوحيدة،وهل صار ماركس الذي تصادف هذه الايام ذكرى " 203 " على ميلاده، رجل من الماضي، ولم يعد يشغل بال احد؟، هذه الاسئلة طرحها ابرز مؤرخي القرن العشرين إريك هوبزباوم عندما اصدر عام 2010، كتابا بعنوان " كيفية تغيير العالم .. حكايات عن ماركس " "، وقد وصفت احدى الصحف  كتاب هوبزبام بانه محاولة لانقاذ ماركس من " مزابل التاريخ"، فكان رده  ان ماركس هو من جديد المفكر الحقيقي للقرن الحادي والعشرين . يسخر هوبزبام من الاستفتاء الذي اجرته محطة الـ "بي بي سي " البريطانية عام 2007 عندما اعلنت ان ماركس هو العدو الاعظم لمستمعي الاذاعة، ويقول هوبزبام اننا لو طبعنا اسم ماركس في " غوغول " سنجد ان هناك اكثر من " 32 " مليون مرجع، وهو الرقم الاكبر بين المفكرين الكبار، لم يتقدم عليه إلا داروين واينشتاين، لكنه كان متقدما كثيرا على فرويد وتجاوز آدم سميث باكثر من " 25 " مليون .

في شبابه حاول هوبزبام كتابة سيرة أدبية عن كارل ماركس، وتفرغ لقراءة ارشيف الماركسية، لكنه شعر أن الكتابات الشيوعية  لا تريد ان تحرر ماركس من التطابق المشاع والشهير مع حياته، وان الحياة دائما ما تتغلب على الافكار في الكثير من السير الذاتية التي كتبت عن ماركس . يكتب هوبزباوم مقالا عن البيان الشيوعي اراد ان يؤكد من خلاله ان ماركس اكتشف شيئا عن الراسمالية قبل اكثر من 150 عاما وعلى العالم الرأسمالي ان يلاحظ ذلك، وخرج بنتيجة أن عند كارل ماركس الكثير ليقوله للقراء . ولأن سعي الانسان ان يكون العالم مجتمعا مختلفا عن المجتمع الذي لديه، وافضل منه، لذا من المفيد ان نحسب حساب ماركس اليوم . قال هوبزوباوم ان بعض كُتاب سيرة ماركس مصاصو دماء، واعترف أن ماركس يتغير كل قرن، فلم يكن ماركس خارج ما يجري من احداث في العالم، فماركس القرن الحادي والعشرين يختلف عن ماركس القرن العشرين . ويطرح هوبزباوم سؤلاً: كيف يجب ان ننظر الى ماركس اليوم؟ هل نعتبره مفكرا للانسانية كلها؟ هل هو فيلسوف ام ومحلل اقتصادي او أب لعلم الاجتماع الحديث، أو مرشد لفهم التاريخ الانساني؟ .

نشأ إريك جون بليرهوبزباوم في مدينة فينا التي يسميها العاصمة المفقرة لامبراطورية عظمى، تخبرنا السجلات الرسمية انه ولد في مدينة الاسكندرية في التاسع من حزيران عام 1917، لعائلة يهودية، الأب بريطاني والأم نمساوية،  يصر ان موظف القنصلية البريطانية اخطأ في تاريخ ميلاده فاضاف عليه بضعة اشهر، لا يتذكر شيئا من مدينة الاسكندرية التي عاش فيها اقل من عامين، فما ان انتهت الحرب العالمية الاولى حتى انتقل الاب والام  الى فيينا مع طفلهما، كان والده  يعمل في التجارة، لكنه يصاب بالإفلاس في سنواته الاخيرة . الام  تعمل في مكتبة تراجع الكتب التي تنشر حديثا، تهوى  قراءة الروايات الرومانسية، وقد نقلت هذا الشغف لابنها البكر، جربت كتابة الرواية، فصدرت لها رواية وحيدة لم تلق الاهتمام،  في الثانية عشر من عمره يتوفى والده، يتذكر المشهد في سيرته الذاتية – عصر مثير ترجمها الى العربية معين الامام -:" في وقت من امسية يوم الجمعة الثامن من شباط 1929، عاد والدي من جولة اخرى من جولاته البائسة في المدينة بحثا عن مال يكسبه او يستدينه، الجو قارس وانهار امام الباب، سمعت والدتي الأنين عبر النوافذ العلوية، وحين فتحتها على الجو القارس في ذلك الشتاء، سمعته ينادي عليها . توفى خلال بضعة دقائق، جراء نوبة قلبية " . كان الاب في الثامنة والاربعين من عمره، وبموته حكمت الام على نفسها بالموت،ظلت تقول لابنها " هناك شيء انكسر في قلبي "، وبعد مرور اقل من ثلاث سنوات تموت الام وهي في السادسة والثلاثين من عمرها، لم يترك الاب شيئا لعائلته باستثناء كتب كثيرة باللغة الانكليزية تتحدث عن الرحلات والمغامرات، يبدأ الشاب ايريك العمل معلما للغة الانجليزية لاعالة عائلته، يذهب للعيش هو وشقيقته في بيت خالتهما . عام 1933 تنتقل عائلة خالته إلى لندن، بعد أن تولى الحزب النازي السلطة: " إن أي شخص رأى صعود هتلر أمام عينيه يجب أن يكون قد تأثر سياسياً بذلك، ولا يزال ذلك الصبي بداخلي وسيظل "

عام 1936 يحصل على منحة للدراسة  في جامعة كامبريدج، كان عمرة 19 عاما عندما انضم الى الحزب الشيوعي عن طريق النادي الاشتراكي بالجامعة، لكنه يخبرنا في سيرته الذاتية انه اصبح شيوعيا عام 1932 عندما بدأ بقراءة كتب ماركس وانجلز، وسيبقى عضوا في الحزب الشيوعي لاكثر من خمسين عاما، ويقول ان السبب الذي جعله يبقى كل هذه المدة في الحزب، يناسب سيرته الذاتية الشغوفة بشخصية ماركس:" كانت الشيوعية بمثابة التعبير المثالي عني "، لكن على الرغم من انتماء هوبزباوم الى الحزب الشيوعي،إلا ان رفض ان يكتب كالشيوعيين، حيث اصر على انه ماركسي المنهج، يرفض ان تحمل كتاباته نصوصا ايديولوجية للتدليل على ظاهرة او واقعة تاريخية، بل انه اراد استعمال المفاهيم الماركسية في اطار نظري يمتاز بالسهولة والمرونة، لكي يجعل تاثير هذه الكتابات على القارئ عميقا . في شباط من عام 1940 يتم استدعاه للخدمة في الجيش وصف سنوات خدمته العسكرية بانها كانت سنوات فارغة، تُمارس فيها حربا فارغة، اثناء سنوات الحرب سيوضع تحت المراقبة باعتباره شيوعيا، وقد كانت الاجهزة الامنية تنظر اليه باعتباره شخصا مثيرا للشبهة، يجب ابعاده عن الاماكن الحساسة في الجيش، يخدم في وحدة الالغام، ويسخر من الذين يحذرونه من القنابل:" لن تصيبك القنبلة إلا اذا كان اسمك مكتوب عليها "،  بعد الحرب يحصل على الدكتوراه في التاريخ وكان موضوع رسالته عن  جمعية فابيان،  وهي  منظمة اشتراكية بريطانية هدفها النهوض بمبادئ الاشتراكية الديمقراطية من خلال الجهود التدريجية والإصلاحية في الديمقراطيات، وليس من خلال العمل الثوري .

يعمل محاضرا في جامعة لندن، بعدها سيصبح استاذا للتاريخ الاقتصادي الاجتماعي، قال إن هناك نسخة أضعف من المكارثية انتشرت في بريطانيا وأثرت على الأكاديميين الماركسيين: "لم احصل على ترقية لمدة 10 سنوات، لكن لم يطردني أحد". عام 1978 يتم اختياره زميلاً في الأكاديمية البريطانية، وفي العام ١٩٩٨، يمنح وسام الشرف في بريطانيا. وعلى الرغم من أنه كان شيوعياً منذ العام ١٩٣٦، إلا أنه ندد بالغزو السوفياتي لهنغاريا عام، وظل محافظاً على منظوره الماركسي العريض في توجهاته الفكرية وممارساته العملية.

تقاعد هوبزباوم من الجامعة عام 1982، وأصبح أستاذا فخريًا للتاريخ، وعُيِّن رئيسًا لبيركبيك عام 2002،  ظل أستاذا زائرا في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في مانهاتن، متعدد اللغات، يتحدث الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية بطلاقة، ويقرأ البرتغالية والكتالونية.نشر العديد من الكتب اشهرها رباعيته عن التاريخ الحضاري لاوربا منذ الربع الاخير حتى نهاية القرن العشرين، واشتمل المشروع على مؤلفات مرجعية هي " عصر الثورة .. اوربا 1789- 1848" و" عصر راس المال 1848- 1875 " و " عصر الامبراطورية 1875 -1914 " والجزء الاخير بعنوان " عصر التطرفات – القرن العشرين القصير 1914- 1991 –" ترجم الرباعية الى العربية فايز الصياغ – في هذه الموسوعة الضخمة يؤكد هوبزباوم على انه لا يسرد التاريخ، ولا يعيد صياغته، ولا يؤرخ لوقائعه او يصف احداثه كما " كتاب التاريخ "، انه يريد ان يتوجه الى القارئ والباحث الذكي، فيقدم له ظواهر التاريخ الاساسية والاحداث الكبرى في حياة الناس، محاولا أن يربط بعضها ببعض، في المجالات الاسياسية، والاقتصادية،والاجتماعية، والثقافية التي يوليها اهتمام خاص، بحيث تكون الحصيلة النهائية صورة نابضة بالحياة للواقع البشري في مراحله المتسلسلة .. وسنجد هذا لاهتمام في الثقافة في كتابه " ازمنة متصدعة .. الثقافة والمجتمع في القرن العشرين – ترجمته الى العربية سهام عبد السلام -  والذي لا يشذ عن منهج كتابة التاريخ الذي اتخذه هوبزباوم لنفسه، فهو يشير الى عالم تهاجمه التناقضات، عالم مشغول بازمة الهوية . في مقدمة الكتاب يشير هوبزباوم الى ان الناس يعيشون في عصر فقد ملامحه وتطلع في السنوات الاولى من الالفية الجديدة الى " مستقبل غير معروف، بلا خريطة هادية، ولهذا انتابت الانسان الحيرة المشوبة بالاضطراب " .

خارج كتاباته عن التاريخ، استمر هوبزباوم بكتابة عمود اسبوعي عن موسيقى الجاز، وفن البوب، وعن السينما وافلام رعاة البقر، وعن اشكال الموسيقى الشعبية، مما اثار استياء الحزب الشيوعي الانكليزي، وقد كتب عام 1963 مقالا بعنوان " البيتلز وما قبله " تنبأ فيه بان هذه الفرقة على وشك أن " تبدأ هبوطها البطيء " .

بالإضافة إلى ارتباطه بـ " الحزب الشيوعي البريطاني "، أقام هوبزباوم علاقات وثيقة مع الحزب الشيوعي الإيطالي، وتفرغ لدراسة كتابات انطونيو غرامشي والذي كان له تاثير كبير على منهجه في كتابة التاريخ،  في كتابه " كيفية تغيير العالم " يخصص مساحة  للحديث عن غرامشي  حيث يرى يعتبره المفكر الأكثر أصالة في الغرب منذ عام ١٩١٧، لأنه-  أي غرامشي -، اعتبر أن الاشتراكية لا تعني مجرد المِلكية الاجتماعية والتخطيط للتنمية الاقتصادية فحسب، بل تنطوي كذلك على مواصلة النضال لتحويل السلوك الاجتماعي وخلق شعب جديد،  ويرى هوبزباوم أن كتابات غرامشي ينبغي إعادة طرحها من جديد كاستراتيجية نضالية شأنها شأن أعمال ماركس وإنجلز.

منذ الستينيات، اتخذت مواقف هوبزباوم  السياسية طابعا معتدلا، ولم يعد يدعو إلى " الأنظمة الاشتراكية من النوع السوفيتي". لكن حتى اليوم الاخير من حياته ظل مكانه راسخا في حركة اليسار العالمي  يكتب  في سيرته الذاتية  - عصر مثير –:" كنت على الأقل رجلاً تفقد حياته طبيعتها وأهميتها بدون المشروع السياسي الذي ألزم نفسه به كطالب مدرسة، على الرغم من فشل هذا المشروع بشكل واضح، وكما أعرف الآن، كان لا بد أن يفشل. لا يزال حلم ثورة أكتوبر موجودًا في مكان ما بداخلي، حيث لا تزال النصوص المحذوفة تنتظر استردادها من قبل الخبراء " . ورغم هذا الايمان بقدرة الماركسية على تجديد نفسها، إلا اننا نجد هوبزباوم يكتب  في السنوات الاخيرة " أن التوقعات طويلة المدى للإنسانية كانت قاتمة، ان  أحد أسوأ الأشياء في السياسة في الثلاثين عامًا الماضية هو أن الأغنياء نسوا الخوف من الفقراء " .

في الساعات الأولى من الاول من تشرين الاول عام 2012، توفي  هوبزباوم في احدى مستشفيات لندن، حيث كان يعاني من مضاعفات    سرطان الدم، قالت ابنته انه ظل يحارب هذا المرض لسنوات دون ضجة،  يتابع ما يجري في العالم، وكانت غرفته في المستشفى مليئة بالكتب .يكتب:" ليس ثمة مكان افضل من سرير المستشفى، للتفكير بطوفان الكلمات والصور ( الاوورويلية ) التي تستحضر الرواية الشهيرة 1984، الذي طغى على وسائل الاعلام المطبوعة والمرئية آنتذ . كانت كلها مفبركة لتخفي الحقائق وتخدع وتضلل الناس".

بعد وفاته تكتب الغارديان:" " رحل مؤرخ غير عادي، ورجل شغوف بسياسته،  لقد جلب التاريخ من البرج العاجي إلى حياة الناس". تم حرق جثته بناء على وصيته، ودفن رماده بالقرب من قبر كارل ماركس .

في مذكراته يكتب:" بالنسبة لكل من هم في مثل عمري، يعتبر العيش طيلة القرن العشرين درسا فريدا بكل ما في الكلمة من معنى " .

شكّلت الماركسية هاجسا لهوبزباوم، وكان يرى ان افكار ماركس تتمتع  بالقدرة على الابتكار والاختبار . في مقدمة كتابه   " كيفية تغيير العالم .. حكايات عن ماركس والماركسية " –- يخبرنا ان فمرة الكتاب ولدت:" في أوائل تشرين الأول ٢٠٠٨، عندما أعلنت صحيفة فاينانشال تايمز بالبنط العريض في الصفحة الأولى: تشنُّج الرأسمالية "، وكان هذا اعلانا حسب قول هوبزباوم من ان ماركس " لن يغادر المسرح طالما ظلت الرأسمالية العالمية تعاني أقسى موجة من التخبط والتأزم " . ويجد ان الماركسية كانت في المائة والثلاثين سنة الماضية الموضوع الرئيسي في الموسيقى الفكرية للعالم الجديد، من خلال قدرتها على تحريك القوى الاجتماعية . لكنه يرى أن انحدار الماركسية في العقود الثلاثة الاخيرة  من القرن العشرين كان بسبب أفول عصر الأيديولوجيات الكبرى والأفكار الإصلاحية بشكل عام وبزوغ عصر ما بعد الحداثة الذي جرف بقايا البنى والمؤسسات والهياكل التي قامت على هذه الأيديولوجيات الكبرى..لكن رغم ذلك يطالبنا هوبزباوم بضرورة إعادة قراءة ماركس في عصرنا الحاضر  فـ " نحن عاجزون عن التنبؤ بحلول المسائل التي تواجه العالم في القرن الواحد والعشرين، لكن إذا قدر لنا النجاح، فلا بد لها من طرح الأسئلة التي طرحها ماركس حتى لو لم نكن راغبين بقبول أجوبة تلاميذه المختلفة " . يؤمن هوبزباوم بان  الفلاسفة قبل ماركس فكروا في الإنسان ككل، لكن ماركس كان الأول الذي فهم العالم ككل من الناحية السياسة والاقتصادية والعلمية والفلسفية في وقت واحد.

 في محاولة لاستعادة لحظة ماركس الاولى ياخذ هوبزباوم على نفسه مهمة تقشير ماركس مما احاط به من اغلفة تحاول ان تضع سورا بينه وبين  قراء القرن الواحد والعشرين، ويحدد هوبزباوم هذه الاغلفة بان الاول منها هو محاولة الدمج بين مفهومي الاشتراكية والماركسية، والغلاف الثاني هو القراءة اللينينة المتزمتة  لماركس، والغلاف الأخيرهو  الخلط بين تاريخ الماركسية والحركات العمالية.

يعترف هوبزباوم انه مدين بالكثير الى كتابات ماركس التي علمته معنى الالتزام في هذا العالم، وساعدته ان يفسر المادة التاريخية تفسيرا عقلانيا  واضفت، على مؤلفاته نكهة خاصة تدعونا للتمعن في حكايات ماركس الحقيقية .

عاش هوبزباوم حياته التي اقتربت من القرن مخلصا لمبادئه وافكاره الماركسية، منددا بالظلم في كل اشكاله، وفي حوار أجرته معه صحيفة  الأوبزرفر عام  ٢٠٠٢، يقول بوضوح:" إنني يهودي. ولكن ذلك لا يعني أن عليّ أن أكون صهيونياً ولا مؤيداً بأي شكل من الأشكال للسياسات التي تنتهجها الآن حكومة إسرائيل،إنها سياسات ستؤدي بطبيعتها إلى التطهير العرقي في أراضٍ محتلة،  لم أكن صهيونياً قط. ولكن بعد أن قامت إسرائيل واستقر فيها اليهود، لم تعد فكرة إزالتها وإزالتهم واردة. ولم أكن بتاتاً من الداعين إلى تدمير إسرائيل أو إذلالها. نعم، إنني يهودي. ولكن ذلك لا يعني أن عليّ أن أكون صهيونياً ولا مؤيداً بأي شكل من الأشكال للسياسات التي تنتهجها الآن حكومة إسرائيل، وهي سياسات كارثية شريرة؛ إنها سياسات ستؤدي بطبيعتها إلى التطهير العرقي في أراضٍ محتلة" .

مضى إريك هوبزباوم قدماً في تقديم نموذج للمفكر الذي يجمع بين انجازاته الفكرية والثقافية ومواقفه السياسية الثابتة، وظل طوال حياته، يردد: " لقد أنجزت ما أنجزت دون أن أقدم أية تنازلات أو أساوم على الإطلاق"

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

(الارض غير المستغلة أو تلك التي لم يتم استغلالها جيدا من قبل سكانها الأصليين يحق للشعوب الصناعية المتحضرة مصادرتها واستثمارها)

تلك هي الفكرة التي ساقتها الرأسمالية لتبرير الاستعمار الاستيطاني في الامريكيتين واستراليا وجنوب افريقيا وفلسطين، وكانت مبرراً لأبادة السكان الأصليين الذين يقفون بوجه (التقدم) وحضارة الرجل الابيض، ولم تكن تلك فكرة طارئه، بل هي متجذرة  في الثقافة الاوربية قديماً وحديثاً، وتعود جذورها الى حركة التنوير وشعور الرجل الابيض بعظمته بعد النهضة والثورة الصناعيه.

الفيلسوف (فولتير) يرى ان الرجل ذا البشرة الداكنه حيوان بأنف أفطس وبذكاء محدود أو بلا ذكاء اطلاقاً.

(ايمانويل كانت) يقسم الشعوب الى أعراق يعتلي العرق الابيض القمة في تصنيفه، بينما الهنود فليس لديهم القدرة على الابداع لمحدودية عقولهم، والسود في منزله عقلية متدنية جداً.

البير كامو يبرّر موقفه المعارض لاستقلال الجزائر بادعاءه ان المستوطنين الفرنسيين أجدر بالمواطنة، وان السكان الأصليين ليست لديهم قدرة على تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وبالتالي فلا أهمية لاستقلالهم السياسي.

في روايته (يوتوبيا) تخيّل توماس مور جزيرة يسكنها حكماء عقلاء ويسودها العدل والرفاه، ولم يستطع مقاومة ثقافته العنصريه حتى في مشروعه المتخيل، فيمنح سكان الجزيرة حق التمدد الى الجزر المجاورة ان ضاقت عليهم جزيرتهم، وان رفض سكان تلك الجزر فلابد من محاربتهم أو طردهم من أرضهم، على اعتبار ان لجزيرة يوتوبيا رسالةً (سامية*) لنشر العدل والرفاه  في الجزر الاخرى.

تتطور تلك الفكرة على يد جان لوك فيلسوف ومؤسس الفكر اللبرالي ليعلن عن نظريته في الملكية الخاصة والتي تصبح فيما بعد مرتكزاً نظرياً لتسويغ التمدد الاستعماري للرأسماليه، وتبرير سحق كل من يقف بوجهها على اعتباره عائقاً في طريق التحضر، بل هو مجرم في تحديه الوصايا الالهية بنظر لوك كما سنرى لاحقاً.

فما الذي جاءت به نظريته في الملكية الخاصة:

كتب جان لوك في ( المبحث الثاني في الحكومه) الفصل الخامس بان الله قد خلق الارض بخيراتها من طعام وماء وحيوانات لتكون ملكاً مشاعاً للجميع، إلا انه أمرنا بان نحسن استثمار الارض بالعمل، وقد منح الفرد حق تملك الارض التي  بعمله ستنتج له ما يكفيه لتأمين حياته، فاذا اقتطع أرضاً وسيّجها واعتنى بالأشجار صارت ملكاً له، وهو يتحدث هنا عن الانسان البدائي الذي يعيش بفطرته في ظل قانون الطبيعة فقط٠ توصّل جون لوك إلى ان العمل هو مصدر ملكية الفرد، وقد كان هذا الكشف فتحاً جديداً في علم الاقتصاد، أخذ به آدم سميث وريكاردو، فما كان مألوفاً آنذاك أن الله قد منح الارض للملك و فوّضه  كي يمنحها لمن يشاء. (بالطبع الرأسمالية الناشئة كحركة تقدميه آنذاك كانت تهدف الى هدم تلك المفاهيم الأقطاعية وترسيخ حق الملكية الفرديه، فكانت هذه النظريه استجابة طبيعية لمتغيرات الواقع الاقتصادي وصعود البرجوازية في اوربا).

يكمل لوك بناء نظريته موضحا ان الله كان كريماً بحيث خلق ما يكفي الجميع، كذلك أعطى الانسان عقلاً يمنعه من الاستحواذ على حصص غيره، فلو فكّر أحدهم مثلاً في تكديس مايزيد عن حاجته من الفاكهة فانها ستتعفن، ولهذا سيكتفي بأخذ حاجته فقط، اي ان المساواة في ملكية الافراد تتحقق بسبب وجود الرادع الذاتي الذي يفرضه المنطق العقلي في المجتمعات الاولى والتي يعيش فيها الانسان بفطرته.

كان هذا قبل ان تتأسس المجتمعات السياسية التي تحتكم لقوانين وضعية حيث يصبح فيها توزيع الملكية أكثر تعقيداً، فبعد أكتشاف النقود أصبح من الممكن والعادل ايضاً توسيع ملكية الفرد بما يزيد عن حاجته وتكديس ناتج عمله الفائض على  شكل أموال، فالمال لا يتلف مثل الفاكهة. ويعود ليوضح ما يقصده بالعمل كمصدر للملكية  فيقول: ما يقضمه حصاني من حشيش ملك لي والسور الذي يشيّده عبدي هو ملك لي أيضاً !!!. هنا صار واضحاً ان النظرية تسّوغ تكديس رأس المال لا بعمل الفرد نفسه فقط بل عبر استغلال عمل الآخرين. والأمر لا ينتهي به عند تبرير الاستغلال الطبقي فحسب، بل يواصل التنظير  لتبرير استغلال الشعوب الاخرى وتقديم الاسانيد النظرية لاعطاء الرجل الابيض حق طرد السكان الأصليين في الأمريكيتين من ارضهم، بل يصل به الامر الى اتهام الهنود الحمر** بالأجرام لمخالفتهم وصية الرب الذي أمرنا ان نستغل الارض بالعمل لتمدنا بالمزيد والمزيد من ثمارها ومواردها، وبغير ذلك لا يمكن الادعاء بحق ملكيتها.

الملكيه الفرديه هي الشرط الذي يضعه جون لوك للتحول من المجتمع البدائي الذي يحتكم بقانون الطبيعة الى مجتمع سياسي تنظمه القوانين الوضعية التي ترعاها الحكومة. ووفق هذا المعيار كان يرى السكان الاصليين في اميركا كمجتمع بدائي لا تنظمه قوانين وليس فيه حكومة بسبب عدم وجود ملكية فردية، فالارض مشاع للجميع بل حتى الملك لا يملك لنفسه كفرد قطعة أرض. وهو يتجاهل حقيقة ان للهنود الحمر حضارات مثل المايا والانكا وامبراطوريات وممالك مثل امبراطورية الأزتك *** في المكسيك بتعداد 16مليون نسمة وكانت تضم مدناً كبيرة بمقاييس ذلك الزمن، و امبراطورية الانكا في بيرو، وهذا يعني أن هناك قوانين وحكومات ولكنها مختلفة في بنيتها عن تلك التي نشأت في اوربا.

الأوربيون لم يكونوا قادرين على فهم ماذا تعني الارض بالنسبة للهنود الحمر، وحين علموا ان الارض بالنسبة للسكان الأصليين مقدسة، حسبوا ان الامر ضرب من ضروب الرومانسية فحسب، و الامر ليس كذلك، فالهندي الاحمر يؤمن بكل جوارحه بان كل شئء في هذا الكون (النهر والشجر والحجر) كائنات حيه تشعر وتتألم وتحنو على الانسان وإن الأرض هي الام، الأم ليس بمعناها الرومانسي الخطابي الذي يردده الانسان الوطني الحديث، بل الام بأحاسيسها وجوارحها. والام ليست للبيع والشراء، الام للجميع، تحنو على كل ابناءها وابناءها بالمقابل يحمونها ويدفعون عنها اي ضرر. هذا ما يفسر الدفاع المستميت للهنود الحمر اليوم عن البيئة، تلك الثقافة الروحية يناضل ورثتها ببساله وثبات لمنع فضلات المصانع وتسريبات الصناعة النفطية من تلويث الانهار، وهي كائنات حية ومصدر كل الحيوات، وتتواصل نشاطاتهم واحتجاجاتهم ويقدمون الشهداء لمنع جز اشجار غابات الأمازون وهي مصدر لجزء كبير من الأوكسجين الذي نتنفس.

يجب ان لا نفهم مقولة ان كل ما في الكون كائن حي ضمن ثنائية الخطأ والصواب علمياً، فالعلم لايرى في الجماد حساً، ولكن لنعطي انفسنا فرصة النظر الى الامر من منطلق ما تركته تلك الثقافة الروحية من شحنات عاطفية ثورية لحماية كوكبنا الذي يجري تدميره بشتى انواع الملوثات وفضلات الصناعات الأحفورية دون حدود لجشع رأس المال. وفي المقابل من الجنون أيضا ان نقف ضد العلم والتطور الصناعي أو نتجاهل ما قدمته الثورة الصناعيه للبشرية جمعاء. ولكن لنتأمل كيف كان سيكون حاضرنا ومستقبل البشرية لو أن تلاقحا بين ما أنجزه الغرب من تقدم علمي مادي مع الثراء القيمي لثقافات الشعوب الاخرى. هل كان مثل هذا التفاعل الحضاري والثقافي سيجنبنا ولو بعضاً من كوارث الحروب والابادات البشرية ويردأ عنا الأخطار الكبرى كالتسليح النووي والاحتباس الحراري اللذان يمثلان أخطاراً  وجودية مقلقة على الأنسان؟.

ما أضاع فرصة التلاقح الثقافي هو العقل الاداتي الانتفاعي المتوّج بمنطق الربح والخسارة، والذي ورثناه عن حركة التنوير وكان عربة الرأسمالية في توسعها وحروبها الامبريالية، وتدمير الثقافات الاخرى مما أضاع فرصة تفاعل الحضارة الأوربية المادية وانجازاتها العلمية الرائعة مع الحضارات الاخرى بما فيها من طاقات روحية ولمسات انسانية قد تسهم في تشذيب النزعات العدوانية تجاه الانسان والطبيعة.

***

قصي الصافي

..........................

الهوامش:

* هناك على الدوام رسالة (سامية) تبريراً للتوسع الكولونيا لي، تتغير تلك الرسالة مع الزمان والمكان فمن نشر المسيحية وتنوير الوثنيين الى تحديث القارة الافريقية صناعياً، أو مكافحة المخدرات في أمريكا اللاتينية، أو نشر الديمقراطية وحقوق الانسان (في الدول المارقة فقط)، أو محاربة الارهاب أو الدفاع عن الأقليات. في جميع تلك الرسائل يكشف الواقع تناقضات ومعايير مزدوجة بشكل فضائحي.

** لا أميل الى تسمية السكان الأصليين بالهنود الحمر لأنها جاءت بسبب اعتقاد كولمبس الخاطئ حين وطأت قدماه أرض اميركا اللاتينيه بانه وصل الهند التي كانت هدف رحلته، و بهذا لم يفرض الأوربيون ثقافهتم فحسب بل فرضوا عليهم اسماً وهوية جديدة لاعلاقة لهم بها البته.

*** لم يستطع الأسبان اسقاط وتدمير امبراطوريات وممالك السكان الأصليين عسكرياً وانما سقطت بسبب الامراض التي كانت تحملها اجسام الأسبان وخاصة الجدري، والتي لم يكن السكان الأصليين قد تعرضوا لها أو عرفوها من قبل وليس في أجسامهم مناعة ضدها فمات الملايين منهم٠

قال (ذو القروح)، وهو ما ينفكُّ يشدُّ شَعر رأسه، كأنَّما يَصعَّد في السماء:

ـ لا أرى أَنْوَكَ ممَّن يؤرِّخ للتراث العَرَبيِّ الإسلاميِّ بالتاريخ المسيحي.  ولئن تفهَّمنا ذلك من مستشرق، فكيف نفهمه من عَرَبي؟ سِوَى على وجهٍ أعمى من الاستلاب؟ ولاسيما وهو يؤرِّخ للتراث الإسلامي؟! 

ـ أمَّا الاستلاب للآخَر في عصرنا هذا، فحدِّث ولا حرج!  أنت تجد نفسك في قلب الجزيرة العَرَبيَّة وكأنك في (نيويورك) أو (لندن)!  لا أقصد في الحضارة، ولكن في اللغة؛ فالإنجليزيَّة هي لغة الجزيرة العَرَبيَّة اليوم. لكأنَّ العَرَب بلا هويَّةٍ ولا لغةٍ، وإنَّما هم ببغاوات، غاية وسعهم أن يُحاكوا أصوات الآخَرين!

ـ ذلك هو الاستعمار!

ـ الاستعمار؟

ـ نعم!  غير أنه لم يعُد الاستعمار بالجيوش، بل بالعقول، واللُّغات، والأسواق، والهُويَّات.  استعمارٌ أفظع من الاستعمار التقليديِّ العتيق.  وذاك هو "الغزو الداخلي"، الذي عبَّر عنه الشاعر (البَردُّوني):

غُزاةُ اليومِ كالطَّاعون :::  يَخفَى وهْوَ يَستشري

تَرقَّـى العارُ مِن بَـيْـعٍ ::: إلى بَـيْـعٍ بِـلا ثَـمَـنِ

ومِن مُستَعمِـرٍ غــازٍ ::: إلى مُستَعمِـرٍ وَطَنِـي!

ـ مَن ذاك الذي قصدتَ بأنَّه يؤرِّخ للتراث العَرَبيِّ الإسلاميِّ بالتاريخ المسيحي؟ 

ـ هُمُ كُثْرُ!  تقف على نموذجٍ منهم، مثلًا، لدَى محقِّق "رسالة ابن فضلان"(1)، حيث يقول في مقدِّمة تحقيقه: "وما أشرق القرن الثامن للميلاد حتى كان للعَرَب مُلْكٌ فسيح الرُّقعة في إمبراطوريَّةٍ عريضة..."!  فلا يشفع التاريخ الهجري بالميلادي، وذلك أضعف الإيمان، مع أنه يكتب عن العصر العبَّاسي!  أَ وَلَم تكن لذلك المُلك الفسيح هُويَّة؟ ولا لتلك الإمبراطوريَّة تاريخ؟!

