قضايا

يقول أرسطو "أن ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم إلى البحوث الفلسفية الأولى هي الدهشة"

وحدها الدهشة تنزع عن الأشياء أُلفتها لنجد أنفسنا أمام حيرة السؤال.

الدهشة بالمعنى الفكري هي حالة التنبه الذهني اليقظ التي يتكثف فيها التأمل وتتسم بالانتباه الذكي.. هي حالة تنكسر فيها الرتابة، وتنقشع من خلالها الغفلة ليتجلى التبصر.

مفردة فلسفة مصدرها إغريقية وتعني ’’حب الحكمة‘‘. هي واحدة من أهم مجالات الفكر الإنساني في تطلعه للوصول إلى معنى الحياة.

في سعينا إلى معرفة الحكمة من وجود الحياة، الحكمة من الموت .. نحن نقوم بفعل فلسفي. ومن المفيد في هذا السياق الإطلاع على الفلسفة الرواقية.

ظهرت الرواقية لأول مرة في اليونان منذ حوالي 300 سنة  قبل الميلاد، عندما فقد تاجر يدعى "زينو" جميع ممتلكاته في سفينة غرقتْ. لمواجهة هذه الكارثة التي حلت به بدأ في ممارسة الفلسفة في "ستوا بويكيل"، أحد أروقة "أغورا "الأثينية، الذي تستمدّ منه الرواقية اسمها.

اهتم الرواقيون كثيرا بالتمييز بين ما نستطيع وما لا نستطيع السيطرة عليه، بأنه لا مفر من تنسيق أفكارنا وسلوكياتنا مع مسار الطبيعة الحتمي. كان الرواقيون يصنفون من ينجح في القيام بهذا الفعل بأنه إنسان فاضل. وبهذا الشكل، كانوا يصنفون الحزن على موتٍ الأحبة بأنه خطأ جسيم.

ربما يعد هذا القول للوهلة الأولى مبالغا فيه بل وشديد القسوة لأنه ليس هناك من شخص طبيعي لا يحزن على فقدان أحبته.

بالتمعن في الفلسفة الرواقية نتبين أن مشاعر الرواقيين تجاه من يحبونهم أكثر ثراءً من مشاعرنا نحن غير الرواقيين، لأنهم يُذكِّرون أنفسهم في كل لحظة بمدى قيمة اللحظة التي تجمعهم بمن يحبون. عندما يختبرون موت شخص عزيز، يشعرون ببداية حزن، لكنهم يسيطرون على حزنهم ويحولونه نحو كل ذكرى طيبة كانت قد جمعتهم بمن فارقهم وهو ما يمكنهم من تخطي الألم جراء خطب لا يملكون شيئا حياله.

إن العمل على تطوير قدرتنا على التكيف مع آثار الفقد على نفسيتنا يمكننا من أن  نحب إنسانًا ما، بكل صدق، وهو لا يزال على قيد الحياة. لكن موته لا يمنعنا من الحياة.

 ما يساعدنا على ألا نغرق في الحزن على من فقدنا هو المهارة في الانتقال من حالة الشجن إلى حالة الرضا والتسليم.

في رسالة العلامة العربي المسلم يعقوب ابن إسحاق الكندي*"في دفع الأحزان" يُعرِّف الحزن بأنه" ألم نفساني، ناتج عن فقد أشياء محبوبة، أو عن عدم تحقق رغبات مقصودة، وعلى هذا، فإن سبب الحزن هو إما فقد محبوب، أو عدم تحقق مطلوب."

ويضيف الكندي أنه علينا ألا نملك شيئا حتى لا نفقده، فيكون فقدانه سبباً للحزن، ولأن الحرص لا تدوم معه ملكية، فيجب علينا أن لا نملك شيئا.

ما يصفه الكندي هو حالة من الحرية تحلق فيها النفس عاليا دون قيود لتبلغ مرتبة السمو عن عالم المحسوسات إلى عالم أرفع، هو عالم الروحانيات.

نخلص من خلال هذا أن الحياة فرصة تجمعنا بمن نحب وجب علينا أن نستغلها في عيش لحظات السعادة معهم، في تقاسم مشاعر الود والرحمة والإيثار.

إن الفقد حتمي وهو خارج عن سيطرتنا.  الفقد ومن بعده الشعور بالحزن على شخص رحل، قد يحمل في طياته وجود ذكرى عذبة ذات قيمة. قد يكون الاحتفاء بالذكرى المبهجة هو العزاء.

ما يجعل لكل شخص، لكل ذكرى قيمة حقيقية، هو ادراكنا لعدم خلودها، لفنائها. حين ندرك هذه الحقيقة تصبح للمشاعر قيمة أرفع. هكذا يصبح الحزن متأصلا في الحب بسبب إداركنا العميق انه سيزول يوما.

***

درصاف بندحر – تونس

..................

الهوامش:

* أبو يوسُف يعقوب بن إِسْحَاق الْكِندي (185 هـ/805 - 256 هـ/873) علّامة عربي مسلم برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام.

يعرف عند الغرب باسم (باللاتينية: Alkindus)، ويعد الكندي أول الفلاسفة المشّائِين المسلمين (مؤسس المدرسة المشائية هو الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي سماه تلاميذه المشّاء لأنه كان يعلمهم وهو يمشي)

 كما اشتهر الكندي بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية.

قال الشاعر محمود درويش ما معناه أن فكرة التشبث بالحياة هي العذاب الحقيقي للذات؛ ذلك أن هذه الذات الساعية إلى الاستمرار في الحياة رغم الرتابة والملل اللذين يكتنفانها، ويدفعان المرء إلى مقصلة التعب التي تمزق الجسد والروح، تتجرع علقم الوجود، وتدفع ثمنه الرغبة في العيش أضعافا مضاعفة.

تمسي وأنت منهك الجسد ومتعب الروح، وتعزف عن تناول عشاءك، وتؤثر النوم على الأكل والسهر، ولكنك ما إن تسند رأسك على الوسادة حتى تقفز بنات الدهر إلى ذهنك، وتأخذ في رقصة مضطربة الإيقاع؛ إذ تتسم هذه الخطوب بالانتظام تارة لدرجة أنها تذوب في روحك كما يذوب الملح في الجرح، وتارة أخرى تضطرب في ذهنك فترهقك وتخطف النوم من عينيك، ثم ترميك نهبا للسهاد والأرق، فتجدك تتقلب على فراشك يمنة ويسرة، وبعد محاولات متكررة باءت بالفشل ارتأينا أن تتصفح كتابا كنت قد بدأت قراءته مساء، ولكنك لا تستطيع للقراءة سبيلا؛ ذلك أن الكلمات سرعان ما يدخل بعضها في بعض، حتى لتبدو لك السطور تتراقص على وقع روحك الممزقة المتعبة، فتفرك عينيك وتحاول جاهدا أن تفتحهما، لكنك لا تنجح في شيء من ذلك.

ترمي الكتاب جانبا، ثم تحمل هاتفك وتلج مواقع التواصل الاجتماعي بحثا عن صديق مزقه التعب والأرق هو الآخر، بيد أنك لا تجد من يشاركك همومك وما يسلب النوم من عينيك، فترمي الهاتف هو الآخر جانبا. وفجأة، يترامى إلى سمعك صوت بعيد لكنه استطاع أن يلفت انتباهك، فتقوم من فراشك متثاقل الخطى، تترنح كما يترنح الغصن المنفرد أمام هبات الرياح العاتية، وتقصد النافذة المطلة على الشارع، فتلفاه مضيئا بمصابيحه الباهتة، ويتراءى لك موحشا مقفرا ساكنا إلا من الصوت التي يخترق سمعك بين الفينة والأخرى.

يطول انتظارك ولكن صاحب الصوت لم يظهر، فتشعر برغبة شديدة في جرعة ماء تبلل ريقك، ولكنك لا تستطيع بلوغ ضالتك، وتأخذ في البحث عن أسباب عجزك وخورك؛ لأنك تخشى أن تطول حركتك في المكان الموحش، فتضن على ذاتك العطشى بجرعة ماء كما ضننت عليها بالعشاء، ثم تعود إلى فراشك متعطشا إلى غمضة نوم سريعة، أو رقدة طويلة تحول بينك وبين عالمك المدلهم، عالمك المضطرب بالأفكار التي تخز نفسك من حين لآخر، بالأحلام العابرة التي تضيق لها نفسك، بالآلام المبرحة التي تمزق جسدك، بالهموم الثقال التي تجثم على قلبك. لكن، هل بلغت غايتك وقصدك؟ هل زارك النوم المتمنع؟

طال سهادك وأرقك، وبلغ منك التعب مبلغا بعيدا لم يعد معه النوم ممكنا، فآثرت أن تجلس القرفصاء وحيدا عليلا، وتحمل الكتاب مجددا تلتمس فيه أنسا ومواساة؛ أليس الكتاب هو الرفيق الوحيد الذي لا يخون عهدا، ولا يخذل صاحبه ساعة الحاجة إليه؟ فما بال كتابك النقدي هذا لا يرد عنك وحشة، ولا يذود عنك تعبا ولا أرقا؟ هل حزن الكتاب لحزنك، ومل وتعب لمللك وتعبك، أم أن عينيك المسبلتين لم تطيقا مسايرة رقصات سطوره السريعة المضطربة؟

تبحث عن الجواب طويلا، ولما لم تظفر بما يشفي غليلك، قررت أن تؤقلم عينيك المسبلتين مع إيقاع السطور المتراقصة، فأخذت في القراءة الراقصة مدة، ثم بدا لك أن السطور ثابتة في مكانها على الورق، وأن الكلمات المضطربة لم تعد صاخبة ومتحركة، وإنما ألفيت أن مصدر الاضطراب والرقص هو روحك الممزقة المتعبة، فحاولت تضميد جروحها ورتق مزقها بالأناة والصبر على القراءة.

تتقدم في تصفح الكتاب، فتبدو لك الكلمات الغامضة واضحة مشعة في نفسك، وتحس آلام الشاعر وأحلامه في قصائده، وتلفي الناقد المؤول ذا كفاءة تأويلية كبيرة، وأنه استطاع أن يؤنسك في وحشتك بأن قدم لك السراج المنير الذي أضاء ما عتم عليك في كلمات الشاعر، فتشفق على هذا الشاعر الذي تعب من الحياة كما تعبت، واختار الرحيل عنها كما اخترتَ، إلا أنه استطاع اختراق حجب هذه الحياة، واكتشاف جدها وهزلها، وجدواها وعبثها، بيد أنك لم تستطع لما بلغه سبيلا، فتبحث سبب عجزك عن فهم الحياة وطبيعتها في نفسك، وبعد لأي، تجد الجواب هو عجزك عن البوح بما يعتمل في أعماقك، والتعبير عما يجول في ذهنك من أفكار، وما يتجلى في قلبك من أنوار ورؤى، فتقرر، وأنت خائر القوى، أن تبوح بما يضطرب في عقلك وقلبك، وألا تضن بذلك إلا على الذين ليسوا أهلا لمعرفته؛ لأن في نفسك سرا عظيما، ولكي تتحمل الحياة عليك أن تخترق حجبها في نفسك، وأن تكشف عن سرها الكبير في شطحات ذاتك كيما تنعم بفرح كينونتك ووجودك.

***

محمد الورداشي

يتم التعامل مع الرجال والنساء على قدم المساواة عند وصولهم إلى الدانمارك وتقديم طلب اللجوء، أو القدوم كأفراد من الأسرة عبر نظام جمع الشمل. إن مراكز اللجوء مختلطة وتخضع جميعها لنفس العملية لتقييم احتياجات الحماية أو الإلحاق. نظام التعليم الدنماركي وعروض العمل التي تقدمها البلديات تخضع هي الأخرى لنفس مبدأ المساواة بين للرجال والنساء دون أي تمييز.

تبنت الدنمرك سياسة المساواة بين الجنسين منذ عقود، وتعتبر أن المعاملة الخاصة والتقسيم إلى جنسين أمر سلبي وقديم الطراز. لكن عدم التفرقة في المعاملة لا يؤدي إلى المساواة. إذا كنت تريد معاملة جميع الأشخاص بنفس الطريقة، فهذا يتطلب أن يكون لديهم نفس نقطة البداية. وإلا فإنه يمكن أن يؤدي في الواقع إلى التمييز. من الأمثلة الجيدة على ذلك الصورة المستخدمة غالباً للمعلم الذي يقول: "لضمان الاختيار العادل، سيتم تكليفكم جميعًا بنفس مهمة الاختبار: يجب عليك تسلق الشجرة" لكن الطلاب هم بمثابة حيوانات مختلفة، مثل القرد والذئب والقنفذ والسنجاب - بالنسبة للبعض ستكون المهمة سهلة، وبالنسبة للآخرين ستكون المهمة مستحيلة.

يمكن تعريف التفرقة بأنه تمييز غير معقول يؤدي إلى حصول الشخص على معاملة أو حماية أسوأ من غيره. ليس من غير القانوني معاملة الناس بشكل مختلف. بل على العكس من ذلك، غالبا ما يكون من الضروري ضمان معاملة الجميع على قدم المساواة. هذا ما يكتبه معهد حقوق الإنسان الدنمركي على موقعه الإلكتروني.

تقرير حقوقي جديد

قامت مِؤخراً منظمة مساعدة اللاجئين في الدنمرك بنشر تقرير بعنوان "إنهم لا يعرفون مقدار الضغط الذي نعانيه"، والذي يسلط الضوء على كيفية تعرض آلاف النساء للتمييز من جانب المجتمع الدنماركي - ليس عن وعي، ولكن لأن الناس يتجاهلون كيف تختلف ظروف النساء الأجنبيات مقارنة بأزواجهم وإخوانهم، وبالمقارنة بالنساء الدنماركيات. وفي العديد من النقاط، تكون فرصة النساء أقل بكثير للوفاء بالمطالب التي يتم تقديمها، على الرغم من أن النساء القويات غالباً ما يخضن معارك الحياة دون كلل.

على سبيل المثال لم يُسمح لـ "آشا" بالذهاب إلى المدرسة في موطنها الصومال. ولذلك فقد تم تسجيلها في مركز اللغة الدنماركية، اجتازت المستوى الأول، ولم تتمكن من اجتياز المستوى الثاني، وهو شرط للحصول على الإقامة الدائمة. بينما تخطي المستوى الثالث يعتبر شرطاً رئيسياً للحصول على الجنسية الدنماركية. وهي مطالب قد يكون لإخوتها بعض الفرصة للوفاء بها. إنه التمييز الهيكلي. من ناحية أخرى، كأم عازبة وبعد قضاء السنوات الست الأولى في مركز اللجوء، قامت بتربية ستة أطفال، وقد حصلوا جميعاً على التعليم العالي أو المهني فيما بعد.

تضمن التقرير وصف مشاكل المرأة الأجنبية في الدنمرك من خلال تسع عشرة قصة لنساء لاجئات، والكثير من الاقتباسات. على سبيل المثال قصة "سميرة" وهي لبنانية تعيش الآن في مركز مغادرة لأنها تركت زوجاً يسيء معاملتها.

تقول "أتيت إلى الدنمارك منذ أربع سنوات بسبب الزواج. لكنه ضربني وتركته بعد أربعة أشهر. لا أستطيع العودة إلى لبنان حيث تعيش عائلتي. يريدون قتلي لأنني مطلقة. والآن أعيش في أحد المراكز المخصصة لمغادرة طالبي اللجوء المرفوضين منذ عام، ولا أستطيع الحصول على المال أو المساعدة من أي شخص. إنه أمر صعب للغاية."

يتناول التقرير النساء والفتيات اللاتي، لأسباب مختلفة، لا يستطعن العودة في وطنهن، ويقيمن الآن في الدنمرك، بإذن أو بدون إذن أي من تحمل منهن تصريح بالإقامة قانوني، أو من لا تمتلك أوراق. لم يتضمن التقرير النساء اللاتي قدمن إلى الدنمرك كعاملات مهاجرات أو بسبب الزواج من رجل دنماركي. بل التقرير يستهدف الفتيات والنساء الأجنبيات اللاتي وصلن الدنمرك وحدهن، أو بسبب زواجهن من رجال أجانب.

البعض ترك وطنه بمفرده، والبعض الآخر مع أفراد الأسرة. وقد وصل البعض بعد رحلة محفوفة بالمخاطر بمساعدة مهربي البشر لتقديم طلب اللجوء، بينما كان آخرون ينتظرون الحصول على إذن للم شملهم مع الزوج أو الأب الذي سافر قبل ذلك وحصل على اللجوء. ولا يزال البعض الآخر يتم استدراجهم إلى هنا بوعود كاذبة، لكن ينتهي بهم الأمر إلى زيجات سيئة.

هؤلاء النساء ضمن الفئات التالية:

طالبات اللجوء.

اللاجئات المعترف بهن.

النازحات من أوكرانيا.

الموجودات بنظام جمع شمل أسرة اللاجئ.

نساء غير موثقات ـ على سبيل المثال بعد رفض اللجوء.

وتندرج العديد من هؤلاء النساء أيضاً ضمن فئة "غير غربية"، لكن هذا تعريف دنماركي يتضمن دلالات عرقية، تصفه كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنه موصم وغير مناسب، وبالتالي لم يتم استخدامه في التقرير. غالبية النساء في الفئات المذكورة أعلاه يأتون من دول في الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكن أيضاً من دول مثل أوكرانيا، والبوسنة، وسريلانكا، وتايلاند.

النساء، اللاتي يتحدثن إلى حد كبير عن أنفسهن في التقرير، غالباً ما يعانين من نقاط ضعف متعددة الجوانب في المجتمع الدنماركي، مما يتركهن في أسفل التسلسل الهرمي. على سبيل المثال "بينتا" من غامبيا. فهي ليست مجرد امرأة، ولكنها أيضاً مثلية، وأمية، وسوداء، ومسلمة، وفقيرة، وطالبة لجوء مرفوضة.

تقول "إستيلا " من أوغندا، التي أمضت خمس سنوات في مركز ترحيل مع طفلها الصغير "لا أحد يفهم ما نشعر به. إنهم لا يعرفون مدى الضغط الذي نعاني منه. إذا لم يسبق لك أن واجهت الإجبار على القيام بأشياء ضد إرادتك، لذلك تشعر حقاً بالضعف، فلا يمكنك إصدار الأحكام."

هؤلاء النساء لا يشكلن مجموعة متجانسة، فهن غير متشابهات، ويختلفن عن بعضهن البعض عرقياً وثقافياً. لذلك من المهم إدراك الخطر الكبير المتمثل في التعميم والوقوع في الصور النمطية أثناء النظر في قضاياهن. ومن المؤسف أن النظام الدنماركي يجد صعوبة في التعامل مع هذه الاختلافات. هؤلاء النسوة رغن أنهن ضحايا وضعيفات وتعرضن للعنف، ومعتمدات على الآخرين، ، إلا أنهن نساء قويات ويتحملن مسؤوليات كبيرة، ويعملن بعناد وعزيمة لتحقيق استقلالهن، رغم الاحتمالات المتدينة ارتباطاً بأوضاعهن العامة.

تشريعات قاصرة

اتم اتخاذ العديد من التدابير القانونية ـ على مدار تعاقب الحكومات ـ فيما يتعلق بنساء الأقليات العرقية في الدانمرك من أجل إدخالهن إلى سوق العمل والحد من عزلتهن في المنزل. اليوم، هناك تركيز كبير على مواجهة الثقافات والأنماط القمعية الآتية من البلدان الأصلية، أي الزواج القسري والمرتب، والرقابة الاجتماعية بشكل عام. ومن المؤسف أن الإجراءات المضادة المُتخذة كانت مقتصرة في كثير من الأحيان على العقوبات الصارمة للآباء والإخوان، الأمر الذي يهدد بفرض المزيد من المشاكل على النساء أنفسهن اللواتي يزعمن أن تلك الإجراءات تساعدهن.

وفي عام 2015، تم إلغاء تصريح إقامة "جميلة" رغم أنها أوضحت أن الطلاق كان بسبب العنف من قبل الزوج، وأنها عاشت في ملجأ لمدة ثلاثة أشهر. وشرحت أنها قبل ذلك أقامت مع الرجل خوفا من فقدان تصريح إقامتها. أكد الزملاء في المركز الذي تعمل فيه جميلة أنها أخبرتهم عن تعرضها للعنف سابقاً. لكن لم يكن هناك توثيق للعلامات المرئية بعد العنف، ولا تقرير طبي. ولم تعتقد السلطات أن العنف كان بالضرورة سبب الانفصال. علاوة على ذلك، تم التأكيد على أن جميلة احتفظت بارتباط قوي ببلدها الأصلي، وأن حقيقة أنها بدأت التدريب المساعد في النظام التعليمي لم يكن كافياً لاعتباره اندماجاً ناجحاً.

لقد تجاهل السياسيون والنظام العام، الدور الذي يلعبه النظام الهيكلي الدنماركي نفسه في الحفاظ على جزء من النساء في حالة اضطهاد واعتماد على أزواجهن.

لتوضيح هذا الادعاء، يجب النظر إلى ما تحمله النساء المعنيات معهن في أمتعتهن عند وصولهن إلى الدنمارك - وهذا ينطبق على تربيتهن والتجارب التي مررن بها أثناء الرحلة. تضطهد أفغانستان، والصومال، وإيران، النساء والفتيات بشكل مباشر في التشريعات، في حين أن دول مثل العراق، وسوريا، وإريتريا، وميانمار، تمنح النساء حقوقاً رسمية في التشريعات والقوانين، ولكنها في الواقع لا تمنحهن بأي حال من الأحوال فرصاً متساوية مع الرجال.

مستضعفات في الدنمرك

بشكل عام، تتمتع النساء في الفئات المذكورة بمتطلبات أقل لتحقيق أداء جيد في المجتمع الدانمركي بسبب الظروف التي نشأن فيها. يبدأ الأمر في مراكز اللجوء، وفي عملية اللجوء، وفي تقييمات اللجوء، حيث تكون النساء وحدهن بدون رجال. تشكل النساء في مراكز اللجوء أقلية ويشعرن بعدم الأمان بين العديد من الرجال غير المتزوجين. فالنساء أقل استعداداً لإجراء المقابلات الطويلة، كما أن دوافع لجوء النساء تؤدي إلى وضع قانوني أضعف بكثير من وضع الرجال، وهو ما يمكن أن يكون من الأسهل المشاركة فيه مرة أخرى. العديد من النساء يحصلن على اللجوء بسبب حالة أزواجهن، وبالتالي يرتبطن به.

تقول امرأة أفريقية عازبة "أحضرت طفلي معي في كل المقابلات. كان عمره عامين. جلس في حجري ثم أعطوه جهاز iPad وسماعات حتى يتمكن من مشاهدة الرسوم المتحركة. لكنه لم يتمكن من النظر إليها لساعات عديدة، وكان يبكي ويركض. كان من المستحيل بالنسبة لي أن أركز".

ومع ذلك، فإن ما يقرب من 80٪ من النساء يصلن بغرض لم شمل الأسرة، وبالتالي ليس لديهن تصريح إقامة خاص بهن على الإطلاق، لكنهن يعتمدن بشكل كامل على أزواجهن - ويخاطرن بفقدانه إذا انتهت المعاشرة.

إن خلفية المرأة تجعل من الصعب عليها أن ترقى إلى مستوى متطلبات المجتمع الدانمركي. لقد التحقن بمدارس أقل وحصلن على تعليم أقل من إخوانهن وأزواجهن. وهذا يعني أن عدد النساء أكبر من عدد الرجال المسجلين في أدنى مستوى من التعليم الدانمركي، والذي لا يتيح امتحان النجاح فيه الحصول على مزيد من التعليم أو الإقامة الدائمة أو المواطنة.

