قضايا

منذ أن بدأ الإنسان يعي ذاته كإنسان، بعد أن أغوى  الشيطان أو الثعبان (لا فرق) آدام وحواء، وأكلا من شجرة المعرفة كما تقول (القصة الدينيّة التوراتيّة)، وعرفا بأن لهما (عورة) لا يسترها شيء...هذه المعرفة التي كلفتهما غضب (الله) الذي وجد في معرفتهما تحد لأوامره وخروجاً عن طاعته، فأمر بطردهما من الجنة وإرسالهما إلى الأرض عقاباً لهما بعد أن حازا على معرفة ما هما عليه من عري، ومن يومها بدأ مخاض الشقاء والتعب والألم على بني آدم وحواء على هذه الأرض، وأصبح طبعا في النفس البشريّة حتى اليوم.

فالمعرفة في هذه القصة إذاً، هي سبب غضب الله على الإنسان وشقائه كما تقول الرواية الدينيّة، وهي ذاتها التي ستفرض عليه بعد نزوله إلى الأرض أن يسعى في مناكبها لمعرفة أسرارها، وما يحيط بها من ظواهر طبيعيّة واجتماعيّة، وكيفيّة التعامل مع قوانينها العمياء والتغلب عليها وتسخيرها لمصلحته، بعد أن كان في الجنة يعيش عيشة رغد جراء جهله وطاعته العمياء. هذا في الوقت الذي ظل فيه هذا الإنسان حتى بعد طرده من الجنة إلى الأرض، حائزاً على الحظوة الخاصة عند "الله" الذي جعله (خليفة له على الأرض) بالرغم من ممارسته للفساد وسفكه للدماء حتى قبل أن ينزل إلى الأرض كما تذكر الحواريّة التي جرت بين الله والملائكة!!. لقد فضله الله على الملائكة الذين خلقهم من نور ونار، وخلقه هو من طين... وهم العابدون له والمسبحون بحمده ليل نهار، والمقدسون له، والخاضعون لإرادته وتعاليمه، وهو الجاحد بنعمة الله والعاصي لأوامره والعارف بعد إغوائه حقيقة نفسه.

منذ ذاك التاريخ و(الإنسان وأخلاقه)، كانا ولم يزالا محط اهتمام الديانات السماويّة والوضعيّة فيما بعد، وكل ما يتعلق بهذه الديانات من تفريعات فكريّة وفقهيّة، جاد بها الفقهاء والحكماء والفلاسفة. والهدف من ذلك، هو، تنبيه الإنسان إلى ما يمارسه من فساد بحق نفسه وأخيه الإنسان والطبيعة، ثم العمل على إصلاحه وتطهيره من سوء خلقه، وإعادة أنسنته بما يرضي الله وتعاليمه من جهة، وما يرضي الحالة الإنسانيّة التي يطمح إلى تحقيقها على أرض الواقع هؤلاء الفقهاء والفلاسفة والمفكرون والحكماء من جهة ثانية.

على العموم، تعتبر هذه الدراسة كما أشرت في البداية، محاولة أوليّة للنظر في ممارسات فساد هذا الإنسان كما تراها الديانات السماوي، وبشكل خاص، الدين الإسلامي وفقاً للنص القرآني من جهة، وكذلك وفقاً للرؤية الفلسفيّة العقلانيّة الوضعيّة لتطور الإنسان وارتقائه من جهة ثانية، مع اعتقادي سلفاً، بأن ما سأقوله هنا أو أطرحه من حقائق تتعلق بالنص الديني المقدس تجاه قضية الفساد، لن يعجب المتزمتين، أو الجموديين  من الإسلامويين الذين يرفضون العقل أو النظر العقلي في الحكم على النص المقدس، ويقرون بضرورة الاستسلام لهذا النص والامتثال لما فسره الأولون من السلف الصالح، دون البحث عن ما هو مسكوت عنه في  مضمون هذا النص المقدس من دلالات، ثم رفضهم للرأي والرأي الأخر، متكئين في فهمهم للنص الديني على ما قاله فقهاء الفكر السلفي السابقين الذين اعتبروا أن كل رأي جديد لا يتفق مع ما قاله أو فسره الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين حتى القرن الثالث للهجرة، بدعة، وكل بدعة عندهم ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الفساد كما يراه النص الديني المقدس (القرآن):

نقول: منذ البدء كان موضوع الإنسان وفساده محط اهتمام الخالق عز وجل وملائكته، وما تلك الحواريّة الرائعة بين الخالق وملائكته عن أخلاق الإنسان وفساده وخلافته على الأرض، إلا دليلاً على أن هناك مشكلة كبرى ستواجه الإنسان ذاته، تتعلق بمدى التزامه بأوامر الله وتعاليمه التي جاء التأكيد في القرآن على ضرورة التزام بها وتنفيذها حتى يحقق الفوز العظيم، وهو رضا الله ودخول من يطيع تعاليمه الجنة. وما الحواريّة التي دارت بين الله وملائكته حول خلافة آدم على الأرض برأي إلا تأكيداً على أن الله عز وجل يقر بضرورة الحوار وأهميته من أجل الوصول إلى الحقيقة، ثم الوصول إلى قرار نهائي في خلافة هذا الإنسان على الأرض، وبحث مشكلة الفساد التي يتمتع بها هذا الإنسان منذ البدء كحالة فطريّة كما سيرد معا بعد قليل، أي قبل تكليفه بالخلافة، أو بعدها لا فرق هنا، طالما أنه أعلن معصيته لأوامر الخالق بحصوله على معرفة ذاته العارية.، وما المعصية إلا شكلاً من أشكال الفساد أيضاً، ولن تنفع تغطيتها لا بورق التين أو التوت أو غيرهما.

تقول الحوارية:

(وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة.

قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.

قال: إني أعلم ما لا تعلمون. " وعلم آدام الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة".

فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.

قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم. "فلما أنبأهم بأسمائهم"

قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.

وهنا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم،(.... فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.) . (البقرة = 30-31-32- 33- 34 ).

(قال مخاطباً ابليس: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك.

قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.

قال: فهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين.

قال إبليس: أنظرني إلى يوم يبعثون.

قال: إنك من المنظرين.

قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وشمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين.

قال: أخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين. ( الأعراف – 12-13- 14- 15- 16- 17- 18.).

بغض النظر هنا عما جاء في هذه الحوارية الرائعة بين الله جل جلاله وملائكته ومنهم (إبليس)، من تأكيد واعتراف بفساد الإنسان وفسقه فطرياً، إلا أن ما تطرحه هذه الحواريات، يفرض علينا جملة من التساؤلات المشروعة مثل: لماذا اختار الله الإنسان (آدم) ليكون خليفة له على الأرض وهو الفاسد والسفاك للدماء، بينما يبعد الملائكة الذين يسبحون بحمده ويقدسون له؟. ثم ما هي الدلالات المسوغة لتكليفه في الخلافة من خلال الاختلاء به وتعليمه الأسماء كلها دون علم الملائكة، ثم اعتبار عجز الملائكة عن معرفتها هي دليل على صلاحية أدام لهذه المهمة؟. ثم ما هي هذه الأسماء؟. وأخيراً كيف مارس أدام الفساد وسفك الدماء في الجنة ومع من كما اشار الملائكة؟. أما مسألة الحوار مع ابليس فلها أسئلتها المشروعة أيضاً مثل: كيف يسمح الله عز وجل لإبليس أن يتحداه بهذه الطريقة وهو من خلقه، وهو القادر على الغاء وجوده أصلاً؟. ثم ما ذنب الإنسان أن يحاسب عن فساده ويوضع في جهنم وقد غض الله النظر عن تحدي إبليس له بأنه سيفسد ويغوي ويبعد الإنسان عن الصراط المستقيم؟.

على العموم إن هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المشروعة تظل بحاجة لأجوبة عقلانيّة بعيدة عن الذاتيّة والرؤية الميتافيزيقيّة والأسطوريّة المتبناة من قبل التيار الجبري السلفي الاستسلامي. بيد أن المهم في هذه الحوريات هو معرفتنا بأن الإنسان فاسد في طبعه كما يقول النص الديني المقدس، وأن إبليس قد غُض عنه النظر مع الشياطين لزيادة فساد هذا الإنسان، ومع ذلك كُلف خليفة الله في إدارة أمور الحياة على هذه الأرض؟!.

من هذا المنطلق أصبح الإنسان خليفة على الأرض بأمر الله عز وجل بعد أن تاب عنه أو سامحه على معصيته، بيد أن الفساد بعد خلافته ظل قائما في طبعه، حيث عاث في الأرض بعد نزوله إليها أكثر فساداً وظلما، وفسقاً، وقتلاً وتدميراً، إلى أن (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ...) (الروم = 41). وللقضاء على هذا الفساد كلف الله  العديد من الأنبياء والرسل من البشر الصالحين لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وأنزل عليهم الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن، كي يهديهم إلى الخير والمحبة والرحمة فيما بينهم، ويوقفهم عن بغيهم بعد أن نسوا تعاليم الله وخرجوا عن إرادته، ولكنهم لم يستجيبوا، ولم يسمعوا كلام الله ولا تعاليم أنبيائه ورسله وكذبوها،. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.). (الأعراف- 36).  ونتيجة لما سار عليه الإنسان من بغي وعدم طاعة تعاليم الله، كان غضب الله علي الإنسان شديداً في الكثير من محطات تاريخه، والتي كان أهمها ما حل بقوم نوح بسبب الطوفان، حيث أصابهم التدمير والهلاك للظالمين. ففي حادثة الطوفان كما تدل الآيات، بأن الله لم ينج من قوم نوح إلا الصالحين: (فكذبوه وأنجينا الذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عميين..). (الأعراف – 64).  ومع ذلك فقد خرج من هؤلاء الصالحين فيما بعد من هو أشد كفراً وفسقاً، وما قصة لوط مع قومه بشأن الملائكة إلا دليلاً على فساد وفسق هذا الإنسان الذي يغلب طبعه التطبع دائماً، حيث تقول الآيات في هذا الشأن: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ﴿80﴾ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿81﴾). الأعراف. ومع ذلك ظل  الإنسان أشد ظلما وكذباً على نفسه وعلى الله ، حيث راح يبرر فساده وفسقه بانه ليس من عنده، وإنما من عند أبائه، بل إن الله نفسه أمرهم به: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف- 27- (28).

نعم ظل الفساد قائما ومستشريا منذ بدء الخليقة حتى اليوم، ولم تجدِ كل الرسل والأنبياء وما أنزل الله عليهم من كتب، وما مورس بحقهم من دمار وتنكيل بسبب فسادهم، فتيلاً في تخليهم عن هذا الفساد، وإطاعة الخالق، إلا ما شاء ربك.

ففي حواريّة أخرى بين الله ونبيه إبراهيم، حول غضب الله على فساد أهل (صادوم وعاموره) من قوم لوط كما جاء في سفر التكوين من العهد القديم. بأن غضب الله تعالى بلغ حده الأقصى على "صادوم وعاموره" والقرى المجاورة، الأمر الذي جعل الرب ينزل على الأرض ليمطر المدن الزانية ناراً وكبريتاً تحرقها، ولكن عبده وخليله إبراهيم يلقاه فيخر ساجداً معفراً وجهه بأديم الأرض كي يعفوا عن قومه.

فيقول له الرب: إذهب وآتيني بخمسين من الصالحين كي أعفي عن المدن الفاسد أهلها.

فيقول للرب: مولاي وإذا لم أجد في هذه المدن خمسين باراً.

فيعود إبراهيم يرتمي على قدمي الخالق قائلاً: يا مولاي ألا يكفي أربعون؟.

فيرد عليه الخالق: بلى يا إبراهيم.

ويغيب إبراهيم ويعود، مرة بعد أخرى وهو ينقص العدد، والمولى يكتفي أخيراً بخمسة فقط، ولكنهم غير موجودين. وها هو المولى يخرج لوط وزوجه وبناته ويحقق قضاءه في المدن الزانية.

هذا هو موقع الفساد في النص الديني كما جاء في القرآن أو التوراة، فلنحاول أن نتعرف عليه في الفكر الوضعي أيضاً.

الفساد في الفكر الوضعي:

بعيداً عن كل النظريات العلميّة التي درست تطور الإنسان وارتقائه بيولوجيّاً وفيزيولوجيّاً واجتماعيّاً، يظل هذا الإنسان في المحصلة أرقى الكائنات الحيّة على هذه البسيطة لما امتاز به من قدرات عقليّة وتوظيف لأعضائه أثناء نشاطه من أجل حصوله على خيراته الماديّة والروحيّة التي ساهمت كثيراً في بقائه وتطوره وتمايزه.

إن الإنسان في تكوينه الجسمي والنفسي والأخلاقي والاجتماعي يظل مركب حاجات ماديّة وروحيّة لا تنضب، وليس لها حدود، وهو يسعى دائما عبر علاقاته مع الطبيعة والمجتمع إلى تحقيقها وإرضاء ذاته، فقسم من هذه الحاجات متوافر أو موجود بشكل طبيعي ومباشر في الطبيعة، وقسم آخر بحاجة لجهود أو نشاطات فرديّة وجماعيّة لتأمينه، وقسم آخر قد امتلكه بعض الناس وحرموه على الآخرين، بل حازوا عليه وحولوه إلى ملكيّة لهم وراحوا يستغلون الآخرين لزيادته وكسب الشهرة والقوة والسيطرة على المجتمع من خلاله... وهنا نقف عند مقولة تاريخيّة لـ "سان سيمون" تشير إلى هذا الجانب من الحاجات التي تحقق عملية استغلال الإنسان لأخيه الإنسان بعد أن استأثر بها بعض الناس وحرموها عن الآخرين، وهي: (عندما قام أول إنسان وسيج قطعة من الأرض وقال هذه ملكي وصدقه الناس، بدأ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان في التاريخ.).

مع ظهور الملكيّة الخاصة إذن، ظهر التفاوت والتناقض والصراع الطبقي في المجتمع، وبالتالي ما رافق هذا التفاوت والتناقض من قيم للاستغلال، ماديّة كانت، أو وروحيّة أو فكريّة عبر التاريخ، راحت تتبلور حالات التمايز بين أفراد المجتمع وكتله الاجتماعيّة، أي بين من أصبح مالكاً، ومن ظل منتجاً.

إن التفاوت والتمايز ما بين المالك والمنتج، راحا يتجليان على كافة المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة. فساكن القصر ليس كساكن الكوخ كما يقول (فيورباخ)، بالرغم من إقرارنا بأن ساكن الكوخ في المراحل العليا من تاريخ التفاوت والتمايز الطبقي، من الممكن أن تصبح لديه القدرة على تغيير وضعه والانتقال من الكوخ إلى القصر بناءً على ما لديه من قدرات ومهارات عقليّة تؤهله على المستوى الفردي لهذا الانتقال أو المستوى الجمعي. أو بتعبير آخر عند قيام تحولات بنيويّة عميقه على مستوى الطبقات والكتل الاجتماعيّة، ستعي الطبقات المسحوقة والمستغلة ذاتها وتبدأ تناضل من أجل تغيير واقعها وفقاً لمعطيات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة تساهم في تحقيق هذا التغيير وتجسيد مجتمع الحريّة والعدالة والمساواة. ولكن ما يهما هنا، هو التأكيد  على أن الملكيّة الخاصة التي تجاوزت حدود التوزيع العادل لها بين أفراد أي مجتمع من المجتمعات، ساهمت بشكل فاعل - وليس كعامل وحيد - في زرع بذور القهر والاستبداد والظلم والاغتراب والتشييء والاستلاب، وتنميتها في المجتمعات، حيث تُحول الناس بعد استفحالها اجتماعيّاً إلى سادة وعبيد يباعون في أسواق النخاسة، وأصبح للسادة قوانينهم وعلاقاتهم الخاصة بهم، بل راحوا من خلال سيطرتهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، يسيطرون سياسيّاً وثقافيّا أيضاً، ويخلقون على مقاسهم، أو مصالحهم سلطات تشريعيّة وقضائيّة وتنفيذيّة وأخلاقيّة يتاجرون بها، تعمل على  إقناع المضطهدين، أو إجبارهم بأن حياتهم وما يحكمها من أنظمة وقوانين وسلطات تشريعيّة وتنفيذيّة مقدرة عليهم من قبل الله، وأن لحكامهم دماءً زرقاء تختلف عن دمائهم، تمنحهم الصلاحيات من الناحية الطبيعيّة والقانونيّة والدينيّة في استغلالهم وظلمهم وفسادهم للمجتمع وما عليهم إلا الخضوع لما هم فيه، وبالتالي عليهم أيضا الرضا بواقعهم والعودة إلى الصراط المستقيم الذي رسمه الله لهم كي يفوزوا بالآخرة كون الدنيا ليست إلا متاعاً، وهي فانية لا محال، كما يعلمهم رجال الدين الموالين للسلطان.

تحت مظلة هذه الأجواء التاريخيّة اللاإنسانيّة، القائمة على الذل والقهر والظلم والخوف والاستغلال والاستعباد والاستلاب والغربة والجهل... إلخ، التي رافقها بالضرورة نمط من القيم والسلوكيات اللاأخلاقيّة، مثل الكذب والنميمة والتجسس والمسكنة والمداهنة والخبث والسحر والشعوذة والدعارة والمخدرات والمتاجرة بغرائز الإنسان ومسح العقول للشعوب عبر التجهيل المقصود من قبل السلطات الاستبداديّة، (والمتاجرة بالدين وبالأخلاق المشبعة بالكذب والغش وغير ذلك من قيم وسلوكيات تعبر عن قيم الفساد المبطن التي عبر عنها النص الديني.." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ."). سورة الصف (3).)، راحت تتحرك العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في هذه المجتمعات. وأكثر ما يتجلى هذا الفساد فكراً وممارسة  في أوقات الأزمات أو التحولات التاريخيّة المصيريّة التي تمر بها الدول أو المجتمعات، وتجد هنا أن أكثر الفاسدين هم من يتاجر بالأخلاق ويحكمون بين الناس.

أمام هذه اللوحة المعقدة والمتشابكة من الظلم والفساد والاستغلال والقهر والمتاجرة بالخلاق على حساب الحقية التي أصبحت اكثر مرارة، راحت الشعوب تعي شيئاً فشيئاً مصالحها، وتعرف أن أسباب شقائها ليس سوء أعمالها، أو هو أمر مقدر عليها ومكتوب في لوح محفوظ، بل هو ظلم الإنسان للإنسان، واستحواذ قسم من أبناء المجتمع على كل شيء وحرمان الآخرين من كل شيئي. فراحت الانتفاضات والثورات الجماهيريّة على الظلم والظالمين وعلى مظاهر الفساد التي تعم المجتمعات عبر التاريخ، ممثلة بثورات العبيد والأقنان والعمال، حيث كانت معارك مصير إنسانيّة، منها ما نجح ومنها ما فشل لعدم اكتمال الظروف الموضوعيّة والذاتيّة لعوامل النجاح. هذا وقد رافقت هذه الثورات شعارات الحريّة والعدالة والمساواة، التي نظر لها الكثير من الكتاب والمفكرين والفلاسفة وبعض رجال الدين العقلانيين التنويرين ممن وقف إلى جانب صف الفقراء والمحرومين، حيث عروا الأسباب الحقيقة لما جرى ويجري من فساد، ويضعون الحلول الاقتصاديّة والسياسيّة والأخلاقيّة والتربويّة والدينيّة والفنيّة والثقافيّة يعمومها، وغيرها من مفاهيم تتعلق بالدعوة لتطبيق الحقوق الطبيعيّة والقانونيّة للإنسان، وهي الحقوق التي  سيتجاوز من خلالها الإنسان عالم قهره وظلمه وبالتالي فساده اللامشروع.  ومن هذه الحقوق التي تتضمن مبادئ الحريّة والعدالة والمساوة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة للناس جميعاً، كانت مشاريع المدن الفاضلة، وحقوق الإنسان، والدساتير وما تتضمنه من حقوق وقيم إنسانيّة نبيلة، كتحرير المرأة، والقضاء على الأميّة ونشر التعليم، وحق العمل، وتامين الرفاهية للجميع، والمشاركة في السلطة، والتعدديّة السياسيّة، وغير ذلك الكثير من المسائل التي تؤسس لبناء مجتمعات الحريّة والعدالة والمساوة ونبذ الظلم والاستغلال والفساد، وهي المعركة التي لم تزل قائمة حتى هذا التاريخ، وربما لن يربحها الإنسان كاملة، إلا أنه سيظل يناضل من أجل الحصول عليها كلما ازداد وعيه بواقعه وظروف حياته وما يحيط بها أو يؤثر بها من عوامل تَحِدُ من وعيه وبالتالي حريته... والحريّة في التعبير الأخير هي وعي الضرورة وممارستها بعقلانيّة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من ديرالزور- سورية

 

تدحرج الفكر البشري وتدهور؛ عاجزا أمام الهجمة الفكرية للصعود الليبيرالي الجديد بقيادة الأحادية الأمريكية خلال التسعينات، والتي حطمت اركان الدول والأمم وافشلت سياسات الدول في التنمية والتطور؛ متحدية البنيات المالوفة والتة لفات الغارقة التي تكونت منذ العهد المعاصر؛ سواءا في مرحلة الإستعمار اوبعده، لأن المعاصرة اليوم ككل متكامل وفعل فاعل جاري مؤثر في بناء المجتمع المعاصر والحداثي الذي يتوجب عليه الإنخراط الأممي والإنساني بحتمية دالة رياضية مصاغة في بداية الطرح......ولكنه لم يتاهب لتراكمات قديمة جديدة سوف تخلق تشرذمات عالمية متصلة بالتاريخ ثم عودة قراءات جديدة للتاريخ من مخيال النفسيات الجماعية للحضارات، ومسارات الحركية الحضارية العالمية وحراكيات الذات الدخيلة في المجتمعات المتغيرة من طبيعة عميقة متجذرة في الكيان المخيالي للفرد والجماعة والتراتبات الإضافية والهامشية للبشرية ضمن ضرورات الحياة المتواصلة حتما مع التاريخ البيولوجي والنفسي للإننسانية كاملة....

و طبق الدراسات التي وضعت بنية وحركية المجتمعات في العالم المعاصر، فإن جلها ركز على التحليل العلائقي الذي إستطاع ربط التواصل بين المجتمعات والثقافات داخل نطاق الدولة وخارجها وضمن حركية العفويات الوتوماتيكية –لمسار الحياة، المتلاحقة أو ضعفها أو محاولة خلق نسق جديد طبق اهداف جديدة كما فعل الاستعمار . لذا كانت المدارس التاريخية والاجتماعية التي ظهرت في المنطقة وجوارها ساهمت في تلك المقاربات ولكنها سقطت كلها في احكام مسبقة وتنظيرات مفبركة أحيانا وخاصة عندما جعلت التابو المحرم، كمقيد لبعض العلاقات ومهندس لبعض المعاملات، وخلقت من المرجعية الدينية منيعا لكل مفارقات إجتماعية. كما حاول البعض اسقاط المحتوى الأنتروبولوجي الافريقي على المجتمعات ذات الثقافة المكتوبة المؤطرة بكل تكامل والمفهرسة لكل موضوع، ولكن تراكم الثقافي كان بالمرصاد رغم بعض المفارقات الذهبية بين الجماعات والجهات. فالتجمع المغاربي قائم منذ القديم، كما رأى ابن الخلدون على العصبية؛ تلك العصبية الإجتماعية السىلفية- المعروفة في المجتمع الإسلامي وبلاد المغارب، وهذا من طبيعة خلق الله، وضرورات الحياة.

لقد كان الطرح الفكري والفلسفي والتاريخي؛ المقدم من طرف فرانسيس فوكوياما ومعاصره صموئيل هنتنجتون، مطارحات، خلق الإهتزاز العالمي المعاصر؛ وهوالذي سوف يسر التاريخ من الألفية الثالثة وما بعدها إلى نهاية التاريخ الديمقراطي والليبيرالي الصلب الجامد المتكلس ضمن قوة استقطاب حضاري غربي سوف يسيره الفاعل الأمريكي ... لكن الرياح سوف تغرق السفينة الغربية والأمريكية بسبب الثورات العربية، التي اخرجت الروس من جحره، وحرب اوكرانيا التي أبرزت الجرح التاريخي للتوسعات الإمبراطورية للغرب والروس في عارضة رقمية واحدة وكذا ضعود الصين ومنافستها الإقتصادية والتكنولوجية للغرب.

هكذا سوف يكون الإستقطاب القادم بعد فشل العولمة، خاضعا لوضعيات مرنة وأخرى صلبة وأشكال من التغير المنعزل و الأخر المندمج وأشكال أخرى. حيث تكون المطارحات لصاحبها يورغمن هابيرماز وإدغار موران هي فلسفات جديدة تبناها الحضارات، وهم في تناظر مع مطارحات طلال أسد وطه عبد الرحمان وسامي النشار وبعض المفكرين الباكستانيين والإيرانيين العققلانيين، والتراكمات العفوية لمسار الحياة وديناميكيات التغير المركزي والطرفي حوالتي يخلقها التداول الحضاري والتناقل التكاملي لمطالب العيش المشترك الذي سوف يفشل كل النظريات ضد البشرية والإنسانية ونهاية الحروب والتصادم، وربما تكون حرب غزة آخر حرب وسبب حل نهائي لأزمة الشرق الأوسط ..

إلا أن الاسف الذي يقمعنا في وطننا الإسلامي، هوغياب نهائي –لحكم الله- فلاسفة القرن 20 عندنا مثل زكي محمود وزكريا فراد وبدوي والجابري وحسن حنفي، لكن المطارحات اليوم تبقى مدعاة فخر وإعتزاز بمطروحاتهم ومناولاتهم المتجددة للفكر والمجتمع والإبستيمولوجيا الحديثة ومنهم طه عبد الرحمان وماجد الغرباوي وناصيف نصار وسامي النشار والمسكيني وعبد اللعه الغذامي مطروحا مع الاحياء والذين يتمركزون حول كل النتاجات الفكرية الغربية والروسية واليبانية والصينية الحديثة والجارية التي تعكس كل التناقضات الفلسفية في العقل التأملي او في مجريا الحدث الإجتماعي الحضاري المتغير؛ أحيانا حتما واحيانا طبق مبرمجات محلية أوإقليمية للتغير والإنخراط العالمي للبناء المتجدد، وحيث يسهل الرقميات السريعة التناظر العلمي والإنخراط العالمي التقني.... وهذا ما سوف يجعل منهم قرائ من البراعة ونقاد من الجرأة في مستويات النقد العلمي الإبستمولوجي المتثاقف لمطارحات غيدنز وماكلوهان وجيل كيبيل وباومان وتشومسكي وكاستلز وبودريار ودريدا وغيرهم.

***

أ. عتيق العربي

إذا ما تحدثنا عن مثالب وعيوب الشخصية العراقية التقليدية (الاعتيادية) فهي عديدة ومتنوعة، للحد الذي حدا ببعض المؤرخين العراقيين ممن يتحلون بواقعية الطرح وعمق التحليل، تخصيص دراسة لافتة استعرض من خلالها تلك الأنماط العجيبة والغريبة من المثالب والعيوب التي يصعب إيجاد ما يناظرها كما "ونوعا" لدى شعوب المعمورة الأخرى. ومع ذلك فان المفارقة بهذا الشأن لا تكمن في هذا الجانب الذي ربما يكون مفهوما "ومتوقعا" لدى البعض من الكتاب والباحثين، بقدر ما يكمن في تفوق شخصية (المثقف) العراقي المعقدة في مضمار إضافة رذيلة (النرجسية) الى بقية العيوب والمثالب التي يتشاطرها مع بقية أقرانه من عامة العراقيين.

ولعل ما يعطي للمثقف العراقي مسوغ (نرجسية) الأنا الأوحد والشعور بتضخيم الذات وتفوقها، كونه يعيش في بيئة اجتماعية متخلفة بنيويا"وفاسدة سوسيولوجيا"، قلما كانت (طبيعية) في مسارات تطورها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحضاري، للحد الذي وسمت الغالبية العظمى من مكونات الشعب العراقي بميسم الركود والعطالة واللاأبالية. وهو ما يغذي لدى (مثقفنا) المعاصر دوافع (الترفع) و(التعالي) الرابضة في الأعماق السيكولوجية لشخصية (الأفندي) التي ينحدر من سلالتها، حيث يتباهى بعدته المعرفية الصدئة وحصيلته اللغوية المهجنة أمام غالبية جماهيرية جاهلة، طالما كانت ضحية سهلة الانقياد لنوازع (نخبها) المتعالمة التي لا تجيد سوى ترويج الأيديولوجيات السياسية المتطرفة وتسويق الطوباويات الدينية المتعصبة.

وهكذا، فبمقدار ما يزداد التخلف الاجتماعي ويتعمق أفقيا "وعموديا"، بقدر ما يمعن (المثقف) العراقي في إظهار عقده النفسية المقموعة واستعراض (نرجسيته) المكبوتة على نحو سافر، الأمر الذي يفسّر لنا أسباب استشراء هذه الظاهرة الشاذة داخل أوساط (النخبة) الثقافية بشكل خاص، بعدما ساهمت ظروف الحرب القاسية والمدمرة على العراق عام 2003 وما تمخض عنها وترتب عليها من انهيارات وانحرافات، في مضاعفة معدلات التقهقر الحضاري والتصحر الثقافي والتبربر الإنساني من جهة، وساعدت، من جهة أخرى، على انفلات تلك النوازع المقموعة والدوافع المكبوتة من عقالها دون خشية من رادع اجتماعي أو تأنيب من وازع أخلاقي.

ولعل من جملة مظاهر (نرجسية) الأنا الأوحد لدى المثقف العراقي، ليس فقط كونه يحب ان يحاط بمظاهر الهيبة وبهارج الأبهة من لدن الشرائح الاجتماعية قليلة التعليم شحيحة الثقافة فحسب، بل ويتطلع أن ينظر إليه - من قبل أقرانه من (المثقفين) كذلك - نظرة ملئها الإعجاب بشخصيته، والإطناب بثقافته، والانجذاب لكارزميته. ولهذا فهو وان يبدي الامتعاض من عامة الناس الذين يجهلون اسمه (المشهور) ويعزفون عن أعماله (الفريدة)، إلاّ أنه لا يلبث أن يتحول (وحش) كاسر سريع الغضب وشديد الانفعال، إزاء الناشطين في مجالات الإنتاج الفكري والثقافي ممن يعتقد أنهم (يتخطونه) في مضمار ثراء معارفهم الإنسانية، وعمق تحليلاتهم الاجتماعية، ورصانة منهجياتهم النقدية.

وإذا ما وقع المحظور وبرز من ينافسه على (عرشه) الكارتوني ويتحداه في (عرينه) المتهالك، حينذاك لا تشفع عنده قيمة للثقافة التي يرطن بها، أو يثنيه اعتبار للفكر الذي يتبجح بامتلاكه، حيث يشرع هذا (النرجسي) المتغطرس بخلع أقنعته المزركشة، والتخلي عن وقاره المصطنع؛ موجها"سهام نقده ومصوب حراب هجومه نحو كل من يستشعر أنه تجاسر على تخطي (مناطق الحرام) التي تمترس خلف حواجزها وتخندق وراء سواترها. للحد الذي يبلغ به الأمر الى الانحدار لأسفل مدارك الإسفاف في النقد والإجحاف في التقييم، ومعريا"بذات الوقت خواء عدته المعرفية وتهافت فكرياته الدونكيشوتية !.

***

ثامر عباس

شغل (القرامطة) اهتمام الكثير من الكتّاب العرب والأجانب ونشر عن حركتهم العشرات من الكتب الرصينة. وما يعنينا هو ان العقل العربي وضع القرامطة في موقفين متضادين متناقضين:

الأول، يعتبر القرامطة زنادقة وكفرة،

والثاني، يعتبرهم اول حركة اشتراكية في الأسلام،

وعن هذا التناقض الحاد في العقل الديني وتداعياته، ومقارنته بحاضر وماض بينهما مئات السنين.. يكون هدف هذه المقالة.

نشأتها الفكرية

تتعدد الروايات في اصل ونشأة وفكر القرامطة، واكثرها شيوعا أنّ مؤسّس مذهب القرامطة هو حمدان بن الأشعث الملقّب بقرمط، من سكنة الكوفة وان اصله فارسي، وانه تأثر مبكرا بالمفكر حسين الأهوازي مؤسس مذهب الأسماعيلية الباطنية، التي تعني الأنتساب الى اسماعيل بن جعفر الذي صار اماما بعد وفاة أبيه جعفر الصادق، ليشكلوا فرقة جديدة في الشيعة انشقت عن من اعتبر موسى بن جعفر هو الأمام السابع بعد أبيه، الذين يمثلون اغلبية الشيعة ويسمون بالأثنا عشرية تمييزا لهم عن الأسماعيلية.

ويحسب لحمدان (قرمط) انه استطاع تحقيق نجاح كبير في العراق في بث الدعوة الأسماعيلية، ونشرها في البحرين باختياره داعيته (ابو سعيد الجنابي).. ومنها الى اليمن والمغرب ووسط وشمال فارس، ليصبح في منتصف القرن التاسع حتى عام 899 م صاحب اقوى حركة سياسية دينية تدعو الى التغيير، وتقيم لها قيادة مركزية سرية في سورية. وكان لمعظم المدن العربية: بغداد، البصرة، مكة، دمشق، حلب، القاهرة.. قصة مع القرامطة.

وتوصف فرقة القرامطة بأنها من غلاة الشيعة، وانها كغيرها من فرق الباطنية اعتمدت عقيدة إخفاء ما يؤمنون به وإظهار أنفسهم على أنّهم مسلمون ليسهل عليهم الاندماج في المجتمع والدعوة إلى دينهم، حتّى إذا وثقوا من تابعهم أطلعوه على خفايا عقيدتهم، وهم يتأوّلون الأحكام الشرعية على ما يوافق ضلالاتهم وأهوائهم. وهناك من يلعنها لأنها تجاهر بترك الأسلام ويصفها بانها منحرفة وملحدة، وهناك من ينسبها الى الدهرية والزنادقة التي تنكر الرسل والشرائع وتدعو الى الأباحية، فيما يرى آخرون انها حركة انسانية انتقت من الدين تلك الأفكار والمفاهيم التي تساعدهم على تحقيق العدالة الأجتماعية.

ويوصف حمدان هذا بأنه صاحب شخصيّته قويّة، يتمتع بالقدرة على الأقناع، مع أنه كان فلاحا بسيطا. وألاهم هنا انه كان مفكرا وناقدا للفكر الديني، وباحثا عن التغيير. وكان ابرز ما فعله أنه ترك مذهب الأسماعيلية الباطنية وأنشأ مذهبا جديدا يمثل رؤية غير مسبوقة للواقع الذي يعيشه، وعمد في 277 هجرية الى تأسيس مركز ثقافي سياسي ديني وقلعة حصينة في الكوفة اسماه دار الهجرة، جعله منطلقا لأرسال دعاته الى الناس.. قيل انه كان يستهدف البسطاء من الناس ومن اصله فارسي، واليهود ايضا. ويعد اخوه المأمون وزكرويه بن مهرويه الذي يوصف بكرهه للأسلام.. من اشهر دعاته، فيما يعد ابن عمه وصهره (عبدان) من ابرز مفكري القرامطة.

الأستبداد.. يخلق نقيضه

حين تستبد الدولة وينفرد حكامها بالسلطة والثروة.. ينقسم التفكير في عقول الناس الى ثلاث فرق اساسي: فرقة عقل الدولة، وفرقة عقل المضطهدين، وفرقة عقل المتفرجين.. وتعمل هذه العقول على انتاج افكار تكون فيها الغلبة للفرقة التي لديها القدرة على الاقناع وتأمين متطلبات تحقيق الأهداف.

كان العقل القرمطي يمثل فرقة عقل المضطهدين، لاسيما في قطاع الفلاحين الذين تعرضوا للأضطهاد من زمن الدولة الأموية التي احتضنت الأقطاع وبالغت في فرض الضرائب والجزية على الفلاحين، وازدادوا فقرا زمن الدولة العباسية حيث كان حكامها ينعمون بالثراء وبينهم من كان فاسقا على شاكلة الخليفة الأموي الفاسق يزيد بن معاويه، هو الخليفة المعتمد على الله بن المتوكل الذي كان منغمسا في اللهو والملذات.. وظهروا في زمنه.

والمدهش في العقل القرمطي انه سبق زمانه في التفكير بتغيير واقع يدعمه العقل الديني، الى اقامة نظام سياسي اقتصادي اجتماعي يحترم انسانية الانسان وحقه في حياة كريمة، وتعد افكار حركته اول افكار اشتراكية في التاريخ تهدف لبناء مجتمع ذي علاقات انتاج مغايرة للمجتمع الذي يعرفه المسلمون.

ويذكر المفكر حسين مروة في كتابه (النزعات المادية والفلسفية في الحضارة الاسلامية) بان افكار قرمط قاربت اشتراكية كارل ماركس وسبقتها بقرون، وانها استطاعت التوصل لآّليات تمكّن المجتمع من الفكاك من الازمات الاقتصادية المتعاقبة في العصر العباسي، فيما يذكر الشاعر ادونيس في كتابه (الثابت والمتحول) بان السمة المميزة لحركة القرامطة هي انها حركة تمثل طبقة محددة وتدافع عن مصالحها وتضع من اجل ذلك برنامجا اقتصاديا سياسيا، وتبتعد عن كل التأويلات الدينية التي ادّعى العباسيون حربهم لاجلها.

ونرى، ان العقل حين يتحرر من الدين في ميدان السياسة، فانه يبدع في انتاج افكار تعالج الواقع بما يحقق انسانية الأنسان، وشاهدنا على ذلك أن دولة القرامطة سبقت دول زمانها وحققت ما لم تحققه الحركات الثورية الحديثة والأنظمة العربية الحالية بألغائها الملكية الخاصة وجعل جميع الاراضي ملكا عاما، وتخصيص عائدية الأنتاج لجميع الأفراد، وبهذا تعدّ دولة القرامطة اول دولة في التاريخ الاسلامي، وربما العالمي، تقضي عمليا على التقسيم الطبقي في المجتمع. وزادت في ذلك انها اعتمدت مبدأ التعويض الاجتماعي، فحين يحترق بيت او محل، تقوم الدولة ببناء ما احترق وتعويض صاحبه ما خسر. ويروى عن القرامطة انه اذا دخل غريب صاحب حرفة ولا يملك عملا، فان الدولة تقوم بتسليفه ثمن ادوات العمل حتى يستطيع كسب عيشه وسدادد دينه دون فائدة، وانه اذا اصاب احدهم فقر او وقع تحت طائلة دين لا يستطيع سداده، فان الدولة تقرضه دون فائدة.

ويحسب للقرامطة انهم اول حركة في التاريخ الأسلامي، وربما العالمي ايضا، تعطي المرأة دورا فاعلا و تساويها مع الرجل في اتخاذ القرارات السياسية العليا الخاصة ببناء الدولة ودعمها اقتصادياً واجتماعياً وأمنيا، وتحريرها من قيود الرجل ومشاركتها لزوجها في العمل وتحمل اعباء المسؤولية، وفتح دورات تعليمية مختلطة لتعلم الكتابة والقراءة، وسنّ قانون منع الزواج بأكثر من زوجة، والغاء المهر العالي وجعله رمزيا. وتزاد دهشة أنها اقامت طواحين مجانية لطحن البذور لعموم الناس بهدف تخليص المرأة من طحن الرحى.

بين قرمط وماركس!

هناك من يصف افكار قرمط بانها مشابهة لأفكار ماركس، وان القرامطة هم (شيوعيو الأسلام) بوصف المفكر الأيطالي بندلي جوزي، فيما نرى ان افكار قرمط كانت اكثر عملية في التطبيق من افكار ماركس الذي جاء بعده بمئات السنين، وان النظام (الأشتراكي) الذي اقامه قرمط، وابو سعيد الجنابي الذي كان عاملا يشتغل بترقيع اكياس الطحين واسس دولة القرامطة في البحرين (855 – 924 م) كان اكثر ديمقراطية من الأنظمة الشيوعية التي اعتمدت فلسفة ماركس. وما ميز قرمط أن اقواله كانت مطابقة لأفعاله. مثال ذلك انه طلب من اتباعه التنازل عن ممتلكاتهم لصالح الجماعة، وان يتبرع كل واحد منهم بدينار، فاستجابوا له لأنهم كانوا واثقين من انه ينفقها على الفقراء والمحتاجين. والأهم فكريا وسيكولوجيا في هذا الأجراء هو ان شعور الجميع في الشراكة في المال ينمي لديهم الأدراك بان القوة الاقتصادية هي السبيل الى النصر.

التطرف.. قاتل الحركات الثورية

السبب الرئيس في فشل الحركات الثورية في تاريخ الأسلام هو ان عقلها الرافض للقيم والتقاليد والمعتقدات الدينية يكون مشحونا بكراهية الآخر ويدفعها سيكولوجيا الى التطرف.

فبعد ان انطلق القرامطة اواخر القرن الثالث الهجري وخاضوا صراعا طويلا ضد الخلافة العباسية وهددوا ابواب العاصمة بغداد مرارا، وانزلوا هزيمة كبيرة بجيش العباسيين في واقعة البصرة، فان حركتهم انكفأت لتقيد دولتها في جمهورية البحرين القرمطية. وتلك مشكلة الحركات الثورية انها تفشل في الربط بين الفكر والتطبيق. فمع ان القرامطة كانوا في حروبهم التي شنوها في العراق يرفعون رايات بيضاء مكتوب عليها آيات قرآنية من قبيل (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، فان كبار مفكريهم اعلنوا انهم لا يؤمنون بيوم القيامة، ولا بالجنة والنار، ولهم رأي في وجود (الله) يعدّه خصومهم كفرا.

لكن الأخطر في تطرفهم ما كان خلافا فكريا او فلسفيا او دينيا كتلك التي ذكرناها، بل كان عمليا. ففي العام 317 هجرية توجه (ابو طاهر القرمطي) نحو مكة فخرج واليها طالبا منه الابتعاد عن المدينة المقدسة فعاجلهم بالسيف وقتلهم جميعا، ودخل المسجد الحرام وقتلوا ونهبوا وقيل انه طلب رمي جثث القتلى في بئر زمزم. ثم قام بنزع ستار الكعبة الخارجي وقلع بابها.. وقرر ان ياخذ الحجر الاسود، فأخذه وظل عندهم اكثر من عشرين سنة ليضطر العباسيين الى دفع فدية قدرها 120 الف دينار ذهبي فأعادوه الى مكانه عام 337 هجرية.

نكبة عقل التغيير

كان يمكن لعقل التغيير الذي امتاز به القرامطة ان يتحول الى ظاهرة عربية واسلامية يمتد تأثيرها الى حاضرنا المعاصر في اقامة العدالة الاجتماعية التي دعى لها الدين الاسلامي واشترطها العقل المعاصر في النظام الديمقراطي، لكن عصرهم انتهى بعد قرنين من حكم كثرت فيه الجرائم بدافع الافكار المتطرفة، وأخطأ فيه عقل التغيير في ادراك الواقع وتعامل معه بالعاطفة لا بالمنطق، وفرض على الآخر ما رآه هو حقا وعدلا. وكان من نتيجة ما حصل أن (العقل القرمطي) جعل العقل المعاصر متضادا متناقضا في الموقف منه.. بين من يصف القرامطة بأنها حركة مغالية، وانهم زنادقة وملحدين وغوغاء ومجرمين، وبين من يصف حركتهم بأنها ثورة الكادحين، وانها تتفق مع الدين الذي يدعو الى تحقيق العدالة الأجتماعية وقول النبي محمد (ساعة عدالة اجتماعية افضل من ستين سنة عبادة)، وبين من يصفهم بأنهم اوائل الشيوعيين في الأسلام.

ومهما تعددت الآراء وتنوعت وتناقضت فاننا نخلص الى حقيقة ان العقل الديني في الأنظمة السياسية عبر تاريخ الأسلام يعمد الى ترويض وتخدير العقل الجمعي ويوظف الدين لبقاء الحاكم في السلطة حتى لو كان على شاكلة الخليفة الأموي الفاسق يزيد او نظيره الخليفة العباسي المعتمد على الله.. ويفرز عقلا متمردا يهدف الى التغيير.. فتكون المواجهة بين عقل السلطة الراكد، وعقل يقنع صاحبه بان دعوته الى التغيير كصرخة في البرية، وعقل مؤمن بان تحرره من الدين ضمانة اكيدة لتحقيق التغيير.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

 

"ياأيُّها الذين آمنوا لاتُبطلوا صدقاتِكم بالمنِّ والأذى" البقرة 264

المنّ في اللغة أصله الانعام والفضل وهو بذل العطاء والاحسان، والمنانّ إسم من أسماء الله الحسنى ويعني المتفضل بعطاءه وإحسانه وأنعامه ورزقه، فالله يمنّ على عباده بباذخ العطايا وأجمل النعم، وآلاء الله جنة عرضها السموات والارض (وإن تعدّوا نعمة الله لاتحصوها) النحل 18 فهو المنان على عباده ولامنّة لأحدٍ منهم عليه جلّ وعلا.

والمنان صفة مبالغة من المنّ وهي صفة الخالق الذي (منّ) علينا بالحياة ووالتفكير والنطق وصورنا بأجمل الصور، وأنعم علينا بجزيل العطايا وأسبغ نعمه ظاهرة وباطنة وتوّجنا بنعمة العقل وخصّنا بجميل الصفات وبعث فينا الرسل والانبياء لهدايتنا طريق الحق (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) ال عمران، 164

وإذا نظرنا إلى أسماء الله الحسنى والتي هي بذات الوقت صفاته جلّ وعلا سنجد إن بعضا من هذه الصفات تتحلى بها شخصية المؤمن كالكرم والرحمة والجود والمغفرة والسلام وغيرها من الصفات التي تعطي المؤمن طيفا من الصفات الحميدة والفضائل النبيلة، لكن صفة المنان أختصت بالذات الالهية فهو وحده الذي يمنّ على عباده بالنعم وعندها تكون موضع فخر واعتزازوعرفان من العبد بأن الله (منّ) عليه بجميل نعمائه فيكون ممتنا لله والحمد والشكر هو عنوان ردّالجميل.

وقد مدح الله جلّ وعلا (المنفقين) أموالهم في سبيل الله في السراء والضراء الباذلين الخير الذين يهبون بلا (منًّ) لمن أحسنوا اليه يبتغون ثوابهم من الله جل وعلا (الذين يُنفقونَ أموالهم في سبيلِ الله ثم لايتبعونَ ماأنفقوا منّاً ولاأذىً لهم أجرهم عند رَبِّهم ولاخوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 262

وللمنّ الإلهي وجوه كثيرة أخذت سبلا متنوعة للعطاء نذكر منها:

-المنّ بالإيمان: كما في قوله تعالى (فعند الله مغانم كثيرةٌ كذلكَ كٌنتم من قبلُ فمنَّ الله عليكم فتبيوا إنَّ الله كان بما تعملون خبيرًا) النساء 94

-المنّ بالهدى: كما في قوله تعالى (يمنّون عليك أن أسلموا قل لاتمنّوا عليَّ إسلامكم بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) الحجرات 17

-المنّ بإرسال الرسل لهداية الناس: كما في قوله تعالى (لقد منَّ الله على المؤمنينَ إذ بعثَ فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياتهِ ويزكيهم ويعلمهم الكتاب َ والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين) ال عمران 164

- المنّ بالنبوة والهداية: كما في قوله تعالى (ولقد مننا على موسى وهارونَ ونجيناهما من الكرب العظيم) الصافات 114-120

- المنّ على المستضعفين في الارض وتمكينهم: كما في قوله تعالى (ونريدُ أن نَمنَّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الارض) القصص 5-6

- المنّ بالأجر غير المقطوع وغير الممنوع: كما في قوله تعالى (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون) فصلت8

- المنّ بالنجاة من العذاب: كما في قوله تعالى (قالوا إنّا كنا قبل في أهلنا مُشفقين فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم) الطور25-27

 وأما المنّ المحمود من الخلق فهو ماكانت نيته خالصة لله جلّ وعلا كمساعدة الفقراء والمحتاجين وإغاثة الملهوف والاحسان الى الاهل والاقارب والجيران وتقديم المساعدة لمن يحتاجها فشأنه شأن المطر عطاءه لاينضب كما في قوله تعالى (الذين ينفقونَ أموالهم في سبيل الله ثم لايتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم ولاخوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) البقرة263-262

وعلى الجانب الآخر فقد ورد المنّ المذموم الذي يجعل من العطايا سبيلا لإذلال الآخر وتحقيره وموضعته بموضع المهانة وهذا المنّ القبيح إنما يحط من قدر صاحبه ولايزيده إلاخسارا، فالمال مال الله والجاه من الله ووحده القادر أن يقدّر أويوسع وله مقاليد الامور، وهذا النوع المذموم من المنّ يكون أما بالقلب وهوأن يرى الشخص نفسه محسنا فيمتلأ قلبه منّا

وكِبرا، وأما أن يكون المنّ باللسان وهو أخبار الاخر بأنه تفضل عليه ولايفتأ أن يذكره بذلك كلما أ’تيحت الفرصة له وكأنما ينتظر مكافأة منه (قول معروف خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى والله غني حليم) البقرة263

والمنّ المذموم يأخذ عدة اتجاهات منها:

- التجرؤ بالمنّ على الله جل وعلا: كقوله تعالى (يمنّونَ عليكَ أَن أسلموا قُل لاتمنّوا عَليَّ إسلامكم بل الله يَمنُّ عليكم أن هداكمْ للأيمانِ إن كنتمْ صادقينَ) 17 الحجرات، وللاسف فهذا اللون من المنّ موجود فعلا وفي كل تفاصيل الحياة وحتى بإداء الواجبات الشرعية، فالمنافق بدل الامتنان للخالق على نعمائه فهو يمنّ عليه والله غني عن العالمين

- المنّ بالعطية: وهو جوهر الموضوع فالمنّ يُبطل الثواب والاجر (ياأيها الذينَ آمنوا لاتُبطلوا صدقاتكم بالمنَّ والاذى) البقرة264

والانسان المنان شخص مغرور امتلأت نفسه كبرا، فهو يرى الناس بعين طبعه، فتراه يمنّ على الغريب والقريب وتكاد أن تكون هذه الصفة ملازمة له، يزينها له قرينه ليجعل منه مطية ماتفتأ تذكّر الاخر بكل شئ مهما كان صغيرا، وبدلا من أن يكون ممتنًا لنعم الله ولقدرته على العطاء فإنه يكون كثير المنّ.