ـ ﴿إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم ما لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا، وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ.﴾

ـ صدق الله العظيم.  ما وردَ في الآية، في شأن الإفك، يَصدُق على كلِّ إفكٍ من القول، بما في ذلك الإفك اللُّغوي، أو الحضاري، ممَّا يستخفُّ به السُّفهاء، وأثره عظيم، إنْ على المدَى القريب أو البعيد.

ـ تلك عُقدة الغالب، التي تحدَّث عنها (ابن خلدون).  وبالأمس كان الغرب يحاكي الشرق، ويحذو حذوه، حتى بلغ الأمر ببعض نسائه، وربما رجاله، إلى تعريض الأجساد للشمس، لتكتسب سُمرةً كسُمرة البَشرة العَرَبيَّة!

ـ مسكين (ابن خلدون)، لم يعاصر مسخ زماننا في التقليد للآخَر، وإلى درجةٍ مزريةٍ من النزوع نحو العبوديَّة!  ثمَّ إنَّ هذا لم يَعُد في الأوساط الشعبيَّة، بل هو في النُّخَب، ولدَى مَن يدَّعون العِلم والثقافة والاستنارة. 

ـ بل هو بين هؤلاء أشدُّ وأنكَى. 

ـ على ذِكر (ابن خلدون)، لقد كان يناقش صُوَرًا شتَّى من التبعيَّة والاستلاب العقلي والإنساني.

ـ مثل ماذا؟

ـ مثل تأليه البَشَر، واعتقاد بعض الفِرَق الإسلاميَّة، كـ"الغُلاة" و"الواقفية"، أشياء في بعض أئمتهم تُشبِه التأليه؛ فإمامهم في السحاب: الرعدُ صوته، والبرق سوطه(2)، وكأنَّه مسيحهم الثاني، مؤتمِّين فيه بما نشره اليهوديُّ (بولس الرسول) من عقيدةٍ في (يسوع).

ـ بل ربما تجاوزوا، غلوًّا فيه وفي ذُريته، ما قاله بولس في (المسيح)! 

ـ كما ستجد من الطائفيِّين، في هذا المضمار، مَن جعلوا هِجِّيراهم نبش تلك القبور، وأنفقوا أعمارهم في نهش ساكنيها، وتصنيف الكتيِّبات فيهم، باسم البحث التاريخي، وتصحيح صفحاته.  وهم لا يفعلون ذلك أكاديميًّا، بل ينتفشون به إعلاميًّا وجماهيريًّا.  وهؤلاء يُهدِرون حيواتهم في عِلْمٍ- بزعمهم- هو الجهل بعينه والجاهليَّة بسحنتها، إثارةً لعامَّة الناس بنعراتٍ طائفيَّة، طوَّافين بأصنام الماضي، للتذكير بما جرى فيه، لكيلا يلتئم للأُمَّة جرحٌ، ولا يُنسَى لها ثأر. 

ـ سَكَنَة كهوف التاريخ جميعًا هم شرُّ البَريَّة على مستقبل الأُمَّة. 

ـ هم كذلك.  ولقد شَجَرَ بين الأُمَم، ونَشِب بين فئاتهم وتيَّاراتهم من المذابح والمحارق والخوازيق، ما لا يُقارَن بما جرى في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، مهما قيل فيه.  ولو أنَّ تلك الأُمم ضلَّت (بالضاد) تجترُّ ماضيها التاريخي، وتشحن الحاضر به، وتستعيد ما نَشِب فيه، لتصفية ثاراتٍ مجنونة، ما تقدَّمت خطوة إلى الأمام. 

ـ تخيَّل لو أنَّ (اليابان) بقيت تصيح: "لبيك يا هيروشيما!".. "يا لثارات نجازاكي!"، مقيمةً طقوس بكائياتٍ، وصرخات تلبيات، أين كان موقعها اليوم؟!

ـ بين رفات هيروشيما ونجازاكي! وكذا لو أنَّ (أوربا) ظلَّت تدور في فَلَك ما نَشِب في العصور الوسطى، أو حتى في تاريخها الحديث إبَّان الحربَين العُظمَيين، وتُدير المناظرات المتلفزة بين الحلفاء والنازيِّين، على طريقة السُّنَّة والشِّيعة، لكانت مثار سخرية العالَم، ولبقيت مِثلنا تدور في أتون صفِّيناتها.

ـ مع الأسف، اجترار حماقات التاريخ لا تراه إلَّا في الرؤوس العَرَبيَّة، والرؤوس العَرَبيَّة قديمة عهدٍ بالفاليات!

ـ أنت تجد الساعةَ مَن لا يفتأ يغرِّد في "إكس- تويتر سابقًا"، وينشر على "الفيس بوك"، لا لشيءٍ إلَّا لنكأ الجروح، وتذكير الناسين، وتصديع الأُمَّة، وتأليب بعض الناس على بعض!

ـ ووسائط التواصل المعاصرة نفسها تُسهم في ذلك.

ـ هي بدَورها مِنَصَّاتٌ مُسيَّسة.  خذ على سبيل المثال (مِنَصَّة تويتر/ إكس لاحقًا)، التي تُثبِت باستمرار أنها مِنَصَّة مزاجيَّة، بلا معايير مفهومة، ولا حُريَّة منضبطة.  وإنما تُسلِّط شعارها الهُلامي: "المعايير"- في ذريعةٍ غير صادقة، أو في أحسن الأحوال غير منصفة- لتطبِّق عقوبات ما تزعمه من "انتهاك تلك المعايير" غير المحدَّدة، إن وُجِدت أصلًا.

ـ ولا يُنذَر بها "المنتهِكون"، إنْ وُجِدوا أصلًا، قبل قفل حساباتهم أو تعليقها. 

ـ ذلك لكي تُقصي مَن تشاء، وتؤوي إليها مَن تريد! وهي تفعل ذلك متى شاءت، وحسب أحوال الطقس العامَّة، وبلا أسباب معلومة، ولا احترام لمستخدميها. 

ـ يا (ذا القُروح)، حتى (دونالد ترمب) لم يَسلَم من تقلُّبات مزاجها!

ـ بالطبع!  صحيح أنَّ الرَّجل كان أهوج، لكنَّه لم يجاوز ما تتشدَّق به المِنَصَّة من حُريَّة التعبير.  فلمَّا جاء حذف حسابه في حَزَّةٍ تُكسِب المِنَصَّة صيتًا، فعلت به ما لم تكن لتفعل في طقسٍ آخَر.  وإلَّا كم من الحسابات المروِّجة للعنف، والمخدِّرات، والجنس بأشذِّ صوره، ووسائل الإجهاض، إلى غير ذلك من الموادِّ غير الأخلاقيَّة ولا الحضاريَّة، ومع ذلك تجد ترحيبًا مستمرًّا، وربما حماية خاصَّة!  ولا يُعترَض عليها بأنها "تنتهك معايير مجتمعنا!"  والشاهد هنا أن مِنَصَّات التواصل الاجتماعي الشَّعبيَّة تَستغِلُّ وتُستغَلُّ أسوأ استغلال.  ومن ذلك: الاستغلال في تأليب المجتمعات، بعضها على بعض.

ـ عالَـمٌ يخاف ولا يختشي!  ولو وُجِد المنافس لتحسَّن الحال.

ـ أجل، وهذه الحال في كل مجال.  لو وُجدت مِنَصَّات عالميَّة، ونَشِب التنافس بينها، لرأيت تحسُّنَ الحال، ولطارت تتبارى لتخطب ودَّ المستخدمين بشتَّى الطرق، ولكانت المعايير معلنةً وصادقة. 

ـ دع عنك هذا! وبعيدًا عن استغلال وسائل التواصل تلك، ألا ترى أنَّه لا يَصلُح حاضرنا حتى تُصفَّى الحسابات التاريخيَّة أوَّلًا! 

ـ لا، لا أرى! غير أنَّك سترى بعضهم يَفْهَق حياته ساذجًا صادقًا في مَرْكَضِه في هذا المضمار، وآخَرين كذبوا وكتبوا حتى صدَّقوا أنفسهم، وثالثة أثافيهم ممَّن اتخذوها تجارةً إعلاميَّة رائجةً، في بيئةٍ فارغة العقول، عاطلةٍ من الإسهام الحضاريِّ الحي. ونحن بذلك، دون عقلاء العالَم، نوظِّف التاريخ لخراب الحاضر والمستقبل، بل والماضي أيضًا.  مآسي التاريخ تَدفع الأقوام إلى التوحُّد، والاتِّعاظ من الأخطاء، ومداواة الأدواء، ونحن تَدفعنا مآسي التاريخ إلى تحويلها إلى أفلام هنديَّة، نلعب فيها جميعًا أدوار البطولة!

***

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

......................

(1)  (1960)، رسالة ابن فضلان، تحقيق: سامي الدهان، (دمشق: المطبعة الهاشميَّة)، 14.

(2)  يُنظَر: ابن خلدون، (2001)، مقدمة ابن خلدون، تحقيق: درويش الجويدي، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 184- 185.

(الحول العقلي) مصطلح جديد كنا ابتكرناه في علم النفس العربي ليصف واقع الحال الذي عاشه ويعيشه العراقيون بعد 2003. وكنّا حددنا اعراضه بأن المصاب به يرى الايجابيات في جماعته ويغمض عينه عن سلبياتها، ويضخّم سلبيات الجماعة الأخرى ويغمض عينه عن ايجابياتها.. وكما يرى احول العين الواحد أثنين ولا يمكنك ان تقنعه انه واحد،كذلك احول العقل يرى ان جماعته، طائفته،قوميته.. على حق والأخرى على باطل،وان هذه الأخرى هي سبب الأزمات مع ان جماعته شريك فيها.

كان هذا الحول العقلي مقتصرا على الغالبية المطلقة من الحكّام الذين استلموا السلطة بعد 2003،لدرجة ان من كانوا يسمون انفسهم (المعارضة) يرون ان العراق من حقهم فقط،والآخرون لا حق لهم فيه!.وبدءا من عام 2008 انتشرت عدوى هذا الحول لتصاب به كتل سياسية وفصائل مسلحة،كل واحدة ترى ان فكرها.. عقيدتها.. رؤيتها للأمور هي الصح والأخرى زندقة او ضلالة او غباء.. واشتد هذا الحول في 2019 ليوصل الجميع بأن الحكم للسيف لا للعقل.. فحصد السيف رقاب المئات بينهم قادة قوم وشباب فكر وابرياء وصبايا واحداث.. وامهات وحبيبات مفجوعات.

الحول العقلي.. صيّرهم بدوا!

ستندهش او تفاجأ او لا تصدق ان قلت لك ان هناك تطابقا في القيم والسلوك بين البدو زمن الجاهلية وبين أفندية زمن الديمقراطية رغم ان البعد الزمني بينهما اكثر من 1500 عاما؟! واليك ما يثبت:

كان البدو في العصر الذي سبق دعوة النبي محمد الى الاسلام بـ(الروح القبلية).. يحكمهم الانتماء الى القبيلة ومناصرتها سواء كانت على حق ام باطل، والتي تعني في مصطلحاتنا العلمية الحديثة.. التعصب (Prejudice) الذي يعني انتماء الفرد المطلق الى قبيلة، جماعة، طائفة، قومية،او دين.. والدفاع عنها حتى لو كانت على باطل.

ولنعد الى ما حصل في 2006 في العراق، فحين تشكلت أول حكومة بهوية شيعية، تعمّق التعصب بين افراد الشيعة، وصاروا يتباهون بأنهم الأفضل والأحق بالسلطة من طائفة السنّة التي راحت بدورها تسخر من الشيعة وتصفهم بانهم جهلة لا يصلحون للسياسة.. ما يعني ان هناك تطابقا تاما بين (الأسلاميين .. شيعة وسنة) في الزمن الديمقراطي وبين البدو في زمن الجاهلية.

ومن انغلاق عقولهم الناجم عن تحكّم (التعصب الجاهلي) في قيادات كتل واحزاب الأسلام السياسي، انهم لم يدركوا ان التعصب للطائفة يؤدي بحتمية اجتماعية الى حرب.. فحصلت بين عامي( 2006 و2008) زمن حكم حزب الدعوة الأسلامي، وراح ضحيتها الآف الأبرياء وجعلوا من الفرد العراقي البسيط اكثر سخفا من البدوي الجاهلي بان اوصلوه الى ان يقتل الآخر لمجرّد ان اسمه (حيدر او عمر او رزكار!).

و(بداوة) قادة كتل واحزاب الاسلام السياسي (شيعة وسنّة) الذين شكلوا الطبقة السياسية في العراق، انهم اعادوا احياء (الروح القبلية - التعصب) وغلّبوا الانتماء الى القبيلة على الانتماء للوطن، وعملوا بالضد من تعاليم النبي محمد الذي اضعف (الروح القبلية) وعزز مبدأ (المسلم اخو المسلم). ووصل حال (بداوة) حكومات ما بعد 2006 انها استمالت شيوخ العشائر فاستجاب لها كثيرون حتى لو كانوا يعلمون أنها على باطل!.

علّة اهل العراق الجديدة

والعلة الجديدة في اهل العراق،انهم ما عادوا (اهل نظر وفطنة) كما قال الجاحظ، بل انهم اصيبوا بالحول العقلي، والأخطر ان عدوى الحول العقلي اصابت وزارة الثقافة، واصابت مثقفين يعدون انفسهم (قامات) وآخرين ينتمون الى منظمات معنية بالثقافة التنويرية (الأتحاد العام للأدباء.. مثالا) ومؤسسات علمية بعضها يترأسها (أحول عقل) خالص!.

وأخرى تخصهم وتخصنا.. انهم ما عادوا يهتمون بما نشخّصه فيهم من عقد نفسية، وينظرون لتحليل السيكولوجيين لهم وما يكتبون، بأنه فائض معنى، والأصح انهم يخشون مكاشفتنا لهم بأن (الحول العقلي) انتقل بالعدوى عبر عشرين سنة ليصيب حتى من كان يعد نفسه تقدميا!.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

عن موقع توينكل: ملحقات الجناس: بعدما وضع علماء البلاغة العربية تعريفًا خاصًا بالجناس ومفصلاً في أنواعه، أضافوا للجناس ملحقات له ومشابهة له حيث أطلق عليها تسمية (الجناس المطلق) وهو على قسمين: المتلاقيان في الاشتقاق: ويقصد به  اتفاق اللفظتين في الاشتقاق ومثال عليه:  قال تعالى: "فأقم وجهك للدين القيم" (الروم 43)، فاللفظين "أقم" و"القيم" مشتقين من مادة لغوية واحدة وسميا بالجناس المطلق لتلاقي اللفظين في الاشتقاق وهذا ما يسمى ملحق بالجناس. المتلاقيان فيما يشبه الاشتقاق: ويقصد به الجمع ما بين لفظين بما يشبه الاشتقاق، نذكر له مثالَا  قال الله عز وجل: "قال إني لعملكم من القالين" (الشعراء 168)، فنجد أنّ الفعل قال مشتق من مصدره القول وأن كلمة القالين جمع القالي وهي كلمة تطلق على المبغض والهاجر ولكن جمع بينهما على ما يشبه الاشتقاق، وهذا خير مثال على الملحق بالجناس والمتلاقيان فيما يشبه الاشتقاق. وجاء في موقع موضوع عن الجناس: جناس الاشتقاق: ورد في قوله تعالى: "لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ" (الأنفال 8) فكل من كلمتي ليحق و الحق مشتقتان من الفعل حقق. ومنها قوله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ" (الروم 43) فكل من كلمتي أقم والقيم مشتقتان من الفعل قوّم. وقوله تعالى: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (الأنعام 79) فكلمة وجهت وكلمة وجهي مشتقان من الفعل وجه. وعن منتديات ستار تايمز عن الجناس: تجنيس الاشتقاق بأن يجتمعا في أصل الإشتقاق ويسمى المقتضب، نحو فروح وريحان، فأقم وجهك للدين القيم، وجهت وجهي.

وعن موسوعة الوافر: ما الفرق بين الجناس والطباق والسجع؟ السجع هو توافق الحرف الأخير من الكلمتين في النثر في الحروف مثل اللهم أعط ممسكا تلفا وأعط منفقا خلفا. الجناس هو التشابه بين الكلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى مثل صليت المغرب في المغرب. يُطلق على الطباق كلمة التّضاد، وهو عكس معنى الترادف، لأنّه يُعنى بين الكلمة وعكسها في الجملة، ويُمكن لهذا الطباق أن يكون بين اسمين أو فعلين أو حرفين، كما ينقسم الطباق إلى طباق سلب وإيجاب، وفيما يلي أمثلة على الطباق وأقسامه: إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب. هل الجناس من علم البديع؟ قسّم علم البديع إلى: الفصاحة اللفظية والفصاحة المعنوية، حيث ساق عشرين محسّناً لفظياً منها الجناس، والترصيع، والتوشيح، والإلغاز، والطباق مع أنه من المحسنات المعنوية لا اللفظية. أما في الفصاحة المعنوية فقد أورد خمسة وثلاثين محسناً معنوياً منها التشبيه، والسرقات الشعرية مستوحياً ما قاله فيها من كلام ابن الأثير. وجاء في جامع الكتب الاسلامية: هناك أنواع أخرى للجناس، منها ما أطلقوا عليه جناس التصحيف، وضابطه: أن يتماثل طرفاه خطًّا ويختلفَا نطقًا ونقطًا، ومثلوا له من القرآن بقول الله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام: "وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء 79-80) فالجناس بين "وَيَسْقِينِ" و "يَشْفِينِ" والطرفان فيه متماثلان في الخط، فلو أزلتَ النقط التي على حروفهما حدث بينهما تماثل تام، والاختلاف في النقط تابعاه اختلاف في النطق كما ترى. ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: (قَصِّر ثوبك، فإنه أتقى وأنقَى وأبقى) ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى) . وكذا ما يسمى بالجناس اللفظي أو جناس الاشتقاق، فهذه الصورة وإن اشتبهت بالجناس لفظًا فقد فارقته معنًى؛ لعدم التفاوت في معانيها، مثال ذلك: قول الله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ" (الروم 43) فأنت تلحظ اتفاقًا بين: "أَقِمْ" و "الْقَيِّمِ" وهذا الاتفاق جعل هذه السورةَ كأنها جناس، ولكن لما كان المعنى واحدًا للكلمتين زال معنى الجناس عنهما.

جاء في معاني القرآن الكريم: قوم يقال: قام يقوم قياما، فهو قائم، وجمعه: قيام، وأقامه غيره. وأقام بالمكان إقامة، والقيام على أضرب: قيام بالشخص؛ إما بتسخير أو اختيار، وقيام للشيء هو المراعاة للشيء والحفظ له، وقيام هو على العزم على الشيء، فمن القيام بالتسخير قوله تعالى: "منها قائم وحصيد" (هود 100)، وقوله: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها" (الحشر 5)، ومن القيام الذي هو بالاختيار قوله تعالى: "أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما" (الزمر 9).

جاء في تفسير الميسر: قال الله تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ" ﴿الروم 43﴾ فَأَقِمْ: فَ حرف استئنافية، أَقِمْ فعل، الْقَيِّمِ: الْ اداة تعريف، قَيِّمِ صفة. للدّين القيّم: المستقيم (دين الفطرة). فوجِّه وجهك أيها الرسول نحو الدين المستقيم، وهو الإسلام، منفذًا أوامره مجتنبًا نواهيه، واستمسك به من قبل مجيء يوم القيامة، فإذا جاء ذلك اليوم الذي لا يقدر أحد على ردِّه تفرقت الخلائق أشتاتًا متفاوتين؛ ليُروا أعمالهم. وعن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله تعالى "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ" ﴿الروم 43﴾ "فأقم وجهك للدين القيِّم" دين الإسلام، "من قبل أن يأتي يوم لا مردَّ له من الله" هو يوم القيامة، "يومئذ يصَّدَّعون" فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد: يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار.

عن تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله تعالى "فأقم وجهك للدين القيم" (الروم 43) أي استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنة أي لا تعدل عنه يمينا ولا شمالا فإنك متى فعلت ذلك أداك إلى الجنة وهو مثل قوله ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم وقوله تتقلب فيه القلوب والأبصار. جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "فأقم وجهك للدين القيم" (الروم 43) وصف الدين بأنه «قيّم» مع ملاحظة أن (القيّم معناه الثابت والقائم) هو إشارة إلى أن هذا التوجه المستمر (أو الإقامة) هي للدين أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس ، فلا تمل عنه أبداً ، بل أقم وجهك للدين القيم. وإنّما وجه الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وآله ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضاً .

***

د. فاضل حسن شريف

بقلم: شايلا لوف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

فيما يتعلق بنشاط الدماغ، فإن تخيل شيء ما يشبه إلى حد كبير رؤيته حقيقة، فلماذا لا تخلط بين الاثنين كثيرًا؟

في عام 1910، سألت عالمة النفس ماري تشيفيس ويست بيركي المتطوعين عما تعتقد أنه سؤال يسهل عليهم الإجابة عليه: هل ما تراه حقيقي أم خيالي؟ في بحثها، طلبت من الناس أن يتخيلوا أشياء، مثل التفاحة، أثناء النظر إلى الحائط. ثم، سرًا، استخدمت جهاز عرض مبكرًا يسمى الفانوس السحري لإلقاء نفس الصورة.  واجه المشاركون صعوبة في التمييز بين ما رأوه بأعينهم وبين ما تخيلوه في رؤوسهم.

اقترحت هذه التجربة الرائدة، والعديد من التجارب التي تلتها، أن الرؤية وتخيل الرؤية تتضمن عمليات مماثلة في الدماغ. وهذا يؤدي إلى لغز؟ تقول نادين ديكسترا، عالمة الأعصاب الإدراكية في جامعة كوليدج لندن: "إذا كان الدماغ يتعامل مع الخيال بشكل مماثل لكيفية تعامله مع الواقع، فلماذا لا نخلط بين الاثنين طوال الوقت."

في دراسة حديثة لما يسمى "تأثير بيركي"، نشرت مؤخرا في مجلة Nature Communications، طلبت ديكسترا وزملاؤها من أكثر من 600 شخص أن ينظروا إلى شاشة مليئة بالكهرباء الساكنة، ويتخيلوا خطوطا قطرية على الشاشة، ويقدموا تقريرا عن مدى تأثيرها. وكانت الخطوط حية على مقياس من 1 إلى 5. على مدار التجربة، على غرار دراسة بيركي، قدم الباحثون سرًا خطوطًا قطرية حقيقية لاختبار مدى تأثير ذلك على ما يعتقد الناس أنهم رأوه.

كما هو الحال في عمل بيركي، وجدوا أن الناس يمكن أن يخلطوا بين الخيال والواقع بسهولة. لكن ليس دائمًا: ويبدو أن العامل الرئيسي هو مدى وضوح الصورة وحيويتها. الأشخاص الذين قالوا إنهم رأوا خطًا قطريًا واضحًا كانوا أكثر عرضة للقول إنهم يعتقدون أنه حقيقي، بقطع النظر عما إذا كان حقيقيًا أم لا.

وجدت ديكسترا دليلًا إضافيًا على هذا المبدأ نفسه من خلال إعادة تحليل إحدى تجاربها السابقة لتصوير الدماغ: عندما تخيل المشاركون في الدراسة أنهم يرون شيئًا ما، أظهرت أدمغتهم نمطًا مشابهًا من التنشيط في القشرة البصرية كما هو الحال عندما كانوا ينظرون إلى نفس الشيء، ولكن كان التنشيط أضعف بشكل عام. وتقول ديكسترا إن نتائجها تشير إلى أن الناس يستخدمون "عتبة الواقع" للتحقق مما هو حقيقي وما هو متخيل، في عملية تسمى مراقبة الواقع الإدراكي. عندما تكون الإشارة أضعف من هذه العتبة، فمن المرجح أن يصدق الشخص أن ما يراه هو خياله. إذا كان قويًا أو أقوى، فمن المرجح أن يصدق أنه حقيقي.

وهذا يعني أن الأشخاص الذين لديهم صور ذهنية مفعمة بالحيوية قد يجدون صعوبة في التمييز بين الواقع والخيال؛ كان هناك بعض الارتباط بين وجود صور حية وزيادة احتمال التعرض للهلوسة. وللنتائج أيضًا آثار على كيفية تعاملنا مع المستقبل من خلال الواقع المعزز أو الافتراضي الذي أصبح أكثر واقعية.

ومن المثير للاهتمام أن عتبات واقعنا ربما تتغير دائمًا - لذا مع تغير التكنولوجيا، قد نتغير نحن أيضًا. عندما أجرى بيركي تجربته، كانت مقاطع الفيديو نادرة وكان الناس يعتقدون دائمًا أن ما رأوه كان قادمًا من عقولهم. بعد كل شيء، ماذا يمكن أن يكون؟ وقال أحد المشاركين: "لو لم أكن أعلم أنني أتخيل ذلك، لظننت أنه حقيقي".

(انتهى)

***

..............................

الكاتبة: شايلا لوف/ Shayla Love كاتبة في مجلة / سايكى (Psyche ). وبالإضافة إلى ذلك ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.

 

(لا يجب استبعاد قدرة الفن على التعبير عن فكر سياسي وثقافي نضالي، ذلك أنه يوفر جهدا حاسما في تقديم أدوات استقلاليته دون الزيغ عن نطاق الثقافة الاجتماعية السائدة، ويستتبع ذلك بالخوض في تجربة الترافع ضد الخمول والاستهتار والسلبية، ومع ما يقوى الوعي الجمالي، أو ما يستثير الحزن والمواساة عوضاً عن آمال القيامة والانبعاث).

لم يتغاض الفلاسفة عن فعل الفن في الحياة، وأبعاده الجمالية والإنسانية والأخلاقية، إذ يعتبرونه الدافع الجوهر للحياة، ويمثل جزء كبير منه الإدراك المبدع للجدوى من قيم العيش وإرادة المشاركة، وحس التدافع والانتصار للكونية .

وهذا المدار القيمي، يلتقي في صلب (التراجيديا) أو المأساة، كونه يستخلص النشوة والإسراف ورمز الغريزة، وهي تعبيرات عن كون الإنسانية اليوم تعيش تمزقا أخلاقيا خطيرا، وتناغما لتنميط الحياة وبعدا عن إرادة تحرر الذوات.

لكن روح هذا الافتئات، يحاول جهد الأيمان، استعادة الجذوة، وإيقاظ الحواس من عمائها المصطنع، مع ما يغدي ذلك من حضور لافت للأخلاق الجمالية واقتداريتها في التأثير والإبهار والانتشار السريع.

ولا أدل على ذلك من أن نخبا من الفنانين والشعراء والمثقفين المرموقين من جميع أنحاء المعمورة، هبوا لنجدة الضمير وإيعازه من غفلة التوجيه ونار الفتنة في قضية غزة وما تتعرض إليه من إبادة ومجازر وهتك حرمات وتهجير وتجويع.

لقد تحررت الأصوات الفنية من ارتدادات التشطير الدافعي للشهرة والنجومية، وعلاقاتها بالأسواق والعلامات التجارية، وأضحت تكرس الجبهة المضادة للتعتيم والتغول والابتزاز وكل أنواع الحصار، كما هو معروف لدى أجهزة التنظيم الإعلامي والسيطرة المدفوعة.

وخلال 100 يوم من الحرب الإبادية القاتلة على قطاع غزة، انتفضت قوى الفن تلك، وهي تغلي كمرجل صدى الضمير العالمي، الذي يقبع في صمت الدهاليز، متفرجا متآمرا غير قادر على تغيير التراجيديا أو توقيف عجلاتها الساحقة؟.

ونقلت وسائل الإعلام الدولية، نداءات لكبار الشخصيات في عالم الفن والثقافة، كالمغني الارلندي سيث واتكنز، والملحن والأوبرالي الإيطالي جو فالسي، ومغني الراب الأمريكي ماكليمور، والممثلة البريطانية جولييت ستيفينسون، والممثل الأسترالي رشاد ستريك، ومغني الراب الأمريكي ريدفيل، والفنانة النرويجية هيلاري أليسون، والمغنية البريطانية ميلاني مارتينيز، بالإضافة إلى نجوم هوليود كأنجيلينا جولي ووسوزان ساراندون وجينا أورتيجا، وعارضتا الأزياء الأمريكيتين "بيلا وجيجي حديد" ...

ومما يثير الفضول، في مقابل تعزيز الدافع الحقيقي لهذا التحول، أن يكون مضمون المحتوى المروج ضمن نداءات هؤلاء المؤثرين، أو للكثير منهم، متناغما مع حقائق التاريخ والجغرافيا والإنسان الفلسطيني المقهور. حتى إن قراءة العديد من تعليقاتهم أو تصريحاتهم أو معاني كلمات أغانيهم وأناشيدهم، يحيل إلى وعي ثقافي وسياسي منظم وذي مردودية فكرية وإبداعية. وهو ما لا يتناقض البتة مع بعض سلوكيات نخب المجتمع الغربي، من حيث إيثاره الصمت السلبي، وعدم اتساقه مع نسبة كبيرة ممن يجهلون حقيقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتداعياته على السلم الدولي وقضايا العدالة والمساواة وحقوق الإنسان.

ومن أجمل ما سمعت وقرأت مؤخرا، أغنية للمغني الارلندي الشهير سيث واتكنز، وهي تحمل عنوان "تحيا فلسطين" Leve Palestina، انتشرت بسرعة فائقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتؤرخ الأغنية لتاريخ القضية الفلسطينية ، منذ أحداث النكبة عام 1948، وحتى أحداث غزة التي بدأت مع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي.

والأغنية من كلمات وألحان نفس المؤدي، والذي يشتهر بكونه يغني للقصص الإنسانية العادلة، غير بعيد عن إبداء وترجمة أحاسيسه الخاصة بالقضايا التي يؤمن بها.

سيث واتكنز عندما سئل عن الأغنية كيف جاءت وما أسباب نزولها، أجاب ""يا فلسطين، يا فلسطين، كتبت هذه الأغنية وأنا أبكي على أكثر من 20 ألف شهيد في غزة خلال 77 يوماً فقط، 40% منهم أطفال، وهي نسبة أعلى من أي صراع آخر في الذاكرة الحديثة، مشددا على أن "."الحل: أرض واحدة، حقوق متساوية، وإنهاء دولة الفصل العنصري، آمل أن تجلب هذه الأغنية الأمل لليائسين، والتعاطف مع أولئك الذين ليس لديهم شيء حالياً، لأولئك الذين ما زالوا يعانون من واحدة من أكثر الحملات الإرهابية اللاإنسانية والمروعة في التاريخ الحديث".

تقول كلمات الأغنية في بدايتها:

في عام 1948 طردوا من أرض أجدادهم، قصفت بيوتهم ومدنهم

يا فلسطين يا فلسطين، نسمع نداءك المستغيث

أن تعود الأرض مرة أخرى، وأن يتحرر شعبك

يا فلسطين يا فلسطين، شعبك يعيش في خوف

نطالب بتحريرك من النهر إلى البحر

في عام 1967 نفّذت إسرائيل الغزو

لتستعمر وتستوطن القليل الذي تبقى

من شعب فلسطين القديمة، مرة أخرى مصيرهم متشابك

مع الاحتلال الصهيوني لبيوتهم وعقولهم المتعبة..

لقد كان الفن وسيبقى معبرا لتجسيد فعل المحاكاة، أو هو سبيل إبداعي من سبل تهذيب الحياة وتخليقها. فلا تقوم الإنسانية ما قامت إلا بنشاطه العبقري وبصيرته وحكمته ونورانيته. ولا يستوي الناهض فيه من الساكن الخراص، فالمقامان يختلفان، ويتشابكان في القلق والرؤية وتدبير القيم. الأول ينصف ويعدل ويترجم ويؤثر، أما دونه، فيظلم وينتهك ويحزن وينافق.