وقد تعرضت الأغلبية من النساء الأجنبيات للعنف من أقرب الأشخاص إليهم في مرحلة ما، ولم يُسمح للكثيرين باتخاذ قرارات مستقلة بشأن حياتهم الخاصة. هناك العديد من الأمهات العازبات في المجموعة، وحتى في العائلات التي لديها أب، تتحمل الأم دائماً المسؤولية الأساسية عن الأطفال، مما يربطهم بمراكز اللجوء والمنزل.

كما أن لديهم أيضاً خبرة عمل أقل أهمية ودخلاً مستقلاً أقل في وطنهم، مما يضعهم في وضع غير مؤات فيما يتعلق بدخول سوق العمل الدنماركي. يعاني العاملون الاجتماعيون في مراكز العمل من التحيزات التي تقول إن المرأة لا ترغب في العمل، وتقدم لهم أنواعاً أقل وأدنى من الوظائف من الرجال. ولم يكن للنسخ والتجارب والمشاريع المتغيرة من مساعدات بدء المشاريع للاجئين أي تأثير على جذب المزيد من النساء إلى العمل، وكان لها تأثير محدود فقط على الرجال. وقد أثرت المزايا المخفضة على الأمهات العازبات بشكل خاص، وفقا لمعهد حقوق الإنسان الدنمركي.

جاءت الإيرانية "شرارة" إلى الدنمارك مع ابنتها البالغة من العمر 16 عاماً، لكنها اضطرت إلى قضاء عشر سنوات في مراكز اللجوء قبل أن تتمكن أخيراً من إعادة فتح قضيتها والحصول على اللجوء.  تقول "لم تكن إيران هي التي منعت ابنتي من أن تصبح امرأة مستقلة. بل نظام اللجوء الدنماركي هو الذي منعها من القيام بذلك".

إصرار على التعلم

تجد النساء صعوبة في دخول سوق العمل، وعندما ينجحن، يحصلن على راتب أقل، ومعاش تقاعدي أقل، خاصة بسبب إجازة الأمومة - تماماً مثل النساء الدنماركيات، بالمناسبة. ومع ذلك، غالباً ما ينتهي بهم الأمر في أسفل التسلسل الهرمي، وتكون حالتهم الصحية أسوأ بكثير مما كانوا عليه

فيما يتعلق بالنساء المقيمات في الدنمرك، فإنه بحلول الوقت الذي يصلن فيه إلى سن التقاعد، تعيش 20-25% من النساء من الشرق الأوسط وتركيا تحت خط الفقر الذي تم إلغاؤه الآن، والذي ينطبق فقط على 10-15% من أزواجهن، و1% فقط من الرجال والنساء من أصل دنماركي عرقي.

في مجال التعليم، ترى شيئاً مثيراً للدهشة. عدد أقل من النساء حصلن على تعليم من وطنهن الأصلي، لكن عدد النساء اللاتي يتعلمن في الدنمارك ضعف عدد الرجال. ويلاحظ نفس الاتجاه بين الشباب والأحفاد، حيث لا تتفوق الفتيات على إخوتهن فحسب، بل تتفوق أيضاً على الفتيات الدانمركيات عرقياً. ولذلك فإن لدى النساء رغبة كبيرة في تحسين مهاراتهن ودعم أنفسهن. ولذلك، فمن الأفضل كثيراً لكل من السويد والنرويج أن تعمل على جلب النساء من الشرق الأوسط وتركيا وشمال أفريقيا على سبيل المثال - وهذا يتطلب استراتيجية طويلة الأجل تعتمد على تحسين المهارات بدلاً من الحل الدنماركي السريع المتمثل في الوظائف التي لا تتطلب المهارة في أقرب وقت ممكن.

على الرغم من أنها تتراجع في التصنيف العالمي على المؤشرات القابلة للقياس، فإن الدنمارك لديها صورة ذاتية مفادها أنها حققت المساواة الكاملة تقريباً بين الجنسين. الدنمرك حالياً في المركز التاسع والعشرين، في حين أن جميع دول الشمال المجاورة مستقرة في المراكز الخمسة الأولى. وحتى النساء الدانمركيات من أصل عرقي لم يحققن المساواة حتى الآن، على الرغم من تكافؤ الفرص في الالتحاق بالمدرسة، وحرية اختيار العمل، والزواج، وما إلى ذلك.

عندما تكون ظروف المجموعة المذكورة من النساء الأجنبيات في الدانمرك أسوأ من ذلك، ويظلن معتمدات على أزواجهن، فإن ذلك لا يشكل تعبيرا عن الرغبة في وضعهن في مكانة غير مناسبة من جانب المجتمع الدانمركي. وهو نتيجة لعدم الاهتمام بالجوانب المتعلقة بالجنسين وعدم الاهتمام بتنظيم العروض والطلبات بطريقة تتاح لهؤلاء النساء فرصة حقيقية للاستفادة منها والارتقاء بها.

توصيات الخبراء

ويحتوي التقرير على عدد من التوصيات لإجراء تحسينات، سواء في إجراءات اللجوء أو في مرحلة الاندماج أو الهدف النهائي المتمثل في أن تصبح مواطناً دنماركياً:

ـ هناك حاجة إلى المزيد من طرق الوصول الآمنة إلى الدنمارك.

ـ هناك حاجة لمراعاة سلامة النساء والفتيات في مراكز اللجوء بشكل أفضل.

ـ هناك حاجة إلى المساواة بشكل أفضل بين دوافع لجوء النساء والرجال.

ـ هناك حاجة إلى مزيد من الفحص والدعم والعلاج لضحايا العنف، ويجب أن تكون بعض أشكال العنف الجنسي مساوية للتعذيب.

ـ هناك حاجة إلى ضمان عدم بقاء أي امرأة مع رجل ضد إرادتها من أجل الاحتفاظ بتصريح إقامتها.

ـ هناك حاجة إلى تكييف التعليم الدانمركي بشكل أفضل مع النساء ورفع مستوى مؤهلاتهن لدخول سوق العمل.

ـ هناك حاجة إلى زيادة التركيز على صحة المرأة.

ـ هناك حاجة لتكييف متطلبات الإقامة الدائمة والمواطنة وفقًا لنقطة البداية والفرص المتاحة للفرد.

ـ يحتاج الوافدون الجدد من كلا الجنسين إلى تعليم الحقوق والمساواة.

ـ هناك حاجة إلى تعاون منظم مع المنظمات الإسلامية لتقديم الدعم للنساء والفتيات المسلمات اللاتي يعانين من مشاكل.

إن المساواة في المعاملة في الدنمرك تنطوي على تمييز لمجموعة معينة من النساء. إن التجاهل للجوانب الجنسانية يجعل النساء معتمدات ومستضعفات في نظام اللجوء وعملية الاندماج. لقد حان الوقت لكي تغير الدانمرك سياستها عندما يتعلق الأمر بالنساء اللاتي لجأن إلى هذا البلد والذين لم يحظوا بحياة مميزة مثل الدنمركيين. ليس رجالهم وحدهم هم المشكلة لهن. لا يرغبن في العودة إلى المنزل بمفردهن والعيش على أموال الرجل، لكنهن لا يستمتعن أيضاً بطلب سبع وثلاثين ساعة من التدريب غير مدفوع الأجر في أحد المستودعات، أو التهديد بفقدان تصريح إقامتهن إذا طلقن من أزواجهن. تطلب النساء المعلومات والعروض ذات الصلة والدعم لجعل الحياة اليومية ناجحة، لذلك يشعرن بالسعادة لبذل جهد كبير ويقبلن بفرح وفخر الفرص التي لم تتح لهن في بلادهن الأصلية.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

القيمة التشخيصية بين الفن التقليدي والفن الحديث

فرناند ليجيه Fernand Le’ger (1881 – 1955) رسام ونحات وسينمائي فرنسي وهو احد اهم مؤسسي المدرسة التكعيبية، رغم ان اسلوبه تميز بالتركيز على الخط المنحني والسطوح المحدبة والمقعرة اكثر مما هو على الخط المستقيم والزوايا الحادة والسطوح المستوية. ولذلك فقد تميزت بعض اعماله بمجسماتها الاسطوانية والانبوبية، مما دعى بعض النقاد الى تسمية اسلوبه المتفرد بـ Tubism بدلاً من Cubism.

في هذا النص حاولت ان استقي اهم الافكار التي طرحها هذا الرسام الهام حول معنى وضرورة الفن الحديث في بواكير ظهوره كاتجاه ومنهج فنيي، وباعتبار ان ما سطره هذا الفنان اصبح من اصول النصوص التنظيرية في الفن. جاء ذلك في مقالته الموسومة "القيمة التشكيلية في الفن التشكيلي" المنشورة في مجلة Montjoie عام 1913. وقد اعيد نشر المقالة في كتاب "الفن والنظرية 1900-2000" الذي حرره چارلس هاريسن وپول وود، كأ وسع انثولوجيا تخص افكاراهم المهتمين بالفن وتطوره من نقاد ورسامين وصحفيين خلال قرن من الزمن.

من البدء، يركز ليجيه على ما أسماه بواقعية التصور والادراك Realism of conception ويميزها عن الواقعية المألوفة لدينا والتي يسميها الواقعية المرئية Visual realism التي نراها ونلمسها في محيطنا والتي جسدتها اعمال مئات الرسامين التقليديين عبر السنين. فهو يعتقد ان الفن الحديث، وبالذات المدرسة التكعيبية فيه تحملنا على تصور ما هو واقعي رغم ان ما نراه على سطح الكانفس لا يحاكي بالضبط ما هو خارجه من اشياء. وانها تجسد ذلك الادراك بواقعية الاشياء من خلال علاقات التناغم والتضاد والتناقض فيما بين العناصر الصورية عبر انشاء اللوحة، ومن خلال تكسير المنظور وتجزئة المشهد الذي يعبر عن طبيعة وحال الحياة المعاصرة.

ويؤكد ليجيه ان قرونا من الفن التقليدي عوّدت المتلقي ان يقيّم العمل الفني بقدر ما يستطيع ذلك العمل من محاكاة ما هو موجود حولنا باكثر مايمكن من الدقة في التشخيص، واقرب ما تجسده اللوحة من الصفات الفيزياوية للاشياء حسب ما تراها العين خارج اللوحة. الا ان الامر اختلف في الفن الحديث. فلم يعد ذلك النقل الحرفي للواقعية المرئية هو المعيار الفني لقيمة العمل، ذلك ان قيمة العمل التشكيلي الآن لا تشترط المحاكاة أو بالاحرى لم تعد دقة التشخيص هي المعيار الامثل لفنية العمل. ويشدد على ان هذا التطور في التقييم ينبغي ان يكون بمثابة العقيدة الثابتة في الفن التشكيلي المعاصر، بل من بديهيات فهمه وتذوقه.

ويعتقد ليجيه بأن الواقعية المرئية تتجسد عند الفنانين التقليديين عن طريق تحقيق الترتيب المتزامن Simultaneous ordering للعناصر التشكيلية الاولى، الخط والفورم واللون، هذا التزامن الذي يضمن سلامة التشخيص التشكيلي وبدونه لا يمكن لأي عمل ان يدعي كلاسيكيته الخالصة. حيث ان اي اخلال في هذا التزامن او اي نقص في واحد من تلك العناصر سيفسد حال العنصرين الآخرين ويخل بالصفة التشخيصية التي تؤمن المحاكاة الدقيقة للواقع المرئي. كان ذلك شرطا اساسيا لتحقيق القيمة المطلقة Absolute value للعمل الفني في زمن ماقبل الانطباعية، ولم يحيد عنه اي فنان مبدع يسعى لبلوغ تلك القيمة الفنية المطلقة لعمله. ولكن جاء الانطباعيون وقلبوا الطاولة فرفضوا شرط القيمة المطلقة وابدلوها بالقيمة النسبية Relative value، فكان ذلك بمثابة انطلاق الشرارة الاولى للفن الحديث. يمضي ليجيه الى الجزم بأن الانطباعيين هم المؤسسين الأوائل لما تطور بعدئذ فاعطانا الفن الحديث باشكاله المختلفة. ذلك انهم رفضوا الانصياع لمحاكاة الواقع الفوتوغرافية وعمدوا الى الغاء شرط وحدة وتناغم العناصر التشكيلية الثلاثة فأعلنوا، ضمناً، ان نهجهم يركز على عنصر اللون فقط ويشتغل على ديناميته الفيزياوية. وبذلك لم يعد الانشغال بالعنصرين الآخرين، الخط والفورم مهما بقدر أهمية اللون لديهم. كما لم تعد وحدة العناصر التي لا تنفصم ضرورية لتحقيق القيمة الفنية. ولا ضير ان يؤول هذا الى الاخلال بالتشخيصية الدقيقة والابتعاد عن الواقعية المرئية.

هذا يقودنا ايضا الى ان موضوع العمل الفني لم يعد مهما ايضا، حتى في ثيمات الحياة الساكنة (الجامدة) Still life. فمثلا مشهد تفاحة خضراء موضوعة على قطعة قماش حمراء كان يشير في ما قبل الانطباعية الى العلاقة بين شيئين وعلاقتهما بما يحيط بهما من مشهد ومن نواحي عديدة كالمنظور ومساقط الضوء والوضعية والخلفية والانشاء. أما لدى الانطباعيين فلا يتعدى ذلك سوى الاهتمام بعلاقة تونات لوني التفاحة والقماش وتونات ما يحيط بهما وبموجب ما تقتضيه كمية الضوء في المشهد. 

ويعزو ليجيه ذلك التحول التاريخي في فهم الفن الى الانطباعيين الاوائل وبالذات سيزان Cezanne ومانيه  Manet اللذين يعدّهما بمثابة الرجال الذين اشعلوا فتيل الانتفاضة وقادوا الثورة في المسار الصحيح الذي يحمل روح العصر. ويؤكد انها ثورة وردة فعل تاريخية وليست امتداد او تطور لما كان قبلهما. ويستشهد بفكرة ان أي تحول تاريخي لاي حركة عظيمة يتطلب ثورة تقلب الامور على عقب بدلا من الاقتناع بسلسة اصلاحات يفترض فيها ان تهندس التغيير التدريجي "Revolution vs. evolution ". وفي هذا الصدد، لا يرى ليجيه ان الجمهور يعي هذه الثورة، بل يلاحظ ان اغلب الجمهور الفني يعتقد ان ما يشهدونه من فنون حديثة ماهو الا موجة ثقافية عابرة ستتكسر وتنحسر، وانها مسألة زمن ينتظرونها كما ينتظرون عبور موضة غريبة. وهذا بالطبع ما لا يليق بهذه الثورة التي تقدم فنا امتلك كل مقومات بقاءه وازدهاره، بل انه سيصبح الفن المهيمن لزمن قادم طويل. وما علينا الا ان نصيغ له مفهوما كاملا وشاملا يثبّت خطاه ويعزز مسيرته كما فعل من سبقونا في عهودهم المنصرمة.

وهنا يعترف ليجيه بانه ليس من السهل ان يتخطى الفن ما اعتاد الناس على رؤيته وفهمه كفن. وان ترسيخ هذا التحول كفن جديد لا يقتصر بالتأكيد على شجاعة او حماقة فنان معين منفرد يأخذ على عاتقه تحجيم دور التشخيصية وتقليل قيمتها لدى الجمهور بتحطيم المنظور والغاء الموضوع وفصل الروابط العاطفية للمشهد والاتيان بعناصر جديدة غير وثيقة الصلة بما هو مألوف! ان الامر، فيما اذا اردنا التعمق في حقيقته، عبارة عن انعكاس حتمي لتغير الواقع والحاجة الى التجاوب والانسجام مع معطياته وتغيراته. بل يمضي للقول انها مسألة ألفة روحية ومصاهرة وثيقة مع روح العصر الجديد بكل ما يتميز من سرعة وتجزئة وتشظي وانحسار عاطفي ووجداني.  يضرب ليجيه مثالا فيقول ان الطراز المعماري الذي كان شائعا وشعبيا في القرن الخامس عشر كان الطراز القوطي Gothic ولكن كل شئ قد تبدل في نهاية العصور الوسطى عندما اخترع گوتنبرگ آلة الطباعة التي آذنت ببدء عصر صناعي وتكنولوجي جديد انعكس على التصميم المعماري وبقية الفنون.

وهكذا فان احداثا كبرى كاختراع التصوير الملون والافلام المتحركة وتزايد شعبية مختلفة ونمو ذائقة جديدة للمسرح والسينما ساعد على بدء عصر جديد يتطلب وسائل تعبيرية مناسبة ومختلفة عما سبق. ووسائل التعبير الجديدة قد لا تستخدم العناصر القديمة كالموضوع والحبكة العاطفية وغيرها مما كان عمادا لوسائل التعبير السابقة. فلو تأملنا التصوير الفوتوغرافي مقارناً برسم البورتريه، على سبيل المثال: فالتصوير يتطلب جلسة واحدة قياسًا بعدة جلسات امام رسام البورتريه، اضافة الى ان الكامرة قادرة على ان تعطي شبها مضبوطا دقيقا وتفاصيل كاملة وبكلفة أقل. وهذا ما حتم على حرفة رسم البورتريه ان تذوي وتتضاءل في عصر اكتمل فيه بديلها الافضل.

ويختتم بالقول ان لكل فن زمنه، وعلى اي فن ان يتحرك ضمن فضاءه الخاص ويعمل بموجب وسائله التعبيرية التي تتيحها معطيات الواقع الحضارية والتكنولوجية. على ان المفهوم الحديث للفن ينبغي ان يؤكد على حقيقة انه لا يعني التجريد العشوائي العابر انما التعبير الكامل عن الاجيال الحاضرة والزمن الذي تعيشه.

***

ا. د. مصدق الحبيب

قد يكون عنوان المقال: «الورديّ.. مِن الإماميَّة إلى الزّيديّة» مثاراً للتساؤل، وخصوصاً عالم الاجتماع العِراقيّ عليّ الورديّ لم يكن له شأن بانتماء مذهبي أو عقيدة دينيّة، صحيح أنّه مِن أُسرة شيعيّة إماميَّة، ومِن سكنة الكاظميّة الشّيعيّة، إلا أنّه كان ناقداً رافضاً للجدل المذهبيّ العقيم، في كتبه.

فكان مِن الغرابة أنْ يكتب مقالاً عنوانه «لماذا صرتُ زيديَّاً، عندما لعنني النَّاس وشتموني»، نشره في مجلة «الأسبوع» (العدد 11/1957)، ومِن مقدمة المنشور نجده جاء تعليقاً على «الأسبوع» نفسها، عندما أجرت معه مقابلة عنوانها: «حوار على الدَّراجة مع علي الوردي»، وفيها سأله المحاور خليل الشّيخ عليّ: «إذا كان لا يزال كأحد أفراد الزّيديَّة»(مجلتا الأسبوع وقرندل: 10/ 1957).

قال الوردي في مقاله: «سألتني مجلة الأسبوع في العدد الماضي عن عقيدتي الدينية، حينها بأني زيديّ العقيدة، وأني من أتباع الإمام زيد بن عليّ، وقد أغضب هذا الجواب جماعة» (مجلة الأسبوع). على اعتبار أنّ هذا الإعلان كان تمرداً على مذهب الأسرة. ثم وضح ذلك قائلاً: إن اعتقاده بالزّيدية بشروطه هو، لا بشروط المذهب وتطوراته، «ولستُ أدعي بأن مذهب زيد خالٍ مِن العيوب، إذ إنَّ مِن المستحيل على أي إنسان أنْ يأتي بالكمال في شيء».

بطبيعة الحال، الزيدية لا يعتبرون زيداً معصوماً، لكن سيكون الغضب أشد لو قالها الورديّ في مذهب أبويه، حيث عصمة الأئمة. كان الوردي، حتى عام (1957) يقول: «الحقيقة التي لا أتردد عن إعلاني لها، هي أنني مازلتُ أعتبر عقيدة زيد بن عليّ، هي العقيدة الوسطى في الإسلام» (الأسبوع وقرندل).

لم نقرأ له بعدها عن انتماء لهذا المذهب أو ذاك، ففي الوضع العراقي لا يليق بالمثقف، مِن مستوى الوردي، حشر نفسه في مذهب دون آخر، وخصوصاً في الخلافات الكبرى، التي تُهدد الوطن ككل. فمِن رأيي في حدة الخلاف، الفاشي بين النّاس، أن يكون المثقف في الجدل سُنياً بين الشّيعة، وشيعياً بين السُّنة، كي يخفف مِن وطأة الاحتقان الطائفي.

إنَّ ظاهرة إعلان الورديّ اعتناق الزّيديّة، وهي ليست شائعة بالعراق، تُبنى عليه أفكار مهمة، ومنها أن الزيدية- مثلما كشف الورديّ عنها- تتحلى بوسطيّة، خصوصاً في الوضع العراقي، فزيد بن عليّ (قُتل: 122هـ) يعترف بخلافة الشّيخين، كواقع حال لا يمكن تجاوزه، ويعتبرهما مِن قادة الإسلام الأوائل، وثانياً، وهذا لم يذكره الورديّ، ربّما كان تجنباً للإثارة أو لم يطلع عليه، وهو أن الزّيديّة حلت مسألة خلاف الإمامة حلاً واقعياً، فالماضي لا يعود، والضَّغائن ستستمر تدمر الأتباع جيلاً بعد آخر، لذا أجاب زيد، عندما سئل عن الوصية لجده علي بن أبي طالب (اغتيل: 40هـ): أنّها إمامة العِلم والفقه، وليست السّيف والسِّياسة، فعندما أتاه المنصب السّياسي تولاه وأصبح خليفةً (انظر مصدرين زيديين مهمين: الحميريّ، الحور العين. ابن المرتضى، المُنية والأمل في شرح الملل والنِّحل). عندما أعلن الورديّ تحوله، قصد الامتعاض مِن الواقع المذهبيّ، فاندفع إلى الوسطية، وقد حسب التصريح بما اعتقد لا يغضب أحداً، فزيد ابن الإمام الرابع عند الشيعة، وفقهه منفتح على المذاهب كافة، وخصوصاً المذهب الحنفيّ(أبو زُهرة، الإمام زيد).

ظلّ الوَّرديّ (وهذا الموقف 1957) مع آراء الإمام زيد، وليس مع المذهب في تحولاته، والقول له: «كما حادت جميع الملل والنِّحل عن مبادئ مؤسسيها الأولين» (مجلتا الأسبوع وقرندل). غير أنَّ الورديّ لم يعش زمن ظهور الحركات التي ظهرت باسم زيد، وما جرى في العشرين سنةً الماضيّة، مِن كراهيات ومقاتل بعقر دار الزّيَّدية باليمن، وما حصل ببلاده. أقول: ومع غرابة الأمر، لمَن عرف وقرأ الورّديّ، كانت تجربةٌ لعالم اجتماع، دخوله المختبر بنفسه.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

تمهيد

يتم الاحتفال باليوم العالمي للترجمة وذلك للدور الكبير الذي تضطلع به في مستوى نقل المعارف والمعلومات والخبرات من مجتمع الى اخر وللوظيفة الاتصالية التفاعلية التي تقوم بها في مجال التعارف والتثاقف والتخاصب بين اللغات والهويات والخصوصيات والابواب التي تفتحها للتلاقي بين الأفراد والمجموعات والشعوب. ولكن هذه العملية اللغوية تصطدم بالعديد من الصعوبات والعراقيل وتعاني من التشكيك في المصداقية والأمانة والموثوقية في عملية النقل للمعلومات والأفكار والمعاني والقيم من لغة الى أخرى.