وقد مثّل الله جل وعلا الشخص الذي يمنّ ويؤذي بالصدقة كالذي ينفق ماله رئاءَ الناس وليس لوجه الله –ومااكثرهم بين ظهرانينا- ليقال عنه جوادا وينال الثناء، فمثّله الله بصفوانٍ عليه تراب فيظنهُ الظان أرضاخصبة فاذا أصابه المطر ذهب التراب وبقي صلدا، فهذا التشبيه الرائع يعكس صورة الشخص الذي يمنّ على الاخرين ويكشف سوء نيته وهكذا تبطل الصدقة ولاينوبه غير سخط الله عليه، فهو من الذين لاينظر الله اليهم يوم القيامة.

 فالله هو العاطي الوهّاب وهو وحده الذي يمن على عباده بجميل آلائه، فالمنّ يختص بعطاء الله وهباته للعبد، لكن العبد إذا منَّ على الاخر بعطاء أو معروف واتبعه بتذكير وتعيير فهو عطاء قبيح ومذموم

والمنّ من النقائض المذمومة في النفس البشرية، فمامعنى العطاء والندم عليه أو اتخاذه سبيلا للتذكير ! فهذا الفعل مستقبح عند الله وعند الناس، وفي القرآن الكريم وردت آيات تحذيرية من قبح المنّ قال تعالى (ولا تمنن تستكثر) المدثر6 فالمنّ والبخل وجهان لعملة واحدة، لان البخيل ينظر الى السراب بعين الحقيقة وتعظم في نفسه العطية وإن كانت صغيرة ويتعجب بأي شئ مهما ضئُل، والمنّ ممحق للبركة جالب لغضب الله وصاحبه مطرود من رحمة الله، إذ لايمكن أن يعطي الانسان ويتباهى ويتفاخر بشئ لايملكه فالملك لله الواحد القهار وهي صفة من صفات المنافق ومظهر من مظاهر سوء الخلق، لا ن المنان لاينال من منّه غير نقصان ماله من غير أجر أوثواب.

 فالصدقة التي يهبها الانسان والمفترض أن تكون خالصة لله وغير مشروطة فإن اجتمعت المنة مع الصدقة أبطلت الاجر وإن وقعت في المعروف كدرت الصنيعة.

والمنّ البشري هو عنصر مكروه مذموم يحيل الصدقة أذىً للواهب والموهوب!!

فالواهب يشعر بالكبر والخيلاء والفخر لانه أوهب عطايا الله لمحتاج فهو كوهب الامير بما لايملك وتكبّره هذا إنما هو صغر ويزيده بعدا عن الله لرغبته برؤية أخيه كسيرا ذليلا فهو شخص مرائي وإن توهم بإنه عمل الخير، فهو مخطئ وفي ضلال كبير، فمن شروط الهبة المتصدق بها ألا تعلم اليد اليمنى بعطايا اليسرى، وهنا يُدخل المنان نفسه في سخط الله عليه ويلتحق بثلة ابتعدت عن رحمة الله .

وعليه وبعد هذا الابحار المتواضع في المنّ وتأويلاته نصل إلى حقيقة مفادها إن كل شئ في الحياة له وجهان وجه أبيض وهو طريق الخير ووجه أسود وهو طريق الشروكل وجه يعتمد على نوع التصرف فليكن معروفنا خالصًا لوجه لله سبحانه وتعالى.

ومن بديع خلق الله إنه جعل المنّ والسلوى من أجمل الطيبات وهو مايطلق عليه (منّ السماء) أو كما يسمى في شمال العراق (منّ السما) أو (ندى السما) أو (العسل السماوي) وتحديدا في مدينة السليمانية، وهو مادة صمغية دبقة يميل لونها الى الخضار شبيهة بالدبس تُنتج من أشجار المكسرات كالجوز والبلوط ولسان العصفور تتجمع فوق الجذوع والاوراق، ويقوم المزارعون بجمعها في الصباح الباكر قبل تعرضها للشمس حتى لاتفقد لزوجتها وتكوّر بشكل كرات وتدحرج وتقدم للاكل، وهي هبة ربانية بامتياز فلابذور ولاشتلات وليس للبشر دخل فيها سوى جمعها، سبحان الل ه (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى، كلوا من طيبات مارزقناكم) البقرة 57

وقد تعددت الروايات حول حلوى المنّ لكن الثابت إنه الرزق الطيب الذي أنزله الله ببركاته ورزقه الوفير وهو رمز القدرة الالهية للطيبات، واما السلوى فهو نوع من الطيور.

وأخيرا إذا تأملنا بهذه الكلمات قليلا وكثيرا (المُنفِق) و(المُنافق) فهي تبدأ بنفس المقطع (المنّ) لكن الفرق بينهما حرف واحد وهو الالف وهذا الألف فيه ماشاء الله من التأويل الذي يلخص موضوع المن ..

***

مريم لطفي الالوسي

 

أعلنت السيدة ربى شوكت الربيعي في صفحتها بالفيسبوك عن وفاة والدها الفنان العراقي الكبير شوكت الربيعي عن عمر 84 عاما. والربيعي شخصية عالمية، وفنان مرموق له بصمته:

شوكت الربيعي

ولد في محلة (الجديدة) – القادرية - مدينة العمارة – جنوب العراق 1940.

- في عام1963- أنهى دراسة الفن. وأقام أول معرض تجريبي على سياج مدرسة الرفاشية. وفي العام 

1964- أسس جماعة (الجنوب) للفنون التشكيلية في مدينة العمارة

- أقام معرضا شخصيا جديدا في قاعة نقابة المعلمين في العمارة. أنجز معارضه اللاحقة.

- في العام.. 1970-1973 انتخب رئيساً لجمعية التشكيليين العراقيين – فرع البصرة. لدورتين متتاليتين

- منحته وزارة الإعلام والثقافة ونقابة الفنانين جائزة الفنون الابداعية، وجائزة النقد الفني.2165 شوكت الربيعي فضاء ابداعي متوهج

- 1960-1990 اسهم في معارض مشتركة لجمعية ونقابة الفنانين العراقيين واتحاد التشكيليين العرب والرابطة الدولية للفنون التشكيلية

- اشترك بتأسيس رابطة نقاد الفن (الإيكا) المبدئي عام 1975م ثم الاشهار بالتأسيس عام 1982 في العراق واسهم في لقاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون التشكيلية ولجنة (الإياب) و(الإيكا) في العراق.

- نشر على صفحات صحيفة المثقف عددا كبيرا من الكتب والدراسات النقدية والفنية والفكرية والثقافية.

- أجرت معه مؤسسة المثقف حوارا مفتوحا، كان حوارا تفصيليا شيقيا، شارك فيه عدد كبير من القراء والمتابعين، حول حياته والأحداث التي مر بها خلال تجربته الفنية.2166 2165 شوكت الربيعي فضاء ابداعي متوهج بالانكليزية

- احتفت مؤسسة المثقف سنة 2011م بالفنان الكبير من خلال ملف تكريم كانت حصيلته: قرابة مئة مادة، توزعت على: مقاربات نقدية، ورؤى نقدية، وحوار مفتوح، وشهادات حية، ونصوص مهداة للفنان. اضافة الى معرضه الفني.

- منحته مؤسسة المثقف شهادة الإبداع لعام 2012م.

- أصدرت له مؤسسة المثقف كتاب بعنوان: الفنان شوكت الربيعي .. فضاء ابداعي متوهج. الذي اشتمل على جميع مساهمات الكتاب في ملف التكريم.

- 2015م، صدر كتاب التكريم مترجما الى اللغة الانكليزية.

نسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة، ولأهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

***

مؤسس المثقف

2/1/2024م

يعد أنور مغيث أحد القامات الفلسفية في جامعاتنا المصرية وواحد من الشخصيات التي تربطني به علاقة ود، حين عرفته لأول مرة وهو راجع من فرنسا للتقدم للعمل بجامعة حلوان في أواخر تسعينات القرن الماضي، حيث عُينا معا مع كوكبة محترمة في الفلسفة من أمثال الدكتور حسن طلب، والدكتور مجدي عبد الحافظ، والدكتور هاشم توفيق، والدكتورة عطيات أبو السعود.

وأنور مغيث (مع حفظ الألقاب) مثقف أكاديمي، غزير الإنتاج، وذو اهتمامات فكرية متنوعة، وله شخصية مميزة أقدرها وأجلها، فقد كان وما زال يتميز بطابع الجدية، وهو صاحب كتابات ومقالات متميزة، وصاحب رؤية فلسفية عميقة، فهو من الذين يتميزون بالرصانة الفكرية، والمنهجية الصارمة، والتتبع الجاد للأفكار وخلفياتها، والغوص العميق، والتناول الجسور، بلا خشية ولا زلفى للإشكالات الفلسفية مدار البحث من غير شطط أو تحيز أو حماسة غير متأنية لهذا الجانب الفكري أو ذاك، وكذلك الترابط الفكري من غير رتابة أو استطراد ممل.

ولذلك فإن الفلسفة في نظره بحث عن الحقيقة، ووسيلة لتحرير الشعب من الجهل والاستبداد السياسي وثالث هي جسر للتواصل بين الثقافات، وهو يسعي لتحقيق هذه الغاية من خلال:

1- دراسات فلسفية متخصصة، حيث نلاحظ أن أعماله المنشورة بالعربية هي عن الفلسفة الأوربية المعاصرة: ماركس، وديلوز، ودريدا، ومدرسة فرانكفورت.. أما أعماله المنشورة بالفرنسية وتشمل كتابا عن الفكر المصري المعاصر بعنوان " تلقي الحداثة"، بالإضافة إلى دراسات منشورة في مجلات فلسفية فرنسية عن رفاعة الطهطاوي، ولطفي السيد، وحفني ناصف، سلامة موسي في الفكر العربي المعاصر.

2- اهتم بالمقال الصحفي الفلسفي الموجه إلى القارئ غير المتخصص، وهو مستمر للآن في كتابة مقال دوري بالأهرام منذ أكثر من عشرة أعوام.

3- الترجمة، حيث يسعي أنور مغيث إلى تزويد المكتبة العربية بمؤلفات تعكس ما وصل إليه الفكر الفلسفي في الغرب.

زد على ذلك، فإن من يقرأ كتاباته ومقالاته لا يسعه إلا أن يعترف بأنه مثلما يتحلى رجل الأمن العام بروحية الأمن والنظام، فإن أنور مغيث يتحلى بنفس تلك الروحية في المحافظة على نزاهة التفكير ودقة التعبير.

وإذا جاز لي أن أشبه كتاباته ومقالاته بثوب المرأة، إذا قصر عن حده المعقول كشف عن عيوب وعورات، وإن طال عن حده المعقول أخفى مفاتن ومحاسن، ويمكننا هنا أن أسجل لأنور مغيث حقيقة أن كان موفقا في احترام هذا المقياس إلى حد بعيد.

من عادتي حين أكتب عن شخصية ما، أحب أن أغوص في مشروعها الفكري، وأنور مغيث من الشخصيات الفلسفية التي لا تميل إلى وضع رشته ووصفات جاهزة لمشروع فكري، ولكنه يؤمن بأنه مع المعاصرة التي تفرض نفسها حسب قوله في مقالاته تلقائيا ولا تحتاج إلى جهد فكري واع للدفاع عنها، فقد تبنت اليابان حسب اعتقاده الفكر الغربي في العلم والسياسة ولم تضع أمامه أي عائق باسم الأصالة، وكذلك الصينيين المدافعون عن الأصالة هم المدافعون عن استمرار الاستبداد.

ومن جهة أخرى وبالذات فيما يخص مستقبل المشروعات الفلسفية وبالذات بعد موت حسن حنفي لا مستقبل لها، وهذا لحسن الحظ في نظر أنور مغيث مما عرفناه باسم المشاريع الفكرية حيث لم يثر أي ضجيج، ولم يؤد إلى تقدم الوعي لأنها كانت مشاريع متواطنة مع الفكر السائد.

إتنان فقط في نظر أنور مغيث كانت لهما مشاريع فكرية ساهمت بالفعل في إيقاظ الوعي وزعزعة الركود الفكري، وهما طه حسين وزكي نحيب محمود.

أما طه حسين فهو حسب رأي أنور مغيث وبالذات في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر" والذي يعد في نظر أنور مغيث بيانا تاريخيا يبرز الدور الذى لا غنى عنه للثقافة في الانتقال من مجتمع متخلف إلى مجتمع حديث، فهو يطرح الأسس الفكرية اللازمة لكل حداثة تريد أن تصبح واقعاَ. أول هذه الأسس أن الحداثة ظاهرة تنتمى للمسار العام للبشرية وليست صيغة تخص ثقافة بعينها.

والحداثة في نظر أنور مغيث ليست مذهباَ أو عقيدة نحن مطالبون بالإيمان بها ولكنها صيغة للحياة تتحقق في أرقى تجلياتها في الغرب، وعلينا التأسي بها في مواجهة هذه الرؤية يبرز في فكرنا العربي موقفان متحفظان حسب رأي أنور مغيث : أولهما، أنني بذلك أنكر على نفسى الابتكار وأكتفى بالتقليد والتبعية؛ وثانيهما، أنني لست مضطراً للأخذ بكل شيء، ولكن أستعير ما أراه مفيداً. يرى طه حسين في كلا الموقفين تواطؤا على استمرار التخلف. ويرد على الموقف الأول بأطروحته الجريئة عن حضارة البحر المتوسط لينفي تهمة التبعية، كما يقدم اليابان باعتبارها المثال الحى الذى يطيح بهذه التحفظات، فإذا كنا نوصم أنفسنا بالتبعية فماذا يمكن أن نقول على اليابان البعيدة كل البعد عن الغرب جغرافياً وتاريخياً وثقافياً؟ وفيما يخص الموقف الثاني حينما قررت اليابان السير في طريق الحداثة تبنت دون تباطؤ نمط الحياة والقوانين والمؤسسات الغربية وعاد عليها ذلك بالنفع.

الحداثة إذن في نظر أنور مغيث اقتضاء لا مجال لإدارة الظهر له ولا مجال لإرجائه بدعوى تكوين حداثتنا الخاصة التي تسمح لنا بالتقدم الحضاري مع الاستمرار في قهر المرأة. وكل الرطانة العربية التي تتراكم منذ عقود تسعى بلا جدوى من أجل تحقيق هذا الاختيار البائس. ولهذا يظل كلام طه حسين عالياً في قيمته ومعناه.

وأما بالنسبة لزكي تجيب محمود في نظر أنور مغيث فهو مفكر له تأثير هائل على حياتنا الفكرية العربية المعاصرة. ولكى نفهم أبعاد هذا التأثير علينا أن نرجع إلى سؤال أساسي. حينما طالب أحمد لطفى السيد عام 1908 بضرورة تدريس الفلسفة في الجامعة الأهلية، حيث تساءل الناس وقتها كما يقول أنور مغيث: ما جدوى الفلسفة؟ وما هي ضرورتها لحياتنا العملية؟ وانقسم الناس وقتها إلى معسكرين، كليهما رافض للفلسفة. الأول يخشى على العقيدة من الفلسفة، ويضم رجال الدين والاستعمار الإنجليزي!، والثاني أنصار التقدم واللحاق بالحضارة الحديثة الذين كانوا يعتبرون الفلسفة من العلوم الكلامية التي تغمر حياتنا الشرقية، في حين أن المطلوب هو الاهتمام بالعلوم الدقيقة والتكنولوجية. حياة مفكرنا الكبير زكى نجيب محمود الزاخرة بالإنتاج الفكري هي الإجابة الحية المتجسدة على هذا السؤال الأساسي ما جدوى الفلسفة لحياتنا؟

كان الدكتور زكي نجيب محمود معتزاً بثقافته العربية حسب رأي أنور مغيث، ويعرف أن إسهام الحضارة العربية الإسلامية في تاريخ الفكر وتاريخ العلم الإنساني كان مهما وحاسماً. ولكن واقع الحال بعيد كل البعد عن هذا الماضي الزاهر. وكان لديه حدس بأن الجوانب المظلمة في هذا التراث مازالت حية وفاعلة، وتوجه الناس في سلوكهم واختياراتهم، فى حين أن الجوانب المضيئة توارت ولم يعد لها تأثير يذكر. من هنا كانت ضرورة العودة إلى زيارة التراث للتنقيب والفرز. وهو ما قام به مفكرنا مزوداً بمعيارين أساسيين في تقدير قيمة الأفكار وهما: العقل والتجريب. ويكفى أن نذكر كتباً مثل «تجديد الفكر العربي» و«ثقافتنا في مواجهة العصر»، التي حاول من خلالها أن يبين لنا أننا لسنا غرباء عن العقلانية ولا عن الروح العلمية، وأننا نمتلك في ثقافتنا مقومات التقدم. المهم أن نعرف ما الذى ينبغي أن نبحث عنه في تراثنا. وكما قال المفكر الفرنسي جوريس: حينما نرجع إلى الماضي، علينا أن نترك الرماد ونبحث عن الجذوة المشتعلة. الفلسفة عند كاتبنا ليست مصطلحات لاتينية يلوكها المثقفون، ولكنها رؤية توجه سلوك البشر. والتنوير عند الفيلسوف كانط هو وصول الإنسان إلى سن الرشد، ومعنى ذلك أن يتعود الإنسان على أن يفكر بنفسه ويوازن ويحسب ثم يختار بحرية، ويتحمل مسئولية اختياره، ولكن أن يبحث الإنسان عن سلطة توجهه وتختار له سواء كانت سلطة دينية أو سياسية أو أبوية، فهذا معناه أنه لم يصل بعد إلى سن الرشد. كانت هذه هى الروح الكامنة خلف مقالات الدكتور زكى الصحفية والتي وجهها لكل إنسان لكى يتمكن من تدبير أمور حياته بعقلانية.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي- كاتب مصري

 

"رحلة الدولة لتمكين المرأة في الريف المصري"

في الصباح الباسم الذي يعلن مولد صفحة جديدة من حياتنا عنوانها الأمل، قدمت صديقتي العزيزة "نور الهدى" إلى منزلي بعد أن علمت بحصولي إجازة من العمل ليست للاسترخاء، ولكن لتنظيف وترتيب المنزل. كانت برفقتها الست يامنة التي تعمل مع أختها في صناعة الأشغال اليدوية كالطبخ المنزلي للآخرين وصناعة حقائب اليد والتريكو والإكسسوار اليدوية. هي امرأة في الثلاثين من العمر تسكن إحدى القرى الصغيرة في أعماق الريف. كانت تعيش حياة متواضعة وبسيطة مع زوجها وأبنائها الخمسة. لم تكتف بدورها كأم وزوجة، فقد كانت تشعر أنها قادرة على المساهمة في دعم أسرتها؛ فقررت العمل في الأعمال اليدوية من أجل مساعدة زوجها الذي كان يعمل حرفياً باليومية من أجل تربية أبنائها الخمسة وإلحاقهم بالمدارس الحكومية، وعلى الرغم من ظهور الإرهاق عليها إلا أنها كانت دوما تعافر من أجل استمرار تعليم أبنائها بالمدارس؛ لأنها تركت التعليم في المرحلة الإعدادية؛ لتزوجيها خوفًا عليها من أن يفوتها قطار الزواج؛ فتبور- ويا ليتها قد بارت-، فقد بدت علامات المشيب والتجاعيد على وجهها الذي يكسوه الحزن بسبب كثرة الأبناء ومتطلباتهم، بجانب قلقها الدائم لمرض أختها الكبرى (الست كاملة) التي تحملت مسئولية الإنفاق على البيت بمفردها بعد أن تركها زوجها ورفض الإنفاق عليها وعلى الأبناء السبع؛ لتزوجه بفتاه صغيرة في سن بناته، وتخشى أن يحدث لأختها الكبرى مكروه.

وعقب شرائي بعضاً من الأعمال اليدوية من الست يامنة حكت لنا عما يحدث في الريف قائلةً:

- يامنة: للأسف، يا أستاذة "آمال" إنّ الآباء يفضلون تعليم الذكور، في حين يقع العبء الأكبر من الأنشطة المنزلية على عاتق الإناث. إن الرجال يقومون بالعمل من أجل الإنفاق على الأسرة وتلبية احتياجاتها، في حين أنه يوجد كثرة من الرجال ممن يلقون المسئولية بشكل كامل على زوجاتهم ،وقد يفر البعض بالزواج بأخرى، كما حدث مع أختي "كاملة". إن ما يحزنني هو أنني وغيري من النساء نقوم بالعمل سواء داخل الأسرة أو خارجها ولا يُنظر إلى مجهودنا المتضاعف بوصفه عملا منفصلا، إنني أشعر بالأسى خاصة من عدم تقدير زوجي لي، وتهديده بالزواج من أخرى لتقصيري في حقه، على الرغم من أنني أعمل -ليل نهار-حتى لا يتسرب أولادي وبناتي من التعليم، أضغط على نفسي وأُحملها فوق طاقتها حتى يصبح مستقبلهم أفضل مما أنا عليه، قد تكون الشهادة طوق نجاح لهم. وفي نهاية لقائي بالسيدة "يامنة" وعدتها بأن أساعدها في تسويق أعمالها اليدوية لدى زميلاتي في العمل، غادرت السيدة "يامنة" ولكن ظل عقلي شارداً.

-فإذا بصديقتي "نور" تقطع شرود ذهني قائلةً: أعتقد أن ما يدور في ذهنك الآن موضوع هام حول مشكلات المرأة الشرقية "النسوية الشرقية"، وأظن أنه عن الست "يامنة" بوصفها امرأة ريفية.

- نعم، صديقتي .. إن القصة ليست قصة "يامنة" فحسب، وإنما قصة العديدات من النساء الريفيات غير المتعلمات اللائي يقمن بأعمال كثيرة من أجل الحصول على قوت يومهن؛ بسبب أن شريك الحياة إما متوفىً و منفصلاً عنهن أو متزوجاً بأخرى، أو أنّ الحالة المادية بسيطة أو هجرته للخارج أو كان متخلياً عن تحمل المسئولية الأسرية، فنجدهن يقمن بالمشاركة في الزراعة والفلاحة وتربية الماشية، إلى جانب القيام بالأعمال اليدوية كالتطريز والخياطة والنسيج والحياكة وصناعة السلال والأواني أو صناعة الصابون والشموع، أضيفي لذلك القيام بدورهن الجوهري في الأعمال المنزلية وتربية الأطفال وتعليمهم. وهذه الأعمال تحتاج منهن إلى جهد يفوق قدرتهن في كثير من الأحيان.

- نور الهدي: يتبين لي من حديث الست "يامنة" أن النساء والفتيات يعانين في المناطق الريفية، خاصة أن النساء والفتيات يفتقرن إلى فرص متساوية للحصول على الموارد والأصول الإنتاجية، والخدمات العامة، مثل التعليم والرعاية الصحية، والبنية التحتية، وفي حين لا تحظى كثير من أعمالهن بالانتباه الواجب فضلا عن أنه غير مدفوع الأجر، وبخاصة مع تزايد أعباء أعمالهن بسبب هجرة الرجال إلى الخارج.(1) ولكن ما دور الدولة لتحسين وضع المرأة الريفية؟

- إن دور الدولة في مساندة المرأة وتمكينها اقتصاديًا واضح للعيان على سبيل المثال تم افتتاح معرض "تراثنا" للحرف التراثية والمنتجات اليدوية بسوهاج في الفترة من 8 وحتى 14 أكتوبر 2023م، وذلك بالجناح الخاص ببرنامج التنمية المحلية بصعيد مصر والذي يتضمن 27 عارضاً وعارضةً من أصحاب الحرف التراثية والمنتجات اليدوية من أبناء محافظة سوهاج شاركوا بعرض منتجاتهم.(2) وكذلك معرض الحرف التراثية والمنتجات اليدوية بالجيزة بمشاركة 35 عارضا من أبناء محافظة الجيزة وبمشاركة من المحافظات المجاورة، واستمر لمدة ثلاثة أيام خلال الفترة من 12 وحتى 14 سبتمبر 2023م من أجل توطين الصناعات الحرفية والتراثية لما لها من أهمية في توفير فرص عمل.(3) كل ذلك يا عزيزتي ينصب في صالح دعم عمل النساء في الأعمال اليدوية، ولكنني أحلم بالمزيد.

- نور الهدى: وما المزيد يا صديقتي الصدوق؟

- أتمنى أن تقوم الدولة ومؤسسات المجتمع المدني بالتعاون مع الشركات الخاصة بفتح معارض دائمة على مدار العام - وليس لثلاثة أو أربعة أيام خلال العام- في كل محافظة لعرض المنتجات اليدوية للسيدات الريفيات، مع وجود وسطاء للتسويق يكونون مسئولين عن خدمة أخذ المنتجات منهن وإيصالها للمعارض الكبرى، إلى جانب طرح منتجاتهن في المدن السياحية بمصر كالإسكندرية وشرم الشيخ والأقصر وأسوان وغيرها؛ لبيعها للأجانب. بل والتأكيد على ضرورة زيادة تصدير تلك المنتجات؛ لتوفير دخل للنساء المنتجات من خلال زيادة العملة الصعبة للبلاد، وحتى يتسنى للدولة تسجيل أسماء الريفيات كعاملات منتجات؛ لتقديم خدمة التأمين الصحي لهن وتوفير معاشٍ شهريّ لهنّ عند وصولهن لسن الستين.

- نور الهدي: ولكن ما دور وسائل التكنولوجيا الحديثة في دعم المنتجات اليدوية للنساء؟

- بالفعل يا "نور" قد أطلق السيد اللواء محمود شعراوي وزير التنمية المحلية مبادرة "أيادي مصر" في يوم المرأة المصرية 16 مارس 2021م. وهي منصة إلكترونية الهدف منها التسويق الإلكتروني للمنتجات اليدوية والتراثية بالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي وبالتعاون مع شركة إي-أسواق مصر. حيث يأتي المشروع في إطار إستراتيجية الدولة للتحول الرقمي؛ بهدف تمكين الفئات المهمشة وتقديم الدعم في خلق فرص عمل وتوظيف الشباب والتي تؤدى جميعها إلى التنمية في الريف ودعم المجتمعات المحلية، وخاصة فئات الشباب والمرأة في تسويق منتجاتهم ودعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، يمكن لكافة منتجي الحرف اليدوية التواصل مع المنصة من خلال منسق المنصة بكل محافظة أو من خلال الموقع الإلكتروني.(4) ولكن الأمر يحتاج إلى تسليط الضوء على منصة "أيادي مصر" إعلاميا، وتعريف النساء المنتجات للحرف اليدوية والحاصلات على قسط من التعليم بها وبكيفية التواصل من المنصة. ولأن هناك الكثيرات من النساء الريفيات غير متعلمات ولا يُجِدن استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة؛ فلابد من أن يتعرفن على كيفية التواصل المباشر مع منسق المنصة داخل محافظاتهن.

- نور الهدى: أتمنى أن يتحسن وضع الست "يامنة" وأختها في المستقبل.

- بإذن الرحمن يا "نور" سيكون الغدُ مشرقاً مليئاً بالأمل للست يامنة وغيرها من النساء الريفيات، ولكن عليهن أثناء تربية الأبناء التركيز على غرس فكرة المساواة بين الذكور والإناث في التعليم ثم التعليم وأكررها مرارًا وتكرارًا، وكذلك التوعية بخطورة الزواج المبكر مع التأكيد على ضرورة تنظيم الأسرة، فهذه عوامل أساسية لحل المعضلة في الريف المصري.

***

د. آمال طرزان - نسوية شرقية

...................

(1) موقع الأمم المتحدة اليوم الدولي للمرأة الريفية ،

https://www.un.org/ar/observances/rural-women-day , In:20/12/2023. 9:33PM.

(2) عمر وخلف: محافظ سوهاج: 27 عارضا يشاركون في معرض "تراثنا" للحرف اليدوية والتراثية اليوم السابع 7 أكتوبر 2023م.

(3) مرام محمد: افتتاح معرض الحرف التراثية والمنتجات اليدوية بالجيزة غدا بمشاركة 35 عارضا اليوم السابع 11 اغسطس 2023 م

https://www.youm7.com/story/2023/8/11

(4) وزارة التنمية المحلية: مبادرة ايادي مصر

https://mld.gov.eg/ar/p/3041/putting-reference-conditions-to-prepare-the-environmental-impact-assessment-studies-for-infrastructure-projects-of-sanitary-landfill

لينك موقع أيادي مصر: http://ayadymisr.com

يعد الأستاذ الدكتور عصمت نصار واحد من كبار المتخصصين في الفكر العربي، والذين يطلق عليهم لقب " مفكر صاحب مشروع فكري"، ومفكر "مسكون بأوجاع الوطن"، وهناك محاضرة له أعجبتني بعنوان " الفكر العربي الحديث بين غربة الخطاب وغربة المشروع"، وقد ألقاها من خلال الفيديو خاصية زووم بجامعة بغداد، حيث تساءل نصار قائلا: هل فكرة النهضة وفكرة القيام من الغفوة كانت موجودة في بنية الفكر العربي الحديث؟

وهنا يجبنا نصار بقوله: نعم ولكن عند أصحاب المشروعات وليس الخطابات، حيث لم يتقدم مفكر عربي واحدة بمفرده يتحدث كيف انتقد من !.. بل كانت هناك عصبة من المفكرين على تواصل دقيق وصريح بينهم جميعا، ومتأزر ومكمل ومتواصل لقيام النهضة العربية المأمولة التي لم تتحقق بعد، فقد أرادت الظروف أن تتوقف حركة النهضة التي نبتت بالفعل من عقول أبناء الأمة العربية، ولكن الخطابات التي ذاعت ورُوج لها في معظم الأقطار العربية،و في أجهزة الإعلام كانت مدفوعة من الآخر أو من الأغيار لإيقاف ذلك المشروع الذي ما زلنا نضعه في قفص الاتهام.

فإريك فروم في نظر نصار عندما يتحدث عن اغتراب المفكر تقول أنه رافض تماما الواقع، مع أنه سياسيا واخلاقيا ليس عن غيرة ولكن تشبها بالأغيار، وهذا لا يتفق مع الأصيل أو مع الذي يسعى إلى البناء، فالتخلي عن بلدته وجلدته، والتبرء من تراثه باسم التقدم، لا يعني أبدا الانتماء أو الإنضواء بالولاء، فلا يستطيع أحد أن يعيش بلا مأوى، والواقع شاهد بذلك .

يقول نصار: فنتأمل ما يدور من محاولات حيث نجد الكل يتكالب على هذه الأمة، ومن ذا الذي يسعى بخراب عرينه أو  كنفه أو عيشه .. الأغيار بالقطع والمستفيد منهم، ودائما وأبدا كنا لقمة سائغة وعقول تقبل الوعي الزائف لكي يردد ما يقوله الغرب وما يقوله أعداء هذه الأمة .

ثم يقول أيضا أترك الاعتراضات التي أعيي أنها تدور في عقول سيادتكم عن تلك الادعاءات التي أقولها، وهو أنه ليست هناك خطابات فلسفية في الفكر العربي بمفردها تريد أن تبني أو تتحدث عن التقدم بمنأى عن المشروع الأصيل الذي نشعر بغربته، وبين الاغتراب والغربة اتصال وتواصل واشتقاق، فإذا اكن المغترب يرفض واقعه، فإن المدرك لفكره وتراثه وحضارته وكل أفكاره التليدة في مجتمع يرفضها بمقتضى جهله بها، يصبح هذا الفكر غريبا ويشعر بغربة وأسى .

ويستطرد نصار فيقول: أقول أن المجددين الأٌوُل قد صنعوا بالفعل مشروع منذ أخريات القرن الثامن عشر له أصول وله نهج وله قضايا تتمثل في خمس: التراث، والتجديد، والحرية، والوعي، والاصلاح، ولا توجد قضية سادسة خارج هذا النطاق، وكل الخطابات التي كتبت قبل وبعد هذا العقد المتفق عليه بين أكابر مفكري العرب في مصر والشام والعراق واليمن وتونس ثم المغرب والجزائر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر .

وثمة نقطة أخري مهمة ركز عليها نصار وهي أن أخطر شيء على الدين هو استحالته إلى أيديولوجية، كما أنّ المصيبة الكبرى التي توقع بالمتدينين هى اشتغالهم للسياسة أو لتسيس مصالح الساسة باسم الدين، وقد فطن الغرب إلى هذه الحقائق التي شهدت بها الوقائع التاريخية، فقد جيشت أوربا حملاتها الصليبية الاستعمارية باسم المسيح واصطنعت أكذوبة على لسان أحد الرهبان عرفت باسم (حربة المسيح)، والفتنة الكبرى التي وقعت فى عصر الخلفاء كانت تفوح منها مطامع الساسة، وقد انقلبت بعد ذلك إلى فرق عقائدية مزقت الأمة إلى شيعة وخوارج وسنة وجميعهم يدعي أنّه يملك راية الفرقة الناجية؛ أعني أنّ أمتنا أصيبت بالداءين استحالة الدين إلى أيديولوجية في صورة الجماعات والطوائف العقدية، وخضوع قادة تلك الطوائف لألاعيب السياسة في الداخل والخارج، فمنذ عام 1453 بدأت نظرية المؤامرة التي طالما نتهكم عليها! فقد قرر علماء الاستشراق العقلي الغربيون وضع المخططات لهدم الإسلام من الداخل، وذلك عن طريقين أولهما تقوية الجماعات والفرق الجانحة بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها، وثانيها اصطناع مللٍ حديثة تحمل بين طياتها جراثيم التطرف. وما كان على أقطاب هذه الجماعات والفرق إلا السمع والطاعة لمن يمدونهم بالأفكار الضالة من جهة والأموال والعتاد من جهة ثانية، فالإخوان المسلمون صنيعة المحافل الماسونية، والشيعة المعاصرون صنيعة أمريكا، شأنهم شأن داعش والسلفية الجهادية والقاعدة. ولا يستخف القارئ بتلك الحقائق أو ما نعتقد بأنّه كذلك فجميع المتطرفين يجتمعون على دستور واحد قوامه التعصب والعنف وتمزيق الأمة الإسلامية والحيلولة بين وحدة أقطارها، بالإضافة إلى تضليل عقول شبيبتها، ولا أَمل من التكرار بأنّ مصيبتنا الكبرى في استحالة مرونة النصوص الدينية إلى جمود الأيديولوجيات النظرية والسياسية. وقد كشفت الوثائق المعاصرة عن تورط معظم قادة تلك الجماعات فيما نُطلق عليه حروب الجيل الرابع على الأمة الإسلامية ومشاركتها كذلك في خطة أمريكا لإعادة تقسيم العالم العربي، الأمر الذي تأباه بطبيعة الحال الأصول الإسلامية وغاياتها في خيرية العالم. وأتذكر حديث رسول الله الذي جاء فيه أنّ المصطفى سأل ربه عن ثلاثة فأجابه إلى اثنتين: أولهما ألا تهلك أمته من جوع وفقر، وثانيهما ألا تهلك أمته على يد أمة أخرى، أما الثالثة التي لم يجبه الله فيها أن تهلك أمته وتتمزق إذا ما استحالت إلى ما نحن فيه من ضلال وكذب وتعصب وعنف كلها من أمور السياسة، والسياسة كما نعلم لا تخلو من جمود الأيديولوجيات وسقوط القيم.

وسقوط القيم في نظر نصار يرجع إلى أزمة الخطاب الفلسفي، وهذه الأزمة كما يقول  متشعبة الأسباب ومترامية الدروب ولا يمكن إيجازها في مثل هذا المقام، ولكن يمكننا التصريح بأنّ الخطاب الفلسفي المعاصر لم يفلح في الجمع بين الثابت والمتغير في سياقاته، ولم يحسن فض النزاع المتوهم بين المنقول والمعقول ولم ينجح في التمييز بين التجديد والتبديد، فضلاً عن أنّ لغته وقعت في شرك الإيديولوجية وفقدت مرونة الحوار، وجعلت من التفكير العقلي مرادفاً للكفر، ومن التدين مرادفاً للجمود والتخلف، أضف إلى ذلك كله خلو حياتنا الثقافية المعاصرة من المتفلسفين على شاكلة حسن العطار ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأحمد فارس وحسين الجسر ومحمد عبده ومصطفى عبد الرازق فجميعهم فطن إلى أنّ الفلسفة تكمن في المنهج وليس المذهب، وأنّ الحق لا يضاد الحق.

وهنا يتساءل نصار فيقول: كيف يمكن أن يسهم تجديد الخطاب الفلسفي والديني في نبذ العنف والإرهاب، وهل يعني التجديد مجاراة لما تم في الغرب من فصل الدين عن الدنيا؟

وهنا يجيبنا فيقول: السبيل إلى ذلك في فتح باب الحوار بين المنهج الفلسفي العقلي والنهج الديني في استيعاب النص وتجديده، ولنا في قادة الفكر الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين الأسوة الحسنة، فقد اجتهدوا في تثقيف المجتمع على نحو يحول بينه وبين التطرف في كل صوره، والابتعاد عن التقليد، والتبعية في شتى دروبها. فوظيفة الفلسفة هى التفسير والتبرير وقيادة ثورة التغيير، وكل ذلك نفتقر إليه في أحاديثنا ومناظراتنا وخطاباتنا على قلتها، حتى بات الخطاب الفلسفي من أعداء الحرية.

ثم يستطرد نصار قائلا: أكرر أنّ الفلسفة هى طوق النجاة بكل ما نحن فيه من تردٍّ وانحطاط، وسبيلنا الأقوم للنهوض والرقي، ونعني بالفلسفة (المنهج). فالمنهج هو الآلية التي تمكننا من إحياء التراث ونقد الوافد والفصل بين ثوابت الهوية والمتغيرات الحضارية في التجديد، وهى التي تقوم بتوعية الرأي العام القائد وترشده إلى ما يجب الأخذ به وما ينبغي العزوف عنه وتؤهل الرأي العام التابع بقبول التحديث والمبادئ العلمية وأصول المدنية، وهى أيضاً التي تنقذ المجتمعات من الأوهام الأربعة (خرافات الموروث، والمعتقدات الزائفة، ولجاجة العوام والسفسطة، وأكاذيب أصحاب السلطة والمشاهير ومزيفي الوعي) وهي كذلك التي تستطيع التمييز بين الأفكار الزائفة والحقيقة والخيال والواقع، وتمكن الأنا من الحوار الهادئ مع الآخر لذلك كله أرى ضرورة إعادة بناء كل برامجنا التعليمية والثقافية على أسس فلسفية... وللحديث بقية..

***

أ. د. محمود محمد على – كاتب مصري

 

بدءاً أودّ القول أن الشأن الثقافي العام عربياً وعالمياً لعام 2023 قد تأثر بشدة بالأحداث الدامية في فلسطين الحبيبة وضراوة العدوان عليها. ان العالم كله ليشهد لحظة قاسية في سياق القضية الفلسطينية فرْقت المواقف والرؤى الثقافية منها الى موقفين حادّين بين مؤيّد ومندّدٍ مما يعمق المأساوية والفداحة التي تتخذها آلام هذا الشعب البطل المناهض والمتجدد كعنقاء لن يفلح أيما عدوان في كسرها أو ازهاق روحها الباسلة. ومما يشهده الشأن الثقافي هو التماهي مع كل من الموقفين الآنفي الذكر بتأثر بالأطراف السياسية العربية كما هو متعارف عليه.

ولوسائل الميديا وقنوات الانترنيت عام 2023 أثرٌ كبير في ابراز ردود أفعال جماهيرية مع أو ضدّ ازاء مواقف ثقافية تم فيها الثناء أو الانتقاد لاحراج المناوئين أو المستغرقين في السعي الى المنافع والغنائم (كالذي حدث من جهة في الثناء على مسرحي مصري وانتقاد بل ذمّ لمسرحي مصري آخر).

ان هيمنة الوسائل الرقمية ما زال هائلاً ومهيمناً على الكتاب مهما كان نوعه في العالم وفي نطاق العالم العربي أيضاً بل أكثر على نحو كارثي بما يشبه الوقوع في الفخ، فخ شبكة العنكبوت الانترنيتية ولقد أثّر ذلك بعمق في الطابع الثقافي للمنتوج الأدبي في اتجاهاتٍ عدّة. فمن ذلك مثلاً يمكنني القول أننا نشهد عودة الشفاهية والخوض فيما قيل ويقال لا فيما يُكتب ويؤسسُ لفكر، وبروز نجوم التيك توك واليوتيوب وسائر وسائل الميديا ونشر الكلام السطحي الذي لا يحمل في مضمونه أو شكله أية قيم ثقافية ولا ينتجها بالطبع. ولقد اصطبغ الكتاب الأدبي العربي بالمرور السريع عبر هذه الوسائل فليس له أي وزن غير الترويج والانتشار السريع المنطفئ من دون تأثير واضح.

 مازال الأدباء يطبعون مؤلفاتهم بأنفسهم من دون مراجعة مؤسساتية قائمة على أسس ثقافية رصينة، ما من رصد رادع للأخطاء في هذه المؤلفات مما يزيد من فسحة الاستسهال والافساد الثقافي. مازال أدباء الشفاهية اليوم ممن تكرسهم المحافل والمهرجانات نجوم هذا النمط في الانتشار بكل اندفاع وجسارة. أخطاء هذا النشر مكرسة حتى في العناوين الكبيرة والمقدمات والملخصات في الأغلفة من دون أية محاولة لاستدراك الخطأ أو تصويبه. نحن في حاجةٍ ماسة لعمل مؤسسات ثقافية مخلصة وأصيلة للعمل من أجل الثقافة لا لسواها.

لقد صار لكلٍ الحق من ناحية في الافتاء بأحكامٍ أدبية ونقدية جاهزة ومعلنة بنقاط حاسمةٍ جازمة من دون اجراء التطبيقات النقدية أو البحثية والأدلة والبراهين الموضوعية المناسبة لمعالجة النصوص الأدبية وتوجيه الرأي العام بمصداقية وبناء وعي لدى الأجيال الجديدة. لقد ازداد دأبُ النقاد الانطباعيين في الادلاء بالأحكام غير المنضبطة الى منهج نقدي أو معرفة دالّة.

هناك، بالطبع، نقد عالمي للحظة الثقافية التي يعيش في مدارها العالم عبر النت ووسائله، هذا النقد يمثل أساساً لفهم الاختلال الثقافي السائد وتفسيره من تشييء للانسان، وتشتّت للقيم، ورداءة للابداع. هناك مفردات أصبحت مكرّسة في التعليقات السريعة من نحو ذمّ (نظام التفاهة) وتكرار الاستشهاد بأقوال لامبرتو ايكو وسواه في ذمّ الحمقى الذين صار لهم الحقّ في الكلام. وأنا أقول في سياق الأدب العربي ذمّ الحمقى الذين صار لهم الحق في التأليف! وصار من هؤلاء شعراء ثم أصبح من هؤلاء الشعراء روائيون ونقاد وهلمّ جرا..

يمكننا بضمير مرتاح جداً القاء الكثرة الكاثرة مما دبّجه هؤلاء "الأدباء" في سلال القمامة والتخلّص من هذا المنتوج بقلّة وعيه ومعرفته بل بجهله والعودة الى كلاسيكيات الابداع العربي للنجاة حقاً من كوارث هذه المرحلة!

كثرة المهرجانات الاستعراضية ال Show والسير على سجادٍ أحمر لسدّ شهوات النجوم السطحيين في أكثر من محفل جعل الهوة كبيرة بين المثقف بكل مظاهر وجوده والمتلقي. نحن نشهد مهرجاناتٍ سينمائيةً من هذا النوع، ومعارض كتبٍ بنجوم ليست لهم علاقة بالكتاب وثرثرة اعلامية وضجيج لا يهم القارئ العربي ولا يسعى الى جذبه بل لوضع الطبقة الفنية والأدبية في سياق مبرر.

وأضيف هنا أن هناك منصات رقمية عربية تسعى الى نشر الأدب التافه وتروّج له، كالذي حدث مثلاً من اعلان عن أفضل شاعرة في العراق لعام 2023 وتقديم وجوه ملفقة ومجمّلة بالقوة وبالفعل بقوة التجارة التي تروّج لها. ومثل هذه الجهات تحيط بها الريبة والغايات المبطّنة سياسياً وثقافياً ويحيط بها الجهل والتصنّع القميء. كذلك تشجيع الكتابات غير المتقنة بوصفها وليدة التعبير عن الجميع فالكل من حقه أن يكون أديباً حتى ان كان غير متمكن من أدوات الكتابة والابداع.

وهناك جهات أخرى ترفع من شأن الأدب الشعبي وترسخه لجعله وريثاً بل ابناً شرعياً للأدب العربي القائم على الثقافة والفكر. وغير ذلك كثير!

حقيقةً أجد الهجاء آخر معاقل الأدب الرصين الذي اغتالته قوى الجهل والتخلف والادّعاء.

ولو أردتُ تذكر فعالية ثقافية فيمكنني التمثل بتظاهرة رياضية حدث فيها الجذب للمتلقي من عرض صور ونماذج قديمة من حضارات العراق كالذي حدث في حفل افتتاح كأس الخليج العربي لكرة القدم في البصرة، اذ قُدِّم فيه خطاب ثقافي تاريخي بانورامي عريق ومصوّر على نحو بديع، لهذا أذكره هنا بوصفه قد قدّم طقساً ثقافياً لم تقّدمه فعاليات أخرى يُفترضُ أنها ثقافية.

وقبل قليل قرأتُ عن استقطاب أدبي لقضية فلسطين في معرض كتاب بالجزائر. وهناك تجمّعات في مصر والعراق واليمن وسوريا قد ندّدتْ بعدوان الاحتلال وألقيت فيها الخطابات والأناشيد!

لعل الأعوام القادمة أكثر اشراقاً ولنأمل في اطار ذلك بمعجزات تُحسّن الواقع العربي عامةً لا الثقافي فحسب!

***

د. سهام جبار

أحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في مختلف الصناعات وأعاد تشكيل الطرائق التي نتصور بها العالم ونتفاعل معه. ومع ذلك، مع استمرار تقدم قدرات الذكاء الاصطناعي، يجد الفنانون والكتاب أنفسهم يتصارعون مع مجموعة خاصة من الاهتمامات التي تخصهم في مجالات إبداعهم.

فكيف يتسبب الذكاء الاصطناعي في إثارة القلق داخل عوالم الدينامية الإبداعية، وتأثيره على التعبير الفني وروح الخيال البشري.

لقد تغلغل الذكاء الاصطناعي في المشهد الفني بأشكال مختلفة، بدءًا من الخوارزميات التوليدية التي تنشئ فنونًا بصرية إلى نماذج اللغة التي تنتج نصوصا شعرية ونثرية .

وإذا كانت هذه الأعمال التي يولدها الذكاء الاصطناعي غالبا ما تعرض الكفاءة التقنية، فإن اقتحام الآلات للمجال المخصص تقليديا للإبداع البشري يثير أسئلة جوهرية وملحة.