فأيهما أسعد بالإنسانية؟ وأيهما الأجدر بالملكة والتفاعل الفاهم والمستبصر؟ وهل يستويان مثلا؟

***

د. مصطفى غَلْمَان

قال الله سبحانه "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 22-23) وردت ناضرة وناظرة في سورتين متتاليتين لوجود ارتباط بين النظر والنضر اي عندما يكون البصر والبصيرة في بهجة. النضر: الحسن ووقع منه في القرآن ثلاثة مواضع في قوله جل جلاله "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة " (القيامة 22) ناضرة اسم أي مضيئة مشرقة، و"وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا" (الإنسان 11) النضرة أي البهجة في الوجه والسرور في القلب، و"تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين 24) نضرة النعيم أي بهجة النعيم. جاء في معاني القرآن الكريم: نَضْر: اسم علم مذكر عربي قديم، وهو مصدر بمعنى: النعومة، النضارة، الحسن، الجمال، الذهب والفضة. ونضر بن الحارث ( ت 2هـ) حامل لواء المشركين يوم بدر وابن خالة النبي صلى الله عليه وسلم. اصل اسم نَضْر: عربي. أسماء ذات صلة: النضر، نَضْر، نَضير، نُضار، نضرة. قال الله تبارك وتعالى " فَوَقَـهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّـهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً" (الانسان 11) نضرة بمعنى ظهور البهجة والسرور على الانسان، وهو تعويض عن الخوف من الله ومن يوم القيامة. لقاهم يعني استقبالهم.

عن برنامج لمسات بيانيه ما الفرق بين (ناضرة) و(ناظرة)؟ وما معناهما؟ للدكتور فاضل السامرائي: قال تعالى: في سورة القيامة "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة 22-23)) لماذا اختلفت الضاد؟ (ناضرة) معناها جميلة "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين 24)) من النضارة والجمال. (نضرة بالضاد) وجوه يومئذ (ناضرة) جميلة (ناظرة) تنظر إلى ربها، (ناضرة) جميلة من الجمال . (ناظرة) أي تنظر الى ربها هذا يسمى جناس يعني اتفاق الكلمات واختلافها في حرف.

جاء في موقع موضوع: قوله تعالى:  الجناس المُحرّف "وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (القيامة 22-23) والجناس في كلمتي ناضرة وناظرة في تبديل الحروف. الجناس مصدر من الفعل (جانَسَ)، (يُجانس)، (مجانَسة)، و(جِناساً)؛ بمعنى شابهه، واتَّحد معه في النَّسق، أمّا في الاصطلاح اللغويّ، فالجناس هو: فنٌّ من فنون البديع، تكون فيه الألفاظ متشابهة في النُّطق، واللفظ، ومختلفة في المعنى، ممّا يُظهر الجمال والتناغم في التوازُن الصوتيّ في آيات القرآن، كما يُظهر التناسُبَ بين السِّياق القرآنيّ والمقام، وهذا التوازُن الصوتيّ ينتج عن تكرار مُنتظَم للصوت؛ بسبب تشابه لفظَيه في الشكل، واختلافهما في المعنى -كما ذُكِر في تعريفه-، وتُظهر أثراً واضحاً في أُذن المُستمِع، فتجعله أكثر مقدرة على إطلاق الفِكر في التأمُّل والتدبُّر، وتُحقِّق له اللذّة السماعيّة. أنواع الجناس وهو على نوعَين؛ جناس تامّ، وهو الذي يتّفق فيه لفظان في أربعة شروط، هي: ترتيب الحروف، وعددها، ونوعها، وهيئتها من حيث الحركات والسَّكنات، ومثال ذلك قول الشاعر: فَدارِهِم ما دُمتَ في دارِهِم وأَرضِهِم ما دُمتَ في أَرضِهِم والجناس غير التامّ، أو ما يُسمّى بالجناس الناقص، وهو: اختلاف لفظَين في أحد الشروط التي لا بُدّ من توفُّرها في الجناس التامّ، مثل: السّاق والمَساق (اختلاف شرط العدد)، والشَّعْر والشِّعْر (اختلاف شرط الشكل)، وبين وبني (اختلاف شرط ترتيب الحروف)، وتَقْهر وتَنْهر (اختلاف شرط نوع الحروف)، وتجدر الإشارة إلى أنّ الاختلاف إذا وقع في نوع الحروف، فيُشترَط ألّا يقع في أكثر من حرف واحد. والجناس يُعَدُّ جناساً حَسَناً إذا ورد في النصّ بلا تكلُّف، ولا تكرار كبير يُؤثّر في حَقّ المعنى، وسبب استحسان الأذن للجناس حدوثُ تجاوُب في النغمة الموسيقيّة بوجود التماثُل الكامل، أو الناقص بين الكلمات، ولأنّ النفس مُتشوِّقة إلى سماع ما يأتي متوافقاً مع النغمة نفسها، مع اختلاف المعنى.

يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان: قوله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 22-23) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة وباسرة، ونضرة الوجه واللون والشجر ونحوها ونضارتها حسنها وبهجتها. والمعنى: نظرا إلى ما يقابله من قوله: "وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة " (القيامة 24) الخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهللة ظاهرة المسرة والبشاشة قال تعالى: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (المطففين 24) وقال: "وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا" (الانسان 11) وقوله: " إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 23) خبر بعد خبر لوجوه، و"إِلَىٰ رَبِّهَا" متعلق بناظرة قدم عليها لإفادة الحصر أو الأهمية. والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الايمان على ما يسوق إليه البرهان ويدل عليه الاخبار المأثورة عن أهل البيت وقد أوردنا شطرا منها في ذيل تفسير قوله تعالى: "قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ" (الاعراف 143)، وقوله تعالى: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى" (النجم 11). فهؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطع الأسباب يومئذ، ولا يقفون موقفا من مواقف اليوم ولا يقطعون مرحلة من مراحله إلا والرحمة الإلهية شاملة لهم"وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ" (النمل 89) ولا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة ولا يتنعمون بشئ من نعيمها إلا وهم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شئ ولا يرون شيئا إلا من حيث إنه آية لله سبحانه والنظر إلى الآية من حيث إنها آية ورؤيتها نظر إلى ذي الآية ورؤية له. ومن هنا يظهر الجواب عما أورد على القول بأن تقديم"إِلَىٰ رَبِّهَا" على"نَاظِرَة " يفيد الحصر والاختصاص، أن من الضروري أنهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنة. والجواب أنهم لما لم يحجبوا عن ربهم كان نظرهم إلى كل ما ينظرون إليه انما هو بما أنه آية، والآية بما أنها آية لا تحجب ذا الآية ولا تحول بينه وبين الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلا إلى ربهم. وأما ما أجيب به عنه أن تقديم"إِلَىٰ رَبِّهَا" لرعاية الفواصل ولو سلم أنه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظرا، ولو سلم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها. فلا يخلو من تكلف التقييد من غير مقيد على أنه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الابصار ووجوه أهل الجنة إلى ربهم دائما من غير أن يواجهوا بها غيره. أن العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَة " (القيامة 22-23)، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية، وهو سألك لطريق اللقاء والعلم الضروري بآيات ربه، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه، قال تعالى "يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" (الانشقاق 6).

***

د. فاضل حسن شريف

 

هناك من زعم أن ما أوردته فى أضابير الانترنت وزودي عن من لا مثيل لهم ولا قرين، حافل بالشطط، ويشوبه التناقض، ويعوزه البحث والدليل، رغم أن جل ما أوردته كان مترعاً بالشواهد والبينات، ولم يكن يمت للتناقض بصلة، أو يصل إليها بسبب، فقد زعمت في مقال لي أن لهجة المرء تاريخه وذاته، والغض منها غض منه، والاستخفاف بها استخفاف به، ولا يرضى الضعة والصغار إلا مهين أو عاجز كما قال أحد الأدباء، وأنا أيها السادة لم أكن أنثر عليكم دموع الخنساء، أو أشنف مسامعكم بتشاؤم أبى العلاء، ولكن أحكي عن أمة يعتقد البعض أن ليس لها جاه عريض، أو نسب عريق، أو علم وثيق، حتى لا تُضام ناصيتُها، فللغير أن يعفّر خدها بالتراب، ويستبيح ذمارها عبر الفضائيات وأضابير الانترنت، هذه اللهجة التى جعلت من أمة متعددة الأعراق، متباينة السحنات والعادات، أسرة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، تُختزل فى عبارات مبتذلة، لتدفع عن الحياة الرتابة، وعن النفوس الملالة، ووتتقاذفها أفواه رجرجة الخليج ودهمائهم، أصحاب الأخلاق المنحلة، والأحلام المختلة، الذين يصلون نسبهم بالفن ويستظلون تحت أفيائه، طغمة السوء التي سخرت اللهجة السودانية للتسلية ولتزجية الوقت، والتي جعلت من السوداني الذي أربى على الأكفاء، وتميز عن النظراء، خاملاً لا يضاهيه أحد فى الميل الي الدعة والراحة، ومتبطلاً يزجى فراغة بالنوم و مسامرة الأصفياء، وعليه فأن دوحة الكسل فى أرض النيلين فينانة الأفرع، ريا الأماليد، السودانى الذي إذا أراد البعض وصفه بكليمات يلقيها فى عجل لم يحيد عن سخاء تفيض به الموائد، وعلم تزخر به المنابر، وبشاشة تفتر بها الشفاه، نعم أيها السادة السوداني أحمى للجار، وأذبّ عن الذمار، فمتى ترتفع أغطية القلوب، وتنكشف حجب الأسماع.

انني حينما كتبت ما خطه يراعي لم أكن أهرف بما لا أعي، وإنما صدحت بها واضحة جلية، لا التواء فيها، بأن هناك بدع تمضغها بعض الأفواه فى سماجة، وتجترها بعض العقول فى غباء، بأن أمة النيلين لا تشارك فى رأي، ولا تحفل بحادث، بل هى مصفدة بأغلال الونى، ومقيدة بسلاسل الخمول، وأن اللهجة السودانية الغنية بالألفاظ، والحافلة بالتعابير والمرادفات، ولا غرو فى ذلك فهي نبعت من يم عظيم، وبحر زاخر، قد تضائلت وتقهقرت وأمست تعانى من الفقر والجدب، ولم يبقى من فضائها الرحب، وجيشها اللجب، سوى (يا زول وآآآى، وشيء من كدة كدة يا الترلة)، تستخدم للتخفيف من وطأة الخسارة الفادحة التي مُنِيت بها مملكة علوة وسلطنة سنار، ومأوى المهدي ودينار، وملاذ أوشيك وزنقار، كيف لأمة لا تنفض عنها غبار الخمول، ولا تمسح عن أجفانها فتور الوسن، تحقق فى نوادر المخطوطات، وتنقب عن نفائس المطبوعات، وتحذق أصول التحقيق، وتمتلك فيالق من جهابذة العلماء، يُرجع إليهم في الملمات،ويؤخذ برأيهم في المعضلات، ويُلهِم عندلبيهم الغواني فى الحفلات، ويدبج كاتبهم الصحف بالقصص والمقالات.

لا، لم يكن في مقالي تناقض، ولا في ألفاظي شطط أو جنوح، كما انني يا أخ اليمن لا أرفع شعار تمزق وفرقة، ولا صاحب دعوة تعصب واستعلاء، فالحديث حق مباح للبشر، وكذلك اختيار اللهجة واللغة، فمن تحدث باللهجة السودانية لا يعني هذا أن مصرعه قد آن، وأن حتفه قد حان، وأن جثته سوف تتكفل الخيل بجرها لترمى بالجنادل والصخور، لا أيها العزيز، وحتى ننصرف عن حومة الجدال أن لفظة زول لا تطلق هكذا على عواهنها، بل تعد أهانة لا تغتفر إذا كنت تعلم شخصية من تخاطبه، فأنت إن دعوته بها فكأنك تعمدت تجريده من أسمه وألحقته بالغرباء ممن لا تأمن بوائقهم، أنا على الصعيد الشخصي أمقت أي أحد يتعمد أن يتغاضى عن أسمي وينعتنى بهذه الصفة، لا أريد أن أنجرف عن جادة السبيل، ولكن أعتقد أن الجوهر في تقييم أو قبول غيري للتحدث بلهجتي هو الكيفية التى يتناول بها المفردات والألفاظ، فحتماً لا تنطلى عليك لهجة المستهزء العابث بموروثاتك، وبين الخِل المُحب الذي يتودد اليك بلهجتك، أما ما يشعرني بالضجر والغيظ أن يمازحك أحدهم وأنت تراه لأول وهلة بهذه الجوقة من المفردات الخلابة التى تعكر صفو الحصيف على شاكلة : ( يا زول، دقيقة يا زول، والله بالغت عديل كده، عايزين ملاح أم رقيقة يا زول، أنا يا الحبيب وين قالولي سافر) ثم بعد هذه الديباجة الرائعة من التعابير الممجوجة، يسألك عن ضالته التى ينشدها، مثل هذا الصنف من الناس تراه فى كل صقع وواد، ولقد حدث معي هذا الشى قرابة ترليون مرة وأنا أسعى فى دهاليز الغربة وأضطرب بين أرجائها.

الأخ أحمد البحرينى، وصفت مقالي “السوداني مادة خصبة للتهكم” بأنه يوثق عُرى الضغائن بين الأشقاء، وبأني مهوناً بقاطني الخليج أشد التهوين، ومستخفاً بهم أشد الاستخفاف، صدقنى أنا أبعد الناس عن الاساءة إلي العرب أو الازورار عنهم، ولست بصاحب دعوة تحمل فى أطوائها معانى الاستخفاف، أو الرغبة في الانسلاخ عن اللسان والثقافة، فاللغة العربية هى جزء من حياتنا، ومقوم لوحدتنا فى السودان، ما قصدتهم فى مقالي السابق هؤلاء القوم الذين فتنتهم الدنيا وركنوا إليها، وغدوا يزمون بأنوفهم، ويستكبرون بألسنتهم، ويحصدون من الملايين التى رفعتهم من حضيض، وداوتهم من جهل، ذهباً يكتنز، وقصوراً تُشاد، هم طائفة المهرجين الذين يلتئم بهم شمل الناس عبر الفضائيات ويعدونهم من أيقونات الجذل، وقلائد الابتهاج، هذه الأيقونات لها عقيدة ثابتة كأنها سُنة كونية ماضية، أن الضحك والفرفشة لا تكتمل إلا بالسخرية من وطن متسع الأرجاء، ممزق الأحشاء، أخي البحريني فيما الخلاف؟ وعلاما الجدل؟، فتعدي أصحاب الهوى الطاغي، والعشق المضني، على اللهجة السودانية التي تسرب إليها كل لحن، وشابتها كل عجمة، لا تتعارض فيه الأراء، أو تصطرع حوله الحجج، كما أنني أبتدرت مقالي بقولي: (فسجية بعض العرب) ولم أقل كل العرب من قاطني الخليج، فبعض هذه تبرئنى من الغلو والشطط،كما أنني أيها الكاتب المتبسط فى فنون اليراع، قد بسطت لك الأمثلة والشواهد على أشياء حدثت معى ولم أجلبها من نتاف الكتب، أو خطفات الأحاديث، فمقالي السابق دونته بعد سلسلة طويلة من حالات الغبن التي لا يتسع المجال لذكرها.

وختاماً السبب الذي حدا بك للرد علينا دافعه الغضب للعشيرة، واظهار المحبة للأهل، وهو نفس السبب الذي دفعك للكتابة إلينا.

***

د. الطيب النقر

 

أسباب الهجرة:

لقد أوضح الدكتور مكي عزيز بالاشتراك مع رياض إبراهيم السعدي في كتابهما (جغرافية السكان). الصادر عن جامعة بغداد عام 1984م؛ عن أسباب ونتائج الهجرة بما يلي: "الفقر وانعدام الأمن الغذائي والبطالة ونقص فـرص العمل، والتغيـر المناخي، وسوء أوضاع البيئة، من بين الأسباب الرئيسية للهجرة من الريف، كما أن لها نتائج ديموغرافية أو سكانية واقتصادية واجتماعية على كل من الريف والمدينة. وأسباب الهجرة القروية على الأرجح تكون الهجرة قـراراً متعمداً وأحد الطرق التي يسعى لها الكثيرون لتحسين سبل العيش والحياة الكريمة، وسيتم تعداد أهم الأسباب الرئيسة التي تجعل السكان يتخذون القرار بالهجرة القروية:

- الفقـر المدقع في القرية وانعدام الأمن الغذائي: حيث إن ما يزيد على 75% من الفقراء ومن يفتقرون للأمن الغذائي هم من أهل المناطق القروية، حيث غالباً ما يعتمدون على الإنتاج الزراعي بطرق قديمة لتأمين معيشتهم، كما يواجهون مصاعب كبيرة في الحصول على المنح أو القروض لتحسين زراعتهم، كما يصعب عليهم الوصول إلى الأسواق.

- ضعف توافر فـرص العمل: حيث إن معظم الفرص الوظيفية الموجودة في القرية هي في مجال الزراعة وبأجور زهيدة، وبظروف غير صحية وضعف في العدالة والمساواة، إضافة إلى قلّة توفر فرص التدريب والخدمات الإرشادية.

- عـدم المساواة في الخدمات: حيث يرغب أهل القرية بالهجرة؛ بسبب الحصول على الخدمات الحكومية والتعليمية والصحية الأفضل والمزيد من الحماية الاجتماعية.

- التغير المناخي: حيث إن معظم صغار الملاك والمزارعين والصيادين والقرى المعتمدة على الغابات والرعي الطبيعي هي من أكثر الفئات تأثراً بالتغير المناخي وما ينتج عنه من كوارث طبيعية.

- استنزاف الموارد الطبيعية والتدهور البيئي: حيث إن التغير المناخي والتصحر قد حول الكثير من الأراضي الزراعية إلى صحاري؛ مما أضعف كثيراً من قدرة وإنتاجية المزارعين.

- انعدام الأمن والاستقرار الذي أدى بنزوح المجتمع الريفي بصورة خاصة والمجتمع في محافظة الأنبار بصورة عامة بسبب العمليات العسكرية الأخيرة.

نتائج وأثار الهجرة

تتعدد أسباب ونتائج الهجرة القروية، فهناك نتائج ديموغرافية أو سكانية، وأخرى اقتصادية واجتماعية مثل اختلاف التركيب النوعي وغيرها الكثير، ومن أهم هذه نتائج الهجرة القروية ما يأتي:

نتائج ديموغرافية: يتغير عدد السكان بسبب الهجرة القروية في اتجاهين متضادين، من زيادة في أعدادهم في المدن، ونقص في القرى والأرياف، حيث ينتج نمو حضاري عشوائي في المدن، مما يؤدي لنقص في الخدمات العامة بسبب زيادة الضغط عليها، وزيادة البطالة وانخفاض اجور العمال والانحراف، والتحضر الشكلي أو الزائف.

نتائج اقتصادية: يمكن للصناعات والخدمات في المدينة امتصاص البطالة، كما تنشأ مهن جديدة ويرتفع أجر العامل المهاجر في المدينة، مع ذلك في الصورة العامة ينخفض مستوى الأجور عن السابق، وترتفع نسبة البطالة، وفي القرية تنقص الأيدي العاملة من الشباب إلا القلة، ومع هذا تكون تلك الأيادي العاملة مكلفة الثمن بسبب قلتها في الريف، على العكس من المدن المهاجرة اليها إذ ترتفع كثافة الأيادي العاملة، هناك وتقل كلفها لقلة الطلب عليها. إذ أن هناك الكثير من الأعمال في المدن يستخدم فيها الآلة لوفرة رؤوس الأموال ومقابل هذا فأن الريف يفتقر للكفاءات مقارنة باليد العاملة في المدن.

نتائج اجتماعية: في المدينة تزداد نسبة الجرائم، كما يمارس القرويين عاداتهم التي لا تتفق مع الحياة الحضرية، وتنتشر مدن الصفيح التي هي بؤرة المشاكل الاجتماعية، وفي القرى يختلف التركيب النوعي وترتفع نسبة الاناث، وتقل التوجهات لتطوير الريف مما يزيد من تخلفه. كذلك التغيير من شكل مخطط المدن من خلال التوسع العمراني والعشوائيات .

الحلول والمقترحات:

لحل هذه المشكلة لا بد في البداية من بتر الأسباب التي تؤدي لأفضلية المدن أو التقليل منها، والعمل على أن لا تكون الأرياف مهجورة حتى وإن حصلت الضرورة للعمل في المدن، ففي بادئ الأمر لا بد أن يكون هناك ما يكفي من الخدمات في الأرياف كالخدمات الصحية والتعليم؛ ذلك كإنشاء مستشفى في منطقة وسطية بين القرى أو إنشاء جامعة ودوائر حكومية فرعية، أي أن يكون هناك ما يشبه المدينة المصغرة في وسط الريف، ومن ثم نقل جزء من الأعمال إلى مناطق الريف كأن تكون هناك شركات في المناطق الريفية، وشيئاً فشيئاً تكون المنطقة الوسطية تلك كمدينة ريفية، يرجع إليها أهل الريف في أعمالهم وحياتهم اليومية، وتساعد على بقاء أهل الريف في موطنهم الأصلي، وأما إن كان هناك مدينة قريبة أو تقع في الوسط من مناطق الريف فيتم استغلالها كنقطة مركز فقط، بحيث يكون لأهل الريف مواصلات خاصة بهم تصلهم بالمدينة على الدوام فلا يضطرون للاستقرار بشكل دائم في المدينة، في خطوة أخرى يمكن العمل على تشجيع الاستثمار في المجالات الزراعية والانتاج الحيواني، سواء من أهل الأرياف نفسهم بتخصيص نسبة دعم خاصة بالمزارعين ورعاة الماشية، أو من خلال توجيه الأموال إلى تلك المجالات من خلال وضع حوافز للاستثمار، والعمل على إزالة الهوة والفرق بين الريف والمدينة، والحد من هذا التباين، وبذلك تنتفي بعض أسباب هجرة الريف للحصول على المال في المدن، وتوفير الكثر من الخدمات والمنشآت التي تجعل ابن الريف يستغني عن الهجرة الى المدينة لوجود ما يعوضه عن الهجرة إلا لبعض الرحلات الموقتة للأعمال الإدارية وغيرها التي يكون مركزها المدينة.

كما أن النظم الغذائية والتنمية الريفية تؤثر على الهجرة وترك الزراعة وتتأثر بها في آن واحد، قد يجانب الصواب رسم صورة بسيطة للوضع. فمن ناحية، هنالك أمثلة عديدة حول اضطرار أصحاب الحيازات الصغيرة، وغيرهم من السكان الريفيين، إلى الهجرة إلى البلدات والمدن الأكبر نتيجة افتقار الوسط الريفي والزراعي إلى الفرص الاقتصادية. وكذلك نتيجة الوضع الأمني والسياسي، وفي هذا السياق من المتوقع أن يقود انخفاض الانتاجية الزراعية، وتكوين الروابط مع الأسواق، وتنمية الاقتصاد الريفي خارج المزرعة، إلى الحد من الضغوط المؤدية إلى الهجرة. وترك الأراضي واهمالها، وتشير الأدلة إلى حصول ذلك على سبيل المثال الاستثمارات في تحسين البنية الأساسية في الحالات التي توفرت فيها الاستثمارات في المناطق الريفية كما في محافظة بغداد، وعدم وتمكين أصحاب الحيازات الصغيرة من الوصول إلى التكنولوجيا، والتدريب والخدمات. ومن جانب آخر، غالباً ما يؤدي تحسن الانتاجية الزراعية وزيادة الدخول إلى دفع عجلة العمالة خارج المزرعة، الأمر الذي يزيد في حالات عديدة من الفرص المتوفرة للأشخاص للخروج من المناطق الريفية ومجال الزراعة. ومع ارتفاع أرباح المزارع، تزداد الاستثمارات في المدخلات، والخدمات والآلات. وبارتفاع دخول المزارعين، يزيد إنفاقهم على السلع غير الغذائية من قبيل المعدات المنزلية، والملابس، والأنشطة الترفيهية. وتؤدي جميع هذه العوامل إلى تهيئة الفرص في القطاع غير الزراعي. وبالتالي، تساهم التنمية الزراعية، في واقع الأمر، في تعزيز فرص بالريف والمزرعة. وفي حين تعد الزراعة والتنمية الريفية ضروريتين لحراك العاملين نحو القطاعات غير المرتبطة تقليديا للحد من اضطرار الأشخاص للهجرة من أجل إعالة أسرهم، إلا أن هذه التنمية بطبيعتها تهيئ الفرص لحراك العاملين. وقد تبين أن هذه الفرص تساعد أسر أصحاب الحيازات الصغيرة على زيادة دخولهم وتوفير رأس المال اللازم للاستثمار في مزارعهم. وعدم ترك اراضيهم الزراعية واهمالها.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

.........................

المصادر:

- مكي محمد عزيز ورياض ابراهيم السعدي، جغرافية السكان، جامعة بغداد، مطبعة جامعة بغداد، ط1، 1984.

- كاظم عبادي جاسم، جغرافية الزراعة، دار صفاء للنشر والتوزيع، ط1ـ 2014.

- عباس فاضل السعدي، اصول جغرافية الزراعة، جامعة بغداد، دار الوضاح للنشر، ط1، 2019.

 

مع كل منعطف من منعطفات المعرفة البشرية التي لا تفتأ تنمو وتتطور بمتوالية هندسية، ومع كل منعرج من منعرجات الحضارة الإنسانية التي لا تبرح تتقدم وترتقي بمقاييس تصاعدية، تظهر الحاجة لاجتراح مفاهيم واستنباط مصطلحات تواكب هذه النقلة وتجاري هذه الطفرة النوعية، بما يمكنها من تحايث معطياتها في مجالات الوعي والسلوك الإنسانيين بحيث يتاح للفاعل الاجتماعي التعاطي مع هذا الحراك، بلّه السيولة والانثيال، على النحو الذي يحقق غاياته ويضمن مقاصده بشكل متوازن . ولعل الأستاذ الجامعي والمفكر اللبناني (علي حرب) كان السبّاق – من بين أقرانه العرب - في الاشتغال على هذه الأدوات المفهومية، لاغناء عدته المعرفية وتجديد طرائقه المنهجية خلال تعاطيه مع عناصر الثقافة العربية المتشابكة والمتراكبة، عبر سبر أعماق مكوناتها السوسيولوجية والابيستمولوجية والسيكولوجية . 

وفي ضوء ما شهده – ويشهده – العالم اليوم من ثورات علمية وانقلابات معرفية وانفجارات منهجية،  للحد الذي نسفت كل قناعاتنا المعروفة وأطاحت بمجمل مسلماتنا المألوفة، فقد غزت الأدبيات الثقافية والسرديات الفكرية العديد من المفاهيم والمصطلحات التي كان مجرد التفكير بها يعد من قبيل (التندر) أو (التهكم) . لا بل ان الأمر بلغ حدا"من الابتداع للمفاهيم والمصطلحات الغريبة والصادمة، ليس فقط من أجل حملها على مواكبة سيرورات الواقع المتقلبة ومحايثة دينامياته المتذبذة فحسب، وإنما جعلها تضمر معاني ودلالات ما قد ستئول إليه أوضاع المجتمعات وظروفها في قابل الأيام كذلك . أي بمعنى ان مجهودات نحت واجتراح تلك المفاهيم والمصطلحات، لم يكن ليجعل من تعبيراتها ومقاصدها تقتصر فقط على ما يعلن عنه الواقع القائم من معطيات معاشة فحسب، بل وكذلك تضمينها تصورات استشرافية لما قد يتمخض عن المستقبل من احتمالات وخيارات وعلاقات .

وعلى هذا الأساس، فقد تلقف بعض الكتاب والباحثين المأخوذين بكل جديد والمبهورين بكل مستحدث - حتى ولو كان غير معقول وغير ممكن - جملة من تلك المفاهيم والمصطلحات التي ضمنها أصحابها دلالات تشي بموت (المثقف) تارة وانقراض(الثقافة) تارة ثانية، والتي تأتي في سياق الترويج لنهايات (التاريخ) و(الجغرافيا) و(الايديولوجيا)، الخ . كما لو أنها بديهيات مطلقة لا يأيتها الباطل ولا ينالها النقد ولا يعتريها التآكل . دون أن يضعوا في اعتبارهم جملة من الحقائق لعل أبسطها ؛ ان المجتمع الذي يعيشون فيه وينتمون إليه – وان يكن مستحيلا"وجود مجتمع بلا ثقافة - سيكون جحيما"لا يطاق بلا ثقافة تشذب همجيته وتهذب بربريته، مثلما هي أيضا"استحالة وجود ثقافة بلا مثقفين يشكلون عناصرها الإنسانية يجسدون قيمها الأخلاقية ويرسون قواعدها الحضارية . 

وإذا ما تواضعنا على حقيقة ان (الثقافة) هي، أولا"وقبل كل شيء، منظومة من القيم الأخلاقية والقواعد الحضارية والضوابط السلوكية، قبل أن تكون شهادات عالية ومناصب رفيعة وملابس أنيقة وصلاحيات واسعة، فان ادعاء (انقراض) الثقافة و(موت) المثقف) في المجتمعات التي لا تزال مكوناتها تحتكم الى البدوية / القبلية، ومرجعياتها الأصولية / العصبية، وعلاقاتها الفئوية / الزبائنية، وتضامنياتها الريفية / القروية، واستقطاباتها الجهوية / المناطقية . يبدو ضربا"من العبث الفكري والسفسطة اللغوية، من حيث ان عناصر صيرورة (الثقافة) في هذا النمط من المجتمعات المتصدعة والمتشظية، لم تتبلور بعد وفقا"لمقاييس التطور والارتقاء والتقدم حتى يمكن إعلان انقراضها بهذه البساطة . مثلما ان عوامل تكوين الفاعل  الثقافي (المثقف) في مثل هذه الجماعات المتذررة والمتبررة، لم تكتمل بعد استنادا" الى معايير الوعي والأخلاق والتحضر حتى يمكن إعلان موته بهذه السهولة.

وعلى هذا الأساس، لا ينبغي لنا الانسياق – دون بصيرة – خلف بريق المفاهيم ولمعان المصطلحات التي لا يبرح الوعي الغربي ينتجها ويروج لها، تعبيرا"- حقيقيا"أو متخيلا"- عن خصوصيات تجاربه وممارساته في المضامير الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية والقيمية والنفسية، ناهيك عن نزوع (مركزيته) للهيمنة الكونية . إذ ليس كل ما تجود به الحضارة الغربية المعاصرة من أنماط فكرية وسلوكية وأخلاقية ورمزية، يمكن حسبانه على لائحة (التثاقف) بين الشعوب و(التلاقح) بين الحضارات و(التمازج) بين الثقافات .  

***

ثامر عباس

وحينما تناقش العوامل (الطاردة) نجد الحروب والاضطرابات السياسية التي شهدها البلد قد لعبت دوراً بارزاً في ظهور أنماط استثنائية من الهجرة، مما كان له أكبر الأثر على الأنماط الحضرية المعاصرة. منها أن نسبة كبيرة من أبناء الريف المهاجرين وعلى الأخص الفقراء منهم قد انتقلوا إلى ضواحي المدن والعاصمة بغداد وأقاموا (مدن الأكواخ والصفيح- التنك)، ثم ما لبثوا أن انتقلوا إلى مناطق المدن ووسط بغداد، مما ساهم على تجريف البساتين والمزارع من قبل أصحابها بسبب المبالغ الطائلة التي تجنيها إذا ما قورنت بمبالغ المحصول والناتج الزراعي.

ولا نستطيع أن نغفل الإشارة إلى ما حدث للمدن الكردية، فمنذُ ازدياد الوعي القومي لدى الأكراد بسبب ظهور قيادات مثقفة استطاعت إحياء نزعة الاستقلال الذاتي. ومن هذه الزاوية يمكننا فهم الصراعات الحادة التي نشأت بين الحكومة العراقية والأكراد، التي أدت بها إلى هدم الكثير من القرى الكردية وهجرة سكانها إلى الأحياء الكردية داخل المدن العراقية.

فضلاً عن العوامل السياسية هناك؛ والعامل الاقتصادي الطارد الذي لعب دوراً هاماً في تحديد الهجرة الريفية، ويرتبط بطبيعة الحال بمعدل النمو الاقتصادي في مناطق العراق المختلفة. كما لوحظ أن طبيعة المبادئ السياسية التي تبنتها حكومة الزعيم قاسم قد انعكست على الواقع الريفي، إذ احدث مشروع الاصلاح الزراعي نتائج اجتماعية/ اقتصادية هامة، وبمقتضى هذا المشروع تكونت طبقة وسطى ريفية نتيجة لإعادة توزيع الأراضي الزراعية التي استولت عليها الحكومة من كبار الملاك. وعلى الرغم من أن هذا الموقف قد يؤدي على الأقل نظرياً إلى تقليل معدلات الهجرة الريفية، إلا أن ذلك لم يتحقق في الواقع. فكانت نتيجة ذلك تدهور الانتاج الزراعي وهجرة بعض العوائل الفلاحية إلى المدينة بسبب انتشار البطالة بين الفلاحين لينظموا إلى جماهير الفقراء الحضريين. وبسبب الهجرة الفلاحية ظهرت طبقات ممتازة متتابعة، غالباً ما كانت دخيلة، فخلقت في نهاية الأمر ارستقراطية زراعية وبروليتاريا ريفية رثَّة واسعة النطاق.