الترجمة

"1. النسبية والعقلانية الكونية:

عندما يواجه المترجم نصًا، عليه أن يأخذ في الاعتبار أن منتج ترجمته موجه إلى أشخاص يأتون من خلفية مختلفة عن خلفية الجمهور المستهدف الأصلي. عندما نتحدث عن خلفية مختلفة، فإننا نشير إلى أشخاص لهم تاريخ مختلف، ويشاركون في ممارسات اجتماعية مختلفة ويتحدثون لغة مختلفة. يبدو أن الإنسان لا يستطيع أن يخترع أي شيء لا يستطيع تصوره. في الفلسفة، نواجه منظورين يمكن من خلالهما النظر في الترجمة. الأول هو النسبية. النسبية هي منظور فلسفي يعتبر أن ممارستنا المعرفية للفهم تمت تصفيتها من خلال طريقة تفكير مفاهيمية محددة ثقافيًا. ولذلك، فإن العوامل البيولوجية أو الجينية المشتركة، مثل العرق، ليست ذات أهمية في تكوين مخططات ومفاهيم المعرفة مقارنة بتلك العوامل التي توفر البيئة المحيطة التي تطور فيها الفرد. باختصار، يمكن القول إن الإنسان يولد بدون هذه المخططات المعرفية، وإن الثقافة هي التي تخلقها وتصوغ تطوره. يمكننا أيضًا أن نفكر في الترجمة من منظور ثانٍ مخالف، وهو منظور العقلانية العالمية. تقترح العقلانية العالمية الحتمية البيولوجية والنفسية. تدافع هذه النظرية عن النزعة القومية، التي تجانس جميع الممارسات والمفاهيم البشرية، في حين أن التنوع سطحي نسبيًا وذو أهمية ثانوية. في علم اللغة، أحد دعاة العقلانية العالمية هو تشومسكي، الذي اقترح في الخمسينيات نظرية تدافع عن الطابع الفطري لملكة اللغة. وفقا لتشومسكي، فإن أكثر من 4000 لغة موجودة تقدم تركيبا مماثلا بشكل مدهش، على الرغم من اختلافاتها الصوتية والصورية. تسمح هذه الحقيقة بترجمة اللغات من لغة إلى أخرى. إن اختيار أحد هذه المنظورات يعني وجود تصور مختلف تمامًا لوظيفة المترجم. من منظور العقلانية العالمية، يجب على المترجم أن يتتبع الواقع المكشوف في نص ما إلى نص آخر، ويقتصر على مجرد نقل واحد. يتشارك قارئ الترجمة في خصائص بيولوجية ونفسية مشتركة مع قارئ النص الأصلي. لذلك، من منظور العقلانية العالمية، لا ينبغي أن يجد المترجم صعوبة في تفسير النص الهدف، حتى لو كان النص الهدف يحتوي على إشارات إلى بيئة متميزة ثقافيًا. في الواقع، فإن الاختلافات في السياق ستكون محدودة بالتركيبة البيولوجية والنفسية لقارئ النص المصدر وقارئ النص الهدف. في هذه الحالة، سيتم تقليص عملية الترجمة بشكل أساسي إلى عملية لغوية. يختلف تمرين الترجمة من منظور النسبية عن نفس التمرين من منظور العقلانية العالمية في نقطتين. أولاً، على الرغم من أن المرء يقبل أن القراء المحتملين لهذين المنتجين يشتركون في خصائص بيولوجية ونفسية مشتركة، إلا أن الحتمية التي تمارسها هذه الخصائص على المستوى المعرفي هي موضع شك. لذلك، يتم التركيز على ما هو مشترك بين القراء، وليس على الاختلافات، واستراتيجيات التفسير المتميزة التي تنشأ كعواقب للسياق الثقافي المختلف. بهذا المعنى، يقوم المترجم بالتزام أكبر مع قارئ النص الهدف؛ وهذا يعني قول نفس الشيء مع رموز مختلفة، مع الحفاظ على التأثير الأسلوبي للأصل. لن تكون الترجمة مجرد مسألة لغويات. ينبغي للمرء أن يبدأ ليس فقط في ترجمة الكلمات، بل أيضًا المفاهيم وحتى السياقات.

2. مشكلة التكافؤ

أثارت الترجمات التي تستخدم المنظور النسبي جدلاً ساخنًا في العشرين عامًا الماضية. والسؤال الذي يطرحه أولئك الذين لا يؤيدون هذا النوع من الترجمة هو "هل نستمر بنفس النص؟" هذا السؤال، إذا ما أخذناه إلى أقصى الحدود، من شأنه أن يقودنا إلى الأسئلة الميتافيزيقية والما وراء النظرية للترجمة، لأنه قد يتطلب إعادة تعريف عملية الترجمة بأكملها. المشكلة التي نواجهها هي مشكلة التكافؤ في الترجمة. يجب أن يكون النص الهدف والنص المصدر متساويين في الكلمات، وفي الرسالة، وبقدر الإمكان، في الهياكل النحوية. سيكون الوضع المثالي هو نقطة وسيطة حيث يُلزم المترجم نفسه بدقة عالية على المستوى اللغوي طالما أنها لا تتعارض مع فهم النص الهدف. وهذا من شأنه أن يتفق مع نظرية بيرنارديز (1995) حول التنظيم الذاتي للاتصالات. ووفقا لهذه النظرية، فإن مرسل الرسالة، المترجم في هذه الحالة، سوف يضبط المعلومات وفقا لضرورات المتلقي والعوامل السياقية الأخرى في عملية التنظيم الذاتي التي لها ميل نحو حالة من الإنتروبيا أو الانتروبيا. حالة التوازن. يمكن فهم التوازن هنا على أنه النتيجة المثالية حيث تتمتع الرسالة بأقصى قدر من الفهم مع الحد الأدنى من التغيير في العناصر والهياكل اللغوية.

3. المدارس الألسنية المختلفة وأثرها في الترجمة:

ولا ينبغي لنا أن نبقى مدركين لحقيقة أن انتشار المدارس اللغوية المختلفة، ومن فترات زمنية مختلفة، كان له دور في اختلاف وجهات النظر حول الترجمة. لذلك، في إطار البنيوية، يميل المرء إلى رؤية اللغة كمجموعة من العلاقات، من الأنظمة الفرعية المترابطة. ووفقا لهذه المدرسة الفكرية، يتم تعريف كل عنصر وفقا للدور الذي يلعبه في هذه المجموعة من العلاقات. نظرًا للأهمية التي أظهرها هذا النموذج اللغوي منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى وقت طويل من القرن، فلا عجب أن تركز الترجمة أكثر على البنية اللغوية وكيف يمكن الحفاظ على العلاقات البنيوية للنص المصدر في النص الهدف. أحد المدافعين عن التكامل الهيكلي كان كارتفورد (1965)، الذي ميز بين الترجمة المرتبطة بالرتبة والترجمة غير المحدودة. الترجمة المرتبطة بالرتبة هي طريقة للترجمة تحافظ على التكافؤ على مستوى الكلمة، أو حتى الصرف. وفقًا لكارتفورد، فإن الترجمة المرتبطة بالرتبة هي الطريقة الوحيدة الممكنة للاستخدام بين اللغات التي لها هياكل متشابهة على المستوى المورفولوجي والنحوي. وبقدر ما يتعلق الأمر بالترجمة غير المحدودة، يمكن العثور على التكافؤ في مستويات أكثر تعقيدا مثل الجمل. ومع ذلك، في السبعينيات، مع ظهور تيارات فكرية جديدة، مثل اللغويات المعرفية، ظلت النماذج مثل البنيوية في وضع هامشي، باستثناء الدراسات الكلاسيكية واللاتينية واليونانية. تم إدخال عوامل جديدة في دراسة اللغويات. ومن بينها الأنشطة المعرفية المختلفة مثل الإدراك والرؤية والتصور؛ بالإضافة إلى ذلك، اكتسبت جوانب مثل الحركة والتفاعل بين الجسم والفضاء الاهتمام. كما أن ظهور علم الأعصاب في السبعينيات وإنجازاته الأولى ساهم في ازدهار هذه المدرسة اللغوية الجديدة. يولي اللغوي المعرفي أهمية كبيرة لتكوين مخططات مفاهيمية خاصة بالمحيط الثقافي لمتحدثي اللغة. هذه الخصوصية هي التي تنتج فئات مفاهيمية مختلفة في أنظمة المعرفة المتنوعة مثل اللغة.

4. المساواة والاختلاف بين الثقافات: منظور أنثروبولوجي:

عندما نتحدث عن الخصوصية، فإننا نتطرق إلى السؤال الأنثروبولوجي حول إلى أي درجة توجد أرضية مشتركة بين الثقافات المختلفة أو بين المتحدثين بلغات مختلفة. من الواضح أننا لا نستطيع أن نفترض أن أي نظام قابل للترجمة إلى نظام آخر. لا يمكن تفسير نظامين مختلفين تمامًا ولا يوجد بينهما أي شيء مشترك بشكل كامل، أحدهما من حيث الآخر. من وجهة نظر الدراسات الأنثروبولوجية، لا يمكن لأفراد عالم معين أن يفهموا عالمًا آخر إذا كان مختلفًا تمامًا عن عالمهم. وقد أشارت هيلاري بوتنام (1981) إلى ذلك عندما تحدثت عن مبدأ المحبة. وفقا لمبدأ الإحسان، يشترك البشر في عدد كبير من المفاهيم، والفرق بينها هو الإدراك. ولذلك، فإن فكرة المفهوم سيكون لها طابع عام والطريقة التي يتم إدراكها بها سوف تتوافق مع التصورات المحددة المتميزة التي تحدث في كل ثقافة، أو في كل فرد، لمفهوم معين. وبطبيعة الحال، فإن التصورات المختلفة التي يمكن أن تكون لديك حول مفهوم معين، لا تظهر ببساطة بين الأفراد الذين تفصلهم ثقافة ما. يمكننا أيضًا التحدث عن المفاهيم التي توجد بها تصورات مختلفة في أوقات مختلفة. وهذا من شأنه أن يقودنا إلى الحديث عن نوع من الترجمة ليست بين اللغات أو بين الثقافات، بل بين الزمان. على سبيل المثال، تصور الحب ليس هو نفسه بالنسبة لأوروبي حضري من القرن الحادي والعشرين كما هو الحال بالنسبة لشخص من بلاط القرون الوسطى من أي مدينة أوروبية. ومع ذلك، في الوقت الحاضر يمكننا شرح الأفكار والمعتقدات والطقوس وما إلى ذلك، التي دعمت أشكال الحب لدى السكان في البلاط الأوروبي في العصور الوسطى، وهو ما يتضمن نوعًا من الترجمة على المستوى السيميائي وقد يرتبط بمسائل مثل التناص. على أية حال، إذا كان لا يزال بإمكاننا تفسير ممارسات أو سلوكيات معينة على أنها مرتبطة بالحب على الرغم من القرون التي مرت بين نموذجي مثالنا، فذلك لأنه على الرغم من وجود مفاهيم مختلفة للحب، لا يزال لدينا مفهوم واحد فريد. ومن الواضح أن هذا المثال سيقودنا إلى إعادة تعريف مفهوم الثقافة، والنظر فيما إذا كانت نفس الثقافة في مرحلتين مختلفتين من تطورها تشكل ثقافتين مختلفتين. ولذلك، إذا شرح أحد عصرنا، في أوروبا، ما يعنيه الحب لشخص من بلاط أوروبا في العصور الوسطى، فإنه يقوم بنوع من الترجمة. وبنفس الطريقة، لا يستخدم عالم الأنثروبولوجيا فقط موقعًا خارجيًا يساهم من خلاله بمعرفة علمية تسمح للمترجم بإعادة النظر في الإجراءات المعتمدة للقيام بعمله. عالم الأنثروبولوجيا هو أيضا المترجم. يدرس عالم الأنثروبولوجيا الممارسات الثقافية والتواصلية واللغوية لشعب ما حتى يتمكن لاحقًا من وصفها لأفراد غريبين تمامًا عن هؤلاء الأشخاص. ولتحقيق هذا الغرض، يجب عليه أن يصف الممارسات المختلفة وتحت أي سياق تحدث هذه الممارسات، بطريقة يمكن أن يفهمها المتلقي المستقبلي. سيصبح هذا الوصف أساسًا للمخططات المفاهيمية الخاصة به والتي يفسر من خلالها هذه الممارسات. وهذا يدفعنا مرة أخرى إلى الإصرار بالتشابه التي تحدث بين الشعوب البعيدة جغرافيا وثقافيا. إذا لم يكن الأمر كذلك، فلن نتمكن من فهم التنظيم الاجتماعي أو الطقوس أو الممارسات العامة للثقافات المختلفة عن ثقافتنا، ووفقًا لفولي ، "لا يمكن لعلم الإنسان أن يوجد كنظام". كما تظهر هذه التشابهات في مظاهر الإبداع والحرية العالية كما في المظاهر الفنية. لذلك، في الأفلام أو الأدب، عندما يحاول المرء سرد أحداث وقعت في عوالم خيالية أو غير حقيقية، بما في ذلك الكواكب الأخرى، يتم إعطاء الشخصيات خصائص أو سلوكيات تشبه الإنسان. يبدو أن الإنسان لا يستطيع أن يخترع أي شيء لا يستطيع تصوره. وينطبق هذا على الترجمة من النص المصدر إلى النص الهدف لأنه، وفقا للمنظور الذي نشير إليه، فإن إمكانية الترجمة هي عرض للتشابه الموجود بين عالمين. إن مهمة المترجم هي العثور على أوجه التشابه هذه واستخدامها وفقًا لذلك لصالح قرائه.

الخاتمة

تعتبر الترجمة من أقدم الممارسات الإنسانية بشقيها المكتوب والشفهي. مما لا شك فيه أن الترجمة ضرورية لجعل التواصل بين الأشخاص من مختلف الثقافات ممكنًا. وبقدر ما إذا كان ينبغي أن يتمحور النقاش حول الجوانب الشكلية للنص أو محتواه، فيجب أن يأخذ النقاش في الاعتبار الطابع الوظيفي البحت للترجمة. لا تحدث جميع الترجمات في نفس السياق ولا يكون لها نفس الهدف. تتطلب هذه الحقيقة تنوعًا كبيرًا من محترفي الترجمة لدرجة أنها تتطلب في كثير من الأحيان تخصص المترجم. ومن جانبها، يمكن للعلوم الاجتماعية المختلفة، من الناحية النظرية، دراسة العوامل التي تشارك في عملية الترجمة. تسمح هذه المساهمات من مجالات مختلفة للمترجم بالتفكير في مهمة الترجمة من وجهات نظر مختلفة غير مستكشفة."

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..............................

* بواسطة كارمن جوارددون أنيلو،2003

المصادر والمراجع:

Bernárdez, Enrique (1995) Théorie et épistémologie du texte, Madrid : Cátedra.

Cartford, John C. (1965) Une théorie linguistique de la traduction : un essai sur la linguistique appliquée, Londres : Oxford University Press.

Chomsky, Noam (1968) Langage et esprit. Édition augmentée. New York : Harcourt, Brace, Jovanavich.

Foley, William A. (1997) Linguistique anthropologique, Malden, MA : Blackwell.

Jakobson, Roman (1959) « Sur les aspects linguistiques de la traduction », dans R. A. Brower (éd.) On Translation, Cabridge, MA : Harvard University Press, pp. 232-9.

Putnam, Hilary (1975) Esprit, langage et réalité, Cambridge : Cambridge University Press.

قد لا أبالغ لو قلت إن هذه الأيام هي أفضل ما مرّت به الثقافة السعودية منذ زمن طويل. أحتمل أن بعض الناس من الجيل السابق لي سيبتسم قائلاً: إن النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي هي الحقبة الذهبية للثقافة، فهي التي شهدت أبرز المعارك الثقافية، وأرست حجر الزاوية الأبرز في تاريخنا الثقافي، بين التقاليد والحداثة. إنها الفترة التي انكسر فيها طوق التقاليد، ليس في المدن الكبرى والمجتمعات المعروفة بالانفتاح، بل في المجتمع السعودي كله، أقصاه وأدناه.

حسناً. أعرف أن هذا صحيح. لكن دعنا نستعرض باختصار معنى الثقافة، كي يتضح لماذا أرجّح المرحلة الحالية على غيرها.

ينصرف لفظ الثقافة إلى ثلاثة معانٍ كبرى، هي:

1- المعارف المكتوبة والمسموعة التي وُضعت على نحو منظم، واختُزنت في وسائل حفظ معيارية، كالكتب والأشرطة والخوادم الرقمية. وتشمل العلوم بمختلف حقولها، والبرامج والمعادلات الرياضية، والآداب بأنواعها والفنون المرئية كالأفلام واللوحات والخرائط وأمثالها.

2- ما تخزنه الذاكرة الفردية والاجتماعية من قيم وأعراف وقواعد عمل، هي - في الغالب - نتاج للمعارف الموروثة والتجربة التاريخية للمجتمع. وهي تتفاعل كثيراً أو قليلاً، مع النوع الأول فتعطيه وتأخذ منه. تتشكل هذه الذاكرة على صورة انطباعات وقيم وقناعات مستقرة، وتسهم بقدر كبير في تشكيل موقف الفرد والجماعة من البشر والأشياء ضمن نطاقهم الحيوي. هذه الذاكرة، التي نسميها أيضاً «الذهنية» أو «الخلفية الذهنية» أو «العقل الجمعي» مسؤولة عن معظم السلوك العفوي للإنسان، وهي أيضاً مسؤولة عن الأعم الأغلب من مواقف المجتمع تجاه ما يجري من حوله.

3- الطريقة التي يعبّر بها الناس عن ذواتهم وعن آرائهم ومواقفهم وتجليات حياتهم، في الفرح والحزن، وفي العلاقة مع الغير ومع البيئة الطبيعية في نطاقهم الحيوي. ويدخل ضمنها اللغة (واللهجات) والفولكلور والأزياء وطرق الاحتفال والعزاء، كما تدخل فيها نظم البناء والعلاج ومفاهيم الجمال والتجميل، وكل عرف أو تقليد يمثل مظهراً من مظاهر الحياة التي يختص بها المجتمع ويتمايز بكيفيتها عن غيره.

المعاني السابقة تكشف عن أن الثقافة ليست مجرد أفكار يتداولها الناس، وليست مجرد تعبيرات عن قضايا حياتية بعينها، بل هي الوسيط الذي يربط الإنسان بكل شيء آخر. إنها أقرب إلى ما يعرف في عالم الإلكترونيات بالبرامج التي تربط جهازاً بجهاز آخر، فتمكن الجميع من التفاعل والعمل بشكل متوائم. الثقافة إذن هي السوفتوير software أو الوسيط الذي يمتد من عقل الإنسان إلى كل شيء آخر، فيجعلها قابلة للتفاعل.

لأن الحياة متنوعة، فان كل مجتمع يتفاعل مع بيئته الطبيعية ومحيطه الإنساني على نحو معين، فيؤلف تجربة حياتية مختلفة كثيراً أو قليلاً عن تجارب المجتمعات الأخرى. إن مجموع التجارب المختلفة ينتج تاريخاً مختلفاً. ومن هنا يأتي التنوع الاجتماعي في التعبير عن الذات، أي محتويات المعنى الثاني.

في الأزمنة الماضية، كان الاحتفاء بالثقافة يعني بصورة محددة جانبين، هما الأدب ولا سيما الشعر، والمعارف الدينية. وهما جزء من محتويات النوع الأول. وكان النوع الثالث، ولا سيما الفولكلور والفنون يقام في نطاقات ضيقة جداً. بل أستطيع الادعاء أن بعض الأطراف كان مهتماً بحجب التنوع الذي تتميز به المملكة، وإظهار وجهها الثقافي أحادي اللون، لا يعبر عن أي بيئة من البيئات الاجتماعية الكثيرة فيها.

في هذه الأيام تعود الثقافة إلى دورها الطبيعي كتعبير عن حركة الحياة ذاتها، بما فيها من تنوعات وتموجات وألوان. نشهد الفولكلور المحلي يعود للواجهة بعد غياب طويل، كما نشهد عودة المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل. الأزياء والطبخ وأنظمة البناء التقليدية، تستعيد مكانتها كتعبير عن ثقافة المجتمع.

ثمة عنصر في غاية الأهمية، أشعر بأنه ما زال بعيداً عن الاهتمام وهو البحث العلمي والنشر العلمي. لا تنمو الثقافة ولا يتقدم المجتمع دون حياة علمية نشطة. الحياة العلمية تعني إنتاج العلم وترجمة العلوم ونشرها وجعلها متاحة لعامة الناس صغاراً وكباراً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 المف_قيه [1]

تستوقف الباحث والقارئ للفكر الإسلامي، ظاهرة غريبة، قديمة وحديثة، تتمثل في حضور مفكرين أو لنقل مثقفين، تميزوا باستيعاب وهضم فكر زمانهم ومعارف عصرهم الفلسفية والمنطقية والعلمية، غير أنهم، بدل الاستثمار فيما استوعبوا وهضموا، عملوا على تحويل رصيدهم الفكري والمعرفي إلى أداة خدمة؛ أداة لخدمة ما لم يوضع له الفكر والفلسفة والعلم في الأصل، وهو الإنتاج والإبداع، وما يحققه من رقي بالحياة، والارتقاء الروحي بالإنسان.

ولا يعني تحويل الفكر والمعرفة إلى أداة سوى إخصاؤهما وحرمانهما من أن يتطورا، وان يتم انتاجهما وابداعهما في الثقافة التي يوظفان في ميدانها بتلك الصفة. يتفق المثقفون-الظاهرة في حقل اشتغالهم، ووظفوا في سبيله الفكر والمعرفة إلى مجرد أدوات خدمة، هو السلفية التراثية التي تم تديينها في ظروف الصراع على السلطة والنفوذ بين مكونات المجتمع العربي الإسلامي القديم.

وقفنا في حدود ما أتيح لنا قراءته في مجال الفكر الإسلامي القديم والحديث، على ثلاثة شخصيات من منتجي الخطاب في الثقافة العربية الإسلامية؛ وهم كل من الغزالي، وأبي اسحق الشاطبي من القدماء، وطه عبد الرحمن من المعاصرين. وإذا كان المنجز الخطابي للغزالي قد حظي بالدراسة النقدية؛ فتأكد دوره في إعاقة الفلسفة، وهي لم يشتد عودها بعد في الثقافة، من النمو وتأخذ سيرها الطبيعي، بوصفها حقا مشروعا لهذه الثقافة، فإن كلا من الشاطبي وطه عبد الرحمن لا زال مشروعهما الخطابي لم ينالا ما يستحقان من النقد والتقويم.

وبخصوص عمل الشاطبي آمل أن يكون العمل الذي أنجزته حوله خطوة في هذا الطريق [2] وبقي المشروع الخطابي لطه عبد الرحمن مغمورا إلى اليوم لم يحظ بما يستوجبه من المراجعة والتقويم، ربما للمكانة التي يحضر بها طه في الساحة الفكرية والأكاديمية المغربية خاصة، والعربية الإسلامية عامة. ونظرا للحجم الذي بدأ يأخذه ويحتله في هذه الساحة؛ وهو حجم آخذ في النمو والاتساع إلى درجة قد يصبح حالة "فكرية" وثقافية يتم معها تحويل "فكره" إلى مشاريع عمل، وبرامج للتكوين في المؤسسات التعليمية والأكاديمية؛ وهو ما [3] توحي به مؤشرات من داخل الجامعة المغربية.