غالبًا ما يستمد الفنانون والكتاب قوتهم الإبداعية من التجارب الشخصية والعواطف والنظرة العالمية المميزة. ويظهر القلق عندما يحاول الذكاء الاصطناعي، الذي يفتقر إلى الخبرات الإنسانية، تقليد هذه الصفات. هل تستطيع الآلة حقًا التقاط جوهر المشاعر الإنسانية، أم أنها مجرد تقليد جامد؟

إن الخوف من فقدان الأصالة الإنسانية هو في طليعة مخاوف المبدعين الذين يخشون أن يفتقر الأدب والفن الناتج عن الذكاء الاصطناعي إلى اللمسة الحقيقية التي تجعل الإبداعات البشرية يتردد صداها في الأوساط الفنية وتتفاعل معها الجماهير .

أيضا يثير استخدام الذكاء الاصطناعي معضلات أخلاقية، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا الملكية والإسناد والتعويض العادل للمبدعين . مع اكتساب الفن الناتج عن الذكاء الاصطناعي للاعتراف والقيمة، تصبح مسألة من يملك حقوق هذه الإبداعات معقدة بشكل متزايد. إن الفنانين يشعرون بالقلق من الاستغلال المحتمل لأعمالهم وتقليل قيمة حرفتهم في عالم يزاحمهم فيه الذكاء الاصطناعي.

وبعيدًا عن العملية الإبداعية، هناك قلق متزايد بين الفنانين والكتاب بشأن احتمالية إزاحة بعض الوظائف. مع زيادة كفاءة خوارزميات الذكاء الاصطناعي في توليد المحتوى، هل يمكن أن يكون هناك مستقبل سوف يتم فيه تهميش الفنانين والكتاب الآدميين ؟ ويشكل هذا القلق بشأن الجدوى الاقتصادية مصدر قلق ملحا لأولئك الذين يخشون أن يؤدي دمج الذكاء الاصطناعي في الصناعات الإبداعية إلى التقليل من قيمة العمل الفني البشري.

إن تقاطع الذكاء الاصطناعي والفنون هو مشهد معقد ومتطور يثير الإثارة والخوف حيث يتصارع الفنانون والكتاب مع الآثار العميقة لهذا التحول التكنولوجي، خوفًا من فقدان الأصالة، وتآكل البصمة واللمسة الإنسانية تدريجيا ، واحتمال ظهور تحديات أخلاقية واقتصادية. ومع استمرار الحوار بين الذكاء الاصطناعي والإبداع الإنساني، فمن الضروري التعامل مع هذه المخاوف بشكل مدروس، والتأكد من أن تكامل الذكاء الاصطناعي قد يعزز النسيج الغني للتعبير البشري بدلاً من إضعافه. قد يعتمد مستقبل الفن والأدب على قدرتنا على تحقيق توازن دقيق بين الابتكار والحفاظ على العناصر الإنسانية العميقة التي تحدد روحنا الإبداعية.

***

عبده حقي

 

مقدمة: يتناول البحث المسألة الأثينية وأرتباطها بمركز السلطة وشرعيتها فى محاولة لإثراء البحث حول السلطة وشرعيتها حول طبيعة العلاقة بين السياسى والديموجرافى ومعرفة إستراتيجيات مختلفة الإثينات فى التعامل مع المتغير الديموجرافى وأستثماره فى الحياة السياسية.

ففى موريتانيا على سبيل المثال سيطرة أثينية واحدة على السلطة منذ القرن السابع عشر وهى فئة الحسانية وهى خليط بين القبائل العربية والبربرية من صنهاجة غير أنه حدث تراجع ديموجرافى فى الأونة الأخيرة.للفئة الغالبة سياسيا لحساب الفئات الزنجية والتى تعد نسبة الخصوبة والسلوك الإيجابى عندها الأرفع على الأطلاق فى البلاد وهذا عامل جديد قد يدفع بالأثنيات الزنجية للمطالبة بزيادة إشراكها فى الحياة السياسية العامة.

من هذا المنطلق وجب علينا دراسة الظواهر الأجتماعية لربط ومعرفة العلاقة الأزلية بين الحياة الإجتماعية والسياسية والصراعات المسلحة بين  الشعوب على مر الحقب التاريخية الأزلية والزواج المبكر من أهم الظواهر الإجتماعية لما يخلقه من مشكلات إجتماعية وخلط بين الأنساب المتباعدة مما يثر بالسلب أو الإيجاب فى الحياة العامة للمجتمعات.

الزواج المبكر

يُعرّف الزواج المُبكّر أو ما يُسمّى بزواج الأطفال على أنّهُ الزواج الذي يكون فيه عمر أحد الطرفين أو كليهما دون سن 18 عاماً، أو لم يبلغا سن الرشد المحدد في الدولة، ويُعدّ الزواج المُبكّر أحد أنواع الزواج القسري، حيث إنّ أحد الطرفين أو كليهما لا يملك الحريّة الكاملة في الموافقة، أو لا يُظِهر موافقةً صريحةً على الزواج، حيث إنّه لا يمتلك القدرة على تحديد الشريك المناسب له، لا سيّما أنّ أسباب عدم القدرة على الموافقة قد تختلف من شخص لآخر، وذلك لعدّة عوامل منها معدل النمو الجسدي، أو النفسي، أو الجنسي، أو العاطفي، أو قد يفتقد أحد الطرفين إلى خبرات الحياة التي تُمكّنه من اتخاذ القرار المناسب، وفي كثير من الأحيان، تُعدّ الفتيات الصغيرات هنَّ الأكثر تأثّراً بظاهرة الزواج المُبكّر، حيث إنّ بعض الأسر تفرض على الطفلة شريك حياتها المستقبلي منذ ولادتها، فما أن تصل إلى سنّ تستطيع فيه الإنجاب حتّى يتمّ تزويجها فوراً.

أسباب الزواج المبكر تتعدّد أسباب الزواج المُبكّر، فهي على النحو الآتي: محدودية التعليم: إنّ حرمان الفتاة من التعليم بسبب عدم توافر وسائل النقل الآمنة بين المنزل والمدرسة، وانخفاض نوعية التعليم، وندرة فرص التعليم أدّى إلى بقاء الفتاة في منزلها فتميل نحو الزواج المُبكّر، فالفتاة التي تلقّت تعليماً لمدّة عشر سنوات تنخفض نسبة تزويجها في سن دون 18 عاماً لستّة أضعاف. ضعف الالتزام بالقانون وتنفيذه: إنّ عدم نشر المعرفة الكافية خاصةً بقانون حظر الزواج المُبكّر لعام 2006م، وفي كيفيّة تطبيق القانون ومعرفة عواقب تجاوزه أدّى إلى ضعف تنفيذه، كما أنّ هناك عدم ثقة من قِبل المجتمع بالمؤسسات المُنفّذة لهذا القانون، لا سيّما أنّ كثيراً من الأفراد يرون أنّ التقاليد والأعراف أقوى من القانون والمؤسسات، حيث إنّ عدد حالات التبليغ عن الزواج المُبكّر قليلة جداً. سوء الوضع الاقتصادي: أكثر من نصف الفتيات اللاتي تزوجن في سن مُبكّر هنّ من أفقر الأسر في العالم، وذلك لأنّ الأسرة التي تُعاني من الفقر تعتبر الزواج المُبكّر طريقةً لتحسين وضعها الاقتصادي، حيث إنّها تعتبر المهر المدفوع فرصةً لتأمين حاجات الأسرة، وتغطية الديون المتراكمة، وحلّ الأزمات الاقتصادية التي تمرّ بها الأسرة، كما أنّ هذه الأسر تعتبر زواج ابنة لديهم يُقلّل من نفقات الأسرة مع الاطمئنان إلى أنّها ستحصل على الطعام، والملبس، والتعليم المناسب بعد زواجها، أمّا في بعض الدول التي يقع فيها مهر الزواج على عاتق ذوي الزوجة فتميل أسرتها لتزويجها في سن مُبكّر، حيث تدفع أموالاً أقل إذا كانت العروس شابةً غير متعلمة.

التقاليد الاجتماعية: كثيرٌ من المجتمعات تعتبر أنّ الفتاة التي تعدّت سنّ الحيض قد أصبحت امرأةً في نظر المجتمع، ومن التقليد أن يتمّ إعطاؤها مكانتها كزوجة وأمّ عن طريق الزواج، بالإضافة إلى ذلك تعتقد بعض المجتمعات أنّ زواج الفتاة قبل سن البلوغ سببٌ في إدامة البركة على أسرتها، ممّا يُسبّب ضغطاً اجتماعياً يقود الأسرة نحو تزويج بناتها في سنّ مُبكّر. انعدام الأمن وانتشار الأزمات: في المجتمعات التي تتعرّض فيها الفتيات إلى خطر المضايقات والاعتداء البدني أو الجنسي، يتجه الآباء نحو تزويج بناتهم لحمايتهنّ والحفاظ على سلامتهنّ، كما أنّ نسب حالات الزواج المُبكّر تزداد في المناطق التي تُعاني من الأزمات الإنسانية والكوارث الطبيعية، وتلك التي ينتشر فيها العنف والفقر، فمن بين عشر دول تُعاني من أزمات بكافة أشكالها تسع منها تُعاني من ارتفاع معدل الزواج المُبكّر فيها.[٥] آثار الزواج المبكر شهدت جمهورية افريقيا الوسطى انتشاراً للزواج المُبكّر بين الأطفال الذكور، إلّا أنّ معدل الزواج المُبكّر عند الفتيات يزيد عن ضعف معدل الزواج المُبكّر عند الأولاد، لذلك تظهر آثار الزواج المُبكّر على كلّ من الأولاد والبنات على حدٍّ سواء لكنّها تظهر بشكل أوضح على الفتيات، حيث يواجه كلا الطرفين مخاطر وآثار تختلف بناءً على الاختلاف البيولوجي والاجتماعي لكلّ منهما، لا سيّما أنّ جميع هذه الآثار تُعتبر تعدٍّ على حقوق الطفل سواء كان ذكر أو أنثى، فمن آثار الزواج المُبكّر على الأولاد من الأطفال إجبارهم على تحمّل مسؤولية كبيرة وهم ليسوا مؤهلين لها، كما أنّ إشغال دور الأبوة في وقت مُبكّر يؤدّي إلى ضغوط اقتصادية قد تمنع الطفل المتزوج من متابعة التعليم وتطوير مهاراته للحصول على وظيفة مناسبة.

تُعاني الطفلة التي تتزوج مُبكّراً من عزلة اجتماعية بعيدةً عن الأهل والأصدقاء ومن يُشكّلون مصادر دعم لها، بالإضافة إلى أنّها تجد صعوبةً في التعليم والتوظيف، فمثلاً في ملاوي حوالي ثلثا النساء اللواتي لم يتلقين التعليم الرسمي هنّ من العرائس الأطفال، و5% منهن فقط استطعن الالتحاق بالمرحلة الثانوية والتعليم العالي، كما أنّ هؤلاء الفتيات غير قادرات على التعامل بأمور الزواج، حيث إنّهنّ أكثر عرضةً للفيروسات المنتقلة جنسية؛ كفيروس العوز المناعي البشري "HIV".

يُعرّض الضغط الاجتماعي العروس الطفلة لحالة حمل مُبكّر، ففي نيبال مثلاً هناك أكثر من ثلث النساء التي تترواح أعمارهن بين 20 و24 واللواتي تزوجن قبل بلوغهنّ سنّ الخامسة عشر لهنّ ثلاثة أطفال أو أكثر، مقابل 1% من النساء اللواتي تزوجن بعد سن البلوغ ولهنّ نفس العدد من الأطفال، وبالرغم من ذلك فهي لا تتلقّى عنايةً طبيةً جيدةً أثناء فترة الحمل، ففي بلدان مثل بنغلاديش، وإثيوبيا، ونيبال، والنيجر حصلت النساء اللواتي تزوجن عند سن البلوغ مرّتين أكثر على رعاية صحيّة مناسبة أثناء الولادة مقارنةً مع النساء اللواتي تزوجن تحت سن الخامسة عشر بالرغم من أنهنّ يمتلكن جسماً غير مؤهل بشكلٍ كافٍ للولادة، ممّا يُعرّض حياتهنّ وحياة أطفالهنّ للخطر.

الآثار الصحيّة والنفسيّة للزواج المبكر على الفتاة الآثار الصحيّة على الفتاة تكون المرأة قادرةً على الإنجاب فور بلوغها، إلّا أنّ حدوث حمل قبل سن الخامسة عشر يؤدّي إلى نتائج سلبية عديدة؛ كفقر الدم، وارتفاع ضغط الدم لدى الأم، وزيادة حجم رأس الجنين عن حوض الأم، كما تواجه الأمهات الصغيرات التي تتراوح أعمارهنّ ما بين 10 و19 عاماً نسبةً أعلى من إمكانية الإصابة بتسمّم الحمل، والتهاب بطانة الرحم بعد الولادة، والتهابات في الجهاز التناسلي، من الأمهات التي تتراوح أعمارهنّ ما بين 20 و24 عام، كما أنّ حوالي 3.9 مليون حالة إجهاض خطيرة تحدث للفتيات من عمر 15 إلى 19 عام سنوياً، ممّا يؤدّي إلى الوفاة في بعض الأحيان أو الإصابة بمشاكل صحيّة دائمة، أمّا حاجات الأمهات الحوامل في سن المراهقة من عناية عاطفية، ونفسية، واجتماعية تكون بدرجة أكبر من حاجة النساء الأكبر سناً.

تكون الأم المراهقة أكثر عرضةً لاكتئاب ما بعد الولادة بمقدار الضعف عن المرأة الأم الأكبر سنّاً، وقد تظهر أعراض تقلّب في المزاج، وقلق، وحزن، وصعوبة في التركيز والأكل والنوم لمدّة أسبوع إلى أسبوعين، كما أنّ خطر الاكتئاب قد يزداد إذا أنجبت الأم قبل مرور تسعة أشهر، ومن الأعراض الإضافية التي قد تُصاحب اكتئاب ما بعد الولادة ما يأتي:

صعوبة في إقامة علاقة أمومة جيدة بين الطفل والأم. التعب الشديد. نوبات الخوف، والهلع، والقلق. تفكير الأم في إيذاء نفسها أو إيذاء الطفل. عدم الاستمتاع بالأنشطة التي كانت تُسعد الفتاة سابقاً. الآثار النفسيّة على الفتاة تظهر الآثار النفسية للزواج المُبكّر على الفتاة نتيجة فقدانها لحنان ورعاية الوالدين وفرصة العيش والاستمتاع بمرحلة الطفولة، حيثث تتعدّد المسؤوليات في الحياة الزوجية ممّا يؤدّي إلى تعرّضها للضغط لعدم تفهّمها طبيعة العلاقة الزوجية، فتظهر عليها بعض الآثار النفسيّة كاضطرابات في العلاقة الحميمة بين الزوجين نتيجة الخوف، وقد تحتاج إلى تدخّل طبي في بعض الحالات، كما قد تظهر على الزوجة أعراض الاكتئاب والقلق نتيجة كثرة المشاكل الزوجية الناتجة عن عدم تفهّم الطرف المقابل، وقد تظهر بعض الاضطرابات الشخصية وصور من الهستيريا والفصام، كما تزداد احتمالية الإصابة بالأمراض النفسية أثناء فترتيّ الحمل والنفاس، حيث تزداد متطلبات الحياة على كاهل الزوجة لوجود طفل، بالإضافة إلى متطلبات الزوج والأقارب.

تعرّض حياة الفتاة ومولودها للخطر تظهر الآثار الصحية للزواج المُبكّر على الفتاة من خلال ارتفاع معدل الوفاة عند الفتيات المتزوجات تحت سن 15 بخمس مرّات عن الفتيات المتزوجات في سن العشرين، كما أنّهنّ أكثر عرضةً لحدوث نزيف ومضاعفات أثناء الولادة، كما تُشير منظمة أنقذوا الأطفال (بالإنجليزية: Save The Children) في منشورها السنوي لعام 2004م إلى أنّ احتمال وفاة مواليد الفتاة المتزوجة دون سن البلوغ بعد انقضاء عام واحد من أعمارهم مضاعفٌ مقارنةً بمواليد الفتاة التي تزوجت في سن العشرين، أمّا في حال بقائهم على قيد الحياة فإنّهم يُصبحون أكثر عرضةً للحصول على مستوى منخفض من الرعاية الصحية وسوء التغذية نتيجة لاتباع الأمهات سلوكيات خاطئة في التغذية مقارنةً مع الأمهات الأكبر سنّاً.

الآثار الصحيّة والنفسيّة للزواج المبكر على الأطفال تكون الأمهات المراهقات أكثر عرضةً لإنجاب أطفال خدج يُعانون من نقص في الوزن عند الولادة؛ وذلك لعدم توافر الوقت الكافي لإتمام مرحلة النمو داخل بطن الأم، حيث يزن الطفل الذي يُعاني من نقص في الوزن عند الولادة ما بين 1500 إلى 2500 غرام، وفي حالات نقص الوزن الحادّ قد يصل وزنه إلى أقل من 1500 غرام، ففي هذه الحالة يحتاج الطفل إلى تدخّل طبي في وحدة الأطفال الخدج داخل المستشفى، وتقديم جهاز التنفس الصناعي إذا لزم الأمر لمساعدته على التنفس.

تظهر الآثارالصحية بأشكال متعددة على صحة الجنين ومنها؛ التعرّض للاختناق داخل بطن الأم؛ بسبب القصور الشديد في الدورة الدموية المغذيّة للطفل، كما أنّ الولادة المبكّرة تُعرّض الطفل لبعض المخاطر منها؛ عدم اكتمال نمو الرئتين، وحدوث عدّة أضرار في الجهاز الهضمي، كما قد يُصاب الطفل بتأخّر النمو الجسدي والعقلي، وزيادة الفرصة بالإصابة بمرض الشلل الدماغي، أو العمى، أو الإعاقة السمعية، أو قد يتوفّى الطفل بسبب الالتهابات بعدّة أنواعها.

تتمثّل الآثار النفسيّة المترتبة على الطفل في مشاعر الحرمان التي تنتابه لعدم قدرة الأم القاصرة على القيام بواجبها اتجاه طفلها، فينشأ عن ذلك اضطربات نفسية قد تُصاحب الطفل حتّى يكبر وينتج عنها أمراض نفسية؛ كالفصام والاكتئاب، كما أنّ انخفاض الرعاية التربوية السليمة تؤدّي إلى تأخّر النمو الذهني لدى الطفل، لذلك فالزواج المُبكّر هو أحد أسباب انتشار الأمراض والاضطربات النفسية داخل الأسرة والمجتمع، ممّا يؤدّي إلى زيادة العبء الاقتصادي على النظام الصحي. آثار الزواج المبكر الاجتماعية يولّد الزواج المُبكّر عدّة آثار اجتماعية كالطلاق المُبكّر الناتج عن اكتشاف الزوجين عدم استعدادهما لبناء أسرة ناجحة؛ وذلك لصغر سنّهما وعدم وعيهما الكافي في آلية بناء الأسرة، ومن الآثار الاجتماعية الناجمة عن الزواج المُبكّر ما يأتي:

انتشار العنف الأسري:

تبلغ نسبة الفتيات المتزوجات التي تترواح أعمارهنّ ما بين 15 و19 سنة واللواتي يتعرّضن للعنف الجنسي من قِبل أزوجهنّ 13% مقارنةً مع النساء في عمر 30 إلى 39 عام بنسبة 10%، كما أنّهن أكثر عرضةً للعنف، وإساءة المعاملة، والإصابة بمرض نقص المناعة المكتسبة، وعادةً ينشأ الزواج المبكر بين طرفين بينهما فجوة كبيرة ناتجة عن الفرق الكبير في السن، ممّا يُسبّب أزمةً في العلاقة الزوجية، فينشأ العنف الأسري، حيث إنّ 50% من الفتيات اللواتي تزوجن تحت سن 18 يتعّرضن للعنف البدني والجنسي من قِبل الشريك أثناء فترة الزواج.

انتشار الفقر:

ينتشر الزواج المُبكّر بين الفئات الأكثر فقراً في أنحاء العالم، كما أنّ الزواج المُبكّر عائق في تحقيق مستويات تعليم أعلى وتحقيق استقرار مادي أمام الطرفين سواء كان ذكر أو أنثى، لذلك فالفقر والزواج المُبكّر مشكلتان متلازمتان.

انخفاض مستوى التعليم: يمنع الزواج المُبكّر الفتاة من مواصلة تعليمها، وذلك لأنّ الكثير من المجتمعات ترفض فكرة ذهاب فتاة متزوجة أو خاطبة إلى المدرسة، أو قد يكون الزوج هو الطرف الرافض لحضور زوجته إلى المدرسة، بالإضافة إلى أنّ متطلبات الحياة الزوجية من أعمال منزلية ورعاية الأطفال، أو وجود مضاعفات ناتجة عن الحمل، تُعيق الفتاة من الذهاب إلى المدرسة ومواصلة التعليم. معدلات وأماكن انتشار الزواج المبكر في العالم ينتشر الزواج المُبكّر في المناطق الريفية بشكل أكبر من المناطق الحضرية، حيث تبلغ نسبة الزواج المُبكّر في الريف 48% أمّا المناطق الحضرية 29%، ومن جهة أخرى هناك اختلاف بانتشار الزواج المُبكّر بين المجتمعات الطائفية والقبلية، حيث وجد انخفاض معدل زواج الأطفال عند بعض الجماعات القبلية مقارنةً مع الجماعات الأخرى.

حقّقت دول جنوب أفريقيا في الصحراء الكبرى تحديداً أعلى مستوى من انتشار الزواج المُبكّر بنسبة تبلغ 4 من كلّ 10 شابات تزوجن تحت سن 18، تليها دول جنوب آسيا حيث بلغ عدد 3 شابات من أصل 10 قد تزوجن قبل سن 18، أمّا في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي بلغت نسبة الزواج المُبكّر 25%، وفي دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 18%، وأخيراً في أوروبا الشرقية ودول آسيا الوسطى بلغت النسبة 11%، كما أنّ هناك اختلاف جغرافي في الدول التي تنشر فيها زواج الفتيات عن تلك الدول التي ينتشر فيها زواج الأولاد في سن مُبكّر.

وثّقت منظمة اليونيسيف لعام 2019م العدد الكلي الذي يضم عدد الذكور والإناث الذين تزوجوا دون سن 18 حيث بلغ 765 مليون حالة، ووصل عدد المتزوجين من الأولاد والرجال الذين سبق لهم وتزوجوا دون سن 18 إلى 115 مليون حالة، وتُشكّل جمهورية أفريقيا الوسطى أعلى نسب لانتشار زواج الأطفال الذكور حيث بلغت النسبة فيها 28%، تليها نيكاراغوا بنسبة 19%، وأخيراً مدغشقر بنسبة 13%.

لا يقتصر الزواج المُبكّر على المجتمعات الإسلامية، والأفريقية، والفقيرة، فالواقع يُثبت أنّ الزواج المُبكّر ظاهرة انتشرت في جميع أنحاء العالم على اختلاف القارات، والثقافات، والأديان، والمستوى الاقتصادي سواء الدول الفقيرة أو الدول الغنية، إلّا أنّه ينتشر بنسب أكبر في الدول النامية كوّن الفقر أحد الأسباب الرئيسية له، حيث إنّ حوالي فتاة واحدة من أصل 3 فتيات في العالم النامي تزوجن دون سن 18، فالفتيات حققن الغالبية في الزواج دون سن 18 حيث وصلت النسبة 82%، ففي كلّ عام تتزوج 12 مليون فتاة دون سن البلوغ دون أيّ استعداد جسدي أو حتّى عاطفي.

انخفض معدل الزواج المُبكّر بشكل كبير في دول جنوب شرق آسيا خلال العشر سنوات الماضية، فتحوّلت النسبة من 50% إلى 30%، حيث كان لدولة الهند تحديداً الدور الأكبر في هذا التقدّم، ويعود سبب ذلك إلى الاستراتيجيات التي تبنّتها الحكومة الهندية من خلال زيادة معدل التعليم للفتيات، وزيادة الاستثمارات التي تستهدف فئة المراهقات، وبثّ رسائل توعوية على المستوى الوطني تستنكر شرعية زواج الأطفال وتوضّح مدى ضرره.

آليّات التعامل مع الزواج المبكر هناك بعض الآليّات المناسبة للتعامل مع ظاهرة الزواج المُبكّر، وهي كالآتي:

نشر الوعي:

فقد أقام صندوق الأمم المتحدة للسكان "UNFPA" برنامج "العمل من أجل المراهقات" الذي يشمل 12 دولة في كلّ من آسيا، وأفريقيا، وأمريكيا اللاتينية، يهدف إلى تعليم الفتيات حقوقهنّ التي تتضمّن الحق في التعليم، والصحة، والحق في العيش في مكان آمن خالٍ من العنف، وحق الكرامة، والحق في اختيار شريك الحياة كأيّ إنسان بالغ، كما تتلقّى الفتيات أيضاً برامج تخصّ الصحة الإنجابية، وتدريبات تشمل المهارات الحياتية؛ كمهارة التفاوض التي يُمكن أن تُساعد على إقناع الأهل عن صرف النظر عن أمر الارتباط لفترة معينة أو حتّى رفضه، حيث أصبحن هؤلاء الفتيات قدوةً في مجتماعتهنّ يُعبّرن عن الفتاة المراهقة المتعلمة، أملاً في أن يكون هذا الوضع الطبيعي لجميع الفتيات في ذات السن. فرض القوانين والتشريعات: حيث أصدرت معظم دول العالم قوانين صارمةً ضدّ زواج الأطفال، وفرضت العقوبات اللازمة في تجاوز هذه القوانين، ولكنّ خوف الآباء على بناتهم أضعف هذه القوانين بعض الشيء، فادّعى الأمر إلى إيجاد حلول لجذور ظاهرة الزواج المُبكّر من خلال تعزيز المساواة بين الجنسين، وإنهاء مشكلة الفقر عن طريق بناء شبكة آمان اجتماعي تحمي الفتيات وذويهنّ، وزيادة فرص التعليم، وتقديم الخدمات الصحية، وتوفير فرص العمل. إنشاء حملات جماهرية: وذلك من خلال جذب انتباه جميع سكّان العالم والحكّام العالميين، حيث تمّ نشر عواقب الزواج المُبكّر التي يُعاني منها الكثير من الشباب من خلال حملات عالمية، والدعوة لوضع قضية زواج الأطفال ضمن مرتبة ذات أولوية على المستوى الدولي، ففي عام 2015م دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إظهار الدعم ورفض الزواج المُبكّر عبر مواقع التواصل الاجتماعي. إنشاء خطط طوارىء: وذلك من خلال تقديم المساعدة اللازمة لمن يُعاني من آثار الزواج المُبكّر أو الزواج القسري، عن طريق تقديم المساعدة القانونية من خلال تلقّي الحماية، أو الانفصال القانوني، أو الطلاق، أو البتّ في أمر الحضانة في حالة وجود أطفال، كما يُمكن تقديم الخدمات الاجتماعية، أو تأمين سكن آمن في حالات الطوارىء.

إنشاء مراكز توعوية للمقبلين على الزواج: حيث تستهدف هذه المراكز الشباب في مرحلة ما قبل الزواج، بدعم من منظمات المجتمع المحلي، لإيجاد حلول لمشاكل الشباب في سن المراهقة؛ كالمساعدة في إيجاد فرص عمل مناسبة لهم، وتقديم دورات تأهيل ما قبل الزواج تهتم بالأسرة، وتوضّح أهميتها، وكيفية التعامل مع الزوجة واحترامها، وطرق تأمين سبل العيش في المستقبل، أمّا بالنسبة للزوجة فتُقدّم هذه المراكز توعيةً تخصّ الفتيات الصغيرات في كيفية تحمّل مسؤولية الزواج، واحترام الزوج، وطرق التربية الصالحة، وأمور تربوية أخرى، بالإضافة إلى التوعية الصحية، والنفسية، والاجتماعية، وغيرها من الأمور التي تهمّ المرأة المتزوجة. الاهتمام بترابط الأسرة: يؤدّي الحثّ على تماسك الأسرة من خلال بناء أسرة متكاملة مترابطة متفاهمة إلى انخفاض عدد الفتيات المتزوجات في سن مُبكّرة.

***

الكاتب د/  أحمد عزيز الدين أحمد

الثامن والعشرون من ديسمبر ٢٠٢٣م.

.........................

المصادر:

(1) منظمة أنقذوا الأطفال

منشورها السنوى لعام 2004م (Save the Children)

(2) صندوق الأمم المتحدة UNFPA  برنامج العمل على المراهقات

(3) الكاتب والروائي أحمد عزيز الدين أحمد

 

الحقيقةُ التي يبحثُ عنها الانسانُ هي موجودةٌ وَمُتَحَقِقَةٌ، ولكنَّها صَعبَةُ المَنالِ وتحتاجُ الى بَحثٍ وَاكتشافٍ.نحنُ نَكتَشِفُ الحَقيقَةَ؛ لِانَّها موجُودَةٌ، ولانخترعُها كما يقولُ القائلونَ بِنِسبِيَّةِ الحقيقةِ.

 قانونُ الجاذِبِيَّةِ -على سبيلِ المثال- هو حقيقةٌ موجودةٌ في الكَونِ ونيوتن قامَ باكتشافِ هذه الحقيقة.

والحقيقةُ لها طريقانِ، طريقُ الخارج وَطريقُ الداخل، وقد عَبَّرَ القرآنُ الكريمُ عن هذينِ الطريقينِ، بالآفاقِ والانفسِ، يقول الله تعالى:

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). فصلت:الآية: (53).

فهناك طريق خارجي للوصول الى حقيقة الحقائق وَالهِ هذا الكون، وهو عالم الآفاق، اي العالم الخارجي الذي يحيطُ بنا، ولكنَّهُ طريقٌ أَطول، تقعُ فيه المغالطات، وتستخدم فيه طرقُ الخداعِ وَأَساليبُهُ، وهناك طريقٌ داخِلِيٌّ للوصولِ الى الحقيقةِ وهو عالَم الأَنفس، الذي هو الطريقُ الأقربُ للوصولِ الى الحقيقة؛ لأَنَّهُ يجعلكَ وجهاً لوجهٍ في مواجَهَةِ الحقيقة، فهو طريقٌ لايقبلُ الالتواء والخداع والمغالطة.

فابراهيم (ع) لما حَطَّمَ الاصنامَ ووضع الفأسَ على رقبةِ كبير الاصنام وقالَ: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ). الانبياء:الآية: (63).

وبعد تفكيرٍ وَتَأمُلٍ ورجوعٍ الى النفس أَقَروا بالحقيقةِ التي صدمهم بها خليلُ الرَّحمن: (فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ).الانبياء:الآية: (64).

في عالم الخارج كانوا يضللون الناس ويخدعونهم، ولكن حينما رجعوا الى أَنفسهم اقرّوا بالحقيقةِ الصادمة بلا خداعٍ ولا التواء.

وكذلك الأَمرُ معَ فِرعونَ وحاشيته وزبانيته وكل الجوقة المحيطة به، بعد أن كذَّبوا موسى ونعتوهُ بكلِّ النُّعوتِ السيئة وقالوا بأنَّهُ ساحرٌ، ولكنَّ القُرآنَ الكريمَ كشفَ لنا دواخلَهم وما انطوت عليه انفسهم من الحقيقة، يقول الله تعالى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ).النمل:الآية:(14).

وقوله تعالى:(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ). يوسف:الآية:(53).

وسواء كان هذا القول ليوسف عليه السلام أم لامرأة العزيز فالنتيجة أنَّ الانسانَ يعرفُ نفسه ان كان بريئاً أَو مُذنباً، وهذه الطريقة، طريقة الرجوع الى النفس ليجرد الانسان ذاتَهُ من الاكاذيب والاباطيل والخداع، ليجدَ نفسهُ وجهاً لوجهٍ امام الحقيقة بلا رتوش ولا التواءات.

 وفي هذا السياق، اتحدث عن الجرائم التي يرتكبها الصهاينَةُ ضد أَهلنا في غزة، التي تتعرض لابادة وكوارث انسانيَّة وازهاق للارواح أمام سمع العالم المتحضر وبصره، هذه القوى الاستكبارية تعرف الحقيقة ولكنّها تزيّف وتدجل وتكذب لحجب الحقيقة . وقد قلنا الطريق الخارجي يقع فيه التضليل والخداع والاكاذيب، ولكن هذه القُوى تدركُ تماماً ان اسرائيل ظالمة ومجرمة وان الفلسطينيَّ المتشبث بأرضه ووطنه هو صاحب الحق .

(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلُواً). النمل: الآية:14.

***

زعيم الخيرالله

أبرز الردود على مقال الأسبوع الماضي، كانَ سؤالاً استنكارياً يتناول «مبدأ» ترجيح الحاضر على الماضي. وقد شرح أحد الزملاء وجهة نظره على الوجه التالي: إذا كنَّا سنقدّم الماضي على الحاضر في كل الأحوال، فلماذا نبجّل أمواتاً مثل أرسطو والمتنبي وإيمانويل كانط وابن سينا وآينشتاين وسواهم؟

ويظهر لي أن هذا النوع من الأسئلة منبعثٌ مما نسميه قلق الهوية، أي ذلك الشعور العفوي بأنَّ تبجيل الحاضر يقود، موضوعياً، للتهوين من قيمة الموروث القيمي، الذي يوجّه جانباً مهماً من سلوكنا اليومي.

مع ذلك، فهو سؤال مشروع، أياً كان رأينا في موضوعه. فهو يشير إلى عيب مهم في نقاشاتنا الثقافية، يتمثل في إطلاق القول بأن زمناً ما خير من الأزمان الأخرى. ولعلَّ بعض القراء مطلع على الجدل المتعلق بالرواية المنسوبة للنبي «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم». وهي رواية لا تنطوي على تكليف عملي ولا تحدد واجباً، إلا أنها تشير – ضمنياً – إلى أن خيرية الزمان (أو أهله) تسير باتجاه تناقصي.

لكن نسبة هذه الرواية للنبي هي التي توجب التوقف عندها للتأمل والتأويل. ولولا هذا لما توقف عندها أحد. في الحقيقة فإن هذه النسبة هي سبب الجدل حول ما سميناه «مبدأ» في أول المقال. لأن كثيراً من الناس يسألون مستنكرين: هل نسمع قول النبي ثم نمضي دون اكتراث؟

حسناً، دعنا نرتب النقاش، فنسأل أولاً عن معنى أن يكون زمان خيراً من زمان آخر، فالواضح أن المقصود به هو الناس. لكن ما معنى أن يكون أهل زمن خيراً من غيرهم؟ سوف نستعمل هنا المقاييس المادية المتعارفة عند البشر كافة، فهم يفضلون شريحة من الناس على غيرهم تبعاً لما عندهم من علم أو قوة اقتصادية أو بدنية أو سياسية، أو لما يملكون من فضائل روحية/أخلاقية، أو لما بذلوه من جهد في ظرف استثنائي.

ويظهر لي أن الخيرية المقصودة، صحيحة في الحالتين الأخيرتين فحسب. فالواضح أن أهل الأزمنة التالية، ولا سيما عصرنا الحاضر، أكثر علماً وقوة وثروة.

الفضائل الأخلاقية والإخلاص والاجتهاد في العمل تحسب لصاحبها وترفع منزلته. لكنها – بطبيعة الحال – لا تجعله أكثر علماً. حين نحتاج إلى دليل علمي، فلن نبحث عنه عند سابق أو لاحق، بل عند شخص متخصص في مجاله، سواء انتمى إلى عصر قديم أو جديد، وسواء كان مؤمناً أو لم يكن.

ينبغي أن أشير هنا لما ذكره المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري عن ميل غالبية العرب، بصورة عفوية في الغالب، إلى اعتبار الماضي مخزناً للقيم العليا، وهو ميل ينطوي أحياناً على خلط للمعارف بالقيم، حيث نعد الشيء صحيحاً لأن زيداً من السلف قاله، ولعل زيداً هذا ليس من أهل العلم، أو لعلّ علمه لا يجاري علم أحد الأحياء. ربما كان زيد قوي الإيمان، ربما كان شجاعاً كريماً نبيل الخلق، فهل هذا يجعل رأيه في مسألة علمية، مقدماً على رأي المختص فيها؟

من هذا نعرف أن تفضيل أهل بلد، أو أهل زمان، أو أبناء مجتمع، على غيرهم، تقييمات شخصية وليست موضوعية، أي أنها لا ترجح رأيهم في قضايا العلم ولا تجعلها مساوية لرأي المختصين.

أظن أن هذا يوضح أيضاً سبب ترجيحنا لعلوم عصرنا على علوم الأولين، في العموم وليس التفصيل. وفحواه بإيجاز هو أن طبيعة العلم التوسع والتعمق بصورة تراكمية. كل زمن يضيف لبنة إلى بناء العلم، حتى يرتفع البناء ويتكامل. اكتشاف نواقص السابق هو الذي أطلق شرارة الاكتشاف الحاضر، ولولا اكتشاف النقص لما عرفنا الحاجة إلى علم جديد. فهل يعقل أن نعود إلى ما عرفنا نقصه، مع وجود الأكمل؟

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

قبل أكثر من عشرين عاماً سألت كاتباً سويسرياً صديقاً جمعتني به ظروف العمل، وكنت أظنه آثاريا "أركيولوجيا" أو إناسيا "انثربولوجيا" نظراً لاهتماماته ومعلوماته الموسوعية في هذه العلوم، وكان قد نشر ثلاثة كتب، كتابان منها عن الحضارة المصرية القديمة وثالث عن حضارة المايا في أميركا الوسطى إلى جانب عشرات وربما مئات مقالات، سألته قائلا: بوصفك أنثروبولوجيا، ما معلوماتك عن الخلاف بين العلماء الأنثروبولوجيين حول القضية الفلانية وأي الجانبين تؤيد؟ فرد عليِّ مستغرباً وضاحكا: مهلا، مهلا، ولكن من قال لك أنني أركيولوجي؟ قلت له: مقالاتك وكتبك الثلاثة عن الحضارات القديمة هي التي قالت لي ذلك! وحينها قال لي: لا يا عزيزي، أنا لست أركيولوجيا ولا أنثروبولوجيا ولا مؤرخا محترفا بل مجرد كاتب صحافي متخصص في هذه العلوم والمجالات، والفرق كبير بين الباحث العالم والكاتب الصحافي الإعلامي المتخصص! ألا تعرف أن الصحافة والإعلام أنواع مختلفة؟

بصراحة، لم أكن أعرف الفرق بين هذه الأنواع والتخصصات الصحافية، وحتى حين عرفتُ وبدأتُ البحث عما يؤكد وجودها في المشهد الثقافي العربي لم أجد سوى الفوضى الهائلة والتدخل البدائي الشديد. فباستثناء "الصحافة الاستقصائية" ربما، والتي انتشرت في العقدين الأخيرين في العراق، لا نكاد نجد شيئاً يروي الغليل، أما الصحافة الميدانية فهي تابعة للصحافة الإخبارية وفرع مكمل منها، يقوم به المراسلون الميدانيون، الحربيون وغير الحربيين.

ولهذا، أقدم هذه البسطة السريعة في أنواع الصحافة المعاصرة حتى لا نخلط بين الصحافي والإعلامي المتخصص في ميدان علمي أو حياتي معين وبين العلماء المتخصصين فيها فليس من الصحيح أن يطلق كل من نشر بضع مقالات أو بضعة كتب في التاريخ العام أصبح مؤرخاً أو عالماً متخصصاً رغم أنه لا يحمل شهادة علمية رفيعة من جهة علمية معترف بها، وتجربة في التنقيب الآثاري ذات حصاد حقلي جيد وإتقان للغة قديمة أو أكثر، وخصوصا اللغة الأكدية أو السومرية أو الآرامية وغيرها. وإذا كانت الشهادة ليست كل شيء، ويمكن التعويض عنها بالتعلم والدراسة الذاتية، وأعرف شخصيا باحثين عصاميين عرب محترمين لا يحملون شهادات علمية رسمية ولكنهم يتقون أكثر من لغة قديمة منقرضة أو شبه منقرضة وعملوا في فرق للتنقيب في بلدانهم أو خارجها وقد أصدروا كتباً ودراسات مهمة تنبئ عن قدرات علمية مرموقة. وللأسف فأنا لستُ من هؤلاء ولا أسمح لنفسي بالتبجح بصفة الباحث المتخصص وأعتز بكوني إعلامياً وصحافياً متخصصاً هاوياً وليس محترفاً وقد أكون باحثاً في التراث العرب إسلامي واللغة العربية ولهجاتها وهذا أمر لا يهمني كثيرا سواء كنتُ أحوزه فعلا أم لا!

أما كلمة "مُفَكِّر" فهي فضيحة اصطلاحية كاملة، كيف ذلك؟ إنَّ هذه الكلمة التي أطلقت في عصرنا على كل من هبَّ ودبَّ حتى إنها أطلقت على بعض الحكام المستبدين في بلداننا والذين أصدر بعضهم كراسات وكتيبات تحوي بعض خواطرهم وأفكارهم الإنشائية الفارغة.

فهذه الكلمة "مفكر" وهي صيغة اسم الفاعل من الفعل الثلاثي المزيد بالتضعيف "فكَّر"، ليس لها مقابل استعمالي في اللغات الأجنبية المهيمنة إمبرياليا، ولو أنك فكرت باستعمالها في حديثك وقلت ما يرادفها حرفياً في اللغة الإنكليزية (THINKER) أو بالفرنسية (PENSEUR) لضحك منك السامعون من أهل هاتين اللغتين. ومع  ذلك، فقد تأتي الكلمة بمعنى مثقف أو مثير للتفكير أو سوفسطائي ...إلخ، ولكنها لا تعني ما تعنيه في اللغة العربية فهي لا تستخدم بالشكل والمعنى الاستعمالي الذي تستعمل به في اللغة العربية، وتحديدا بمعنى يحايث وبشكل تقريبي معنى كلمة الفيلسوف والعالم والباحث الكبير، تخلو من أي محمول محدد إلا بما يوحي بالفخفخة والوجاهة المضافة إلى صفة الباحث. أما كلمة (علّامة) فهي كلمة عربية لا مقابل لها في اللغات الحية الأكثر هيمنة انتشارا، ولا تبتعد كثيرا عن كلمة "مفكر" ويكاد استعمالها يقتصر على اللغة العربية وتعني العالم الكبير وهي صيغة مبالغة من عالم وتعني "واسع العلم والمعرفة"، ويمكن لنا استعمال كلمة "باحث" أو عالِم" مطرح مفكر أو (علًامة) دون أن يختل المعنى أو تقوم القيامة.

ولا أدري أي نوع من المفكرين هذا الذي لا يفرق أحد الموصوفين به بين شمال وجنوب البحر المتوسط وشرقه وغربه فيستبدل مصطلحات جيوسياسية راسخة بأخرى من ابتكاره ولا وجود له هو في الجغرافيا من قبيل "شعوب شرق وغرب المتوسط"! نترك هذا المفكر بسلام ونستعرض أدناه أنواع الصحافة المعاصرة بشيء من الاختصار:

1- الصحافة الاستقصائية:

يقول تعريفها الأكاديمي؛ هي الصحافة التي تتولى التحقيق في موضوع معين مثل الجرائم الخطيرة أو الفساد السياسي أو مخالفات الشركات...إلخ. وقد يقضي الصحافي الاستقصائي شهورا أو سنوات في البحث وإعداد التقرير. تعد الصحافة الاستقصائية مصدرا رئيسيا للمعلومات. معظم الصحافة الاستقصائية يقوم بها صحفيون يعملون لدى صحيفة أو وكالة أنباء أو عامل حر.

ويقوم العمل الصحافي الاستقصائي على مبادئ من أهمها:

* الحياد في جمع وتقديم المعلومات الموثقة والمعلومات المعاكسة إنْ وجدت.

* السرية في كتابة التقرير الصحافي الاستقصائي حتى يوم النشر وعدم السماح باستغلاله لأغراض سياسية أو غيرها بهدف الابتزاز.

* سبر أغوار الموضوع من كافة الجوانب وتسليط الضوء على خلفياته وجوانبه غير المعروفة.

2- الصحافة الميدانية:

وهي الصحافة التي يشكل المراسلون والمراسلات في ميدان الحدث عمادها الرئيس، وينبغي أن يكون هؤلاء صحافيين ميدانيين بشكل خاص فليس كل صحافي مكتبي يمكن أن يخرج من مكتبه ويكون مراسلا ميدانيا.

في هذا الصدد يقول أستاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية راغب جابر الذي اختبر العمل الصحفي خلال عقود، إن "الصحفي المكتبي لا يستطيع أن يصنع حكاية من الحدث، بينما المراسل الميداني يمكنه فعل ذلك". ويرى أن مستقبل التغطيات الميدانية هو "للكتابة الانطباعية وحركة الكاميرا التي يجب ألا تصور تصويرا جافا"، لافتا إلى أن التغطية التقليدية "لم تعد جاذبة للمشاهد، وبالتالي أصبح دور الصحفي أكبر، وهو ما يستوجب تدريبا مستمرا"، وكذلك وجود "سقف حرية مرتفع على المؤسسات توفيره لصحفييها الميدانيين".

ويجزم جابر بأن هناك صحفيين أو مراسلين لا يملكون متطلبات الحد الأدنى المطلوب للقيام بتغطيات ميدانية، وأن أخبارهم تؤشر على "سياسات تحرير مقررة سلفا، تطبع عملهم إرضاءً لمؤسساتهم فيفقدون جزءا من حريتهم".

3- صحافة المواطن:

وعنها نقرأ "صحافة المواطن هو شكل جديد من أشكال الممارسات الصحافية غير المهنية. ومع تطور هذه الممارسات، بدأت صحافة ‏المواطن تأخذ حصتها من النقاشات والأبحاث في البلدان المتقدمة على المستوى الإعلامي.‏

وقد كان ومازال يشار إلى هذه الظاهرة الإعلامية باستعمال مصطلحات متنوعة من قبيل (الصحافة التشاركية)، ‏و(الإعلام مفتوح المصادر)، و(الإعلام الديمقراطي)، و(صحافة الشارع)، و(الإعلام البديل)، و(الصحافة ‏الشعبية) إلى غير ذلك من التسميات والمصطلحات التي كانت قد طُورت من طرف الباحثين في هذه الظاهرة ‏الإعلامية والمنظرين لها مثل: كليمينسيا رودريغيز صاحبة مصطلح (إعلام المواطن)، وبومان ويليس صاحبي ‏مصطلح (الصحافة التشاركية)، ودان جيلمور صاحب مصطلح (الصحافة الشعبية)، وهاكيت وكارول صاحبي ‏مصطلح (الإعلام الديمقراطي). وعلى الرغم من وجود اختلافات بسيطة بين هذه التسميات إلا أن تصوراتها ‏تصب في نفس الاتجاه كما سوف نرى. مقالة بعنوان " صحافة المواطن وتجريد المفهوم/ مجلة العربية عدد العدد (567) كانون الأول - ديسمبر 2023 م".

4- الصحافة المتخصصة "الإعلام التخصصي" ويسمى أيضا الصحافة العلمية في العلوم:

هناك أكثر من تعريف للصحافة المتخصصة؛ هي الصحافة التي تمثلها صحيفة أو مجلة أو دورية تعطي أكبر قدر من الاهتمام لفرع واحد من فروع التخصصات العلمية التي يهتم بها نوع واحد من القراء.

التعريف الثاني: الصحافة التخصصية أو المتخصصة هي التي تُعنى بجانب واحد من اهتمامات القراء في التطلع والاستزادة منها وهي ليست صحافة للعامة أو المجتمع كله وإنما مقتصرة على قطاع معين من القراء.

وربما كان هذا النوع من الصحافة من أعقد الأنواع وأكثرها دقة ويتطلب مهارة خاصة وثقافة علمية في التخصص المعني دون ان يكون الإعلامي بعد كل هذا باحثا أو عالما فللباحث صفاته ومهاراته وشهاداته العلمية وطريقة عمله.

من أنواع الإعلام التخصصي نجد الصحافة المتخصصة بعلوم الفضاء والفلك أو الفيزياء أو الرياضات المختلفة أو في علوم الاجتماع والتاريخ وغيرها من العلوم الإنسانية أو تلك التي تدمج بين العلوم الإنسانية والتجريبية كالأركيولوجيا والانثروبولوجيا وفروع التأريخ المتعددة وهذه العلوم كما هو معروف سائرة نحو المزيد من التفرع إلى تخصصات أدق وأضيق ميدانا.