فكان الفلاح العراقي تدفعه العوامل الاقتصادية إلى ترك القرية لاهثاً وراء سراب المدينة، بسبب الانتاجية الزراعية الضئيلة إلى حدٍ بعيد، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة العمالة الزراعية إلى درجة عالية، يضاف إلى ذلك استغلال الوسطاء والمرابين للفلاحين، مما يعني ابتلاع الفائض النقدي الذي قد يحققه.

ومن هنا نستطيع أن نفهم استمرار ارتفاع معدلات الهجرة الريفية في معظم مدن العراق برغم مشروع الاصلاح الزراعي. وهناك شواهد تشير إلى أن الاصلاح الزراعي قد لا يحدث نتائجه الايجابية إلا في المدى البعيد، خاصة إذا ما ترتب عليه ادخال اساليب انتاجية جديدة وإعادة توزيع حقيقي للملكية الزراعية.

كما لوحظ أن القرى العراقية قد بدأت تفقد خلال عقدين من الزمان نسبة كبيرة من شبابها النشطين بسبب الهجرة إلى المدن، مما أدى إلى انخفاض الانتاجية الزراعية بسبب استمرار اساليب الانتاج التقليدية، وامتناع ابن القرية الذي اكمل دراسته الجامعية في المدينة للعودة إلى مسقط رأسه ليساهم في تطوير قريته وخدماتها. لذلك تواجه الحكومات العراقية المتعاقبة في بعض الأحيان موقفاً حرجاً، لكن في معظم حكومات دول الخليج العربية قد حلَّت ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة بتخصيص جزء من عائدات النفط لاستيراد آليات متطورة لتستخدم في تطوير الانتاج الزراعي، ومثال ذلك تطوير انتاجيتها في مجال التمور وتحسينه.

هذا فضلاً عن المشاكل التي احدثها ابن القرية في المدينة بعد الاستقرار، إذ نقل معه عاداته وتقاليده القروية من (الفصلية، والنهوة، والكوامة، والثأر، والقتل بالمثل)، فتجده على ابسط حال يطالب بحقوقه من خلال القضاء العشائري لا القضاء المدني، وقد سمعنا الكثير من تلك القصص والروايات والخلافات على أتفه الأشياء منها: عبور جرذ من دار إلى دار وارعب طفلاً ما فتكون النتيجة فصل عشائري، أو عبور ديك داجن إلى دجاجة الجيران من دار إلى دار يسبب القتل أو الفصل العشائري.

وقد نقلت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قصص مؤلمة لما وصل إليه البلد، بسبب ترييف المدن، ومن سيادة عصابات الجهل لا يصدقها العاقل يتناقلها أهل بغداد ومدن العراق الوسطى والجنوبية. تقول إحدى القصص بأن رجلاً جاءه عزرائيل في الحلم ليأخذ روحه، فتوسل إليه هذا الرجل أن يتركه ويذهب إلى جاره الثالث، وفي الصباح حكى الرجل حلمه لعائلته وبعد يومين توفي الرجل الجار المعني بالحلم، وحصلت صدمة عند الرجل الحالم الذي ذهب إلى مجلس الفاتحة وحكى للجالسين من حوله الحكاية، فمسكه أهل المتوفي وفرضوا عليه (فصل الديَّة).

وهناك قصة أكثر سريالية لكنها حقيقية مفادها أن جرذاً يعيش في بيت بإحدى مناطق شرقي بغداد يرمز إليه بالرقم واحد، وهذا الجرذ يعبر كل يوم إلى البيت رقم 2، وحدث أن طالب صاحب البيت جاره (بفصل ديَّة) بسبب أن الجرذ تسبب بحدوث صدمة عصبية (جفلة باللهجة البغدادية) لزوجته، وكأن هذا الجرذ هو ابن لصاحب الدار رقم (1) وأُلزم بدفعها. وذات مرة وخلال دخول هذا الجرذ للبيت رقم (2) قتلوه ممّا دعا جاره إلى المطالبة بدفع الجزية جراء وفاة الجرذ، فأسترد ما دفعه سابقاً.

وهناك قصص كثيرة، منها: قصص عزوف الأطباء عن العمل في وجبات مستشفيات الطوارئ معروفة، حيث يطالب أهالي المتوفين الطبيب المعالج بدفع الفديَّة.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

نشر أحد الاصدقاء فيديو يظهر فيه الدكتور خزعل الماجدي وهو يلقي محاضرة .

خلاصة ماقاله في محاضرته، ان الدين عكس الحب !!

لأن الحب يقوم على الرغبة الطوعية في حين ان الدين يقوم على الخوف.

وهو هنا يسجل إخفاقاً جديداٍ ناجماً عن التسرع وعدم التعمق في دراسة الأشياء.

وهذه ليست المرة الاولى التي يتبنى فيها موقفاً مستعجلاً كما فعل في موقفه السابق عندما ربط صحة الرسالات السماوية بوجود آثار لتلك الرسالات!!

ولديَّ عليه بعض الملاحظات مع بالغ احترامي لشخصه ولاجتهاده في الكتابة والنشر.

١- لماذا هذه المقارنة بين الدين والحب؟؟

الدين عقيدة والحب موقف عاطفي.. هل نستطيع المقارنة بين السيارة والطعام ؟او بين الحب والنوم؟؟

٢- لم يفرق الرجل بين صُلب الدين وجوهره الحقيقي وبين الثقافة الدينية الشعبوية المتداولة بين الجهلة والتي ساهم في نشرها الكثير من الناس لاسباب كثيرة والتي كرّست فكرة الخوف والعذاب والانتقام الألهي لأتفه الاسباب..

٣-في نظري، المتواضع، ان جوهر الدين يتلخص في آية واحدة:

تقول: ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولاتحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون (سورة فصلت)...

لايتطلب الأمر سوى الايمان بالله والاستقامة !!  اين الخوف في ذلك؟

الاستقامة تبعث على الاطمئنان سواء أكان الشخص مؤمناً او ملحداً.

هل الدعوة الى الاستقامة مقتصرة على الدين ؟ هل هنالك حركة او منهج مادي او ملحد الخ.. لايدعو الى الاستقامة؟

٣- نسي الرجل ان هنالك قلقاً وخوفاً انسانياً شاملاً اسمه قلق الموت !! يعاني من هذا القلق كل البشر بغض النظر عن عقائدهم. والأيمان الديني الحقيقي يخفف او يزيل ذلك القلق.

٤- يقول ان اسماء الملائكة مثل عزرائيل وجبرائيل ، موجودة في الديانات القديمة الوثنية ونحن أخذناها منهم مع وجود فروق بسيطة في اللفظ ..يبدو انه يجهل ان الله يقول انه ارسال العديد من الرسل الى الامم القديمة وهي تأتي من نفس المصدر وتستخدم نفس اسماء الملائكة، لكنها حُرّفت على مدى آلاف السنوات وتحولت الى ديانات وثنية..

والدليل على ذلك انه حتى الاسلام يتعرض للتحريف والافتراء وتدخل عليه بعض الطقوس التي تشبه الوثنية مع انه أحدث الاديان ..

٥-لاينبغي للباحث الرصين اسقاط قناعاته الشخصية المسبقة على قضية عامة ويعمل على اشاعة قناعاته الشخصية والباسها لباساً علمياً بحثياً نزيهاً...

٦- كنت اتمنى ان يضيف الدكتور خزعل جملة بسيطة يقول: فيها انه يتحدث عن الثقافة الدينية الشعبية الجاهلة والتي قد تكون بعيدة عن جوهر الدين..واذا كان يعتقد انه ليس من واجبه البحث عن جوهر الدين، حينها نقول له عليك الابتعاد عن المواضيع التي لاتطيق الغوص فيها.

٧- بعض الناس يعتقدون خطئاً، ان استعجالهم في طرح افكارا تبدو لهم ثورية ، سوف يضعهم في موضع المفكرين الذين احدثوا هزة في التاريخ الفكري الانساني..

قد يستطيع هؤلاء ان يكونوا مفكرين اذا اعتمدوا التركيز والعمق في اعمالهم الفكرية.

***

د. صلاح حزام

خصص الصديق الدكتور إياد العنبر مقاله الأسبوعي يوم الجمعة الماضي، لتبرير المنحى التشاؤمي في أحاديثه ومقالاته. والدكتور العنبر متحدث قوي الحجة، ومن الوجوه المرغوبة في قنوات التلفزيون العراقية، فوق أنه أستاذ للعلوم السياسية.

أعلم طبعاً أنَّ دواعي التشاؤم كثيرة في محيطنا العربي. لكنّي أسأل نفسي دائماً: متى كان وضع العرب مثالياً أو خالياً من دواعي التشاؤم؟ فهل نحول صحافتنا إلى مجالس عزاء، وهل نبكي عالمنا الحي كما نبكي الأموات. ما الذي ينفع الأحياء لو بكينا عالمهم أو بكينا موتاهم، ما القيمة التي نضيفها كأصحاب رأي إلى هذه الحياة لو ملأناها بالدموع؟

لكن ثمة جانباً لا يتعلق بالعاطفة أو الموقف الشخصي من الحوادث، أعني به التأثير الخطير للتشاؤم على التماسك الاجتماعي. وهذا الأمر أكثر وضوحاً في حال المجتمع العراقي، الذي يخاطبه الدكتور إياد في المقام الأول.

تعرفت على هذا المجتمع منذ أيام الصبا. وطوال السنوات التالية تعرفت عليه أكثر، على جمهوره العام والكثير من أهل العلم والكتاب والزعماء والسياسيين. ومع اختلاف هؤلاء في المشارب والتوجهات والمواقع، فقد وجدت التشاؤم قاسماً مشتركاً فيما بينهم، وسمة عامة للحديث في مجالسهم.

أعرف مبررات كثيرة، تاريخية وسياسية، تجعل الثقافة العامة للعراق على هذا النحو. لكن هل تساءل المثقفون والزعماء العراقيون عن النتائج التي يمكن أن يفضي إليها هذا التوجه؟

في سبتمبر (أيلول) الماضي كتبت عن «رأس المال الاجتماعي»، وأعيد التذكير بأنه يشير إلى مجموعة الأعراف والمفاهيم المشتركة بين أعضاء مجتمع معين، والتي تشكل أرضية للتفاهم والتشارك فيما بينهم، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار. ومن هنا فهي تمهد لفعل جمعي منسجم، يجعل النظام الاجتماعي أكثر فاعلية وكفاءة.

دعنا الآن نتساءل: ما الذي يحصل في المجتمع حين تتلاشى مشاعر التفاؤل ويغدو متشائماً، هل يتعزز «رأس المال الاجتماعي» أم يتلاشى. هل يزدهر العمل الجمعي لتحسين الحياة العامة، أم يحصل العكس، أي انصراف كل فرد إلى التفكير في نفسه والبحث عن حلول لمشكلاته، بل حتى الهروب من واقعه الذي لا يستطيع تغييره بمفرده؟

انظروا إلى واقع العراق، أليس هذا ما ترونه؟ كل الناس يشكون من كل شيء، كلهم يتَّهمون قادتهم ونخبهم وأهل الرأي فيهم، بالتسبب في كل ما حل بالعراق، والنخب تتَّهم السياسيين، وهؤلاء وأولئك يتهمون الناس بالسلبية وعدم القدرة على التعاون أو الصبر أو المشاركة في الحلول إلخ.

أزعم أنَّ صناع الثقافة في العراق، في الماضي والحاضر، قد شاركوا رجال السياسة في تفتيت «رأس المال الاجتماعي»، أي الأساس الضروري للثقة المتبادلة بين الناس، الثقة الضرورية كي يفعلوا شيئاً مفيداً لهم كأمة واحدة، لا كأفراد أو طوائف.

الكتابات والخطابات المتشائمة، وتلك التي لا تحوي سوى التشكيك في كل شيء وكل شخص، ملأت نفوس الناس بالريبة في أي شخص يتولى منصباً، أو يدعي القدرة على التغيير. وهذا سيعيق قطعاً أي تفكير جاد في التغيير أو محاولة للتغيير، ولو في المستوى الأولي. فمن الذي سيضحي أو يرهق نفسه وحياته، إذا كان جزاؤه - أياً كان الحال - هو السخرية والتشكيك بل الاتهام بأنَّه فاشل وعاجز، أو مجرد حرامي أو متسلق أو متسلط أو ذيل للأجنبي؟ وهذه للمناسبة أوصاف شائعة في الساحة العراقية.

إن جواً كئيباً كهذا، سيفضي - دون شك - إلى إفساد السياسة، ثم القضاء على حرية التعبير، وأخيراً تمهيد الطريق لبروز المغامرين الشعبويين، الذين كفاءتهم الوحيدة هي إثارة العواطف والانفعالات، أو إثارة الخوف من الآخر المختلف، أي - باختصار - الأشخاص المراهنين على تفكيك المجتمع وتفتيته.

هل هذا ما يرغب فيه زعماء العراق ونخبته وصناع الرأي من أهله؟

إن كانوا يرغبون في غير هذا، فليكفوا عن نشر التشاؤم. هذا هو الوقت الذي يصح فيه تماماً، المثل الصيني: بدل أن تلعن الظلام أضئ شمعة.

***

د. توفيق السيف - كاتب وباحث سعودي

 

" التعدد الثقافي، ثراء للعالم: {إن التعدد الثقافي، بوصفه مصدرا للتبادل والابتكار والإبداع، ضروري للجنس البشري كما هو ضروري التنوع البيولوجي في ترتيب الحياة.}"1

لا شك في أن التطرف بأشكاله كلها من صراعات وجدالات وعنف وتشاحن بشتى مصادرها لا تؤسس وحدة وطنية حقيقية، كلما كانت تنزع نحو فرض خصوصية معينة أو رأي أحادي وإلغاء باقي الخصوصيات والآراء الراسخة في الجغرافية التاريخية الثقافية في مجتمع ذلك الوطن، كون أي تنوع للخصوصيات ضمن أي مجتمع هو مفتاح إثراء لمفهوم الوحدة وآفاق التنمية بكل صورها وأنماطها إذا ما تم استثماره بشكل عقلاني وأمثل. ولكن استغراق كل خصوصية من الخصوصيات المتنوعة ضمن هذا المجتمع، في ذاتها الضيقة ومصالحها الجهوية على حساب الآخرين من شركاء الوطن يفضي إلى التنافر وسوء النوايا والتباغض ويعطل مسارات وسبل تطوير حالات التعارف والتآلف والتعاون على رسم حقائق العيش المشترك..

فالخصوصيات عندما تتفق فيما بينها على منظومة قانونية مدنية صلبة تكون بمثابة قاعدة أو مرتكز مشترك بينها، تنتج ثقافة نهضة ووحدة وأمن وسلام، لأن هذه الخصوصيات تصبح محترمة كلها وبنفس المستوى في التعبير عن ذواتها الفرعية داخل دفء الذات المشتركة وبالتالي تتبلور صورة واقعية لثقافة الوحدة على أساس التنوع البناء..

الثقافة والوطن:

أي ثقافة في أي مجتمع لا يمكنها التطور والتأثير الحضاري ما لم تتسم بالاعتدال بين الوحدة والخصوصيات في ذلك المجتمع، لان التزاحم الثقافي بين الخصوصيات في ظل ثقافة التطرف يولد حساسيات ثقافية تنتهي بصراعات على أساس هوياتي يدمر الثقافة الوطنية، بينما التفاعل بين الخصوصيات في الفضاء الاجتماعي،عبر ترسيخ وتنمية الجوامع والمشتركات، وردم الفوارق وترميم الشروخ عبر التواصل بين مختلف الفعاليات الثقافية والأدبية والإبداعية، من شأنه بلورة حقيقة الثقافة الوطنية. كونها إبداع المجتمع بكل خصوصياته وتنوعاته الثقافية التاريخية. بمعنى آخر تهميش خصوصيات لحساب خصوصية أو خصوصيات أخرى وفق منطق التطرف والإلغاء لا يحقق المعنى الحضاري للثقافة الوطنية، بل يجعل الثقافة في تمثلاتها الذاتية أو الهوياتية تبتعد عن دائرة الفعل التاريخي لمقولة الوطن في الواقع المجتمعي. وبالتالي كل فعل يهدف لإبراز خصوصية واحدة، أو تذويب وصهر الخصوصيات الفرعية في خصوصية محددة بوسائل القسر والتعسف ونشر أدوات وخطابات التطرف في المجتمع، هو الاتجاه نحو المزيد من الضمور والتخلف الاجتماعي والثقافي، لان الثقافة عندما تتمركز وتنغلق، تستبد ولا تكون ضمن إطار الفعل الحضاري القيمي الإنساني بل تصبح طرفا إشكاليا داخل المجتمع المتنوع، بحيث بدلا من بروزها كمعنى خلاق للتنمية والأمن والسلام والنهضة تصبح طرفا في صراع المصالح الخصوصية..

الثقافة ومأزق الهويات:

كلما اتجه المجتمع بمجموع تشكيلاته الثقافية المتعددة في جذورها وتاريخها الديني وحمولاتها الثقافية، نحو تجاهل او إنكار واحدا من هذه الجذور، سوف ينتهي به الأمر إلى انفجار هويات خطير وعميق، وغالبا هذا الاتجاه أو الخيار مصدره التطرف ضمن ثقافة العصبيات القبلية والرهانات المصلحية الضيقة، التي تنطلق من مشاريع القهر والتهميش لخصوصيات وهضم حقوقها لحساب أخرى، مما يؤسس لمشروع حروب اجتماعية مفتوحة, تهدد بمتوالياتها النفسية والعملية، الأمن العام والسلام الوطني والتنمية بكل أشكالها، وذلك لأن منطق التطرف والعصبيات والتهميش والعزل، هي الضد النوعي لخيارات اللقاء والتعاون والشراكة في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف المستويات من لدن كل الخصوصيات.

و هذه الخيارات لن تتحقق إلا في ظل حياة ثقافية واجتماعية مفتوحة على كل الاجتماعات والقراءات والآراء, وتتبلور عبر عملية حوار وتعايش ثقافي لتنمية الجوامع وضبط الاختلافات والتمايزات وصياغة مشروع ثقافي وطني على قاعدة التنوع في إطار الوحدة.

الخصوصيات وتكافؤ الفرص:

المجتمع الذي يطمح أهله إلى الرقي والتنمية والأمن والسلام الأهليين، لابد له من ترسيخ معالم السلطة القانونية الحازمة والسليمة، أي سيادة القانون العادل بين التنوعات، لأنه على ضوء الثقافة الوطنية التي هي محصلة التفاعل الخلاق بين مجموع التعبيرات والمكونات، فآفاق الحياة الثقافية وإمكاناتها، تصبح مفتوحة لجميع التنوعات والخصوصيات، والقانون الصارم أساسه التعامل الحضاري مع كل الاختلافات في المجتمع على حد السواء، لأن السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحققان في أي مجتمع متنوع ومتعدد إلا على قاعدة نفي التمييز عن كل أشكال التعددية في المجتمع، لأنها المعيار والمؤشر لنهضة وارتقاء هذا المجتمع وتوفره على سلم مجتمعي صلب واستقرار سياسي متين.

عبر التاريخ الإنساني ككل، التطرف بكل الكراهيات والعصبيات لم ولن يصنع استقرارا والإكراهات لا تقود إلى تغيير حقائق التاريخ والمجتمع. ثم إن التنوع والتعدد في المجتمع لا يكون لحاله مصدر التشتت والتشظي والتشردم، بل بإرادة أصحاب هذا التعدد يمكن أن يكون ذلك كله، بل هو حقيقة تاريخية ومجتمعية ينبغي أن ننطلق منها في عملية التوحيد والائتلاف، وتشريع قوانين وطنية جريئة، تحمي الإنسان داخل هذا التعدد، وتتعامل معه باعتباره جزء من قوة الوطن ومنعته وحصانته.

فالوحدة الوطنية هي محصلة كل الجهود والمبادرات التي تطلقها جميع التنوعات والتعدديات في إطار ترسيخ خيار العيش المشترك(الواحد) والوحدة الداخلية للمجتمع.و كإضاءة معرفية أخرى، يعرّف مصطلح عدم التفرقة في القوانين الدولية والإنسانية، بأنه المساواة في الفرص أمام الأفراد دون اعتبار للجنس والدين، والعرق، والأصل الاجتماعي، واللغة والثروة، كما تؤكد التوجيهات الإسلامية على ضرورة أن يتعامل الإنسان مع الآخرين بمقتضيات العدالة. قال تعالى [ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ](سورة فصلت، الآية 34) .

لا مجال لأن يتحقق الاستقرار والتقدم الثقافي والاجتماعي من خارج حركة المجتمع بخصوصياته وتنوعاته. فحسبان حقيقة التنوع والتعدد في المجتمع بمنطق حضاري إنساني، هو نقطة الإنطلاق الحقيقية في مشروع التنمية وبناء الوحدة الوطنية على قاعدة صلبة وذات عمق تاريخي.

لهذا كان التعامل الإيجابي والحضاري مع الآخرين، هو القادر على امتصاص التعصب والتطرف والكراهية، حيث المسافات تتقلص والمتباعدين يتقاربوا من خلال التعامل الأخلاقي الرفيع الذي يفضي إلى الاعتراف والتعارف المتبادلة على أساس الصدق والاحترام العميق، وتحييد كل ما من شأنه بث سموم التطرف والتشنج والصراع.

فالعلاقات في أي مجتمع إنساني في الإطار الوطني عندما تتسم بالتحضر والإنسانية، لا تعترف بالتمييز والمفاضلة، وإنما بحقوق المساواة والكفاءة بصرف النظر عن أصلها، كل ذلك تحت سقف تحمل المسئولية العامة والخاصة.

الإدارة الإيجابية للتعدد الثقافي:

هناك الإرادة الإنسانية في النظر للتعدد الثقافي كمعامل استراتيجي ضمن معادلة بناء الوحدة الثقافية الوطنية المتينة، وأيضا تأتي الإدارة العقلانية كمعامل مهم في التعامل مع التعدد الثقافي على أساس قيم الحوار والاحترام والتسامح، فالثقافات الفرعية لا تموت حينما تهمش أو يستخدم تجاهها القسر والقهر والإلغاء، بل تحتاج إلى نيل الحرية والحماية القانونية والإعلامية للتعبير عن ذاتها، من أجل الإسهام في تفعيل عناصرها الإيجابية مما يزيد من فرص الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويحمي الوحدة الثقافية الوطنية من كل المهددات والتحديات.

الحرية بوصفها مسؤولية وطنية:

أحد مؤشرات الحرية في العالم المعاصر هو حق الوصول إلى المعلومات، رغم بعض المؤاخذات التفصيلية بخصوص هذا المؤشر إلا أن حق الوصول إلى المعلومة الخاصة بالذات الوطنية أو أحد تشكيلات المكون الوطني يمثل قيمة مضافة نحو التأسيس إلى رؤية متقدمة للوحدة الوطنية وللشراكة الثقافية عبر السماح لكل التنوعات الاجتماعية من المقاربة والإطلاع على المصادر الفكرية لبعضها البعض، حتى يتسنى لكل الأجيال من التواصل المباشر والحر مع مصادر وأمهات الكتب الدينية والتاريخية والعقدية.

وهذا من الحقوق الثقافية الأساسية لكل التنوعات، بصرف النظر عن أحكام القيمة تجاه هذه المصادر. وتعطيل هذا الحق الطبيعي، يعد وفق المقاييس الإنسانية والحضارية, تجاوزا نوعيا وخطيرا ومهددا لترسيخ قيم التعددية والتسامح والحريات الخاصة والعامة. حيث أن الحرية الثقافية بكل مفرداتها وآفاقها، حق طبيعي لكل التنوعات, وعلى السلطتين التشريعية والقضائية في أية الدولة أن تصيغ وتبلور قانونا يكفل هذا الحق لكل التنوعات والتعبيرات الثقافية والاجتماعية المتوفرة في المجتمع. لأن دول التنوعات القائمة اليوم في أصقاع الدنيا، ليس بسبب التجانس التام بين التنوعات المكونة لها. وإنما بسبب وعي التعدد واحترامه. والطريق الذي تعلمنا إياه التجارب لوحدة المتنوعين هي في خلق نظام اجتماعي وسياسي قائم على التعايش الثقافي المتوازن والمرن في آن واحد.

الحماية القانونية للتعدد الثقافي:

إن التنوعات الاجتماعية، دائمة الحاجة إلى الدفء القانوني في إطار وحدة الوطن والمجتمع، حتى تتمكن من خلال ذلك في التعبير عن ذاتها الثقافية والإسهام في التنمية الثقافية للوطن وتعزيز قيم الحوار والتسامح والتعارف والتعايش والأمن والإستقرار، بينما منع هذه التنوعات من التواصل الحر مع كل ما يرتبط بالثقافات الفرعية والذاتية والوطنية، تحت دعاوى الحفاظ على الوحدة والوئام الاجتماعي، فهذا ضد إرساء دعائم الاستقرار الثقافي والاجتماعي، بل على العكس تماما مع مقتضيات العدالة والحرية وأساسيات المواطنة، إذ أن هذا المنع، يزيد من الاحتقانات، ويوفر فرصا عديدة لتجاوز القانون والدخول في مواجهات تهدد حالة الاستقرار والوحدة الوطنية.

فكما أن التشريع الديمقراطي للحركة الاقتصادية يفتح المجال أمام اقتصاد السوق ويفتح مجال الاستثمارات والإنتاج، كذلك فإن سن قانون وطني يعطي الحرية للمثقف وأطره القائمة والمرتقبة، سيساهم في تطوير الحركة الثقافية بل أكثر من ذلك سيرسم معالم اقتصاد الثقافة وسيدخلها في مرحلة جديدة من العطاء والإبداع المتميز في كل حقول الحياة المجتمعية. ففسح المجال للثقافة والمثقفين من أجل القيام بدورهم ووظائفهم العامة، لا يضر بمفهوم الأمن الوطني، بل هو رافد من روافد تعميق خيار الأمن والاستقرار في الوطن والمجتمع وتنقيته من الزيف والتمويه والغش والفساد عموما. أضف إلى ذلك الحوار الثقافي والتواصل الفكري بين مختلف المكونات والتعبيرات، لا يهدد الاستقرار الاجتماعي، وإنما يثريه ويزيده صلابة وتماسكا.

من هنا كانت صيانة حقوق الإنسان واحترام كرامته وخصوصياته الذاتية والثقافية، والعمل على سن القوانين والأنظمة التي تحول دون التعدي على هذه الحقوق شرطا أساسيا في ترسيخ أدب المواطنة ومصداقية التعايش ونزاهة الثقافة الوطنية من شبهات التمييز العنصري.

لأن الاختلاف داخل الوطن لا يبرر بأي شكل من الأشكال التعدي على حقوق الآخرين. فكل القناعات محل احترام وتقدير ما دامت لا تمس بخصوصيات الآخرين. فالاختلاف في الفكر والانتماء، لا يقود إلى التعدي على الآخرين في وجودهم وآرائهم، بل على العكس من ذلك، حيث إننا مأمورون دينيا باحترام الآخرين وممارسة العدل تجاههم والإحسان إليهم، قال تعالى [ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون] (سورة المائدة، الآية 8).

إذن المطلوب دائما وفي كل الأحوال، ومن كل الأطراف، هو العمل على صيانة حقوق الإنسان وعدم امتهان كرامته. فالإنسان مطلقا مصان في ذاته وكل ما يتعلق به من أمور وقضايا. وهنا لابد من الإشارة إلى أن أساس الاحترام هو التفهم (أي وعي الأبعاد والآفاق) كما أن الاحترام مصدره العميق هو التسامح الذي يولد موقف إيجابي تجاه الغير في تعددية عادلة خلاقة . فالاحترام يشق طريقه في المجتمع عبر الدعم القانوني للحرية الثقافية باعتبارها من مرتكزات دولة القانون والإنسان. كما أن الحرية الثقافية، تحمي الحرية الفردية، لأنها تسبح في بحر المسؤوليات العامة والجماعية.

الإنفتاح الثقافي وحق الاختلاف:

المؤكد أن حقيقة التنوع المحاطة بالحرية والاحترام المتبادل والتسامح مركز ثقل الاستقرار والتنمية في المجتمعات المعاصرة، فقد مضت عصور إلغاء الخصوصيات أو التمييز أو القسر القهري من فئة أو مجموعة بشرية تتطلع إلى السيادة والغلبة على قاعدة نفي التنوعات ومحاربة مظاهر التسامح والاختلاف، لأن مآلها الفشل والاستدمار الذاتي والوطني، كون جميع القوى الإنسانية أدركت أن التعسف لا يلغي حقها في التعبير عن ذاتها، والانفتاح الحقيقي على قوى المجتمع ومكوناته المتعددة، الذي يتشكل ويتبلور من الثقافة وأنظمتها الاجتماعية. كون الرقابة في الحقل الثقافي مميتة للثقافة، ومعيقة للتعارف والإبداع, ومعطلة للتنمية والتقدم في المجتمعات.

المجتمع المدني وتنمية الثقافة:

من معالم المجتمعات القوية في الزمن المعاصر، فعالية مؤسسات المجتمع المدني، التي تتوزع غالبا بين النوادي والجمعيات والمؤسسات الحقوقية والدينية والأدبية والعلمية والإبداعية والفنية الأهلية، والتي تعنى بتنمية العمل الوطني، واستيعاب كفاءات الوطن، والإسهام في حماية المجتمع من المعضلات الاجتماعية والثقافية، والتنوعات الاجتماعية تعبر عن ذاتها الثقافية والاجتماعية من خلال هذه الأطر والمؤسسات، وتعمل على توفير كل متطلبات الساحة الثقافية والأدبية. ولعل فكرة تنمية الثقافة المجتمعية تتطلب إطلاق مؤسسات المجتمع المدني، حتى تمارس دورها في بناء الوطن وتنمية المجتمع وإشاعة ثقافة التعاون الثقافي الإبداعي للمؤسسات الوطنية القادرة على حماية الهويات والمقدسات والإنسان قبل كل شيء من أي تحديات أو رهانات ضد الأمن الثقافي والاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي، إذ أن المجتمع المدني يقدم لكل تنوع اجتماعي، حق التعبير والإسهام في الحياة الثقافية الوطنية ورفد التنمية الثقافية للمجتمع، بحيث أن الإمكانات الثقافية الرسمية توضع لصالح جميع الشركاء من كل التنوعات لممارسة دورها ومسئولياتها على الصعيد الثقافي.

جماع القول: إن التنوع الاجتماعي والتعدد الثقافي من الحقائق الإنسانية والتاريخية، كل ما هنالك أنها تتطلب رؤية حضارية راقية حتى تكون معاملات بناء لا هدم، ومقتضيات أساسية في سياق إثراء مفهوم الوحدة الوطنية وتنمية الثقافة المجتمعية على أساس خيارات احترام الإنسان كإنسان والتعايش الثقافي البناء والسلم الأهلي الخلاق للحوار والتعارف والتسامح والتعاون والتآلف..

***

ا. مراد غريبي

...........................

 1- المادة (1) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بشأن التنوع الثقافي لليونسكو (باريس، 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2001)

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

الحنين هو الحنين إلى الماضي، لكن علماء النفس بدأوا يدركون أنه يمكن التركيز على المستقبل أيضًا.

معظمنا على دراية بالحنين: ذكرى بعيدة لحفل زفاف أو تخرج أو احتفال عائلي. إنه شعور إيجابي في الغالب، على الرغم من أنه ممزوج بمسحة من الشوق لما مضى بالفعل. وكما كتب المؤلف مايكل شابون في مجلة The New Yorker في كتابه "المعنى الحقيقي للحنين" (2017)، إنها اللحظة التي "تجري فيها مكالمة هاتفية مباشرة مع الماضي وتسمع صوتًا يجيبك".

هذا هو النهج المعتاد في التعامل مع المشاعر، لكن علماء النفس أدركوا مؤخرًا أن هناك أكثر من نوع واحد من الحنين إلى الماضي، بما في ذلك بعض الأنواع التي تركز بشكل أقل على الماضي وأكثر على المستقبل. يسمى "الحنين المتوقع" و"الحنين الاستباقي" (هناك بعض الدلائل على أنه يمكن تجربة المشاعر الأخرى بطريقة استباقية أيضًا، مثل الاستمتاع والقلق والفخر والغضب الذاتي والراحة، لكن فقط في السنوات الأخيرة نظر علماء النفس إلى الحنين في هذا الضوء).