وأتمنى أن يحالفنا التوفيق، أنا وبعض الزملاء، في أن نخطو خطوة في هذا الطريق أيضا؛ بإنجاز قراءة، في حدود المتاح، خاصة أن ما كتبه الرجل ليس بالقليل؛ فقد جند نفسه وقلمه لمنع الفكر الإنساني الحديث بجميع أصنافه الفلسفية والمنطقية والسياسية من ان يثمر في بيئتنا وحياتنا، كما أثمر في بيئة نشأته، وفي بيئات ثقافية غيرها؛ بدعوى أن الثقافة العربية الإسلامية غنية بذاتها قيميا وفكريا ومعرفيا؛ بل يدعي الأستاذ طه ان هذه الثقافة تتفوق في هذه المجالات عما تقترحه الحداثة على الإنسانية. يقول عن واقع الحداثة: "فبعد أن ضل هذا الواقع طريقه إلى اسعاد الإنسان الذي كان مقصد روح الحداثة، فإن التطبيق الحداثي الإسلامي، بفضل رصيد الإسلام الغني من القيم، يمتلك من الاستعدادات الروحية ما يمكن أن يزود به الآخرين لتحقيق حداثتهم". (روح الحداثة: 41-42)

ولأننا في طور التسويد للمنجز القرائي المشار إليه، أردنا إطلاع القارئ على بعض ملامحه فكان هذا المقال. ونرى في هذا السياق ان المدخل المناسب، لما يسمح به المقام، هو السؤال عما إذا كان طه عبد الرحمن يمارس الفكر ويمتهن فعل التفلسف فيما كتب ويكتب؟ وهو العنوان الذي يحضر به في أذهان البعض؛ إن لم يكن لدى الكثيرين. ويساهم عمله الأكاديمي والجامعي في تثبيته.

يتأكد في الجواب، ما سبقت الإشارة إليه في البداية، وهو اتسام الأستاذ طه، مثل الغزالي والشاطبين بالتمكن من معارف زمانه وعصره، لكن بدل الاستثمار فيها في اتجاه تنميتها في ثقافته وبيئته، وهي في أمس الحاجة إليها، وظف الرجل تلك المعارف في اتجاه الدفاع عن التراث ومهاجمة المخالف الداخلي والخارجي.

يلتبس عمل طه وهويته الفكرية، بسبب الوجهين الذين يحضر بهما في الساحة الفكرية والثقافية؛ فهو يحضر فيها بوجه أستاذ الفلسفة والمنطق وفلسفة اللغة من جهة، ويحضر أيضا من الناحية الثانية بوجهين؛ وجه المريد التابع لشيخ الزاوية الذي اخترع له اسم "المخلق"، يستمد منه المدد والتخلق. ووجه المنظر الذي يعمل على إضفاء الطابع "الفكري" على التصوف الطرقي. ولكي يزول الالتباس بالنسبة لمن يبهرهم وجه الحضور الأول؛ أي طه عبد الرحمن مدرس الفلسفة والمنطق، لابد من فهم العلاقة بين الوجهين في شخص طه وفكره؛ فالأول هو مجرد أداة لخدمة الثاني. ويتم ذلك بوجهين؛ وجه رمزي يتصل بالسلطة المعرفية المؤسسة على المهنة الأكاديمية، ووجه يتعلق بإنشاء خطاب خصص بعضه، او في جزء منه للكلام في الفلسفة والمنطق والحجاج واللغة. (فقه الفلسفة، أصول الحوار وتجديد علم الكلام)

ويبدو أن تمكن الأستاذ طه من مهنته الأكاديمية، واتقانه لمهارة الإنشاء واقتداره اللغوي، والقدرة على تشقيق الكلام، وبراعته في اختراع المفاهيم والمصطلحات، يمنع المتلقي لخطابه من الربط بين ذانك الوجهين وإدراك العلاقة بينهما. ويزيد وضع عمل الرجل في الثقافة التباسا، ما يصرح به في مختلف كتبه حول طبيعة مشروعه "الفكري"؛ إذ يصرح في بعضها بأنه يكتب في مجال "العمل الديني" (مقدمة العمل الديني وتجديد العقل)، ويؤكد في كتب أخرى أنه يكتب في مجال إقدار العربي المسلم على التفلسف (فقه الفلسفة والحق العربي في الاختلاف الفلسفي، والحق الإسلامي في الاختلاف الفكري).

ويقول في مواضع أخرى من كتبه بانه يبدع فلسفة بديلة؛ يسميها بأسماء عديدة منها: الفلسفة الحية، وفلسفة الشهادة، وفلسفة التزكية (...) (روح الدين). غير أن ما يحكم عمله كله أمران؛ أولهما ادعاء التفوق القيمي والمعرفي واللغوي للخصوصية التراثية عامة، وفي صيغتها الصوفية الطرقية خاصة. ويشكل هذا الادعاء المنطلق أو لنقل الخلفية الموجهة لجميع أعماله خاصة في شقيها النقدي الاعتراضي، وشقها الذي ينسج فيه ما يعتبره "بدائل".

وثانيهما العمل على إخضاع المنجز الفكري والثقافي للحداثة لايديولوجيا الخصوصية. وكما اقتضى منه الأمر الأول إضفاء طابع العظمة والاجلال التفوق و (...) على التراث، فقد اقتضى منه فعل الاخضاع، الذي يسميه بأسماء متعددة منها: التقريب، والتأصيل، والتاثيل، النقد والاعتراض والهدم. ونظرا لصعوبة، إن لم يكن من المستحيل اثبات جميع الدعاوى التي يدعيها للتراث، والمواقف التي يتخذها ضد المخالف، فقد أكثر من النقد والاعتراض، فاحتلا حيزا كبيرا من خطابه؛ حيز يشعر من خلاله القارئ بان طه عبد الرحمن غير مطمئن فيما يكتب، وغير مرتاح عما يدافع عنه، وإلا لما طغى على أسلوبه وخطابه لغة الدفع والاعتراض والردود، إلى درجة تشكل منها معجم قائم بذاته يمكن تسميته ب:"معجم الدفاع والاعتراض".

يغيب طه الواقع التاريخي للتراث، وواقع الحياة الإسلامية اليوم التي هي نتيجة لذلك التراث، وصرح في هذا السياق بأنه يشتغل، ليس على الواقع؛ وإنما بما ينبغي أن يكون. يقول: "واضح أننا لا نقصد هنا بـ : (مجال التداول الإسلامي) المجتمعات الإسلامية في وضعها المتردي الراهن، وإنما المجتمعات الإسلامية كما يجب أن تكون لو أنها تمسكت بالمبادئ الإسلامية؛ ولا ينفع المعترض أن يقول إننا نهمل الواقع ونشتغل بغيره". (روح الحداثة: 18) ومكنه هذا الهروب من الواقع من صياغة دعاويه من خلال حبكة خطابية، ونسق كلامي يتسم بالاتساق والانسجام الصوري، بعيدا عن أي اختبار، ولهذا تغيب عن خطابه الأمثلة والشواهد غالبا.

يعتمد طه عبد الرحمن أسلوب الأخذ بالضد، الذي يؤطره منطق رد الفعل، فيما يدعي انه البديل او البدائل التي يقول بها، وهي البدائل التي تتنوع أسماؤها بتنوع السياقات التي ترد فيها، مثل التكامل في مقابل التجزيء، والوصل في مقابل الفصل، والائتمانية في مقابل الدهرانية، والعقل المؤيد في مقابل العقل المجرد والجواب الإسلامي في مقابل الحداثة، والتطبيق الإسلامي في مقابل واقع الحداثة (...). ومنطق رد الفعل لا يتمتع بالأصالة الفكرية، بحيث يفقد مبررات الوجود والكون بغياب الفعل الذي ينجزه الآخر أو المخالف.

تمتد جذور هذا الأسلوب في التراث الذي يدافع عنه طه، مما يبيح تأويل عمله بانه امتداد له، فهو العمل الذي اشتغل به أهل الحديث، يقول المحدث ابن عيينة: "يا أصحاب الحديث، تعلموا فقه الحديث لا يقهركم أصحاب الرأي، ما قال أبو حنيفة شيئا إل ونحن نروي فيه حديثا أو حديثين" (معرفة علوم الحديث للحاكم:66). كما أن "فكر" الفرقة الكلامية التي ينتمي طه إلى مذهبها الكلامي؛ وهي الفرقة الأشعرية، مبناه ومعناه كله هو عبارة عن ردود فعل على فكر المعتزلة شكلا ومضمونا. فكل ما قام به الأشعري هو قلب المعاني والمفاهيم التي حدد بها المعتزلة أصولهم مذهبهم الخمسة، والأخذ بضدها؛ بل إن "السنة" التي شكلت الإطار الأيديولوجي الجامع، لم تنشأ إلا كرد فعل على قراءة للتجربة النبوية الإسلامية، وللقرآن تحديدا، من طرف أهل الرأي والعقل [4]

يخوض الرجل ما يشبه "الحرب" ضد الكل، لذا كثر خصومه و"أعداؤه" من داخل الثقافة العربية الإسلامية وخارجها؛ وهكذا توزع خصومه من الداخل بين من يسميهم المتفلسفة والعلمانيين والحداثيين؛ أبرزهم محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد اركون (تجديد المنهج في قراءة التراث، وسؤال الأخلاق)، وبين الإسلاميين الذين يسميهم في كتاب: "روح الدين" بـ : "الديانيين"؛ فهو ينتقدهم ويدخلهم في جبهة "الخصوم" من زاوية عدم اعترافهم بالطقوس الصوفية التي يرى أنها السبيل الوحيد للتخلق، رغم ما سبق أن صرح به في كتاب: "العمل الديني وتجديد العقل"، من انه يعمل على خدمة مشروعهم الأيديولوجي، بتقديم السند الفكري له. أما خصمه الخارجي فهو الحداثة ومنجزاتها الروحية والعلمية والتقنية، وتحديدا نمط الحياة التي اقترحته وتقترحه على البشرية.

يقف القارئ لكتب الأستاذ طه ومتنه على بعدين لشخصيته؛ فهو شخص يتمتع بمؤهلات وكفاءات المفكر الذي بإمكانه الابداع والإنتاج في مجال الفكر الفلسفي (فقه الفلسفة: المفهوم والتأثيل)، فهو واسع الاطلاع على الفلسفة وتاريخها القديم والحديث، وهو ما يصدق على معرفته بالتراث، وهو متمكن من لغات الإنتاج الفلسفي القديمة (اليونانية واللاتينية)، والحديثة (الألمانية والإنجليزية والفرنسية)، إضافة على تمكنه من الة المنطق وفلسفة اللغة.

لكن بدل ان يستثمر في مجال هذه المعارف، فيفكر فيها وبها، حولها إلى مجرد آليات وظيفية لخدمة التراث والدفاع عنه، واداة لتأبيد الفقر المعرفي والفكري الذي عانت وتعاني منه الحياة الإسلامية. رغم أنه يتوهم ويوهم القارئ معه أنه بخلاف ذلك يعمل على تمكين المسلم من آليات الاقتدار الفكري، وتقنيات انتاج حداثة على الصيغة الإسلامية. يتجلى الوهم، رغم جاذبية الشعار، في السؤال عن نمط الحياة الذي يقترحه الرجل بديلا عن نمط حياة الحداثة، التي يصر على أنها غربية؛ وهو البديل لم يستطع ان يخترع له اسما واصطلاحا، وهو البارع في صناعة الاصطلاح، مختلفا يعبر عن "الخصوصية" التي هي شغله الشاغل، عن اسم "الحداثة" فسماها "حداثة إسلامية" بإضافة صفة "إسلامية"، وهو اعتراف ضمني بقوة وغنى الطرح الحداثي وقيمه ومنجزاته القيمية والفكرية والحياتية.

يخلط طه عبد الرحمن بين الايمان والدين؛ إذ يجعلهما شيئا واحدا في سياق تعقيبه على الفلاسفة الذين أسسوا الايمان بالله على العقل، فتولد عنه "ايمان العقل" (ديكارت) أو "الدين في حدود مجرد العقل" (كانط)، وفي سياق عمل هؤلاء الفلاسفة على عقلنة بعض القيم اليهودية والمسيحية. فأول الرجل عملهم هذا تأويلا بنى عليه دعوى كبيرة مفادها أن الفلاسفة إنما أخذوا القيم والخلاق من الدين متنكرين. وخلط أيضا بين الأخلاق والتصوف الطرقي، فجعلهما شيئا واحدا، فادعى أن هذا الأخير هو المعول عليه في تجاوز ما يسميه "آفات" الحداثة في مجالات الميتافيزيقا والسياسة والعلم والتقنية (سؤال الأخلاق).

لم يراع الرجل الظروف التاريخية التي فرضت العلمانية بمظاهرها الثلاثة (فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن العلم، وفصل الدين عن الأخلاق)، رغم الإشارة إليها، لكنه لم يؤسس على ما تقتضيه أثناء التقييم والنقد؛ إذ استطاع مؤسسو الحداثة الكبار أن يميزوا في الدين بين ما سموه ب: "الدين الطبيعي" و "دين العقل"، وبين دين المؤسسة او دين اللاهوت. فأسس البعض منهم الأخلاق على المسلمة الأولى لدين العقل، وهي فكرة الايمان بالله (كانط).

ولم يراع أيضا؛ او لنقل تجاهل كليا، في موضوع الدين، مقررات ونتائج علوم إنسانية، أصبحت حاسمة اليوم، في هذا المجال، يتقدمها علم الآثار وعلم الأديان، إضافة إلى علوم الأنتروبولوجيا والحضارة والتاريخ، فاعتمد على ما قدمته السردية التوحيدية حول الدين ونشأته وبداياته، وحول تاريخ الإنسان وبدايته على الرض.

يؤسس طه عبد الرحمن الكثير من تصوراته ومواقفه، وكذا خلاصاته ونتائجه؛ بل أيضا انتقاداته واعتراضاته على المرجعية التراثية بوصفها مسلمة خارج النقاش، رغم أنه ميز بين ما يسميه "الصورة الفطرية للدين" و "الصورة الوقتية له" (بؤس الدهرانية)، لكنه لم يأخذ بمقتضى هذا التمييز في التحليل وصياغة النتائج وبناء المواقف. والتأسيس على ذلك، وهي مسلمة بالنسبة إليه، يخرج فكره ويفقده السمة الأساسية التي يتقوم بها الفكر الفلسفي وفعل التفلسف، وهي "الكونية"، فمخاطبه فئة محددة من الناس؛ وهم من يسلمون مثله بالمرجعية التراثية بحسب التصور الذي يصنعونه حولها.

لقد أخلف الرجل الموعد معنا، عندما حول المنجز الإنساني الحديث إلى مجرد أداة لخدمة أيديولوجية "مجال التداول"، التي يتعين اخضاع كل شيء لها ولمحدداتها: العقيدة، والمعرفة، واللغة. وهي مجرد صيغة طهوية لأيديولوجية تراثية بأضلاعها الثلاثة: الفقه، والأشعرية، والتصوف الطرقي.

***

حسن العلوي، كاتب مغربي

.....................

[1] الأستاذ طه عبد الرحمن في رأيي في منزلة بين المفكر والفقيه، وفي الاخير لا هو هذا ولا ذاك

[2] -عنوان العمل: تديين البداوة وتأبيد الجهل، مقاربة نقدية للمقاصد الشاطبية.

[3] -حضرت نشاطا حول الدرس الافتتاحي الذي نظمته احدى الكليات، استدعي له طه عبد الرحمن، وصرح مسير النشاط، وهو من تلامذة الرجل، تولى العمادة فيها مرتين، بأنه في عهده فتحت أبواب الكلية لطه عبد الرحمن وفكره بعد أن كانت موصدة في وجهه.

[4] -انظر فصل: وقفة مع الملحق الأول من الأدلة، في كتابنا: تديين البداوة وتأبيد الجهل، فقد وثقنا في لظروف وملابسات نشأة السنة.

عفيفي يدحض مقولات الاستشراق

بالعودة إلى موضوع جذور التصوف الإسلامي ونشأته الأولى، يمكن أن نجد دحضا قويا لمقولة وفادة وأجنبية التصوف الإسلامي التصوف الإسلامي وتفنيدها التطبيقي في ما كتبه أبو العلا عفيفي في كتابة "التصوف الثورة الروحية في الإسلام" قبل أكثر من نصف قرن، لنقرأ ما كتب وعذرا سلفا لطول المقتبس لضرورته القصوى: "الصورة الثانية هي الصورة الفارسية التي يدَّعي أصحابها أن التصوف الإسلامي نتاج فارسي في نشأته وتطوُّره، ولكنها أيضاً دعوى لا تقوم على أساس من التاريخ. نعم كان عدد كبير من أوائل الصوفية من أصل فارسي، ولكن أغلب متأخِّريهم كانوا من أصل عربي؛ كابن عربي وابن الفارض، وأكثر الذين تأثَّرُوا بابن عربي - العربي القح - كانوا من الفرس كالعراقي وأوحد الدين الكرماني وعبد الرحمن جامي وغيرهم".

ويُرجع عفيفي أصل هذه الفكرة عن هندية أو فارسية جذور التصوف إلى ما يسميه "التعصُّب لفكرة الآرية ضد السامية، وادِّعاء من جهة المتعصِّبين بأن العقلية السامية ليست أهلاً للفلسفة ولا للتصوُّف ولا للعلوم والفنون".

ثم يفترض عفيفي التسليم جدلا وافتراضا بصحة فكرة أن "التصوُّف كان رد فعل للعقل الآري ضد دينٍ سامٍ "الإسلام" فُرض على فارس فرضاً، وأن كبار المفكِّرين الفارسيين لم يَعتنقُوا الإسلام إلا صورةً، وكان غرضهم الأول تشويه الإسلام وقلب أوضاعه لأغراضٍ قومية وسياسية" أفلا تطعن هذه الفكرة بأفضلية العنصر الآري نفسه، وتوجه ضربة إلى كبار علماء الفرس وفلاسفتهم ومتصوفتِهم المسلمين من حيث إنها تُنكِر عليهم كل صدق وإخلاص في مجهودهم العَقلي والرُّوحي الإسلامي"؟

وعلى سبيل النفي، يتساءل عفيفي أيضا، إنْ كان هناك من يشكُّ في إخلاص سيبويه للنحو العربي، وصاحب الأغاني "الأصفهاني" للأدب والقصص التاريخي العربي، والفخر الرازي للتفسير، وابن سينا للفلسفة، وشقيق البلخي وأحمد بن خضروَيه ويحيى بن معاذ وأبي حفص النيسابوري، وأبي عثمان الحيري وأبي حامد الغزالي ومئات غيرهم في التصوُّف؟!

ويختم عفيفي مستنتجا من قراءة معطيات الواقع التاريخي الموثق في سجلات التأريخ وحولياته إنَّ هؤلاء الذين ذكرهم بالأسماء كانوا جميعاً "من أصل فارسي ومع ذلك لم نَجِد فيهم نزعةً نحو الانتصار للغتِهم الفارسية على حساب اللغة العربية، ولا انتصاراً لعقائدَ فارسية قديمة على حساب العقائد الإسلامية، بل بذلوا جهداً صادقاً في فهم الإسلام ونشْر عقائده (تفاخر الشيخ يوسف القرضاوي حين كانت علاقاته جيدة بالحكم في إيران بأنَّ أصحاب كتب الصحاح الستة الجامعة للأحاديث النبوية والمعتمدة من قبل المسلمين السنة بمختلف مذاهبهم كلهم من الفرس وهم البخاري والترمذي والنسائي ومسلم وأبو داود وابن ماجه وهم مبجلون وموقرون لدى المسلمين السنة حتى يومنا هذا، ومعلومة القرضاوي صحيحة تماما!)، إنَّ العكس هو الصحيح، وهو أن لغة الغازين وأدبَهم ودينهم لم تتأثَّر بلغة المغزوين وأدبهم وأصول عقائدهم، بل فرضت اللغة العربية كما فرض الدين العربي نفسيهما على أهل فارس وغيرها من البلاد الإسلامية غير العربية بحيث لم نَجِد بعد جيل أو جيلَين من بين العلماء من يكتب بالفارسية في فارس ولا باليونانية في سوريا ولا بالقبطية في مصر، وفيما يتَّصل بالتصوف بوجهٍ خاص، لم تكن العربية لغة التأليف وحسب، بل كانت لغة الوعظ والتعليم". المصدر: التصوف الثورة الروحية في الإسلام ابو العلا عفيفي. ويمكن أن نذكر بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة المضمرة في ماكتبه عفيفي فإذا كانت الحالة العامة تؤكد إخلاص الفلاسفة والمتصوفة المسلمين الفرس لأنفسهم ولإيمانهم الديني أو الفلسفي فهي لا تنفي وجود حالات استثنائية من الفرس القوميين الكارهين للعرب وللإسلام والمفاخرين بديانتهم المجوسية ولكنها تظل حالات نادرة واستثنائية وعلنية تؤكد تلك القاعدة ولا تنفيها. ومن تلك الاستثناءات حالة الشاعر بشار بن برد والذي لم يُقتل بأمر الخليفة المهدي العباسي لأنه جاهر بمجوسيته وقد فعل ذلك شعرا بل لأنه هجا الخليفة العباسي المهدي وشتمه في عِرضه أي إنه يحسب على ملاك المعارضة السياسية لا الإيمان الديني المخالف وقد قال بشار بحق المهدي العباسي:

ضاعتْ خلافتُكم يا قومُ فالتمسوا........... خليفةَ اللهِ بين الناي والعودِ

وقال فيه أيضا:

خَليفَةٌ يَزني بَعَمّاتِهِ ........ يَلعَبُ بِالدَبّوقِ وَالصولَجان

أَبدَلَنا اللَهُ بِهِ غَيرَهُ ..... وَدَسَّ مُوسى في حِرِ الخَيزُران

والخيزران هي زوجة الخليفة المهدي، وهي جارية يمنية أعتقها ثم تزوجها وأنجب منها الرشيد وموسى الهادي.

والحالات المماثلة لحالة بشار بن برد نادرة ولا يخلو منها أي مجتمع بشري وهذا ليس تبريرا لقتل هذا الشاعر المسن بل هو إدراج للحالة في سياقها التأريخي الحقيقي لتفهم فيه وبموجبه.

بين أخلاقيات التصوف وأخلاقيات السلفية

 ينقل الباحث المحمد عن الجابري قوله حول نشأة التصوف "ذلك أن من شأن ظهور البذور الأولى للتصوف، ولا سيما الحركة الزهدية الممهدة له، كان في مدينتي الكوفة والبصرة. وجل سكان هاتين المدينتين من الفرس، الذين يعيشون وضعية نفسية وسياسية تحمل الحقد الدفين للعرب". وهذا الكلام ليس صحيحا كمعطيات تأريخية فالبصرة والكوفة حين مُصِّرتا من قبل العرب كانتا عبارة عن معسكرين حربيين للجيوش العربية أكثر منهما مدينتين عاديتين، أي انهما كانتا قاعدتين لتجمع المقاتلين العرب وأسرهم وحتى قبائلهم، وقد قسمت كل مدينة إلى أرباع، أي أحياء كل ربع خصص لسكن قبيلة معينة، ولم يسكن الفرس فيهما على الأقل في مرحلة التأسيس والإنشاء وطوال قرن أو يزيد، بل إنَّ القبائل العربية هي التي اتجهت شرقاً واستوطنت إيران حتى فاق العديد السكاني العربي في بعض الأقاليم كخراسان النصف وأصبح الفرس أقلية في تلك الأقاليم.  وإذا كان الجابري يرى في أن الكوفة كانت معادية للدولة الأموية ومنها جاءت الضربة التي قضت عليها وأن الفرس هم سكان أو غالبية سكان هذه المدينة وهذا أمر غير صحيح أو في الأقل مبالغ فيه كثيرا، فهو ينسى أن الحركة التي قضت على الدولة الأموية هي الحركة العباسية وقيادتها من بني العباس وهم عرب قرشيون، وكان لهم مساعدون ومعاونون من العرب والفرس وغيرهم من الشعوب التي ذاقت الأمرين من ظلم الدولة الأموية وخاضوا عدة حروب وثورات قبل أن يجدوا في الحركة العباسية ضالتهم. فحتى حتى العرب لم يسلموا من اضطهاد بني أمية فمأساة ضرب الكعبة بالمنجنيق، وإباحتها للمهاجمين لثلاثة أيام، وأول معارض قتله الأمويون صبرا " أعدم وهو أعزل وتلك نقيصة يشمئز منها العرب" هو العربي حجر بن عدي الكندي، ومقتل الحسين بن علي سِبط النبي ومعه صحبه في موقعة الطف بكربلاء وسبي نسائهم وتسييرها إلى الشام، ولقد كان ضحاياها هذه الكوارث وغيرها من العرب قبل غيرهم، ولكن الجابري يقفز على هذه الوقائع والحقائق التاريخية ولا يرى سوى الجواسيس الفرس يندسون في كل شيء من التصوف إلى الفلسفة إلى الحركات المسلحة دون النظر والبحث في السياق التاريخي الفعلي للأحداث ومضمونه الاجتماعي!