وعلى المتصدين للعمل البحثي والإعلامي والصحافي أن يتبينوا ويفهموا الفروق الكبيرة والدقيقة بين هذه الأنواع من الإعلام والصحافة على الأقل للخروج من الأمية المعلوماتية في هذا الباب ومغادرة الفوضى الهائلة التي تسم المشهد الثقافي والإعلامي في بلداننا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

ان شبة الجزيرة شبه الجزيرة الأيبيرية قد غزها العالم العربي وصل العالم الاسلامي الى سلسة جبال كانتابريا ولكن تم استردادها بعد ذلك من قبل الجيش المسيحي  ومن الاراضي التي تم استعادتها كانت منطقة طليطة في عام 1085 وبفضل ثقافة التسامح للملوك الكاثوليك عاشت الثقافة الثلاثة (الثقافة العربية الاسلامية والمسيحية واليهودية) بسلام ونشأت مدرسة المترجمين التي تولت مهمة تفسير وترجمة النصوص الكلاسكية واليونانية الى اللاتينية  ويمكن القول بان طليطة كانت الارض الخصبة للأتصال الثقافات الثلاثة حيث كان يقصدها المسيح من منطقة الشمال لياخذوا النصوص الاغريقية والعربية المنسية وبعد ذلك شهدت اوربا عصر النهضة بفضل العلوم المعرفية التي وصلت اليها من طليطة حيث ترجمة اعمال ارسطو وترجم القران الكريم وترجم مزامير العهد القديم ويمكن القول ان هؤلاء المترجمين قد انجازوا مهمتم في الترجمة خلال قرن ونص وان مدرسة المترجمين قد مرت بفترتين الاولى اثناء القرن الثاني عشر، فترة حكم الفونسوا العاشر التي خصصت للترجمة التقنية والفلسفية والقرن الثالث عشر خصص للترجمة علم الفلك والطب والعلوم الاخرى.

والان لدينا بعض تسأولات التي سيتم الاجابة عليها  من خلال التطرق الى بعض النقاط الرئيسية:

1. من هي وكيف كانت مدينة الثقافات الثلاثة أو مدرسة المترجمين وماهدفها؟

2. من هؤلاء المترجمين وماهو أثرهم بالغ الأهمية

3. لماذا تمت الترجمة في طُلَيْطِلَة على وجه التحديد؟

4. ماهو نظام الترجمة الذي كان تستخدمه؟

5. ماهي المادة المترجمة التي كانت الاسرع انتشار  في تلك الحقبة؟

من هي وكيف كانت مدينة الثقافات الثلاثة أو مدرسة المترجمين؟

ظهرت في طُلَيْطِلَة في اثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر حركة ثقافية ذات أهمية كبيرة، وسمي الجزء الكبير من نشاطها المنفذ بمدرسة المترجمين، وبفضل هذه الحركة حصل انتقال كبير في الثقافة الالفية الشرقية اليونانية والعربية إلى الغرب.

جمعت تلك حركة عددا″ من المترجمين، لكن لا يمكن ضمان وجود مدرسة مستقرة.لأن المترجمين لم يركزوا على مؤسسة معينة كانت فيها علاقة مهنية بين أعضائها ، فهي ليست أكثر من مجرد حركة من المستعربين (المسيحيين الذين عاشوا في الأندلس وعرفوا اللغة العربية) واليهود والإسلاميين بل إنهم رواد النهضة الفكرية في القرن الثاني عشر.

كان هدفها نقل جميع النصوص المتعلقة بمجالات المعرفة، والمعرفة التي جلبها العرب إلى إسبانيا المسلمة، ولا سيما العلوم العربية وانتقالها الى اللاتينية والاسبانية والمعرفة التي ظلت مجهولة في أوروبا المسيحية في العصور الوسطى.

أصبحت طُلَيْطِلَة "مدينة الثقافات الثلاث"، وهو الاسم الذي اعتمدته لتوثيق حقيقة المسلمين واليهود والمسيحيين الذين عاشوا مع عاداتهم  وتقاليدهم بسلام نسبي في اثناء القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، لذا نشأت مدرسة المترجمين في طُلَيْطِلَة في اثناء القرن الثاني عشر، وحولت هذه المدينة إلى نواة فكرية مهمة على المستوى الأوروبي.

من هؤلاء المترجمين وماهو أثرهم بالغ الأهمية:

تسمية مدرسة المترجمين يجب القول أن اسم مدرسة المترجمين لم يحقق إجماعا بين العلماء والباحثين والدارسين، وعلى سبيل المثال، الإشبيلي من أصل إسباني فرانسيسكو ماركيز فيلانويفا يقول:

(إنه منذ القرن التاسع عشر تم تطبيق هذا المصطلح (مدرسة المترجمين) لكنه يعده غير مناسب على الرغم من ان هذه التسمية معروفة في جميع أنحاء العالم لم تكن مدرسة المترجمين في طُلَيْطِلَة مركزًا تعليميًا ولكنه بالأحرى مكان لقاء أو اجتماع مجموعة من العلماء المسيحيين و اليهود و المسلمين الذين عملوا معًا في طُلَيْطِلَة في البحث وترجمة جميع أعمال الثقافة العربية التي تم العثور عليها ونقلها في وقت لاحق إلى بقية أوروبا في العصور الوسطى، في هذا الخط نفسه اليوم يؤكد المستعرب إدواردو مانزانو أن المدرسة لم تكن موجودة على الإطلاق وإنه يجب عدّها حركة من الناس يطلق عليهم حرفيًا خبراء اللغات ربما تم تكليفهم وتحت حماية بعض الرعاة لهذه الحركة، بأن ينجزوا  ترجمة الأعمال الكلاسيكية المكتوبة آنذاك باللغة العربية إلى اللاتينية).

لماذا تمت الترجمة في طُلَيْطِلَة على وجه التحديد؟

طلَيْطِلَة تتمعّ بخصائص جيدة للغاية لأنه بعد أن غزوها من ألفونسو السادس عام 1085 ، أصبحت مركزاً مهماً لترجمة النصوص العلمية أكثر من ترجمة العربية إلى اللاتينية وكان هذا بسبب خصائص عدة: أولها بسبب الموقع الجغرافي لطُلَيْطِلَة فهي أول مدينة كبيرة مسلمة سقطت في أيدي السلطة المسيحية كان يبلغ عدد سكانها حوالي 200 ألف نسمة وهم من المستعربين (كلمة مستعرب هي كلمة مستعارة من العربية الفصحى، بمعنى من يتبنى طرائق العرب) ويعلم الجميع أنهم كانوا المسيحيين الذين عاشوا في طُلَيْطِلَة في وقت كانت هناك حكومة مسلمة فضلاً عن وجود المسلمين واليهود ومن هؤلاء شكّلت مجتمعًا مزدهرًا الى جانب عامل اخر مهم وهو إنه كان هناك سكان مستعربون ويهود احتفظوا باللغة العربية كلغة تعلموها ولتوافر المخطوطات باللغة العربية، ففي طُلَيْطِلَة مصادر غنية للغاية بالكتب العربية التي شكلت جزءًا منها مكتبة الخليفة الحكم الثاني تقدر أكثر أو أقل حوالي 250000 مخطوطة باللغة العربية في طُلَيْطِلَة، بعضها كما يقال جاءت من مكتبة قرطبة والأخرى كانت قادمة مباشرة من الشرق.

* نُقلت بقايا مكتبة الحكم الثاني ، التي تُرجمت مقتنياتها إلى هناك بحلول ذلك الوقت ، لم تتم ترجمتها إلى اللاتينية فحسب بل تمت ترجمتها بشكل نهائي إلى الإسبانية والفرنسية. كمثال واضح هو العمل العربي Libro de la Escala، الذي يتضمن سلسلة من الأساطير المتعلقة برحلة قام بها محمد في الجنة والجنة ترجم ألفونسو العاشر هذا العمل إلى الإسبانية قبل عام 1264، ولاحقًا ترجمته بوينافينتورا دي سيينا إلى الفرنسية واللاتينية. استوحى دانتي من هذه الترجمة الفرنسية تأسيس قاعدة حبكة الكوميديا الإلهية.

* كما كان لطليطلة خاصية مميزة مهمة وهي أنه في هذه المدينة بلاط أو محكمة أرشيبسكوبال أجنبية للتشريع يمكننا القول أن لغتها العامة كانت لاتينية  اذا ان بنسبة 90٪ من الثقافة العربية انتقلت في العصور الوسطى إلى الغرب عن طريق مدرسة مترجمي طُلَيْطِلَة في أهم مرحلتين، الأولى: مع رئيس أساقفة دون ريموندو في طُلَيْطِلَة القرن الثاني عشر وعصر آخر مهم خلال حكومة ألفونسو العاشر الحكيم في القرن الثالث عشر الذي كلفه بنفسه لرؤية الأعمال المترجمة التي يعدّها مهمة، ويجب أن تكون مترجمة وقام بنفسه بإدارة الترجمات بدلاً من رئيس الأساقفة، وراجع ترجمتها النهائية.

* سمحت الحركة التي بدأها ريموند بنشر المعرفة الشرقية بشكل عام في أوروبا وهذه هي الطريقة التي أتاحت رعاية غير مسبوقة من الملوك والأساقفة المسيحيين للحركة ثقافية ولهذا كانت طُلَيْطِلَة المركز الرئيس لترجمات العربية واللاتينية لأكثر من قرنين من الزمان، و كانت محط تركيز وانجذاب إلى معرفة عقيدة العرب كانت شهرتها كما كانت قبل قرطبة زارها عدد من العلماء والأجانب من بينهم: رئيس دير كلوني راهب ولاهوتي فرنسيي بطرس المبجل أو المكرم الذي سافر بهدف مزدوج لزيارة أديرة كلونياك وادخال التواصل مع خبراء اللغة العربية من شأنه تسهيل الوصول إلى النص اصل القران الكريم والاعمال مكتوبة عن النبي محمد (ص) وفي عام 1143 ترجم بيدرو دي طليطة أو بطرس المبجل القرآن بعد ان شكّل بطرس فريق ترجمة من الرهبان لنقل الأعمال من العربية إلى اللاتينية، من أهم ما ترجمه هذا الفريق  القران  الكريم وتعد هذه أول ترجمة غربية للقرآن.الكريم

ماهو نظام الترجمة الذي كان يستخدم؟

ترجم البيزنطيون نصوصاً يونانية باللهجة السيريانية الآرامية، وقام العرب على طوال القرنين السابع والعاشر بترجمة النصوص إلى العربية، أذ إنّ العربية حلّت محل اليونانية والسيريانية والفارسية فكان التحدث بها في جميع أنحاء الإمبراطورية الإسلامية كانت القراءة والكتابة باللغة العربية حتى أعمال علماء الفرس كعالم الرياضيات المشهور وعالم الفلك والمؤرخ والمترجم البيروني والفيلسوف والعالم ابن سينا كانت أعماله مكتوبة باللغة العربية.

كما ترجم المستعربون الأعمال الى اللغة المستعربة( وهي اللغة الروماسية التي خالطتها الكثير من الكلمات العربية)، واذا كان المستعربون يتكلمون الاسبانية والعربية فضلاً عن معرفة اليهود باللغة العربية جيداً.

بعد سنوات،وفي اثناء الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، شجّع الملك ألفونسو العاشر الحكيم على النشاط الثقافي للترجمه بشكل مكثّف.و وصلت طُلَيْطِلَة إلى واحدة من أعظم مراحل الابداع، لتصبح عاصمة الثقافة الأوروبية، استغنى ألفونسو العاشر عن النسخة اللاتينية المترجمة وترك الإصدارات المباشرة إلى الأسبانية أثناء حكمه ظهر ما يسمى بمدرسة المترجمون طُلَيْطِلَة وصار لطليطة سمعة كبيرة ووصلت جميع الترجمات العربية المنجزة في الحقبة الملكية الى شهرة في الأدب الغربي في وقت قصير.

ماهي المادة المترجمة التي كانت الاسرع انتشار في تلك الحقبة؟

كانت المادة الاسرع انتشاراً الى مدرسة المترجمين، والتي أعطت دفعة قوية للعلوم التجريبية، وكانت المساهمة مهمة بشكل خاص في علم الفلك، والرياضيات، وعلم التنجيم ومفاهيم الطب وعمليا قابلة للتبديل في ذلك الوقت  استمد العرب  العلوم من مصدرين من اليونان والهند إذ تطورّ الجبر وعلم الهندسة وحدث في وقت واحد تقريبًا مع وصول علماء الرياضيات العرب اللامعين، فلا يمكننا نسيان الخوارزمي الذي ولد في القرن التاسع في بغداد لكنه كان من أصل فارسي كان شخصية قيادية لعلماء الرياضيات العرب في عصره، كتب الى الخليفة العباسي المأمون كتاباً مشهوراً مثل كتاب الرياضيات فهو من أكبر العقول العلمية المؤثرةً الاسلامية في التفكير الرياضي أكثر من أي كاتب آخر من العصور الوسطى في عمله الحسابي للخوارزمية وهو أولا من استعمل الأرقام في اللغة العربية الارقام الهندية ومازالت موجودة في ترجمته اللاتينيه  الى جانب  هذه الارقام التسعة استخدم  الرقم الصفر وكلمة صفر تاتي من لاتنة اللغة العربية والتي كانت بنفس الوقت ترجمة من الهندية لكلمة شنيا يعني فارغ بتحديد خالي من كل شئ

أمر الخليفة العباسي المأمون بترجمة الأعمال الرئيسية الفرسية والهندية واليونانية إلى اللغة العربية في بيت حكمة بغداد في القرن التاسع ، فيما يتعلق بطُلَيْطِلَة  علينا أن نتذكر الزرقالي الشهير سمي بذلك لأن أصل اسمه اللاتيني «أرزاشيل» من الكلمة العربية الزرقالي أي النقّاش، كان azarquiel  واحدًا من أكثر علماء الفلك العرب المشهورين عاش في مدينة طُلَيْطِلَة تقريبًا من عام 1061 إلى 1080 وفي هذه المدينة طور جزءًا كبيرًا من عمله من بين أمور أخرى يتم تذكرها، أذ اخترع الأسطرلاب الذي يسمح بإجراء الحساب والملاحظات الفلكية من أي خط عرض ترجم جيراردو الكريموني أعماله إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، وأشار إلى الزرقالي بوصفه عالم فلك وساحراً.تُرجمت هذه الأعمال إلى اللغة الإسبانية في القرن الثالث عشر بأمر من الملك ألفونسو العاشر في قسم من سلسلة كتب معرفة علم الفلك بعنوان «كتب صفائح الكواكب السبعة». اخترع أيضًا نوعًا مثاليًا من الأسطرلابات المعروفة باسم لوح الزرقالي (الصفيحة الزرقالية)، والذي اشتهر في أوروبا تحت اسم صفيحة الاسطرلابات هذا ولا يمكننا نسيانه كما لاينسى ذكر مجال الطب، لأن نصوصاً عدة ترجمت في طُلَيْطِلَة، وكان ذلك بمثابة كتباً تعليمية التي تعلّم بها و درب الأطباء الأوروبيون في اثناء العصور الوسطى على سبيل المثال في القرن الثالث عشر أعمال الطبيب والجراح والفيلسوف الاغريقي الى الإمبراطورية الرومانية جالينوس هيمنت آراؤه على الطب

الأوروبي طوال ألف سنة في مجال علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء وعلم الأدوية وعلم الأعصاب، أيضًا في الأدب كان هناك دعم كبير، لا أعتقد أنه في الجزء العلمي الذي أشرنا إليه باختصار ، لكن لا يسعنا إلا أن نتذكر أنه من مدرسة المترجمين في طُلَيْطِلَة، نقلت الفلسفة العربية إلى أوروبا ، ولاسيما أعمال هؤلاء الفلاسفة المشهورين في القرن الحادي عشر أرسطو والذي يعرفه الجميع بلا شك أنه كان له تأثير كبير على ألبيرتوس، ماغنوس والقديس توماس في المجال الادبي كانت ترجمة القصص القصيرة والخرافة الاخلاقية الشرقية لها تأثير كبير على السرد الأوروبي نتذكر ترجمة كليلة ودمنة وهي مجموعة من القصص ذات طابع تعليمي ذي أصل هندوسي أمر الملك ألفونسو العاشر بترجمة نسخته العربية الى اكثر من 40 لغة آسيوية وأوروبية، وشارك في الترجمة كبار العلماء والمترجمين الرئيسين لمدرسة مترجمين طُلَيْطِلَة

أما من بين أهم المترجمين المتميزين في مدرسة طُلَيْطِلَة التي الذين مارسوا أنشطتهم في الترجمة بدعم من رئيس أساقفة طُلَيْطِلَة دون ريموندو الذي شكل الصوت العربي

دومينجو جونديسالبو من مدينة طُلَيْطِلَة ومعاونه يوحنا الإشبيلي ولا يمكننا أن ننسى جيرمان الألماني الذي توفي كأسقف أستورجا عام 1272، وأيضاً اللاسكتلندي ميغيل إسكوتو كان في أوائل القرن الثالث عشر شخصية بارزة وخبير اً في السحر الأسود ومنجمًا رسميًا في محكمة باليرمو مع الإمبراطور فريدريك الثاني وعدداً مهماً من المتعاونين اليهود الذين اعتمدهم ألفونسو ديسيمو في ترجماته

أود أن أقول بإيجاز أن اللغة العربية، فضلاً عن أنها وسيلة للتعبير عن الثقافة الإسلامية ونقلها كان بطريقة خاصة من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر ، إذ استمر الجسر الثقافي بين الشرق والغرب في طُلَيْطِلَة لأغراض علمية وطلَيْطِلَة كمدينة شرقية صحيح كانت مسيحية، فنحن نتحدث بالفعل عن طليطة يحكمها ملوك مسيحيون ولكن طُلَيْطِلَة مسيحية مستشرقة كما قال اسحاق نيوتن، فقد قطعنا مسافة بعيدة لأننا كنا نركب على الأكتاف "العمالقة" عبارة مهمة للغاية وذات عمق كبير وأعتقد أن مدرسة طُلَيْطِلَة للمترجمين أسهمت بشكل كبير في ذلك فالوقوف على أكتاف العمالقة هو استعارة تعني "استخدام الفهم الذي اكتسبه كبار المفكرين الذين أتوا من قبل لإحراز تقدم فكري".

***

أ.م.د. انتظار علي جبر

قسم اللغة الاسبانية

بقلم: كلي رازن

ترجمة بتصرف: علي حمدان

***

انطونيو نياغرا (Antonio Negri) فيلسوف إيطالي كتاباته ونشاطاته الداعية الى ثورة عمالية جديدة، أدت  الى سجنه في عام ,1979 وبعد عقدين من ذلك اصبح مفكرا عالميا مشهورا عندما اصدر كتابه "الإمبراطورية"، لقد تم الترحيب بالكتاب باعتباره البيان الشيوعي الجديد، توفى يوم السبت 22 ديسمبر، ,2023عن عمر يناهز 90 عاما.

خلال مسيرته المهنية، كان السيد نياغري من بين المفكرين الاكاديميين القلائل الذين استطاعوا بموهبتهم وجاذبيتهم لجعل أفكارهم متاحة للجمهور الواسع.

كشخصية بارزة في حركة Potere Operio سلطة العمال في ستينات وسبعينات القرن الماضي، الهم اتباعه ليس فقط بمقالاته القوية ولكن أيضا باستعداده للخروج الى الشوارع والمصانع في مدن شمال إيطاليا، وتنظيم العمال والدعوة الى الثورة.

"الإمبراطورية" (2000) الذي تم تأليفه مع مايكل هاردت، أستاذ الادب في جامعة دوك Duke، فعل شيئا مماثلا لجيل جديد من اليسار، حيث قدم ما وجده الكثيرون تفسيرا ماركسيا مقنعا للعولمة بعد الحرب الباردة.

على رغم اللغة الاكاديمية الكثيفة واكثر من ما يقرب من 500 صفحة ، الا انه حقق نجاحا فوريا، وقد تم ترجمة الكتاب الى اثنى عشرة لغة، وتصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعا في صحيفة واشنطن بوست وغيرها من الصحف. وضمن للسيد نياغري مكانا دائما بين المثقفين التقدميين العالميين، بصحبة شخصيات مثل نعوم شومسكي وسلافوي جيجيك.

برز السيد نياغري كشخصية فكرية بارزة في إيطاليا في اواخر ستينات القرن الماضي، عندما كان أستاذا للفلسفة في جامعة بادوفا. كان جيل ما بعد الحرب قد بلغ سن الرشد، وكان الكثيرون في اليسار يبحثون عن إجابات جديدة تتجاوز الاشتراكية التقليدية وشيوعية ابائهم.

نياغري لم يكتف بالبقاء في الفصل الدراسي، فقد ساعد في تنظيم Potere Operaio، وهي حركة تجاوزت ايديولوجيتها سياسات العمل الشيوعية التقليدية، للدعوة الى انهاء العمل المأجور نفسه.

" كنا نقف امام المصانع في الساعة 5 صباحا" قال في مقابلة مع "أنطونيو نياغري: ثورة لا تنتهي" وهو فيلم وثائقي عام 2004 عن حياته المهنية، من اخراج اندرياس بليشلر والكسندرا ويلتز، بعد ذلك كنت استقل السيارة الى بادوفا، واربط ربطة عنقي واعيش حياتي الاكاديمية".

اكتسبت الحركة عنفوانها في عام  1969، عندما انفجرت سلسلة من الاضرابات العنيفة في بعض المصانع في المدن الصناعية مثل تورينو، وكذلك معارك شوارع في روما وميلانو، لقد ايد السيد نياغري كل تلك الاحداث متحدثا عن "افق ثوري" وشيك وخاصة بتضامن مجموعات مثل مجموعته مع الحركات الاجتماعية الأخرى، مثل الحركة النسوية، لإحداث تغيير جذري.

قاومت الحكومة الإيطالية، في بعض الأحيان بالتحالف مع المنظمات الفاشية الجديدة،  مما أدى الى اندلاع حرب شبه أهلية استمرت عقدا من الزمان والمعروفة في إيطاليا باسم سنوات الرصاص. وقامت الشرطة بقمع المتظاهرين وضربهم واعتقالهم، في حين شنت الجماعات شبه العسكرية هجمات تبدو وكان اليسار المتطرف هو المسؤول عنها، بما في ذلك تفجير عام 1969 في ميلانو الذي اسفر عن مقتل 16 شخصا. استمر عنف اليسار الذي لم يدينه السيد نياغري ولم يناصره أيضا. في عام 1978، اختطف فصيل منشق الالوية الحمراء، الدو مورو، رئيس الوزراء السابق الذي كان رئيسا للحزب الديمقراطي المسيحي، وبعد ما يقرب من شهرين، تم العثور عليه مقتولا.

اعتقلت الشرطة عشرات النشطاء اليساريين، بمن فيهم نياغري في عام 1979، الذي اقتيد الى سجن شديد الحراسة في روما، اتهم في الأصل بقيادة الالوية الحمراء والمساعدة في تنظيم عملية الاختطاف، واحتجز لمدة اربع سنوات دون محاكمة.

خلال ذلك الوقت عاد الى الكتابة، واصدر عدة مقالات طويلة عن الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا، كما بدا في إعادة التفكير في بعض افتراضاته الأساسية حول الماركسية.

في عام 1983، تم انتخابه للبرلمان على قائمة الحزب الراديكالي، وهي نتيجة منحته الحصانة من الملاحقة القضائية. ولكن بعد ان صوت البرلمان على رفع الحصانة، اتهمه المدعون العامون بجريمتي قتل لا علاقة لها بمقتل مورو، وكذلك بكتابة مواد تحريضية. واسقطت التهم المتعلقة تحديدا بقضية مورو لعدم كفاية الأدلة.

فر السيد نياغري الى فرنسا التي رفضت تسليمه. بقى يحاضر في فرنسا واصبح صديقا مع منظرين مثل جيل دولوز وفيليكس غوتاري.

كما التقى بالسيد هاردت الذي كان يعيش وقتها في باريس. اعتقد كلاهما ان نهاية الحرب الباردة دعت الى اطار ماركسي جديد للتحليل، اطار يفسر ما اعتبراه ضعف الدولة القومية في مواجهة راس المال العالمي. كانت اطروحتهم هو ما اسموه "الإمبراطورية"، ليس كيانا او مكانا واحدا، بل شكلا سائلا وخاضعا للرقابة من هياكل السلطة التي تتحرك بسهولة بين الحكومات والشركات والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي.

الإمبراطورية، كما كتبا في كتابهم الذي يحمل نفس العنوان، ليس ببساطة نتاج للقهر الرأسمالي انما في الواقع هو البنية التي يتمثل فيها القهر الرأسمالي، والتي أيضا تنبثق فيها اشكال جديدة من المقاومة. وكتبا " تخلق الإمبراطورية إمكانات اكبر للثورة مما فعلت أنظمة السلطة الحديثة، لأنها تقدم لنا، الى جانب  القيادة،  مجموعة من تحالف جميع المستغلين والمقهورين، جمهور يعارض الإمبراطورية بشكل مباشر، دون وساطة بينهما. 

السيد نياغري عاد الى إيطاليا في عام 1997 معتقدا انه سيحصل على البراءة ، وعوضا عن ذلك تم سجنه،  بالتعاون مع السيد هاردت انهى الكتاب وهو في السجن عام 2000. اصدار "الإمبراطورية" كان في الوقت المناسب حيت كانت تعم الاحتجاجات والمظاهرات في انحاء العالم ضد صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية  ومجموعة  السبع الصناعية. في وقت ما على ما يبدو، كان لدى أي طالب دراسات عليا يحترم نفسه في العلوم الانسانية   نسخة من "الامبراطورية " حاضرة على الرف بصحبة "راس المال" لكارل ماركس وكتب جوديث بتلر.

"ما قام به هاردت ونياغري ليس اكثر من إعادة كتابة  للبيان الشيوعي ليتماشى مع عصرنا الحاضر" ذلك ما كتبه السيد جيجيك في مراجعة للكتاب.

تم اطلاق سراح السيد نياغري من السجن عام 2003، استمر هو والسيد هاردت في كتابة جزأين ل" الإمبراطورية" – "التعددية: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية" ( 2004) و"الكومنولث" (2009). وكلا الكتابين محاولة لتحديد وسائل المقاومة ضد راس المال المعولم. لم يكن السيد نياغري دون نقد حتى من قبل اليسا، حيث زعم البعض انه و السيد هاردت قللا من الأهمية المستمرة للدولة القومية، على سبيل المثال في الحرب الروسية الأوكرانية او التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين.

لكن أنصاره يقولون ان عمله يمكن ان ينظر اليه أيضا على انه جزء من فهم متطور لتعقيدات مجتمع القرن الحادي والعشرين، حيث تتمتع كل من الشركات والحكومات بالقدرة على تغيير الجغرافيا السياسية. في حين ان الحركات الشعبية العالمية يمكن ان تظهر بين عشية وضحاها وتغير العالم.

***

..........................

Clay Risen

New York Times

Dec, 22, 2023

يقف الشاعر بدر شاكر السياب في مقدمة مجددي القصيدة العربية الحديثة، وهو المثقف الذي كان جزءاً من نسيج الثقافة العراقية، وكان من الأشخاص القريبين من السياب الكاتب محمود العبطة، وهو أول من كتب عنه بكتاب تحت عنوان (بدر شاكر السياب والحركة الشعرية الجديدة في العراق) الصادر عام 1965 عن مطبعة المعارف في بغداد. ويقول عن السياب في ص16-17 من كتابه: (في السنين الأخيرة نشر مقالات ظالمة وقصائد تزلف في صحف بغداد، وكما توظف محرراً في مجلة حكومية في البصرة، وسافر إلى روما وألقى محاضرة عن الشعر في العراق، أنزلته من عيون الناس، واتصل ونشر في مجلة حوار المشبوهة، إن هذه المواقف نقاط سوداء في صفحته).

ثم كتب السياب مقالاته (كنت شيوعياً)، لينشر من خلالها تجربته مع الحزب الشيوعي العراقي ويسمي شخصاً كان مسؤوله (الرفيق رائد)، والكتاب عبارة عن مقالات نشرها في صحيفة الحرية عام 1959م، تحتوي على أربعين مقالة على شكل حلقات أسبوعية، وقد صَبّ جام غضبه على كل شيوعي في العالم وكل حزب يحمل هذا الاسم وأفكاره، ففجر في خصومته معهم لينسب صورة قاتمة وبشعة لهذا الحزب آنذاك في طريقته وأسلوبه ومعاملاته، حيث إن عين سخطه ابداها، وجعل كل مساوئ الدنيا في هذا الحزب وأفراده، ثم تحدث عن اتصاله بالأحزاب الشيوعية الأخرى خارج العراق كحزب تودة الشيوعي الإيراني، فعندما اختلف مع رفاق الأمس قلب ظهر المِجنّ لهم ولم يسعفه الوقت حتى كان يحلم بانهياره انهياراً تامّاً.

مع كل ما ذكرناه اعلاه إلا أنه استقبل الشهرة من خلال قصائده الأولى، ومن ثم ظهرت تناقضاته في حدتهّا، ففي أيامه الأخير قد أساء كثيراً، وخاصة بعد انقلاب 8 شباط 1963م، التي كتبها وهو بالمستشفى في لندن ومنها:

لولاه ما عاد الشيوعي حاكماً

كما شاء أو كان الشيوعي ينحر

*

لك الحمد إذ رويت بالثأر أرضنا

فسرنا على الدرب الذي كاد يطمر

وقصيدته إلى العراق الثائر:

والله عاد إلى الجوامع بعد أن طلع النهار

طلع النهار فلا غروب

*

يا حفصة ابتسمي فثغرك زهرة بين السهوب

أخذت من العملاء ثأرك كفّ شعبي حين ثار

*

فهو إلى سقر عدو الشعب فانطلقت قلوب

*

كانت تخاف فلا تحن إلى أخ عبر الحدود.

فكان يؤكد على الثأر من رفاق الأمس بعد انقلاب شباط 1963م، وقادة الانقلاب سائرون نحو ذبح حلفاء الأمس، وينادي السياب باسم حفصة، وهي اشارة واضحة إلى الطائفية والعروبية بعينها، للثأر من الزعيم. فيقدم السياب افراط في الاساءة المبالغ بها، فكان عنيفاً متناقضاَ مقصوداً وواعياً، لذا تجد كلمة الثأر والتشفي والتلويح بالانتقام مفردات ألفهما سياق القصيدة، فضلاً عن التشهير برفاق الأمس.

يذكر السياب في كتابه (كنت شيوعياً-ص27) قائلاً: (إننا نحمّل رجال العهد البائد مسؤولية تلك الجريمة التي ارتكبوها بحق الشاعر معروف الرصافي حين حاربوه في رزقه، لأنه كان ضد الملك والبلاط، وها أنذا اليوم شاعراً لا يقل عن الرصافي شاعرية، ووطنياً مخلصاً وديمقراطياً صميماً أُحارب في رزقي، في عهد الزعيم الفذ عبد الكريم قاسم، لا لأني ضد الجمهورية بل لمجرد أنني أحب عبد الكريم أكثر مما أحب خروشوف أو ماركس أو لينين، وأحب العراق أكثر مما أحب الاتحاد السوفيتي، وأحب الشعب العربي العظيم أكثر مما أحب الشعب السوفيتي أو سواه من الشعوب). مع هذا أجد السياب بوضعه المادي ومرضه، ووضع العراق في صراعات القوميين والشيوعيين، لما كان اختلافه مع رفاق الأمس. وفعلاً (بعد مراوغة وإلحاح اقتنع بنصيحة أخيه أن يقابل أحد المسؤولين في الحزب، لكن هذه المقابلة لم تثمر بإعادته للوظيفة). كنت شيوعياً، ص66.

كانت أحد اسباب ثائرة التوتر بين السياب والحزب الشيوعي العراقي حينما طبع الحزب الشيوعي ديوانين للبياتي في مجلة الحزب آنذاك (أباريق مهمشة، أشعار في المنفى)، وتعتذر عن طباعة كراس لقصيدته (المومس العمياء) في وقت سابق، هو ما ذكره السياب في كتابه (كنت شيوعياً ص122، 136-137) قائلاً: (يذكر البياتي وقد يكون لصعود نجم الأخير أثر في التوتر، وتبني الشيوعيين الاحتفاء به هذا في غياب السياب، وسيتكرر ذكر البياتي حتى ليبدو جزءاً مهماً من معركته، أو هو لصيق باحتفائهم به). ويعلق في ص20 من كتابه ليقلل من شاعرية البياتي قائلاً: (ولاحظت آنذاك أن بعض المتشاعرين التافهين من أمثال عبد الوهاب البياتي وزمرته قد برزوا بشكل عجيب آنذاك نظراً لخلو الميدان لهم). من خلال كلامه اعلاه أجد أن السياب يبدو ساذجاً، وكأن حكر الثقافة والشعر عليه دون سواه. فبدأت معركة السياب الحقيقية مع الشيوعيين منذ ذلك الحين، فأرخها في مقالاته في صحيفة الحرية، فيذكر في كتابه كنت شيوعياً ص25: (ثم روج الشيوعيون عني بأنني بعثي، وروج آخرون إشاعة تزعم أنني لست قومياً عربياً وإنما قومي سوري). فكانت صحة السياب على اشدها وكانت مواقفه تزداد تطرفاً، فضلاً عن موقف مجازر الإنقلابيين الغير إنسانية قد زادت من حجم الكارثة والخلافات، واستنتج مما مر به السياب أنه لم يكن بريئاً، كما لم تكن الجهة المقابلة التي ناصبها العداء اقل عدوانية.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

بقلم: أندرو ستير

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

قد تبدو المدن الكبيرة ضارة بالصحة العقلية، لكن مقارنة معدلات الاكتئاب تشير إلى أن المدن الأكبر هي الأفضل.

المدن هي معاقل الفرص. فهي مليئة بأعداد كبيرة من الأشخاص الذين يتجمعون مع الأصدقاء والعائلة، ويزورون المطاعم والمتاحف وأماكن الحفلات الموسيقية والأحداث الرياضية، ويسافرون من وإلى العمل. ومع ذلك، فإن العديد منا الذين يعيشون في المدن قد أرهقهم هذا النشاط في بعض الأحيان. وفي أوقات أخرى، قد نشعر "بالوحدة وسط الزحام". على مدى عقود من الزمن، دفعت التجارب المتضاربة للحياة في المدن سكان المدن والعلماء إلى التساؤل: هل المدن سيئة للصحة العقلية؟

كانت الحكمة التقليدية والإجابة العلمية لأكثر من نصف قرن هي "نعم". وتتزايد أهمية هذا السؤال مع تقدم التوسع الحضري العالمي: فبحلول عام 2050، سيعيش حوالي ثلثي سكان العالم في المدن. يبدو أن المدن الكبرى، التي تحتوي على المزيد مما يجعل المدينة مدينة، سيئة بشكل خاص للصحة العقلية. يستحضر التفسير النموذجي عوامل مثل الضوضاء والجريمة والتفاعلات الاجتماعية القصيرة القاسية (فكر في سمعة مدينة نيويورك بالوقاحة) ليقول إن المدن الكبرى تخلق أعباء حسية واجتماعية يتعين على سكان المدن مواجهتها نفسيًا باستمرار. في حين يبدو أن هذا التفسير مدعوم ببعض الأدلة التي تشير إلى أن المناطق الريفية، بشكل عام، قد تكون معدلات الاكتئاب لديها أقل من المدن، إلا أن هناك أدلة قليلة على أن هذه العوامل المحددة تسبب ارتفاع معدلات الاكتئاب في المدن، ولا يوجد بحث في كيفية مقارنة المدن الكبرى بالمدن الصغرى .

وكما تبين، فإن العلاقة بين المدن والصحة العقلية أكثر تعقيدا مما توحي به التفسيرات التقليدية. أظهرت دراسة أجريتها مؤخراً مع زملائي في جامعة شيكاغو أن المدن الكبرى في الولايات المتحدة تعاني بالفعل من معدلات اكتئاب أقل بكثير من المدن الصغرى. قام فريقنا بفحص معدلات الاكتئاب التي حسبتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، ومعدلات الاكتئاب الأخرى من إدارة خدمات تعاطي المخدرات والصحة العقلية، ومعدلات أخرى قمنا بتقديرها باستخدام منشورات تويتر المحددة جغرافيًا وخوارزمية التعلم الآلي. على الرغم من حقيقة أنه تم استخدام أساليب مختلفة لتقييم معدلات الاكتئاب ــ بعضها كان يستند إلى معايير سريرية، وأحدها يتضمن استطلاعات عبر الهاتف، وما إلى ذلك ــ وكان كل مصدر يتضمن مجموعات مختلفة (وإن كانت متداخلة) من مدن الولايات المتحدة، فقد وجدنا نتيجة متسقة. وعلى وجه التحديد، ارتبط تضاعف عدد سكان المدينة بانخفاض بنسبة 12% في معدلات الاكتئاب، في المتوسط.

يبدو أن انخفاض معدلات الاكتئاب في المدن الكبرى هو نتيجة للطريقة التي يتم بها بناء المدن ويمكن تفسيرها من خلال رؤية علمية جديدة للمدن تسمى نظرية التوسع الحضري. لقد ساعدتنا نظرية التوسع الحضري على فهم السبب وراء شيوع بعض التجارب بين جميع سكان المدن، كما أنها تزودنا بوجهات نظر جديدة حول كيفية تأثير هذه التجارب الجماعية على الابتكار والجريمة والإنتاجية الاقتصادية، والآن الصحة العقلية.

بالنسبة لي، أصبح صخب الحياة في المدن الكبرى بارزًا بشكل خاص عندما سافرت لأول مرة من مسقط رأسي في مدينة نيويورك إلى شيكاغو للدراسة الجامعية. عندما نزلت من الطائرة، بدا أن الوتيرة الأبطأ والهدوء في الغرب الأوسط في شيكاغو مخيمين  في الهواء. وجدت نفسي أبطئ على الفور وأتأقلم مع نمط الحياة الأكثر استرخاءً إلى حد ما في منطقة حضرية يبلغ عدد سكانها 9.6 مليون نسمة (مقارنة بمنطقة مترو نيويورك التي يبلغ عدد سكانها 20.1 مليون نسمة).

كانت هذه التجربة، على الأرجح، بسبب استيعابي لحقيقة أن وتيرة الحياة أسرع في المدن الكبرى، وهي حقيقة تم التنبؤ بها كميًا وبشكل دقيق  من خلال نظرية التوسع الحضري.على وجه الخصوص، فإن المدينة التي يبلغ عدد سكانها ضعف عدد سكان مدينة أخرى سيكون لديها وتيرة حياة أسرع بنسبة 12 في المائة تقريبًا (نفس النسبة التي تنخفض بها معدلات الاكتئاب). ماذا يعني هذا بشكل ملموس؟ تظهر الأبحاث أن الناس يمشون بشكل أسرع في المدن الكبرى. يميل الأشخاص في المدن التي يبلغ عدد سكانها حوالي 10000 نسمة إلى المشي بسرعة 3.5 كيلومتر في الساعة، بينما يميل الأشخاص في المدن التي يبلغ عدد سكانها حوالي مليون نسمة إلى المشي بسرعة 5.8 كيلومتر في الساعة، أي ما يقرب من الركض.

بالإضافة إلى سرعة المشي، وجدت الدراسات أدلة على أن الاختراعات وتنوع الوظائف والتفاعلات الاجتماعية وتنوع المطاعم والجريمة تزداد أيضًا في المدن الكبرى، وذلك وفقًا لقاعدة 12 بالمائة أيضًا. وهناك بعض التباين بين المدن، ولكن متوسط الزيادة يبلغ 12 في المائة لكل تضاعف عدد السكانوتظهر هذه الدراسات أن المدن، بشكل عام، تعزز قدرًا أكبر من التفاعل الاجتماعي (الإيجابي والسلبي)، والتنوع، والثقافة، وتوليد الأفكار. تتلخص هذه المبادئ في قاعدة الـ 12% (وبعض القواعد الأخرى) ويبدو أنها تنطبق عبر الثقافات وعلى مر الزمن، حيث يعود تاريخها إلى عام 1150 قبل الميلاد.

كيف يمكن أن نتمكن من إجراء مثل هذه التنبؤات الدقيقة في ضوء جميع العوامل التي تجعل كل مدينة وحي فريدًا من نوعه؟ نظرية التوسع الحضري في جوهرها عبارة عن مجموعة من النماذج الرياضية التي تشرح كيفية تنظيم المدن. هذه النماذج، إذا استعرنا عبارة من أفلاطون، "توحد في فكرة واحدة التفاصيل المتناثرة" للحياة في المدينة الحديثة وتشرح وتضع سياقًا لبعض التجارب التي يعيشها سكان المدينة كل يوم. إحدى الأفكار الرئيسية هي أن التخطيطات المادية للمدن تتبع قواعد بسيطة. تمتلك المدن شبكات بنية تحتية متعددة الطبقات ــ تتكون من خطوط الكهرباء، والشوارع، وخطوط السكك الحديدية، وما إلى ذلك ــ مع تفرع مكونات أكبر إلى مكونات أصغر تخدم مجموعات أصغر من الناس. وبهذا المعنى، فإن شبكات البنية التحتية للمدن تشبه شبكة الدورة الدموية البشرية المكونة من الشرايين والأوردة والشعيرات الدموية المتفرعة، وأنماط الأشجار المتفرعة. إضافة إلى ذلك، فإن حركة الناس شبه العشوائية عبر المدن مقيدة بشبكات البنية التحتية هذه. وهذا يعني أنه يمكننا استعارة بعض الأدوات الرياضية من الفيزياء لبناء معادلات تصف كيفية تنقل الناس عبر المدن.

ومع بعض الاعتبارات الإضافية، تتساءل معادلات نظرية التوسع الحضري عما يحدث عندما نوازن بين التكاليف والفوائد المرتبطة بحركة الأفراد والسلع والمعلومات عبر شبكات البنية التحتية للمدن. في حين أن الرياضيات معقدة، فإن النتائج هي علاقات بسيطة بين حجم سكان المدينة ومجموعة متنوعة من المقاييس الحضرية. ومن هنا توقع زيادة بنسبة 12% في المقاييس الاجتماعية مثل الجريمة والابتكار مع مضاعفة حجم المدينة: وهذا نتيجة لكيفية بناء أنظمة البنية التحتية للمدن وتسهيل تفاعل الأشخاص الذين يسافرون عبرها.

وفيما يتعلق بالاكتئاب، فإن الفكرة الأكثر أهمية هي أن المدن الكبرى تسهل المزيد من التفاعل الاجتماعي. ونعم، هذا يتبع أيضًا قاعدة الـ 12 بالمائة. ولتوضيح ذلك في بعض الأرقام الافتراضية، إذا كان عدد سكان مدينة يبلغ عدد سكانها مليون نسمة لديهم متوسط 43 تفاعلًا اجتماعيًا داخل نفس المدينة، فمن المتوقع أن يكون لدى سكان مدينة يبلغ عدد سكانها 10 ملايين متوسط 63 تفاعلًا اجتماعيًا. لماذا هذا مهم للاكتئاب؟ منذ حوالي 10 سنوات، عرفنا أن عدد الاتصالات الاجتماعية التي يتمتع بها الأشخاص يرتبط ارتباطًا وثيقًا بخطر الإصابة بالاكتئاب: فكلما زاد عدد الأشخاص الذين تتفاعل معهم، انخفض خطر الإصابة بأعراض الاكتئاب. ولهذا فمن المنطقي أننا وجدنا أن معدلات الاكتئاب أقل في المدن الكبرى، وأن هذا الانخفاض في معدلات الاكتئاب يتبع قاعدة الـ 12%.

هذه الملاحظة لها آثار عميقة على كيفية تفكيرنا في الاكتئاب. وفي سياق الوباء العالمي المستمر، تجدر الإشارة إلى أن الاكتئاب داخل المدن يمكن فهمه جزئيا على أنه ظاهرة بيئية جماعية. لا شك أن العوامل الفردية مهمة في تجربة أي شخص مع الاكتئاب، ولكن الأمر كذلك بالنسبة للشبكة الاجتماعية الأوسع التي يندمج فيها الأشخاص. لسوء الحظ، ما زلنا لا نفهم بشكل كامل الديناميكيات الدقيقة التي تربط التفاعلات الاجتماعية بالاكتئاب. ومع ذلك، يشير بحثي إلى أن تأثير التفاعلات الاجتماعية تراكمي: قد تكون الصداقات والعلاقات الأسرية الوثيقة والداعمة أكثر أهمية من التفاعلات العابرة مع الغرباء، ولكن من المحتمل أن يكون هناك المزيد من الاثنين (وكل نوع آخر من التفاعل الاجتماعي). في المدن الكبرى.

والأهم من ذلك، أن البيئة المادية للمدينة (الطرق وخطوط القطارات والحافلات والأرصفة وممرات الدراجات) تشكل هذه الشبكات الاجتماعية. وعلى وجه التحديد، على مستوى المدن بأكملها، تعمل البنية التحتية على تسهيل توصيل السلع والخدمات والمعلومات، مما يساعد على دعم جميع الفرص التي توفرها المدن. وفي الوقت نفسه، تسمح شبكات البنية التحتية هذه للناس بالتنقل في جميع أنحاء المدينة للوصول إلى هذه الفرص، ونتيجة لذلك، تسهل أيضًا الفرص المتاحة لمزيد من التنوع وعدد أكبر من التفاعلات الاجتماعية.

بهذا المعنى، صحيح أن طابع المدينة، والتأثير الجماعي لسكانها، يخيم في الهواء، جاهزًا للتأثير على من هو قريب ليتنفسه.

ويأخذ هذا التشبيه معنى أكثر واقعية فيما يتعلق بكوفيد-19 ــ والذي ليس من المستغرب (نظرا لأن الاتصال الاجتماعي يسهل انتقال العدوى عبر الهواء)، أن يتبع نفس قاعدة الـ 12% في السرعة التي ينتشر بها عبر المدن. وكما هو الحال مع الأمراض المعدية مثل كوفيد-19، هناك مبرر قوي لإجراء قياسات محلية متكررة لمعدلات الاكتئاب. يبدو أن الاضطرابات الاكتئابية منتشرة بشكل متزايد، وهي منهكة للغاية، وتكلف الاقتصاد العالمي مليارات الدولارات كل عام من الإنتاج الاقتصادي المفقود. أظن أن مثل هذا الجهد لتتبع الاكتئاب سيكشف عن طرق أفضل لتوزيع إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية العقلية على المجتمعات التي هي في أمس الحاجة إليها.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يمهد التتبع المحلي المتكرر الطريق لفهم أفضل لحالات الصحة العقلية الأخرى. بعض هذه الحالات، مثل القلق، تكون مصاحبة بشدة للاكتئاب وربما تتبع أنماطًا مماثلة. وقد تظهر حالات أخرى، مثل الفصام أو التوحد، أنماطًا مختلفة عبر مدن ذات أحجام مختلفة.  يمكن أن يساعدنا هذا التتبع أيضًا في فهم سبب انخفاض معدلات الاكتئاب في بعض المناطق الريفية، على الرغم من أن الشبكات الاجتماعية أصغر بشكل عام. ربما في المناطق الريفية، تعوض التفاعلات الاجتماعية عالية الجودة النقص في الكمية، بينما في المدن الكبرى تعوض الكمية عن انخفاض الجودة؟

تتمتع المدن تاريخياً بسمعة سيئة فيما يتعلق بالصحة العقلية والجسدية. ومع ذلك، في عالم سريع التحضر، يمكن أن يكون للتواصل الاجتماعي العالي في المدن الكبرى تأثيرات إيجابية على الصحة العقلية لسكان المدن. وفي حين أن التواصل الاجتماعي المتزايد يجعل احتواء الأوبئة مثل كوفيد-19 أكثر صعوبة، فإنه يؤدي أيضا إلى فرص اقتصادية أكبر، والمزيد من الابتكار السياسي والتكنولوجي، وعلى ما يبدو، انخفاض معدلات الاكتئاب. ومع تزايد عدد الأشخاص الذين يعيشون في المدن كل عام، فمن المهم أن ندرك ونقيس ونستوعب كيف تؤثر الأماكن المادية التي نسكنها - والأشخاص الذين نشاركهم تلك المساحات - على رفاهيتنا بطرق ربما لا نتوقعها.

***

.............................

الكاتب: أندرو ستير / Andrew Stier. طالب دكتوراه في علم الأعصاب التكاملي في جامعة شيكاغو. تركز أبحاثه على الفهم المنهجي لمحتوى الفكر والصحة العقلية في المدن.

مقتطفات:

تشبه شبكات البنية التحتية للمدن نظام الدورة الدموية للإنسان، وأنماط الأشجار المتفرعة

إن طابع المدينة، والتأثير الجماعي لسكانها، يخيم علي الهواء

رابط المقال:

https://psyche.co/ideas/why-life-is-faster-but-depression-is-lower-in-bigger-cities

آر. دي. لينج (1927-1989)

طبيب نفسي اسكتلندي قاد حركة واسعة ضد النموذج الطبي للمرض العقلي لاسيما الفصام،  اذ يرى ان المصاب بالفصام (الشيزوفرينيا ) بانه شخص يعيش منقسما اما بداخل ذاته او بينه وبين العالم،  و فرّق بين المصاب بالفصام ومريض انفصام الشخصية بقوله ان المصاب بالفصام يشعر باضطراب ولكنه عاقل تماما! اما مريض انفصام الشخصية فقد تجاوز عقله الحد فوصل الى حالة الهوس.