الحنين الاستباقي يعني توقع أنك في يوم من الأيام سوف تشعر بالحنين إلى تجربة معينة. يقول وينج يي فيربون تشيونج من جامعة وينشستر: من المتوقع أن يتم تجربة المشاعر المتوقعة في المستقبل". وكما غنى مغني الريف تريس آدكنز: "سوف يفوتك هذا،/ سترغب في استعادته،/ ستتمنى لو أن هذه الأيام لم تمر بهذه السرعة".

في هذه الأثناء، يفتقد الحنين الاستباقي ما لم نفقده بعد، والذي لا يزال يحدث، وفقًا لكريستين باتشو من كلية لو موين في سيراكيوز، نيويورك. على الرغم من وجود أسماء متشابهة، فإن التمييز بين الحنين المتوقع والحنين الاستباقي هو عندما يتم تجربة العاطفة: شوق الحنين الاستباقي يحدث في اللحظة الحالية، في حين أن الألم العاطفي للحنين المتوقع لم يأت بعد.

بهذه الطريقة تكون مشاعر الشوق والحنين الاستباقي سابقة لأوانها. يقول باتشو: "إن [الحنين] الاستباقي يفتقد شيئًا لا يزال لديك". إنها كعكة حنين معقدة ذات طبقات زمنية عديدة: تحتوي على تجربة الشوق التي يعيشها الشخص في الحاضر، ومستقبل متخيل حيث أصبح الحاضر منذ ذلك الحين ماضيًا، ويتضمن تأملات في مشاعر المرء في الحاضر وفي ذلك المستقبل المتخيل.

إذا كنت قد قضيت وقتًا مع شخص عزيز عليك يعيش بعيدًا عنك وشعرت بالحزن الاستباقي لأنه سيغادر قريبًا، فقد شعرت بالحنين الاستباقي. إذا كنت في هذا الموقف، ووجدت نفسك تتخيل كيف، في يوم من الأيام، سوف تشعر بالحنين إلى زيارته، فسيكون ذلك حنينًا متوقعًا. يوافق باتشو على أن الحنين الشخصي يرتبط بفوائد الصحة العقلية: الشعور بمزيد من الارتباط مع الآخرين، والتفاؤل، والحصول على إحساس أعمق بالمعنى والغرض. وفقًا للدراسات، فإن الأشخاص المعرضين بشكل خاص للحنين الشخصي يميلون أيضًا إلى الانخراط في الأحداث الجارية أكثر من المتوسط. (ومع ذلك، هناك شكل آخر من أشكال الحنين الذي يركز على الماضي يسمى الحنين التاريخي أو فقر الدم - فقدان فترة زمنية في الماضي لم تكن تعيشها بالفعل - ويرتبط بعدم الرضا عن الحاضر، أو السخرية، أو التشاؤم.)

ماذا عن أشكال الحنين المعترف بها حديثًا والتي تركز على المستقبل؟ يبدو أيضًا أن الحنين المتوقع له آثار جانبية إيجابية في الغالب، مثل زيادة الاستمتاع باللحظة، ولكن لا يبدو أن الأمر نفسه ينطبق على الحنين الاستباقي.

ساعدت باتشو في تطوير "مسح الحنين الاستباقي" لتقييم ميل الناس إلى الحنين الاستباقي. وجدت هي وزملاؤها أن الأشخاص الذين لديهم ميل أكبر للتفكير في المستقبل يميلون أيضًا إلى تجربة المزيد من هذا النوع الاستباقي من الحنين في كثير من الأحيان. كما أن الأشخاص الذين لديهم ميل للحنين الاستباقي يجدون صعوبة في الاستمتاع باللحظة الحالية، وينأون بأنفسهم عن تجربتها، حتى يشعروا بألم أقل عندما تنتهي. كما يمكن أن يكون لديهم ميل نحو الحزن والقلق.

تقول باتشو: "الحنين المبكر يمكن أن يجعل الوالدين يشعران بالحزن وهما يشاهدان طفلهما الصغير يلعب، لأننا نعلم أن تلك الأيام الأولى من البراءة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد عندما ينضج الطفل".

ومع ذلك، فإن الحنين الاستباقي ليس سيئًا تمامًا: ففي بعض الأحيان قد يشعر به الناس في الأيام الصعبة بحيث يسهل عليهم العيش في تلك اللحظات. وفي دراسة حديثة أخرى عن الحنين الاستباقي،ذكرت باتشو وزملاؤها منشور مدونة عثروا عليه في عام 2020، بعنوان: "الحنين إلى الإغلاق بسبب كوفيد-19: لقد كان وقتًا مخيفًا، لكنني سأفتقد اجتماعنا العائلي القسري".

في تلك الدراسة، ركز فريق باتشو على الحنين الاستباقي في التسويق والإعلان، على سبيل المثال الطريقة التي تذكرنا بها إعلانات شركة الصور كوداك بأن لحظات الحياة الصغيرة لا تبقى إلى الأبد، وتعد منتجاتها بإنقاذنا من البكاء على اللحظات الخاصة الضائعة. . ومن خلال تجاربهم، وجد الباحثون بالمثل أن الحنين الاستباقي يمكن أن يقلل من الاستمتاع والحالات المزاجية الإيجابية في المواقف الممتعة، ولكنه يمكن أن يزيد من الاستمتاع في المواقف غير السارة من خلال جعل اللحظة الحالية تبدو أكثر قيمة.

يقول باتشو: "في أوقات الشدة، يمكن للحنين الاستباقي أن يخفف من المشاعر السلبية ويثير المزيد من المشاعر الإيجابية" ويضيف: "على الرغم من ضغط الصعوبات، فإن الحنين الاستباقي يذكر الشخص كيف سيفتقد قيمة الجوانب الجيدة."

يعد نحت الحنين إلى الماضي أمرًا مهمًا لأن خيوط الحنين المختلفة تؤثر علينا بطرق متنوعة. يقول باتشو: "إن فهم الاختلافات بين أنواع الحنين يمكن أن يساعد الناس على تحقيق أقصى قدر من فوائد الحنين إلى الماضي وتجنب المخاطر المحتملة أو الجوانب السلبية".  عندما كانت تقضي بعض الوقت مع أحد أفراد الأسرة المرضى، وجدت نفسها تفتقد بالفعل اللحظات التي قضتها بينهما، ولكن بطريقة ما كانت تقدرها.

وتقول: "أرحب الآن بترقب الحنين لأنه يذكرني بتقدير اللحظات، الجيدة والسيئة على حد سواء، التي تشكل أهم شيء في الحياة".

بعد أن علمت تشيونغ بالحنين المتوقع، قالت إنها كانت متحمسة لبناء "بنك ذاكرة" أكثر ثراء مع عائلتها. وتقول: "أتطلع إلى الحصول على تجارب أكثر إيجابية وذات مغزى معهم لأتطلع إليها في المستقبل".

لقد كان الحنين، بأشكاله العديدة، رفيقنا منذ فترة طويلة. كما أشارت ورقة بحثية صدرت عام 1977 عن الحنين إلى الماضي:

لقد كانت تجربة الحنين إلى الماضي... موضوعًا رئيسيًا في الأسطورة والشعر؛ فالكتاب المقدس، وأوديسة هوميروس - الأدب في جميع العصور - يعطي صوتًا بليغًا لهذه الظاهرة الإنسانية؛ في الواقع، نادرًا ما يوجد شخص لم يختبر ذلك من قبل.

ولكن إذا لاحظت أن نوعًا من الحنين إلى أوقات أكثر سعادة تحرمك من الاستمتاع باللحظة الحالية، أو أن اللحظة الحالية مشوبة دائمًا بالحزن، لأنها ستختفي يومًا ما - تشير النتائج الجديدة إلى أنه قد يكون من المفيد التخلي عنها لما سيأتي.

يقول تشيونغ: "أريد أيضًا أن أحظى بتجارب عاطفية بطريقة طبيعية، وألا أطاردها في حد ذاتها". "أتصور أن [الحنين] يشبه مفارقة السعادة - فكلما سعيت لتحقيقها بشكل مباشر، قل شعورك بالسعادة."

***

........................

الكاتبة: شايلا لاف/ Shayla Love كاتبة في مجلة / سايكى (Psyche). وبالإضافة إلى ذلك ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك

 

أُثِيرَ مُنذ سنوات قضية شائكة الي مشيخة الأزهر الشريف .وهي "الموت السريري" لحالات  مرضية  في غيبوبة او نزيف في المخ أو موت جذع المخ.

وما زال قلبه ينبض....!! هل نرفع عنه الأجهزة ..؟ ما المستحب وما المكروه...؟ هل نحن نعذبه بإبقائه على الأجهزة  لفترات طويلة تحت الأجهزة ...؟ او بعض الأمراض المستعصية من الشفاء ومأساة المريض من الألم الشديد والصراخ ،وقد أثارت حالة من الجدل ،،هل يسمح الشرع  ويتخلص الطبيب برفع الأجهزة عن المريض ويفقد اخر انفاسة..؟ وفريق يعارض ذلك علي انه قتل للمريض ..!!

وقد أقر،،، [مجمع الفقه الإسلامي] رفع أجهزة الإنعاش وإيقافها متى تبين بالفحوصات الطبية المؤكدة من قبل المختصين .بأن هذا الشخص قد مات دِماغِيًّا ، فجاء في قراره المتعلق بذلك: المريض الذي رُكِّبت على جسمه أجهزة الإنعاش، يجوز رفعها، إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائيّاً، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أن التعطيل لا رجعة فيه، وإن كان "القلب والتنفس" لا يزالان يعملان آلياً بفعل الأجهزة المركبة...فإن ثبت موت جذع دماغ هذا المريض، فلا حرج في رفع أجهزة الإنعاش عنه، فإن موت جذع الدماغ هو الذي يترتب عليه الموت الدماغي،  وفي نفس السياق من أجمل الكُتب التي قرأتها مؤخرًا، كتاب: «مسألة موت وحياة»

تأملات عالم النفس الشهير "إرفين يالوم" في مرض زوجته "مارلين"{بالسرطان النقوي} وقرارها الأخير [بالموت الرحيم] على يد طبيب.

يتخلى {إرفين} عن هالته العلمية الرصينة ويكتب مثل عجوز بداخله قلب طفل مُحب، رجل في العقد الثامن ، قضى حياتة  مع زوجته أكثر من "خمسين عامًا" ويرتجف من مواجهة العالم بعدها بصفتة كاتب واديب وروائي مشهور ، تتوسله ليوافق على مُغادرتها الحياه،، ويتوسلها أن تبقى.،،

يُصارح إرفين ملايين القُراء حول العالم أنه يتوق (للإنتحار) معها، أن يموتا معًا على يد الطبيب ذاته، لكن أمانته العلمية تحرمه من ذلك، لقد ساعد كطبيب نفسي مئات الأزواج والزوجات على تخطي مأساة فقد الشريك، يقول في ذلك:

«سيكون إنهاء حياتي بمثابة خيانة لعملي معهم، ولعملنا مَعًا.

فقد ساعدتهم على أن يتخلصوا من آلامهم ومعاناتهم، وعندما أواجه ما عانوه، أختار أن أهرب من التزامي تجاههم. لا، لا يمكنني أن أفعل ذلك. إن مساعدة المرضى يقبع في جوهر حياتي : شيء لا يمكنني أن أنتهكه. لا أستطيع أن افعل ذلك، ولن أفعله.»يوافق  الزوج "إرفين" أخيرًا على وداع زوجته عندما تٌخبره أنه منحها كل شيء، منحها حياة تستحق العلامة الكاملة، أو على حد قول "زوربا" في رواية كازانتزاكيس: «لا تترك للموت إلا قلعة مُحترقة».

فهي تستقبل الموت مثل شُعلة أتممت إحتراقها وأضاءت حياته وحياتها، تشعر بالإمتلاء الكامل و الإمتنان الكامل لشريك منحها كل شيء، ورغم أنها لا تؤمن بالروحانيات إلا أنها ستُغادر العالم بقول القديس بولس:

(وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لدي محبة فأنا لست شيئًا)

بينما هي ملكت المحبة طوال حياتها، لذا هي ملكت كل شيء.

يُخبر إرفين زوجته بسماحه لها بالذهاب لكنه يستاء من أن قبره سيُجاورها فقط، يتمنى قبر يسعهما كما الفراش، تهمس له بلطف أخير أنها زارت كل مقابر الولايات المُتحدة الأمريكية، ولم تجد أبدًا تابوت يسع لشخصين.

يصف إرفين (قُبلته الأخيرة) لزوجته وراحته لإنعتاقها من الألم ولو كان سيحمله في وحدته فيما تبقى له حتى موته، لكنه سيفعل ما أجاده طوال أكثر من خمسين عامًا، سيحول الأمر كله لخبرة نفسية يُمررها بإيثار نبيل لقراؤه، سيحول مأساته وألمه الأخير لكتاب يصفه أنه ربما في لحظات كتابته هو كل ما يبقيه على قيد الحياة ويمنعه من تحطيم جهاز تنظيم ضربات القلب والذهاب لمارلين، لذلك ربما إمتنانًا لكل أثر صنعته روايات وكتب إرفين يالوم في نفسي أُتمم دائرة الأثر الجميل بقراءة كلماته. وتخيل الرحمة تسعه هو وزوجته ولكل مريض يتألم علي الكرة الارضية ،إن الرواية الحاضرا التي تبحث عن المجهول هي رواية اخلاقية!.

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

 

يعتقد المسيحيون ان السيد المسيح هو الأمين عليهم، هو حاميهم من الذنوب، هو حي باقٍ لا ينام ولا يموت، يقول السيد المسيح (ع)" تعالوا الي َ يا جميع المتعبين،من الحياة، أريحكم لتجدوا الراحة والنجاح في نفوسكم، أنجيل متى 28 "، لكن أتباعه يعتقدون انهم ليسوا بحاجة دائما الى الله (المسيح الباقي)، فالنجاح ليس بحاجة اليه ولا بدونه ولا حتى الراحة والفشل، فالفشل سبيله التراخي واختراق القانون.والراحة سبيلها العمل.فطريق النجاح هو الصدق والعدل والوفاء للرب والانسان وليست منية من أحدٍ،وهذه خصال انسانية يجب ان تتوفر فيك تلقائيا ايها المؤمن بالامين مَهما كانت ديانتك، ولا داعي لتُدخل الرب فيها، هنا ينتفي عندك التوسل والدعاء من اجل نيل الأصول، ويبقى الرب هو القدوة، ولا حاجة لرجال الدين، وتقول المسيحية ان الاعتماد على الدعاء يؤدي الى الفشل والكسل والاعتماد على الوهم حيث السقوط والموت الاكيد، لكنهم يؤمنون ان الرب لا ينام ولا يصيبه النعاس ابداً فهو الذي يرعاهم دون ان يرفعوا ايديهم اليه بالدعاء والتوسل بالقبول، نظرية في غاية الواقعية الصحيحة.

نعم، المسيحيون يؤمنون ان الكون وخالقه يسيران وفق قوانين السُنن الثابتة التي لا تتغير كما يقول القرآن الكريم:"لن تجد لسنة الله تبديلا،الاحزاب 62"، اذن، ما الجدوى من الدعاء وزيارة المراقد والوهمية منها؟ واللطم والبكاء على ميت مات قبل اكثر من 1400 سنة ولن يعود.وهو المقدر له دون تبديل وتغيير،؟ فلا زالت المسيحية تدعو للنظام والمحبة والحقوق، لا للوهم من مؤسسة الدين، فهل وجدت في بلدٍ مسيحي تفرقة بين الكاثوليكي والبروتستانتي في الحقوق، مستحيل، لماذا.؟لانهم يحتكمون بالقانون ويبقى الدين هو الرقيب، فالمذهب عندهم عقيدة رأي لا تفريق.

أما نحن المسلمون تصب علينا المصائب من السلطة والانسان الظالم ليل نهارونحن ندعو ونقول ربنا ارحمنا وخلصنا من الظالمين، وها نحن بعد أكثر من 1400 سنة ولن يستجب لنا القدر برفع ظلم الظالمين. فالى متى نبقى رافعين الأكف ننتظر رحمة رب العالمين، والصالحين؟ ولم يستجب لنا دعاء، فالدعاء فرية عند من لا يؤمنون بالقانون، انما العمل وعقيدة القانون هي المطلب الصحيح.

بينما نحن ندعو فلا يستجاب لنا وهم لا يدعون والحياة وفرة لهم كل ما يطلبون فأين الخلل؟، حتى اصبح المسلم يهرول من وراء الحاكم يستمد الامل، ولامجيب؟

الخلل، هم يطبقون السُنن بصحيح ونحن ندعومنها متكاسلين لا نفهم الحق والعدل الصحيح الا من تهريج رجل الدين، فهل ان دينهم يدعوللصلاح وديننا يدعو للهلاك والعدم، لا؟. الفرق بيننا وبينهم، هم رحماء بينهم بالقانون الذي يتساوى فيه الجميع وبلا رب يدعون، بينما نحن ندعو الرب ان يرحمنا ولا نؤمن بعدالة الله في القانون، الم يقل القرآن: "اعدلوا ولو كان ذا قربى، اذن علام َ تفرقون، بين العبيدي والموسوي في الحقوق، ان كنتم من الصادقين؟.

يقول يوسف وهو في سجنه مناديا صاحب السجن ": يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار،يوسف 39"، فكيف فسرت الاية عند المفسرين، وكيف فهمها المسلم في التطبيق؟

على المسلمين ان يفهموا ان الجهد لا يأتي من موضع الدعاء،كما ان الدعاء لا يشتغل في مكان الجهد، ولكن لابد منه في ظلمات فيها نوراًونصيباً من أمل، ابقوا ياقادة شيعة الفُرقة بين المسلمين على اللطم والدعاء والبكاء والنحيب والرادود يُجهلكم وانتم تلطمون، أملا في عودة المستحيل، مستحيل، فاذا كان الدعاء يقوم على السُنن،فالعقل له مكانة التكريم والاستجابة ليكون العلم والهدف والتسخير فمصدره السنن، لا الدعاء والعويل فثقافة الانسان يشكلها العقل والتفكيراليوم لا الوهم في عالم الظالمين الفاسدين.

اذن الدعاء ما هو الا بدعة من الفقهاء ورجال الدين، لتجهيل المسلم ووضعه في دائرة الأرتخاء النفسي والكسل الجسمي وانغلاقية الفكر في التفكير، فكلما زاد المقدس في فكرك زاد ت الانغلاقية في التفكير، وكسب المكاسب الباطلة من اموال الجهلة والمغفلين، كما في العتبات المقدسة، ولا علاقة له بالمراد منه ابداً، فمتى نصحو على الصحيح،؟ أمر تشجعه حكومات الفاسدين زيادة في التجهيل، وتعتقد المسيحية ان المسيح الانسان سيظهر ممجدا مطاعا في اخر الزمان. (يوم القيامة) بنص قرآني بلا احداث رهيبة، بل سينتهي بعودته ابليس ليظهر العرش العظيم حين تظهر معه الحالة الابدية، ليتحقق الخلاص النهائي للمؤمنين به دون عقاب، وهذه هي ابدية الخلاص من الذنوب، دون وعود وترهيب، وهذا هو اعلان الخلاص لكل انسان منهم دون تفريق.فهم يقدمون للانسان الواجب المراد الذي نادى به السيد المسيح ولا يظلون منتظرين العودة بلا امل في القريب.

ونحن ونظرية المهدي المنتظر الوهمية، الى اين،؟ النظرية لم تأت بنص مكين كما ذكر المسيح، بل مجرد وهم من مؤسسة الدين ولا نص فيها ابدا حتى من اهل البيت(ع)، أصحاب الشأن الكبير.

اذن نظريته مخترعة من رجال الدين لالهاء الناس بالاخرة وصدهم عن الدنيا ولكسبهم السلطة والمال دون تحقيق،كما هم في نهب المال العام اليوم دون حدود، بعد ان اعتقدوا انه ملك سائب لهم بلا قانون. نظرية مبنية على الوهم، ولا نص فيها ولا اثبات صحيح، فماذا سنحصد ممن ابتكر الوهم الذي.لا صحيح.

كتبنا فيها الكثير وبالتفصيل فمن يقرأ ومن يكتب والحاكم همه ايهام الواهمين.

ورغم ان المسيحية تدعي ان المسيح بن مريم قد صلب ومات ودفن وصعدت به الارادة الآلهية الى السماء، لكن القرآن ينفي ذلك،: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم،النساء 157". الفرق ان ما تدعية المسيحية جاء بنص يهودي قديم،وهم يدعون انه حي عند الله حسب نظرية التثليث، ففي كلتا الحالتين هو عرج الى السماء لتدعي فيه الابدية، فحققت لاتباعها الكثير في الحرية والحقوق وبنت لهم وطنا فاق اوطان الاخرين، وكلنا اليوم نعيش في ظل ما ابتكروا واخترعوا واوجدوا من دساتير وقوانين، رغم انهم انحرفوا عن جادة الصحيح حين ساهموا بدمار بلدان الاخرين في حروب سلطوا علينا فيها امعات الشعوب، فدمروا الانسان والقانون، لكن تطبيقا انهم ساهموا في الكثير.بينما نحن بقينا نفتش في أوهام مؤسسات الدين والادعية والاقاويل، ولا غير دون تحقيق.

ونحن نفتش ما جاء في الديانات التي نقلوها لنا من اساطير الآولين لنحوله الى تحقيق، حتى شكلت الجزء الكبير من اساسيات الفكر العربي المسلم بالتعاليم الدينية الوهمية التي اتخذت المنحى التعليمي والوعظي لا التطبيق، حتى استطاعت السيطرة على عقولنا، مستمدة قوتها من القوى الخفية في غياهب الجب الوهمية،متمثلة في الجنة والنار، والفرق بين الرجل والمرأة في الحقوق، واطاعة ولي الامر حتى لو كان ظالما وفاسداً،والخوف من عذابات القبر الوهمية،والغيبيات التي لا اول لها ولا اخر، والقرآن يقول: لا يعلم الغيب الا الله العظيم "لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء الأعراف 188"،

من هنا تلقفها المنهج المدرسي السلطوي، ليعلمها للصغاء والكبار حتى حَفَر في اذهانهم كل التخاريف. فتحولت الحقائق الى اوهام يصعب نزعها اليوم في ظل دولة الوهم واللاقانون، حتى أصبحت الاساطير اديان آلهية صبت في التشريع الديني المقدس عند الغالبية فكانت المذهبية الباطلة المخترعة من فقهاء السلطة ومارافقتها من تقاليد، تنخر في الصدور.

من هنا باتت تزرع فينا معتقد الموت والأخرة، هي المقصد كماجاء في النص المقدس: "الحياة الاخرة خير وابقى "ونسينا ان المقصود من النص هو الاستقامة في الحياة والاخرة هي الجزاء العادل للمؤمنين، فضعنا وضاع المجتمع في ظل حكومات تعتقد في الوهم دون القانون في حكم الأغلبية من اصحاب المعرفة والعرفان والمفضلين في السلطة والمال السائب لهم دون الاخرين، وما دروا ان المال لا يشتري المواطنين، فعملية العودة للصحيح باتت مستحيلة في ظل السيف وقوة السلطة الظالمة والتنفيذ دون وازعٍ من احساس انساني وضمير، لكن النهاية للحق ابداً، لذا سيفشلون، بعد ان اقرت الرسالة الانسانية بأنتهاء عصر الاحادية، ومجيء عصر الاجتهادية في التطبيق؟.

***

د. عبد الجبار العبيدي

وفي الصباح الساحر، قدمت لي صديقتي العزيزة "نور الهدي"؛ لتشاركني وجبة الإفطار عقب إيصالها لأبنائها للمدرسة، وكانت عيناها تقول لي: أريد أن استمع لرحلة فلسفية "، وأشاركك السفر عبر الأزمنة مع أعظم رواد الفكر والتنوير من الفلاسفة والمفكرين.

 - نور الهدى: اشتياق يا صديقتي لبدء رحلة لأهم القضايا الفكرية؛ فالحوار بلغة الأدب يحول الأفكار إلى سلسلة من التصورات الأدبية التي تنير الذهن وتشعل الشغف وتثير التساؤلات الجوهرية حول القضية المطروحة لي ولغيري من غير المتخصصين في الفلسفة.

-  ضحكت كثيرًا ثم قلت لها: أوضح لكِ عزيزتي أنني أفضل هذا الأسلوب الذي حث عليه دكتور "زكي نجيب محمود" فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة"؛ فقد كان أديبًا موسوعيًا يحاول مزج الفلسفة بالأدب، وأن يقدم خلاصة ذلك للناس ليكون قريبًا من أفهامهم. فقد نجح في تقديم أعسر الأفكار على الهضم العقلي للقارئ العربي في عبارات أدبية مشرقة، وفكّ أصعب مسائل الفلسفة وجعلها في متناول قارئ الصحيفة اليومية، واستطاع بكتاباته أن يخرج الفلسفة من بطون الكتب وأروقة المعاهد والجامعات لتؤدي دورها في الحياة. (1) فهيا لنذهب معًا اليوم إلى أداء واجب العزاء في زوجة حجا.

- نور الهدى: أتقصدين جحا الذي في مخيلتي؟ تلك الشخصية المذكورة في التراث الشعبي والأدب العربي بالعديد من الثقافات القديمة فهو شخصية خيالية، قد كتب العديد من اللمؤلفين والكتاب عنه، فمثلا كتب "أبو الغصن دُجين الفزاري" في الأدب الأموي عنه، وفي الأدب التركي ألف الشيخ "نصر الدين خوجة الرومي" عنه قصصًا كثيرة، ولكن لماذا العزاء في زوجة جحا؟ وتُرَى ماذا ينتظرنا في هذا العزاء؟(2)

-  مهلًا يا "نور" الإجابة على أسئلتك بداخل الرحلة.

قد وصلنا إلى عزاء زوجة "جحا" وكان هناك لفيف من الفلاسفة؛ لأداء واجب العزاء معنا من حقب متعددة ك"سقراط" و"أوغسطين" و"روسو" و"نيتشة" اختلفوا عبر الأزمنة والحقب إلا أنهم اتفقوا في رؤيتهم للمرأة. وقد استقبلنا "حجا" وهو يشعر بالحزن والأسى على فقدان زوجته أم حماره - لا أعلم-  ولكنه كان حزينًا ووجه حديثه للحضور.

- جحا: أستعجب من أمر الجيران يقولون لي: قد ماتت زوجتك قبل حمارك الذي لحقها بيوم ولم تحزن عليها مثل هذا الحزن الذي حزنته على موت الحمـار أهذا يعقل يا رجل؟!، ولكنني أتساءل لمَ هذا التعجب والاندهاش؟ فعندما ماتت زوجتي "ريما" جميع الحضور واسوني على فقدانها وأوصوني بعدم الحزن على فراقها، وعاهدوني أنهم سيرشحون لي كثيرًا من النساء أفضل منها لاختار واحدة منهن كزوجة، ولكن عندما مات حماري لم يواسيني أحد منهم، ولذلك حزنت عليه حزنًا شديدًا؛ فلا يوجد لحماري بديل؛ لذلك اشتد حزني عليه.(3)

 - وهنا تحدث "سقراط" "لجحا" ولماذا الحزن والأسى يا صاحبي إَنني دومًا أنصح تلامذتي قائلًا: "تزوجوا؛ فإما إن تكونوا سعداء، أو تصبحوا فلاسفة كأستاذكم؛ "فالزوجة النكدية تجعل مننا مبدعين ومؤثرين.(4) وإنني أراك من أكثر الشخصيات تأثيرًا في عديد من العصور؛ لقصصك المتداولة عن زوجتك النكدية "ريما". تزوج بأخرى فإما أن تعيش سعيدًا أو تصبح حكيمًا. وإذا بسيدة كانت تجلس بجواري تستمع لهذه الكلمات من "سقراط"، يبدو على ملامح وجهها الغضب الذي يشبه السماء الملبدة بالغيوم السوداء. تمتمت بكلمات بصوت خافت حزين (لا فائدة)، وأخذ قلبي يحدثني أنها زوجة "سقراط".

- وهنا دخل علينا رجل ذو جبين عريض ولحية وشعر رمادي اللون" أنه القديس "أوغسطين" جاء ليقدم النصح قائلا: عذرًا أصدقائي إنه من الأفضل لك يا "جحا" ألا تتزوج، فالابتعاد عن صنف النساء أفضل لنا، فإذا أراد الرجل منا أن يرضي ربه عليه أن يتجنب المرأة؛ لأنه لا يستطيع أن يجمع بين رضا ربه ورضا زوجته (5). وإذا بقلبي يغني باكيا متسائلا أيعقل أن تكون هذه وضع المرأة في العصور الوسطى لدي آباء الكنيسة، فلماذا لم يسِر على نهج المسيح عليه السلام؟! وفضل أن يحصد صنيعة التراث اليوناني والروماني.

- وهنا أخذ الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" يوجه حديثه لحجا، ولكنني يا "جحا" أخالف "أوغسطين" . وجدت شعاع أمل يهمس بداخل قلبي أننا سنجد نصرة للمرأة مع فيلسوف الحرية والمساواة والديمقراطية

-  روسو: تزوج يا أخي فقد خلقت المرأة فقط لإمتاعنا بمفاتنها حتى تكسب رضانا نحن الرجال. تزوج حتى تجد مَنْ ينظف ويطبخ ويكنس فجميعنا يا معشر الرجال نحتاج إليهن في تدبير شئون المنزل فقط. وعلى الجميع أن يدرك أن فكرة عدم المساواة بين الرجال والنساء تعد أمرًا طبيعيًا ؛ لأن الرجال إيجابيون أقوياء، أما النساء فهن الجنس السلبي والضعيف. فوفقًا لقانون الطبيعة يا "جحا" النساء تحت رحمتنا وولايتنا، فلم لا تتزوج؟ (6) ترامت كلماته المرتدية الثوب اليوناني والروماني البعيد بألم شديد في قلبي.

- نور الهدى: أشعر بحالة من الاندهاش لما أرى وأسمع من آرائهم عن المرأة، أهكذا يكون الحزن على فقدان رفيقة الدرب؟!

-  نعم صديقتي، ففي واقع الأمر إِنْ كان من السهل وجود البديل للزوجة ليحل محلها بأخرى فلم الحزن والأسى عليها؟. للأسف يا "نور" فهذه كانت الصورة النمطية للمرأة، إنها مصدر للنكد والغم والتعاسة والشرور والآثام والخطيئة في عديد من المجتمعات الغربية والعربية منذ القدم إلى وقتنا الحالي. ويرجع ذلك إلى مساهمة العديد من الفلاسفة والمفكرين في ترسيخ تلك الصورة في الأذهان، إما بسبب تجاربهم الشخصية السيئة مع محبوباتهم أو زوجاتهم، وللأسف انعكست تلك التجارب السيئة على تكوين آرائهم العامة عن المرأة، أو بسبب تأثر آرائهم بطبيعة الثقافة والعادات السائدة في مجتمعاتهم. فقد كانت المرأة في المجتمع اليوناني تعيش حالة من الاستعباد، فدورها قاصر على رعاية زوجها وأبنائها فقط. فالرجال هم السادة، أما النساء تابعات خاضعات لهم بحكم الطبيعة. وكذلك كانت نظرة العصور الوسطى للمرأة أنها ابنة "حواء" التي أغوت "آدم"، وكانت السبب في خروجه من الجنة، فهي رمز للخطيئة ومن الأفضل الابتعاد عنها. وقد استمر الوضع السلبي للمرأة والحط من مكانتها الاجتماعية لدي بعض من فلاسفة العصر الحديث.

ومما هو معروف للجميع أن الإسلام عندما جاء منح المرأة حقوقها فقد حارب في البداية عادة وأد البنات التي انتشرت في عهد الجاهلية، وأكد على حق المرأة في الميراث، والموافقة على عقد الزواج، ومنحها حرية التفكير والعمل، وبذلك حصلت المرأة على مكانة متميزة في المجالين الخاص والعام، ولكن للأسف يا صديقتي إِنْ بُعْدَ عالمنا الإسلامي اليوم عن كتاب الله وسنة حبيبه المصطفى صلَّ الله عليه وسلم أدى إلى ترسيخ تلك الصورة السلبية عن المرأة بسبب التأثر بالعادات والأعراف والثقافة ...إلخ، فنحن نحتاج....... وهنا قاطعتني في الحديث "نور الهدى"

 - نور الهدى: عذرًا على مقاطعتي لحديثك؛ ولكن من هذا الرجل حامل السوط؟ -  أنه "نيتشه" قادم لتقديم المواساة والنصح لأصدقائه من الرجال.