يقارن الباحث بين ما يطرحه الجابري حول أخلاق التصوف وما يطرحه العلوي ويتوصلان إلى أن الطرحين متعاكسان، ففي حين يقدم الجابري رأيا سلبيا من التصوف فهو يقول "وقد ظهرت أخلاق الطاعة الكسروية في المنظومة الصوفية في علاقة الشيخ بالمريد القائمة على طاعة المريد المطلقة لشيخه". ويضيف الباحث "ويذهب الجابري أبعد من ذلك في تأكيد قيم الخنوع التي تظهر في علاقة الشيخ والمريد، وذلك من خلال إظهار العلاقة بينهما بوصفها علاقة بين سيد وعبد، وتتجلى مثلاً من خلال قضاء المريد وقت فراغه في خدمة الشيخ من طبخ وغسيل وغيرها من الأعمال المنزلية. ويُخضع الجابري سيرة أقطاب التصوف لـ "تحليل نفسي"، ويخلص منه إلى القول بأن زهد أقطاب المتصوفة هو عبارة عن جريّ وراء الزعامة. ففشلهم في تحقيق الزعامة الدنيوية جعلهم يطلبون الآخروية عن طريق توسط التصوف والزهد". أعتقد أن هذا كلام الجابري هنا يمت بصلة وثيقة إلى البحث والتفتيش في النوايا والخواطر وأشبه بقراءة "الحظ" في فنجان القهوة منها إلى علم النفس التحليلي أو السلوكي فكيف يتمكن الباحث من معرفة حقيقة ما يفكر فيه الصوفي وما يعتمل في نفسه بهذه الدرجة من الوضوح والتقريرية الباتة.

العلوي ينتقد مفاهيم رينان

على المقلب الآخر يقدم العلوي صورة أكثر انسجاما للعلاقة المريدية، أي التلمذة بين المريد وشيخه وتقتصر هذه العلاقة للتلمذة على فترة المريدية ثم تنحل وتنتهي ويستقل المريد عن شيخه لنقرأ ما نقله الباحث عن العلوي بهذا الصدد: "في المقابل، يرى العلوي أن دخول المرء في سلك التصوف يتطلب بالضرورة أن يكون له شيخ يتتلمذ على يديه، ولكن الاستقلالية من لوازم الصوفية تمنع المريد من تقديس شيوخه، يكتب العلوي في هذا الصدد "الاستقلال في شخصية الصوفي أن لا يقدس شيوخه.  ولا يعني ذلك أن لا يوقرهم ويبجلهم التزاما بحقوق الأستاذ على التلميذ بل أن لا يعتقد فيهم العصمة".

وهنا، في هذا السياق، ينتقد العلوي المستشرق الفرنسي رينان الذي عدّ قول المتصوفة، بأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان دلالة تقييد، يكتب: "وقد وقع الفرنسي رينان في الجهل المركب لما اتخذ من هذه القاعدة دليلاً على أن العقل السامي مقيد، إذ لم يطلع على التوجيه المكمل بالانفصال عن الشيخ بعد إتمام التعلم". ويرى العلوي - بخلاف تصور الجابري – أن التصوف القطباني الإسلامي هو ثورة على الاستبداد بالقول والفعل منذ بدايته مع إبراهيم بن أدهم كقوله الذي رواه ابن كثير في البداية والنهاية: "كل سلطان لا يكون عادلاً فهو واللص بمنزلة واحدة"، فالهمّ المركزي عند أقطاب التصوف، في رأي العلوي، هو توفير الراحة للخلق وهذا الراحة لا تتحقق إلا بالوقوف في وجه الاستبداد". والخلاصة فالعلوي لا يرى أن هناك خنوعاً في علاقة الشيخ بالمريد في التصوف الحقيقي، ولا تتطلب الخدمة المتبادلة بين الشيخ والمريد هذا الجهد المضني، فهم لا يلبسون إلا للستر والدفء، ولا يتخيرون الأثاث لبيوتهم أما طعامهم فمقنن بحدود الكفاية اللازمة للبقاء".

التوبة والخلاص الهرمسي

قضية أخرى مهمة وددت التوقف عندها في قراءة الزميل الباحث، وهي قضية التوبة الصوفية وكيف فسرها الجابري على أساس أن التوبة بالمفهوم الصوفي لا علاقة لها بالتوبة بالمفهوم الإسلامي، بل تنضوي ضمن مفهوم "الخلاص الهرمسي عبر الفناء". يكتب الباحث "تتجلى رغبة الجابري في إسقاط صفة الأصالة الإسلامية عن التصوف في إظهاره مفاهيم التصوف كلها بأنها بعيدة عن الإسلام، وهو الأمر الذي لاحظناه في تناوله مجال التوبة عندهم، الذي هو ليس برجوع عن الذنب فحسب، وإنما رجوع إلى الله أيضاً، في حين أن الجابري يعتقد أن مفهوم التوبة في الإسلام يقتصر على توبة عن ذنب سبق اقترافه، ويخالف هذا الفهم الجابري بوضوح أهم ما جاء في نصوص الفقهاء بمختلف توجهاتهم المذهبية. إذ إن التوبة عندهم هي ليست متعلقة بتوبة من ذنب سبق اقترافه فحسب بل التوبة واجبة على من ترك ما هو مأمور به بالشرع، يكتب ابن تيمية في هذا الصدد "التوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله، وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال، لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهى عنها، يغيّب الجابري هذا الفهم المتطابق بخصوص مفهوم التوبة بين ابن تيمية والمتصوفة لسبب بسيط مفاده إبعاد التصوف وأخلاقه عن الإسلام بشكل كلي، وبهذا نكون مع التحليل الجابري أمام نقد إيديولوجي تضليلي ولسنا أمام نقد موضوعي". بمعنى، إن الجابري في غمرة حماسته وهجائه للتصوف والصوفية يشتط كثيرا ويفارق حتى الفهم السلفي للتوبة وهو الفهم الصوفي نفسه رغم ما بين السلفية التيمية والتصوف من عداء يبلغ أحيانا درجة تكفير الأولى للثانية.

خلاصات البحث

خلاصة البحث تأتينا على شكل مقارنة مكثفة بين رؤية الباحثَين الجابري والعلوي لموضوع الأخلاق الصوفية أو موقع الأخلاق في منظومة المفاهيم الصوفية القطبانية فيكتب: "إننا كنّا أمام قراءتين مختلفتين من الناحية المنهجية والأيديولوجية. فقراءة الجابري كانت مطابقة للقراءة السلفية، وخاصة المعاصرة منها، يكتب مثلا مقدم كتاب ابن تيمية "الصوفية والفقراء"، ومن الصوفية كما نعلم ويعلم شيخ الإسلام خرجت الزندقة، والهرطقة، والسفسطة، والمروق والفسوق". لنقارن القول الأخير مع النتيجة التي وصل إليها الجابري، يكتب جميع "المقدمات" في الكلام الصوفي تنتهي في النهاية إلى عكسها. وحقاً إنَّ "أخلاق الفناء" – المقصود لدى الصوفية ع.ل-  تنتهي إلى "فناء الأخلاق". ثمة تشابه ولقاء، لا فرق سوى أن الأول استخدم ألفاظاً مستخرجة من القاموس الديني التكفيري، أما الثاني "الجابري" استخدم ألفاظاً مستخرجة من قاموس الفكر المعاصر. في المقابل، جاءت قراءة العلوي امتداداً للقراءة الماركسية العربية التي يلخصها المفكر مهدي عامل بقوله "هل من مبالغة في قولنا - شطحاً؟- إن هذا الفكر الماركسي هو وريث كل فكر بقوله ثوري في التاريخ، وهو، لهذا، وريث فكر الإشراق والتصوف الذي هو، بحق، فكر الإسلام، أعني فكر الحق في الإسلام؟ والحق للحق وريث وإن اختلفا ". لذلك كان غرض العلوي من قراءة أخلاقيات التصوف هو دمج هذه الأخلاقيات في مشروعه القائم على ترسيخ قيم مثقفية مناضلة ومقاومة للواقع العربي الرث والمتخلع بفعل تبعية البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العربية للمراكز الرأسمالية الإمبريالية "..." وتساعد قيم التصوف القطباني التي استخرجتها قراءة العلوي في عملية خلق مجتمع عادل لا يكون متجذرا على العنف الإقصائي. كما تساعد أيضاً في العمل على تشكيل خطاب مفتوح ورحيم، بعيد عن أي نسق من التصنيفات القانونية والأخلاقية المتعالية والإلزامية التي تسعى إلى خلق فروق واضحة بين من يجب أن يُدرج في دائرة الأخلاق والقانون ومن لا ينبغي بالتالي أن يُدرج في داخلها. وأخيراً، تساعد قراءة العلوي لأخلاقيات التصوف في مواجهة التيارات العلمانية العربية الزائفة التي لا ترى من العلمانية سوى فصل للدين عن الدولة دون أن تلحظ أن العلمانية لا تكتمل دون فصل واضح بين الدين والأخلاق، لا سيما أن قراءة العلوي بيّنت أن أخلاق حركة التصوف القطباني الإسلامي كانت تجسيداً فعلياً للفصل بين الدين والأخلاق الأمر الذي يمكن التأسيس عليه في تشكيل ممارسة إتيقية تسهم في مواجهة خطاب الدمج بين الأخلاق والدين عند البرجوازيات العربية المسيطرة والتيارات الدينية النصية في أشكالها المتنوعة". وأعتقد المقصود هنا بالفصل بين الدين والأخلاق لا يبتعد عن معنى الفصل بين مضمارين مستقلين؛ مضمار الدين كشريعة ونصوص غيبية وطقوس دينية مختلفة باختلاف وتعدد الأديان، ومضمار الأخلاق كسلوكية وفعالية إنسانية فردية الأساس جماعية التمظهر الاجتماعي، قد تستلهم هذا الدين أو غيره وقد لا تستلهم أي دين ولكنها تنتمي للإنسان الفرد الممارس لأخلاقه الشخصية.

إن الجابري الذي يسفِّه أخلاقيات التصوف ويهجوها من مواقع سلفية ماضيوية يسكت تماما عن الآفات الأخلاقية لدى السلفيين والنصوصيين المحافظين من قبيل التسري وتعددية الزوجات وزواج القاصرات بهدف الاستمتاع والتلذذ الجنسي حتى خارج الشرط التشريعي الإسلامي الذي يبيح التعددية "الزواج الضرائري" بشرط العدل، وامتلاك العبيد والجواري والجشع إلى المال والمجوهرات والممتلكات الأخرى والجاه والسلطان والشهرة، ولكن الجابري، في المقابل، لا يقيم أدنى اعتبار للتجربة السلوكية الصوفية الزهدية المتسامية والتي سجلتها نصوص التراث العربي الإسلامي حتى تلك التي وردت في كتابات خصومهم وأعدائهم ومكفريهم، وهذا ما كرره الباحث بكلمات قليلة قالوا فيها: "أن الجابري لا يعير أي اهتمام بمسألة الرفض العملي عند أقطاب التصوف للتسري وامتلاك العبيد والجواري وتعدد الزوجات، ولا ينظر إليها كمعطى أخلاقي فريد في فضاء تشريعات دينية تبيحها، في المقابل ينظر العلوي إلى ذلك كجانب أخلاقي مضيء بالمقارنة مع الفقه السني والشيعي الذي يبيح التسري وتعدد الزوجات وامتلاك العبيد وزواج الطفلة الصغيرة".

وأخيرا، يمكننا الاتفاق مع ما عبر عنه الصديق الباحث في أن القيم والأخلاقيات الإيجابية التي تحلى بها أقطاب التصوف الإسلامي وعموم حركة التصوف القبطاني لا تشكل أصلاً أو جزءا دخيلا وغريباً عن الإسلام وإنما هي جزء أصيل منه نجد جذوره في النصوص القرآنية وخصوصا "المكية" قبل الهجرة، جزء يتماهى في سلوك وفكر بعض الصحابة والتابعين الذين يعدّون آباء للتصوف الإسلامي، مثل أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعامر العنبري وأن الجوهر الاجتماعي الكفاحي لظاهرة وحركة التصوف القطباني يكمن في انحيازها إلى الخلق الفقير وهم الغالبية المجتمعية في كل زمان ومكان وعمل المتصوفة القطبانية على رفع الظلم والحيف والشرور الطبقية عنه ومقارعة الظالمين الكانزين للذهب والفضة وثروات الشعوب.

***

علاء اللامي- كاتب عراقي

سيحل علينا بعد أيام وبالذات في الثامن من أكتوبر، ذكرى رحيل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والذي لعب دوراً مميزا في تقديم العديد من الأدباء والمفكرين الغربيين، الذين أثروا الحياة الثقافية في أوروبا، إلى القارئ العربي. وكان عميد الأدب العربي يحاول من خلال ذلك التأكيد على قضية التواصل والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، فكان كما قال الدكتور جابر عصفور عنه بأنه: وكان مثقفًا موسوعيًّا وتنويريًّا ككل قادة الإصلاح والنهضة، يسهم مع أقرانه في المجالات التي أشرتُ إليها- في عملية الانتقال بمجتمعه من وهاد التخلف إلى ذُرى التقدم، ومن واقع الضرورة إلى آفاق الحرية، ومن كابوس التقليد للماضي الجامد إلى الحلم بالمستقبل الواعد الذى يظل دائمًا في حالة صنع وتخطيط للزمن الآتي بالوعد، في مدى إمكان التحقق الذى لا نهاية له أو حد. هذه المبادئ المجردة هي رؤية عالم أو مبادئ فكر هذا الرائد العظيم أو ذاك من الرواد الذين تحمَّلوا عنّا عناء بداية مرحلة النهضة وأوائل تحقيق أحلام التقدم التي لولاها ما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تقدم، ولولا نكوصنا عن مبادئهم الخلاقة، ما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من وهاد الضرورة.

كذلك كانت النزعة النقدية عند طه حسين من حيث مقدماتها الأولية، رد فعل ضد التقاليد الأزهرية، التي ظلت جاثمة على عواطفه ومواقفه حتى آخر أيامه، فلقد انتقد طه حسين جوانب كثيرة في الأدب العربي، وهذا النقد كان يمثل كشفا واضحا لثقافة الزيف والجمود اللذين ظلا سائدين في عصره، أي كل ما كان يُدرس في الأزهر والمدارس الرسمية.

وقبل مجيئ طه حسين كان هناك نظرتان للآدب، الأولي: النظرة الكلاسيكية، والتي كانت تصور الأدب على أنه مرآه للواقع الذي يحدث في الوقت الذي يقوم الأديب بكتابة النص الأدبي، وإن هذه المرآة تعكس النص الأدبي مباشرة، والثانية: النظرة الرومانسية، وقامت بتعديل طفيف على النظرة الأولي الكلاسيكية، وقالت بأن ما يعرضه الأديب في النص الأدبي ليس فقط مرآة للواقع، بل هو مرآة لما يعتمل بصدر الأديب من خلال رؤيته للواقع .

وعندما جاء طه حسين حاول أن يتجاوز تلك النظرتين من خلال تقديمه لنظرة جديدة سميت بالنظرة " التوفيقية"، وذلك من تصويره للنص الأدبي بصورة مثلث مقلوب، حيث في رأس هذا المثلث       " العمل الأدبي"، وهذا العمل يتأثر بثلاثة أبعاد: المجتمع، والأديب، والقيم الإنسانية، ولذلك قال طه حسين إن الأدب قد يكون مرسل لصورة إيجابية، أو لصورة سلبية، ونفس الشيء بالنسبة للأديب، فالأديب الذي يمارس الدور السلبي هو الذي يقوم بتزييف الواقع، وتزييف وعي الناس، وذلك كما حدث في أمور كثيرة من الأدب في الشعر الجاهلي، وأيضا هناك الأديب الذي ينقل الصورة الإيجابية ويحاول تقويم ما يحدث في الواقع الذي كان يعيش فيه.

وطه حسين كان يلقب في مصر بعميد الأديب العربي، وفي الخارج كان يلقب بـ " فولتير العرب"، وعندما نتذكره نتذكر مبدأ مجانية التعليم، وصاحب نظرية المرآة، حيث إن الأدب في نظرة مرآة تعكس الواقع الخارجي، وتعكس النفس البشرية، كذلك لا ننسى أن طه حسين كان من الأدباء الذين وقفوا على التراث اليوناني واللاتيني والعربي القديم، وكذلك التراث الأوروبي الحديث، وهو لا شك يمثل عبقرية لا شك فيها، حيث الضعف الجسدي وكف البصر لم يمنعه أبدا من أن يتوغل في المعرفة إلى أبعد الحدود، ولغته مطعمة ما بين الفصحى المتوارثة عبر قرون من خلال حفظه للقرآن الكريم وللمعلقات القديمة في الشعر الجاهلي.

وبحكم تربية طه حسين في الأزهر لم تكن دراسته فيه هباء، فهو الذي قد نقد المنهج الأزهري من داخل المنهج الأزهري نفسه، ولم يأتي بنقده للمنهج الأزهري من الخارج، حتى أننا نجده في كتابه " الأيام "  يحكي أنه قرأ في رسالة التوحيد لأبي العلاء أن أول البناء هو هدم الهدم، وهذا يعني أنه عندما أبني فعلي أن أهدم القديم لكي أبني الجديد، وهذه المقولة تتوافق تماما مع ما اطلع عليه طه حسين من فلسفة ديكارت القائمة على فكرة " أنا أشِك، إذن أنا موجود"، وأن الشك هو أول البناء لليقين،  وطه حسين هو هذا النسيج المرن الواقعي ما بين صوت الماضي من خلال أبي العلاء، والمستقبل من خلال ديكارت.

له معارف شتى وبعض كتبه تحكي هذا الصراع الضخم في فكر " طه حسين"، ففي كتاب له بعنوان " ألوان" حيث جمع فيه طه حسين مقالاته عن الأدب العربي في الجزيرة العربية في أربعينيات القرن الماضي، حتى أن البعض عده أحد افضل كتاباته وأجملها لغويًا، وقد لاقى الكتاب ترحابًا عظيمًا بين جموع المثقفين حتى يومنا هذا. وفي كتاب ألوان يقوم الكاتب -كما فعل في بعض أعماله الأخرى- بمناقشه وتحليل مجموعة من الكتب التي نالت إعجابه ولفتت نظره وتتنوع هذه الكتب بين الأدب الفرنسي والعربي والأمريكي، كما شمل الكتاب مجموعة من آرائه الفكرية والنقدية التي تتسم بالجراءة كما هو معتاد من طه حسين.

وفي عام 1920 أصدر طه حسين كتابا آخر له بعنوان " آلهة اليونان"، وهو يقع في 96 صفحة. وفي هذا الكتاب تحدث عن آلهة اليونان، وذلك من خلال خلخلة الفهم السطحي للظاهرة الدينية بناء على درس مقارن من أدب اليونان، وفي الأدب اليونان قام طه حسين بترجمة مجموعة من النصوص الكبرى عن اللغة اليونانية مباشرة، وذلك من خلال المسرح اليوناني، حيث ترجم مسرحية "أوديب ملكا "، وسوفوكليس "، وترجمته كانت رائعة حيث لم يضارعه أحد، وله كتاب شهير له في هذا الصدد وهو يعنوان" صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان"، وهذا الكتاب طبع في مكتبة الأسرة عدة مرات.

كما لا ننسى كتابه الشهير بعد ذلك كتاب " الشيخان"، ولنا هنا فيه وقفه، حيث يعد أول دراسة للتراث الإسلامي من خلال عرض رائع لشخصيتي " أبي بكر الصديق " و" عمر بن الخطاب"، حيث ينظر للتاريخ الإسلامي كله نظرة حضارية، مبرزا كيف استطاعت الجزيرة العربية ذات الطبيعة البدوية أن نتنج مثل هذين النموذجين في الرؤية للحياة والعدل والقانون .. وهلم جرا، وهو في كل ذلك متأثر بالتنويرين الفرنسيين من أمثال روسو وفولتير وديروا وذلك أن قرأ ما كتبوه عن هؤلاء عن أبي بكر وعمر وكيف تستطيع البادية أن تخرج للناس مثل هذه الشخصية التي لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة، وتستطيع أن تقيم ميزانا للقوة والعدل في آنا واحد .

وأما الكتاب التالي فهو " تجديد ذكرى أبي العلاء " وهو أول كتاب صدر له، حيث نال به رسالة الدكتوراه سنة 1914، وقد طبع لأول مرة بمطبعة الواعظ سنة 1334هـ-1915م في 410 صفحة. وطبع ثانية بمطبعة المعاهد بمصر سنة 1922 في 384 صفحة من غير حذف أو تغيير. وطبع ثالثة بعنوان تجديد ذكرى أبي العلاء في دار المعارف سنة 1937 في 311 صفحة. وطبع طبعة رابعة سنة 1950 ثم طبعة خامسة في دار المعارف سنة 1958؛ حيث خصه طه حسين في ذكر أبي العلاء: شخصه، حياته، بيئته، شعبه، أدبه وفلسفته، متأثرا بمن تشبع بفكرهم من المستشرقين، يقول طه حسين في مقدمة الكتاب: "جعلت درس أبي العلاء درسا لعصره، واستنبطت حياته مما أحاط به من المؤثرات. ولم أعتمد على هذه المؤثرات الأجنبية وحدها، بل اتخذت شخصية أبي العلاء مصدرا من مصادر البحث بعد أن وصلت إلى تعيينها وتحقيقها. وعلى ذلك فلست في هذا الكتاب طبعيا فحسب، بل أنا طبعي نفسي أعتمد فيه ما تنتج المباحث الطبيعية ومباحث علم النفس معا"

والحقيقة لم تكن عناية طه حسين بموضوع أبي العلاء اعتباطا، بل اختاره على غيره من المواضيع التي طرحت عليه لسببين مهمين، أولهما: اندهاشه من عناية الغرب بآثار المعري. وثانيهما التشابه الحاصل بينهما في الضرر، حيث لحقت بكليهما آفة العمى في ريعان الصبا.

كذلك من كتبه القيمة ما كتبه عميد الأدب العربي عن " حافظ وشوقي"، حيث يقلو " طه حسين" : كان القرن العشرين إيذانًا ببدء نهضة أدبيَّة كبرى من أبرز مظاهرها الشعر، وقد اضطلع شاعران من أبناء مصر بتلك النهضة؛ فكان «أحمد شوقي» أميرًا للشعر والشعراء، واستطاع «حافظ إبراهيم» أن يتبوَّأ موقعًا متميِّزًا بين شعراء عصره حتى لُقِّب ﺑ «شاعر النيل»، وكلا الشاعرين قد أحييا الشعر العربي، وردَّا إليه نشاطه ونضرته. وقد تصدَّى «طه حسين» لنقد شعرهما، وإنزاله المنزلة التي يستحقها، وعلى الرغم من أن علاقته مع «أحمد شوقي» لم تكن جيدة، إلا أنه حاول التزام الحَيْدة والإنصاف؛ فجاء كتابه نقدًا أمينًا لهذين العَلمين من أعلام الأدب العربي، راصدًا الأخطاء التي وقعا فيها، وإن لم ينكر مكانتهما ودورهما في الشعر العربي".