وما يميزه عن علماء النفس انه درس الفلسفة الوجودية، وانشغل بالأدب، اذ يرى ان شخصيات مسرحيات شكسبير غالبا ما تكون شخصيات مضطربة لديها صراعات داخلية ومع ذلك يظلون يسيرون مع تيار الحياة ويتمالكون انفسهم.. اما شخصيات روايات (كافكا) ومسرحيات (صموئيل بيكيت) فانها تفتقر للامان الوجودي الاساسي لذلك يمثلون نوعيات فصامية!

وبجرأة صريحة يقول ان نزلاء المستشفيات النفسية والعصبية ليسوا مجانين،  بل المجانين هم السياسيون والعسكريون الذين لم يتورعوا عن تدمير الجنس البشري بمجرد ضغطة زر!...

وكنا أجرأ منه!.اننا نشرنا، في عراق المستبدين،  مقالا بعنوان (على مسؤوليتي.. السياسيون العراقيون مرضى نفسيا) واثبتنا ذلك بادلة.. ودعوناهم لرفع قضية ضدنا في المحاكم العراقية.. تجدها موثقة في مواقع كثيرة بينها الحوار المتمدن.

ما نرجوه من اقسام علم النفس بالجامعات العراقية ان يدخل لينج في مادة علم النفس الأكلينكي.. ففيه ستتغير الكثير من المفاهيم التقليدية التي تعلمتها انا قبل نصف قرن وما تزال كما هي!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

يُعدّ موضوع التعريب من اكثر الموضوعات اللغوية التي نالت اهتمام القدماء والمحدثين في مجال اهتمامهم باللغة العربية ورعايتها، ضمن قانون الافتراض اللغوي الذي تتبادل في إطاره اللغات المجاورة والمتصلة ببعضها البعض بما تقرضه حيناً وتقترضه حيناً آخر من الالفاظ التي هي بحاجتها لمسايرة الحركة الحضارية الجديدة، وكعامل من عوامل النمو والتوسّع اللغوي كما اهتموا بوضع ضوابط لمعرفتها وأحكاماً لإخضاعها للنطق والبناء العربيين ومن الطرق والوسائل التي تمت من خلالها تنمية الثروة المعجمية العربية بالالفاظ المعربة:

1ـ الاشتقاق: وهو أكثر الطرق حيوية ومرونة ومساعدة على إثراء اللغة العربية وتنميتها، وهو أحد تقنيات التعريب ـ وذلك باقتطاع لفظ من لفظٍ آخر أجنبي معّرب يوجد بينهما توافق على مستوى الاصوات والدّلالة ولم يتوقف عمل اللغويين على اشتقاق مواد جديدة من الكلمات القديمة المعرّبة بنفس معانيها بل تعّداه إلى إعطاء بعض الاشتقاقات منها دلالات جديدة تتناسب والمفاهيم العصرية المتداولة والشائعة في استعمالاتهم ومن ذلك قولهم:

أـ البرمجـــة: بمعنى إعداد البرامج والفعل( برمج ) أيضاً بمعنى أعدّ ووضع برنامجاً، وقيل برمج يبرمج برمجة فهو مبرمج والمفعول مبرمَج أُخِذَ من الكلمة المعربة قديماً( برنامج).

ب ـ النمذجة: بمعنى صياغة النموذج والمثال و(نمذج) الفعل الرباعي المشتق منها على وزن (فعلل) اشتقاق من ىالمعّرب القديم (نموذج).

جـ ـ أكسد، يؤكسد، أكسدة، مؤكسد أشتقاق من المصطلح الاجنبي المعرب (أكسيد).

دـ تلفن، يتلفن، تلفنة، متلفن أشتقاق من المصطلح الاجنبي المعرب (تلفون).

2ـ المجاز: المقصود به استعمال لفظ عربي معين في معنٍ جديد مستمد من كلمة اجنبية معّربة بخلاف المعنى الذي استعمل به أول مرّة في المعاجم العربية القديمة، وقد كثرت الكلمات المحدثة مجازيا في المعاجم العربية المعاصرة كثرة نوعية تحيل بضخامة الموروث اللغوي وقوة ايحاءاته المعنوية من جهة، وتوحي بحمل مصطلح التعريب لمفهوم الترجمة عند المحدثين في حالة تعذّر تعريبه لفظياً وهو ما يسمى (التعريب بالمرادف) من جهة أخرى.

وللمجاز دور وأهمية في الوضع المصطلحي في قوله " يتحرك الدال، فينزاح عن مدلوله، ليلامس مدلولاً قائماً أو مستحدثاً. وهكذا يصبح المجاز جسر العبور تمتطيه الدوال بين الحقول المفهومية. فالقضية دائرة على محور الحركة الذاتية إذ يمد المجاز أمام الفاظ اللغة جسوراً وقتية، تتحول عليها من دلالة الوضع الأول إلى دلالة الوضع الطارئ"(1)، ومما عرّبه المحدثون من الالفاظ الاجنبية مجازاً:

أ ـ تعريب كلمة ( الأسانسير) بالمصعد، وكلمة ( صالون) بالبهو، وكلمة ( بنسيون ) (بالمثوى).

ب ـ تعريب كلمة ( راديو) بمذياع وكلمة ( مكروفون) بمجهاز.

3ـ النحت: تُعدّ ألية النحت إحدى التقنيات التطبيقية لعملية التعريب، وأصلاً من أصول الوضع الصحيحة في اللغة فعّدها بعضهم ضرباً من ضروب الاشتقاق بل ضرورة علمية لنقل حقائق جديدة كانت اللغة العربية في حاجتها، وذلك نظراً لما تحققه هذه الاداة من اختزال في التعبير بغرض السهولة اللفظية وخفة النطق. ونعني بالنحت تشكيل كلمة واحدة (المنحوت) من مجموعة حروف كلمتين أو أكثر (المنحوت منه) يكون بينهما توافق في اللفظ والمعنى، ومن امثلة المعرّبة المنحوتة نجد على سبيل المثال:

ــــ افرو آسيوي نحتا من الكلمتين (افريقيا) و(آسيا)

ـــ بتروكيمياوي نحتا من الكلمتين (بترول) و(كيماوي)

ـــ كهرطيس نحتا من الكلمتين (كهرباء) و(مغناطيس)

***

اعداد: أ. م. ليلى مناتي محمود

كلية اللغات ـ جامعة بغداد

............................

المصادر:

1ـ قاموس اللسانيات (عربي ـ فرنسي / فرنسي ـ عربي، عبد السلام المسدّي، ص44 ـ45 .

18 ديسمبر

العربيَّة لُغة الشِّعر والفنون

اختارت منظمة هيئة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو»، أن يكون الاحتفال باليوم العالمي للُّغة العربيّة18ديسمبر، عام: (2023م)، تحت عنوان: «العربيّة: لُغة الشِّعر والفنون»، ولا ريب في أن انتقاء هذا العنوان له دلالات متنوِّعة ومُختلفة؛ فقد احتلّ الفكر الشعري في الثقافة العربيّة مكانة مرموقة، وحظي بعناية فائقة؛ إذ أسهم في تراكُم المعرفة، وكما وُصف من لدن القدماء؛ فهو علم العرب الذي ليس لهم علم غيره، والحقّ أن الشعر يتميّز من مجموع الفنون الراقية والجميلة، بضرورة انطلاقه من مضامين فكريّة ظاهرة في صريح العبارة، وإنه ليتهيأ للمنشئ أن يؤلِّف من مواد اللُّغة كلاماً هادفاً خالياً من كل نفحة شعريّة، ولكن لا يتهيأ له بحال أن يؤلف كلاماً شعرياً من دون مضمون فكريٍّ إلى حدّ ما معقول على عكس ما يتهيأ للفنان في الموسيقى أو التمثيل(1).

ولعلّ اللّغة العربيّة أن تكون من أغنى اللّغات بالإيقاع الذي يجعلها لغةً شعريّة بالطّبيعة، ولغة شاعرة؛ كونها بُنيّت على نسق الشعر، وقد يُفهم من هذا القول كذلك، إنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وفي هذا الصدد نستحضر ما ذكرته المستشرقة الألمانية(زيغريد هونكه) بأن العرب شعب من الشعراء، في كتابها المعروف: «شمس العرب تسطع على الغرب»، وقد خصصت الفصل الخامس من كتابها للحديث عن هذا الموضوع،  وقد اكتسبت اللّغة العربيّة اسمها من الإعراب أو العُروبة أو العُروبية؛ أي الفصاحة والوُضوح والبيان، ويمنحها الإيقاع قدرة عجيبة على إنتاج العناصر الصّوتيّة؛ فإذا شِعْرُها لا يختلف كثيرا عن نثرها الرّفيع. بل ربما وجد الأديب المتمكّن، والكاتب المتضلّع من العربيّة، صعوبةً كبيرةَ في الإفْلات من مجموعات الإيقاعات التي تنثال بها عليه كالمطر الهاتن، وتتهادى من حوله كالعرائس(2).

ومهما يكن من سبب النظم؛ فإنه يكاد يقع الإجماع على أن العرب أقوى الأمم شاعريّة، وأقدرهم على الإبداع في الشعر الغنائي، ويدل على ذلك عدد الشعراء، وضروب الشعر، وكثرة الأنواع الشعريّة العربيّة، وهناك العديد من الأسباب التي أسهمت في ازدياد شاعريّة العرب؛ ومنها أن العربي يتسم بنفس حساسة وشعور راق وأريحية وأنفة، وهو سريع الطرب، وسريع الغضب، وفيه بديهة وارتجال، ومن كان هذا شأنه سرعان ما يجيش صدره بجملة من المعاني التي يلفظها لسانه، ولذلك كان النصيب الأوفر، والحظ الأكبر من الشعر العربي للشعر الغنائي والشعر الموسيقي؛ الذي يُعبّرون به عن إحساسهم ويُصورون به مشاعرهم، ويصفون بإسهاب شعورهم، وقد أرجعه العديد من العلماء إلى أحد أربعة فواعل: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغلبة، كما يرجعُ سببُ شاعريّة العرب؛ إلى أن لغتهم شعريّة نظراً لما فيها من أساليب الكناية والاستعارة ودقة التعبير وكثرة المُترادفات؛ مما يُسهِّل وجود القافية، فالعربي من أنطق الأمم، ولغته من أوسع اللُّغات ولفظها أدل من سائر الألفاظ، ومن بين الأسباب التي أدت إلى زيادة شاعريّة العرب؛ صفاء جوِّهم وتفرغهم للتأمُّل في الطبيعة، إذ أن الذين يعيشون في الجو الصافي تكون أذهانهم صافية(3)، ولاسيما إذا كانوا أهل خيال وتصوُّر مثل العرب، فيرقى الصفاء بإبداعهم الشّعريّ.

لقد كانت البادية العربيّة منبع الشِّعر، تثير أخيِلة العرب وتغذيها وتُحرك ألسنتهم؛ واتسمت لغتهم بالسعة والدقة، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالحياة في البادية، وقد تميّزت تلك الأخيلة بالحُرية والاستقلال، حيث إن الإنسان العربي ينعم بمنظر الأراضي الشاسعة والمُترامية والمُمتدة أمامه كالبساط، فيجيش صدره بالشعر وينساب على لسانه عذباً سلسبيلا، نظراً لما اتصفوا به من ذكاء حاد؛ فإننا نلفي في شعرهم اللمحات الخاطفة والإشارات البعيدة، بيد أن العديد من الدارسين لاحظوا أن ذكاءهم لم يكن خلاقاً ولا مبتكراً؛ إذ أنهم يتفننون في القول دون أن يبتكروا معاني جديدة، حيث إنه خيالهم ظل لصيقاً بالصحراء، فلا يُحلق بهم في عوالم جديدة تُوحي لهم بدلالات جديدة، والحقيقة أن يتأمل خلفيات صورهم الشعريّة، ويسعى إلى الغوص في دقائق خلجاتهم النفسيّة التي هزت مشاعر الشعراء، فإنه يجدها متأثرة بشكل كبير بطباعهم وأخلاقهم أولاً، ثم تأتي بالدرجة الثانية بيئتهم الطبيعية والاجتماعية؛ وهذا الأمر أرجعه بعض العلماء إلى سلامة فطرتهم، كما اتسموا بذلاقة اللِّسان، وفصاحة النطق، وكانوا لا ينظرون إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وإن تأملوا الشيء الواحد، فإنهم يقفون فيه على مواطن خاصة قد تثير إعجابهم، وهذا ما دفع بعض النقاد إلى القول إنه سبب عجزهم عن الإتيان بالقصائد القصصية المطولة والملاحم(4).

وقد أشارت جملة من المصادر العربية إلى مُبالغة العرب في الاحتفاء بالشعر والشعراء، ومن ذلك ما ذكره ابن رشيق القيرواني في: «العمدة»: «كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائلُ فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم»(5).

إن الشاعر موضع اهتمام كبير من لدن القبيلة، وهذا ما أشار إليه مجموعة كبيرة من المؤرخين؛ وقد اختصروا موضع الاهتمام في موضوعين رفعا من قيمة الشاعر في الحياة الجاهلية، وهما: الفخر والهجاء، فمن خلال الفخر يرفع مجد القبيلة، وهو ما تتمناه أي قبيلة في مجتمع كثر فيه التفاخر، وفي الموضوع الثاني يُنافح عن مجد القبيلة السامق، ويسعى إلى المُحافظة عليه، ويرمي إلى تعزيز انتشاره بين القبائل من خلال شعره، وقد وُصف الشاعر بأنه لسان الجماعة؛ الذي يُذيع فضائل القبيلة، عن طريق مهاجمة العدو، ومدح الصديق، ويبدو أنَّ أوّلَ ما قيل مِنْ الشّعر الجاهلي المقطّعات من أبيات قليلة يقولها الشاعر في مناسبة ما، قال ابن سلاَّم : «لم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلاّ الأبيات يقولها الرجل في حادثة» .  وقال ابن قتيبة : » لم يكن لأوائل الشعراء إلاَّ الأبيات يقولها الرجل عند حدوث الحاجة « . وذكر كلٌّ من ابن سلام وابن قتيبة والسجستاني بعضَ هذا الشّعر لهؤلاء الشعراء الجاهليين الأوائل.

والحقيقة أن القسم الأوفر من الشعر العربي القديم قد ضاع بعوامل مختلفة؛ ومن بينها ترك تدوينه، ويُضاف إلى هذا الأمر تشاغل الناس عن روايته بالدين والفتوحات الإسلامية، والإجماع يقع على أن أوّل الشعر العربي الرجز(6)؛ الذي يعد من أقدم الأشكال الشعريّة، فقد كان أصلاً للقصيد، وعايشه، بيد أن القصيد قد تطور بسرعة ليكتسب لغة ثقافية تخلصت في أغلب الأحيان من الخصائص اللهجية المحلية والبدوية الموروثة عن قبائل شبه الجزيرة العربية؛ فساير بذلك التحوُّلات اللُّغويّة في المراكز الحضرية الجديدة، ويقول الباحث إبراهيم أنيس عن الأراجيز: » ويحتمل أن الأراجيز كانت في الجاهلية تشتمل على صفات اللهجات العربية من كشكشة وعنعنة وعجعجة، كان فيها كل الصفات الصوتية التي فرقت بين لهجات العرب. كانت تُمثل أدب القبيلة لا أدب العرب جميعاً، يستمتع بها المرء في قبيلته ولا يكاد يستسيغ غيرها من أراجيز في القبائل الأخرى؛ فالأراجيز في العصر الجاهلي كانت تُمثل الآداب الشعبية المحلية أبدع تمثيل، وتُصور حياة القبيلة وأصحاب اللهجة الواحدة خير تصوير، ولو قد رويت لنا تلك الأراجيز الجاهلية، لحدثتنا عن كثير من حياة القبائل الاجتماعية، ولوضحت لنا تلك الروايات المبتورة المتناثرة عن اللهجات القديمة»(7).

وانطلاقاً من أن البادية بيئة الشِّعر الجاهلي؛ فقد كان الشعر مرآة للحياة البدوية، يدور حول الجمل والطلل، ومع تسجيل نبوغ عدد من الشعراء في المدن، إلا أن فحول الشعر كانوا كلهم من أهل الوَبر(سكان الخيام: البدو)، ولم يتم الاعتراف من لدن علماء الشعر في ذلك الزمن بتقدم شاعر قروي(مدني) على شعراء البادية، وبما أن الابتداء على هذا النحو؛ فمن الطبيعي أن نرى خصائص الشعر الجاهلي تدور حول البادية وما فيها، باستثناء بعض الألوان من الحضر التي عرضت في شعر شعراء ذهبوا إلى بلاطات فارس والعراق والشام، كما لاحظنا في قصائد الأعشى والنابغة، والحقيقة أن من يقرأ شعرهم، ويتأمل لغتهم، يستخرج منها جملة من الخصائص المعنوية؛ مثل الصدق حيث إن الشاعر يُعبِّر عمَّا يشعر به حقيقة مما يختلج في نفسه، ولا يتكلف في إيراده، وذلك بصرف النظر عمّا إذا كانت الحوادث التي يذكرها قد وقعت أم لم تقع، أو كان مُبالغاً فيها، فليس من الضروري مثلاً أن يكون قول عمرو بن كلثوم:

مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّا  وَماءُ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيْنَا

صحيحاً، ولكن المهم بالنسبة إلى القارئ أنه كان يشعر هذا الشعور فاتسم بيته بالصدق في التعبير عن شعوره هو (8).

وقد تساءل العديد من المؤرخين والباحثين كيف بدأ العرب ينظمون الشعر؟

ويبدو أن الشعر والغناء من أصل واحد لدى جميع الأمم، وقد وُضع من أجل إنشاده والتغني به، والعرب يقولون: «انشد شعراً»، ولعل العرب قد تميّزوا بالتغني بشعرهم، وعن أصل وزن الشعر، يقول جورجي زيدان (9) : «والغالب في اعتقادنا أن الوزن مأخوذ في الأصل من توقيع سير الجمال في الصحراء، وتقطيعه يوافق وقع خطاها. ويؤيد ذلك أن الرجز أول ما استعمله العرب لسوق الجمال وهو الحُداء في اصطلاحهم، وكأنه وضع لهذا الغرض لأن العربي يقضي أكثر أوقاته في معاشرة جمله أو ناقته».

***

الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة

كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنّابة، الجزائر

.................

الهوامش:

(1) محمد الهادي الطرابلسي: خصائص الأسلوب في الشوقيات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة التونسية،تونس،1981م،ص: 10.

(2) عبد الملك مرتاض: نظرية القراءة: تأسيسات للنظرية العامة للقراءة الأدبية، منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، 2023م، ص: 363.

(3) جورجي زيدان: تاريخ آداب اللُّغة العربية، المجلد الأول، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ط: 02، 1978م، ص: 61.

(4) آسيا الهاشمي البلغيتي التلمساني: وصف الراحلة في الشعر الجاهلي، منشورات دار نشر المعرفة للنشر والتوزيع، الرباط المغرب الأقصى،1428 ه/2007م، ص: 11.

(5) ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، منشورات دار الجيل للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1974م، ص: 65.

(6) عُمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ج: 01، منشورات دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 06، أيلول-سبتمبر1992م، ص: 74.

(7) إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر، ص: 130.

(8) عُمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ج: 01، ص: 76 وما بعدها.

(9) جورجي زيدان: تاريخ آداب اللُّغة العربية، المجلد الأول، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ط: 02، 1978م، ص: 59.

 

سألني أحد أصدقائي، الذي يعمل كأستاذ جامعي في العراق، عن المعايير التي برأيي يجب أن تتوافر في الأستاذ الجامعي. أدناه، ملخص إجابتي على هذا السؤال:

1- الكفاءة الأكاديمية: يجب أن يكون لدى الاستاذ الجامعي معرفة عميقة بمجال تخصصه وموضوعات التدريس الخاصة به. يجب أن يكون قادراً على تحليل وتفسير المعلومات بطريقة متخصصة وأن يتبع المنهجيات العلمية المعترف بها.

2- الخبرة والممارسة: يفضل أن يكون للأستاذ الجامعي خبرة في مجال التدريس والبحث. يمكن تعزيز الخبرة من خلال مشاركته في المؤتمرات والندوات ونشر بحوثه في المجلات العلمية المرموقة.

3- القدرة على التواصل: يجب أن يتمتع الاستاذ الجامعي بمهارات تواصل فعالة ليتمكن من نقل المعرفة بشكل واضح ومفهوم للطلاب. يجب أن يكون قادراً على الاستماع لاحتياجات الطلاب والتجاوب معها.

4- الرغبة في التعلم المستمر: يجب أن يكون الاستاذ الجامعي ملتزماً بمواكبة التطورات والابتكارات في مجاله الأكاديمي. يجب أن يكون مستعداً للتعلم المستمر وتحسين طرق التدريس والأساليب البحثية.

5- التفاني والشغف: يجب أن يكون الاستاذ الجامعي ملتزماً ومتحمساً لعمله التعليمي والبحثي. يجب أن يكون قادراً على تحفيز الطلاب وتشجيعهم على تحقيق أقصى إمكانياتهم الأكاديمية.

6- النزاهة واخلاق المهنة: يجب أن يكون الاستاذ الجامعي ملتزماً بمبادئ الأخلاق الاحترافية في التدريس والبحث. يجب أن يحترم حقوق واحتياجات الطلاب وأن يتصرف بنزاهة وأمانة. تعتبر النزاهة معيارا هاما للاستاذ الجامعي. فالنزاهة تشير إلى قدرة الأستاذ الجامعي على العمل بطريقة شفافة وأخلاقية، وعدم الوقوع في التلاعب أو الاحتيال أو الرشوة أو أي سلوك غير أخلاقي آخر. يعتبر الاستاذ الجامعي النزيه كمثال حي للأخلاق والقيم، وهذا يساعد على بناء الثقة والاحترام من قبل الطلاب والزملاء والمجتمع بشكل عام. بالإضافة إلى ذلك، تشجع النزاهة التحقيق الأكاديمي الموثوق به والمنصف، وتعزز سمعة المؤسسة الأكاديمية بشكل عام. لذلك، فإن النزاهة تعد معيارا هاما لتقييم أداء الأستاذ الجامعي ومدى إلتزامه بالقيم الأخلاقية والمهنية.

إن توافر هذه المعايير لدى الاستاذ الجامعي يساهم في تعزيز جودة التعليم الأكاديمي والبحث العلمي. وبالإضافة إلى ذلك، يساهم توافر هذه المعايير الضرورية لدى الأستاذ الجامعي في تعزيز روح الابتكار والتفكير النقدي لدى الطلاب، وتعزيز قدراتهم على التحليل والتفاعل الفعال مع المواد الدراسية والمعارف المستجدة. فضلاً عن ذلك، تؤدي هذه المعايير إلى تشجيع الطلاب على المشاركة الفعالة في الأبحاث العلمية وتنمية مهاراتهم في إنتاج المعرفة الجديدة وإثراء مجالات البحث المختلفة. وبالتالي، فإن تحسين جودة التعليم الأكاديمي والبحث العلمي يعود بالفائدة على المجتمع ككل، حيث يمكن توظيف هذه المعرفة في تطوير الاقتصاد والتكنولوجيا وتحسين جودة الحياة بشكل عام.

مشاكل الترقيات العلمية:

1- ارتباط الترقية العلمية (الاكاديمية) بالترقية الوظيفية (الراتب) ارتباطا وثيقا.

2- انها تمنح البحث العلمي اهمية اكبر من التدريس وخدمة المجتمع، وبما اننا بلد ضعيف في البحث العلمي وبلد كبير في التزوير والفساد فانها تنتج عن ترقيات كثيرة للمفسدين والفاسدين.

3- لا تاخذ الترقيات العلمية بنظر الاعتبار نوعية العمل الاكاديمي والتدريسي ونوعية الانتاج العلمي.

4- ان البحث العلمي يعتمد على فلسفة النشر في مجلات علمية "محكمة ورصينة" مما يفتح المجال للتزوير والافتراس بدلا من الاعتماد على فلسفة النشر المجاني اي النشر في المجلات المجانية لكونها مجلات حقيقية.

5- انها مبنية على احقية التدريسي في الترقية اذا ما جمع عددا معينا من النقاط المبنية على اساس مساهمات محددة وليس على المنافسة واحقية الفائز/الفائزين في الترقية على حسب وجود الشواغر الاكاديمية.

6- لا تتطرق تعليمات الترقيات العلمية ولا تعديلاتها الى الفساد والافتراس الاكاديمي وتتجاهلهما وكانما لا وجود لهما فلذلك تجده وكانه نظام ترقيات في دولة وجامعات لا ينخرها الفساد ولم يضع اية قواعد للنزاهة كمثل وضع شرط انه في حالة تقديم بحث يثبت انه مفترس او حتى يشك في نزاهته يسقط طلب المتقدم في الترقية الا اذا تقدم التدريسي باثباتات كاملة على نزاهة الانتاج.

7- ان التقييم يعتمد على لجان محلية ونادرا ما حشر مقيم اجنبي في العملية، على عكس ما هو موجود ومتعارف عليه في جامعات الدول المتطورة خصوصا للترقيات الى درجة البروفسورية، بالاضافة الى اعتمادها على تقييم الانتاج الكلي للمتقدم وليس فقط تقييم بحوثه او واجباته.

***

د. محمد الربيعي

لا ينجو أيُّ كلام من متاهات الاحتمال مهما حاول صاحبُه أن يُتقنه أو يُحكم صنعَه حتى النص القرآني الذي استبعده الإمام علي بن أبي طالب (ع) من دائرة الاحتجاج معتذراً بأنَّه حمَّال أوجه على الرغم من أنَّ طرفي المخاصمة قريبو عهد بنزوله إلا أنَّ قدرة الاحتمال على زعزعة اليقين الانسانيّ وخلخلة الاطمئنان القلبي دفعته للاستدلال بغير القرآن.

والاحتمال آفة الاستدلال، لذلك قالو " اذا دخل الاحتمالُ بطُل الاستدلالُ، إذ تتصاغر أمام الاحتمال قوةُ الإنسان العقليةُ وتضعف قدرتُه الذهنية ويقصُر إدراكُه وكأنَّ الاحتمال خُلِقَ ليُظهر للانسان عدمَ استطاعتِه وحدودَ إمكانه؛ ليتجلى مقدارُعجزه له بأوضح صوره .

فلا يمكن لأي إنسان أن يسد منافذ الاحتمال عن كلامه ويوصد أبوابه عنه مهما أُوتي من العلم والإمكان في ساعة نطقه وأوان قوله، أمّا إذا روتْه الألسن وتناقلته الكتب، فلا ريب في دخوله تحت سلطة الاحتمالات وإمكانات التأويل بلا حد ولا نهاية .

والاحتمال يتجلى بالسؤال ويظهر بالاستفهام . وهذا يعني أنَّه هو الذي يغذي علم السؤال (الجدل) ويزيد في قدرته ويعظم في سلطته وسطوته، فالسائل الجدليّ يبحث عن الاحتمالات الناقضة لأي فكر أو نص ليتخذ منها منفذا للطعن ومدخلا للإشكال وعذرا لعدم التصديق والاطمئنان، ومن هنا تبدو العلاقة بين الاحتمال والسؤال علاقة وثقى .فالسؤال يوّلده الاحتمالُ، والاحتمالُ يظهر متخفياً بالسؤال.

واللغة في ذلك كله وسيلة الاحتمال ومادته فهي التي تخرجه من العدم الى الوجود؛لأنَّها تفتح له المنافذ وتشق له المسالك وتمهد له الطريق وتنير دربه وفي الوقت نفسه هي التي تمنحه أداوت التساؤل وكيفياته وأنماطه وأساليبه، أي أنها تصنع للاحتمال مظاهره وأشكال ظهوره؛ لأنَّ اللغة ملك عام كالمصارف العامة يدّخر فيها كل متكلميّها ما يمتلكون من معان ودلالات .فالكلمات خزائن معاني أهل اللغة، فاذا ما استعمل الفرد مجموعة من الالفاظ، فهو يستعمل ما يشترك معه فيه غيرُه، وهذا هو الزند الذي تقدح به اللغةُ نارَ الاحتمال في أيّ نصٍ مهما كانت بلاغة صاحبه، وقدرته اللغوية حتى يبدو النص مفازةً في ليلة ظلماء يتيه فيها القارئ.

***

أ. د. علي جاسب عبد الله

المقدمة: الاقتصاد المعرفي: هو تطبيق المعرفة والابتكار في عمليات الإنتاج والتوزيع الاقتصادية، ويُعتبر الاقتصاد المعرفي نموذجًا اقتصاديًا حديثًا يعتمد على القدرة على خلق وتبادل المعرفة والابتكار كمحرك رئيسي للنمو والتنمية الاقتصادية.

أن الوصول إلى الاقتصاد المعرفي في العالم العربي يعد تحديًا كبيرًا، ويحتاج إلى بنية تحتية قوية تدعم الابتكار وتطور المعرفة وتبادلها، ومع ذلك، تعاني العديد من الدول العربية من نقص في التطوير التكنولوجي والبنية التحتية التكنولوجية، مما يعوق الانتقال إلى الاقتصاد المعرفي بشكله الكامل .

ويعُّرف اقتصاد المعرفة: أنه منظومة اقتصادية قائمة على ابتكار منتجات وخدمات بأسلوب علمي حديث، حيث يستفيد من الاكتشافات العلمية والدراسات، ويعتبر ذلك النسق أكثر شيوعاً في الاقتصادات المتطورة .

وبينما تميل دول العالم الثالث إلى إيلاء الاهتمام على الزراعة والتصنيع، تركز الدول المتطورة أكثر على المبادرات الاستثمارية القائمة على المعرفة، مثل الأبحاث، والدعم التقني، والاستشارات.

ومن الممكن توضيح مفهوم اقتصاد المعرفة بكونه سوقًا لإنتاج وبيع الاكتشافات العلمية والهندسية، حيث يمكن تغيير المعرفة إلى منتجات في طراز براءات اختراع أو غير ذاك من أنواع تأمين الحقوق الفكرية، ويعتبر منتجو مثل تلك البيانات كمثل المختصون العلميين، ومختبرات الدراسات جزءاً لا يتجزأ من اقتصاد المعرفة.

وقد بات الاستثمار الدولي أكثر اعتماداً على المعرفة بفضل العولمة، التي أسهمت في انتشار أفضل الإجراءات الاستثمارية التي تطبقها كل دولة .

أولاً: طرق الوصول الى المجتمع المعرفي

واحدة من المشكلات الرئيسية التي تواجه العالم العربي في الوصول إلى الاقتصاد المعرفي هي نقص الاستثمار في البحث العلمي والتطوير، حيث لا تُخصص الكثير من الدول العربية الميزانية الكافية للاستثمار في مجال البحث والتطوير، مما يؤثر سلبًا على قدرتها على التطور التكنولوجي والابتكار.

بالإضافة إلى ذلك، يعاني عالمنا العربي من ضعف البنية التحتية اللازمة لدعم الاقتصاد المعرفي، والتي تحتاجها الشركات والمؤسسات للوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وخدمات الإنترنت، والبرمجيات الحديثة، لتمكين عمليات الابتكار وتبادل البيانات، وهو ما يعد من نقاط التخلف في العالم العربي.

علاوة على ذلك، هناك أيضًا نقص في القوى العاملة المهارة في العالم العربي، أذ تعاني العديد من البلدان العربية من نقص في التعليم والتدريب اللازمين لتطوير المهارات اللازمة للاقتصاد المعرفي. وهذا يؤثر على قدرات الدول العربية على استيعاب وتطبيق التكنولوجيا والمعرفة الجديدة في عمليات الإنتاج والتوزيع.

ومع ذلك، هناك بعض الجهود التي يتم بذلها في العالم العربي للوصول إلى الاقتصاد المعرفي، أذ يتم تشجيع التعليم العالي وتطوير البنية التحتية التكنولوجية في العديد من الدول العربية، من خلال أنشاء المزيد من المراكز البحثية والتكنولوجية لتعزيز الابتكار ونقل التكنولوجيا.

ومن الأمثلة على ذلك، قامت دبي في الإمارات العربية المتحدة بتطوير تجربة "دبي الذكية"، حيث تهدف إلى توظيف التكنولوجيا الحديثة وتعزيز الابتكار لتحسين جودة الحياة في المدينة، وقد تم تُعمَّم هذه التجربة في العديد من الأماكن الأخرى في العالم العربي.

بالخلاصة، أن الوصول إلى الاقتصاد المعرفي في العالم العربي لا يزال يواجه تحديات كبيرة تتطلب هذه التحديات استثمارات أكبر في مجال البحث والتطوير وتطوير البنية التحتية التكنولوجية، وتعليم وتدريب عالي الجودة، مع اتخاذ هذه الإجراءات، يمكن للعالم العربي أن يستغل التطور الهائل الذي يشهده عالم الذكاء الاصطناعي ويحقق التنمية الاقتصادية المستدامة.

ففي أرجاء العالم يعكف المشرّعون على دراسة الخيارات المتاحة أمامهم لسنّ قواعد لإدارة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وضبط بعض استخداماته المثيرة للقلق والهواجس، ويبدو مرجحاً أن يكون الاتحاد الأوروبي أول منطقة تتبع شكلاً من أشكال الرقابة والتنظيم في مسألة الذكاء الاصطناعي التوليدي.

أولا: الاقتصاد المعرفي العربي

يعتمد الاقتصاد المعرفي بشكل أساسي على العنصر الرئيس المتمثل في المعرفة، فما زالت المنطقة العربية تفتقر إلى توفر هذا العنصر، مما يجعلها متخلفة عن الاندماج في اقتصاد المعرفة العالمي، لذا يجب خلق مجتمع معرفي في المنطقة العربية يتسم بمنظومة مجتمعية قادرة على إنتاج ونشر المعرفة.

إقامة مجتمع المعرفة في المنطقة العربية يعد مطلبًا ضروريًا لتأسيس نمط جديد لإنتاج علمي يحل محل نمط الانتاج الريعي، الذي يعتمد بشكل أساسي على استخلاص المواد الخام، وخاصة النفط، لتمويل مشاريع التنمية الاقتصادية، ومن خلال تحليل رأسمال المعرفي في المنطقة العربية وقدرات الطلب على المعرفة، يظهر وجود فجوة كبيرة في المعرفة .. يجب أن يعالجها القائمون عليه .

يتطلب من المجتمع العربي دورًا تعاطفي في اكتساب المعرفة وتشكيل هيكلها المجتمعي وأدائها في مجالات الاقتصاد، و يجب على المجتمع العربي زيادة التركيز على المعرفة في حياتنا اليومية لزيادة عدد الأفراد العاملين في المجتمع المعرفي، كذلك تسريع إنتاج وتوظيف المعرفة في المنطقة العربية بمعدلات أسرع من تلك التي سادت في بداية تطور المعرفة في المجتمعات الأخرى.

إن جميع الدول تسعى لإقامة مجتمع المعرفة، لأن العائد التنموي ينخفض في المجتمعات التي يقل فيها اكتساب المعرفة، وهكذا نشأت الدول النامية، بدءًا من الدول العربية، التي لم تحقق التقدم والنمو الاقتصادي على الرغم من السياسات التي اعتمدتها، إذ كانت تعجز عن اكتساب المعرفة وتحويلها إلى قوة اقتصادية قادرة على تحقيق التنمية.

اليوم الكثير من الدول العربية أثبتت حرصها على استغلال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من خلال اتخاذها تدابير تشريعية واضحة في هذا الصدد، وانطلقت جهود الدول العربية من أجل دراسة استخدامات التقنية بشكل أفضل وعلى نطاق أوسع، إضافة إلى دراسة الفوائد المرجوة والأخطار المحتملة لها.

ومن هذا المنطلق، تعتبر- الإمارات العربية المتحدة - واحدة من الدول الرائدة في هذا المجال، حيث أنشأت أول وزارة عالمية للذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى مجلس الذكاء الاصطناعي والبرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي، والاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي.

وفي – السعودية - أيضًا، تم تشكيل هيئة خاصة تعنى بالذكاء الاصطناعي، بجانب وجود استراتيجية وطنية متعلقة بالبيانات والذكاء الاصطناعي، وذلك بهدف البحث عن طرق استخدامها بالشكل الأمثل. هذه الجهود التشريعية تعكس التزام الدول العربية بتطوير الذكاء الاصطناعي وتنظيم استخدامه بطرق فعالة ومسؤولة. بالإضافة إلى ذلك، تعزز هذه الجهود بيئة تشجع على الابتكار وتعزز التطور التكنولوجي في المنطقة.

ثانياً: واقع المنطقة العربية الراهن

1- تتميز المنطقة العربية بأنها تجمع بين الدول الغنية المتقدمة، والدول متوسطة الدخل، والدول الفقيرة، والدول الأقل تطوراً، وبذلك تضم المنطقة العربية بلداناً تندرج ضمن التصنيفات الأربعة للتطور الاقتصادي، مما ينعكس على قطاعات الاتصالات والصناعة والزراعة .

فإذا نظرنا إلى منطقة الخليج العربي على سبيل المثال، لرأيناها من أوائل المناطق العالمية التي أطلقت شبكات الجيل الخامس، ولوجدنا كذلك أنها في طليعة بلدان العالم من نواحٍ كثيرة تشمل النفاذ إلى الألياف الضوئية، والإنترنت عالي السرعة، والتحول إلى الحكومات الإلكترونية، والتحول إلى الاستخدامات الإلكترونية، والتحول إلى التجارة الإلكترونية.

في المقابل ثمة دول أخرى في المنطقة لا يوجد لديها شبكات الجيل الرابع مثلاً، وتفتقر إلى سرعات الإنترنت العالية، والأمر المؤسف أن منطقتنا تضم دولاً تعاني من حروب وأزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، كسوريا والسودان واليمن وفلسطين ولبنان.

2- ومن هذا المنطلق يسعنا القول إنّ الحلول تختلف باختلاف المشكلات لدى تلك الدول، فعلى سبيل المثال تدرك المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى أنّها تشهد نمواً سكانياً في هذه الفترة، وتعلم جيداً أنّ لديها مجتمعاً فتياً متعلماً، لأجل هذا تسعى تلك الدول إلى فتح آفاق الاستثمار وتوفير فرص عمل جديدة.

ولهذا أولت الدول الخليجية تركيزها لتنويع موارد الاقتصاد بحيث لا تعتمد على النفط فقط، مما استدعى منها تحرير سوق العمل وفتح مجالات الاستثمار، واعتمد ذلك على ركائز أساسية هي التحول الرقمي الحكومي ووجود قطاع اتصالات قوي، فهذان الأمران مهمان جداً للتحول نحو مجتمع الاقتصاد المعرفي.

-3 لقد عكست نتائج مؤشر المعرفة العالمي/ 2023، حالة من التباين بين دول تتخلف عن الركب وأخرى تواصل خطواتها نحو بناء اقتصاد قائم على المعرفة، ومن بين 133 دولة يغطيها المؤشر، حلت الإمارات في المرتبة الأولى عربيا والـ 26 عالميا، وقطر في المرتبة التاسعة والثلاثين تليها مباشرة السعودية ثم لحقتها الكويت في المرتبة الـ 44 .

ووفق خبراء، فإن التحول الرقمي نحو الاقتصاد الجديد في المنطقة العربية يُولد قيمة اقتصادية جديدة في عدة قطاعات من بينها قطاع الصحة، فيما يتطلب الأمر خلق توازن بين التقنيات الحديثة والطاقات البشرية سيما مع تطور التطبيقات التكنولوجية المستقبلية ومساعي دمج التقنيات المادية والرقمية والحيوية.

أما في دبي، ووفق خطط السنوات العشر المقبلة، فإن أجندتَها الاقتصادية تهدف لمضاعفة حجم اقتصادها وتنفيذ 100 مشروع تحولي مستقبلي ودعم نمو 30 شركة في القطاعات الجديدة لتكون شركات يونيكورن عالمية، فيما متوقع أن يضيف التحول الرقمي الحالي 100 مليار درهم لاقتصادها سنوياً.

كما يشار إلى أن مؤشر المعرفة العالمي هو أداة تركز على التحديات وسبل التطوير لتنمية مستدامة للمجتمعات، ويتكون من سبعة مؤشرات فرعية مركبة تركز على أداء ست قطاعات منها التعليم وتكنولوجيا المعلومات، والبحث، والتطوير، والاقتصاد.

ثالثاً: التطورات التكنلوجية

تلعب المؤسسات الأكاديمية دورًا أساسيًا في اقتصاد المعرفة، فهي تعمل على توليد المعرفة الجديدة من خلال البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، ومن خلال توفير التعليم العالي والتدريب التقني، تساهم هذه المؤسسات في تطوير مهارات العاملين وزيادة إنتاجية القوى العاملة في مختلف القطاعات.

بجانب ذلك، تعتبر الشركات المشاركة في البحوث والتطوير جزءًا هامًا في اقتصاد المعرفة، فهي تعمل على تحويل نتائج البحوث الأكاديمية إلى منتجات وخدمات عملية قابلة للتسويق، بالتعاون مع المؤسسات الأكاديمية، تعزز هذه الشركات الابتكار وتطوير التكنولوجيا وتحفز النمو الاقتصادي.

أما المبرمجون الذين يطورون برامج جديدة فهم أيضًا ركيزة أساسية في اقتصاد المعرفة، فهم يعملون على تصميم وتطوير البرمجيات والتطبيقات التي تحسن العمليات وتمكِّن الشركات من تحقيق التنافسية العالية في السوق، يستعين هؤلاء المبرمجون بالمعرفة والمهارات التقنية لتحويل الأفكار إلى حقيقة ومنتجات رقمية مبتكرة.

بالإضافة إلى ذلك، يسهم العاملون في مجال الصحة الذين يستخدمون البيانات في تحسين العلاجات في اقتصاد المعرفة، من خلال تحليل البيانات الصحية وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، يمكن لهؤلاء العاملين تحسين الرعاية الصحية وتقديم علاجات أفضل وأكثر فاعلية للمرضى.

إذًا، جميع هؤلاء المشاركين في اقتصاد المعرفة - المؤسسات الأكاديمية، الشركات المشاركة في البحوث والتطوير، المبرمجون الذين يطورون برامج جديدة، والعاملون في مجال الصحة - يعتبرون أنهم مكونات أساسية في دعم هذا النوع الجديد من الاقتصاد.

وعلى الرغم من صعوبة تحديد قيمته بدقة، إلا أنه يمكن الوصول إلى تقدير قيمته الاقتصادية من خلال قياس قيمة بعض مكوناته الرئيسية.

- ووفقاً لمؤشر المعرفة العالمي تحتل سويسرا المرتبة الأولى في قائمة الدول التي لديها أكبر اقتصاد معرفي، تليها السويد والولايات المتحدة الأمريكية.

- ويصنف المؤشر الدول في هذا الإطار بناءً على عدة عوامل من بينها مستويات التعليم، الابتكار، تكنولوجيا الاتصالات، والتدريب التقني والمهني.

مثال على ذلك

توجد بعض التطورات التكنولوجية التي تسمح بمعالجة مشكلة المناطق الوعرة، فعلى سبيل المثال: إذا كان لدينا مدينة مكتظة بالسكان الذي يعيشون في عمارات مرتفعة، فمن السهولة استخدام الألياف الضوئية في عملية الاتصال بالإنترنت.

في المقابل إذا كان لدينا مناطق جبلية وعرة غير مكتظة بالسكان ومتباعدة المنازل، لا تعد الألياف الضوئية أفضل الوسائل المناسبة لتوصيل الإنترنت عالي السرعة إليها، لكن شبكات الجيل الخامس، وتكنولوجيا الوصول اللاسلكي الثابت (Fixed wireless access)، يتيح تزويد تلك المناطق بإنترنت عالي السرعة بنفس مواصفات وقدرات الألياف الضوئية.

ولا شكّ أنّ هذا الأمر من مميزات شبكات الجيل الخامس واستخداماتها الأساسية، فهي توفر للمستخدمين اتصالاً سريعاً بشبكة الإنترنت مشابهاً لمواصفات الألياف الضوئية، مما يساهم في توفير النفقات أولاً، وإتاحة خدمة الإنترنت للمناطق الوعرة وغير المكتظة بالسكان ثانياً .

رابعاً: اللغة قد تكون مشكلة

اللغة هي وسيلة اتصال أساسية بين البشر، وتلعب دورًا مهمًا في الأعمال والتجارة والعلوم، إن تطور التكنولوجيا وظهور الذكاء الاصطناعي في الآونة الأخيرة قد غيرت تفاعلنا مع اللغة وتأثيرها على الاقتصاد المعرفي، ويعد التفاهم اللغوي واستخدام اللغة كوسيلة توجيه المعلومات وتبادلها أمراً حيوياً في المجتمع الحديث .

1- اللغة والتفاهم اللغوي:

* التواصل عبر اللغة هو المفتاح لفهم الغير وتبادل المعرفة والأفكار.

* اللغة تساعد في تنظيم الفكر والمعرفة وتحويلها إلى معلومات.

* اللغة تساهم في بناء العلاقات والثقة بين الأفراد والشركات والدول.

2- اللغة والتجارة:

* تساعد اللغة في تسهيل التجارة والأعمال العالمية.

* يجب أن تكون لغة مشتركة عالمية حتى يتمكن الأفراد والشركات من التفاهم وتبادل المعلومات بسهولة.

* توظيف العاملين الذين يجيدون لغات متعددة لمؤسسات الأعمال العالمية.

3- اللغة والعلوم والبحث العلمي:

* اللغة مهمة في عملية نقل الأفكار والاكتشافات العلمية.

* تساعد في تأليف البحوث العلمية والمقالات والكتب.

* تسهم في تواصل العلماء والباحثين من مختلف الدول.

4 - اللغة والذكاء الاصطناعي:

* ظهور الذكاء الاصطناعي غير طرق تفاعلنا مع اللغة.

* يتم استخدام اللغة كوسيلة لتعلم الروبوتات وتفاعلها مع البشر.

* يتم استخدام تقنيات مثل معالجة اللغة الطبيعية والترجمة التلقائية في تطوير الذكاء الاصطناعي.

5- عندما تفكر بالسفر إلى اليابان، فإن أول ما يشغل بالك هو كيفية التواصل مع سكان البلد، كحاجة إنسانية أساسية للتعايش.. فعلى مدار التاريخ وجد كل مجموعة من البشر طريقة للعيش مع بعضهم تُدعى "اللغة"، ليصل عدد اللغات حول العالم إلى أكثر من 6500 لغة.

الأمر نفسه لا بُدّ أن يحدث مع الأدوات التكنولوجية المتاحة بين أيدي البشر، إذ يبحث الفرد عن اللغة الأسهل له في التعامل مع التقنيات الحديثة، ولكن في الأغلب لا يجد سوى لغات معدودة يضطر إلى التكيّف معها، أو تعلُم القليل منها.

لذا يعمل المبتكرون على توفير حلول تكنولوجية تساعد على تسهيل الحياة اليومية للناس وتسهل التواصل، فقد ظهرت تطبيقات التراسل النصي التي تسمح بإرسال رسائل صوتية، ونحن الآن على وشك رؤية ظهور أجهزة إلكترونية بدون لوحات مفاتيح وفأرة وأدوات واجهة المستخدم التقليدية .

في هذه الحالة، يعتمد التواصل على التواصل الشفوي، وذلك بفضل تطور تقنية التعرف التلقائي على الكلام، والتي تسمح للأجهزة بتحويل الكلمات المنطوقة إلى نص مكتوب يمكن استخدامه في التواصل والبحث وحتى الشراء، ومع ذلك، تبقى مشكلة اللغة عقبة أمام استخدام هذه التقنية بالكامل.

خامساً: الاستنتاجات

يعتبر الاقتصاد المعرفي مجالًا حديثًا نسبيًا في علوم الاقتصاد، أذ يركز على دور المعرفة والمعلومات في تطور ونمو الاقتصاد، وبالنظر للتحولات الاقتصادية السريعة التي يشهدها العالم في الوقت الحالي، فإن النقاش حول الاقتصاد المعرفي وأهميته يعد ذا أهمية بالغة.

سنتناول أهم الاستنتاجات التي توصل إليها البحث في مجال الاقتصاد المعرفي:

1 - أبرز استنتاجات بحث الاقتصاد المعرفي:

* رأس مال المعرفة: الاعتراف بدور المعرفة والمعلومات كمصدر للقوة الاقتصادية.

* الابتكار والمشاركة: أهمية التعاون والتفاعل بين الأفراد والمؤسسات لتطوير القدرات المعرفية وتعزيز التنمية الاقتصادية.

* مجتمع المعرفة: تعزيز التعليم والتعلم كأدوات لتأهيل وتطوير القوى العاملة.

* الابتكار الاجتماعي: دور الابتكار في حل المشاكل الاجتماعية والبيئية وتحسين جودة الحياة.

2- إمكانية الوصول إلى مجتمع معرفي من خلال:

* تعزيز التعليم وتطوير المهارات: تركيز على رفع مستوى التعليم وتعلم المهارات الأساسية والتكنولوجية.

* تشجيع الابتكار والبحث والتطوير: إيجاد بيئة داعمة للابتكار وتشجيع البحث العلمي وتطوير المنتجات والخدمات.