 - نيتشة: صديقي "جحا" قبل أن تقدم على الزواج أهدى إليك هذا السوط؛ فإذا ذهب أحدنا إلى النساء، فلا ينسي أخذ السوط معه"؛ حتى نستطيع التعايش معهن، وأخذ يؤكد للجميع أنه ينبغي أن ينشأ الرجال للحرب، والنساء لاستراحة المحاربين.(7)

نور الهدى: أعتقد بعد السوط علينا إنهاء هذه الرحلة.

- ولكن يا صديقتي هناك وفد آخر قادم من رواد الفلسفة الغربية والعربية ك"أفلاطون" و"أرسطو" و"كانط" و"الغزالي" و"ابن سينا، ألا تريدين أن تستمعي لهم في مواساتهم لجحا في موت زوجته؟

- نور الهدى: يكفى هذا فلن تقدم أفكارهم إلا صورة سلبية عن المرأة، فلنستأذن ونرحل من هنا ..  ستنتهي رحلتنا بعد تقديم واجب العزاء في نسوة أصبحن أمواتاً في نظر أزواجهن، ولكن صديقتي الصدوقة ألا ترافقيني في رحلتي الجديدة؟

- نور الهدى: بالطبع ولكن إلى أين؟

 - فلننتظر يا "نور" لنعرف عندما يحين موعد الرحلة القادمة.

***

د. آمال طرزان

.......................

 قائمة المراجع  1- https://ar.wikipedia.org/wiki /

2-  https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D8%AD%D8%A7 In:24/6/2023 , 9:50PM. 3

3-  عائشة الحوامدة: قصة جحا وموت حماره وزوجته موقع إي عربي ،٢٠ فبراير ٢٠٢٣ See: https://e3arabi.com/literature/ , In:25/6/2023 ,11:23-

4-  مصطفى غالب: سقراط في سبيل موسوعة فلسفية، ط1، دار مكتبة الهلال، بيروت،1989م، ص 11.

5-  أغسطينيوس: اعترافات القديس أغسطينيوس، ط4، ترجمة الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق، بيروت، 1991م، ص 30. 6

6-  جان جاك روسو: إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، ط1، نقله إلى العربية نظمي لوقا، تقديم أحمد زكى محمد، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1958م، ص235-  -  236- 238.

7-  فريدريش نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ط1، ترجمة على مصباح، منشورات الجمل، ألمانيا، 2007م، ص131-  133.

يُقال للمرأةِ في لسانِ العربِ: إِنَّها لَامْرُؤُ صِدْقٍ كَالرَّجلِ، وتأنيث امرِئٍ مَرأَة، والكلمةُ مُتوالدة ممّا فيها خِصال الإنسانية التّي هي المُرُوءَة، وفي مَركِب الحياة والبيئة والثقافة سُلِبت هذا المعنى النَّـيِّر. أجل، نُزِع عنها أَنّها كِيان مُكتمِل فيما ينطوي عليه من ذات وفِكر، وأنّها في الحضارةِ نوعٌ متفرّد في خصائص وجوده، ولا أريد هنا خصيصة الأنثى فقط.

وهي أنماطٌ لدى الأمم والثقافات، وإذا انخَرَمت حياتُها، وشُوِّه جوهرُها، وصِيغَت صورتُها بما تشتركُ فيه اللّواتي ينطبقُ عليهن نعتُ النّسوةِ، ممن أظلّتهن البيئات الجامدة، إذا وقعَ ذلك كلّه فبمداعٍ أوجدها مباينُها الرجل، وألزمَها بها أبوها وأخوها وقرينها. ثم أرادَ لها أن تستقيم في شخصيتها، وأن تبثق جيلًا، أو تنشِّئ إنسانًا فردًا ما يملك إلا أن يُذاب في الجماعة. هي منذ ولادتها إلى أن يحين أجلها مجازٌ من الأمر والنهي والطاعة حتّى تلك التي يُخيّل إليكَ وإلى نفسها أنّها مثقّفة أو أكاديمية أو أديبة، في مدارج حياتِها بلغت من الوعي ما أيقنَها أنّ شيئًا من الحريةِ مشوبًا بالاستقامةِ وبمحضِ الفكر والتسليم للعقلِ يؤول بها إلى وجودها الخاص، لكنّ ما بَلَغَتْهُ ليس راسخًا في نفسِها ولا جذرًا ثابتًا إزاء ما غُرِس فيها من خوفٍ ورَيبٍ، هما ثعبانٌ مبين برأتْهُ يدُ المجتمع المغموسةُ في تاريخ وثقافة باليينِ، ولا مندوحة لها من أن يلتفّ هذا الثعبان على كيانها كلّه، مهما سعتْ في مراتب الوعي العاليات، تراها وقد حازت في الجامعة أرفع درجة علميّة، وتخصّصت بالعلوم الصَّرفة، واشتغلت بمخابرها، ويومَ أرادت أن تسكن في شِقّة ببغداد بمفردها صغت إلى صوتِ أبيها، وارتَدّت إلى جَلَفِ بيئتها مذعنةً تردد أن استقلالها بسكنٍ بعيدٍ عن أهلها مجلبة للعار على أهلها بعد أن حفظت شرفهم!

ومثيلتها التي تناظرها في البيئة المشدودة إلى ما لم يُوجد في الدين أصلًا، بعد أن تعمل وتأبى قِوامة أبيها عليها تجدُها بباب هَرِمَة تقرأ لها طالَعها إذا ما فيه زوجٌ صالِحٌ يملكُ التصرّف بها، ويسدّ فراغ قلبها، ويُشعرها جسدها، ويُتِمَّ سَورةَ دِينها!

وامرأةٌ أخرى طوّفَتْ في غير تَيْنِكَ البيئتينِ، وحلّت بلدًا نزعَ ما بينه وبين الموروث كلّ سبب، فهي طليقة تفعل ما أرادت المدنيّةُ لها، وتُلبّي مُتع الحياة، وحين ردّتها الصُّروف إلى كِنِّها الأوّل، انكفأت على مكتبتها وصارت إذ تخرجُ من بيتها تتلفّعُ بحجابينِ، أحدهما أرضى ذوق الشارع، وثانيهما أقصى الأول كيلا تنصَّل من تقاليد الجامعة التي تدعو طالباتِها إليها!

وصديقة هذه تلك التي تمرّدت بعد أن ساقها زوجُها بشمالهِ إلى غرفة النوم، وضربَها بيمينه بحزامهِ جزاء قميص ما تمَّ كَيُّهُ، وجزاء نظرة عابرة من رجل ما في السوق، وقد خانته مع غيره متذرعة بطلاق روحها عنه، ثم رجعت إليه تفكّر بأَلْسِنةِ الناس التي تبترُ شرفَها وسمعةَ أولادِها!

أُولاءِ النساء كيانٌ يتوق إلى أن يكون ذاته، وهنَّ طاقة يأسٍ وعجزٍ عن أن يتحققَ شيءٌ من هذه الذات، وتفكيرهن ما ينفكّ يقودُهن ضدّ أنفسهن كآليةٍ تقيهن الانزلاقَ في حتميةِ المَشاق.

ـ وَهل مِن مزيد عن تلك في الجامعة، وما هي برجلٍ، ولا امرأة، إنّما تشبَّهَت بِهما، وصارت نمطًا وَضَعَتْهُ فَوضى هذه البلادِ وما تعلّقَ بها؟!

***

د. سحر شبر

 

عندما يتم الحديث عن الخصوصية الثقافية المغربية يراعى في ذلك ما يعيشه اليوم هذا القطر الشمال الإفريقي من تفاعل قوي يتخذ من حين لآخر أشكال الصراعات الاجتماعية الجدلية لتخفيف ضغط الثقافة التقليدية على مسار بناء الدولة العصرية، وفك ما ترتب ويترتب عنها من أغلال مقوضة للإرادات الحرة، وبالتالي تحرير الأفراد والجماعات من المكبلات الثقافية والنفسية التي لا زالت متسلطة على الجرأة في التفكير لبناء حداثة مغربية بامتياز.

المغرب يتوفر اليوم على إرادة سياسية معلنة رسميا لربح الوقت ومواجهة أسباب هدره خدمة للمستقبل. في نفس الآن، هذا الامتياز لا يكفي ما دام الواقع لم يتخلص من التأثيرات السلبية (ينعتها رواد الفكر والسياسة بالخطيرة) الناتجة عن استمرار حضور الشيخ والليبرالي والتقني في منطق الفعل العمومي برهاناته الصعبة. التعليم في البلاد في سنة 2023 عاش مخاضا يتطلب الدراسة والتأمل، وبقي أفق بناء نسق حداثي في التربية والتعليم والإعلام والثقافة بعيد التحقق إلى حد ما. إن استمرار اختلال العلاقة في العقدين الأخيرين ما بين برامج الحكومات المغربية المتتالية والمشاريع الفكرية بشقيها التاريخي والفلسفي ينذر بخطورة التناقضات المعاكسة لطبيعة متطلبات السياسة المعبر عنها رسميا من طرف المؤسسات العليا للوطن.

وأد البداوة والقضاء عليها ترابيا يجب أن يشكل حلما مشتركا بين الأسرة رجال التربية والتعليم والمؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة بهذا البلد الصاعد. في هذه النقطة بالذات، دعا الدكتور عبد العروي في مشروعه الفكري إلى تبني الماركسية الموضوعية. المغرب بكيانه التاريخي لم ولن يستجيب لضغوطات معتنقي النماذج الفكرية الغربية كأساس للتحديث (التقليد والتبعية). التفاعل التاريخي مع الموروث التراثي يتطلب اعتماد المنهج العلمي الماركسي. لقد شهد التاريخ فشل مفهوم القومية العربية المنبثق عما ترتب عن التعاطي مع التطورات التاريخية التي عرفها الشرق السوفيتي والصيني في القرن العشرين.

تحقق استقلال الدول العربية وغابت استراتيجيات النماء وفرض الذات بمقومات وتحديات الحاضر والمستقبل. استمرت عربيا البداوة ما بعد مجيء الإسلام. عجزت الاجتهادات الدينية في مساعيها للنيل منها بالرغم من ضغوطات التحديات المستقبلية. لقد أسهب ابن خلدون في الحديث عن البداوة وعواقبها القاتلة، واسترسل المفكرون، خصوصا المغاربة، بنفس المنطق في تشريحها والوقوف على مآسيها التي لا تحتمل. لقد أبرزوا بالحجج والبراهين الدامغة خطورة استمرار تقابل البداوة العربية وإنجازات التحضر والحضارة والعمران غربيا. إنهم يمتعضون بتحسر مما ترتب عن هذا التقابل في مجال الثقافة والإنتاج وتشكل الرأي العام. انبثق عن المجتمع المغربي تياران سياسيان كبيران، الأول منغلق خدمة لمصلحة رواده ومريديه، والثاني تابع منبهر بثقافة الآخر نافيا لذاته التاريخية. بالموازاة، العالم العربي بقي مستسلما لضغوط الماضي وغارقا في تقاليده البدوية إلى درجة عم اليوم الحديث عن إسلام تركي عثماني، وإسلام عربي سني، وإسلام فارسي إيراني ومتاهات صراعات الأسياد (رجال الدين) والعبيد (الجماهير) بدون زعامات قادرة على تجديد السياسة والفكر ومقومات حياة الشعوب.

التبعية للآخر بشقيها الظاهر والخفي في مشروع العروي آفة لا يطيقها الوطن العربي بشكل عام والمغربي بشكل خاص. إنها لا تعني فقط عدم الاستقلال والاستغلال بل تعني كذلك تعميق التأخر التاريخي. إذا كان مشروع كتابة تاريخ قطر واحد يتطلب مساهمة عشرات المتخصصين في مختلف مشارب المعرفة، فإن العروي أبهر العالم لوحده عندما أقدم على إصدار كتابه مجمل تاريخ المغرب (1 و2) بمنهج علمي صرف تناول فيه بالدقة المتناهية تفاصيل تاريخ الوقائع المغاربية والبنية التركيبية الاجتماعية للمغرب الكبير.

لإبراز التخبط والخلط الذي لازال العرب غارقين فيه، لم يجد العروي من سبيل لتنوير العقول سوى الاعتكاف على تحديد عدة مفاهيم أساسية خصص لكل منها كتابا في إطار سلسلسة متكاملة، أغناها بمنتوجات أدبية، آملا أن يتحول المغرب إلى قاطرة لقيادة النهضة العربية والإفريقية (مفهوم الدولة، مفهوم الحرية، الأدلوجة العربية، العقل، بين الفلسفة والتاريخ، ...).

وعليه، يمكن القول أن الملكية بالمغرب الأقصى قد راكمت ما يكفي من مقومات الحداثة في السياسة والدين لقيادة التغيير الاجتماعي. لقد تملكت القدرة على العمل لتقليص الهوة بين ما عرف قديما "الأسياد والعبيد". المغرب الأقصى هو البلد العربي المغاربي الأقرب إلى تحقيق الاعتراف بوطنية الفرد المغربي المرتبطة بخيرات بلاده. الصراع الهيجيلي في هذا الشأن ليس عيبا ولا يجب السماح بتتويجه في زمن التقاطبات السياسية الكونية الحالية بالكلمة العليا للسلفي الغارق في ماضيه. مفهوم الحرية الذي يرتضيه العروي للمغاربة يتجاوز تمثلات السلفي والليبرالي والتقني.

لقد قضى العروي حياته معتكفا في فضاءاته الخاصة لصبر أغوار إشكالية الحداثة مغربيا وعربيا. أبرز نزعات الليبرالية الغربية وكيف أنجبت من رحمها الحركات الامبريالية، وكيف تعمدت تهميش الشرق بحضاراته الأوراسية والصينية والهندية والفارسية. المشروع الغربي بمعالمه في القرن الثامن عشر عند الفيلسوف كانط تناول العقلانية والنقد والتنوير كمشروع غربي. لم يهتم قط بالعقل العربي. إنه المعطى الذي جعل العروي يمتعض من استمرار سيطرة البداوة عربيا بالرغم من غزارة المشاريع النهضوية الفكرية في المنطقة، منها الداعية للقطيعة المنهجية الكبرى (العروي)، ومنها الداعية للقطيعة الوسطى (الجابري وأركون رحمهما الله). تأسف لاستمرار حماية البداوة سياسيا بقيادات سلفية متخاصمة مع العلم والتكنولوجيا وتربية الأجيال منذ نعومة أظافرهم على الدرابة اليدوية والعقلية المنتجة للمادة. انتقد الماركسية التقليدية مبكرا مبرزا نواقصها وتناقضاتها. توقع فشل القومية العربية وانتقد منطق اعتناقها للشيوعية بعيدا عن الدلالات العميقة للفكر الماركسي. الدينامية في تأويل فكر كارل ماركس تعتبر اليوم بالنسبة للعروي أساس التحولات في العالم.

المغرب والمشرق العربي بالنسبة له قريبان أكثر من نمط الإنتاج الأسيوي المناهض للنمط الرأسمالي. بدون الماركسية، يقول العروي، سنظل تلاميذ بلا نباهة في عالم شيد بجوارنا نستلذ به ولا نتوصل إلى نواميسه. العار كل العار أن تستمر البداوة في تسلطها على مصائرنا. جاء الاسلام لمواجهة البداوة، فتقوت هذه الأخيرة وجعلت العالم الإسلامي يختلف حول الإسلام. المغرب بلد مؤهل للتملص من براثن الفكرين السلفي بهيمنته الواهية والرأسمالي بمصالحة المتوحشة. الماركسية التي يدعو إليها العروي، بمعانيها الاجتماعية وأسسها لإعادة تنظيم المجتمعات، تحمل كل فرص المرور إلى الحداثة بذات تاريخية واعية بمخاطر السلفية وأنانية  النزعة الوجودية التي كانت وراء اعتناق فكرة القومية العربية. يعتبر المنهج الماركسي الموضوعي بالنسبة لدول العالمين العربي والمغاربي الفضاء العلمي الأقدر لخلق نمط علاقات دولية مع الأسياد الجدد وإعلان مرور الوطنيات القطرية إلى درجة السيد.

***

الحسين بوخرطة

مهندس إحصائي ومهيئ معماري

يستصعب بعض الطلبة درس الاستدلال متعذرين بدقته وتعقيده ظانينَ أنَّه ترفٌ فكريٌّ لا فائدة منهن يستلذ به راغبوه ويأنس به محبوهن ناسينَ غفلةً أنَّ ساسة البلاد والعباد لا ينفكون  في  خطاباتهم عن الاستدلال أسلوباً للاقناع وطريقة لكسب تأدية العامة من الناس بغض النظر عن صدق استدلالاتهم أو منطقيتها ومقبوليتها العقلية. فالعهدُ قريب والأثر لمّا يُمحَ، والناخبون لم ينفضوا بعدُ غبارَ انتخابات مجالس المحافظاتنإذ رأينا كيف علت أصوات المرشحين مستدلّينَ على أهليتهم أو ناقضينَ كلام غيرهم سواء من كان يحتج على صحة المشاركة فيها أو من يطعن في أصلها وضرورتها. فكلُّ طرف منهم يمارس الاستدلالنويرى أنَّه عبد الدليل أين ما مال يميل.

ومادام الساسة لا يبرحون عن ممارسة الاستدلال ويتفنون في توظيف مسالكه  واتباع أساليبه لصناعة القرارات التي تحكم الدولة وتلزم المجتمع السير في طريق معينن فهذا يدل على أنَّ العقل العاميّ  يحكمه الاستدلالُ ويسوسه الجدلُ وتؤثر فيه المناظرات والمطارحات الخطابية إلا أنَّه عقلٌ غير محصن فهو أرض رخوة وتربة هشة، إذ تفوت عليه المغالطات التي يستعلمها بعض الساسة ويغفل عن الاوهام التي يصنعونها والادعاءات التي يقولونها، فنرى من الناس من يعتقد بصحة استدلال سائس معين وكذب الآخر، ويُخيّل له أحقية سياسي ثالث وبطلان من ينازعهن وهذا الاعتقاد أو التصور لايستند الى أُسس علميةنو مقبولات عقلية.

ومن ثم يتوجب على طلبتنا العناية بالاستدلال وقواعد الجدل والمناظرة ليكسبهم تفكيراً ناقداً وعقلاً فاحصاً ليتحصنوا به من زخرف القول وبهرج الخطاب وزينة الكلام ويكونوا من ذوي الوعي والإدراك، لا يقبلون كل ما يقال ولا يصدقون كل ما يسمعون. ويتحملون أمانة تحرير العقول بتحطيم أغلالها وفكها من قيودها وتمزيق الحجب الساترة للحقيقة عن طالبيها وإنارة الطريق أمام السالكين.

***

أ. د. علي جاسب عبد الله

مقدمة: يحاول المقال أن يعرف القارئ العربي على هذه الحركة، متى ظهرت ومن هو مؤسسها، وهل أنها حركة سياسية؛ ام طائفة دينية جديدة؟.

ظهرت حركة التحول العالمي1 World Transformation Movement  في بداية العقد الثامن من القرن الماضي، وهي الواجهة الإعلامية لطرح وشرح نظرية العالم الأحيائي  جيرمي غريفث  في  الحالة البشرية The Human Condition.

هذه التساؤلات تقودنا الى إلقاء الضوء على الحالة البشرية؛ جوهر نظريته التي كرس حياته لدراستها؛ حتى توصل لفهم التناقضات الخطيرة التي ترقى لحالة المرض النفسي، فهو يتسائل لماذا نحن الكائنات البشرية العاقلة والذكية للغاية، والتي يفترض فيها ان تتصرف وفق تلك المزايا، التي تنفرد بها، لماذا نتصرف بلا رحمة وبتنافس وأنانية، لدرجة أن حياتنا أصبحت لا تطاق، ونكاد ان ندمر كوكبنا الأرضي.

يواصل العالم البايولوجي جيرمي غريفث تساؤلاته؛ هل نحن نوع  أو جنس فيه عيب ونقص، كائنات لا قيمة لها، أم نحن الأبطال المطلقون الحقيقيون لملحمة الحياة على الأرض.

وحيث أن جميع المشاكل على الارض، بإستثناء الكوارث الطبيبعية سببها البشر، وهي ناجمة عن الحالة الإنسانية.

لقد كرس جيرمي غريفيث حياته لدراستها، وتوصل لفهم المشكلة الأساسية، يقول: (لقد تمكن العلم أخيرا من شرح وفهم اسبابها وكيفية علاجها).

بعد هذه المقدمة التي لابد منها للدخول لموضوع المقال، الخص بإيجاز الشرح الذي وضحه غريفث عن الحالة البشرية كما ورد بالتفصيل في كتابه: الحرية (FREEDOM (نهاية الحالة البشرية)، وهو المرجع الأول لنظريته، والذي نال الثناء نخبة من العلماء أخص منهم بالذكر البروفيسور هاري بروسن رئيس الجمعية الكندية سابقا للطب النفسي، وستيفن هوكينج وهو من ابرز علماء الفيزياء النظرية وعلم الكون على مستوى العالم. حتى ان كتابه سُمي كتاب الكتب، او الكتاب الذي ينقذ البشرية، كما مكتوب في اعلى الغلاف الخلفي للكتاب.

ينتقد عالم الأحياء جيرمي غريفيث العلم الميكانيكي2 فيقول: (لقد بذل هذا العلم جهودا خطيرة للغاية لتجنب اي تحليل نزيه وصادق للحالة البشرية، بمعنى آخر أنه لم يعترف بأن هناك مشكلة حقيقية؛ او نزاع بين الغرائز الفطرية والعقل).

من الواضح كما يعتقد جيرمي غريفيث؛ ان ظهورعقلنا الواعي قد إنضبط بوجود غرائزنا الإيثارية، وبذلك تسبب أيضا بحالتنا المضطربة؛ التي يسميها جيرمي غريفث الحالة البشرية، اي (الغريزة الفطرية مقابل العقل)، وهنا يجب الإشارة الى انه يعتقد ان غرائز الإنسان كلها خيرة، وإيثارية.

ينتقد غريفيث عالم الأحياء الأمريكي الشهير أدوارد  أو ولسون3، ويفند نظريته بـ (الاختيار متعدد المستويات) أي تفسيره غير النفسي للحالة البشرية المضطربة، باعتقاده أنها ناتجه عن (غريزة مقابل غريزة) أي (غرائز خيرة تعارضها آخرى غير خيرة) وبذلك تأكيد على ثنائية الخير والشر.

العلم الميكانيكي لا يهتم او يحاول حتى  مواجهة الحالة البشرية الفاسدة وحلها على الإطلاق، ومع ذلك يوصف ولسون بشكل مبالغ فيه؛ بأنه أعظم عالم احياء في العالم، والوريث الحي3 لدارون.

حاول ولسون يائسا تجنب حالة انسانية غير آمنة للغاية ومضطربة نفسيا.

مقابل  ذلك اقترح حالة فكرية (الاختيار متعدد المستويات) بالإضافة للغرائز التنافسية المفترضة؛ والبقاء للأصلح، يقول يجب إعادة إنتاج جيناتك الخاصة، والغرائز الأنانية والشريرة، وعلى مستوى آخر؛ فأننا نحن البشر لدينا أيضا بعض الغرائز التعاونية  الأخلاقية والجيدة.

فقدت فكرته مصداقيتها تماما كنظرية قابلة للتطبيق كـ (اختيار المجموعة) وهكذا يقول ويلسون، تم أنشاء معضلة الخير والشر عن طريق الأختيار متعدد المستويات، أن رفض ويلسون الإعتقاد أن الأضطراب النفسي الأشبة بالذهان الذي نتج عن الصدام الذي دبَّ بين الغزائز الفطرية للأنسان ونمو الوعي (الأدراك) كنتيجة لتطور الإنسان؛ هو سبب المشكلة للحالة البشرية، ويعتقد أنها ليست أكثر من غريزتين مختلفتين متعارضتين، وهو تفسير غير أمين بيولوجيا تماما للطبيعة البشرية، بل وأنه شرير حقا، ليتجنب الحالة البشرية بكل ظلامها وذهانها المتفاقم الذي يسيطر على العالم، ومنع التفسيرالحقيقي ومعالجة الذهان الكامن داخل الأنسان (الناتج عن  قلق عميق للغاية؛ وعدم يقين وعدم معرفة) وحله؛ اي (الغريزة مقابل العقل).

إن عدم القدرة على تفسير ما يسمى بـ (السقوط من النعمة) لجنسنا  البشري، من حالة البراءة الأصلية الى حالتنا البشرية الفاسدة والغاضبة والأنانية والمغتربة؛ يعني ذلك الإعتراف بأن جنسنا البشري عاش ذات مرة في حالة تعاونية ومحببة.

يرى جيرمي غريفيث أنه بفهمه للحالة البشرية؛ قد توصل لحل ما ينتج عنها من معاناة أنسانية منذ مليوني سنة والى الآن، وبرأيه أنها السبب للحروب والكراهية والحسد والجشع، ومركزية ألأنا المفرطة..

***

صالح البياتي

.......................

هامش

* الرجاء من القارئ الكريم متابعة الموضوع في مقالات لاحقة.

1- منذ تخرجي من كلية الآداب جامعة بغداد، ونيلي درجة البكالوريوس  بعلم الإجتماع في العام الدراسي 1963، لم اكتب مقالا علميا، كنت ولا أزال اهتم بالأدب، نثرا وشعرا، قصة قصيرة ورواية، وهذا المقال فكرت بكتابته وقتا طويلا، جمعت مادته من مقالات تصلني على بريدي الألكتروني، من حركة التحول العالمي، ومؤسسها عالم الأحياء الأسترالي Jeremy Grifith، مؤلف كتاب الحرية Freedom، وهو مؤلفه الاساسي الذي عرض فيه نظريته عن الحالة البشرية التي هي  محور مقالتي The Human Condition

2- اسس غريفيث وزميله تيم ماك ارتني وهو متسلق جبال مشهور وآخرون غيرهما، منظمة سن الرشد الأنساني Adulthood Humanities ، وأصبحت منظمة خيرية مسجلة في ولاية نيو ساوث ويلز في عام 1990، وتغير اسمها في عام 2009 الى حركة التحول العالمي، ولها مراكز عديدة في عدد من الدول بإستثناء اي دولة عربية،  وقد كرس غريفيث حايته العلمية منذ مطلع الثمانيات  لتطوير الحالة البشرية، وتعزيز فهمها

(مقتبس من وكيبيديا عربي)

3- هو عالم الأحياء الشهير الأمريكي (أدوارد أو ويلسن  1929 – 2021)، أبرز العلماء الميكانيكيين على وجه الخصوص، في نظريته: (ألإختيار المتعدد المستويات) التي تقدم ما يسمى بالتفسير الفعلي للحالة البشرية، لا تعترف بأن الحالة البشرية هي نتاج الغرائز الفطرية الواضحة مقابل عناصر العقل، بل تسعى الى حصر الحالة البشرية بغرائز شريرة مقابل غرائز خيرة.

 

بقلم: أندي أوين

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

في عالم مليء بالغضب الذي يغذيه الحزن، يمكن أن تساعدك تنمية العقلية المأساوية على العيش بكرامة وسماحة. ثلاثة من كبار كاتبي التراجيديا الأربعة هم يونانيون: إسخيلوس، وسوفوكليس، ويوريبيديس (شكسبير هو الرابع). في القرن الخامس قبل الميلاد، تركزت مآسيهم على البيوت العظيمة ومشاجراتهم وطموحاتهم. تواجه الشخصيات ضغوطًا خارجية من عائلتها أو مجتمعها ويكافحون من أجل حلها، أو يتسببون في سقوطهم بسبب عيوب شخصية. وبعد مرور ألفي عام ونصف، تحتوي هذه المآسي على دروس لا تزال تنطبق على حياتنا الشخصية. إن السؤال الرئيسي الذي تطرحه المأساة هو "ماذا ينبغي لي أن أفعل؟" فحتى هؤلاء منا الذين ليسوا من ذوي أصل نبيل مثل الشخصيات المأساوية سوف يواجهون في كثير من الأحيان ضغوطاً مماثلة، أو يمكننا التعرف على عيوبهم في أنفسنا ونرى كيف تقودنا إلى الخطأ أيضًا.

الناس معيبون بطبيعتهم، ولا أحد منا مثالي

تحتوي المأساة على المفهوم الذي أطلق عليه أرسطو اسم هامارتيا. في مسرحية سوفوكليس أوديب الملك، والتي ربما تكون أعظم المآسي على الإطلاق، يسقط أوديب من الملك إلى المنفى، ليس بسبب خطيئته، ولكن بسبب خطأ في الشخصية ليس خطأه. يتخذ سلسلة من القرارات متأثراً بأخطائه. يواجه أوديب رجلاً أكبر سناً على مفترق طرق يرفض الاستسلام. يفقد أوديب أعصابه ويقرر مهاجمة الرجل وقتله، دون أن يعرف من هو حقًا. يمكن النظر إلى هامارتيا على أنها نقطة ضعف إنسانية أساسية تشركنا في أفعال تؤدي إلى المعاناة. وأنا أتفق مع الفيلسوف سايمون كريتشلي عندما قال أنه يمكننا التوسع في فكرة الضعف هذه، وبما أنها موجودة فينا جميعًا، فإننا ننظر إلى الهمارتيا باعتبارها ضعفًا وتقييدًا أساسيًا يحدد هويتنا كبشر.

عندما تتعرض للظلم، يمكن أن يساعدك ذلك على التفكير بشكل مأساوي: فبدلاً من التركيز على الفعل الضار وتحميل الشخص المسؤولية عن التأثير الذي أحدثه عليك، حاول أن ترى ما فعله باعتباره مظهرًا من مظاهر الضعف الأساسي الذي ربما كان يعاني منه.أو عاجز عن منعه - - ضعف بشري طبيعى قد تمتلكه أنت أيضًا. افعل ذلك وفي قلب الصراع يمكنك تحديد ما يربط بينك وبين الشخص الآخر، وليس ما يفرقكما.

التجربة الإنسانية هي تفاعل معقد بين القدر والحرية

تعلمنا المأساة أن هناك أشياء كثيرة خارجة عن سيطرتنا. الأفعال المميتة تخضع لقوى تتجاوزنا. الشخصيات في المآسي هي بيادق في نزاعات الآلهة الصغيرة. إنهم يحاولون تحدي النبوءات، لكن الأحداث الخارجة عن سيطرتهم، أو العواقب غير المقصودة لأفعالهم، ترى التحقيق الحتمي لما تم التنبؤ به. وعلى نحو مماثل، نحن نعيش اليوم في ظل نظام جدارة ديمقراطي مفترض، ومع ذلك فإن أفعالنا تخضع لآلهة قوى السوق والخوارزميات غير المرئية. يمكننا أن نجد أنفسنا بيادق في المشاحنات التافهة بين القادة المستبدين.

ولكن في الوقت نفسه، ضمن حدود القدر، نحن أحرار في اتخاذ الخيارات - هذه هي الطريقة التي يتشكل بها مصيرنا. إن مصير أوديب لا يتقرر بالكامل من خلال الاختيارات التي يتخذها، بل من خلال تفاعل القوى الخارجة عن سيطرته والتي تتفاعل مع اختياراته. يمكنك أن ترى ذلك من خلال النظر إلى الوراء منذ اللحظة التي قتل فيها ذلك الغريب عند مفترق الطرق.

قبل أن يولد أوديب، وقعت لعنة على والده لايوس، لانتهاكه قوانين الضيافة المقدسة. عندما ولد أوديب، استشار لايوس وحيًا يكشف له أن لايوس "محكوم عليه بالهلاك على يد ابنه". يأمر لايوس بقتل أوديب، ولكن يتم التخلي عن أوديب على قمة الجبل، حيث يتم إنقاذه من قبل الراعي. بعد سنوات، عندما أخبر أوراكل أوديب أنه سيقتل والده وسيقيم علاقات جنسية مع والدته، يهاجم عند مفترق الطرق  شخصًا غريبًا ويقتله دون أن يدرك أنه والده. إن العواقب غير المقصودة للاختيارات الفردية تحقق الأحداث المتوقعة.