كذلك هناك كتاب مهم جدا لابد أن نتطرف له هنا وهو كتابه في " في الشعر الجاهلي" في عام 1926، ومما جاء فى الكتاب قوله: «كل الشعر الجاهلي قد وُضع بعد الإسلام ممن اعتنقوا الإسلام، ثم نسبوه إلى العرب في العصر الجاهلي، وكان السبب فى هذا الوضع وانتحال العديد من الأسباب السياسية والدينية، كأن تحاول قريش الإعلاء من شأنها بين القبائل الأخرى، أو محاولة الأمويين إثبات أنهم الأحق بكل شيء في أمور الحياة، أو محاولات إثبات أمر من أمور الدين حسب تفسيرهم وأهوائهم، ما جعلهم يحاولون تأليف الشعر الذى يُثبت ما يذهبون إليه، ثم ينسبونه فيما بعد إلى العرب في الجاهلية، وإن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي مُنتحلة مُختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تُمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك فى أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدالا يمثل شيئا ولا يدل على أي شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي، وأنا أُقدر النتائج الخطرة لهذه النتيجة.

وما إن صدر الكتاب وأحدث ما أحدثه من ضجة واسعة النطاق حتى انبرى للرد عليه مجموعة من الشيوخ والكتاب البارزون، ومنهم شيخ الأزهر الخضر الحسين ومحمد فريد وجدى ومحمد لطفى جمعة، وخرجت هذه الردود فى ثلاثة كتب كانت نموذجا لمقارعة الحجة بالحجة لا بالتكفير، وجاءت هذه الردود على نحو حضاري راق نفتقده هذه الأيام التي يستسهل فيها كثيرون التكفير والتحريض، وسرعان ما دخلت السياسة في المعركة، وكان من حظ الدكتور طه حسين أن تحالفا كان قائما بين الأحرار الدستوريين والوفد، فرئيس الوزراء عدلي يكن حر دستوري، ورئيس مجلس النواب هو سعد زغلول الوفدى، وهدد عدلي يكن إن أصاب الرجل أذى كما استخدم سعد زغلول نفوذه البرلماني والشخصي في تخفيف حدة ثائرة النواب الوفديين الذين وجدوا فى الأزمة فرصة لتصفية الحساب مع طه حسين، وقادت جريدة «كوكب الشرق» والتي كانت تعتبر امتدادا لجريدة المؤيد.

وكانت قد صدرت وفدية الاتجاه والنزعة في عام 1924 واستمر صاحبها ورئيس تحريرها أحمد حافظ عوض، الذى تربى على يد مؤسس وصاحب جريدة المؤيد الشيخ على يوسف، فى الهجوم على طه حسين بسبب ما ورد في كتابه، وأفردت «كوكب الشرق» عددا من صفحاتها للهجوم على طه حسين وعلى جريدة (السياسة) التي كانت تدافع عنه بأقلام أحمد لطفى السيد والدكتور محمد حسين هيكل ومنصور فهمى وعباس العقاد، فيما ردت كوكب الشرق الوفدية على طه حسين بأقلام مصطفى صادق الرافعي وشكيب أرسلان ومحمد لطفى جمعة وأحمد الغمراوي وعبد المتعال الصعيدي.

وفى نهاية الأزمة تم حفظ التحقيق مع الدكتور طه حسين، والذى أعاد طبع الكتاب بعنوان «الأدب الجاهلى» بعد أن رفع منه الفصول الأربعة التي أثارت الرأي العام وأغضبت العلماء.

كذلك لا ننسى كتاب آخر للدكتور طه حسين قد صدر في عدة أجزاء وهو كتاب " حديث الأربعاء"، وفي هذا الكتاب يعود بنا طه حسين، إلى الأيام الخوالي، أيام امرئ القيس وطرفة بن العبد، وشعراء العصر الجاهلي، حيت يعد كتاب "حديث الأربعاء" دراسات أدبية مستفيضة في الشعر القديم، حيث كتب «طه حسين»  فصوله وكأنه يتحدث إلى مستمعيه في أحد لقاءاته الإذاعية، فجاءت كما قيلت، لتقرأها كما لو أنه يجلس بجانبك، يحكي عن شعراء العربية وفحولها؛ فالكاتب لم يكن يريد حين كتبها وأرسلها إلى مجلتي «السياسة» و«الجهاد» أن تُصبح كتابًا يتداوله الناس ويتخذونه مرجعًا للأدب العربيِّ بعصوره الجاهليِّ والإسلاميِّ والحديث، ولكنها أصبحت كذلك، ربما على غير رغبة منه. وتُعَدُّ هذه الدراسات من أصدق الدراسات النقدية المستفيضة التي تطرَّقت لهذه الزاوية من زوايا الأدب العربي، فناقشت الجانب الفنيَّ لعددٍ من أكبر الشعراء، متناولةً قصائدهم بالشرح والتحليل البيانيِّ واللفظي. وأفردت أيضًا لقضية القدماء والمحدثين مساحةً كبيرة من الدراسة، وخُتمت خاتمة المسك باستعراض عميد الأدب العربيِّ مراسلاتٍ جرت بينه وبين عددٍ من أدباء عصره حول قضايا أدبية ونقدية متنوعة.

وهناك كتاب رائع لابد من وقفه أمامه، وهو كتاب " فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"، وهذا الكتاب كان يمثل أطروحةً باللغة الفرنسية عن «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» عندما كان يدرس في باريس، ونشرها سنة 1918، وقد نُقِلت الأطروحة المذكورة إلى العربية بقلم الأستاذ المحامي عبد الله عنان، ونُشِرت في مصر القاهرة سنة 1926 . لقد اعتبر الدكتور طه حسين أن ابن خلدون كان يمثل عقلية عملية واقعية لم تمكنه حياته الدبلوماسية التي امتلأت بالدسائس والمصاعب السياسية من أن يكثر التأمل في نفسه أو في الحياة الأخرى إلا أنه استنتج من تلك الحياة نفسها ومن دراسته لتاريخ الإسلام وعدد من النظريات الفلسفية التي عرفها المسلمون دراسة عميقة وكبيرة مستفيضه في فلسفة جديدة تتناول دراسة المجتمع وتاريخه وهذا الكتاب يوضح فلسفة ابن خلدون بطريقة صحيحة قدر المستطاع وبأسلوب يوضحا وييسرها للأذهان الحديثة التي لم تعتمد كثيرا درس الفلسفة الإسلامية مع المحافظة على روحها العربى الذى يظهر فيه كثيرا جدل القرون الوسطى.

كذلك يمثل كتاب فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: تحليل ونقد محاولة تجذيرية في متابعة الأصول وتشكله بصيغة ومناهجه الحالية، فعلى الرغم من اختلاف المرجعي حول تصنيف تراث ابن خلدون إلى أي حقل في العلوم الإنسانية ينتمي، بيد أن عمق الحضور الاجتماعي في تناوله ومعالجاته يجعل منه أوائل المهتمين بعلم الاجتماع البشري، فالركيزة الأساس التي اتكأت عليها الدراسة في استخراج الفلسفة الاجتماعية لابن خلدون مبني على الفوارق بين البدو والحضر وتأثير ذلك بجرأة مؤلفه المعهودة اثر تلك العوامل في حركة التاريخ بشكل عام والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص فتعد محاولة الكتاب مبكرة للغاية في تقديم قراءة سىوسيولوجية نقدية .. وللحديث بقية..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

.....................

المراجع

1- ماهر حسن:ذاكرة الكتب.. «في الشعر الجاهلي» لـ «طه حسين» أثار جدلاً واسعًا، مقال منشور بالمصري اليوم، الاثنين 05-04-2021 18:04.

2- صالون علمانيون (314) _ قراءة نقدية في فكر وأعمال طه حسين، يوتيوب.

3-جابر عصفور: رؤى نقدية فكر طه حسين، مقال بجريدة الأهرام، الجمعة 8 من ربيع الأول 1440 هــ 16 نوفمبر 2018 السنة 143 العدد 48192

تكرم الصديق العزيز محسن المحمد، طالب الدكتوراة في الفلسفة، قبل أيام فأرسل لي نسخة من بحث علمي مهم بقلمه فله وللصديق الذي أوصل النسخة شكري الجزيل وفائق امتناني.  البحث بعنوان "أخلاق التصوف العربي الإسلامي وأصولها بين محمد عابد الجابري وهادي العلوي". وهو على حدِّ علمي أول بحث يغرد خارج السرب الأكاديمي، ويناقش موضوع التصوف من منظور نقدي طبقي جذري يحايث المفاهيم التي أسس لها الباحث التراثي والمناضل الاجتماعي الراحل هادي العلوي الذي أحاطت وتحيط باسمه وبأعماله "مؤامرة" صمت وتجاهل في عموم المشهد البحثي الرسمي وشبه الرسمي العربي، وخصوصا في بلده العراق، إلا ما ندر. يأتي نشري لهذه القراءة في هذا البحث المهم متصادفا مع ذكرى وفاة العلوي التي مرت يوم أمس 27 أيلول لتكون تحية لذكراه فسلام عليه وعلى مناقبه وأحلامه المشاعية. وتحية لهذا الجهد الطيب وللصديق الباحث محسن المحمد ومن معه من زملاء أدرج أدناه ببعض الملاحظات التالية:

ثلاثة أهداف بحثية:

يقع البحث الذي نشر لاحقا في "مجلة بحوث جامعة حلب - عدد 2023" في اثنتين وعشرين صفحة. وتقول خلاصته: " يُعنى هذا البحث بتتبع التفكيك الذي قام به اثنان من أهم النخب العربية لأخلاق التصوف العربي الإسلامي وأصولها، وهما محمد عابد الجابري وهادي العلوي. والهدف من هذه الدارسة ثلاثي الأبعاد. فهي ترمي أولاً إلى إظهار الاختلاف الكلي بينهما على الرغم من اشتراكهما في الموضوع. ثمّ تبيان الأهداف الكامنة وراء القراءتين. وأخيرا. تبتغي هذه الدارسة الكشف عن المرجعيات الإيديولوجية لنسقي التفكيك موضوع البحث". ويذهب الباحث إلى أن قراءة الجابري تنسجم مع أطروحتين؛ الأولى أطروحة التيار السلفي الإسلامي الهاجية والمكفرة للمتصوفة والثانية الأطروحة الاستشراقية التي تصرّ على الأصل الدخيل "الآري - وتحديدا الفارسي والهندي" للتصوف العربي الإسلامي، أما أطروحة العلوي حول التصوف فهي "تُشكّل امتداداً للأطروحة الماركسية العربية التي نظرت إلى التصوف الإسلامي بوصفه فكر الحق في الإسلام".

-أعتقد أن البحث قد حقق هذه الأهداف الثلاثة التي وضعها له الزميل الباحث بشكل منهجي ومقنع. ولعل التفريق الذي أشار إليه الباحث والخاص بالتعليق على قول الجابري "فحركات الدروشة تخلو من أي فهم ثوري معارض للاستبداد، بل غدت تدريجياً جزءاً منه، وساعدته على السيطرة على الخلق ونهبهم"، ومفاده أن مقولة الجابري هذه تنطبق "على هذه الحركات (الدراويشية)، وليس على التصوف الحق في تراثنا"، والذي دأب الباحث على تسميته التسمية التي أطلقها الراحل العلوي عليه وهي "التصوف القطباني" تمييزا له عن تصوف الدروشة والدراويش في العصر المملوكي والعثماني.

جهل وتجاهل مقصودين:

 أقول؛ لعل هذا التفريق يشكل حلقة مركزية وجوهرية من حلقات الموضوع المبحوث، وفيها يمكن لنا فهم وتفسير مواقف الرفض والعداء لظاهرة التصوف حتى من قبل باحثين يعتبرون أنفسهم أو ينظر إليهم غالبا كباحثين علميين يتوسلون المناهج العلمية الحديثة فالجابري وسواه من باحثين عرب وغربيين تقليديين معاصرين، فهؤلاء أو لأقل غالبيتهم، يجهلون ما نسميه نحن السائرون على خطى مفاهيم العلوي وأمثاله - التصوف القطباني الحقيقي ولا يعرفون غير الدروشة العثمانية التي لا يجمعها جامع بظاهرة التصوف الإسلامي الحقيقي.

إن الباحثين التقليديين كالجابري يجهلون أيضا وبالنتيجة والمآل الفرق بين التصوف العرفاني الفلسفي والآخر الكفاحي الاجتماعي ذي المضمون الطبقي المشاعي الهادف إلى تحقيق "راحة الخلق الفقير" كما نظَّر له العلوي. وجهلهم هذا لا ينم عن قصور معروفي فقط بل هو أيضا، أقرب من حيث الماهية، إلى الخلل التقني والمعلوماتي الناشئ بدوره عن موقفهم الطبقي المضمر واقتصار تعاملهم مع الخطاب البحثي والمؤسساتي التعليمي الرسمي في دولنا التابعة.

هذا الجهل مضاف إليه التجاهل القصدي هو واحدة من مشاكل الجابري البحثية الكبيرة، إلى جانب تبنيه نسخة حادة ومتشنجة من النظرة القومية العروبية الاستعلائية "الشعوبية" المناهضة لأبناء الأمم والشعوب الأخرى التي انضمت الى الإسلام بعد حروب الفتح كالفرس وغيرهم واعتبارهم حتى إذا كانوا قد أسلموا و"صحَّ إسلامهم" بالعبارة الفقهية، يظلون أعداء متربصين بالإسلام الدين والدولة والحضارة والثأر منها، أيا كانت مساهمتهم في هذه الحضارة وهي مهمة دون شك. يتساوق هذا الجهل بحقيقة مضمون التجربة الصوفية القطبانية وخلطها بالأخرى "الدراويشية" وينجم عنه هذا الاستذيال للموقف الاستشراقي الغربي القائم على النظرة والمفاهيم المركزية الغربية العرقية وخصوصا تجريد التصوف الإسلامي حتى من حاضنته الجغرافية والتاريخية واعتباره دخيلاً وافداً من تجارب أخرى ومن "عقليات" أكفأ وأجدر وأقدر من العقلية "السامية" العربية "الخاملة"!

بهذا الصدد يكتب الزميل الباحث الآتي: "نخلص في هذا السياق إلى القول بأن العلوي لا يتعامل مع التصوف الإسلامي بوصفه كتلة واحدة، بل يميّز في فضاء التصوف الإسلامي بين التصوف الذي بدأ مع إبراهيم بن أدهم وانتهى مع عبد القادر الجيلي في القرن التاسع للهجرة، وبين ما جاء بعده من حركات دروشة التي لا تنتمي إلى التصوف الحقيقي إلا شكلا. في المقابل، فإن الجابري لا يحدد أي تمايز من هذا النوع، وذلك لهدف بدأنا نتلمّسه، وهو إخراج التصوف الإسلامي من دائرة الأخلاق والإسلام الحق".

وفي المناسبة، فهذا الكلام المُسّفِّه للتصوف الإسلامي والذي كتبه الراحل الجابري، قاله الجابري ومعه بعض المستشرقين الغربيين وبالمفردات نفسها تقريبا – مع اختلاف الغاية والهدف – عند مناقشة موضوع نشأة الفلسفة العربية الإسلامية.

الاستشراق الغربي والتصوف "الآري"

لقد أنكر المستشرقون العرقيون الغربيون وتلامذتهم العرب والشرقيون أن تكون هذه الفلسفة عربية إسلامية بل هي نتاج للعقل الآري القدير والكفء الذي مثله أبناء الأمم ولشعوب غير العربية كالفرس والهنود. يمكننا هنا أن نستثني ما قاله المستشرق الألماني ماكس هورتن من أن التصوف هندي المنشأ والجذور وإنه في تجلياته وأفكاره ليس بعيدا عن الفلسفة. أقول يمكن ان نستثنيه من هذا الجهد الاستشراقي العرقي لأنه قد يصح إذا كان المقصود هو التصوف بعموم القول والتعريف، وهذا ما يؤكده السياق العام للكلام، وليس التصوف القبطاني الإسلامي على التخصيص، وهو كلام ينطوي في الحال الأولى على شحنة إطراء محقة ومنصفة، فالتصوف بعموم القول ليس استقالة عقلية أو هروبا ونكوصاً حضارياً أو مؤامرة باطنية فارسية للنيل من دين ودولة الإسلام كما وصفه الجابري بل هو ينطوي في جوهره على بحث فلسفي وتوليد خصب للمعاني الإنسانية والعقلانية في الوجود والحياة أيضا بالمعنى الذي وصفه به هورتن.

التصوف برأي الجابري دخيل ولا معقول

أما عند الجابري فالتصوف الإسلامي دخيل ولا معقول، إنه "اللامعقول، وهو وافد على الثقافة العربية؛ وهو عقل مستقيل تغذيه تيارات فكرية وعقائدية أجنبية تلقفتها عقول فلسفية عربية مثل الفارابي وابن سينا وبنت لها إطارها النظري على قاعدة التصوف – كما يلاحظ محمد همام بدقة وصواب ملخصا فكرة الجابري- وذلك "من خلال الدمج بين الدين والفلسفة عند ابن سينا كاستراتيجية فارسية قديمة. من هنا رأى الجابري ابن سينا مسؤولًا عن زرع اللاعقلانية في العقل العربي الإسلامي، فكانت فلسفته تعبيرًا عن وعي قومي مهزوم ووعي أيديولوجي مقلوب، وهو أحد تجليات الوعي القومي الفارسي المهزوم".

ويُصَعِّدُ الجابري من موقفه هذا ليندمج موقفه ويتماهى بالتفسيرات ذات النزعة الطائفية والمضمون التشنيعي الموجه ضد الطائفة الثانية من المسلمين في عصرنا "إذ يرى – ونعود للاقتباس من قراءة محمد همام -  أن الشيعة أول من (تهرمس في الإسلام)، وهو ما تجسد في فكرة الإمامية. وتسرب هذا الفكر الهرمسي إلى التصوف السني مع الجنيد وابن عربي، وهو ما مهَّد الطريق لاستقالة العقل العربي، وتكريس النظرة السحرية للعالم. والعرفان، في نظر الجابري، ذو نزعة هروبية إلى عالم الميثولوجيا المفلسة، وهو أدنى درجات الفاعلية العقلية، ويفتقد إلى المعطيات الذهنية الموضوعية، انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام في الشرق الأدنى، وبكيفية خاصة في مصر وسوريا وفلسطين والعراق/ الأصول الأجنبية للتصوف الإسلامي.. موضوعاً للبحث العلمي - محمد همام/ ثقافات 16 تشرين الأول أكتوبر 2020/ مدونة الفيصل بتاريخ 1 آذار –مارس 2020". هنا بالضبط يجد كلام جورج طرابيشي حول انزلاق الجابري "من النقد المعرفي إلى الهجاء شبه الطائفي" مصداقه ودليله!

معروف أن قراءة الجابري لظاهرة التصوف قد تعرضت لنقد عميق من عدة أقلام مهمة في المشهد البحثي والفكري العربي. وخصوصا من الباحثين السوريين الطيب تيزيني وجورج طرابيشي، إذْ يرى الأول في المشروع الفكري للجابري برمته "نوعا من الاستغراب المغربي يعيد سيرة الاستشراق الغربي". ويضيف تيزيني أن تصور الجابري "يعاني قصوراً في فهم العلاقة بين الأنماط والبنيات الفكرية المتنوعة، وهو ما أسقط الجابري في الفصل بين ثلاثة قطاعات في الثقافة العربية هي: البيان والبرهان والعرفان، وهذا، في نظره، نوع من الوهم الأيديولوجي والسياسي والمعرفي، وهو ما يقتضي إخضاعه لمبضع تفكيكي جدلي تاريخي صارم.... فإن الخلفية المنهجية للجابري في موضوع التأثير والتأثر يراها فوضوية، خصوصاً عندما يصف الجابري الحضارة العربية بأنها (حضارة فقه)، والحضارة اليونانية بأنها حضارة فلسفة. ويرى تيزيني هذا نوعاً من المقارنة الميتافيزيقية المؤطرة ضمن (مركزوية) أوربية مشروطة بميتافيزيقا التماثل والتماهي بين مركز وأطراف". هذا النقد كرره بمنهجية مختلفة قليلا الباحث جورج طرابيشي، وانتهى فيه الى نتائج مشابهة للنتائج التي انتهى إليها زميله تيزيني وركز فيه على تناول الجابري لميدان الفلسفة حصراً وليس للتصوف.

وبخصوص مقولة "حضارة الفقه" التي يكررها المستشرقون وتلامذتهم العرب ويعتبرون الفقه الديني بموجبها مظهر تخلف السردية العربية الإسلامية وسبب هذا التخلف في آن واحد بل وقد انطوت عليها بعض أبحاث جورج طرابيشي في نقده المحق لطروحات الجابري، وكنت قد كتبت حول هذه الجزئية: "ويمكن أن نسجِّل هنا أنّ طرابيشي، في نقده لمقولة الجابري عن "حضارة الفقه،" يتقاسم وإيّاه، بشكلٍ لاإراديٍّ تقريبًا، تحسُّسَهما (غيرَ المبرَّر) من "الفقه،" مفردةً ومضمونًا؛ ذلك لأنّ هذه المفردة تقترن عادةً عندهما (وعند غيرهما) بالخطاب الدينيّ السلفيّ المحافظ. غير أنّ هذه المفردة أوسعُ من ذلك بكثير. فالفقه في دول الحضارة العربيّة الإسلاميّة ليس أكثرَ من منظومة القوانين والتشريعات القضائيّة والجنائيّة، بالمعنى الوظيفيّ والمفهوميّ. وهي منظومةٌ متنوّعة إلى درجة التناقض، وهي في حالات موثّقة عديدة تلتفّ على النص الدينيّ وتبتدع طرقَها الخاصّة لتطويعه ــ بل لإخراجه من الجزء المحافظ في المنظومة القانونيّة النافذة. وعليه، فلا جدوى من التحسّس الزائد منها، ولا سيّما أنّها لا تصدر عن مؤسّسةٍ دينيّةٍ رسميّة، وإنّما عن أفرادٍ "فقهاء" خاض أغلبُهم في العلوم الأخرى، بما فيها الفلسفة والفلك والتأريخ والاجتماع. فالفيلسوف العقلانيّ ابن رشد، على سبيل المثال، بدأ حياتَه واستمرّ لأعوام عديدة فقيهاً، وتولّى القضاءَ مرّتين في أشبيلية وقرطبة؛ ومثلَه كان عالمُ الاجتماع التاريخيّ ابن خلدون، الذي كان أيضاً فقيهاً وقاضياً على المذهب المالكيّ في مدينة تلمسان".

نسخة مغربية من الاستشراق

أما عن انزياح تنظيرات الجابري نحو مضامين استشراقية عرقية أو نحو نسخة محلية مغربانية منها كنت قد كتبت بهذا الخصوص الآتي: "إنَّ الجابري، بحسب طرابيشي، على الرغم من احتجاجه الصارخ على اللاساميّة الرينانيّة المعمَّمة، يعود إلى تبنّيها "إبستمولوجيّاً،" ويعيد إخراجَها في صورةٍ عنصريّةٍ جغرافيّةٍ خاصّة. فالجابري لا ينْكر أنّ نهرَ الفلسفة اليونانيّة قد قام بتحويلةٍ شرقِ أوسطيّة، ولكنّه يضيف أنّ العقل اليونانيّ البرهانيّ قد تعرفن (نسبةً إلى العرفانيّة)، وتهرمس، بقدْرِ ما تمشرق، ولم يقيَّضْ له أن يستعيدَ عقلانيّتَه إلّا بمقدار تمغربه (من المغرب) بعد طولِ تخبّطٍ في مستنقع "اللاعقلانيّة المشرقيّة" وبعد أن أعاد تكوينَ نفسه في لحظةِ تأسيسٍ ثانية في المشروع الثقافيّ المغربيّ الأندلسيّ ـ على ما تجسّد في نقديّةِ ابن حزم، وعقلانيّةِ ابن رشد، وأصوليّةِ الشاطبي، وتاريخيّةِ ابن خلدون.