* الاستثمار في البنى التحتية: توفير البنية التحتية اللازمة لتطوير المعرفة وتنمية القدرات الاقتصادية.

* تحسين التواصل والتعاون: تشجيع التعاون بين جميع الفئات والمؤسسات لتبادل المعرفة وتنمية القدرات.

بعد تحليل بحث الاقتصاد المعرفي والنقاش حول إمكانية الوصول إلى مجتمع معرفي، يمكن القول بأنه من الممكن تحقيق تحول اقتصادي يستند على المعرفة والابتكار، ومن أجل ذلك، ينبغي على الحكومات العربية أن تبذل جهودًا مستمرة لتعزيز التعليم وتطوير المهارات، وتشجيع الابتكار ومشاركة المعرفة وتحسين البنى التحتية المعرفية.

و يجب أن يكون هناك تعاون شامل بين الأفراد والمؤسسات والحكومات لتحقيق مجتمع معرفي قادر على تحقيق التنمية المستدامة وتحسين جودة الحياة للجميع.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

.......................

المصادر:

1. الكفاءات العرفانية. منشورات هارفارد بزنس بريس.

https://arabianpdfbooks.info/ktb_qwt_ldf_lshby_lhr-hrfrd_bzns_ryfyw_l_dd_21_10272.htm.

2. Landfall، B. 1992)). الابتكار والنمو الاقتصادي. دراسات في الاقتصاد والسياسات.

3. Foray، D. 2004)). الاقتصاد المعرفي: المعرفة والابتكار في الدورة الاقتصادية. دار النشر لندن.

4. World Bank. 2019)). تقرير البنك الدولي حول التنمية العالمية: المجتمعات المعرفية. صحافة البنك الدولي.

5. Caravans، E. G.، & Campbell، D. F. 2009)). القرن الحادي والعشرون للابتكار: العمل عبر الحدود لتحقيق التنمية والمجتمعات المعرفية. مجلة الابتكار والتعلم الديناميكي.

6. Soete، L. 2008)). التحول إلى مجتمع المعرفة: دور الاعتماد والتنظيم. إدارة الابتكار والتكنولوجيا.

7. موقع الحدث الاقتصادي/ الاقتصاد المعرفي وإمكانيات الوصول الى مجتمع معرفي/ د. أحمد عمر الراوي. https://almadapaper.net/sub/03-622/p19.htm.

8. CNBC عربية / أين الدول العربية في مؤشر المعرفة العالمي للعام 2023، الخميس 23 نوفمبر 2023. https://www.cnbcarabia.com/116442/2023/11/23/.

قبل أربع سنوات تقريباً، نشرتُ مقالة مناسباتية استعرضت فيها سريعاً كتاباً جديداً للباحث خزعل الماجدي حمل عنواناً هو "أنبياء سومريون - كيف تحول عشرة ملوك سومريين إلى أنبياء توراتيين؟ "رابط التحميل 1. وقد أطريتُ الكتابَ وقيَّمتُهُ إيجابياً بشكل لا يخلو من تسرع وابتسار اعتماداً على ثقة مفترضة بما كتبه المؤلف وعرضه من أفكار وأرفقه من مقتبسات وتوثيقات. وقبل أيام قليلة قرأتُ كتاباً لمؤلف تونسي متخصص هو الآخر في تأريخ الأديان المقارن، وذي توجهات إسلامية سلفية كما يبدو، هو سامي عامري وعنوان كتابه "سرقات وأباطيل: قراءة نقدية لكتاب خزعل الماجدي «أنبياء سومريون» المشكك في الأنبياء والآباء". والكتاب متوفر بنسخة رقمية مجانية على الانترنت/ رابط التحميل 2. وبعد قراءتي لهذا الكتاب يهمني أن أسجل الملاحظات التالية كنوع من الشهادة الشخصية:

1-أسجل إدانتي ورفضي للغة السجالية المزدرية والعنيفة وذات النزعة التكفيرية الواضحة ضد مؤلف الكتاب المنقود السيد الماجدي، التي اعتمدها السيد عامري وآخرون يشاركونه النزعة ذاتها - منهم أحد نجوم الميديا السلفية على منصة "يوتيوب" هو هيثم طلعت -  في ما يشبه الحملة التي أخرجت النقاش من سياقه المنهجي النقدي المطلوب إلى سياق أيديولوجي تكفيري يضج بالتحريض والتشنيع والمبالغات التي طغت على الصوى والفقرات المفيدة والاعتراضات المبررة والموثقة وهي كثيرة في متن الكتاب وسأدرج بعضا منها في نهاية هذه المقالة على سبيل التوثيق.

2-بعد الاطلاع على العديد من المعلومات التخصصية الموثقة التي وردت في كتاب عامري، وخصوصا ما تعلق منها بالترجمات عن اللغات القديمة كالعبرية التي لا أجيدها، ويبدو أن الماجدي لا يجيدها أيضا، ولكنه اعتمد على ترجماتها إلى اللغات الأوروبية غير الدقيقة، وبطريقة توثيق المقتبسات والسوابق التأليفية في هذا الموضوع في الماضي والتي أهملها الماجدي فلم يُشر إليها أو يتوقف عندها تأليفياً بل وزعم أن فكرة الكتاب فكرته الشخصية لم يسبقه باحث آخر إليها، أسجل هنا أيضاً أسفي لأنني تسرعتُ في إطلاق تقييمات وأحكام ظهر أنها مبالَغ في إيجابيتها على كتاب الماجدي، وسوف أحرص مستقبلاً على الاستفادة من هذه التجربة فلا أعول على ثقة مفترضة بل على النصوص وتوثيقاتها ومصادرها وسياقها التاريخي، وهل سبق وأن طرحها كُتّاب آخرون من قبل أم لا!

وبناء على ما سبق أرى أن من المفيد التوقف نقدياً مجدداً عند كتاب الماجدي من قبل أهل الاختصاص في ضوء ما أثير حوله من ملاحظات وتحفظات ونقود ذات طابع علمي بعد استبعاد التعبيرات ذات الطابع السجالي والنزعة التكفيرية الهاجية كتلك الواردة في كتاب عامري، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

* يقول عامري في مقدمة كتابه إن "الرسالة من هذا الكتاب هي اتهام التوراة اليهودية والقرآن باقتباس خرافات الأولين. ص 24".  ويضف عامري: "ومن يقرأ كتب خزعل - كذا-  لن يفوته أنه من الممكن اختصار حالها في عبارتين: تلخيص ماهو متاح في المكتبة العربية وبعض الترجمات إلى لغة الضاد - دون إحالة في الغالب إلى لغة الضاد - مع شطحات معرفية في قراءة التأريخ. والملخصات لا تصنع عالِما. ويمثل ضعف إطلاع خزعل على المكتبة الغربية، وغفلته عن آخر الإصدارات وأبواب السجال الدقيقة بين المحققين، من أعظم أسباب هامشية حضوره العلمي على الساحة - ص 25".

نلاحظ هنا إصرار عامري على تسميه الباحث الماجدي باسمه الأول (خزعل) مرارا وتكرارا، بما يؤكد أنه يتقصد ذلك، خلافا للياقات السجالية السائدة بين الكتاب. وبما يعبر عنه هذا الإصرار من نزعة ازدراء وتحامل وعدم احترام تصل إلى درجة قلة الأدب، وخصوصاً حين يصف الطرف الآخر وزميله في الاختصاص والشهادة العلمية بأنه "حرامي غسيل" على ص 31، ولا ندري كيف سيشعر د. عامري لو دأبنا على تسميته "سامي" في عبارات من قبيل "قال سامي، ويعتقد سامي، وسامي هذا مجرد حرامي غسيل...إلخ"! واللافت أن محرضاً سلفياً آخر هو المصري هيثم طلعت يشاركه هذا الأسلوب الممجوج في السجال بل إنَّ هذا الأخير فاقه في الفظاظة حين لجأ عدة مرات في فيديواته إلى تشويه صوت الماجدي وصورته بشكل كاريكاتيري شديد الابتذال ولا علاقة له بأي منهج في النقد والدحض والتفنيد.

*أما على الصعيد المنهج النقدي فنلاحظ أن عامري يضع السجال الفكري مع كتاب الماجدي في سياق آخر غير سياقه الحقيقي ويعطيه هدفاً آخر غير هدفه المعلن والمتوخى. فهو ينقله إلى سياق الصراع بين الإيمان الديني ممثلا في التوراة والقرآن والناطق باسم هذا الإيمان وهو السيد عامري نفسه، والكفر والإلحاد ممثلا بالكُتاب والكتب التي تزعم الأخذ بالمنهج العلمي الحديث وأدواته وأساليبه ومنها كتاب الماجدي. وعامري بهذا يوحد بين التوراة والقرآن مع ما بينهما من اختلاف واتهامات قرآنية لليهود بتحريف التوراة بدليل نص الآية قرآنية (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ). معتبراً أن الكتب الدينية المقدسة كتباً علمية تأريخية أو ينبغي على الناس كافة أن تعتبرها هكذا، فلا يكتفي بأن يؤمن هو بذلك بل يريد إجبار الناس ومنهم العلماء والباحثون في عصرنا على الأخذ بهذا الاعتبار والتخلي عن العلوم الحديثة ومناهجها، بل هو يُخْرِجُ مخالِفَهُ في هذه القضية الفكرية من الملة والدين فلا يعتبره مسلما، وهو بهذا ينكر عمليا حتى التفريق الوارد في القرآن بين المسلم المؤمن والمسلم غير المؤمن، فهو يكتب مثلا أن خزعل الماجدي (لا يجد حرجا في أن يقول إنه من "المسلمين"). بكلمات أخرى فهذا النوع من "النقد" ينقل السجال من ميدان البحث العلمي إلى الصراع الديني الإلحادي بما يحمله من تكفير يؤدي إلى إهدار دم المخالف وتطليقه من زوجته رغم أنفيهما كما حدث مع الباحث الراحل نصر حامد أبو زيد وفراره من بلده إلى بلد أجنبي حتى وفاته، وما إلى ذلك من تداعيات الخطاب التكفيري الداعشي المعاصر.

*إضافة إلى ما سبق فإن عامري لا يكتفي في استنباط الأدلة على "كفر وإلحاد" الماجدي من كتابه المنقود بل هو يلجأ إلى الاستعانة بأطراف أخرى لا علاقة للمؤلف بها، فيقدم لقارئه حزمة من انطباعات وتعليقات عدد من متابعي الماجدي على صفحته على مواقع التواصل يعبرون عن قناعاتهم وآرائهم وإعجابهم بكتاباته. وهي تعليقات بسيطة إلى درجة السذاجة أحياناً من أناس ليسوا غالبا أهل اختصاص أو ثقافة عامة جيدة بل مجرد قراء بسطاء، يُعجَبون ويُدْهَشون بما يقرأون لأول مرة، فما مسؤولية الماجدي عن ذلك ليحكم عليه عامري بالقول إنه "كاتب صنع منه الملاحدة و"اللادينيون" العرب أيقونة للمعرفة/ ص 26"؟ أعتقد أن هذا الأسلوب لا يليق بباحث يحمل شهادة أكاديمية رفيعة كالدكتوراة في مقارنة الأديان بحق زميل له يحمل الشهادة ذاتها في تخصص قريب من تخصصه، وبغيتهما المفترضة مقاربة الحقيقة، بل بشتامٍ وهجّاء يريد إرواء تعطشه لمحق الخصم أو الزميل المنقود وإقصائه من المشهد الثقافي والعلمي، وهو بهذا ينأى عن تقاليد الكتابات الإسلامية النقدية العميقة ذات اللغة الدمثة والرصينة والتي عرفناها عند باحثين إسلاميين محترمين من أمثال فهمي هويدي وعبد الوهاب المسيري وآخرين، لا يَفْجُرون عند الخلاف، وينصفون المخالِفَ حيث وجب الإنصاف فلا يقدحون في أخلاقه وكرامته الشخصية.

* أعتقد أن الخاسر الأكبر من هذه الأساليب العدوانية في كتابة نصوص نقدية هجائية إلغائية هو القارئ أولا، ثم يليه كاتب النص النقدي نفسه، لأنه يُغْرِقُ حتى الحجج الرصينة والمعلومات والتوثيقات العلمية المفيدة التي يأتي بها في بحر غضبه وكراهيته الأيديولوجية للطرف الآخر، بدلا من أن يُرسيَ قواعد حوار مثرٍ لقناعات كلا الطرفين ويمكن أن يؤدي إلى تركيب وبناء قناعات أكثر قرباً من الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن يحتكر حق النطق باسمها في عصرنا.

* سأكتفي في هذه المقالة بهذه التعليقات الخفيفة والسريعة انطلاقاً من كوني إعلامياً يهتم بالشأن التأريخي والآثاري والإناسي واللغوي القديم ولستُ باحثاً متخصصاً في أي منها كما كررت في أكثر من مناسبة. وأتفق مع الناقد على أن من شبه المستحيل أن يكون باحثٌ ما متخصصاً في هذه العلوم الدقيقة جميعها أو أغلبها في وقت واحد، وهدفي من هذه المداخلة هو تسجيل شهادتي حول الموضوع أولا، وتسجيل تحفظي على أحكامي وتقييماتي الشخصية المتسرعة الواردة في مقالتي التعريفية بالكتاب المنقود ثانياً، ومعبرا في الوقت نفسه عن احترامي لحق السيد خزعل الماجدي الذي لا جدل فيه في التعبير عن آرائه وقناعاته البحثية، وأيضاً بحق مخالفيه في نقد ما كتبه ويكتبه نقداً منهجياً علمياً ينأى عن التجريح الشخصي ذي النزعة التكفيرية الخطرة.

أخيراً، أعتقد أن من الجدير بالتنويه والإشادة موقف الماجدي المناهض للتطبيع مع الكيان الصهيوني ورفضه لما سُمِّيَ بالمشروع الإبراهيمي أو "الاتفاقات الإبراهيمية"، باعتبارها - كما قال هو حرفيا - في ندوة أقيمت في أستراليا على أغلب الظن وبُثَّ تسجيها على منصة يوتيوب - "جزءاً من مشروع استعماري للمنطقة ويجب أن تقاومه كل شعوب المنطقة وتقاوم كافة أشكال التطبيع"، وهو، بموقفه هذا، من القلائل بين الليبراليين العلمانيين القصويين - بل وحتى بعض الإسلاميين المتفرجين والمنشغلين بتكفير زملائهم الباحثين المخالفين لهم- الذي اتخذ هذا الموقف الذي يستحق الإشادة والتنويه. صحيح أن الماجدي لم يكتب شيئاً عن هذه المواضيع في صفحته على مواقع التواصل على حد علمي ومتابعتي المحدودة، ولكني سمعت رأيه هذا وشاهدته بالصوت والصورة في الفيديو المذكور لندوته تلك.

***

علاء اللامي

...................

* هوامش:

من ملاحظات سامي عامري التوثيقية الجديرة بالتمعن، على افتراض صحتها ودقتها الاقتباسية، إذْ لم يعد من السهل الوثوق بما يُنشر ويُقتبس، والتي جاء بها لتأكيد أن فكرة "المطابقة بين الملوك السومريين والآباء التوراتيين" لم تكن أصلاً فكرة خزعل الماجدي واكتشافه الشخصي، يذكر عامري في مقدمة كتابه "أن هناك كتاباً وباحثين كُثر تناولوا موضوع المقارنة و"المطابقة بين الملوك السومريين والآباء التوراتيين تأييداً أو رفضاً قبل أن يولد الماجدي" وقد ذكر منهم:

* جورج بارتون الذي ذكر في مقالة نشرها سنة 1915 "تبنى بعض النقاد لعدد من السنوات أن قائمة ملوك ما قبل الطوفان تمثل ربما أسماء آباء الفصل الخامس من سفر التكوين بشكل مختلف". فرد آباء التوراة إلى حضارة بلاد الرافدين أقدم من نشر بارتون مقالته قبل أكثر من قرن من اليوم!

* توماس هرتمان قد أشار في مقدمة مقالته " خواطر حول قائمة الملوك السومريين وسفر التكوين 5 و18" التي نشرها سنة 1972 إلى أن السنوات القريبة من نشره لمقالته قد شهدت ازدهار الدراسات المتعلقة بمقارنة الفصول الأولى من سفر التكوين بالحضارات القديمة وخاصة حضارة بلاد الرافدين وأضاف أن العمل في الفصلين 5 و11 لا يزال العمل فيهما ضعيفا".

* وكتب الناقد وليم شيا بعد خمس سنوات على مقالة هرتمان "بُذِلَت محاولات لمطابقة أسماء هؤلاء الملوك مع تلك الموجودة في نسب شيث في الفصل الخامس من سفر التكوين لكن مثل لتلك المحاولات لم تلق نجاحا معتبرا".

ويضف عامري أسماء كل من الباحثين والنقاد والمؤرخين الذين كتبوا عن موضوع المقارنة والمطابقة بين الملوك السومريين والآباء التوراتيين تأييدا أو رفضا:

* جون والتون في كتابه "الأدبيات الإسرائيلية القديمة وسياقها الثقافي".

* جوردن وينهام في كتابه "تفسير سفر التكوين".

* رونالد يونجبلاد في كتابه "سفر التكوين تعليق مدخلي".

* إبراهام مالامات في كتابه "قوائم الملوك في العصر البابلي وأنساب الكتاب المقدس".

* كنيث كتشن في كتابه "الكتاب المقدس وعالمه...".

* ج. ف. هازل في كتابه "سلاسل الأنساب في تكوين 5 و11 وخلفيتها البابلية المزعومة".

* أما اعتراضات عامري وتصويباته للأخطاء في الترجمات عن اللغة العبرية وغيرها واقتباسات الماجدي عن مراجع أخرى فهي كثيرة ولكنها مصوغة بلغة فظة واستفزازية ويمكن للقارئ الاطلاع عليها في كتابه.

وبهذا، آمل أن أكون قد سجلت شهادتي أمام القراء ووضحت تحفظاتي سواء على ما ورد من تقييمات خاطئة ومبالغات في مقالتي التي نشرتها قبل أربع سنوات، أو على الكتابين الناقد والمنقود موضوعيِّ الحديث.

* رابط تحميل كتاب خزعل الماجدي: "أنبياء سومريون ـــ كيف تحول عشرة ملوك سومريين إلى أنبياء توراتيين؟"

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%86%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D8%A1-%D8%B3%D9%88%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%88%D9%86-pdf

* رابط تحميل نسخة من كتاب سامي عامري: "سرقات وأباطيل: قراءة نقدية لكتاب خزعل الماجدي «أنبياء سومريون» المشكك في الأنبياء والآباء"

https://maktbah.net/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%B3%D8%B1%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A3%D8%A8%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D9%84-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%AE/

قال تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 1- 5).

تعود المفسرون أن يختلقوا أقاصيص لتفسير بعض الآيات، ومن ذلك ما وضعوه في تفسير (اقرأ) فقالوا (جاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: أقرأ، قلت: ما أنا بقارئ... فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني. فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم). فتصور كيف ان جبريل الملك كان (يغط) النبي كما تغط أنت شخصا في ماء النهر، فهل جاء مبلغا ام (غاطا)!!!!!

فهذه الرواية وضعت لتأويل أن الرسول الاكرم أمي لا يقرأ ولا يكتب فقال (ما أنا بقارئ) ولكن جبريل (عليه السلام) كما يبدو في الرواية لم يأبه له فظل يكرر عليه (اقرأ) و(يغطه). وهذا خلل واضح في (الرواية / التأويل). وذهب المفسرون بعد ان اعتُرض عليهم بأن (جبريل لم يكن يحمل صحيفة ليطلب قراءتها!!) فقالوا (القراءة اما عن صحيفة او عن ظهر غيب) وهذا عيب اخر في (الرواية/ التأويل) فالرسول لم يكن يحفظ السورة مسبقا لانها نزلت عليه اول مرة فلا توجد في حافظته ليطلب منه الملك قراءتها. والدليل الدامغ الذي لم ينتبه عليه المفسرون هو ان الله سبحانه وتعالى طلب من النبي عدم قراءة القرآن وعدم تأويله لانه سبحانه تكفل بهما (القراءة والتأويل) في قوله تعالى من سورة القيامة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (القيامة 16- 19)

اضف الى ذلك ان اول سورة نزلت هي (الفاتحة) وليس العلق. ويقال اول سورة محصورة بين (الفاتحة والمدثر والعلق) ولكن الاغلب يستبعد العلق. وبهذا تنتفي الحاجة الى وضع هذه المقدمة من المفسرين لتفسير (اقرأ) ولعلها من الاسرائيليات فقد جاء في التوراة (سفر إشعياء – الاصحاح التاسع والعشرين – السطر 12) (واذ يُدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة) ورواية التوراة توجد فيها صحيفة بينما رواية المفسرين لا توجد صحيفة! وكيف تطلب انت من شخص ان يقرأ ولا يوجد شيء يقرأ أمامه.

والصحيح في تفسير معنى (اقرأ) في الآية كما هو في كل القرآن المجيد هو (طلب الله سبحانه من النبي أن يقرأ القرآن - بعد قراءته عليه وليس بداية – على الناس الى يوم الساعة، أي (تبليغه بالقراءة والتأويل الذي بلغ به) كما انه طلب من الله سبحانه لكل مسلم أن يقرأه بالقراءة والتأويل الصحيح فـ(اقرأ) طلبٌ من النبي الاكرم ومن كل مسلم، لان الرسول مبلغ وحامل القرآن الى الناس دون تدخل فيه. وقد جاء ذلك في قوله (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (الاسراء: 106).

(وغير هذا كثير من عمل المفسرين) ويحضرني قول أستاذي الجليل (خشان خشان) (القرآن سيّد عبَّدته التفاسير)

***

أ. د. محمد تقي جون

(من كتابي قيد العمل)

 

نقاشات خلافية بين الفقهاء والمتكلمين والمحدثين تواصلت بكثافة عبر الحقب الزمنية التي ميزت الحضارة العربية الإسلامية، ولم تنقطع يوما منذ أربعة عشر قرنا. واصلت احتلال فضاءات هامة وشاسعة في الحياة المجتمعية مؤثرة سلبا على ارتباط الثقافة بالتنمية وعلى علاقة الفكر النظري بالهندسة التطبيقية. الرأي العام العربي أصابته بفعل ذلك الهشاشة المزمنة، وتقهقرت علاقته بقوى الطبيعة وثرائها، وضعفت إرادته في البحث عن السبل العلمية للتحكم فيها وتحويل خيراتها إلى منافع لإسعاد الناس ماديا وجسديا ونفسيا. الميول إلى التكنولوجيا والعلوم الصرفة والتصنيع تحول إلى تطلع فئوي لا تتملكه إلا بعض الأسر المتعلمة الراقية من الطبقتين الوسطى والغنية، والتي ينتهي مسارها التكويني الأكاديمي بالهجرة إلى الغرب. استجابة للتطلعات المجتمعية ومستجداتها، وسعيا لرفع تحديات الوجود السيادي مستقبلا في بعض البلدان كالمغرب والإمارات العربية، استثمرت الدولة نسبيا في توفير البنيات المؤسساتية التعليمية الجامعية في مجال التميز العلمي والتكنولوجي والفني. الثقافة القاعدية بالنسبة لأغلب الشعوب العربية والمغاربية بقيت تائهة تتخبط في مستنقع نقاشات هامشية لا تمت بصلة بتحسين مستوى معيشة الأسر. تقوت نوازع التطرف الثقافي العامي، وأصبح من الصعب مواجهتها أو توجيهها بدون الاستثمار المالي في المقاربة الأمنية. ضعف الفكر العملي وانفصل عن الفكر النظري واتسعت الهوة بينهما.

أمام كل هذه الانكسارات المستمرة والمتجددة في شكلها وطبيعتها، لم ينقطع الدكتور عبد الله العروي في الدفاع عن المصلحة والمنفعة الجماعية والعامة في حياة المجتمعات العربية والمغاربية. الارتماء العقلاني في أحضان الثقافة الحداثية وفيما تزخر به من علوم نظرية وتطبيقية في مختلف المجالات الصناعية والهندسية والمالية والاقتصادية (الدرابة اليدوية والعقلية) هو الحل لتغيير نظرة المجتمعات لتراثها القديم. ترسيخ التفكير العقلاني في أذهان الأجيال يتطلب تجريب العيش في عمق الحداثة قبل العودة إلى قراءة التراث قراءة جديدة متجددة. القرآن كلام حق يخاطب الفرد، بحيث يكفل له الله عز وجل حق التمعن والتفكر في آياته، والبحث عن سبل التقرب من الحقائق المطلقة ساعيا لتحقيق ما ينفعه ويخدم مصالح أمته. كل منا، يقول العروي، مطالب بقراءة القرآن لنفسه بدون أن يلزم أحدا بما آل إليه تفكيره من استنتاجات واستنباطات وأحكام وقياسات. كل الآيات تخاطب الفرد كفرد لا كعضو في المجتمع أو كأمة. مفهوم هذه الأخيرة (الأمة) في مشروع العروي هو اعتباري مرتبط بنهاية التاريخ. الأمة، أمة الميعاد (وتهم الذين عاشوا بالطريقة المحمدية)، لن يجتمع ناسها في فضاء واحد إلا أمام الله يوم القيامة. إنه الزمن الإلهي الذي سيخاطب فيه المسلمون بعبارة "يا أمة محمد"، وسيسألون "ماذا حققوا في الحياة الدنيا من إنجازات بحثا عن الحقائق الربانية المطلقة؟".

الكل يقرأ النص القرآني وله الحرية في الاستنباط العقلي للفائدة منه. وبذلك لا يحق لأحد أن يحتكر تفسير هذا النص المقدس ما دام هناك جزاء أخروي سيجسد ترجيح إحدى كفتي ميزان الحسنات والسيئات المتراكمة دنيويا. إنه الاعتبار الذي اعتمده العروي للتمييز بين المنطق الفردي والمنطق الجماعي. هذا الأخير مرتبط أشد الارتباط بالمصلحة الجماعية، ولا يطيق أن يفرض إنسان مصلحته على مصلحة الآخرين سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. كل فرد مسؤول على ما يفكر فيه وعلى طبيعة إيمانه. منذ الأزل كان دائما الفرد مسؤولا عن سلوكياته أمام الله. وبذلك يكون مصدر "الفردانية" قديما في التراث العربي الإسلامي وليس مرتبطا بالغرب (النيوليبرالية). في هذا الصدد قال ابن رشد مذكرا بما كتبه ارسطو طاليس في المناهج الفقهية وفي كتابه "الحيوان" أن الفرق بين العرب المسلمين والغرب يختزل في الإيمان والفقه. فماعدا ذلك، كل الأمور والأشياء تعتمد على التجربة والملاحظة والموقف الفردي السليم. وعليه، علينا أن نأخذ بنتائج التطور المادي الغربي ومنافعه كنتيجة للحضارة الحديثة التي تهم الإنسانية جمعاء، وأن نعتمد الانتقاء الإيجابي عندما يتعلق الأمر بالخصوصيات الثقافية باستحضار المنفعة العامة وتأثيرها في مجريات أحداث الحاضر والمستقبل.

في هذا السياق، تحدث العروي عن الإرهاب بشكل موجز بالرغم أن الظاهرة لا تهمه كمفكر. التطرف العقائدي مرتبط نسبيا بالخارج الذي أثر ويؤثر فيه بقوة. فهو ليس نابعا 100 بالمائة من الحضارة العربية الإسلامية. المستشرقون اهتموا بما هو هامشي في حضارتنا جاعلين منه جوهرا لها. لقد تعمدوا  الاهتمام بالفكر السلفي. فأول من روج لابن تيمية هو هونري أبوست (أستاذ العروي  في السوربون بفرنسا). لقد اهتم بالفكر السلفي ولم يهتم بشيء آخر. لقد اعتبر ابن تيمية مفكرا محوريا في الفكر الإسلامي في حين لم يتم تصنيفه عربيا إلا في خانة المؤلفين. عبد الله العروي قرأ لهذا المؤلف عندما أثار قضية ابن تومرت، فلم يلمس لديه إلا أمورا عادية لا تشد الاهتمام.

الوقوف عن تأثير الخارج في الداخل واضح في فكر عبد الله العروي. لقد تطرق هذا الأخير للمذاهب الفقهية الإسلامية (الحنفي، والمالكي، والشافعي والحنبلي)، وأبرز كيف بدأ الفقه في عهدهم منفتحا متفتحا (الحنفي)، وانتهى منغلقا (الحنبلي) سالكا بذلك مسارا متناقضا مع الوقائع التاريخية (تاريخ الخلافة عرف تفتحا مستمرا عكس تاريخ الفقه الذي تدحرج إلى الانغلاق مع مرور الزمن). الحنبلي لم يكن سوى محدثا استعصى عليه التموقع في مصاف الحكماء والمجتهدين، وبذلك فلم يتجاوز مرتبة الوعاظ الذين كتب عنهم الحريري مستهزئا. نزعة العودة إلى الوراء ما هي إلا ظاهرة ناتجة عن التذمر المتسلط على النفوس جراء ضعف القدرة على التنافس مع الآخر. لقد شبه العروي الفرد في هذه الحالة وكأنه اقتيد إلى غرفة لا نور فيها، فاضطر للعودة إلى نفسه والانكفاء عليها.

***

الحسين بوخرطة

يوم كتب هربرت ويلز روايته الخياليَّة الشهيرة "آلة الزمن" التي تنبأ فيها بمستقبلٍ مظلمٍ للبشريَّة التي ستنقسمُ إلى جنسين تبعاً للمسافة الطبقيَّة بين الأغنياء والفقراء، أحدهما جنسٌ مُنَّعمٌ لكنه غبيٌ وضعيف، والآخر فقيرٌ يعيشُ تحت الأرض ولا يَمُّت بصلة للبشر وهو أقرب إلى الحيوانات، لم يكن ألبرت اينشتاين قد أعلن بعد نظريته النسبيَّة التي تؤيد معادلاتها الرياضيَّة والفيزيائيَّة البحت فكرة السفر عبر الزمن مثلما تنبأ بها ويلز.

ومنذ ذلك الحين أجريت الكثير من التجارب التي أثبتت أنَّ العودة بالزمن ممكنة نظرياً، لكنَّها مستحيلة عملياً، وأنَّ السفر عبر الزمن لا يمكن حدوثه إلا بالتصورات الذهنيَّة التي لا يمكن أنْ تطبقَ على أرض الواقع، ويقال أنَّ عالماً روسياً توصل يوماً ما، إلى صنع آلة بدائيَّة يمكنها أنْ تكون أول آلة زمن حقيقيَّة، وأنَّه قام بتجربة اكتشف فيها وجود فارقٍ زمني بين ساعتين يبلغ 30 ثانية، ما يعني أنَّه وضع الخطوة الأولى للسفر عبر الزمن، ومن ذلك الحين بقي أمر هذا الأمر سراً غامضاً، وبقي هو وتجربته طي الكتمان.

إنَّ عجلة الزمن في الأحوال كلها، لا تدور بخلاف سيرها المتقدم دوماً إلى الأمام، وإنَّ عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء مطلقاً، وإنَّك أيها الإنسان لا يمكن أنْ تعبرَ النهر مرتين على رأي فيلسوف الصيرورة الإغريقي هيراقليط، لأنَّ مياهاً جديدة تجري من حولك أبداً .

وكل من يظن أنَّ الزمن يمكن أنْ يعودَ القهقري، ليبدأ بتغيير أحداث حياته وأقداره وتصحيح قراراته وخياراته الخاطئة، فإنَّه إما أنْ يكون أحمقاً قريباً من الجنون، أو أنَّه من عشاق مشاهدة أفلام الخيال العلمي التي توهم المشاهد أنَّ هناك آلة للزمن يمكنها العودة بمستخدمها عشرات أو مئات أو آلاف السنين إلى الوراء، أو تتقدم به نحو مستقبلٍ بعيد، في أكذوبة لا يصدقها غير السحرة، ولا تطوف إلا في خيالات كتاب روايات الخيال العلمي، أو ربما بعض العلماء المغامرين الذين بذر فيهم آينشتاين بذرة النسبيَّة الزمكانيَّة.

واستناداً إلى رواية ويلز وفيزياء آينشتاين، أقدم المخرج السينمائي الأميركي سيمون ويلز قبل عشرين عاماً، على تقديم فيلمه "آلة الزمن" الذي يعتمد قصة بسيطة حول شخصيَّة أستاذ جامعي يفقد حبيبته التي فارقت الحياة على يد لصٍ حاول سرقة عقدها، ما جعله في حالة نفسيَّة مأساويَّة دفعت به للتفكير بصنع آلة يسافر فيها عبر الزمن ليعود إلى الوراء وينقذ حبيبته من الموت على يد ذلك اللص.

الزمن لا يعودُ إلى الوراء، ولا يتقدم إلى الأمام، إلّا في خيالات الروائيين، وفيزياء العلماء، وصناع أفلام الخيال العلمي، لكنَّ الكارثة تحدث حين يحاول غير هؤلاء إثبات ذلك!.

وهذا من صنوف العَبث مع الزمن، ومع الأقدار!.

***

د. طه جزاع

في اليوم العالمي للغة العربية يجب ان نتذكر ونذكّر الأجيال القادمة ان لغتي هي هويتي وشخصيتي وتكويني وعقلي ورابطي الثقافي مع أهلي اصدقائي وزملائي، واذا ما فقدت هذه الرابطة، فإنني أفقد بوصلتي الحقيقية في الحياة .

وللأسف، فإننا قد تجاهلنا هذه الحقيقة لعقود طويلة في بلادنا العربية، حينما حرصنا على تعليم الأطفال بدءا من مرحلة رياض الاطفال على اللغات الأجنبية على حساب لغتنا العربية الأصيلة اللغة المقدسة التي هي جوهر وجودنا على أرضنا الطاهرة، فصار الصغار يتحدثون الانجليزية والفرنسية بطلاقة ونحن نفرح بهم ونهلل على قدراتهم على التعبير بهذه اللغات الاجنبية في مقابل عدم الاعتناء بتعليم اللغة العربية الأم والمحضن . وحتى لا تفهموني خطأ أنا مع تعليم اللغات الأجنبية ولكن بعد إتقان وتمكين اللغة العربية من الطفل والغوص في بحارها العميقه ولكن

تسابقت الأسر العربية على تعليم صغارها اللغات الاجنبية واكتساب معارفهم علومهم بها فاحدث ذلك فجوة ثقافية وهوة كبيرة بين هؤلاء الأطفال وباقي افراد المجتمع،وباتوا يشعرون بالغربة عن أهلهم وأفراد مجتمعهم.

فتخيلوا معي ابنك أو بنتك وتشعر معهم بغربة ليس لأنه من جيل مختلف فهذا طبيعي، ولكن لأنه تشرب قيم وثقافة اللغات التي تغذى لسانه عليها ونطق بها وتعلم وفكر بها، فأصبحت الاسرة من داخلها غريبة عن بعضها وأدوات التواصل بينها ضعيفة لأقصى درجة .

إضافة الى المدارس كان هناك خطأ فادح عندما استعانت الأسر بالمربيات الأجنبيات اللواتي علمن  أولادهن نطق اللغات الاجنبية، بينما باقي دولنا العربية تمادت في هذا الخطأ بالتوسع في انشاء المدراس التي لا تعلم اللغة العربية او تعلمها كمادة غريبة كمن يتعلم الإسبانية في فرنسا.

وبالضرورة، فإنني لست ضد تعليم اللغات الأجنبية، فهي تفرضها معطيات عصرنا والانفتاح على الاخر ومتطلبات العمل والتواصل عبر محطات الكون فكريا وثقافيا واقتصاديا والمشاركة بالمؤتمرات والندوات كما نحتاجها ايضا سياسيا وإعلاميا للتعريف بقضايانا، والقرية الكونية التي نعيش في كنفها، فلنتعلم اللغات كما قلت لكن ليس قبل ان نزرع لغتنا الأساسية وقيمنا وثقافتنا في عقول الصغار ونرسخها، وكما قيل في الأثر “ العلم في الصغر كالنقش على الحجر“ أي أنه يثبت ولا يتزعزع، حتى لا تكون النتيجة ظهور أجيال منسلخة عن ثقافتها وجذورها الحضارية وقيمها الاجتماعية في مقابل انتماء هذه الاجيال  إلى ثقافات لا تشبهنا التي تعلمها في صغره وشكلت فكره وعلاقاته وانتماءاته الثقافية والحضارية .

وهذا يعني اننا بأيدينا وبجهلنا وغفلتنا ساهمنا في تغريب أبنائنا عن لغتهم العربية وعن أوطانهم والانتماء لها من ناحية أخرى، فان الكثير من الأسر العربية من المحيط إلى الخليج انجرفت  في تيار التباهي والمظاهر الاجتماعية الكاذبة والخداعة  والتعالي على الأخرين بتعليم ابنائها  اللغات  وكأن هذا الأمر نوع من البريستيج وليس من حب التعليم وكأنه شنطة ماركة تحملها سيدة ما ولا يعبأون بما يكلفهم ذلك من تكاليف مادية باهظة بعضهم لا يقدر عليها، بل ويكاد يستدين ليغطي تكاليف التعليم في هذه المدارس الدولية إضافة الى التكاليف التي يدفع ثمنها الاهل لاحقا عندما يتغرب الطفل عن مجتمعه وتأتي الكوارث على التوالي اعود واكرر أنا مع معرفة الاخر ومحبة الجميع والتفهم للمجتمعات المتنوعه واخذ ما يناسبنا وينفعنا منها ولكن نرفض ان نتشبه بالآخرين بكل ما لديهم وكأن ليس لدينا تاريخ وارث حضاري وفكري وثقافي نفخر به

فأي حمق نرتكبه ليلا نهار !!!، وبعد ذلك نلوم على الأطفال بأنهم غرباء عن المجتمع، ولا يستطيعون التواصل مع الناس عندما يكبرون في العمل والشارع والاقارب والمناسبات الاجتماعية، وأنهم منسلخون عن واقعم وعن عروبتهم، بينما نحن الكبار العقلاء  كنا سببا حين سعينا لاكتساب وجاهة اجتماعية وإظهار المكانة الاجتماعية والمستوى العلمي عبر تعليم صغارنا اللغات الاجنبية ولم نعلمهم العربية وكأنها عيب وعار، ودون  أي احترام  للغتنا .

فكل الأمم تفتخر بلغاتها وتحافظ عليها حفاظها على أرضها ودينها لأنها تشكل هويتها وكيانها ووجودها حية نابضة بين الشعوب والأعراق، بينما نحن قد غفلنا في غمرة التحديث والجري وراء الغرب هذه الحقيقة ان الهوية واللغة وجهان لعملة واحدة فاذا سقط من وجه اختفت العملة .

يؤكد على ذلك المفكر الألماني « فيخته » بقوله: (إن الذين يتكلمون لغة واحدة يشكلون كيانًا واحدًا متكاملًا بروابط متينة وإن كانت غير مرئية، ف اللغة هي الخيط غير المرئي الذي تنتظم فيه حبات عقد أمة من الأمم؛ فتتوحَّد مشاعرها وتقوى روابطها .

والمثير للشفقة حقيقة حين ترى اثنين عرب في بلد عربي ليس بينهم اجنبي او لا يفهم اللغة العربية ويتكلمون في بلد عربي باللغة الانجليزية او الفرنسية  يصيبني فضول مدموج بالشفقة على من يفتقدون للثقه بأنفسهم والاعتزاز بها وكدارسة لعلم النفس اصنف هذا ضعف وعدم ثقة بالنفس وخجل من الواقع والهروب منه إلى عالم آخر

فهل نرى بريطاني يتكلم اللغة الصينية مثلا مع بريطاني آخر على ارض بريطانيا؟ هل نرى فرنسي يتكلم مع صديقه الفرنسي على ضفاف نهر السين باللغة التركية ؟ هل نرى أمريكي عاش في لبنان عشر سنوات وأتقن اللغة العربية وعاد لبلده فيجلس مع صديقه الأمريكي مثل حالته ويتكلم معه باللغة العربية في نيويورك مثلاً؟

هل كان تراجعنا كعرب سبب بهروب ابناء العرب من لغتهم كنوع من الهروب الى الجهة المنتصرة حاليا؟

و بالعودة لضعف اللغة العربية اليوم بين ابنائنا فهو نتاج طبيعي لتكريس اللغات الأجنبية واعطائها الاولوية في التعليم، وقد أدى هذا الضعف اللغوي لتعليم العربية إلى ذوبان الشخصية، وفقد الهوية، وضعف الصلة التي توحد الأمة وتشريعاتها، وتحقق لها استقلالها، وصمودها في مواجهة التحديات الدولية .

واحقاقا للحق، فان الاسر العربية لا تتحمل مسئولية جريمة اهمال لغتنا العربية والانتصار للغات الأجنبية عليها، وانما يتحملها كل الجهات المسئولة عن اصدار التراخيص للمحال التجارية والعلامات التجارية والمقاهي والشركات والمنتجات المصنعة في دولنا العربية تحمل اسماء أجنبية . فالشوارع العربية في معظمها تحمل لافتات باللغات الاجنبية وكذلك متاجرها ومنتجاتها، فأين المسئولون من هذه الجريمة .

انني أدعو لصحوة تعيدنا اليىفجر لغتنا العربية الجميلة وايحاؤها باتخاذها عنوانا لافتة لكل محل تجار او منشأة صناعية او علامة تجارية، واعادة تصحيح تصوراتنا الاجتماعية بشأن الوجاهة الاجتماعية، فالوجاهة تأتي بالحفاظ على الهوية العربية التي قوامها اللغة العربية .

أدعوا كل المسئولين عن التعليم في بلادنا العربية بضرورة التعليم الجيد للغة العربية وتكون لها الأولوية في التعلم خلال مراحل التعليم الابتدائي، ثم تأتي اللغات الاجنبية كلغات ثانية .

***

سارة طالب السهيل

روى هذه القصة زميل لديه ابنة في مدرسة ابتدائية بمدينة «أكتون»، غرب العاصمة البريطانية لندن. وخلاصتها أن المعلمة سألت الطالبات عما فعلن في نهاية الأسبوع، فأخبرتها الطفلة بأنها ذهبت مع أمها إلى مكتب البريد ومحل الخضار والمكتبة المحلية. فطلبت منها أن تعمل خلال الأسبوع الحالي على رسم خريطة الطريق الذي تسلكه من منزلها إلى تلك المواقع. وهذا سيكون واجبها المنزلي الوحيد. في الأسبوع التالي اتصلت المعلمة بالمنزل وسألت الأب: هل ساعدت ابنتك في رسم الخريطة؟ فقال إنه شعر بالحاجة لمساعدتها، لأنها ما كانت قادرة على رسم الخريطة وحدها. فعاتبته المعلمة قائلة: «إنك للتو دربت الطفلة على الاستهانة بعقلها، وهذا أمر سيئ». المراد - على أي حال - ليس الخريطة المتقنة أو المعيبة، بل تدريب الأطفال على استعادة التفاصيل التي يمرون بها، التوقف عندها والتفكير في علاقتها ببعضها، ثم تخيل الخطوط التي تربط بينها. جوهر المراد هو شحذ التفكير والتذكر، وليس رسم الخريطة. وهذا لا يتحقق إذا ساعدها أحد على ذلك. وأردفت أن واجبهم في المدرسة هو تعليم الأطفال فن التفكير.

يقول زميلي إن هذه القصة شغلت ذهنه لفترة طويلة. ولطالما حدث نفسه متسائلا: هل يمثل موضوعها جوهر الفارق بين ثقافة المجتمعات الصناعية ونظيرتها النامية؟ هل نستطيع القول إنها نقطة البداية في بناء جيل يستوعب تحديات المستقبل؟

بيان ذلك: جرت العادة على القول إن الدور التعليمي للمدرسة يتركز على زيادة حجم المعارف التي يستعملها التلميذ.

إذا قبلنا بهذا التوصيف، فسيأتينا سؤال ضروري:

- ما المعارف التي نريد تعليمها لأبنائنا؟

هذا سؤال عريض. لهذا سيذهب الجواب - بالضرورة - إلى التعريف النسبي، الذي يعالج جانبا واحدا فحسب. ومن هنا اقترح التركيز على نسبة التعليم إلى زمنه. ربط الفكرة بالزمن يعني أن جواب اليوم قد يخالف جواب الأمس، مع أن كليهما صحيح في وقته. ما يميز بين زمن وآخر هو نوعية الثقافة التي تبنى على أساسها منظومات القيم والمعايير والعلاقات الداخلية، ولا سيما العلاقة بين الأجيال القديمة والجديدة/الآباء والأبناء. وتتفرع منها مناهج التعليم وطرق التربية وتقاليد العمل.

تمتاز العائلات العربية بالشفقة على الأبناء. ولهذا يلتزم الأبوان مساعدة أطفالهما في حل الواجبات المدرسية ومذاكرة الدروس. ولأن هذه الثقافة سائدة أيضا في نظام التعليم، فقد اعتاد المعلمون تكليف الأطفال كماً كبيراً من الواجبات المنزلية، مع علمهم بأن المجتهد الحقيقي هو أم الطفل وليس الطفل. ولأن المطلوب هو إنتاج الأشياء البديعة وليس البشر الأذكياء، فقد ابتكرنا حلولا سهلة للعائلات المشغولة، فأقيمت دكاكين تبيع حلول الواجبات ورسوم الوسائل التعليمية، وغير ذلك مما يطلب من التلاميذ.

الذي يحدث في هذه الحالة هو تعليم التلميذ كيف يتهرب من تحمل المسؤولية، بتحويلها إلى أمه، أو تعليمه فنون الاستهلاك بشراء المطلوب من السوق، وليس الاجتهاد في إنجازها بنفسه.

أما الذي يحدث في المكان الآخر، الذي يعيش في زمن ثقافي مختلف، فهو التركيز على قيام التلميذ بإنجاز الواجب حتى لو أخطأ فيه. لأنه في الأساس وسيلة لغاية أخرى، هي تعويده على التفكير والتذكر والتأمل في العاديات والأمور البسيطة التي يمر عليها كل يوم. والذين يفكرون يخطئون كثيرا قبل أن يصيبوا أول غاياتهم.

أما وقد وصلنا إلى هذه النقطة، فلعلنا نستذكر أن واحدا من التعريفات المهمة للحداثة هو أنها: تقديس اللحظة الراهنة ثم الانطلاق منها للتفكير في بقية الأزمنة. في الرؤية الحداثية للعالم، يتحدثون إذن عن الزمن الحاضر وعن المكان الحاضر، لأننا ننتمي إليه وننطلق منه. إذا فكرنا بعمق في الذي حولنا، فسوف نصل إلى ما وراءه، أي إلى الغيب الذي تخفيه جدران المكان أو الزمان أو قلة المعرفة.

حسناً، ما الذي ستفعلون الآن، هل سترسمون الخريطة، أم تدعون أبناءكم يتأملون في عالمهم؟.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

بجهود دبلوماسية مميزة للمملكة المغربية، من خلال منصب رئيس المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو الذي كان يشغله السيد محمد الفاسي، وسفير المغرب لدى الأمم المتحدة في حينه السيد رشيد الحلو، وباسناد من المملكة العربية السعودية وعدد من الدول العربية، وافقت الأمم المتحدة في العام 1973 بقرارها الرقم 3190 باعتماد الثامن عشر من ديسمبر / كانون الأول يوما عالميا للغة العربية، بجعلها لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها الى جانب خمس لغات معتمدة هي: الانجليزية، الفرنسية، الصينية، الاسبانية، والروسية.

  كنّا تحدثنا في مقال سابق عن  مزايا اللغة العربية بوصفها من اقدم اللغات السامية، وانها لغة القرآن، والبلاغة والبيان، والاستقامة والترادف والمعاني الجميلة، وتفوقها على لغات العالم بمفرداتها الحية التي تبلغ فيها (000 303 12) كلمة، فيما عددها باللغة الأنجليزية (000 600) وفي الفرنسية (150000) وفي الروسية (130000)، ولا عن الذين كتبوا فيها من العلماء والمفكرين والأطباء وما كانوا عربا، ولا الشعراء في عالمنا العربي، وابلغ ثلاثة بينهم (احمد شوقي ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي) كانوا من الكورد وليسوا عربا!.

وكانت جامعة قرطبة بحضارتها العربية الراقية يقصدها الطلبة من كل بلدان اوروربا.ويذكر ان الشاعر الاسباني لوركا كان قد سئل:هل تعتبر المرحلة العربية بتاريخ اسبانيا..استعمارا؟ اجاب:المرحلة الوحيدة المضيئة في تاريخ اسبانيا هي المرحلة العربية، وما قبلها كان ظلاما.

ولقد شاهدت في زيارتي الأخيرة لأسبانيا ان الأسبان نحتوا التماثيل لأطباء ومفكرين وقادة عرب تكريما لهم، ليس لهم ذكر في زماننا هذا مع انهم ونحن..عربا!