على الرغم من اللعنة والنبوءات، فإن غضب أوديب يتغلب عليه. يتطلب القدر تواطؤ أوديب الواعي جزئيًا لتحقيق حقيقته. وبالمثل، فإن حريتنا تتعرض للخطر بسبب ثقل الماضي، والذي يتطلع الكثير منا إلى إنكاره في عطشنا المستمر للشيء التالي. وكما كتبت المؤلفة والناقدة ريتا فيلسكي: "إن ثقل ما حدث يؤثر حتماً على ما سيأتي". نحن جميعًا نتشكل من خلال ماضينا، وطفولتنا وتجارب آبائنا وتجاربنا الجماعية. تعلمنا المأساة أننا إذا لم ندرك ذلك وحاولنا التنصل من الماضي، ففي أحسن الأحوال، سيكون مقدرًا لنا أن نكرر ما جاء من قبل، وفي أسوأ الأحوال، سيدمرنا ذلك.

لا توجد إجابات واضحة للعديد من المعضلات الأخلاقية

المأساة ليست انتصار الشر على الخير، بل هي المعاناة الناجمة عن انتصار خير على آخر. تدور المأساة حول أهداف يمكن الدفاع عنها أخلاقياً ولكنها غير متوافقة. في مسرحية إسخيلوس سبعة ضد طيبة، قتل الأخوان إيتوكليس وبولينيكس بعضهما البعض في المعركة. بعد ذلك، أعلن عمهم كريون، ملك طيبة الجديد، أنه سيتم تكريم إتيوكليس، لكن بولينيسيس سيُترك في ساحة المعركة ويُحرم من طقوس الدفن كعقاب لكونه خائنًا (لمهاجمته شقيقه). ويرى كريون أن هذه العقوبة ضرورية لاستقرار الدولة وتجنب إراقة الدماء في المستقبل. في عمل من أعمال العصيان، أعلنت أنتيجون أنها سوف تدفن شقيقها من منطلق الولاء لدمه المدان. وبعد دفنه تسأل: ماذا سيحدث لي؟ ماذا علي أن أفعل؟ تنقسم الجوقة إلى مجموعتين. ليس هناك وفاق.

في حياتنا، غالبًا ما تكون المعضلات التي نواجهها، كبيرة كانت أم صغيرة، غامضة بنفس القدر. من خلال تصفح أعمدة الصحف الوطنية، تجد الناس يشعرون بالقلق بشأن ما إذا كان ينبغي عليهم مواعدة ابن عمهم المفقود منذ فترة طويلة، أو مواجهة الآباء المسنين بشأن سوء المعاملة في الماضي، أو التدخل في السلوك المدمر للآخرين. هناك العديد من الأشخاص الذين يطلبون المشورة حول كيفية تصحيح التفضيلات الجنسية المختلفة مع الشركاء وغيرهم الكثير يتساءلون عن كيفية الموازنة بين المسؤوليات تجاه الآخرين ورغباتهم وطموحاتهم. في الأوقات المضطربة، تزدهر المؤامرات والآراء السياسية والدينية المتطرفة بين السكان القلقين. كل هؤلاء الأشخاص يبحثون عن إجابات، ولكن على العديد من الأسئلة، لا توجد إجابات واضحة.

أثناء بحثك عن إجابات نهائية غير موجودة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، قد تفوتك عجائب الحاضر غير المؤكد. إنه الإحساس بالحياة الذي نفقده عندما تركز على بعض الأغراض العامة أو تلتزم بالعثور على إجابات في الأيديولوجيات والأديان. على الرغم من إيمانهم بالآلهة والحياة الآخرة، ركز اليونانيون القدماء على ما يفعله المرء في هذا العالم، هنا والآن. يمكن أن يساعدك التفكير المأساوي على التوقف عن السعي لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه. يمكن أن يساعدك أيضًا في العثور على حل مع الآخرين. إذا نظرت إلى الصراعات على أنها أبيض وأسود، حيث يكون أحد الطرفين على حق بشكل لا لبس فيه والآخر على خطأ، فهذا لا يترك مساحة كبيرة للتعايش والتوافق. يمكن أن يعميك عن معاناة الآخرين ويقودك إلى تبرير ما لا يمكن تبريره. يمكن للقصص المأساوية عن صراعات الماضي أن توفر طريقًا للتعايش في الوقت الحاضر.

الحزن والغضب جزء لا مفر منه من الحياة

كان العديد من الجمهور والممثلين في العروض الأصلية للمآسي الأثينية من الجنود المواطنين الذين قاتلوا في الحرب البيلوبونيسية، ومن المؤكد أن هذا سيساعدهم على تقدير دروس المأساة. ويزعم المراسل الحربي السابق روبرت كابلان، الذي يلقي باللوم في كوارث العراق وأفغانستان على فشل صناع السياسة الغربيين في التفكير بشكل مأساوي، أن المحاربين القدامى الشباب الذين التقى بهم يفهمون التفكير المأساوي بشكل أفضل من صناع السياسات "ذوي الخبرة" في واشنطن، الذين لم يختبروا قط فوضى الحرب.

كان إسخيلوس قد حارب الفرس في ماراثون وربما حارب في سلاميس قبل ثماني سنوات فقط من عرض مسرحيته الفرس. تتناول العديد من المآسي آثار حرب طروادة الأسطورية والأحداث التي غطتها الإلياذة، والتي جاء في أول سطرين منها ما يلي: أيتها الإلهة الغاضبة، غني غضب أخيل ابن بيليوس، القاتل، المنكوب، الذي كلف الآخيين خسائر لا حصر لها". تصف بداية الإلياذة غضب أخيل من فقدان ماء الوجه ومن ثم فقدان أقرب رفاقه.

يعطي الأعمى تيريسياس  أوديب الإجابات التي يبحث عنها، لكن أوديب لا يستمع إليه بل يستاء منه. يقول تيريسياس: "أنت تلوم أعصابي، لكنك لا ترى ما يسكن فى داخلك".

الطغاة في العنوان الأصلي لسوفوكليس، أوديب تيرانوس، يمكن تفسيره على أنه "طاغية" الطغاة لا يسمعون ما يقال لهم، ولا يرون ما أمامهم. أوديب أعمى من الغضب قبل أن يعمي نفسه حرفيًا لاحقًا عندما يرى ما فعله. في مسرحية سوفوكليس «أوديب في كولونوس»، يلوم أوديب الآلهة على مصائبه، «ربما كان غاضبًا من جنسنا الذي عاش في العصور الماضية». الكثير منا مذنب بنفس القدر. نحن ننظر، ولكن نرى ما نريد، ونستمع، ونسمع فقط ما نريد. أي شخص يخبرنا بما لا نريد سماعه يمكن أن يشعرنا بالغضب.

تسأل الشاعرة آن كارسون وتجيب: لماذا توجد المأساة؟ لأنك مليئة بالغضب. لماذا أنت مليء بالغضب؟ لأنك مليء بالحزن.

إننا نحزن على أولئك الذين فقدناهم والذين كنا نهتم بهم. على مر السنين سنخسر المزيد. وكما يتأسف أوديب: "فقط الآلهة لا تشيخ أبدًا... كل شيء آخر في العالم يمحوه الزمن الجبار". نحن لا نحزن على فقدان من نحبهم فحسب، بل نحزن على خسائر أكثر تجريدًا؛ الزمن الذي فات، وشبابنا الذي ذهب معه، وقدراتنا الفاشلة، ومكانتنا في عالمنا، وصحبة الآخرين واحترامهم وحبهم. بالحنين نحزن على ما لم نكن نملكه من قبل. في حين أن ألم فقدان الأحباء قد يتحول إلى غضب، فإن الحزن هو دليل على أن حياتهم مهمة، وأن الحياة كلها مهمة.

في نهاية المطاف، العقلية المأساوية تدور حول إيجاد طريقة للتخلص من هذا الغضب دون خلق المزيد من الألم، والتعامل مع كل خسائرنا دون إيذاء الآخرين. عندما نكون غاضبين، فإننا نتصرف بحرية، ولكن شيئًا ما يتصرف من خلالنا أيضًا، نوع من اللعنة، التأثير اللاواعي إلى حد كبير للماضي على الحاضر. في أوديب في كولونوس، يلعن أوديب ابنه بولينيكس ليموت على يد أخيه في المعركة، ويلومه على عدم منع نفيه. تسأل أنتيجون بولينيكس عن سبب سعيه للإطاحة بأخيه. فيجيب: «المنفى مذل وأنا الأكبر ويسخرون مني بهذه الوحشية». تجيب أنتيجون: "ألا ترى؟ لقد حققت نبوءات والدك حتى النهاية! تحاول أنتيجون كسر دائرة العنف. لكنها فشلت في النهاية. في مسرحية سوفوكليس أنتيجون، يحكم عليها كريون بالموت لأنها دفنت شقيقها الذي رفض الاستماع. ومع ذلك، عندما تنتحر، تظل غير قابلة للمساومة، كشعاع وحيد من الضوء البطولي في عالم أوديب المظلم.ووفقا لروبرت كابلان، يقول الوعى التراجيدى: "لا يوجد شيء أجمل في هذا العالم من كفاح الفرد ضد الشدائد، حتى عندما يكون الموت في انتظاره".

تُظهر لك المأساة أنه يمكنك خلق معنى من خلال التعامل مع الحياة البشرية بكرامة حتى عندما تكون معيبة وحتى عند وقوع الكارثة. تتعظم الكرامة عندما لا تسعى إلى لوم الآخرين على ما تخسره، وتقف شامخًا في مواجهة العاصفة القادمة، مدركًا أن عدم استقرار الحياة وهشاشتها يمنحها إلحاحًا مهيبًا وثمينًا.

استمر على أي نحو

تصف المآسي عالمًا في صراع مستمر، يتسم بالتقلب والغموض وعدم اليقين وعدم القدرة على المعرفة، حيث غالبًا ما تجتاح الناس قوى يتفاعلون معها ولكنهم لا يفهمونها تمامًا. هذا هو عالمنا أيضا. في كتابها "الطريقة اليونانية" (1930)، ادعت الكلاسيكية إديث هاملتون أن الشعر الغنائي للمآسي تحتوي على جمال حقائق لا تطاق، حقائق لا يمكن تحملها. ومع ذلك فإن التفكير بشكل مأساوي يعني إدراك الحاجة إلى محاولة كسر دورات الحزن والغضب ــ تلك التي نختبرها في حياتنا الشخصية والتي تتجلى اليوم على نطاق أوسع في غزة، وإسرائيل، وأوكرانيا، وإثيوبيا، واليمن. إنها محاولة جعل ما لا يطاق مقبولاً. في بعض الأحيان سوف ننجح، ولو بشكل مؤقت. إن النعمة في الإنسان تعني احتضان الحقائق الشعرية التي تظهر في المآسي، والمضي قدمًا على أي حال، مثل أنتيجون، بقطع   النظر عن مدى نجاحك.

***

...............................

المؤلف: آندي أوين هو مؤلف كتاب "جميع الجنود يهربون: حرب ألانو: قصة هارب بريطاني" (2017). وهو جندي سابق يكتب عن أخلاقيات وفلسفة الحرب. يعيش في لندن.

 

في كتاب "حياة غاليلي" بقلم برتولت بريخت، صرخ أندريا، تلميذ غاليلي، غاضبًا من حقيقة تراجع معلمه بعد إدانة الكنيسة: "من المؤسف أن البلد الذي ليس لديه أبطال!". فيجيبه جاليليو: "من المؤسف أن البلد يحتاج إلى أبطال". أن يحتاج الناس إلى أبطال، هذا لا يبدو مشكوكًا فيه، فلننظر إلى النجاحات الكبيرة التي حققتها السينما لنقتنع: اليوم لم نعد نكتفي بالأبطال، نحن بحاجة إلى "الأبطال الخارقين"."! كل شيء يحدث كما لو كانت المجتمعات البشرية بحاجة إلى تجسيد قيمها في فرد يكون دليلاً ملموسًا عليها: المحارب، الشهيد، الحكيم... لذا فإن السؤال يبدو أقل هو ما إذا كنا بحاجة إلى أبطال بقدر ما نحتاج الى معرفة لماذا نحن بحاجة إلى أبطال؟ وهل هذه الحاجة إلى النموذج هي حافز يرفع الناس أم أنها تنفر لأنها تخلق عدم المساواة من خلال دعوتهم إلى اتباع نموذج لا مثيل له؟

لكي نبدأ بالتفكير في هذه الأسئلة، علينا أن نسأل أنفسنا ما هي البطولة؟ وكيف نعرف فضيلة العمل البطولي؟ هل يوجد فرق جوهري بين البطولة في الميدان الحربي والبطولة في الميدان الأخلاقي؟

البطل (باليونانية "Hèrôs": نصف الإله) هو الذي يبدو أنه قد تجاوز حدود الحالة الإنسانية بشجاعته وأفعاله. إنه المفهوم القديم للبطولة الذي يوجد مع ذلك في الصور الشعبية للسينما والأبطال الخارقين: الشجاعة الاستثنائية التي تؤكد نفسها من خلال ضربات رائعة. ثم يظهر الفعل البطولي كفعل خالص، بلا نية أو دافع مسبق، فعل كائن متحرر من الخوف. في هذه الظروف، لا يمكن لقوة البطل أن تأتي إلا من قوة أعلى منه. وبالفعل، فإن تصرفات البطل مبنية على قواعد وقيم محددة سلفا تعتبر مطلقة أي إرادة الآلهة للبطل الهوميري، والمصلحة العليا للأمة للجندي، وما إلى ذلك، فإنه سيصبح هو نفسه تجسيدا لهذه القيم.  إن هذا المفهوم المتعالي والفوق إنساني للبطل والبطولة يتناقض تمامًا مع أي فكرة عن المساواة، بل على العكس من ذلك، فهو يوفر مبررًا لعدم المساواة التي هي أساس كل علاقات الهيمنة. تفرض السلطة التي تدعي أن الأبطال المؤسسين نموذجًا على الإعجاب العام وتجمده في تبجيل حيث لا يتعين على الشعب، بسرعة كبيرة، سوى إظهار خضوعه.  فبدلاً من رؤية البطولة باعتبارها نموذجًا فوق طاقة البشر وسرعان ما تصبح غير إنسانية، وبدلاً من رؤية البطل باعتباره رجلًا خارقًا لا يعرف الخوف، ألا يمكننا أن نتصور الأخير كشخص يعرف كيفية "إدارة" خوفه لأنه يعرف ما يجب أن يفعله؟ يكون خائفا وما هو لا؟ هذا هو تعريف الشجاعة الذي توصل إليه سقراط في لاخيس. في الواقع، بعد أن أظهر أن "ثبات الروح" لم يكن كافيًا لتعريف الشجاعة، لأن الأخيرة يمكن أن تكون مصحوبة بـ "عدم تفكير أو لاعقل"، ستكون حينها تهورًا وليس شجاعة، فإنه يعرفها على أنها "الشجاعة" أي علم ما يجب أن نخافه وما يجب أن نجرؤ عليه". ولذلك يحتاج البطل إلى أكثر من الاندفاع والثقة العمياء أو الطاعة. إنه يحتاج إلى الحكمة، وأن يعرف متى يقف على موقفه، في الوقت المناسب. إنه يحتاج إلى فكرة عما يستحق الوجود أن يعيشه في مواجهة الشدائد والمجهول، وليس مجرد صورة أو مثال غامض. في مواجهة بطولة خيالية مكونة من انقلابات رائعة، ألا يمكننا أن نفكر في بطولة يومية تتكون من تصور عام لوجود الفرد؟

قبل أن ننظر إلى البطولة باعتبارها القدرة على الموت من أجل الحقيقة، ألا يمكننا أن ننظر إليها باعتبارها القدرة على العيش في الحقيقة أي بكل بساطة، مع عيوننا مفتوحة على ما نحن عليه، وفهم نقاط ضعفنا؟ بمعنى آخر، هل يمكننا أن نفكر في البطولة دون غرور، دون كبرياء، دون نرجسية؟ ربما هذا ما يسمى بالحكمة، فالحكيم الفخور لم يعد حكيماً، بينما البطل الفخور يبقى كذلك. ولكن هل الحكماء نادرون ومتحفظون جدًا بحيث لا يمكن أن يصبحوا نماذج؟ كيف نحدد البطولة اليوم؟

البطل هو القادر على التضحية بنفسه. بالأمس، في الغرب، كان بإمكان الرجال التضحية بأنفسهم من أجل الله، ووطنهم، ومثلهم الأعلى، وأطفالهم... ومن الآن فصاعدا، لن يفعلوا ذلك إلا من أجل أطفالهم. إنها نتيجة لعملية تاريخية طويلة، تم تحليلها بشكل جيد من قبل ألكسيس دي توكفيل في كتابه "الديمقراطية في أمريكا". لكن ما نراه في غزة وفلسطين والعالم الشرقي والامريكي اللاتيني ان مفهوم البطولة التضحوية مازال يحوز على قيمة ويمثل مبدأ توجيهي للفعل المقاوم والصامد. فهل يؤدي الفعل البطولي الى النصر والتحرر؟ وكيف يمكن أن يتحول الى أرضية صلبة لمناهضة النزعات اللاانسانية التدميرية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

أدت عقود من الصراع إلى إصابة التعليم العالي العراقي بالشلل الشديد. فقد أدت الحروب، الداخلية والخارجية، إلى تدمير البنية التحتية، وتشريد الأكاديميين، وأعاقت جهود الإصلاح. ويستمر هذا الإرث من عدم الاستقرار في التأثير على النظام التعليمي.  يقدم تقرير الدكتورة الهام مكّي "التعليم العالي في العراق بعد عام 2003: التحديات المستمرة" مساهمة واضافة قيمة لما دأبنا عليه في كتاباتنا حول اهمية اصلاح التعليم العالي ولفهم التحديات التي تواجه النظام في العراق، من خلال تقديم نظرة شاملة لهذه التحديات، وتحليل العوامل التي أدت إليها، وتقديم رؤى حول الآثار التي تتركها على النظام التعليمي العراقي. كما أنه يوفر إطارا عمليا للإصلاح يمكن استخدامه من قبل الحكومة العراقية والمجتمع الدولي لمعالجة هذه التحديات.

يركز التقرير على خمسة تحديات رئيسية:

* البنية التحتية المتهالكة:

تضررت الجامعات العراقية بشدة بسبب الحروب والنزاعات الداخلية، مما أدى إلى تدمير المباني والمختبرات والمكتبات. كما أن التمويل المحدود يحد من الوصول إلى المعدات والتكنولوجيا الحديثة، مما يعيق التدريس والبحث وتعلم الطلاب.

* عدم تطابق المهارات بين الخريجين وسوق العمل:

تكافح الجامعات العراقية من أجل مواكبة احتياجات سوق العمل المتغيرة، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة والعمالة الناقصة بين الخريجين.

* قيود على الحرية الأكاديمية:

تفرض الحكومة العراقية والقوى السياسية النفوذ السياسي على الجامعات، مما يؤدي إلى تقييد مواضيع البحث ومحتوى المناهج الدراسية وتعيينات أعضاء هيئة التدريس، مما يعيق التفكير النقدي والخطاب المفتوح كما ان المحاصصة الطائفية والعنف السياسي يجبران الأكاديميين على ممارسة الرقابة الذاتية

* أنظمة ضمان الجودة ضعيفة وغير كافية:

تفتقر الجامعات العراقية إلى أنظمة او تدابير ضمان جودة شاملة، مما يضعف مصداقية النظام التعليمي العراقي ومؤسساته، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وغالبا ما تكون إجراءات مراقبة الجودة الحالية غير كافية أو سيئة التنفيذ، وتفشل في ضمان معايير متسقة عبر الجامعات والبرامج، كما يؤدي الفساد والمحسوبية في إدارة الجامعات إلى تقويض مصداقية عمليات تقييم الجودة، وإلى إعاقة قدرة الجامعات العراقية على جذب الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الدوليين، مما يزيد من عزل النظام عن الاتجاهات العالمية وأفضل الممارسات.

* محدودية الموارد والتكنولوجيا وضعف مستويات التدريسيين:

يؤدي عدم كفاية التمويل وانعدام الخبرة الاكاديمية والبحثية إلى تقييد الوصول إلى المعدات والتكنولوجيا الحديثة، مما يعيق التدريس والبحث وتعلم الطلاب.

وتشير مكي الى عدم ملائمة المهارات بسبب المناهج القديمة فغالبا ما تتخلف البرامج الجامعية عن تلبية الاحتياجات المتطورة لسوق العمل، مما يؤدي إلى خريجين يتمتعون بمهارات لم تعد ذات صلة بأرباب العمل. كما يفشل التركيز على المعرفة النظرية في العديد من البرامج في تزويد الخريجين بالمهارات العملية والخبرة في مكان العمل اللازمة للتوظيف. هذا بالاضافة الى الانفصال بين الصناعة والأوساط الأكاديمية حيث تشير الكاتبة الى ان ضعف التعاون بين الجامعات وأصحاب العمل يعيق فهم احتياجات العالم الحقيقي ويحد من فرص التدريب الداخلي والتدريب العملي.

في ختام التقرير، تقدم الهام مكّي مجموعة من التوصيات لمعالجة هذه التحديات. وتقترح في هذه التوصيات:

* تنفيذ استراتيجيات إصلاح طويلة الأجل تركز على إعادة تأهيل البنية التحتية وتطوير المناهج الدراسية وتدريب أعضاء هيئة التدريس.

* تشجيع الشراكات مع المؤسسات الدولية والقطاع الخاص لسد الفجوة بين المهارات وتعزيز قابلية التوظيف.

* حماية الحرية الأكاديمية وتعزيز التفكير النقدي من خلال إزالة السياسة من الجامعات وإنشاء مساحات آمنة للخطاب المفتوح.

* إنشاء أنظمة ضمان جودة قوية لتحسين المكانة الدولية للتعليم العالي العراقي وجذب الطلاب وأعضاء هيئة التدريس المؤهلين.

هذه ليست سوى بعض النتائج الرئيسية التي تم استكشافها في تقرير الدكتورة الهام مكي والتي طالما نوقشت على مر السنوات العشرين الماضية مما يؤكد وجود مشكلة معقدة لها العديد من العوامل المترابطة وتحتاج الى مراجعة شاملة وحلول انية وطويلة المدى.

***

ا. د. محمد الربيعي

.............................

المصادر

* الهام مكي (2023). "التعليم العالي في العراق بعد 2003: التحديات المستمرة"، الهام مكي ، عدد الصفحات: 20، الاصدار: (PeaceRep report). Middle East Centre, London School of Economics

* محمد الربيعي (2022). التعليم العالي والبحث العلمي، قضايا وتحديات وحلول، الاصدار: لندن للطباعة والنشر.

***

بقلم: بول كاتسافاناس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يعتمد التفكير المتعصب على سرد الاستياء تجاه المجموعات الخارجية. يقدم نيتشه طريقتين لتغيير السيناريو.

كان لفيلسوف القرن التاسع عشر فريدريك نيتشه تجربة مباشرة مع التعصب. في عام 1885، تزوجت أخته إليزابيث من بيرنهارد فورستر، وهو ناشط يميني متطرف ومعاد للسامية. اكتسب فورستر سمعة سيئة لمشاركته في تأليف وتعزيز "عريضة معاداة السامية" (1880)، التي طالبت بحرمان اليهود من حقوقهم المدنية، ومنعهم من وظائف الخدمة المدنية، ومنعهم من الهجرة. لكن هذا الالتماس لم يكن كافيا بالنسبة له: فقد أدى إلى نفور بعض رفاقه الأكثر انتقادا عندما أعد خطته لإنشاء مستعمرة آرية في باراجواي. هذه المستعمرة، جرمانيا الجديدة (نويفا)، لن تقبل إلا أولئك الذين أظهروا "النقاء العرقي". كانت تهدف إلى السيطرة على الباراجوايانيين وربما استعبادهم، الذين سيخدمون المستعمرين. وكان هدفها النهائي، على حد تعبير فورستر، هو تحقيق "تطهير الإنسانية وبعثها من جديد". كان هذا فشلًا ذريعًا: على الرغم من أن فورستر انطلق مع حوالي 40 مستوطنًا، إلا أن نصفهم ماتوا في غضون عامين بسبب الملاريا أو المجاعة، وعاد العديد من الباقين إلى ألمانيا. وفي مواجهة انهيار خططه، انتحر فورستر في عام 1889.

مزرعة في ألمانيا الجديدة، باراجواي، من مستعمرة الدكتور برنهارد فورستر ألمانيا الجديدة في باراجواي. بإذن من المكتبة البريطانية / فليكر

كان فورستر متعصبًا ، بل متعصبًا للغاية  حتى بالنسبة لبعض أشد معادي السامية حماسًا. احتقره نيتشه، وقال لأخته إن زواجها كان «واحدًا من أعظم الحماقات التي ارتكبتها على الإطلاق... إن ارتباطك بزعيم معاد للسامية يعبر عن الغربة عن أسلوب حياتي برمته، الأمر الذي يملأني مرة أخرى بالغضب والحزن». كان فورستر «محرضًا»، متعصبًا، رأى نيتشه أنه يجسد الكثير من السمات التي استنكرها. أراد نيتشه تجنب هذا النوع من التعصب بأي ثمن. فقال نيتشه: " لن تجد أثرًا للتعصب في دمي".

ربما ليس من المستغرب أن يقدم لنا نيتشه بعضًا من الأفكار الفلسفية القوية جدا حول أصول التعصب وعواقبه - وهي رؤى لا تزال ذات صلة بعالمنا الاجتماعي الحديث كما كانت في عصره. ومن خلال التعامل مع هذه الأفكار، يمكننا أن نفهم التعصب المعاصر بشكل أفضل ونضع استراتيجيات لتقويضه.

ما هو التعصب بالضبط؟ هناك ثلاث ميزات رئيسية. فأولاً، يتضمن التعصب التزاماً عاطفياً بهوية أو قضية: فالمتعصب يحترق بالرغبة في تحقيق هدفه، ويحتقر أولئك الذين يعارضونه، وتجتاحه فرحة غامرة في وجود أشخاص آخرين ذوي تفكير مماثل. ثانياً، المتعصبون يقاومون بشكل عقائدي وعنيد تغيير رأيهم؛ لن تتمكن من إقناع متعصب بالتخلي عن قضيته من خلال تقديم بعض الاعتراضات المعقولة أو الإشارة إلى التناقضات في آرائه. وفي نهاية المطاف، فإن المتعصبين على استعداد للجوء إلى تدابير متطرفة - العنف، والتخريب، واضطراب النظام الاجتماعي - لتأمين أهدافهم. حالة القيام بذلك، فإنهم غالبًا ما يعرضون حياتهم أو حياة الآخرين للخطر.

بالطبع، يمكن للناس أن يكونوا متدينين، وعقائديين، ومتطرفين لمختلف الأسباب؛ بل وربما نتعرف على بعض هذه الميول في أنفسنا. فكيف تختلف هذه الالتزامات في حالة المتعصب؟ ففي نهاية المطاف، يمكن لأي شخص أن يكون فاعلاً سياسياً شغوفاً دون أن يكون متعصباً. فالشخص الذي يكرّس حياته لمحاربة الفساد أو محاربة العنصرية أو الحفاظ على البيئة ليس من الضروري أن يكون متعصباً. لذلك لا يمكن أن تكون قوة التزام الشخص بقضية ما هي وحدها التي تحدد ما إذا كان متعصبًا أم لا. يجب أن يكون هناك شيء آخر في القضية.

المتعصبون متأكدون، تمامًا كما أنت أو أنا متأكدان من قيمنا العليا. لكن نيتشه قال إن هذا اليقين ضروري للمتعصب؛ إنها آلية للحماية الذاتية. وهذا أيضًا ميل ندركه أحيانًا في أنفسنا: قد يحتاج الزوج إلى الاعتقاد بأن شريكته مخلصة على الرغم من كل الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك، في حين قد تحتاج الممثلة الفاشلة إلى الاعتقاد بأنها ستنجح يومًا ما. وبالمثل، يجب على المتعصب أن يحافظ على التزامه الأساسي. يعتمد تصورها لنفسها على اعتبار قضيتها ثابتة: نظرًا لأن هويتها تتشكل جزئيًا من إخلاصها الذي لا يتزعزع لقضيتها، فإن التشكيك في قضيتها أو التخلي عنها سيكون بمثابة التشكيك في هويتها ذاتها أو التخلي عنها. يمكن للشخص الذي يتمتع بإحساس قوي وآمن بذاته أن يتسامح مع الغموض والمعارضة والنقد (حتى لو لم يغير التزاماته نتيجة لذلك)؛ وعلى العكس فإن المتعصب لا يستطيع. وكما كتب نيتشه: "إن التعصب هو "قوة الإرادة" الوحيدة التي يمكن حتى للضعفاء وغير الآمنين الوصول إليها".

إن هذه المقاومة العقائدية لتأثير العقل، بالإضافة إلى الضعف العميق، هي التي تجعل التعصب مرضيًا. يمنحنا التعصب قوة هشة تخفي ضعفًا عميقا للغاية: ولا يمكن الحفاظ على هذه "القوة" إلا من خلال تجاهل التهديدات المحتملة أو قمعها أو تدميرها. إن إدراك أي تهديد من شأنه أن يؤدي إلى "الانهيار والتفكك"، يحتاج المتعصب إلى أن يعمي نفسه عن الغموض: "ألا يرى أشياء كثيرة، وألا يكون محايدًا في أي شيء، وأن يكون طرفًا في كل شيء، وأن ينظر إلى جميع القيم من منظور صارم ودقيق". المنظور الضروري – هذا وحده هو الشرط الذي يوجد في ظله مثل هذا الرجل على الإطلاق.

بمجرد أن نفهم ما هو التعصب، يمكننا أن نفسر بشكل أفضل كيفية انتشاره - وكيف يمكننا مكافحته. يرى نيتشه أن أنواعًا معينة من الروايات تتمتع بقوة عظيمة: يمكنها تغييرنا وتغيير هويتنا. وإذا كان هناك نوع محدد من السرد يعد مثاليا  لتوليد المتعصبين، فهو سرد الاستياء - قصة قوية تشجع وتغذي العلامة التجارية الفريدة للمتعصب ذات القوة الهشة.

ترسم روايات الاستياء صورة للحياة حيث يمكن إرجاع كل المشاكل والصعوبات التي يواجهها المرء ليس إلى الغموض المتنامى الذي يحيط بالعالم، أو إلى الأخطاء الشخصية، بل إلى الانقسامات التبسيطية، "نحن في مواجهة هم". أبسط أشكالها هو: أنت تعاني لأن مجموعة ما تؤذيك ظلما. يرى الصبي الفخور النسوية والليبرالية كقوى مدمرة تدمر حياة الرجال؛ ويعتقد عضو داعش أن الحرب المروعة مع من ينكرون تعاليمه هي وحدها القادرة على تصحيح أخطاء العالم. تعزز هذه الروايات التوجه السلبي الشامل تجاه مجموعة خارجية. إنهم يأمروننا بكراهية أولئك الذين تم تعيينهم كمسؤولين عن مشاكلنا. إنهم يسامحوننا إذا قبلنا هذا السرد، ويعفوننا من المسؤولية الشخصية عن الصعوبات والإخفاقات التي نواجهها من خلال إلقاء اللوم بشكل مباشر على أكتاف مجموعة خارجية.وأخيرا، فإنها توفر لنا هدفا يمكن تحقيقه بسهولة: الرد بالعداء والعدوان تجاه المجموعة الخارجية المضطهدة. إن الفلسفات الدافعة لتنظيم داعش، والقاعدة، وStormfront*، وجميع تيارات القومية البيضاء، فضلا عن الجماعات المتعصبة الأخرى، تأخذ شكل سردية الاستياء.

تعد روايات الاستياء قوية لأنها مُرضية عاطفيًا وتؤكد الهوية. إنها توفر الرضا العاطفي من خلال تمكين المتعصبين من تحويل مشاعر العجز والسخط والضيق إلى استياء مليئ بالكراهية يمكن توجيهه إلى الخارج فى صورة ردود أفعال عدوانية تجاه الآخرين. وهي تؤكد الهوية لأنها تعطي المتعصب وسيلة لتعريف نفسه، ولو بطريقة سلبية: فالأمر الأكثر أهمية بالنسبة للمتعصب هو ما يرفضه، أو ما يحتقره، أوما يخشاه. تقول رواية الاستياء: تلك المجموعة الخارجية شريرة، ويمكنك تعريف نفسك على أنها ليست كذلك.