الجابري هنا، كما يلاحظ طرابيشي بصواب، يشتقّ نسخةً استشراقيّةً خاصّةً وجهويّةً في رؤيته الإقليميّة العرقيّة عن رؤية رينان: فالإقليم "المغربيّ الأندلسيّ" عند الجابري كالعِرق "الهندوآريّ" عند رينان، أي إنه مقولةٌ فلسفيّة صالحة (من وجهة نظر الجابري) للتفريق بين "مشرقٍ عربيٍّ لاعقلانيّ ومغربٍ عربيٍّ عقلانيّ". ولكنْ إذا كان المشرقُ قد استعصى على العقلانيّة، كما يزعم الجابري، فإنّ المغرب لم يستعصِ على اللاعقلنة. دع عنك أنّ المشرق والمغرب لم يكونا أكثر من جهتين جغرافيّتين في وحدةٍ حضاريّةٍ شديدةِ التداخل والاندماج؛ ومثلما نجد عقلانيّين في المغرب، فإننا نجد نظراءَ لهم في المشرق، والعكس صحيح. وهو ما يعني أنّ التفريق الذي يأخذ به الجابريّ ملتبس، وقد ينطوي على نوازع قطريّة مغاربيّة أكثر منها نقديّة عقلانيّة. صحيحٌ أنّ رؤية رينان أكثرُ صراحةً في مركزيتها الإثنيّة الأوروبيّة المعادية للشرق وللحضارة العربيّة الإسلاميّة، ولكنّها تقوم على المرتكزات الإيديولوجيّة الإثنيّة ذاتها التي اشتقّ منها الجابري رؤيتَه القُطْريّة والجهويّة.  فرينان يقول مثلًا، بحسب اقتباس طرابيشي، إنّ المسيحيّة: "هاجرتْ من البداية إلى القارّة المركزيّة للجنس الآريّ: أوروبا. ومن ثم لم تبقَ، كما بدأتْ، ساميّةً خالصة. فقد أخذتْ من الجنس الهنديّ ـــ الأوروبيّ بقدْرِ ما أعطته. وعلى الرغم من عدائها البدئيّ للعقل الفلسفيّ، فقد انتهت إلى أن تكون حاضنتَه. وفي المقابل، فإنّ الإسلام اضطَهد على الدوام العلمَ والفلسفة، وقد انتهى به الأمرُ إلى أن يخنقَهما، بل إنّه قتلهما قتلًا. ولولا الفُرس لما وُجدتْ قطّ فلسفةٌ في الإسلام. فقد عَرفتْ فارس كيف تطالب بحقوقها كأمّةٍ هنديّةٍ أوروبيّة، وكيف تخلق لنفسها في قلب الإسلام فلسفةً وملحمةً وميثولوجيا…" (رينان، محمّد وأصول الحكم، ضمن: الأعمال الكاملة، مجلّد 7، ص 183، اقتبسه طرابيشي في مصائر، ص 19).

هنا يُخرج رينان بلادَ فارس من عالم التخلّف واضطهادِ الفلسفة، الذي وصم العالم العربيّ الإسلاميّ؛ في حين أنّ الجابري يُخرج منه المغربَ والأندلس ويمنحهما نوعًا من الأفضليّة، ذاتِ المذاق الأورومركزيّ، على مقياسٍ جهويّ مغربيّ أصغر".. في ذكرى رحيل جورج طرابيشي – علاء اللامي – الآداب / العالم الجديد / الأخبار.

بالعودة إلى موضوع جذور التصوف الإسلامي ونشأته الأولى، يمكن أن نجد دحض مقولة وفادة وأجنبية التصوف الإسلامي التصوف الإسلامي وتفنيدها التطبيقي في ما كتبه أبو العلا عفيفي في كتابه "التصوف الثورة الروحية في الإسلام" قبل أكثر من نصف قرن، لنقرأ ما كتب:

يتبع.

***

علاء اللامي * كاتب عراقي

غالبا" ما يتردد مفهوم (الوعي) في سرديات العلوم الإنسانية والاجتماعية كتعبير عن مناشط الفكر ومنازعاته، وهو يقارع معطيات الواقع الموضوعي في مضامير الجدليات الاجتماعية، بصورة تكاد تكون أقرب الى التوصيف الشكلي والتضمين الروتيني منها الى التحليل الجدلي والتأويل المعرفي . وهو الأمر الذي يجعل من الادراكات المباشرة والانطباعات الأولية التي تتكون لدى عامة الناس حيال تفاعلهم مع / واستجاباتهم لديناميات الواقع وسيرورات المجتمع، كما لو أنها صيغة متقدمة من صيغ (الوعي) الاجتماعي بطبيعة عناصر الأول ومكونات الثاني .

والحقيقة ان أغلب ما يجري في هذا المضمار الذهني لا يتعدى نطاق (الحسّ المشترك) الذي يتبلور لدى الكيانات والجماعات عفويا"، على خلفية (إدراكها) المباشر لما يدور فيها وداخلها من تفاعلات وتناقضات مضمرة من جهة، أو ما يجري عليها وحولها من علاقات وصراعات معلنة من جهة أخرى، دون أن يكون لهذا الإدراك الحسي أساس متين من (الوعي) الناضج الذي يمكّنها من اكتناه كيفية عمل الأواليات والديناميات المسؤولة عن عوامل الضبط والسيطرة في الحالة الأولى تارة، أو عوامل التفكك والفوضى في الحالة الثانية تارة أخرى . ولهذا فقد شدد العالم الاجتماعي الفرنسي (موريس هولبفاكس) على حقيقة أننا (لا نستطيع الحديث عن الوعي وعن الحياة النفسية في نفس الآن )) .

وعلى الرغم من نظرات الاستهانة والازدراء التي تخضع لها عناصر (الحسّ المشترك) من لدن شرائح النخبة حيال وظيفتها في الواقع، على اعتبار كونها خليط من بقايا ومخلفات (أساطير) و(خرافات) ترسبت على شكل ثقافات (فولكلورية) متوارثة، تعكس اهتمامات جمهور / حشود العامة وتستجيب لتواضعاتهم الذهنية والنفسية والرمزية . إلاّ أن البعض من المفكرين النابهين اعتبر شأنها في المجتمع من الخطورة بحيث ان التعامل معها بتلك الطريقة من الاستهانة والاستخفاف، ستفضي الى مشاكل جمّة وإشكاليات عويصة ستكون آثارها – على المدى البعيد – بالنسبة للمجتمعات الضعيفة بنيويا "والهشة إنسانيا" مكلفة ان لم تكن مدمرة . ولعل من أبرز من حذر من مغبة تجاهل هذا النمط من (الوعي) الشعبي وعواقب إهماله هو الفيلسوف الايطالي (أنطونيو غرامشي)، حتى أنه عده واحدا" من مكونات المعرفة البشرية التي تنطوي على ثلاثية (الفلسفة، والدين، والحس المشترك) .

ومما يزيد من أهمية هذا القسم من (الوعي الفطري) في المجتمع، هو ان حجم دوره وثقل وظيفته في الذهنيات والتصورات والتمثلات، وبالتالي العلاقات والتواضعات والسلوكيات، يزداد ويتضاعف كلما كانت الأطوار الحضارية للمجتمع لا تزال في مراحلها الأولى من التطور . أي بمعنى انه كلما كانت السمات الغالبة على المجتمع المعني سمات ذات طابع تقليدي - بدائي قليل الحراك وبطيء التطور، كلما كانت الجماعات المكونة للمجتمع أميل الى الاعتماد على عناصر حسّها المشترك مقارنة بعناصر وعيها الأخرى والعكس بالعكس . ولهذا فان المؤسسات البيداغوجية في الأنظمة السياسية المتخلفة غالبا" ما تقع ضحية أوهام اعتقادها بنجاح مشاريعها (الترويضية) و(الاستيعابية) الهادفة الى صهر العقليات ودمج الثقافات ومزج الذاكرات، استنادا "الى مؤشر (التماثل) الظاهري البادي في مسلكيات تلك الجماعات خلال تعاطيها المباشر واستجابتها الآنية لمعطيات الواقع الاجتماعي، التي غالبا"ما تحتجب خلفها التيارات العميقة في السرورات، والقوى الفاعلة في الديناميات، والعوامل المؤثرة في السيكولوجيات، والضوابط المتحكمة في السلوكيات .

وعلى هذا الأساس، لا ينبغي بتاتا "التعويل على ما تبديه الحشود المعبأة إيديولوجيا "والمجيشة سيكولوجيا"، من مظاهر الاندفاع العاطفي والحماسة الخطابية المشهودة عنها، حيال بعض القضايا السياسية ذات الحساسية الوطنية، فضلا" عن الرهان المتهور على دافعية الانخراط العفوي في التظاهرات والاحتجاجات الدورية أو الموسمية، التي غالبا" ما تعكس توجهات آنية واهتمامات مطلبية لا صلة لها بما يترتب على حالة الوعي الحضاري من تصورات عقلانية وتطلعات إنسانية والتزامات أخلاقية، عابرة للمصالح الفئوية والحزبية الضيقة حيث (الوطن) هو المعيار الأوحد و(المواطن) هو الهدف الأقصى .

***

ثامر عباس

معطيات الثقافة واشكالية الاندماج الوطني:

لأجل ان نحقق مجتمعا متقدماً على صعيد احترام حقوق الانسان والالتزام به، ولأجل أن يطرد التقدم التقني فيه لابد أن يكون مجتمعاً متماسكاً ولديه مشروع نهضوي، وهذا ممكن االتحقق غالباً في المجتمعات الواحديه في الثقافة *، اما المجتمع الذي تتعدد مكوناته وتتنوع فانه سيواجه صعوبات في مجال (الاندماج، والتقدم) مالم يبذل جهداً استثنائياً لتحقيق شروط بناء الانسان الذي يحترم تنوعات مجتمعه وثقافاته التي يتطلع المثقفون المدنيون ان تنصهر ضمن ثقافة وطنية جامعة

ومن المعلوم أن علم الاجتماع يفرق بين المجتمع والجماعات، فالجماعة مجموعة بشرية يربطها الدم أو العقيدة الواحدة، والمجتمع مجموعات بشرية متنوعة اتفقت اراداتها الحرة على الالتزام بثقافة وطنية تضم كل ثقافات التعدد وقيم التنوع واعتمدت التواصل والانصهار على قيم جامعة مشتركة من أبرزها قيم المواطنة وقبول الآخر والحوار والعيش المشترك والتعاون الجاد (1).

وسؤال البحث: هل ظهر في العراق على مدى قرن من الزمان فكر تبنته الحركات السياسية والجمعيات والمنظمات بحيث صاغ الارادة المجتمعية على هدف الاندماج وطرح مشروعاً للنهضة والتقدم.

وللإجابة على هذا التساؤل يلزمنا مراجعة تاريخية تبدأ من نشأة الدولة العراقية عام 1921حتى الآن.

لقد عاشت (الولايات العثمانية في العراق ضمن الإمبراطورية وضعاً فكرياً ناتجاً عن أمة منعت نفسها من ممارسة الاجتهاد في مجالي القانون والعقائد وسبل بناء الانسان، فانشغلت بالانكفاء على ذاتها وطيفها الديني والعرقي والمذهبي ولأجل ذلك فهي تبجل ذاتها وتلتمس المثالب للآخر وعملياً انشغلت في تأليف الحواشي والشروح على متون كانت قد كتبت قبل عدة قرون ولم ينتج عن هذه القرون متن جديد وكان العقل قد توقف. وقد انتج هذا العامل امرين الأول غياب التفكير المنظم في مشروع يساعد على دمج المكونات في منظومة وطنية واحدة، وغياب التفكير المنظم في اكتشاف المشروع المستقبلي للامة الذي يجعل الانسان متواصلا في تحقيق النهضة والتقدم (2) لاسعاد الانسان وتذليل صعوبات حياته مما يعني استحالة ان تتحقق اهداف التقدم وقد أنشغل العراقيون في عصر الدولة العثمانية في مواجهة سياسات التهميش من قبل الولاة العثمانيين على بغداد، وانشغلوا في استصحاب النزاعات المذهبية بعد الاحتلال وبهذا تعطلت (نظرية الاندماج) كما تعطلت القدرة على (اكتساب القوة بالعلم والمعرفة التطبيقية والمعرفة المنهجية ) وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن العشرين ومن ذلك الوقت الى الربع الأخير من القرن كان المشهد عبارة عن صدامات متعددة مع السلطة العثمانية (كمعركة النجف في 1916) والمعركة مع الاحتلال الانكليزي (النجف 1918) وثورة العشرين، وانتشار روح المدافعة والاهتمام بها وذلك بلا شك يقلل من فرص التفكير بالاندماج  (3)

ويلاحظ أن الحراك المجتمعي في العراق من مطلع القرن العشرين الى وقتنا الحاضر كان يقوده رجال الدين وبسبب تاريخ التفكير المذهبي وسماته وخصائصه فانهم لا يفكرون في نظرية تحقق(الاندماج)، أضافة الى  كونهم بعيدين عن (العلوم المدنية) وفلسفات ادارة التنوع (4) والقراءات الاستراتيجية لبناء الدول.

ولقد تشكل الاجتماع السياسي في العراق من قوى دينية وقوى مدنية علمانية /ليبرالية، وقد تشكلت القوى الدينية في البدء على شكل جماعات وجمعيات ومؤسسات خيرية وكان أول رئيس وزراء للعراق رجل دين بينما القوى المدنية تشكلت على نمط الاحزاب (5)، وانشغل النمطان بموضوعات ليست على صلة بالإشكاليتين محل البحث، بل أن اليمين الديني وقف من مبادرة الشيخ النائيني في نظريته عن الدولة الدستورية البرلمانية (تنبيه الامة وتنزيه الملة) بالضد وحال دون أي ممارسة سياسية يقوم بها (رجل دين) مثل النائيني او الشيخ الزنجاني أو الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (6)

الغطاء (6) بل حافظت النجف على (موقف محدد) من السلطة تحت نظرية الولاية الحسبية (أي النطاق الضيق من صلاحيات تدخل المرجع الديني بالشأن العام لا سيما السياسي منه). (7)

فالقوى الاسلامية المؤسسية مثل المرجعية العليا أو الجمعيات الاسلامية مثل جمعية النهضة وجمعية الاستقلال لم تطرح فكراً يحقق دمج المكونات ضمن رؤية وطنية بعد انسلاخ العراق عن الدولة العثمانية واستقلاله عن بريطانيا كما انها لم تكتشف مشروعاً للتقدم والنهضة.

على أن نشوء الاحزاب الاسلامية (التحرير، الشباب المسلم) لم يكونا مرتبطين بالمرجعية فكانت محل ريبة وعدم تعاون مع المؤسسة المرجعية بينما كان حزب الدعوة جزءاً من أرادة مرجعية الحكيم وكانت (حركة العمل جزء من مرجعية شيعية /كربلاء) يرأسها الامام الشيرازي (8).

وهنا: أشير الى أن الاهتمام الرئيس لهذه الاحزاب كان منصباً على الشأن الحزبي الخاص أكثر منه بالشأن الوطني أو استشراف المشكلات على صعيد المستقبل ووضع البرامج لحلولها.

أما بالنسبة للأحزاب (المدنية) فالحال فيها اكثر ترديا لأنها اغفلت مهمة الاندماج ومشروع التقدم فالحزب الوطني الديمقراطي كما يقول مفيد الزبيدي كان منشغلا بالاتساق مع التيارات القومية، بما في ذلك من تداعيات مذهبية وعرقية.ولأن الحزب الشيوعي أممي النزعة وقد وقع في الموالاة العميقة للاتحاد السوفيتي كقطب دولي آنذاك فلم يكن على قدر من الاهتمام بالمشروع الوطني الا في دائرة التوافق مع الاتحاد السوفياتي، بل ان الاحزاب التي شكلت جبهة الاتحاد الوطني (1957كانت تهدف للوصول الى السلطة، (9) من دون برنامج للبناء والاندماج المجتمعي.

وعلى مستوى وعي القادة السياسيين الكرد فأنهم انشغلوا تماماً بالمطالبة بتطلعات الكرد، وما يسمى (بتقرير المصير) لأنشاء دولة كردية وكان بعض الاحزاب الكردية يساري الفكر الا انها اولاً واخراً كانت تعبّر عن قضية قومية، وربا على الضد تماماً من الانصهار الوطني ولم تفكر بمشروع للنهضة

وعلى العموم فأن المنافسة والصراع احياناً بين قوى اليسار العراقي والقوى القومية لا سيما بعد 1958 كان صراعاً على متبنيات أيديولوجية (لا تمت بصلة) الى برنامج وطني للاندماج والتقدم بل كان الصراع على ذاتيات حزبية (أيديولوجية/وقومية).

المعوقات النظرية لبرنامج الاندماج الوطني في فكر الاسلاميين الحركيين:

من يطلع على ادبيات الكتل الاسلامية بنوعيها الشيعي والسني يجد أن من اساسيات الايمان الديني تفضيل المسلم على غير المسلم في مقام الاثبات القضائي والميراث والجزاءات الجنائية وغيرها، ولا سبيل لدى الاسلاميين الى تعديل هذه الأسس الفكرية، وتأويلها لصالح الاندماج أمر في غاية الصعوبة وازاء المرأة فأن الفقه الاسلامي يفاضل بينها وبين الرجل مفاضلة بينه ايضاً في الاثبات القضائي والجنايات والاحوال الشخصية والميراث (10).

فاذا اضفنا الى التمييز الديني تمييزاً مذهبياً عند فقهاء المذاهب ودعوة المتعصبين منهم بأن لا يتزوج أحد من مذهب آخر ولا تقبل شهادته ولا يوثق به، ويعامل بالاقصاء والتهميش وتلك كلها معوقات انتقلت الى ذهنية اتباع الحركات الاسلامية، واستقرت في اللاوعي والوجدان الديني (11)، بل الانكى والاشد الصاقاً بالمعوقات تلك (المفتريات) التي تطلق من كل الجهات على خصوم المذهبيين، فما كنا نسمعه مثلاً عن الايزيديين شيء لا نظير له من القبح، وهكذا عن اليهود، وكل ذلك كان حاضراً في وعي الممارسة الاجتماعية لكن بعد الفحص تبيّن لنا أمر آخر.

أن تنامي الشعور المذهبي، وتمكنه حتى من القادة والمنظرين بحيث صار تراثاً تتلقاه الاجيال عن بعضها وتمارسه الناس كانه أحدى حقائق الوجود، غير انه من المستغرب أن عدداً من المؤسسات الدينية والاحزاب من الطرفين كان ينادي بالتقريب بين المذاهب لكن واقع الحال كانت شعارات لان السلوك الفعلي يختلف عن ذلك فهو في اللاوعي مفاهيم تعامل كأثر من آثار تراث الكراهية المستقرة في الوجدان الديني وادل دليل على ذلك، أن هذا التقارب والتقريب لم يحصل رغم مرور قرن من الزمان بل أن مجرد طرح التقارب يعد اعترافاً مضمرا بالتفاصل والتباعد والعداء بين اتباع المذاهب (12)

وطالما انتبهنا الى مشكلة بقاء المكونات العراقية في وضعها (قبل الاندماج) وفهمنا وضع الجماعة المنفصلة في وعيها وشعورها عن المجتمع العراقي ككل وعرفنا كيفية احتساب مصالحها ورسم اهدافها، وعرفنا قصور الثقافة التي لم تكتشف اهمية هذا الجانب سواء على مستوى الفكر المؤسسي أو في برامج الاحزاب ثم اكتشفنا أن بقاء المكونات العراقية (منفصلة عن نظيراتها) مدعاة للتراجع في المستويات المدنية ومستوى التقدم، والتعاون بين أبناء الوطن الواحد فماذا يجب على مؤسسات الثقافة من تنشيط العقل النظري الذي يحتاج الى مادة معرفية تشكل معايير قيمية ترسم مواقفه ازاء الاشياء والافكار والاشخاص، وتجلي من التراث عناصره الاحيائية والحية وتمنع عناصره الميتة أو المميتة من أن تكون هي الفاعلة.

***

ا. متمرس. د عبد الامير كاظم زاهد

.................

* المجتمعات الواحديه: هي تلك التي لا تتعدد مكوناتها دينياً /مذهبياً/ثقافياً.

(1) روبرت ويل، علم الاجتماع المعاصر ص89

(2) حنا بطاطو، العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية ص31

(3) كامل سلمان الجبوري: مجلة افاق نجفية ج23 ص44

رجال الدين الشيعة هم المعارضون لقبول الانتداب... وهكذا.

(4) حسن لطيف: موسوعة الاحزاب والجمعيات والحركات السياسية في العراق ص214

(5) اسحق نقاش: شيعة العراق،  دار المدى.ص110

(6) كامل سلمان الجبوري: مجلة افاق نجفية ج23 ص67

(7) كامل الجبوري: مجلة افاق نجفية بحث حول محمد الحسين كاشف الغطاء ص67

(7) محسن كديفر: نظريات الحكم في الفكر الشيعي. ص77

(8) حسن لطيف: موسوعة الاحزاب والجمعيات، مصدر سابق ص214

(9) حسن لطيف: م.ن ص215

(10) احمد الكبيسي: فقه الاسرة، الاحوال الشخصية. ص87

(11) بلال التليدي  مراجعات الاسلاميين دراسة في تحولات النسق ص118

(12) هاني فحص، المسلمون بين التقريب والوحدة 7

تُظهر أحدث الأرقام التي نشرتها وزارة الهجرة والاندماج الدنمركية انخفاض عدد طالبي اللجوء المرفوضين إلى النصف خلال عامين . تشير الأرقام إلى أن هناك حوالي 550 طالب لجوء مرفوضين في وضع الترحيل. بما يشكل انخفاضاً إلى النصف خلال عامين. وهو أدنى مستوى منذ عام 2009 أي من خمسة عشر عاماً تقريباً. حيث انخفض عدد طالبي اللجوء المرفوضين بشكل كبير من 1155 في نهاية عام 2020 إلى النصف عام 2022.

قدرت الوزارة تكاليف إيواء طالب لجوء واحد مرفوض، وموجود في أحد مراكز المغادرة في المتوسط بحوالي 350,000 كرونة دانمركية في كل عام. واعتبرت أنه من الإيجابي انخفاض أعداد المتواجدين حالياً.

يجب النظر إلى العدد المنخفض من طالبي اللجوء المرفوضين في مراكز الإرسال والترحيل، في ضوء انخفاض تدفق طالبي اللجوء إلى الدانمرك في السنوات الأخيرة بصورة عامة. ويعني انخفاض عدد طلبات اللجوء، مع تساوي العوامل الأخرى، انخفاض عدد حالات الرفض، وبالتالي انخفاض عدد طالبي اللجوء المرفوضين عن ذي قبل. لكن العدد المنخفض يظهر أيضاً أن الجهد الكبير لإرسال طالبي اللجوء المرفوضين إلى بلدانهم الأصلية، والذي بذلته "وكالة التسفير" التي أنشأتها الوكالة الوطنية للهجرة في أغسطس 2020، قد أتى بثماره.