في العراق.. اللغة العربية في محنة

صحيح ان الذين جاءوا الى الحكم احالوا الوطن الى خراب وحياة المواطن الى شقاء، لكننا ما كنّا نتصور ان اساءاتهم ستنال من لغتنا الجميلة. فكثير من المسؤولين السياسيين والنواب يرتكبون اخطاء لغوية مخجلة حين يتحدثون، ويخطئون ليس فقط في اسم كان وخبر ان ورفع المجرور والمضاف اليه، بل حتى في املاء كلمات بسيطة.. ولك ان تطلع على فضائحهم اللغوية عبر الفيسبوك، فاحدهم بمنصب مدير عام يكتب شكرا بالنون هكذا (شكرن)، وآخر يكتب لكن هكذا (لاكن)!.

والأساءة الاوسع انتشارا والأكثر خطرا ان فضائياتهم التي تجاوزت الخمسين، ترتكب اخطاء فاحشة بحق اللغة. فمعظم العاملين فيها من المذيعين والمذيعات يرفعون المفعول وينصبون الفاعل والمجرور!.وتلك فاحشة ما حدثت في تاريخ المؤسسات الاعلامية العراقية.ففي السبعينيات، اعلنت مؤسسة الاذاعة والتلفزيون عن حاجتها الى مذيعين ومذيعات..تقدم في حينها اكثر من (1200) من حملة البكلوريوس..خضعوا الى اختبار من لجنة ضمت مديرها العام (محمد سعيد الصحاف)، ومدير اذاعة صوت العرب (سعد لبيب)، وكبير المذيعين سعاد الهرمزي، والراحلان الدكتور عبد المرسل الزيدي وبدري حسون فريد.. اجتاز الاختبار عشرة فقط!. وقد تلقينا نحن العشرة تدريبا بدورة اذاعية في اللغة والصوت والالقاء والدراما وتحرير الخبر لثلاثة اشهر! سمح لنا بعدها دخول الاستديو، لا كما يجري الآن.. ياتون بهم (بهنّ) من البيت الى الاستديو!

التهديد الأخطر

ان اخطر تهديد تتعرض له لغتنا العربية هو ان  جيلا كاملا من الأطفال والمراهقين والشباب، وأجيال قادمة، تولعوا عبر الانترنت بمفردات اللغات الاجنبية وتولد لديهم نفور من اللغة العربية، وشاعت بينهم مفردات من قبيل (كنسلها، دلّتها، سيفها..).. بعكس جيل السبعينيات الذين تربوا على برامج تلفزيونية تحبب لهم لغتهم مثل (لغتنا الجميلة) و (لغة الحروف..جعفر السعدي بدور استاذ القواعد ومعه سهى سالم بدور الآنسة قواعد، ومحمد حسين عبد الرحيم الذي يحلم بأنه راى قوري فترد عليه الآنسة قواعد: ليس في لغتنا قوري بل ابريق الشاي)، وبرنامج المناهل.. الذي يبدأ بأغنية (هذي لغتي.. فوق الشفة كالأغنية... المنـــــاهــل).. وأخرى يتذكرها ابناء ذالك الجيل وما تزال مطبوعة في ذاكرتي كوني كنت يومها مشرفا على برامج الأطفال.

ما يؤلم حقا ان اللغة العربية كانت، في العراق تحديدا، حزينة في يوم الاحتفاء بفرحها.فلقد مرّ يومها باهتا على الصعيدين الرسمي والاعلامي.ذلك لأن معظم من في السلطة بين من يشعر بالنقص في علو شأن العلماء والأدباء، وبين جهلة لا يدركون ان جعل العربية لغة رسمية أمميا الى جانب خمس لغات عالمية فقط، يعدّ اعترافا بحيويتها وتطورها واعترافا بمساهمتها في تطوير الحضارة الانسانية عبر غزير عطاءات مفكريها وعلمائها واطبائها وادبائها، ولا يعنيهم تكريم علماء اللغة العربية في يومها، وليس في حساباتهم ولا يخطر على بالهم ما تفعله دول تحترم مفكريها. فالصين مثلا اعتمدت العشرين من نيسان يوم اللغة الصينية تخليدا لذكرى سانغ جيه مؤسس الأبجدية، وروسيا اعتمدت السادس من حزيران يوم اللغة الروسية تكريما لميلاد شاعرها الكساندر بوشكين، وبريطانيا اعتمدت الثالث والعشرين من نيسان تخليدا لوفاة ويليام شكسبير. والكارثة تكمن في ان ثقافة القبح التي اشاعها الاسلام السياسي قد شوهت كل جميل في الوطن..حتى وجه لغتنا الجميلة، وأن على من بقي من محبيها أن يعيدوا لها حيويتها وبهاءها وايقاعها الموسيقي الذي يطرب كل السامعين!.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

بمناسبة يوم اللغة العربية، اقتبس أحد الأصدقاء الأعزاء في منشور له، ضمن اقتباسات أخرى، قول المستشرق الفرنسي إرنست رينان (Ernest Renan): "من أغرب المُدْهِشات أن تنبتَ تلك اللغةُ القوميّةُ وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمّةٍ من الرُحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولم يُعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة". فعلقت على قول رينان هذا بالملاحظة التالية: " ينطلق إرنست رينان من تنميطاته الاستشراقية الساذجة وهو المعروف بنظريته العنصرية عن "الإرادة وترتيب الأعراق" التي يقف في أعلاها عرق الأسياد والجنود البيض الآريين أما العرق الصيني فهو عرق ذليل يخلو من عزة النفس وله مهارة يديوية كبيرة والافارقة زنوج يصلحون للفلاحة. من هنا نظر رينان إلى العالم العربي والإسلامي الذي نشأت وتطورت فيه اللغة العربية نظرته إلى صحراء قاحلة وإلى العرب المسلمين كأمة من البدو الرحل، وفاته أن الصحراء والبدو كانوا مرحلة انتهت وانتهت معها اللغة العربية البسيطة القديمة مع قيام دول العرب الكبرى كالدولة الأموية في الشام والعباسية في العراق والفاطمية في مصر والأموية الثانية في الأندلس ومع هذه الدول تطورت اللغة العربية البدوية البسيطة إلى لغة عامرة ترجم إليها التراث الفلسفي اليوناني والعلوم الأخرى في ذلك العصر فنجحت في احتوائها.. وبهذا فهو لا ينظر إلى ظاهرة اللغة بمنظار علمي سياقي تطوري "ديالكتيكي" إلى تأريخ اللغة العربية كله وفي سياقه الحقيقي المادي تأريخي فيندهش ويستغرب من تطور هذه اللغة إلى درجة الكمال في صحراء". وقد أضفت إلى تعليقي هذا لاحقا الفقرات التالية فكانت هذه المقالة:

وبالمناسبة فإرنست رينان (1823 - 1892) هو أحد منظري القومية / الأمة في شكلها الأوروبي الحديث وجذرها الرِّسّي " الإثني"، حيث سعى إلى التمييز بين العرق والأمة، مؤكداً أنه، على عكس الأجناس، تشكلت الأمم على أساس رابطة طوعية للأفراد ذوي ماض مشترك. وعنده أن ما يشكل أمة، ليس تحدث أفراد الأمة باللغة نفسها. ولكن الانتماء إلى مجموعة إثنوغرافية واحدة مشتركة، يتعلق "بفعل أشياء عظيمة معاً، والرغبة في فعل المزيد" في المستقبل. وهو ما يسمى بالإرادة المسبقة.

نقتبس من كتاباته: " خَلَقت الطبيعة عرقاً من العمال، هو العرق الصيني المتصف بمهارة يده العجيبة وبخلوه من عز النفس... ثم من عرق من الفلاحين ظهر الزنوج ... ثم عرق من الأسياد والمقاتلين الجنود وهم الأوربيون. ليعمل كلُّ واحد ما خُلق من أجله يستقِمِ الأمر"... الإصلاح الفكري والأخلاقي (La Réforme intellectuelle et morale,1871).

كما كان لرينان موقف عنصري سلبي من العرب المسلمين حتى في أوج صعودهم الحضاري حيث أكد فيه على أنهم لم ينتجوا فلسفة، وأن معرفتهم بالفلسفة تقتصر على ما استوردوه جاهزا من اليونان ثم كتبوه بلغتهم وإنهم يفتقدون إلى الإبداع لأنهم جنس غير متطور يشيع بينهم التعصب واللاعقلانية والغوغائية. وقد رد عليه، بشكل مباشر أو غير مباشر، العديد من الفلاسفة والمؤرخين منهم غربيون فرنسيون كجوستاف لوبون ومارسيل بوازار وكارا دي فو ودومينيك سورديل، فأنصفوا العرب والإسلام الحضارة والدين إنصافا قل نظيره.

ومن المعروف حتى لدى الباحثين الغربيين أن الغرب في فترة نهوضه في عصر التنوير كان مدينا إلى الفلسفة العربية التي أبدعها ابن رشد وزملاؤه العرب والمستعربون المسلمون، دع عنك التطويرات والإضافات الراقية التي أضافها الفلاسفة العرب والمسلمون القدماء على الفلسفة اليونانية وهم بالعشرات.

أما رينان فهو حتى حين يضطر إلى الاعتراف بأن "المسلمين قد نجحوا بالفعل في خلق مجتمعات حضارية متقدمة في فترات طويلة عبر التاريخ" كما يلاحظ بصواب د. مدى الفاتح "فإنه سيلجأ لحيلة عنصرية مفادها، أن الإسلام ولما كان مرتبطاً بالعرب وبالبداوة كان فاشلاً، لكنه وبعد انضمام أجناس أرقى إليه كالفرس والمسيحيين الذين احتفظوا، حسب رؤيته، بالمعرفة اليونانية القديمة تحت القشرة الإسلامية، أصبح مختلفاً". ويضيف الفاتح: "يذهب رينان إلى ما هو أبعد من ذلك حين يعتبر أن «الخلفاء الذين أضفوا رعايتهم على هذا الازدهار الثقافي والعقلي، يصعب أن نسميهم مسلمين، ورغم أن هذه الحضارة استعملت اللغة العربية، فإنها لم تكن حقاً عربية، وإنما كانت أساساً إغريقية وفارسية، أي آرية". إرنست رينان كان يجمع إضافة للتعصب الديني تعصباً عنصرياً وعرقياً، وهو ما تجلى في التقسيم الذي كان يضعه للأعراق، فالعرب متخلفون بطبعهم وبدو، والفرس أهل حضارة، أما الأتراك الذين سيطروا في مرحلة ما على الأراضي الإسلامية فهم فقراء فكرياً، وهم سيصبغون هذه الأراضي التي سيطروا عليهم بالفقر الفكري والانحطاط العقلي/ صحافة عربية 2019".

أما عن التعصب الديني عند العرب المسلمين فهو ليس لعنة أو ثيمة ميتافيزيقية ثابتة التصقت بهم كما يرى رينان بل هي ظاهرة تأريخية مشروطة في فترات تأريخية محددة كان العرب المسلمون وعموم الشرقيين فيها مستهدفين بالحروب التي شنها الغربيون الفرنجة عليهم وأطلقوا عليها اسما دينيا "الحروب الصليبية"، وأن المجتمعات الأوروبية الغربية لو قورنت بالعرب المسلمين أو الشرقيين عموما لفازت المجتمعات الغربية بقصب السبق في مضمار العنصرية والتعصب الديني الدموي حتى بينهم وكاد يؤدي ببعض شعوبهم إلى الانقراض، وخصوصا بين المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت والتي استمرت بعضها لأكثر من مئة عام بين فرنسا وإنكلترة، وقد دامت 116 سنةَ مِنْ 1337 إلى 1453. أما المجازر التي ارتكبها الفرنجة الصليبيون بحق المسلمين والمسيحيين الأرثوذوكس البيزنطيين واليهود في المشرق فهي تكشف عن تعصب ديني وحشي وشنيع لم تشهد البشرية مثيلا له!

إنَّ اللغة، أي لغة كانت، لا تولد متفوقة ومتطورة وراقية. وهي في ذلك مثلها مثل البشر والمجتمعات بل تمر بأطوار حضارية طويلة وتراكمية وإنجازات كبرى للبشر الناطقين بها حتى تخرج من قصورها وفقرها الى النضوج. واللغات الإنكلوسكسونية وفي مقدمتها اللغة الإنكليزية، وهي لغة جرمانية في الأصل، كانت في القرن الخامس الميلادي وما بعده وحتى الثورة الصناعية الرأسماليةـ من أفقر اللغات وأكثرها تخلفا، وحتى الآن فإن معجمها اللغوي أفقر من معجم اللغة العربية ومثلها اللغة الفرنسية فمعجمها أقل من المعجم العربية كما ونوعا وفي الحركة الاشتقاقية تتغلب عليهما كلتيهما العربية... أما التمييز أو المفاضلة بين المسلمين على أساس العرق فهو أمر مثير للضحك في القرن الحادي والعشرين. وسبق وأن كتبت عن هذه الخرافة وبينت أن ذوي الأصول العربية لا يقلون عن إخوانهم المسلمين الصوفيين والعرفانيين وحتى في الحركات التنويرية والزنادقة والملاحدة من غير العرب كثيرا، ولكن النسبة الإحصائية الكبيرة لغير العرب من مجموع السكان كان لها تأثيرها أيضا. وما تزال حتى يومنا هذا نسبة العرب إلى عموم المسلمين قليلة فعديد العرب المسلمين هو في حدود 430 مليون نسمة من مجموع المسلمين البالغ مليار وسبعمائة مليون نسمة تقريبا أي أن نسبة العرب إلى المسلمين هي الربع تقريبا... أعني أن الناس خلال الحضارة العربية العباسية والفاطمية والأموية في الأندلس اندمجوا حضاريا ولم يعودوا ينظرون إلى أنفسهم على أساس عرقهم وجنسهم بل على أسس ومواصفات أخرى منها اللغة والموقع الطبقي والمنجز الحياتي . أما قبل ذلك فربما كان الانتماء إلى العشيرة والقبيلة أقوى من الانتماء القومي العربي وحتى الإسلامي عند من نسيمهم العرب في فترات أسبق من الفترة العباسية ... وعموما، هذا الموضوع ليس سهلا وهو لا يخلو من التعقيد وليس من المستحب الحكم فيه وإطلاق الصفات والأحكام الباترة قبل الإطلاع على أصول الموضوع في سياقه التاريخي

ومن الغريب والمثير للغضب والحزن معا، إننا حتى الآن، وبعد أكثر من مائة عام على موت إرنست رينان، مانزال نواجه أفكاره وترهاته العنصرية ولكن على ألسنة العلمانيين والليبراليين المتطرفين العراقيين والعرب والشرقيين المصابين بالإسلاموفوبيا واحتقار الثقافات المحلية الشرقية، ونجدهم يكررون دائما في كتاباتهم أفكاره التي تحتقر الإسلام والمسلمين وتعتبر الإسلام سبب المصائب والشرور كلها في العالم! أما أسيادهم البيض الآريين ومعهم الصهاينة فهم صناع التقدم والعلم والازدهار والرخاء في كل مكان وأن عقلية شعوبنا "الشعوب السامية نازعة إلى البلاغة والقدرية والخرافات والتصورات الساذجة عن الإيمان الديني. وقارنها بمزايا عقلية الشعوب الآرية والهندو أوروبية النازعة إلى إعمال العقل والاساطير التراجيديا" ... والغريب أن هناك المئات من رواد مواقع التواصل مَن يصفقون لهؤلاء المفرغين من الوعي النقدي والعقلانية الإنسانية بل يفوق عدد من يصفقون لهم أحيانا عدد من يصفقون للتافهين والتافهات من "صناع المحتوى" حيث تنال تغريدة غبية من نوع "شلونكم عيوني، شلوني بهذا الـشسمه..." مئات اللايكات والتعليقات الفقاعية!

***

علاء اللامي - *كاتب عراقي

 

لا أظن أنَّ عَلماً مثل عبد الرّحمن الكواكبي(ت: 1902)، لا ينطبق عليه القول: «المُعرف لا يُعرف»، فيكفيه أنّه الأبكر، في عصرنا، بفضح الاستبداد والاستعباد، ولا استعباد بلا استبداد، والعكس صحيح، تلك قصة كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، وما قدمه في «أمّ القُرى» مِن أفكار. لكنَّ ماذا يعنيّ لنّا أنَّ هذا الحلبيّ مقارع الاستبداد، الديّنيّ والسّياسيّ، والمنافح مبكراً لأجل التّنوير، يضحي بمناصبه وبحياته في سبيل النَّزاهة؟ كان موظفاً في نظام هارٍ، النّزاهة والأمانة فيه مِن الشّواذ.

ليس في زمن الكواكبيّ فقط، بل في زماننا، صار الفساد قاعدة، حتّى أخذ يوصف الأمين بالسَّاذج، في أنظمة اشتهرت بالفساد، مَن أناخ لها مِن دعاة التّنوير الكذبة، بينما الصّادق في تنويره وإصلاحه ظل عصياً عليها. فمَن ينسى الوزير العراقيّ الطّبيب، الذي ظل وفياً للقسم عند تخرجه طبيباً، المخضرم بين النّظامين، كان يعي أنَّ صحة أجساد النّاس بيده، فإذا قَبل بسموم الفساد، كمن يستبدل السُّم بالدَّواء، استقال ولسان حاله يقول: «واستيأسوا (مني) ومن مُتخشِّبٍ/ عَنتَاً كصِلِّ الرّملِ يَنْفُخ غاضبا»، ويتبعه بالبيت «يَستصرخونَ على الشّعُوب لُصوصَها/ في حينَ يَحتجزونَ لِصّاً ساربا»(الجواهريّ، الوتريّ 1949)، فالمصلحون لم يفلحوا بإصلاحهم ضد الفساد إلا البدء بالحيتان، لا بسارق الرّبع دينار الجائع.

كتب الشّيخ محمّد راغب الطَّباخ الحلبيّ(1877 – 1951)، في ترجمة مجايله الكواكبيّ، لما عُين الأخير مديراً لبلدية حَلب، وجد «مصلحة القبَّان» مؤبدة بيد أحد الأغنياء، يأخذها مِن مدراء البلدية بالرُّشَى، لكن المدير الجديد قد عصى عليه، فزاد وعرض أربعين ألف قرش سنوياً له، فقبل الكواكبيّ بهذا العرض، على شرط وضعها في صندوق البلدية الخاوي، ولما سمع الوالي العثمانيّ بزيادة الصّندوق، أراد سهمه كالعادة. رفض الكواكبيّ الطَّلب، فعزله الوالي مِن إدارة البلدية (أعلام النُّبلاء في تاريخ الشّهباء)، والشّهباء لقب مدينة حلب المعروف.

كان أول عمل الكواكبيّ، عند إدارته للبلدية، مكافحة السّرطان الاجتماعي والاقتصاديّ، وأُس الفساد الماليّ، فقام بـ «قطع عِرق الرّشوة مِن العُمال، الذين يباشرون الأعمال والمصالح، ويسمون الجاوشيَّة (في العهد العثمانيّ)، ولكنه زاد في رواتبهم، لعلمه بأنَّ الذي يضطر أكثر العُمال إلى الرّشوة هو قلة الرَّاتب» (أعلام النُّبلاء...).

إذا قلنا إنَّ الكواكبيّ تنويريّ، فبالضرورة يكون مصلحاً ونزيهاً، في المهام التي يتصدى لها، حكوميّة كانت أو شخصية. فلما أصبح مديراً لبلدية حلب (1890) أدخل الكهرباء وكانت في بدايتها، وربطها بسكة حديد، وجلب النّهر «السّاجور» إليها، فصار الماء العذب في متناول الحلبيين، أنشأ جريدةَ «الشّهباء» وجريدةً أخرى، وأحاط المدينة بسور يحميها مِن مرور القوافل، وقطع دابر التّهريب لما كان مفتشاً لـ«مصلحة حصر الدُّخان»(التبغ).

كان في إصلاحاته يُحارَب مِن قِبل الولاة، ومِن خصمه اللّدود شيخ الإسلام بإسطنبول «أبو الهدى الصّياديّ»(ت: 1909)، الذي دارت عليه الدَّوائر ونفي(1908) بعد الانقلاب على عبد الحميد الثَّاني(ت: 1918)، إلى جزيرة قصية حتّى مات هناك. كان خلافه معه حول نقابة الأشراف بحلب، أرادها الصَّياديّ لأسرته، فأخذها مِن الكواكبيّة، وهم أصحابها.

حُكيت مؤامرة قاتلةٌ، في ليلٍ بهيم، لمَن جمع بين التّنوير والإصلاح والنّزاهة، فحُكم عليه بالإعدام، بتهمة التَّنسيق مع دولة أجنبيّة لتسليم حلب، ثم عُدل الإعدام إلى السّجن، وبعدها أطلق، فمات كمداً(أعلام النّبلاء...).

أشار حافظ إبراهيم (ت: 1932) إلى مظلوميّة الكواكبي في رثائه المكتوب على قبره: «هنا رجل الدُّنيا هنا مهبط التُّقى/هنا خير مظلومٍ هنا خير كاتبِ/ قفوا واقرؤوا أمَّ الكتاب وسلموا/ عليه فهذا القبر قبر الكواكبيّ»(الدِّيوان1937). يسخر مِن ضحايا الفساد، مَن خطابه مع التَّنوير، بينما يده ملوثةٌ بالخراب والفساد، لا يفقه أنَّ التّنوير والإصلاح والنّزاهة تَوائِم، تحملهم بطنٌ واحدةٌ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تتسيد العربية اللغات الاخرى باختيار القرآن الكريم لها بوصفها النظام اللغوي الذي استثمره النص المقدس لبيان المعاني والدلالات والرؤى الالهية وهذا الامر ينبئ عن اسرار دقيقة تتميز بها هذه اللغة المباركة دون غيرها.

و نعتقد أنّ سّر الاسرار في تميز هذه اللغة الشريفة، ومكمن قوتها، ومعلم خصوصيتها هو ارتباطها بالواقع الخارجي والنظام الكوني الذي جُعل فيه الانسان السيد، وارتباط اللغة بالواقع يعني ان اللغة بوصفها نظاماً معقداً من العلامات تمثل صورة لفظية تعبر عن النظام الكوني بكل تفاصيله واجزائه وهذا ما يتجلى في خصائصها الداخلية كونها لغة القرآن الكريم، فقد وصُف القرآن بكونه عربياً منها قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون). ومن خصائص العربية الواضحة وكما قال الفراء: (وجدنا اللغة العربية فضلاً على جميع الامم اختصاصاً من الله تعالى وكرامة اكرمهم بها، إنه يوجد فيها من الإيجاز ما لا يوجد في غيرها من اللغات)، اي تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى .

فضلاً عن ذلك فقد انمازت العربية بان كل مجموعة من الفاظها ترجع الى مادة واحدة أُخِذت منها وهذا ما يسمى بالاشتقاق وهو استحداث كلمة أخذاً من كلمة أُخرى للتعبير بها عن معنٍ قالبّي جديد للمعنى الحرفيّ، مع تماثل بين الكلمتين في احرفهما الاصلية وترتيبها فيهما .

و من خصائص العربية ان لهجاتها لم تستقلّ بنفسها فتكّون لغات في قبالها . فالهجات العربية قبل الاسلام رغم انها ذات تنوع  واختلاف في المفردات  والاساليب والتراكيب كان هناك لهجة موحدة تستعمل في كتابة القصائد والعهود والمواثيق، كما ان ظاهرة الاعراب من أخص خصائص اللغة العربية، وهذه الظاهرة جعلت اللغة العربية تنماز بها من اللغات بسبب التنظيم الدقيق الذي سادها نتيجة لقواعد الاعراب التي يتمثل معظمها  في اصوات مد قصيرة تلحق أواخر الكلمات لتدل على وظيفة الكلمة في العبارة وعلاقتها بما عداها من عناصر الجملة وهذا النظام لا يوجد له نظير في أية أخت من أخواتها السامية اللهم إلاّ بعض آثار ضئيلة بدائية في العبرية، والآرامية والحبشية .

ولاخلاف ان اللغة العربية توصف بانها لغة شاعرة لغة الضاد او لغة الاعراب،  وهي لغة بنيت على نسق الشعر في اصوله الفنية والموسيقية فهي في جملتها فن منظوم منسق الاوزان والاصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء .

و هي لغة إنسانية ناطقة تستعمل جهاز النطق الحي أحسن استعمال يهدي إليه الافتنان في الايقاع الموسيقي وليس هنا أداة صوتية ناقصة تحس بها الابجدية العربية، اذ ليس في حروف الابجديات الاخرى حرف واحد يحوج العربي الى افتتاح نطق جديد لم يستعمله .

و من خصائصها الخارجية اثرها في اللغات الاخرى كالفارسية والتركية وغيرها ومنزلتها بين اللغات العالمية وإقبال غير العرب على دراستها وجعلها إحدى اللغات الرسمية في الامم المتحدة كونها اللغة القديمة الباقية دون معاصرتها في قديم الزمان فضلاً عن كونها من أكثر اللغات انتشاراً في العصر الحديث .

***

اعداد: أ. م . ليلى مناتي محمود

(من رواسب المعرفة والتجربة والخبرة والممارسة)

ـ سؤال مشروع: في ظل سياق العملية التعليمية التعلمية الهشة والمأزومة، تنبعث أسئلة مشروعة من رحم معاناة المجتمع المدرسي من تدني المردودية الداخلية والخارجية للممارسة الصفية، واختلال التوازن بين الشعب والمسالك التعليمية والمجالات المعرفية، وتغليب حقل على آخر. وضمنه؛ سئلت افتراضا: ماذا يحتاج متعلمنا في المدرسة ليكون ناجحا في دراسته وحياته؟

سؤال؛ قد يبدو بسيطا عند التسرع في الإجابة عنه ممن يعتقد أنه اكتسب خبرة في المجال التعليمي والتربوي والتكويني، ومن مارس فعل التربية والتعليم والتكوين ردحا من الدهر، وتدرج في مستويات ذلك من الابتدائي إلى الجامعي والمهني. لكن في حقيقة السؤال أنه سؤال مركزي ورئيس صعب، لمعطى تغيرات العصور وتطورها، ولكل عصر منها متطلباته ومستلزماته وشروطه وناسه وأحداثه... فمثلا عصر الزراعة ليس مثل عصر الصناعة، وعصر الصناعة ليس كعصر المعرفة، وعصر المعرفة ليس كعصر ما بعد المعرفة؛ وهكذا لكل عصر خصوصياته ومتطلباته. وما دمنا دخلنا عصر المعرفة بعالمها المعولم الذي يشهد تطورات تكنولوجية وإعلامية ومعلوماتية بعتادها وبرمجياتها وبنياتها التحتية مع الذكاء الاصطناعي وتطوراته المتسارعة، وخدماته المتنوعة، التي أصبحت أساسيات في أداء بعض المهام والمهن، وغدت عماد اتخاذ القرارات والبحث عن الحلول للمشاكل والقضايا المتنوعة. فهذا العصر، إذن يتطلب مطالب واحتياجات مختلفة عن تلك التي لعصر الصناعة، من حيث هو عصر المعرفة ومجتمع المعرفة؛ يستدعي درجة عالية وكبيرة من الثقافة المعلوماتية في المجتمع، والوعي بتكنولوجيا المعلومات، ودورها المركزي في الحياة اليومية للإنسان فضلا عن أساسها ومرتكزها المعرفة، التي تشكل المدخل الطبيعي لكل إبداع وإنتاج ومنتوج.

ـ من رواسب المعرفة والتجربة والخبرة والممارسة:

وأنا أتقاسم مع السائل معرفتي البسيطة، وما تراكم وترصد لدي من معلومات وكفايات وقدرات ومهارات وقيم وخبرة وتجربة متواضعة، أزعم أنها قد تسعفني بدرجة معينة ونسبة محددة في توضيح رأيي في هذا الموضوع. وبما أن المتعلم هو إنسان المستقبل، وضع في قناة التشكيل والإعداد والتأهيل بسيرورة معينة تنشيئية ذات مراحل محددة وفق مراحل النمو البشري، ومتضمنات التربية والتعليم والتكوين والتأهيل. فله بعدان في هذه المسألة؛ بعد مدرسي وبعد تكويني تأهيلي مجتمعي.

1 ـ البعد المدرسي:

واحتياجات نجاح المتعلم في البعد المدرسي عديدة، لكن سأركز على الأركان منها كما يلي:

نجاح المتعلم يعتمد في البداية على:

أ ـ تحصيل المعرفة الأبجدية في الحقول المعرفية المدرسة وفق المنهاج الدراسي عبر فعلي التعليم والتعلم؛ من حيث تلعب التربية والتعليم والتكوين دورا رئيسا ومركزيا في الاندماج الاجتماعي للمتعلم/ة بتوفير المعرفة والمهارات اللازمة للعمل بفعالية في المجتمع. وتمكنه من تركيم وترصيد المعرفة على المستوى العمودي والأفقي التي تقدره على الاستمرار واستدامة التعلم عبر المراحل والأسلاك التعليمية الرسمية، وعبر التعلم الذاتي أو عبر التعلم عن الآخرين وتجارب وخبرات السابقين. فهذه الأبجديات المعرفية والأدائية هي الرافد الأساس لمساره التعلمي.

ب ـ الموارد الداخلية المبرمجة رسميا، والخارجية المكتسبة في السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي والإيديولوجي والمعلوماتي والتكنولوجي والتقني والاقتصادي والمعيشي... وبصفة عامة المستفادة من المعيش اليومي وتجارب الحياة في المجتمع ضمن العلاقات بينية والتفاعل الإنساني تأثيرا وتأثرا؛ هي التي تدعم وتعزز تلك الأبجديات المعرفية، وتحسن وظيفتها في إغناء تجربة المتعلم/ة وإسنادها للرفع من كفاءة التعلم عنده. فالاستمرار في المسار التعلمي يتكئ على هذه الأبجديات والموارد والخبرات والتجارب والمواقف الحياتية المعيشة. فلا تطور، ولا تقدم في المستقبل التعليمي للمتعلم/ة دونها.

ج ـ اكتساب المهارات والكفايات والقدرات بما فيها مهارات التفكير على مختلف أنواعها حسب نوع التفكير؛ فالتفكير بكل أنواعه هو المدخل الأساس في اكتساب المعارف والموارد والأنشطة التعليمية المتنوعة، التي ترشح عند المتعلم/ة كفاية المعرفة والفعل، وتخلق إرادة التحدي للصعاب والعوائق والحواجز التي تقف في دربه التعلمي. فالتفكير هو مهد كل منجز فكري ومادي يستفيد منه المتعلم/ة أولا ثم الإنسانية ثانيا، ويشكل حوضا يتغذى منه التطور الإنساني والوطني.

د ـ اكتساب مناهج البحث والدراسة وأدواتها فضلا عن الاستراتيجيات وخطوات تنفيذها والاستفادة منها والتعلم من خلالها؛ فالمتعلم/ة الذي يفتقد هذه المناهج وأدواتها واستراتيجياتها لا يستطيع مسايرة تطور المعرفة فضلا عن متابعة دراسته، فهو كالبناء الذي يفتقد أدوات العمل، حيث لا يستطيع تشييد البناءات فضلا عن العمارات. فشرط الدراسة والتعلم والتكوين هو امتلاك المتعلم أدوات ومناهج واستراتيجيات ذلك. وإلا؛ نكون كالذي ألقي في البحر لانقاد الغريق وهو ما بسباح ولا يدري السباحة! تطبيقا للمثل السائر فينا عن عمرو بن العاص: " مكره أخوك لا بطل ".

هـ ـ اكتساب تجربة وخبرة كيفية التطبيق العملي للمكتسبات سواء معارف ومعلومات أو نظريات أو كفايات ومهارات وقدرات وقيم، أو كأساليب واستراتيجيات وطرق ومنهج وديداكتيك... وغير ذلك. وتوظيف أدوات وتجهيزات وآليات البحث والدراسة؛

و ـ اكتساب حافزية التعلم والبحث، وجرأة اقتحام المجهول واستكشافه والاستفادة منه، وإرادة الفعل والتحدي لكل الصعاب والعوائق والتحديات بروح صلبة، وبصيرة نافذة، وعزيمة قوية، وباستشراف متفائل للغد والمستقبل. وهو يسمح للمتعلم بالتطور والتقدم والتغيير؛

ح ـ ممارس بيداغوجي مكون ومؤهل مهنيا وأكاديميا ونفسيا وثقافيا، يؤمن برسالته التربوية والتعليمية، يستشعر المسؤولية في أدائه التربوي والتعليمي ضمن توفير كل شروط ومتطلبات الرسالة وعلى رأسها الاستقرار النفسي والمالي.

ط ـ ضمان متطلبات وضروريات ومستلزمات وشروط العملية التعليمية التعلمية، إزاء التنشئة الأسرية والاجتماعية المتوازنة والفاعلة، الضامنة للتوازن النفسي والتوافق الدراسي... والبيئة الدراسية الحاضنة للمتعلم والداعمة له في تحصيله المدرسي؛

ي ـ كفاية الفعل؛ بمعنى قدرة المتعلم على الفعل سواء أكان تفكيرا أو إنجاز عمل في الواقع بما يمكنه من معرفة معطيات موضوع الفعل وميكانيزم اشتغاله فضلا عن كيفية الاشتغال عليه.

2 ـ البعد التكويني التأهيلي المجتمعي:

عندما يتدرج المتعلم حسب أسلاك التعليم، يصبح في مرحلة ما شابا ناضجا، يخرج من دائرة التربية والتعلم إلى دائرة التكوين والتأهيل للاندماج في المجتمع وفق ما طمح أن يكون عليه من موقع اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي وفكري ومهني؛ لممارسة مهنة معينة في المجتمع والقيام بدور يحدده لنفسه أو يحدد له، في سياق التفاعل الاجتماعي لمكونات المجتمع من أفراد ومؤسسات وجماعات ومنظمات. ومن أجل هذا الاندماج على المتعلم أن يكتسب:

أ ـ المهارات الحياتية أو المهارات الأساسية أو المهارات الناعمة؛ بما هي قدرات ومهارات وكفايات تمكن الفرد من القيام بسلوك ومواقف تكيفية وإيجابية تقدره على مواجهة مشاكل وقضايا الحياة اليومية، والتعامل مع معطياتها ومشاكلها وتحدياتها، من خلال تركيز وتعزيز السلوك الشخصي الإيجابي المتفاعل، والتكيف الاجتماعي والمهني والإنساني مع الوسط والبيئة التي يعيش فيها الفرد/المتعلم. وهي المهارات والقدرات والكفايات عامة لا ترتبط بمهنة معينة بالضرورة، ولكنها متعلقة بطريقة تفاعل الفرد مع وسطه وبيئته من حوله، وتواصله وتفاعله مع الآخرين، وتعامله مع المواقف الحياتية المختلفة. ومن بين هذه المهارات والقدرات والكفايات بالنسبة للمتعلم/ة:

* الاتصال الفاعل والمتفاعل مع الآخر من حيث قدرة المتعلم/ة واستطاعته التعبير عن أفكاره ورؤاه بوضوح وجلاء، والاستماع بنشاط للغير أو محاوره والتواصل معه بشكل بناء وإيجابي وفعال في إطار التفهم والحوار السليم، في إطار لغوي مفهوم وواضح دون تشويش أو ضبابية أو مراوغة. وفي إطار مستوعب للأعراف والقيم والأخلاق الاجتماعية الحاضنة للتواصل والحوار كما في الثقافة الإسلامية والتقاليد المحلية والوطنية، التي تراعى عند الناس في تفاعلهم الحواري والتواصلي. الأمر الذي يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي للمجتمع والأفراد والمؤسسات القائم على الظروف الاجتماعية المستقرة، بما في ذلك توفير الأمن الجسدي الفردي والأسري والمؤسساتي والمجتمعي، وحصول الفرد على الشغل والسكن والعدالة والتعليم والصحة... ما يعزز التكامل الاجتماعي في المجتمع.

* حل المشاكل والقضايا والإشكاليات الحياتية سواء أكانت فكرية أو نظرية أو عملية تطبيقية في مختلف المجالات والقطاعات والعلاقات البينية؛ بمعنى قدرة المتعلم/ة واستطاعته تحليل المواقف وتشريحها، وتحديد المشاكل والقضايا والإشكاليات الواقعية والحقيقية، المركزية والأساسية والثانوية مع تحديد المحتملة منها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، والناجعة التي تحقق التقدم والتطور، والتي تراكم وترصد المكتسبات.

* اتخاذ القرارات الناجعة والفاعلة؛ بمعنى صناعة القرارات عبر قدرة المتعلم/ة على اتخاذ قرارات مستنيرة مبنية على الإدراك والوعي بها، ومرتكزة على المعرفة والعلم والتدقيق في بياناتها ومعطياتها وامكانياتها ومتطلباتها وأهدافها وإمكانية تنفيذها وإجرائها وتطبيقها. وتقويم وتقييم الخيارات الممكنة والمتاحة واستحضار العوائد الإيجابية والسلبية بمسمى العواقب والتحديات.

* إدارة الوقت؛ بمعنى مهارة المتعلم/ة وقدرته على تنظيم الوقت وإدارته بفعالية وفاعلية ضمن تحديد الأبجديات والأولويات لإنجاز المهام بكفاءة، والقيام بالوظيفة الموكولة له بالشكل المطلوب تحت سقف المواصفات والمؤشرات والمعايير المحددة للوظيفة وناتجها العملي.

* القدرة على التكيف؛ بمعنى استطاعة وقدرة المتعلم/ة على كفاية التكيف، التي يفعلها اتجاه مواقف الحياة المختلفة، ويجريها على التغيرات الحاصلة في الواقع بطريقة إيجابية ومتفهمة. والتكيف هنا يكسب المتعلم مهارات متنوعة كالانسجام مع الآخر، والقبول بالرأي المخالف، وتقدير المكتسبات التي تأتي من الغير، واحترام الشخص المختلف، والتشبث بقيم الحوار، وتقدير وتفعيل قيمة التعاون والتكامل والتفاعل، واحترام المعايير الثقافية الخاصة بالمجتمعات عامة ومجتمعه خاصة، التي تستوعب القيم والتقاليد والتوقعات الثقافية التي تختلف من مجتمع إلى آخر حسب معطياته الخاصة... وهي مهارات وقيم غير متاحة للجميع على قدم المساواة، وإنما هي التي توقع التفردات والتميزات بين الأفراد والجماعات.

* إدارة الإجهاد والعناء؛ بمعنى قدرة المتعلم/ة على التعامل مع المواقف لسيكولوجية بما فيها العصيبة، كالقلق والتشنج والخوف واليأس... ومحاولة حفاظه على الهدوء والراحة البدنية والنفسية تجاه ما يسبب له ذلك، وكذلك إمكانية خلقه طرقا بناءة للتعامل مع الضغوط النفسية. وإيجاد التوازن والتوافق الذاتي أولا ثم التوافقات الأخرى من اجتماعية واقتصادية...

* التعاون والعمل الجماعي؛ وقد سبق ذكره، بمعنى قدرة المتعلم/ة على العمل بفعالية وإيجابية وتكامل وتناسق مع الآخرين، وانسجام في بعض الأحيان وتفاهم، وتقاسم المسؤوليات وتحقيق الأهداف المشتركة، وتحديد الأدوار والمهام والالتزام بها. وهذه القدرة لا يكتسبها المتعلم/ة إلا بالوعي بذاته وبالآخر وبمجال العمل، واستحضار مجموع مكتسباته المتنوعة وخبراته وتجاربه تحت كفاية الفعل والإرادة الشخصية، وذلك ضمن المجتمع الواعي والمؤسساتي الذي يشرك جميع أفراده على قدم المساواة دون تمييزهم بأي معطى إثني أو سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ديني أو إيديولوجي أو ثقافي... كان؛ في أنشطته المتنوعة تعزيزا للاندماج الاجتماعي.

وفي إطار الاندماج الاجتماعي نجد المنظومة التربوية والتكوينية بمنطوق المؤسسة التعليمية تحتضن التنوع والشمول بطبيعتها لتنوع مداخلها وروافدها، من حيث تعززه بالتنوع الثقافي والاجتماعي والعرقي والإيديولوجي والسياسي والاقتصادي والديني والمذهبي... وبذلك تعزز الشعور بالإدماج والاحترام والتقدير المتبادل بين الجميع.

* الاستقلالية؛ بمعنى استطاعة وقدرة المتعلم/ة على اتخاذ المبادرة الشخصية تحت سقف القبول بالمسؤولية عن أفعاله تقويما ومساءلة ومحاسبة وتحفيزا، وقدرته على العمل بشكل مستقل وحر ووعي تأثيرا وتأثرا.

* التعاطف؛ بمعنى استطاعة وقدرة المتعلم/ة على فهم وتفهم الآخر، ومشاركته مشاعره وهواجسه، والتعرف على وجهات النظر المختلفة والمتنوعة، وتطوير العلاقات البينية الإيجابية بناء على خلق روابط بينية قوية تعزز التعاون والدعم المتبادل والتفاهم المشترك.

* التدبير المالي؛ بمعنى مهارة وقدرة المتعلم/ة على وضع مشاريع الميزانيات والأغلفة المالية، وإدارتها بشكل معقلن وفعال، واتخاذ القرارات المالية المسؤولة وتحمل تبعياتها المتنوعة.

هذه المهارات والقدرات والكفايات وغيرها تعتبر عاملا حاسما في النجاح الشخصي والمهني للمتعلم/ة من حيث تساعده في بناء مرونته، وتعزيز علاقاته البينية الإيجابية مع الأشخاص والجماعات والمؤسسات والمنظمات وجماعات المهن، وتمكينه التنقل بسهولة بين تحديات الحياة اليومية ومواجهتها.

ب ـ بناء على مكتسباته المدرسية والاكاديمية والمهنية، والمهارات الحياتية، ينخرط المتعلم/ة في المجتمع بلعب دور ما وفق المؤهلات التي رشحتها هذه المكتسبات، وبذلك يشارك الآخرين في رحاب المجتمع من خلال: مشاركته الاقتصادية عبر العمل والشغل والتنمية بوصوله إلى فرصة عمل عادلة. ومشاركته عبر العمل السياسي بالانتماء إلى منظمة سياسية معينة، والذي يتضمن عمليات صنع القرارات، ومشاركته عبر العمل الاجتماعي المرتبط بمواجهة قضايا المجتمع والعمل عليها، ومشاركته عبر بعده الثقافي من خلال تعاطيه مع الفنون والقيم الثقافية والتعبير، ومشاركته عبر بعده القيمي في تخليق الحياة العامة والخاصة، ونشر القيم الإنسانية في المجتمع معرفة وسلوكا.

ونتيجة هذه المكتسبات؛ يمتلك المتعلم/ة الحرية والقيم المعنوية والاستقلالية والعدالة والعقلانية، بما يمكنه من جرأة اقتحام المجهول بالتساؤل والتجربة والاستفادة من تجارب الآخرين، والعمل على رفع مستوى التحدي للصعوبات والمعوقات، ورفع درجة الوعي والوعي السياسي عنده بما يشكل نظرته تجاه القضايا المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية في مقاربتها والتعاطي معها ضمن المشاركة الاجتماعية والجماعية، ورفع درجة الاعتماد على ذاته، وتقديرها من خلال الوعي والتحلي بالنزاهة والمسؤولية في تنفيذ وجهة نظره تلك.

والملاحظ أن هذه المكتسبات والمهارات تتفاعل فيما بينها بشكل معقد. فيه كل مكتسب ومهارة تختلف أهميته النسبية اعتمادا على الثقافة السائدة والسياق الاجتماعي والسياسي المعيش وعوامل أخرى خاصة متعلقة بكل مجتمع وأفراده.

ج ـ بعدما تكون سيرورة المكتسبات والمهارات والقدرات والكفايات والتعلمات والتجارب والخبرات مكنت المتعلم/ة صغيرا وراشدا كيفية الانصهار في مجتمعه على المستوى الأفقي بتشبعه وتمثله لمجموع قيم المجتمع وتقاليده وعاداته وأشكال وأنماط عيشه. وعلى المستوى العمودي باكتسابه هوية سياسية معينة توطن انتماءه وانتسابه للوطن والدولة، وتعزز مواطنته ووطنيته وولاءه لها ضمن الاندماج الاجتماعي الذي يشكل الأداة الطبيعية والسياق الحامل لتكامل وتكافل مكونات المجتمع من خلال الخدمات والوظائف المتبادلة بينها، بما يدعم ويعزز تماثل واتساق الأفراد والجماعات في الثقافة والفكر والشغل، وفي تحقيق المصلحة العامة والنفع العام. ومن خلال وعي الأفراد وتحملهم مسؤولية التعاطي مع المشاكل الاجتماعية وحلها، وتحسين الأحوال الاجتماعية للمجتمع بالمشاركة في تحسين أحوال المجتمع على مختلف الأصعدة والقطاعات والمجالات، بتوفير أسباب تجويدها وتحسينها وتطويرها بتنوع أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والبيئية والتشريعية والإنتاجية والتكنولوجية والصناعية... والعمل على تنفيذها في الميدان أو بحل مشاكلها إجرائيا في الواقع المعيش.

فالمتعلم/ة؛ كونه فردا مكونا للمجتمع تصبح له دلالة وجودية في المجتمع حين يكون فاعلا فيه، ولا عالة عليه، وهذا يتطلب من الدولة عبر المنظومة التربوية والتكوينية أن تقوم بتنشئة النشء اجتماعيا على مبادئ وقيم وهوية مستقلة حرة؛ إذ تعمل على برمجة مناهج تتضمن موارد مدرسية وأكاديمية تشتغل على تطوير الفهم المدني والحقوقي للمتعلم/ة الفرد المواطن، ووعيه بمجموع مسؤولياته، وتربيته على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيمه المتعارف عليها، وتمثلها في سلوكه وأدائه المهني والاجتماعي. ووعيه هذا يتأسس عبر المنظومة التربوية والتكوينية من خلال بناء مهارات وقدرات وكفايات التفكير الناقد عند المتعلم/ة الفرد المواطن، وتدريبه على ممارسة التفكير الناقد على مواضيع وقضايا حية كقول البعض على الملإ، وهو المفترض فيه تدريس التفكير المنطقي والقول الموضوعي والعلمي للنشء، ومن يؤسس في المجتمع مسؤولية القول ونتائجه والابتعاد عن الديماغوجية والمغالطات، ويشيد ثقة المجتمع به وبرسالته؛ لكن مع الأسف الشديد هو من يهدم صورته وسحنته وسماته وصفاته في المجتمع. ففي قولهم: " من فرض عليهم التعاقد " وهي مقولة متهافة من حيث لا تعبر عن الحقائق الميدانية والواقعية، ولا تملك من المنطق شيئا، ولا ترقى إلى العلمية والموضوعية في شيء؛ لأنها نابعة من كلام مغالط وديماغوجي وهمروجي يناقض الواقع في مواطن عدة، منها:

ـ التوظيف تم بمباراة عمومية حرة موجهة للعموم تحت سقف شروط معينة ومحددة، خارجة عن إطار الإجبار والإلزام، وداخل إطار من الاختيار؛

ـ اختياريتها تتجلى من خلال حرية المترشح في الترشح لهذه المباراة أو الإحجام عن ذلك؛ فهو حر ومستقل تجاه المشاركة في التباري؛

ـ المباراة لم تجبر أحدا كيفما كان على المشاركة فيها، ولم تأخذه بالعنف إلى ذلك، لأن لفظ " فرض " يحمل دلالة العنف المادي والمعنوي أو الرمزي في دلالته النووية هنا.

ـ حرية اختيار المشاركة في المباراة من عدمها قائم على وجود مباريات أخرى؛ من المفترض في المترشح أن يحجم عن المشاركة في هذه المباراة والتوجه نحو أخرى. فلو كانت هذه المباراة هي الوحيدة المتاحة في الوظيفة لكان مع هذه المقولة الصواب والصحة. ولكن في ظل وجود عدة مباريات ينتفي الفرض والإجبار عنها.

ـ مسؤولية المشارك هنا تقع عليه، وليس على الدولة؛ لأنه هو من شارك في المباراة بكل حرية واستقلالية، ولا يمكن له تحميل مسؤولية المشاركة للدولة. فذلك هروب منها وإلى الأمام بدل تحمل مسؤوليته وعواقبها.

وبناء على هذا؛ يجب التخلي عن هذه اللغة لأنها مشينة في حق كل مرب يبني الأجيال على التفكير السليم والمنطقي. فلا يمكن مسايرة منظمات نقابوية في تهشيم صورة المربي في المجتمع المتميزة. ويجب أن نسلك لغة مبنية على وقائع حقيقية وموضوعية تقف بذاتها مدافعة عن مواقفنا ومطالبنا وطموحاتنا، ومبررة لكل إجراء اتخذناه لأنها تقوم حجة دامغة عليه. فالتربية والتعليم والتكوين لا يقوم على المغالطات والهشاشة الفكرية التي في العقول الكبيرة تعرب عن ضعف الموقف والقرار والإجراء، وتحطمه من الداخل أمام الآخر محاورا كان أم خصما.