وهذا يخلق حالة دائمة من الصراع لا تحتمل أي حل. إذا كانت هويتك وإحساسك بالذات مرتبطين بمظالمك - في معارضتك لمجموعة خارجية - فما الذي يحفزك على معالجة أية مشاكل مع تلك المجموعة الخارجية بطريقة حقيقية؟ إن القضاء على الصراع من شأنه أن يطفئ إحساسك بمن أنت. سيكون عليك أن تجد صراعات جديدة، ومظالم جديدة، ومعارك جديدة. وبذلك تصبح معارضتك نقطة ثابتة، وهو شيء لا يمكنك تركه. وفي الواقع، مع مد وجزر التيارات السياسية والاجتماعية، تحدد الجماعات المتعصبة - مثل تلك التي ذكرناها - تهديدات جديدة، وتكيف قوائم مظالمها، وتميز بين الأعداء الجدد والإهانات المتصورة لضمان استمرار الصراع بلا هوادة.

تتمتع روايات الاستياء القوية والمدمرة هذه بإمكانية غير محدودة تقريبًا للانتشار والعدوى ــ وخاصة اليوم، عندما تجعل وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات عبر الإنترنت من السهل للغاية على الأفراد الساخطين العثور عليها والتمسك بها.  ولكن إذا كانت روايات الاستياء تؤدي إلى خلق متعصبين، فإنها توفر أيضًا موضعًا واضحًا للسيطرة: فمن خلال منع انتشار مثل هذه القصص، قد نبطئ أو نمنع انتشار التعصب. إن القول أسهل من الفعل بالطبع؛ هذه القصص التي تخلق الهوية والمرضية عاطفيًا شيئًا لنكون عليه وشيئًا نقاتل من أجله. الأشخاص الذين يشعرون بأنهم بلا جذور، وبلا معنى، وبلا اتجاه؛ الأشخاص غير السعداء، الساخطين، المكتئبين؛ الأشخاص الذين يرون حياتهم مليئة بالأخطاء؛ هؤلاء الناس يريدون المزيد. إنهم يتوقون بالضبط إلى ما توفره رواية الاستياء: الهدف، والتوجيه، والاستقرار، والتصور الذاتي التبريري.

لكن نيتشه قدم لنا طريقة لمحاربة التعصب، وأظهر لنا كيف يمكننا مكافحة انتشاره ومنع ظهور متعصبين جدد. أولاً، يمكننا زعزعة استقرار أي خطاب استياء يظهر في ثقافتنا. وبدلاً من ذلك، يمكننا أن نحاول محاربة الظروف التي تجعل روايات الاستياء جذابة في المقام الأول.

من خلال اتباع الاستراتيجية الأولى، جادل نيتشه بأنه بسبب افتقار روايات الاستياء إلى أساس عقلاني، وأنها تستمد قوتها بشكل رئيسي من حماسة أتباعها،فإنها يمكن أن تضعف بسبب التحول في التيار الثقافي. كان يعتقد أنه "على المدى الطويل، هُزم كل من هؤلاء المعلمين العظماء بالضحك، والعقل، والطبيعة". وبعبارة أخرى، في حين لا يمكن تقويض الروايات المتعصبة من خلال الاعتراضات العقلانية وحدها، فإنه يمكن تقويضها عندما  نجمع بين الاعتراضات العقلانية ومحاولة جعل الروايات تبدو سخيفة، ومضحكة، وكوميدية، ومتعارضة مع أجزاء مهمة من الطبيعة البشرية (على سبيل المثال، من خلال إظهار أنها تتعارض مع بعض دوافعنا أو تطلعاتنا المركزية). اعتقد نيتشه أنه يستطيع تقويض الجوانب المتعصبة للمسيحية بهذه الطريقة: فقد ادعى أنه في العصر الحديث «ما هو حاسم الآن ضد المسيحية هو ذوقنا، ولم يعد عقلنا». وأعرب عن أمله في أن تنتشر مثل هذه التغييرات في الذوق، مما يؤدي إلى تعطيل التعصب بجميع أشكاله.

أما الاستراتيجية الثانية فهي أكثر صعوبة، لكنها هي ما كان نيتشه يتوق بشدة إلى تحقيقه. بدلًا من محاولة إشباع رغبتنا في روايات مبسطة وشاملة وهويات مستقرة وموحدة، شجعنا نيتشه على تحرير أنفسنا من هذه الرغبات. لقد حثنا على أن نصبح أرواحًا حرة، وأشخاصًا مرنين وجوديًا حيث يمكنهم تكريس أنفسهم للقضايا دون جمود، والتسامح مع الشكوك والإحباطات في الحياة، ورؤية أنفسنا كتعدديين وإيجاد أسباب لتأكيد الذات. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين علينا أن نتوقف عن تجربة الغموض وعدم اليقين باعتبارهما تهديدا؛ سنحتاج إلى التوقف عن إبراز إخفاقاتنا الشخصية وعدم رضانا الشخصي إلى الخارج. يمكن للروح الحرة أن "تتخلى عن كل إيمان وكل رغبة في اليقين، وتتدرب على الحفاظ على نفسها على حبال وإمكانيات واهية والرقص حتى بالقرب من الهاوية." متسامحة مع الخطر، وغير مهددة بالغموض، وقادرة على الحفاظ على تصور إيجابي للذات دون الوقوع في الانقسامات التبسيطية، فإن الروح الحرة لن تحتاج إلى إنكار الآخرين من أجل تأكيد نفسها. لقد ظن نيتشه أنه قد حقق ذلك، وكان يأمل أن نتبعه.

(تمت)

***

................................

* منتدى إنترنت للنازيين الجدد، وأول موقع رئيسي للكراهية العنصرية على الويب.

المؤلف: بول كاتسافاناس / Paul Katsafanas أستاذ الفلسفة في جامعة بوسطن. تشمل أحدث كتبه الذات النيتشوية (2016)، وفلسفة الإخلاص (2022)، وكمحرر، التعصب وتاريخ الفلسفة (2023).

منذ أن بدأ الإنسان يعي ذاته كإنسان، بعد أن أغوى  الشيطان أو الثعبان (لا فرق) آدام وحواء، وأكلا من شجرة المعرفة كما تقول (القصة الدينيّة التوراتيّة)، وعرفا بأن لهما (عورة) لا يسترها شيء...هذه المعرفة التي كلفتهما غضب (الله) الذي وجد في معرفتهما تحد لأوامره وخروجاً عن طاعته، فأمر بطردهما من الجنة وإرسالهما إلى الأرض عقاباً لهما بعد أن حازا على معرفة ما هما عليه من عري، ومن يومها بدأ مخاض الشقاء والتعب والألم على بني آدم وحواء على هذه الأرض، وأصبح طبعا في النفس البشريّة حتى اليوم.

فالمعرفة في هذه القصة إذاً، هي سبب غضب الله على الإنسان وشقائه كما تقول الرواية الدينيّة، وهي ذاتها التي ستفرض عليه بعد نزوله إلى الأرض أن يسعى في مناكبها لمعرفة أسرارها، وما يحيط بها من ظواهر طبيعيّة واجتماعيّة، وكيفيّة التعامل مع قوانينها العمياء والتغلب عليها وتسخيرها لمصلحته، بعد أن كان في الجنة يعيش عيشة رغد جراء جهله وطاعته العمياء. هذا في الوقت الذي ظل فيه هذا الإنسان حتى بعد طرده من الجنة إلى الأرض، حائزاً على الحظوة الخاصة عند "الله" الذي جعله (خليفة له على الأرض) بالرغم من ممارسته للفساد وسفكه للدماء حتى قبل أن ينزل إلى الأرض كما تذكر الحواريّة التي جرت بين الله والملائكة!!. لقد فضله الله على الملائكة الذين خلقهم من نور ونار، وخلقه هو من طين... وهم العابدون له والمسبحون بحمده ليل نهار، والمقدسون له، والخاضعون لإرادته وتعاليمه، وهو الجاحد بنعمة الله والعاصي لأوامره والعارف بعد إغوائه حقيقة نفسه.

منذ ذاك التاريخ و(الإنسان وأخلاقه)، كانا ولم يزالا محط اهتمام الديانات السماويّة والوضعيّة فيما بعد، وكل ما يتعلق بهذه الديانات من تفريعات فكريّة وفقهيّة، جاد بها الفقهاء والحكماء والفلاسفة. والهدف من ذلك، هو، تنبيه الإنسان إلى ما يمارسه من فساد بحق نفسه وأخيه الإنسان والطبيعة، ثم العمل على إصلاحه وتطهيره من سوء خلقه، وإعادة أنسنته بما يرضي الله وتعاليمه من جهة، وما يرضي الحالة الإنسانيّة التي يطمح إلى تحقيقها على أرض الواقع هؤلاء الفقهاء والفلاسفة والمفكرون والحكماء من جهة ثانية.

على العموم، تعتبر هذه الدراسة كما أشرت في البداية، محاولة أوليّة للنظر في ممارسات فساد هذا الإنسان كما تراها الديانات السماوي، وبشكل خاص، الدين الإسلامي وفقاً للنص القرآني من جهة، وكذلك وفقاً للرؤية الفلسفيّة العقلانيّة الوضعيّة لتطور الإنسان وارتقائه من جهة ثانية، مع اعتقادي سلفاً، بأن ما سأقوله هنا أو أطرحه من حقائق تتعلق بالنص الديني المقدس تجاه قضية الفساد، لن يعجب المتزمتين، أو الجموديين  من الإسلامويين الذين يرفضون العقل أو النظر العقلي في الحكم على النص المقدس، ويقرون بضرورة الاستسلام لهذا النص والامتثال لما فسره الأولون من السلف الصالح، دون البحث عن ما هو مسكوت عنه في  مضمون هذا النص المقدس من دلالات، ثم رفضهم للرأي والرأي الأخر، متكئين في فهمهم للنص الديني على ما قاله فقهاء الفكر السلفي السابقين الذين اعتبروا أن كل رأي جديد لا يتفق مع ما قاله أو فسره الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين حتى القرن الثالث للهجرة، بدعة، وكل بدعة عندهم ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الفساد كما يراه النص الديني المقدس (القرآن):

نقول: منذ البدء كان موضوع الإنسان وفساده محط اهتمام الخالق عز وجل وملائكته، وما تلك الحواريّة الرائعة بين الخالق وملائكته عن أخلاق الإنسان وفساده وخلافته على الأرض، إلا دليلاً على أن هناك مشكلة كبرى ستواجه الإنسان ذاته، تتعلق بمدى التزامه بأوامر الله وتعاليمه التي جاء التأكيد في القرآن على ضرورة التزام بها وتنفيذها حتى يحقق الفوز العظيم، وهو رضا الله ودخول من يطيع تعاليمه الجنة. وما الحواريّة التي دارت بين الله وملائكته حول خلافة آدم على الأرض برأي إلا تأكيداً على أن الله عز وجل يقر بضرورة الحوار وأهميته من أجل الوصول إلى الحقيقة، ثم الوصول إلى قرار نهائي في خلافة هذا الإنسان على الأرض، وبحث مشكلة الفساد التي يتمتع بها هذا الإنسان منذ البدء كحالة فطريّة كما سيرد معا بعد قليل، أي قبل تكليفه بالخلافة، أو بعدها لا فرق هنا، طالما أنه أعلن معصيته لأوامر الخالق بحصوله على معرفة ذاته العارية.، وما المعصية إلا شكلاً من أشكال الفساد أيضاً، ولن تنفع تغطيتها لا بورق التين أو التوت أو غيرهما.

تقول الحوارية:

(وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة.

قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.

قال: إني أعلم ما لا تعلمون. " وعلم آدام الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة".

فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.

قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم. "فلما أنبأهم بأسمائهم"

قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.

وهنا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم،(.... فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.) . (البقرة = 30-31-32- 33- 34 ).

(قال مخاطباً ابليس: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك.

قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.

قال: فهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين.

قال إبليس: أنظرني إلى يوم يبعثون.

قال: إنك من المنظرين.

قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وشمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين.

قال: أخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين. ( الأعراف – 12-13- 14- 15- 16- 17- 18.).

بغض النظر هنا عما جاء في هذه الحوارية الرائعة بين الله جل جلاله وملائكته ومنهم (إبليس)، من تأكيد واعتراف بفساد الإنسان وفسقه فطرياً، إلا أن ما تطرحه هذه الحواريات، يفرض علينا جملة من التساؤلات المشروعة مثل: لماذا اختار الله الإنسان (آدم) ليكون خليفة له على الأرض وهو الفاسد والسفاك للدماء، بينما يبعد الملائكة الذين يسبحون بحمده ويقدسون له؟. ثم ما هي الدلالات المسوغة لتكليفه في الخلافة من خلال الاختلاء به وتعليمه الأسماء كلها دون علم الملائكة، ثم اعتبار عجز الملائكة عن معرفتها هي دليل على صلاحية أدام لهذه المهمة؟. ثم ما هي هذه الأسماء؟. وأخيراً كيف مارس أدام الفساد وسفك الدماء في الجنة ومع من كما اشار الملائكة؟. أما مسألة الحوار مع ابليس فلها أسئلتها المشروعة أيضاً مثل: كيف يسمح الله عز وجل لإبليس أن يتحداه بهذه الطريقة وهو من خلقه، وهو القادر على الغاء وجوده أصلاً؟. ثم ما ذنب الإنسان أن يحاسب عن فساده ويوضع في جهنم وقد غض الله النظر عن تحدي إبليس له بأنه سيفسد ويغوي ويبعد الإنسان عن الصراط المستقيم؟.

على العموم إن هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المشروعة تظل بحاجة لأجوبة عقلانيّة بعيدة عن الذاتيّة والرؤية الميتافيزيقيّة والأسطوريّة المتبناة من قبل التيار الجبري السلفي الاستسلامي. بيد أن المهم في هذه الحوريات هو معرفتنا بأن الإنسان فاسد في طبعه كما يقول النص الديني المقدس، وأن إبليس قد غُض عنه النظر مع الشياطين لزيادة فساد هذا الإنسان، ومع ذلك كُلف خليفة الله في إدارة أمور الحياة على هذه الأرض؟!.

من هذا المنطلق أصبح الإنسان خليفة على الأرض بأمر الله عز وجل بعد أن تاب عنه أو سامحه على معصيته، بيد أن الفساد بعد خلافته ظل قائما في طبعه، حيث عاث في الأرض بعد نزوله إليها أكثر فساداً وظلما، وفسقاً، وقتلاً وتدميراً، إلى أن (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ...) (الروم = 41). وللقضاء على هذا الفساد كلف الله  العديد من الأنبياء والرسل من البشر الصالحين لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وأنزل عليهم الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن، كي يهديهم إلى الخير والمحبة والرحمة فيما بينهم، ويوقفهم عن بغيهم بعد أن نسوا تعاليم الله وخرجوا عن إرادته، ولكنهم لم يستجيبوا، ولم يسمعوا كلام الله ولا تعاليم أنبيائه ورسله وكذبوها،. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.). (الأعراف- 36).  ونتيجة لما سار عليه الإنسان من بغي وعدم طاعة تعاليم الله، كان غضب الله علي الإنسان شديداً في الكثير من محطات تاريخه، والتي كان أهمها ما حل بقوم نوح بسبب الطوفان، حيث أصابهم التدمير والهلاك للظالمين. ففي حادثة الطوفان كما تدل الآيات، بأن الله لم ينج من قوم نوح إلا الصالحين: (فكذبوه وأنجينا الذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عميين..). (الأعراف – 64).  ومع ذلك فقد خرج من هؤلاء الصالحين فيما بعد من هو أشد كفراً وفسقاً، وما قصة لوط مع قومه بشأن الملائكة إلا دليلاً على فساد وفسق هذا الإنسان الذي يغلب طبعه التطبع دائماً، حيث تقول الآيات في هذا الشأن: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ﴿80﴾ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿81﴾). الأعراف. ومع ذلك ظل  الإنسان أشد ظلما وكذباً على نفسه وعلى الله ، حيث راح يبرر فساده وفسقه بانه ليس من عنده، وإنما من عند أبائه، بل إن الله نفسه أمرهم به: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف- 27- (28).

نعم ظل الفساد قائما ومستشريا منذ بدء الخليقة حتى اليوم، ولم تجدِ كل الرسل والأنبياء وما أنزل الله عليهم من كتب، وما مورس بحقهم من دمار وتنكيل بسبب فسادهم، فتيلاً في تخليهم عن هذا الفساد، وإطاعة الخالق، إلا ما شاء ربك.

ففي حواريّة أخرى بين الله ونبيه إبراهيم، حول غضب الله على فساد أهل (صادوم وعاموره) من قوم لوط كما جاء في سفر التكوين من العهد القديم. بأن غضب الله تعالى بلغ حده الأقصى على "صادوم وعاموره" والقرى المجاورة، الأمر الذي جعل الرب ينزل على الأرض ليمطر المدن الزانية ناراً وكبريتاً تحرقها، ولكن عبده وخليله إبراهيم يلقاه فيخر ساجداً معفراً وجهه بأديم الأرض كي يعفوا عن قومه.

فيقول له الرب: إذهب وآتيني بخمسين من الصالحين كي أعفي عن المدن الفاسد أهلها.

فيقول للرب: مولاي وإذا لم أجد في هذه المدن خمسين باراً.

فيعود إبراهيم يرتمي على قدمي الخالق قائلاً: يا مولاي ألا يكفي أربعون؟.

فيرد عليه الخالق: بلى يا إبراهيم.

ويغيب إبراهيم ويعود، مرة بعد أخرى وهو ينقص العدد، والمولى يكتفي أخيراً بخمسة فقط، ولكنهم غير موجودين. وها هو المولى يخرج لوط وزوجه وبناته ويحقق قضاءه في المدن الزانية.

هذا هو موقع الفساد في النص الديني كما جاء في القرآن أو التوراة، فلنحاول أن نتعرف عليه في الفكر الوضعي أيضاً.

الفساد في الفكر الوضعي:

بعيداً عن كل النظريات العلميّة التي درست تطور الإنسان وارتقائه بيولوجيّاً وفيزيولوجيّاً واجتماعيّاً، يظل هذا الإنسان في المحصلة أرقى الكائنات الحيّة على هذه البسيطة لما امتاز به من قدرات عقليّة وتوظيف لأعضائه أثناء نشاطه من أجل حصوله على خيراته الماديّة والروحيّة التي ساهمت كثيراً في بقائه وتطوره وتمايزه.

إن الإنسان في تكوينه الجسمي والنفسي والأخلاقي والاجتماعي يظل مركب حاجات ماديّة وروحيّة لا تنضب، وليس لها حدود، وهو يسعى دائما عبر علاقاته مع الطبيعة والمجتمع إلى تحقيقها وإرضاء ذاته، فقسم من هذه الحاجات متوافر أو موجود بشكل طبيعي ومباشر في الطبيعة، وقسم آخر بحاجة لجهود أو نشاطات فرديّة وجماعيّة لتأمينه، وقسم آخر قد امتلكه بعض الناس وحرموه على الآخرين، بل حازوا عليه وحولوه إلى ملكيّة لهم وراحوا يستغلون الآخرين لزيادته وكسب الشهرة والقوة والسيطرة على المجتمع من خلاله... وهنا نقف عند مقولة تاريخيّة لـ "سان سيمون" تشير إلى هذا الجانب من الحاجات التي تحقق عملية استغلال الإنسان لأخيه الإنسان بعد أن استأثر بها بعض الناس وحرموها عن الآخرين، وهي: (عندما قام أول إنسان وسيج قطعة من الأرض وقال هذه ملكي وصدقه الناس، بدأ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان في التاريخ.).

مع ظهور الملكيّة الخاصة إذن، ظهر التفاوت والتناقض والصراع الطبقي في المجتمع، وبالتالي ما رافق هذا التفاوت والتناقض من قيم للاستغلال، ماديّة كانت، أو وروحيّة أو فكريّة عبر التاريخ، راحت تتبلور حالات التمايز بين أفراد المجتمع وكتله الاجتماعيّة، أي بين من أصبح مالكاً، ومن ظل منتجاً.

إن التفاوت والتمايز ما بين المالك والمنتج، راحا يتجليان على كافة المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة. فساكن القصر ليس كساكن الكوخ كما يقول (فيورباخ)، بالرغم من إقرارنا بأن ساكن الكوخ في المراحل العليا من تاريخ التفاوت والتمايز الطبقي، من الممكن أن تصبح لديه القدرة على تغيير وضعه والانتقال من الكوخ إلى القصر بناءً على ما لديه من قدرات ومهارات عقليّة تؤهله على المستوى الفردي لهذا الانتقال أو المستوى الجمعي. أو بتعبير آخر عند قيام تحولات بنيويّة عميقه على مستوى الطبقات والكتل الاجتماعيّة، ستعي الطبقات المسحوقة والمستغلة ذاتها وتبدأ تناضل من أجل تغيير واقعها وفقاً لمعطيات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة تساهم في تحقيق هذا التغيير وتجسيد مجتمع الحريّة والعدالة والمساواة. ولكن ما يهما هنا، هو التأكيد  على أن الملكيّة الخاصة التي تجاوزت حدود التوزيع العادل لها بين أفراد أي مجتمع من المجتمعات، ساهمت بشكل فاعل - وليس كعامل وحيد - في زرع بذور القهر والاستبداد والظلم والاغتراب والتشييء والاستلاب، وتنميتها في المجتمعات، حيث تُحول الناس بعد استفحالها اجتماعيّاً إلى سادة وعبيد يباعون في أسواق النخاسة، وأصبح للسادة قوانينهم وعلاقاتهم الخاصة بهم، بل راحوا من خلال سيطرتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، يسيطرون سياسيّاً وثقافيّا أيضاً، ويخلقون على مقاسهم، أو مصالحهم سلطات تشريعيّة وقضائيّة وتنفيذيّة وأخلاقيّة يتاجرون بها، تعمل على  إقناع المضطهدين، أو إجبارهم بأن حياتهم وما يحكمها من أنظمة وقوانين وسلطات تشريعيّة وتنفيذيّة مقدرة عليهم من قبل الله، وأن لحكامهم دماءً زرقاء تختلف عن دمائهم، تمنحهم الصلاحيات من الناحية الطبيعيّة والقانونيّة والدينيّة في استغلالهم وظلمهم وفسادهم للمجتمع وما عليهم إلا الخضوع لما هم فيه، وبالتالي عليهم أيضا الرضا بواقعهم والعودة إلى الصراط المستقيم الذي رسمه الله لهم كي يفوزوا بالآخرة كون الدنيا ليست إلا متاعاً، وهي فانية لا محال، كما يعلمهم رجال الدين الموالين للسلطان.

تحت مظلة هذه الأجواء التاريخيّة اللاإنسانيّة، القائمة على الذل والقهر والظلم والخوف والاستغلال والاستعباد والاستلاب والغربة والجهل... إلخ، التي رافقها بالضرورة نمط من القيم والسلوكيات اللاأخلاقيّة، مثل الكذب والنميمة والتجسس والمسكنة والمداهنة والخبث والسحر والشعوذة والدعارة والمخدرات والمتاجرة بغرائز الإنسان ومسح العقول للشعوب عبر التجهيل المقصود من قبل السلطات الاستبداديّة، (والمتاجرة بالدين وبالأخلاق المشبعة بالكذب والغش وغير ذلك من قيم وسلوكيات تعبر عن قيم الفساد المبطن التي عبر عنها النص الديني.." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ."). سورة الصف (3).)، راحت تتحرك العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في هذه المجتمعات. وأكثر ما يتجلى هذا الفساد فكراً وممارسة  في أوقات الأزمات أو التحولات التاريخيّة المصيريّة التي تمر بها الدول أو المجتمعات، وتجد هنا أن أكثر الفاسدين هم من يتاجر بالأخلاق ويحكمون بين الناس.

أمام هذه اللوحة المعقدة والمتشابكة من الظلم والفساد والاستغلال والقهر والمتاجرة بالخلاق على حساب الحقية التي أصبحت اكثر مرارة، راحت الشعوب تعي شيئاً فشيئاً مصالحها، وتعرف أن أسباب شقائها ليس سوء أعمالها، أو هو أمر مقدر عليها ومكتوب في لوح محفوظ، بل هو ظلم الإنسان للإنسان، واستحواذ قسم من أبناء المجتمع على كل شيء وحرمان الآخرين من كل شيئي. فراحت الانتفاضات والثورات الجماهيريّة على الظلم والظالمين وعلى مظاهر الفساد التي تعم المجتمعات عبر التاريخ، ممثلة بثورات العبيد والأقنان والعمال، حيث كانت معارك مصير إنسانيّة، منها ما نجح ومنها ما فشل لعدم اكتمال الظروف الموضوعيّة والذاتيّة لعوامل النجاح. هذا وقد رافقت هذه الثورات شعارات الحريّة والعدالة والمساواة، التي نظر لها الكثير من الكتاب والمفكرين والفلاسفة وبعض رجال الدين العقلانيين التنويرين ممن وقف إلى جانب صف الفقراء والمحرومين، حيث عروا الأسباب الحقيقة لما جرى ويجري من فساد، ويضعون الحلول الاقتصاديّة والسياسيّة والأخلاقيّة والتربويّة والدينيّة والفنيّة والثقافيّة يعمومها، وغيرها من مفاهيم تتعلق بالدعوة لتطبيق الحقوق الطبيعيّة والقانونيّة للإنسان، وهي الحقوق التي  سيتجاوز من خلالها الإنسان عالم قهره وظلمه وبالتالي فساده اللامشروع.  ومن هذه الحقوق التي تتضمن مبادئ الحريّة والعدالة والمساوة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة للناس جميعاً، كانت مشاريع المدن الفاضلة، وحقوق الإنسان، والدساتير وما تتضمنه من حقوق وقيم إنسانيّة نبيلة، كتحرير المرأة، والقضاء على الأميّة ونشر التعليم، وحق العمل، وتامين الرفاهية للجميع، والمشاركة في السلطة، والتعدديّة السياسيّة، وغير ذلك الكثير من المسائل التي تؤسس لبناء مجتمعات الحريّة والعدالة والمساوة ونبذ الظلم والاستغلال والفساد، وهي المعركة التي لم تزل قائمة حتى هذا التاريخ، وربما لن يربحها الإنسان كاملة، إلا أنه سيظل يناضل من أجل الحصول عليها كلما ازداد وعيه بواقعه وظروف حياته وما يحيط بها أو يؤثر بها من عوامل تَحِدُ من وعيه وبالتالي حريته... والحريّة في التعبير الأخير هي وعي الضرورة وممارستها بعقلانيّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من ديرالزور- سورية

 

تدحرج الفكر البشري وتدهور؛ عاجزا أمام الهجمة الفكرية للصعود الليبيرالي الجديد بقيادة الأحادية الأمريكية خلال التسعينات، والتي حطمت اركان الدول والأمم وافشلت سياسات الدول في التنمية والتطور؛ متحدية البنيات المالوفة والتة لفات الغارقة التي تكونت منذ العهد المعاصر؛ سواءا في مرحلة الإستعمار اوبعده، لأن المعاصرة اليوم ككل متكامل وفعل فاعل جاري مؤثر في بناء المجتمع المعاصر والحداثي الذي يتوجب عليه الإنخراط الأممي والإنساني بحتمية دالة رياضية مصاغة في بداية الطرح......ولكنه لم يتاهب لتراكمات قديمة جديدة سوف تخلق تشرذمات عالمية متصلة بالتاريخ ثم عودة قراءات جديدة للتاريخ من مخيال النفسيات الجماعية للحضارات، ومسارات الحركية الحضارية العالمية وحراكيات الذات الدخيلة في المجتمعات المتغيرة من طبيعة عميقة متجذرة في الكيان المخيالي للفرد والجماعة والتراتبات الإضافية والهامشية للبشرية ضمن ضرورات الحياة المتواصلة حتما مع التاريخ البيولوجي والنفسي للإننسانية كاملة....

و طبق الدراسات التي وضعت بنية وحركية المجتمعات في العالم المعاصر، فإن جلها ركز على التحليل العلائقي الذي إستطاع ربط التواصل بين المجتمعات والثقافات داخل نطاق الدولة وخارجها وضمن حركية العفويات الوتوماتيكية –لمسار الحياة، المتلاحقة أو ضعفها أو محاولة خلق نسق جديد طبق اهداف جديدة كما فعل الاستعمار . لذا كانت المدارس التاريخية والاجتماعية التي ظهرت في المنطقة وجوارها ساهمت في تلك المقاربات ولكنها سقطت كلها في احكام مسبقة وتنظيرات مفبركة أحيانا وخاصة عندما جعلت التابو المحرم، كمقيد لبعض العلاقات ومهندس لبعض المعاملات، وخلقت من المرجعية الدينية منيعا لكل مفارقات إجتماعية. كما حاول البعض اسقاط المحتوى الأنتروبولوجي الافريقي على المجتمعات ذات الثقافة المكتوبة المؤطرة بكل تكامل والمفهرسة لكل موضوع، ولكن تراكم الثقافي كان بالمرصاد رغم بعض المفارقات الذهبية بين الجماعات والجهات. فالتجمع المغاربي قائم منذ القديم، كما رأى ابن الخلدون على العصبية؛ تلك العصبية الإجتماعية السىلفية- المعروفة في المجتمع الإسلامي وبلاد المغارب، وهذا من طبيعة خلق الله، وضرورات الحياة.

لقد كان الطرح الفكري والفلسفي والتاريخي؛ المقدم من طرف فرانسيس فوكوياما ومعاصره صموئيل هنتنجتون، مطارحات، خلق الإهتزاز العالمي المعاصر؛ وهوالذي سوف يسر التاريخ من الألفية الثالثة وما بعدها إلى نهاية التاريخ الديمقراطي والليبيرالي الصلب الجامد المتكلس ضمن قوة استقطاب حضاري غربي سوف يسيره الفاعل الأمريكي ... لكن الرياح سوف تغرق السفينة الغربية والأمريكية بسبب الثورات العربية، التي اخرجت الروس من جحره، وحرب اوكرانيا التي أبرزت الجرح التاريخي للتوسعات الإمبراطورية للغرب والروس في عارضة رقمية واحدة وكذا ضعود الصين ومنافستها الإقتصادية والتكنولوجية للغرب.

هكذا سوف يكون الإستقطاب القادم بعد فشل العولمة، خاضعا لوضعيات مرنة وأخرى صلبة وأشكال من التغير المنعزل و الأخر المندمج وأشكال أخرى. حيث تكون المطارحات لصاحبها يورغمن هابيرماز وإدغار موران هي فلسفات جديدة تبناها الحضارات، وهم في تناظر مع مطارحات طلال أسد وطه عبد الرحمان وسامي النشار وبعض المفكرين الباكستانيين والإيرانيين العققلانيين، والتراكمات العفوية لمسار الحياة وديناميكيات التغير المركزي والطرفي حوالتي يخلقها التداول الحضاري والتناقل التكاملي لمطالب العيش المشترك الذي سوف يفشل كل النظريات ضد البشرية والإنسانية ونهاية الحروب والتصادم، وربما تكون حرب غزة آخر حرب وسبب حل نهائي لأزمة الشرق الأوسط ..

إلا أن الاسف الذي يقمعنا في وطننا الإسلامي، هوغياب نهائي –لحكم الله- فلاسفة القرن 20 عندنا مثل زكي محمود وزكريا فراد وبدوي والجابري وحسن حنفي، لكن المطارحات اليوم تبقى مدعاة فخر وإعتزاز بمطروحاتهم ومناولاتهم المتجددة للفكر والمجتمع والإبستيمولوجيا الحديثة ومنهم طه عبد الرحمان وماجد الغرباوي وناصيف نصار وسامي النشار والمسكيني وعبد اللعه الغذامي مطروحا مع الاحياء والذين يتمركزون حول كل النتاجات الفكرية الغربية والروسية واليبانية والصينية الحديثة والجارية التي تعكس كل التناقضات الفلسفية في العقل التأملي او في مجريا الحدث الإجتماعي الحضاري المتغير؛ أحيانا حتما واحيانا طبق مبرمجات محلية أوإقليمية للتغير والإنخراط العالمي للبناء المتجدد، وحيث يسهل الرقميات السريعة التناظر العلمي والإنخراط العالمي التقني.... وهذا ما سوف يجعل منهم قرائ من البراعة ونقاد من الجرأة في مستويات النقد العلمي الإبستمولوجي المتثاقف لمطارحات غيدنز وماكلوهان وجيل كيبيل وباومان وتشومسكي وكاستلز وبودريار ودريدا وغيرهم.

***

أ. عتيق العربي

في المثقف اليوم