وفي نطاق تدريس التفكير الناقد تستطيع المنظومة التربوية والتكوينية أن تمكن المتعلمين/ت استيعاب وإدراك وفهم المعطيات والمعلومات المقدمة لهم، وتحليلها ومناقشتها ودراستها، وطرح الأسئلة النقدية عليها، في اتجاه تأهيلهم وتدريبهم على فحص المعطيات والمعلومات والبيانات... فحصا دقيقا ناقدا لاتخاذ قرارات مستنيرة في شأنها.

وبجانب التفكير الناقد، يمكن للمنظومة تدريب المتعلم/ة على المشاركة في الأنشطة المدنية العملية داخل المؤسسة التعليمية وخارجها المضمنة في المنهاج الدراسي كمحاكاة الحكومة، والمناظرات، والمشاريع المجتمعية، والأنشطة التطوعية والجمعوية والشبابية وزيارة المؤسسات المنتخبة فضلا عن تكوينه على المواطنة الرقمية، وتدريبه في سياق عصر المعلوميات والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والرقميات على مهارات وقدرات المواطنة الرقمية، التي تساعده على التعامل مع بيئة الإنترنت بمسؤولية وأخلاقية، تفهم وتستوعب الآثار الأخلاقية والاجتماعية للتكنولوجيات والرقميات. وتطوير التفكير النقدي للمعلومات الرقمية إزاء ذلك.

فالبعد التكويني التأهيلي المجتمعي للمتعلم/ة راشدا يلعب دورا مركزيا وحاسما في تطويره مواطنا مسؤولا أخلاقيا مندمجا في مجتمعه، يعمل على تنميته وتطويره، ويستشرف المستقبل ويعمل عليه، ويعي حاضره ومعطياته وحيثياته ويبني عليها ما يؤسس به رؤيته للآتي، ويدرك ماضيه مستفيدا منه لخدمة راهنه ومستقبله. وهو مؤهل يتكئ على مكتسباته المتنوعة وقدراته ومهاراته وكفاياته وكفاءته وعقله وتفكيرها، معتمدا على نفسه، واثقا منها ومن سداد خياراتها.

ـ للأمل محل وجود:

من واقع الحال؛ أجد المتعلم/ة جديرا بمنظومة تربوية والتكوينية جيدة وقوية بدل هذه الهشة، التي تعاني الكثير من المشاكل والقضايا والإشكاليات شديدة التعقيد والتشبيك. فهو في ظل الحالية لا يمتلك القدرة على النجاح بسهولة ويسر وسلاسة، لوجود اختلالات في العملية التعليمية التعلمية هندسة وتخطيطا وتنظيرا، وفي ترجمتها العملية الممارسة الصفية، التي تنتج فائضا من المنتوج التعليمي المعطل، ومعيب الاندماج الاجتماعي لفقدانه المهارات الحياتية سواء على مستوى الشغل أو على مستوى الوعي بأزمته التي يعيشها، والمؤثرة في سيرورة حياته سلبا. ولعل النظر إلى الشارع وما يجري فيه من أحداث ووقائع يعبر تعبيرا دالا عن فقدان خريج المنظومة التربوية والتكوينية بعده الإنساني تجاه الآخر، فلغة الشارع وما تتضمنه من خطاب هابط سوقي يعبر عن ذلك، واختلال الملك العمومي والاستحواذ عليه أمر ينبئك بنوعية التفكير السائد في المجتمع، وهو وليد التربية والتكوين والتنشئة الاجتماعية بالدرجة الأولى، والإعلام ووسائط التواصل الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات الثقافة والشباب... وغيرها. ولعل ما يؤازر هذا المشهد المؤلم مشهد أمراضنا الاجتماعية من المصلحجية والذاتية والإثنية والحزبوية والمحاباة والتحيزات بمختلف خوارزمياتها... يدل على مردودية المنظومة التربوية والتكوينية على مستوى الكفاية المعرفية وكفاية الفعل والكفاية القيمية. ومنه؛ فأملنا في المستقبل كبير من حيث اعتقادنا بأن إدامة الحال من المحال، والتغيير قانون رباني كوني يساير الوجود الإنساني في هذا الكون؛ لذلك فالتغيير وارد بطبيعة الوجود والتاريخ والحتمية الحضارية. يحدث قطيعة مع واقع منظومتنا التربوية والتكوينية، ويقودها نحو الجودة والمردودية الجيدة الفاعلة في المجتمع.

***

عبد العزيز قريش

ندرك تماما كيف نرى، وكيف نسمع، ولكننا لا نرى ولا نسمع بإدراك جوهر حقيقة الحاستين ..

إنهما معا يملكان الوجاهة والظفر بالأشياء. بيد أنهما لا يتفاعلان في اللحظة ذاتها، التي تنساق العاطفة المضمرة خلالها، إلى تحويل القضية إلى مجرد هوى، أو فكرة عائمة، أو حالة مفردة، خارج الذات ..

قد ترى أشياءك بغير هدى. وقد لا ترى ما تهتدي إليه.

ثم قد تسمع ما لا تحب وترضى، فلا ترفض مداواة الأذن الخؤون بطي الأحداق عن النظر بالقلب، لأن ذلك يفشي سر صبرك على قهر السوء.

أليس يقول الحكيم : الرمد أهون من العمى!؟

 ـ2 -

الاقتدارية ليست فلتة عقل. ولا حاجة لإطلاقها على وجه الاستنتاج الشخصي، المزاجي .. 

الاقتدارية، هي سبق لغوي ابستيمي. جهد فكري نوعي غير مغالط للإواليات والتشكلات في الوعي والحصائل المعرفية ..

فإذا أنت نظرت للاقتدار كونه تربصا أو حالة ظاهرة فردية، فمن العبث أن يحصل بذلك طفرة الاستحداث والتقابل الزمني والنفسي.

المقصود أن تفهم قبل أن تدرك المعاني والابعاد، لفكرة ما، بما يتضمن معاني النقد والتحليل والنظرة الموضوعية المحايدة وينضم الى ذلك معنى الرفض.

وإذا أدركت وتجردت وناورت وأقحمت النظر وسموت به مقام التكليف، فارفع قلق المعنى كي ترى ما ترى، ويقتعد بين شخصك وشيئك، هويتك .. 

هي ما يتبقى، وبعدها يموت فيك كل شيء، إلا اقتداريتك ( اليوطوبيا الروحية التي هي ملهمة الوجود وقدسية السيرورة)!  .. إنها حقيقة الجسم اللطيف المشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب .

 ـ3 -

لا تقل للجاهل شيئا. فأنت في ذمته إلى أن يموت في جهله.

وإذا انتقصك، فإنما يغلق عنك عداوته، كطلب اللذة بعد التعب، تخالفها لأنك تتشوق لمعاودتها، دونما حاجة لمعرفة غموضها.. طلب شاق، ولكنه منذور للتأمل والمكاشفة.

للجاهل أخلاق بلا إجابات، ونظر بلا فهم، وأشداق كثخمة الضباع، لا تستنفر اللسان إلا عند داعي العض والنهش.

هل تستكثر إذن أن يبوء الجاهل، بما بطن، وما حطب، وما استئذان؟

فأنت تخاطبه بالطبابة، وتشفق عليه، وهو ينازعك ويتهددك.

فاركع مستسلما أمام جهلك، كما قال جبران خليل جبران، فإنك إن علمت حقيقة نفسك، تكرشت نيتك، وخابت نوازعك، وتقصم الجنون الذي هو لجامك وانحدارك ..

قرأت في الأثر (أن الجاهل يظلم من خالطه، ويعتدي على من هو دونه، ويتطاول على من هو فوقه، ويتكلم بغير تمييز، وإن رأى كريمة أعرض عنها، وإن عرضت فتنة أردته وتهور فيها) .

وللحق، فقد تصايد الزمن نوادر من الجهال والجهالات، وأمعنت النظر فيهم، فهم يبَخِّلُونَ ويجبِّنُونَ، ويعتقدون الأشياء على خلاف ما هو عليه، كما يعدمون المعرفة بغير هدى..وهم إلى اضطراب العقل أقرب، وإلى الجفاء والتسافه والطيش أظهر.

وقديما قيل " لا ينتصف حليم من جهول"، وهو في قاموس المعاني، ما يضرب في غلبة الجهول للحليم، لأن الجاهل يزيد عليه في المهاترة، والحليم يربأ بنفسه من مغالبته في السفاهة .

نعم ، لقد صدق الشاعر إذ قال:

إذا بخَسَ الجُهّالُ قَدرَ فَضِيلَة ..

فلَيسُوا بها بالجاهِلِينَ فيُبْخَسَا

 ـ4 -

 .. يقولُ فيروِي صدَى جاهلٍ

 ويُعطي فيروي صدى حائم

السؤال : هل يكون حق الرواية بلسان الجاهل؟

وجه الغرابة، أن الرواة مقصودون بقيمة صحة روايتهم. فإذا طفقت من الشك، خرجت عن تداولها .

ثم الصدى الذي يتردد بقهر الجهل، هو عنوان التردية والتهويم.

فما بال الجهال لا يقطعون حناجرهم من غلبة البؤس وقلة الحياء، وبور اللغو، وسفاهة المنحدر؟

لأنهم إن أدركوا ألا أفظع من جهل فاعل، علموا أن القبح الروحي يبوء بالفراغ والحشا الدنيء، فلا يسوء به ناظره، ولا ينثن صالحا أبر.

وإذا بالصدى الجهلاني، البطلاني، الشروري، يرجع حوما وعقرا وشنارا، وصنيعة شنيعة مريعة ..

وإذا الرواية منه، قطعة من حوم، وشرعة في حقارة، وجرس عدم وندم؟

فلننظر، كيف يرثي القبح الجمال، فيصير العمى (القلبي البصائري) عذابا ونكدا، وسقوطا كاشفا مفضحا للجهل والغباء؟!، بل وجها للجنون، حيث يمني صاحبه النفس إن فعل ذات الشيء مرة بعد أخرى، أن يتوقع نتيجة مختلفة، فيخرق الأرض بالخيال ويبلغ السماء في النوم، ويلحق بالمارستان.

واعجبي ..

 ـ5 -

 - أقرب الناس إلى الفهم أولئك الذين يصمتون في كل الأوقات

المستلذون بأرواحهم. هؤلاء يتعلقون بالمحسوسات، ويستوعبون المعقولات، على اختلاف درجات الإِدراكِ وصفاء التصَوُّر.

فالصمت ليس صورة للحكمة، ولكنه وعاء لجماع مقالها، ونطاق مؤنس لفرزها عن التيه والجنوح إلى الإطلاق .

ويقاس الفهم عند الصمت بإدراك الغاية. وإذا اكتفيت وهديت سرى بين النطق وفكره، سداد أو طمر نظر، أو وحي من قبس الخيال ..

فلا تستطيع الفكاك، من الورد الذي يعكسك، اناك المطمورة  في برك الشك، ممزوجا بيقظة عين ذئب في براري الهلاك ..

أين منا ذاك الصمت الطفولي، الذي يقتدر خلخلة الأصوات المزهوة بامتلاء ساقيها؟

صموتا خالصا لا يخالط معنى ولا مبهما؟

كأنما هو صمت المعري، (نطق، يظهر كامنا، ويقرر)

من وجه الكفاية عندما يكون من غاية الصمت ثراء الروح وقيمة الخلاص من الاهواء؟

ومن الأنانية أن نخضع للكذب، ونذعن له، فهو كنخرة الريح الشديدة، تبرد بعد عصف مكين وجعرة نكس سافرة.

سرعان ما يتهددها الألم، في غياب حجاب الصمت وناموسه العظيم على النفس والبدن.

كنت أقرأ بفرادة حكمة آرثر شوبنهاور وهو يبارز هذه الدمغة ( إن الأنانية تثير قدرا من الرعب، بحيث إننا اخترعنا السياسة لإخفائها، ولكنها تخترق كل النقب وتفضح نفسها لدى كل مصادف)؟

المشكل أن عوائل الصمت الذكية، حتى تلك التي تمرق في أرض جرباء، لا تستطيع ان تسلخ لحم فريتها عن فعال الحقيقة.

***

د مصطفى غلمان

 

بقلم: أكانكشا سينج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد اكتسح علم فراسة الدماغ الزائف المخيلة الشعبية، وجعل ممارسوه يستغلون التحيزات والسذاجة والمعلومات المضللة.

في وقت ما، اعتقد الناس أنه يمكنك التأكد من شخصية الشخص وسماته الشخصية من خلال فحص نتوءات وأشكال جمجمته. كانت هذه الدراسة تسمى علم فراسة الدماغ، ولم يكن مؤيدوها مجرد أشخاص على الهامش؛ يعتقد العلماء الراسخون أن مثل هذا "العلم" له ميزة.2090 Akanksha Singh

"في الأصل كان [علم فراسة الدماغ] طبيًا بشكل واضح"، كما كتب روبرت إي. ريجل في مقال نشر عام 1933 في المجلة التاريخية الأمريكية. "إن منشئه هم الأطباء فرانسوا جوزيف غال وجون غاسبار سبورزهايم، الذين قاموا بالجزء الأكبر من عملهم في العقدين الأولين من القرن."

حصل غال على درجة الدكتوراه في عام 1785 وأصبح "طبيبًا خاصًا ناجحًا وذو علاقات جيدة في فيينا"، كما كتب جون فان وايهي في مقال في المجلة البريطانية لتاريخ العلوم. ومن المفترض أنه رفض عرضًا بأن يصبح الطبيب الشخصي للإمبراطور فرانز الثاني "للحفاظ على استقلاله"، ووجد الإلهام في نظرية "ازدواجية العقل والجسد" التي طرحها الفيلسوف يوهان جوتفريد فون هيردر. بعد ذلك، شرع غال في إثبات هذه النظرية - القائلة بأن العقل والجسم مرتبطان - وقام بجمع الجماجم البشرية والحيوانية، وصنع قوالب شمعية للأدمغة وأسطح الجماجم، وأصبح "شخصًا مشهورًا محليًا" بسبب مجموعة الجماجم التي جمعها (العدد 300). ولم يمض وقت طويل حتى اتهمت الحكومة جال بتعريض الأخلاق والدين للخطر، ومنعته من إلقاء محاضرات حول هذا الموضوع. وفي إحدى هذه المحاضرات التقى سبورتسهايم بجال. بدءًا من عام 1804، تعاون الاثنان لمدة ثماني سنوات تقريبًا حتى بدأ سبورتسهايم في تقديم وجهة نظره الخاصة حول النظام وأطلق عليه اسم "علم فراسة الدماغ" من كلمة phren، وهي الكلمة اليونانية التي تعني "العقل".

بينما كان سبورتسهايم يقوم بجولة في بريطانيا - سلسلة من محاضرات المشاهير - وجد  علم فراسة الدماغ موطنًا جديدًا. الجميع من شارلوت برونتي وجورج إليوت إلى آرثر كونان دويل اهتموا بها. بين عامي 1823 و1836، أنشأ علماء فراسة الدماغ أربعًا وعشرين جمعية متخصصة تضم 1000 عضو، ونشروا سبعة وخمسين كتابًا ومنشورًا، يصل عددها إلى 64250 مجلدًا.2091 Akanksha Singh

في عام 1836، توقع هيويت واتسون، عالم النبات البارز (ولاحقًا عالم فراسة الدماغ) أن الرافضين في المستقبل سيكونون موضع سخرية. كتب واتسون: "سوف تُمنح الشفقة العامة مجانًا لمناهضي فراسة الدماغ". "[A] علم الفرينولوجيا المضاد سوف يكون موجودًا في آخر انحطاط العمر [...] سيكون موضوعًا لمؤرخي الأشياء التي لم تعد موجودة."

علاوة على ذلك، كان علم فراسة الدماغ مدعومًا من قبل أشخاص يقدرهم واتسون، بما في ذلك رئيس أساقفة دبلن الأنجليكاني، ريتشارد واتلي، الذي أعلن أن "علم فراسة الدماغ صحيح لأن.. الشمس الآن في السماء".

المفارقة ذكية. ومع ذلك، ازدهر علم فراسة الدماغ لفترة من الوقت. وفي عام 1850، قامت الملكة فيكتوريا والأمير ألبرت بدعوة عالم فراسة الدماغ جورج كومب إلى القصر لقراءة رؤوس أطفالهما. قام كومب - الذي قدم علم فراسة الدماغ إلى الطبقات الوسطى البريطانية في عشرينيات القرن التاسع عشر من خلال جولات محاضراته - بدراسة أمير ويلز، إدوارد السابع. عندما كان الأمير في التاسعة من عمره، كان أداء الأمير  سيئًا في دراسته. وفي وقت لاحق، تم تعيين عالم فراسة الدماغ كمدرس للأمير ألفريد، الابن الثاني للملكة فيكتوريا.

من جانبهم، يعتقد علماء فراسة الدماغ أن السمات السلوكية المجردة، بما في ذلك الحزم والأمل والسمو والتدمير،"تم وضعها في تلافيفات محددة على سطح الدماغ، وأن تمثيل هذه السمات يمكن الاستدلال عليه عن طريق ملامسة الجمجمة". هكذا كتب جيمس آش في مراجعة ربع سنوية لعلم الأحياء.

على الرغم من أن علم فراسة الدماغ انتشر إلى حد كبير من خلال جولات المحاضرات المبهرة، إلا أنه لم يمض وقت طويل قبل أن يقوم أساتذة الجامعات بتدريس هذا العلم الزائف لطلاب الطب إلى جانب علم التشريح. استخدم علماء فراسة الدماغ في المقام الأول أشرطة القياس ومقاييس القحف - وهي أدوات نصف دائرية لقياس الجمجمة - بالإضافة إلى الفرجار للوصول إلى تشخيصاتهم. ومع ظهور الكهرباء، استخدم بعض علماء فراسة الدماغ "مخططات الدماغ"، وهي خوذات دائرية يمكنها أخذ "قراءات" الجماجم.

قام جورج كومب بتقسيم الجمجمة إلى 33 "عضوًا" أو منطقة، يرتبط كل منها بخاصية مختلفة. على سبيل المثال، العضو الأول – الجزء الخلفي من رقبتك – يشير إلى الدافع الجنسي، في حين أن المنطقة 23 – فوق الحاجب – تشير إلى لون البشرة ودرجة اللون. ومن هنا جاء مصطلح "المثقف" ليعكس التفوق الفكري.

ولهذا السبب أيضًا ترتبط دراسة أشكال رؤوس الناس ونتوءاتها وانحناءاتها بالمعتقدات العنصرية والجنسية والطبقية. ازدهر علم فراسة الدماغ في ذروة الإمبراطورية البريطانية، وهي قوة عرفت إلى حد كبير باعتمادها على الخنوع والاستعباد. وقد ساعد توظيف "العلم" الذي أدى إلى إدامة الأساطير حول التفوق الأبيض في تبرير إمبريالية هذه الدولة.

وفقًا لمقال في مجلة الأطلنطى، فإن الكلمات الأخرى التي تعود أصولها إلى علم فراسة الدماغ تشمل "ينكمش" ("لتقليص الرأس للتحكم في الخصائص "غير المرغوب فيها" أو تقليلها")،و"مغرور" (متعجرف)، و"متشدد/ عنيد".

في نهاية المطاف، انهار علم فراسة الدماغ بسبب افتقاره إلى الدقة العلمية. "بعد وفاة الشخصيات الأولى في الحركة...  وكما كتب روبرت إي. ريجل:  " لم يتم إنفاق سوى القليل من الوقت على البحث العلمي اللازم، على حين  قضى [علماء فراسة الدماغ] الكثير من الوقت في وضع مذاهب فراسة الدماغ وتطبيقها على التعليم والزواج والعلاقات العرقية."2092 Akanksha Singh

في الزواج، على سبيل المثال، لوحظ أن "الزوجة والأم المخلصة" كان لديها انحناء واضح في الجزء الخلفي من رأسها ورقبتها، في حين أن "العاشقة للأطفال التي ليس لديها أطفال" لم تكن كذلك. ومن المثير للاهتمام أن هذا أدى إلى ظهور اتجاهات مختلفة في تسريحات الشعر والمبالغة في السمات الجذابة من الناحية الفراسية في الفن، بما في ذلك أعمال النحات هيرام باورز.

ومع ذلك، ومع انحساره في إنجلترا، وجد حياة جديدة في الولايات المتحدة. في وقت مبكر من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لاحظت هارييت مارتينو أنه عندما جاء سبورتسهايم إلى نيو إنجلاند، "أصبحت جماهير المجتمع علماء فراسة في يوم واحد".

نظرًا للادعاءات التي قدمها علم فراسة الدماغ حول التفوق العنصري الأبيض، فقد  تبني علم فراسة الدماغ في أمريكا ما قبل الحرب، كما كتب بيتر ماكاندلس في كتابه رحلة التاريخ الجنوبي. "أحد تلاميذ [سبورزهايم]، الدكتور جوناثان باربر، سرعان ما جلب الإنجيل إلى تشارلستون ومدن جنوبية أخرى." في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، كقصيدة لشهوتهم الخاصة للفكر في هذا المجال.

في الولايات المتحدة، كان علم فراسة الدماغ يعتبر أداة لتحسين الذات. ومن بين علماء فراسة الدماغ الأمريكيين المشهورين الأخوين فاولر، ووالت ويتمان، ولورنزو نايلز، وأورسون سكواير،الذي قام السابق منهم بـ "فراسة" الشابة كلارا بارتون. وعن بارتون، التي أصبحت فيما بعد ممرضة ومؤسس الصليب الأحمر الأمريكي،قالت ن. فاولر: «إنها لن تؤكد نفسها أبدًا. . . لكن بالنسبة للآخرين ستكون شجاعة تمامًا. إلقاء المسؤولية عليها." سيتم نقل التشخيص المفسر للفراسة في مقالات المجلات ومذكرات بارتون الخاصة.

ومع ذلك، كما هو الحال في إنجلترا، تراجع نجاح علم فراسة الدماغ في الولايات المتحدة بسرعة يقول ماكاندلس: "إن النجاحات الشعبية التي حققها العلم تقوضه". يتطلب تطوير المنهجيات العلمية وتطويرها أكثر من مجرد خريطة للجمجمة.بينما ساد العلم، أصر علماء فراسة الدماغ إلى حد ما، كما يكتب ريجل، على استغلال اليائسين والقابلين للتأثر. ويشير إلى أن نهاية علم فراسة الدماغ أدت إلى ظهور "عالم فراسة الدماغ العملي"

يقول ريجيل:

- لقد سعى هذا الممارس غير المدرب في كثير من الأحيان إلى الاستفادة من العلم الجديد وجعله يؤتي ثماره؛ لقد كان عرافًا .

(انتهى)

***

.........................

* الكاتبة: أكانكشا سينج/  Akanksha Singh صحفية وكاتبة تقيم بين مومباي بالهند ولشبونة بالبرتغال. ظهرت أعمالها في قنوات الجزيرة، وبي بي سي، وسي إن إن، ومجلة لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس وغيرها.

بسبب حالة الفوضى التي تعم وجودنا الإسلامي، أرى أن الباحثين الجادين المحايدين والعلماء المتخصصين يجب أن ينتقدوا ويفككوا ويدرسوا الإشكاليات المتعددة، ويقترحوا النتائج، وأن يضعوا ما يرونه صائبا من الحلول المستخلصة عن طريق البحث العلمي الرصين أمام الملأ دفاعا عن الإسلام ومن خلاله دفاعا عن الإنسان؛ فكلاهما صار لونه باهتا بسبب كثرة المماحكات الداخلية والخارجية، وعلى الإسلام المعاصر بجميع نسخه والمسلمين ألا يتطيروا من النقد البناء، لأننا على يقين تام أن موت الفكر النقدي العلمي المحايد الحر يُعدُّ من أكثر الأسباب التي تدفع البلدان والحضارات والأديان إلى التخلف أو الجمود والتأخر عن اللحاق بركب التحضر، وهي العوامل التي تتيح للانحياز المذهبي والطائفي قدرة التحكم في علاقات الفرق مع بعضها، وتدفعها للخوف من الآخر، والشعور بأنه منافس خطير وليس شريكا في الوجود وأخا في الإنسانية.

إذ لا ينكر أننا نعيش اليوم أزمة فكرية تحولت إلى إشكالية صعبة جعلت اللاهوت الديني/ السياسي، وأقصد به لاهوت الطوائف والمذاهب والفرق والجماعات والولاءات الفرعية التي ولدت بتأثير سياسي بحت هي الحاكم المتحكم بمصائر ديننا وحياة شعوبنا، في وقت يستنتج العاقل فيه أننا كمسلمين وديننا معنا بكل فرقه وطوائفه يمر بأخطر مرحلة تاريخية بعد أن وضَعَنا أعداؤنا شاخصا للتصويب، ولا ينتظر الرامي سوى اعتدال درجة الريح وتوافقها معه لكي يصوب علينا ويصيبنا في مقتل، بمعنى أننا نقف اليوم بعين الخطر، وهو خطر حقيقي يختلف عن جميع تلك المخاطر التي مرت بنا من قبل، وإذا لم نستعد رباطة جأشنا، ونعيد النظر بحساباتنا، ونبدأ بإعادة تقييم مسلماتنا العقدية الموروثة لغرض تنقيتها من كثير من الدرن الذي تلبَّسها تاريخيا ومرحلياً لأسباب قد لا يكون من بينها ولو سببا دينيا حقيقيا واحدا، فمن المؤكد أننا سنخسر الكثير، وربما نخسر كل شيء، وإذا كنا نحن الخاسرين، فسيخسر العالم معنا معناه وقيمته وإنسانيته، فنحمل وزرنا ووزر من تسببنا في خسارته يوم نقف أمام الله تعالى، ولا نملك عذرا نقدمه في دفاعنا عن أنفسنا.

ومن نافلة القول التذكير بأن ما حدث من قبل وما يحدث الآن كان تقصيرا، وأن هذا التقصير كان ممنهجا منذ ساعات ولادته الأولى، ولا يمكن بأي حال من الأحوال استثناء أحد من مغبة ما حصل، إذ لا زالت مدارسنا الفقهية ومذاهبنا وفرقنا منذ ساعات تأسيسها الأولى ولحد الآن تضع الأحكام الفقهية لتكون بالضد من الآخر، وتلقي اللوم على بعضها لتبرئ نفسها، رغم أنها جميعها اشتركت في جريمة تفريق الأمة، سواء عن قصد وتعمد، أو نتيجة التحيز الفرقي، أو جهلا، أو طيبة، أو تعبدا، وكل فرقة منها تدعي بأنها الكاملة والناجية؛ والعيب في غيرها، وهذا كله يقع ضمن إطار ما يعرف بالإسقاط السيكولوجي، وهو أن ينسب الإنسان ما به من عيوب إلى الآخرين، لكي يخفف من الضغط النفسي للمشاعر الحادة التي تسببها عوامل الإحساس بالنقص. وحتى من لم يمارس هذه اللعبة منهم، وأنَفَ أن ينحاز لأحد، نجده قد ترك الإيمان بثلاثة أرباع دينه، وأعتنق دين نظرية المؤامرة التي جعلته يشك حتى في نفسه، حتى لو كان على يقين تام أنها تعرقل إمكانيات العقل في الوصول إلى مراحل التفكير العلمي المثمر المنتج الجاد.

وبين هذا وذاك جاء كم الفتاوى المرعب ليلقي أكداسا من الوهم والتشتت والحيرة على عاتق المسلم البسيط الذي أجهد نفسه في ملاحقة مخرجات تلك الفتاوى المتشابكة دون أن يتمكن من استيعابها، بسبب كثرة تفرعاتها وتنوع آرائها وتعارض مناهجها، فالوقت الذي صرف على استنباط تلك القواعد والأحكام وكتابتها والتثقيف على مضامينها وترسيخها في الأذهان، لم يشغل العلماء وحدهم في أمور ثانوية، ويلهيهم عن متابعة الجوهر فحسب، بل حرم الأمة فرصة توظيف ذلك الوقت الثمين إيجابا، والإفادة من المعطيات المتحصلة من أجل التقدم والتحضر والتمدن أيضا، بدل أن تبقى الأمة مشتتة تحت رايات ـ يخيل إليَّ ـ أنها تحولت من رايات علم وإيمان إلى رايات يحمل صواريها جنود مهيؤون لخوض نزالات مميتة مع أبناء عمومتهم وإخوتهم ورفاق دربهم الإنساني بسبب التنافس لا أكثر.

والذي يدفعني مجبرا لمناقشة هكذا مواضيع جدالية مأزومة قد يراها بعضهم فجة، هو قول نيتشه: "يبدو لي أيضا أن الكلمة الأكثر فجاجة، والرسالة الأكثر خشونة، تظل أكثر فضلا وأكثر شرفا من الصمت. فأولئك الذين يركنون إلى الصمت هم الذين يفتقرون دوما إلى اللياقة وسماحة القلب". أقول هذا لأني أشعر بكمية حزن مهول حينما أسمع داخل البلد الواحد وربما داخل المدينة الواحدة أنماطا مختلفة من صور الأذان على سبيل المثال، بدل تلك الصورة البهية التي تدل على أنه صوت السماء وهبه الله تعالى للأرض، لكي تطمئن به النفوس التي تتهيأ للوقوف بين يدي الله تعالى ليعمها الاطمئنان والأمن والسلام.

وفي سعينا البسيط هذا نحاول التوصل إلى السر الذي جعل المسلمين يختلفون في هذه الشعيرة (الأذان) إلى درجة التشظي وصعوبة الالتقاء، لتكون اللبنة الأولى في مشروع الإصلاح المأمول، عسى أن نتمكن من تشخيص أثر خلافهم المستمر على وحدة الأمة وتقارب رؤاها. فنحن لا نقف اليوم أمام أعداء مؤدلجين للإسلام فحسب، بل نقف أمام ثقافة راسخة الجذور؛ لا تعترف بالرب الخالق، يتم الترويج لها على قدم وساق، نعم هي ليست بالفكرة الحديثة ولكن عمل بعض الفلاسفة الملحدين عليها حولها إلى مشروع ثقافي معاصر هدام يثابر على تغيير القناعات ويثبط الهمم، وكان فيورباخ أحد أشهر من عمل على هذا المشروع، ويمكن تلخيص رؤيته بأنه اعتقد "أن الله هو نتيجة لتجريد الإنسان من سمات الطبيعة البشرية فيه، فقد حاول البشر تحقيق مثلهم العليا، وصفات الكمال فيهم، ونظرا لعدم تحققها كاملة في كائنات بشرية محددة، ورغبة في تجسيد هذه المثل، خلقَ البشرُ اللهَ". فالله على رأي فيورباخ من صنائع البشر، وهذا مخالف لجميع الأديان السماوية والأديان الأخرى، وحتى للحضارات الإنسانية، وقد ترك أثره على الثقافة المسيحية بشكل مباشر، فغير الأعم الأغلب من قناعاتها العقائدية، ونجح في التأثير على بعض كبير المسلمين؛ الذين لا زالت أعدادهم تتزايد، وترك تأثيرا بدرجة أقل كثيرا على اليهود الذين ينمازون بقدرتهم على التمسك بموروثهم لا تدينا بل تعصبا قوميا.

المهم أن هذه الثقافة لا زالت تنمو وتتطور في الواقع الإسلامي لأنها وجدت بيئة صالحة أمدتها الفتاوى الكيدية بعوامل الرعاية، وأعتقد أنها ستضع الإسلام في المستقبل القريب أمام امتحان عسير إذا لم نتهيأ منذ الآن للتصدي لها من خلال تقليص جزئياتنا التعبدية والتركيز على القواعد الأساسية، وأهمها وحدة المسلمين في كل مكان، تلك الوحدة التي لا يمكن أن تتحقق إلا إذا ما تخلينا عن ثقافة "الاختلاف رحمة"، هذه الثقافة سيئة الصيت، وأسسنا لثقافة "وحدة الكلمة رحمة". وهذه مسؤولية الجميع بلا استثناء، فكلنا مسؤولون وسنُسأل ولن تنفعنا أعذارنا، فلطالما تعللنا بأننا لم نكن في المكان المناسب، لكي نُظهر قدراتنا، ولطالما كانت هذه حججا نسوقها لنداري بها عجزنا وفشلنا، فالرجل الناجح برأيي هو من يشعر أنه تماما حيث يفترض أن يكون، وأن ما يقوم به، أو ينوي القيام به ليس أمرا تافها، بل هو جزء مهم جدا من مهمات تغيير العالم نحو الأفضل.

لقد منحنا الله تعالى طاقة كبيرة، وأوكل إلينا مهمة التصرف بها في فعل الخير أو فعل الشر، وأعطانا عقلا يميز أفعال تلك الطاقة لنمايز بين حسنها من قبيحها، وترك لنا حرية الاختيار، وعليه يجب أن تدرك أن هناك فرقا كبيراً بين أن توظف طاقتك للتدمير أو توظفها للتدبير والتعمير، ومن لا يميز بين الاثنين هو والحيوان الأبكم سواء. أما الذين يقفون بوجه حركة الإصلاح فمصيرهم الخذلان، لأنهم يحاولون الوقوف بوجه ثورية الدين، فالدين ثورة، وكل رسالة دينية تتخلى عن ثوريتها تفقد قيمتها، ومن يسهم في ضياع روح الثورة في الدين من أبنائه هم أعداؤه الحقيقيون، ويجب التصدي لهم بالعقل والمنطق والكلمة الطيبة قبل العدو ظاهر العداء، وأنا هنا لا أدعو للعنف، وإنما أعمل من أجل تصحيح الانحراف ونبذ العنف، وتعديل الميلان بالحكمة والعقل والمنطق والعلم، عسى أن يعود الذين ابتعدوا عن الأصل إلى الطريق القويم، ومن يرفض منهم الانصياع نتعاون لإصلاحه، لأن بقاء هؤلاء يجرد الأديان من ثوريتها، وفقدان الأديان لثوريتها يفقد الحياة قيمتها، ولا يمكن للدين أن يمارس الثورة إلا من خلال تجديد العقل الفقهي وإخراجه من مرحلة الإطلاق المنغلق المحاط بقدسنة سجن الموروث، ليؤمن عن قناعة ويقين أن الكثير من الأحكام، وكل ما يتعلق بها يخضع شئنا ذلك أم أبيناه إلى الظروف المحيطة، وأقصد بها الظروف الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وحتى سنن العادات والسلوك الفردي والجمعي، وبالتالي يخضع لكل التبدلات التي تقع.

وأعود وأذِّر بأن مخرجات الواقع الإسلامي المعاصر مجتمعيا وجغرافيا وسياسيا وضعت الدين في مرحلة حرجة وسطى بين القمة والعلياء؛ والسفح المتعرج المظلم، فإما أن يجد من يدفعه ليسقط في ظلمات التيه الأبدي، أو أن يشمر العقلاء المخلصون عن أياديهم ويشحذوا عقولهم لإحداث ثورة تصحيح ديني، تجعل للدين وهجا ينير درب الإنسانية المعذبة؛ التي ستشعر هي الأخرى بأنها جزء من هذا التغيير.

***

الدكتور صالح الطائي

بقلم: ليلى بو

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

من الثابت أننا نستوعب بشكل أقل عند القراءة على الشاشة. لكن لماذا؟ وهل يمكننا أن نفعل شيئًا لتحسين قرائتنا على الشاشة ؟

القراءة فعل شائع جدًا لدرجة أنه من الصعب تقدير حجم التحدي الذي تشكله على العقل البشري. عندما تقرأ هذه الجملة، فإنك تستخدم الأشكال المرئية للكلمات للوصول إلى معانيها ونطقها من الذاكرة، ثم تستخدم هذه المعلومات، والأنظمة العصبية التي تطورت للغة المنطوقة، لبناء وحدات أكبر من المعنى: العبارات والجمل والحديث الموسع. والقراءة اختراع ثقافي حديث نسبياً؛ فدماغنا لم يتطور ليقرأ. فقط بعد سنوات من التعليم والممارسة يتعلم الناس تنسيق أنظمة الدماغ اللازمة لدعم القراءة الماهرة. وهذه العملية صعبة بطبيعتها، كما يتضح من حقيقة أن نسبة كبيرة من الناس يكافحون من أجل تحقيق إتقان القراءة على الرغم من تمتعهم بذكاء عادي وفرص للتعليم.

توقف الآن وفكر في كيفية قراءتك لهذا المقال. من المؤكد أنك تستخدم جهازًا رقميًا مثل الكمبيوتر أو الهاتف الذكي أو الجهاز اللوحي أو القارئ الإلكتروني. هذه الحقيقة البسيطة تستحق التأمل، لأنه في العقد الماضي فقط أصبحت التكنولوجيا المطلوبة للقراءة الرقمية منتشرة في كل مكان. أدى هذا التحول من قراءة الكثير من الكتب والمجلات والصحف التقليدية إلى الوسائط الرقمية إلى إحداث تغيير واضح واحد على الأقل: فقد وضع ثروة المعلومات التي جمعها جنسنا البشري تحت تصرفنا المباشر. وقد أثر هذا على كيفية استخدام الأشخاص للمعلومات، ومن الأمثلة على ذلك أن قراء المحتوى الرقمي يجب أن يمارسوا التفكير النقدي لغربلة كميات المعلومات التي في متناول أيديهم.

في ضوء هذه التغييرات، قد يتساءل المرء ما إذا كان استخدام الأجهزة الرقمية قد أدى إلى تغيير طبيعة القراءة أو جودتها، وكيف ؟. ربما لاحظت، على سبيل المثال، أنه يبدو من الصعب عليك التركيز عندما تقرأ شيئًا ما عبر الإنترنت مقارنةً بقراءة كتاب مطبوع. هل يُحدث فرقًا بالفعل ما إذا كنت تقرأ قطعة من الكتابة على جهاز كمبيوتر محمول أو على قطعة من الورق؟ لقد قمنا مؤخرًا بمراجعة الأبحاث العلمية التي تتعلق بهذا الموضوع، وبناءً على هذه النتائج، يمكننا تقديم بعض الإجابات المحتملة.

لنبدأ بالنظر في النصوص المستخدمة للقراءة والكتابة. تختلف هذه الأنظمة عبر الثقافات، كما توضح المقارنة بين اللغة الإنجليزية والصينية المكتوبة. ومع ذلك، على الرغم من الاختلافات الكبيرة بين النصوص، فإن العمليات العقلية الكامنة وراء القراءة تبدو متشابهة بشكل ملحوظ. ولعل أفضل دليل على ذلك يأتي من تجارب تصوير الدماغ التي تظهر التقارب في المناطق القشرية التي تدعم قراءة لغات مثل الإنجليزية والصينية. يوضح هذا البحث أن نفس المناطق تشارك في المعالجة البصرية للكلمات المطبوعة ومن ثم استخدام معاني تلك الكلمات لبناء معاني العبارات والجمل.

بناءً على هذه النتائج، يمكن للمرء أن يتوقع أنه لن تكون هناك اختلافات كبيرة بين قراءة النص الورقي والنص الرقمي. ففي نهاية المطاف، إذا كانت النصوص المختلفة لها تأثيرات ضئيلة على كيفية قراءتنا، فلماذا يكون للطريقة التي يتم بها عرض النص أي عواقب على كيفية قراءته وفهمه؟ ولكن هناك نتائج  بحثية تجريبية تشير إلى خلاف ذلك.

أحد هذه النتائج هو تأثير دونية الشاشة. وكما يوحي الاسم، يشير هذا التأثير إلى دليل على أن النص المقروء على الشاشة الرقمية، في حالة تساوي الأمور الأخرى، يكون مفهوما بشكل أسوأ من نفس النص المقروء على الورق. إذا كنت تقرأ هذه المقالة عبر الإنترنت، على سبيل المثال، فقد يكون فهمك لمحتواها (على الأقل إلى حد ما) معرضًا للخطر. بعد قراءة المقالة، قد تتمكن من الإجابة بدقة على الأسئلة حول جوهرها، ولكن ليس بالضرورة أن تكون قادرًا على الحديث عن التفاصيل كما لو كنت قد قرأتها على الورق. وقد تم التحقق من هذا العامل المؤثر عبر لغات وأنظمة كتابية مختلفة، مما يشير إلى قوته.

ومع ذلك، فقد قدمت بعض الدراسات أدلة على أن حجم هذا التأثير يتأثر بعدد من المتغيرات. أحد هذه المتغيرات هو طبيعة النص: يبدو أن فهم النصوص السردية (التي ينغمس فيها القراء في القصة) أقل تأثراً بكيفية عرض النص، مقارنة بفهم النصوص التفسيرية. لذا، إذا كنت تتعامل مع رواية مشوقة بدلاً من دراسة كتاب مدرسي، فمن غير المرجح أن يتأثر فهمك للنص بكونه موجودًا على الشاشة أو مطبوعًا. هناك متغير مهم آخر وهو مقدار الوقت المتاح للقراءة، حيث يكون تأثير دونية الشاشة أكبر عندما يكون القراء تحت ضغط القراءة السريعة. إذا كان عليك قراءة شيء ما بسرعة كبيرة، فمن الأفضل أن تقرأه مطبوعًا. هناك بعض الأدلة على أن مهارة القراءة تعد متغيرًا مهمًا أيضًا، حيث يكون تأثير الدونية أمام الشاشة أكثر وضوحًا بالنسبة للقراء الأقل مهارة.

تشير إحدى الدراسات في عام 2020 إلى أن تأثير دونية الشاشة قد يزيد من تعرض القراء للمعلومات الخاطئة، مما يجعلهم أقل عرضة لملاحظة التناقضات المهمة في محتوى النص الذي يتم عرضه رقميًا. والنتيجة العملية الواضحة هي أن الناس قد يكونون أكثر عرضة للتضليل من خلال ادعاءات كاذبة يقرؤونها على الإنترنت - حيث يمكن العثور على الكثير من المعلومات الخاطئة (إن لم يكن معظمها) في هذه الأيام.

ما تزال أسباب تأثير دونية الشاشة غير مفهومة جيدًا. وقد يعكس جزئيًا جفاف العين والتعب البصري الذي ينتج أحيانًا عن القراءة على الشاشات. ولكن يمكن أن يكون التأثير أيضًا مرتبطًا بكيفية تحكم القراء في أفكارهم وسلوكياتهم. وفقًا لهذا الرأي، نظرًا لأن معظم القراءة الرقمية تتضمن الحصول السريع على المعلومات من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي والمقالات الإخبارية القصيرة ورسائل البريد الإلكتروني عبر الإنترنت، يفشل القراء في تقدير أن القراءة  السطحية  للغاية الكافية لفهم جوهر هذه النصوص القصيرة والبسيطة لن كافية لفهم النصوص الطويلة الأكثر صعوبة أو تعقيدا.

ومن خلال هذا الاعتبار، يعكس تأثير دونية الشاشة سوء تطبيق إحدى استراتيجيات القراءة (قراءة النصوص القصيرة والبسيطة) على موقف آخر غير مناسب (قراءة نصوص أطول وأكثر تعقيدًا). على سبيل المثال، قد يتجاهل القراء الذين يقومون بالتصفح السريع الكلمات الوظيفية الأقصر (مثل "a" و"the") التي تلعب في الغالب أدوارًا نحوية مهمة ، وبدلاً من ذلك يركزون انتباههم على كلمات المحتوى الأطول التي تميل إلى نقل المعنى الأكبر. على الرغم من أن استراتيجية القشط هذه قد تكون كافية لفهم جوهر النص القصير، فإن أي معلومات مفقودة عن طريق تجاهل الكلمات الوظيفية من المتوقع أن تؤدي إلى سوء فهم النصوص الأطول والأكثر تعقيدًا، حيث تكون الأدوار النحوية مطلوبة لمعرفة "من فعل ماذا ولمن.

هناك بالفعل سبب للاعتقاد بأن القراءة تنطوي على استخدام أنواع مختلفة من الاستراتيجيات. يأتي أحد مصادر الأدلة المقنعة من مثال شائع آخر للقراءة الرقمية: قراءة الترجمات في الأفلام والتلفزيون. يستخدم الكثير منا الترجمات لمشاهدة الأفلام أو البرامج باللغة الأجنبية، وقد أصبح استخدامها أكثر انتشارًا منذ بداية جائحة كوفيد-19- لا سيما في مجال التعليم، حيث غالبًا ما تحتوي مقاطع الفيديو التعليمية عبر الإنترنت على ترجمات. في مواقف القراءة متعددة الوسائط هذه، يجب على الأشخاص تنسيق قراءتهم للترجمات المصاحبة (التي يتم عرضها لفترة زمنية محددة) مع المعالجة المطلوبة أيضًا لفهم الفيديو والمعلومات السمعية.

في تجربة أجريت عام 2020 توضح كيفية قيام الأشخاص بذلك، تتبع الباحثون حركات أعين القراء أثناء قراءتهم للترجمات المصاحبة في فيلم وثائقي. مع زيادة معدل عرض الترجمة من 12 إلى 28 حرفًا في الثانية، قام القراء بتعديل سلوكهم استجابةً لانخفاض الوقت المتاح لقراءة الترجمة. تضمنت هذه التعديلات القيام بحركات عين تقدمية أوسع، وحركات عين تراجعية أقل نحو مناطق الترجمة السابقة، وأوقات مشاهدة أقصر للكلمات الفردية في الترجمة. تشير عمليات المحاكاة باستخدام نموذج حاسوبي للتحكم في حركة العين في القراءة إلى أن هذه التعديلات هي استراتيجية تعويضية، وأن هذه الاستراتيجية تستخدم لفهم جوهر الترجمة إما عن طريق تجاهل الكلمات الوظيفية القصيرة (كما ذكرنا سابقًا) أو السماح فقط بأقصى قدر ممكن من الوقت لتحديد الكلمات الفردية.كما تشير هذه العروض التوضيحية إلى أن القراء يحاولون تكييف سلوك القراءة "العادي" لديهم لاستيعاب أي متطلبات إضافية قد تفرضها القراءة الرقمية.

ماذا تقترح مثل هذه النتائج حول مستقبل القراءة في عالم مليء بالأجهزة الرقمية؟ على الرغم من أنه من الصعب أن نقول الكثير عن كيفية تغير القراءة في المستقبل، إلا أن هناك سببًا للتفاؤل بشأن تكنولوجيا القراءة وفوائدها المحتملة. فقد أدى انتشار هذه التكنولوجيا إلى زيادة فرص المشاركة في القراءة واتساع نطاق المواد المتاحة. يمكن أن تشمل التعريفات المستقبلية لما يعنيه أن تكون قارئًا "ماهرًا" القدرة على استخدام تقنيات القراءة المختلفة لدعم أهداف مختلفة - على سبيل المثال: قراءة النصوص الورقية لتعزيز الفهم العميق للموضوعات المعقدة أثناء استخدام القراءة الرقمية للترفيه أو التواصل بين الأشخاص أو قراءة النصوص غير المتوفرة بطريقة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، من الصعب التنبؤ بالتطورات التكنولوجية المستقبلية، لذلك من الممكن أن توفر الكتب الإلكترونية الحديثة، من النوع الورقي، يوما ما مزايا القراءة الرقمية دون تكاليف.

ومع ذلك، نظرًا لأن العديد من القراء يقرؤون بشكل كبير على الشاشات (كما تفعل هنا على الأرجح)، قد يكون من المفيد بالفعل محاولة تعديل استراتيجيات القراءة عمدًا بناءً على أهداف القراءة الخاصة بك. يمكن القيام بذلك عن طريق إبطاء قراءتك على الشاشة عندما يكون الهدف هو فهم موضوع صعب، أو اختيار تنسيقات تحتوي على عدد أقل من التشتيتات البصرية، مثل اللافتات الإعلانية، التي قد تؤدي إلى تشتت الانتباه لكي تقرأ على النحو الأمثل في العصر الرقمي، يجب أن تضع في اعتبارك أهدافك، ثم تختار نهج القراءة - بما في ذلك الوسيلة - الذي يدعمها على أفضل وجه.

(انتهى)

***

............................

الكاتبة: ليلي يو/ Lili Yu (محاضر في علم النفس، جامعة ماكواري، سيدني، أستراليا) تعمل ليلي يو محاضرة في علم النفس بجامعة ماكواري في سيدني. يستخدم بحثها تتبع العين وتصوير الدماغ لدراسة القراءة عبر اللغات وأنظمة الكتابة المختلفة. وقد قامت بتأليف أكثر من 20 مقالة بحثية وكتابًا عن قراءة اللغة الصينية.

مقتطفات:

يكون تأثير دونية الشاشة أكبر عندما يكون القراء تحت ضغط القراءة السريعة .

من الممكن أن توفر الكتب الإلكترونية الحديثة، من النوع الورقي، يوما ما مزايا القراءة الرقمية دون تكاليف.

المقال منشور على موقع مجلة سايكى، بتاريخ 11 ديسمبر 2023 م وفيما يلى رابط المقال:

https://psyche.co/ideas/what-does-switching-from-paper-to-screens-mean-for-how-we-read

في المثقف اليوم