خلال الستة شهور الأولى من العام الحالي 2023 تم تسجيل 1048 طلب لجوء في الدنمرك. تم منح تصريح الإقامة لـ 711 منهم.

في عام 2022، كان الرقم الإجمالي هو 4591 طالب لجوء جديد في الدنمارك، ولكن تم منح تصاريح إقامة لـ 1007 فقط بالفعل. وكان نصفهم تقريبًا من الأوكرانيين، وكثير منهم انسحبوا من تقديم الطلب مرة أخرى، أو ما يطلق عليه "استئناف". ومن الحاصلين على تصريح إقامة في عام 2022 ما يزيد قليلاً عن 100 من الأفغان الذين تم إجلاؤهم. والرقم يشمل أيضاً بعض المتقدمين الذين لديهم بالفعل تصريح إقامة آخر في الدنمارك عبر نظام ("مسجل عن بعد"). بالإضافة إلى ذلك، تم إرسال بعض المتقدمين بطلبات اللجوء إلى دول أوروبية أخرى بموجب اتفاقية دبلن. بشكل عام، أصبح عدد الأشخاص الذين يصلون فعلياً إلى الدنمرك ويتم النظر في طلباتهم للحصول على اللجوء قليل جداً.

وفي العامين الماضيين، تم منح 900 تصريح بموجب القانون الخاص للأفغان و36 ألف تصريح بموجب القانون الخاص للأوكرانيين. ومع ذلك، فقد غادر ما لا يقل عن 270 من الأفغان الذين تم إجلاؤهم الدنمارك مرة أخرى وأقاموا في الولايات المتحدة الأمريكية أو المملكة المتحدة.

ولم يتم إيواء معظم الأوكرانيين البالغ عددهم 36 ألفًا والذين مُنحوا الإقامة بموجب القانون الخاص في مراكز اللجوء، لكنهم عاشوا بشكل خاص أو انتقلوا مباشرة إلى البلديات. ولكن تم رفض إقامة 589 بموجب القانون الخاص، وحوالي. 800 حالة لجوء أوكرانية معلقة.

يوجد حالياً 15 مركزاً للجوء إجمالاً، لكن العدد وصل إلى 98 في عام 2015. يتم إيواء 2500 شخص في مراكز اللجوء، منهم 700 يعيشون في مراكز المغادرة الثلاثة، و700 آخرون أوكرانيون يمرون بسرعة عبر النظام.

وكان عدد الوافدين إلى أوروبا بأكملها قد انخفض منذ عام 2016 نتيجة للاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، وتشديد الضوابط على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، ولكنه آخذ في الارتفاع مرة أخرى - ومع ذلك، لا يزال عدد قليل جداً منهم يصل إلى الدنمارك.

في عام 2022، استقبلت ألمانيا أكثر من 100 ألف متقدم. لكن العدد الإجمالي للوافدين إلى الاتحاد الأوروبي مرتفعًا في عام 2022 حيث دخل دول الاتحاد ما يقارب من مليون لاجئ، وهو ضعف العدد لعام 2021، وبالإضافة إلى ذلك دخل 4 ملايين أوكراني.3771 hasan

عدد طالبي اللجوء في الدنمارك 2002-2022 (المجموع الإجمالي)

الأرقام في الشكل التوضيحي هي للعدد الإجمالي، على الرغم من أنها لا تشمل عدداً لا بأس به من الأشخاص الذين لم تتم معالجة قضاياهم مطلقاً في الدنمارك، لكنهم أقاموا في البلاد لفترة قصيرة فقط. ومع ذلك، فإن رقم التسجيل أكثر دقة، لأنه يمثل عدد القضايا المفتوحة بالفعل في الدنمارك، بعد مفاوضات دبلن وما إلى ذلك.

على سبيل المثال كان عدد طالبي اللجوء في الدنمرك عام 2002 يقارب ستة آلاف. وصل في عام 2015 إلى أكثر من واحد وعشرون ألف، بينما سجل عام 2020 أقل عدد بنحو 1515 طلب.

إن ما يقرب من واحد من كل أربعة متقدمين لديه بالفعل تصريح إقامة، غالباً إقامة لم شمل الأسرة من سوريا وإريتريا (المسجلين عن بعد)، مما أثر بشكل كبير على الأرقام على مدى السنوات الست الماضية.

التطور مع مرور الوقت

في ضوء التغطية الإعلامية المكثفة للاجئين في الدنمرك، والمناقشات المستمرة حول إعادتهم إلى أوطانهم الأصلية، ربما يتفاجأ الكثيرون بأن اللاجئين لا يشكلون سوى 1٪ من جميع الأجانب الذين حصلوا على تصريح إقامة في الدنمارك على مدار سنوات عديدة. تلقت البلديات الدنمركية ـ على سبيل المثال ـ فقط 489 لاجئاً جديدًا في المجموع في عام 2020. ويشكل الأشخاص الحاصلون على اللجوء كأساس للإقامة 1.9٪ فقط من السكان.

على مدى السنوات السبع إلى الثماني الماضية، كانت هناك العديد من التغييرات الرئيسية في وصول طالبي اللجوء إلى الدنمارك: بلغ العدد ذروته في نهاية عام 2015 مع 21000 وافد جديد - لكنه تراجع بعد فترة وجيزة إلى مستوى منخفض للغاية، حيث لا يزال النظام قائماً . ومؤخراً تم منح كل من الأفغان الذين تم إجلاؤهم والنازحين الأوكرانيين قانوناً خاصاً بهم وهيمنوا على نظام اللجوء.

كان عدد طالبي اللجوء الجدد منخفضا في السنوات الأخيرة. في عام 2020، أدى إغلاق الحدود بسبب كوفيد-19 إلى توقف وصول الوافدين بشكل كامل: تم تسجيل 1515 طالب لجوء جديد فقط في المجموع الإجمالي، وهو أدنى رقم على الإطلاق. وفي عام 2018، كان الرقم على سبيل المثال. 3500.

علاوة على ذلك، منذ عام 2015، رفضت الدنمرك حصة اللاجئين السنوية البالغة 500 شخص، وهي اتفاقية كانت ثابتة مع الأمم المتحدة منذ 38 عاماً. على مدى السنوات السبع الماضية، وصل إجمالي 235 لاجئاً من لاجئي الحصص إلى الدنمارك، وهم يأتون من مخيمات اللاجئين في رواندا.

"أزمة اللاجئين" 2014-16

وكانت الزيادة التي شهدتها الدانمرك في الفترة 2014-2016 أكبر من أماكن أخرى في أوروبا، وكان ذلك يعود إلى أن طريق وصول جديد وأقل خطورة ظهر عبر الجزر اليونانية وحتى عبر دول البلقان. وفي عام 2015، وصل أكثر من مليون شخص إلى أوروبا، وهو ضعف العدد لعام 2014. تم بعد ذلك تشديد الرقابة على الحدود الخارجية والداخلية، وانخفضت أعداد الداخلين بشكل حاد في جميع أنحاء أوروبا، لكنها ارتفعت مرة أخرى قبل بضع سنوات.

الرقم القياسي لدخول اللاجئين إلى الدنمارك كان على الإطلاق في أكتوبر 2015 حيث وصل 3694 طلباً جديداً في شهر واحد.

حصل إجمالي 80 ألف شخص على تصاريح إقامة في الدنمارك في عام 2016، لكن واحدًا فقط من كل تسعة منهم كان لاجئاً. أما الباقون فقد حصلوا على الإقامة بسبب العمل أو الدراسة أو لم شمل الأسرة.

من أين أتوا؟

لقد تغير ملف المتقدمين بطلبات اللجوء قليلاً خلال السنوات العشر الماضية، مما يؤثر على عدد تصاريح الإقامة، بما في ذلك الظاهرة الجديدة المتمثلة في نظام "المسجلين عن بعد"، والتي تشكل نسبة كبيرة إلى حد ما من عدد اللاجئين في الدنمارك.

لقد تغير تكوين الجنسيات التي طلبت اللجوء في الدنمارك كثيراً من عام 2015 إلى عام 2023. وفي الفترة من 2013 إلى 2020، شكل السوريون المجموعة الأكبر، لكن بخلاف ذلك كان الأفغان غالباً في القمة. وفي عام 2014، أصبحت إريتريا فجأة في المرتبة الثانية في القائمة، ثم تراجعت إلى المرتبة الثامنة في عام 2016، ولكن في 20

في المركز الأول تقريباً، احتل السوريون المركز الأول رقم 19، لكن هذا يرجع في الغالب إلى التسجيلات عن بعد.3772 hasan

أعلى 5 جنسيات تقدمت بطلب اللجوء في الدنمارك 2018-2022

وفي عام 2023، أعلى 5 جنسيات مؤقتة إلى جانب أوكرانيا: أفغانستان، سوريا، إريتريا، روسيا، عديمي الجنسية. واحتلت أفغانستان المركز الأول في عام 2021 بسبب الأشخاص الذين تم إجلاؤهم. وبعد عام 2015، أصبح عدد اللاجئين من بعض البلدان "الكلاسيكية" التي تشهد صراعات أقل، وأصبح أكثر من عدد أكبر من البلدان الأخرى.

ما يقارب من 30-40% من طالبي اللجوء هم من الأطفال دون سن 18 عاماً، وبعضهم قاصرون غير مصحوبين بذويهم. في عام 2023، يوجد حتى الآن 64 قاصراً غير مصحوبين بذويهم، نصفهم من الأفغان. ويأتي بعض الأشخاص غير المصحوبين بذويهم من المغرب، لكن لم يتم منحهم حق اللجوء.

في عام 2018 احتلت إرتيريا الصدارة في عدد اللاجئين حيث وصل عددهم 656 لاجئاً. والأقل كان من المغرب بعدد 181 لاجئاً.

عام 2019 احتل السوريين المركز الأول بـ 493 لاجئاً. المرتبة الخامسة من المغرب بـ 157 لاجئاً.

أما في العام 2020 حافظ السوريين على المركز الأول بـ 344 لاجئاً. المرتبة الخامسة للقادمين من إيران بـ 86 لاجئاً.

وفي عام 2021 تصدر اللاجئين الأفغان القائمة بـ 557 لاجئاً. والاقل كان من المغرب بـ 67 لاجئاً.

وأخيراً في عام 2022 احتل اللاجئين الأوكرانيين الصدارة بـ 2069 لاجئاً. والمرتبة الخامسة للقادمين من إيران 122 لاجئاً.3773 hasan

الجنسيات التي تقدمت بطلب اللجوء في الدنمارك 2015+ 2022

 الرسم التوضيحي يبين الجنسيات التي تقدمت بطلب اللجوء في الدنمرك عام 2015 وعام 2022. ونسبة كل جنسية بالنسبة للعدد الإجمالي من اللاجئين. نلاحظ أن عدد اللاجئين في عام 2015 بلغ 21.300 لاجئ معظمهم من السوريين. بينما عدد اللاجئين في عام 2022 كان فقط 4597 لاجئاً معظمهم من أوكرانيا.

الطرق الرئيسية إلى الدنمارك

كل من يأتي إلى الدنمارك كطالب لجوء يصل بشكل غير قانوني تقريباً - مع مهرب أو بأوراق مزورة. من المستحيل الحصول على تأشيرة دخول إلى أوروبا إذا كنت قادماً من بلد مثلاً. سوريا أو إريتريا أو أفغانستان.

بالرغم من انخفاض عدد طالبي اللجوء في أوروبا بشكل كبير بسبب مراقبة الحدود وعمليات الإعادة على الحدود الخارجية والداخلية بعد عام 2016، إلا أن الأرقام ارتفعت مرة أخرى منذ عام 2021. وفي الدنمارك، توقف الوافدون تقريباً عند ذات المستويات دون أية زيادة. يعود ذلك إلى التشريعات والقوانين الصارمة التي أصدرتها الحكومات الدنمركية المتعاقبة بهدف الحد من تدفق اللاجئين والمهاجرين. وتُعد الأكثر تشدداً في أوروبا. ونتيجة لانخفاض أعدد طالبي اللجوء، فقد أغلقت الدنمرك المزيد من مراكز لاستقبال اللاجئين.

وعلى الرغم من أن العديد من القوارب الصغيرة لا تزال تبحر من تركيا إلى اليونان، إلا أن أعداداً أكبر نسبياً تصل عبر ليبيا وتونس. إنه طريق أكثر خطورة بكثير، حيث يموت الكثيرون في الصحراء الكبرى ويغرقون في البحر الأبيض المتوسط. أدت زيادة الدوريات وتجريم أعمال الإنقاذ إلى ارتفاع نسبة الغرقى وزيادة أعداد الضحايا.

إن عدم الاستقرار في ليبيا يعني أن الجهات الفاعلة الأوروبية تتعاون مع العديد من الميليشيات الليبية في مراقبة الحدود واحتواء المهاجرين قبل أن يتمكنوا من السفر عبر البحر الأبيض المتوسط. وقد أدى هذا إلى جعل وضع المهاجرين في ليبيا أكثر خطورة، حيث يحاول المزيد منهم السفر عبر طرق أخرى بديلة، مثل من مصر وتونس إلى إيطاليا.

تتغير أرقام دخول اللاجئين، وتتبدل المسارات كل عام، ولكن أشهر المسارات الحالية التي تحصل على أكبر عدد من اللاجئين بحسب الترتيب هي إيطاليا واليونان وإسبانيا.

لا تنتهي الرحلة عندماي يصل اللاجئين إلى حدود أوروبا - فالعنف الذي يمارسه حرس الحدود وعمليات الإرجاع غير القانونية أصبحت أكثر شيوعاً. كلاجئ، تجد صعوبة كبيرة في البقاء على قيد الحياة في اليونان أو إيطاليا لأسباب أمنية واقتصادية. بصورة عامة لدى اللاجئ في تلك الدول أمل في الحياة كشخص بلا مأوى. ويمثل اتفاق دبلن عقبة جديدة بوجه اللاجئين.

يوجد الآن أسوار وضوابط وعراقيل ومخاطر على طول الطريق إلى أوروبا، لذلك أصبح من الصعب جداً الوصول إلى الدول الاسكندنافية. الآلاف من اللاجئين عالقون في جزيرة ليسبوس اليونانية، وفي البوسنة، في ظروف غير إنسانية على الإطلاق.3774 hasan

* الصورة توضح أهم الطرق الرئيسية التي يسلكها اللاجئون للوصول إلى الدنمرك

أهم الخطوط للقادمين من سورية والعراق وإيران عبر مدينة إسطنبول براً إلى بلغاريا ثم يواصلون التحرك شمالاً عبر صربيا وكرواتيا والنمسا وألمانيا وصولاً إلى الدنمرك، ومن مدن إسطنبول، وإزمير التركيتين، ومن مدينة الإسكندرية المصرية بحراً إلى اليونان. ومن ثم يسلكون الطريق البرية السابقة.

ومن مدينة طرابلس الليبية إلى جزيرة مالطا، أو إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية ثم يعبرون الأراضي الإيطالية، والنمساوية، والألمانية للوصول إلى الدنمرك براً.

إعادة المرفوض طاباتهم

تتم معالجة قضية طالب اللجوء المرفوض من قبل مجلس اللاجئين المستقل مع القاضي بحضور محامي عن اللاجئ. في نهاية المطاف، وبعد تقييم فردي شامل لقضية اللاجئ، يتم التوصل إلى أن الشخص ليس لديه حاجة للحماية. ثم يطلب منه مغادرة الدنمرك طوعياً. في حال رفض اللاجئ المغادرة الطوعية، تقوم السلطات بترحيله قسراً.

لكن ليس من السهل دائماً ترحيل طالبي اللجوء المرفوضين وإعادتهم إلى أوطانهم الأصلية. فبعض اللاجئين لا يمتلك أوراق شخصية، وبعض السفارات التي تراسلها إدارة الهجرة لإصدار جوازات سفر لمواطنيها ترفض، أو لا تتعاون بصورة مقبولة. تسعى الدنمرك لحل سريع لهذا الملف وإغلاقه في أقرب أجل، وذلك بسبب التكلفة المالية المرتفعة، والاستحقاق الأمني. تسعى إدارة الهجرة إلى إقناع طالبي اللجوء المرفوضين باحترام قرار مغادرة البلاد. حتى لا يتم إرسال

إشارة مؤسفة للغاية إلى العالم الخارجي أنه بإمكان طالبي اللجوء المرفوضين البقاء عملياً في الدنمرك، حتى لو لم يكن لديهم إقامة قانونية. ولهذا الهدف أنشأت الوكالة الوطنية للهجرة وحدة توعية عام 2021 بهدف ضمان حصول الأجانب في مراكز المغادرة في البلاد على التوجيه بدعم العودة الطوعية إلى الوطن، وكذلك شرح العواقب القانونية لعدم التعاون والمغادرة. والبحث مع اللاجئين المرفوض طلباتهم حول الخيارات المتاحة.

وحدة التوعية موجودة في مراكز المغادرة، حيث يتواجد طالبي اللجوء المرفوضين، بهدف التمكن من بذل جهود بناء العلاقات على نطاق واسع من أجل زيادة عدد عمليات التسفير.

تُجري الوحدة محادثات تحفيزية مستمرة مع المجموعة المستهدفة الأساسية وهم مواطنو الدول الذين كانوا في الدنمارك بدون إقامة قانونية لأكثر من عامين. وتتكون الوحدة من الأخصائيين الاجتماعيين وعلماء الجريمة. ويركزون على سبيل المثال على حالة اللامبالاة التي يمكن أن يكون فيها الأجانب في موقع مراكز الترحيل، والاهتمام بالأشخاص الضعفاء بشكل خاص واحتياجاتهم فيما يتعلق بالرحيل وإعادة الاستقرار في الوطن الأم.

***

د. حسن العاصي - باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمركش

...........

* الأرقام مصدرها وزارة الهجرة والاندماج الدنمركية.

يتساءل الانسان لماذا انتشرت اصوليات العنف في أرجاء الوطن العربي وبلدان العالم الإسلامي؟ ولم نمت ظاهرة أصوليات العنف تحت مدعيات دينية؟ بل لماذا لم تتخذ الأيديولوجيات القومية واليسارية والأحزاب القطرية والحركات العرقية أساليب تشبه أساليب القتل والهدم والتخريب والتدمير التي تتخذها جماعات العنف (التكفيري) لتحقيق أهدافها السياسية والفكرية؟

دعوني أعترف أن هذا السؤال معقدّاً جداً ويتطلب إجابه موضوعية عميقة وشاملة ومتأملة وتتساءل هل الإشكالية في النص الديني؟ او في طريقة فهم الدين؟ او في طريقة مقصودة لصناعة فهم للدين يقلب الحقائق فيحول أرادة السلم الى إرادة التدمير ويحول إرادة التسامح الى التعصب وإرادة الخير الى الشر المستطير.

يقيناً ان النص الديني الإسلامي وعلى مدى أربعة عشر قرناً او يزيد كان نصا احتوى على السلام والتسامح وحرية المعتقد وكان نصاً صريحاً يؤسس لهذه القيم تاسيسا لا لبس فيه على الاطلاق.

اما قضية فهم الدين أو فهم النص الديني فان المدرسة التي تقدم المعرفة الدينية بأسلوب تلقيني وتضفي قداسة بالغة على اراء البشر وتختزل الدين كله بشخص ما فانك ترى اصحابها لايوردون نصاً قرانياً او حديثاً متفقاً عليه لتاسيس مفهوم او حكم بل يستشهدون باقوال (فلان وفلان). من علماء القرون الوسطى القرون التي اتسمت بالخيبة والانهزام ويستدلون عليها بنص ديني ضعيف الدلالة او بتاويل سقيم

وتتعمد هذه المدرسة مجانبة العقل والعقلانية وتتهمها بالكفر والمروق عن الدين و يشمل ذلك كل المشتغلين بالفلسفة والمنطق والفكر الحر والنقد العلمي والحداثة في التعاطي مع المعرفة والمنهج النقدي، كما تتهم عدداً كبيرا من فرق الإسلام ومذاهبه بالبدعة والضلالة وبذلك تعطل التفكير، وتلغي فعاليات نقد التراث وتعده اساءه وتجني على رموز الامة والائمة الاعلام، وبذلك تخلق هذه المدرسة (دوغماً) هائلة الأثر امام التصور السليم لطبيعة الدين وحقيقته ودوره ووظيفته في الحياة ووكل تلك الدوغما من صنع الانسان الذي استخلفه الله على الأرض.ليقيم العدل والسلام ويكرم الانسان ويتبنى قيم الحرية والموضوعية

والأخطر ان هذه المدرسة تلغي تماما حق الانسان في الحياة، وهو حق أساسي وطبيعي وجد قبل الاديان وقد ترسخ بالاديان واعتبر حقاً ممتازاً في شرائع الفكر الإنساني وقوانين الأرض اذ أن حق الحياة حق خالص أعترف به المؤمنون وغيرهم من البشر ولكن مدرسة التعصب انفردت باباحة اهدار ذلك الحق. واهدرت حقه في نمط الايمان بمعتقدات تحصلت عنده من خلال البيئة الثقافية والاجتماعية والادلة العقلية التي توفرت له .فالإيمان المعهود هو عباره عما توفر للإنسان من إمكانيات متاحة للفهم والفكر، وتبقى البرهنة والمناظرة والحوار هي الطرق لتصحيح الاعتقادات والمفاهيم والأفكار وليس القوة والسلاح وتدمير البنى التحتية تحت مسمى (الجهاد) الذي يعتبر ارفع الوسائل واسماها في الدفاع عن الحقوق الطبيعية للبشر فالجهاد جعله الله وسيله للدفاع عن الحقيقة والانسان وعن السلم والتضامن بين البشر

وعليه: لا يسع احدٌ من الناس أن يقول أن النص الديني الإسلامي هو الذي ينتج الإرهاب والعدوان واستخدام العنف والقوه ضد المخالفين كما تفعل العصابات المسلحة المتطرفة التكفيرية التي تلبس لبوس الدين.

بل: الذي ينتج ذلك الإرهاب هو السلوك العصابي الذي صاغ الفهم الذي تدعيه تلك الجماعات للدين والنص الديني هو فهم (ناتج عن قصدية تسعى لتحقيق مرام خاصة) صممت في دوائر ظلامية تهدف الى زعزعة الاستقرار في مجتمعاتنا وتسعى الى افشال تنمية الأوطان

وانما ارتكز ذلك التشويه العصابي على الدين والتدين والايمان فلكي يخدع الالاف من الجهلة المغرر بهم ليكونوا أدوات لهذا الجموح العدواني التتري والاجتياح البرري للحياة وللسلم وللبيئة الانسانية.

فاذا انتهينا الى براءة الدين الإسلامي من تأسيسه للعنف، وعرفنا ان هذا الفهم المعوج ليس فهماً معيارياً بحسب ضوابط تحليل النص والاستنباط منه. عرفنا أن (اسلوباً) مخططاً يراد منه ان تبقى بلداننا تغرق بالدماء والكراهية والفقر والمرض والجهل وتظل شعوبنا تشتري السلاح بأموالها وثرواتها التي يلزم أن تكون أدوات لإسعادها ورفاهيتها. وتتحول هذه الاكوام من الأسلحة. بعد ذلك الى كارثه بيئية في بلداننا .

سؤالنا الأساس : اذا كان الله تعالى الرؤوف بعباده وهو الرحمن الرحيم لايقبل ان يعبده الناس اذا كان الطريق الى عبادته هو الاكراه والقتل، افنحن اذن نكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟

وفي تقديري : ان الذي يساعد على اعانة هذه الموجه السوداء في تاريخنا المعاصر، ان النخب السياسية والفكرية قد أخفقت في بناء وعي علمي لدى الانسان المسلم، والى جنبه فشل نظامنا التعليمي ولاسيما نظام التعليم الديني من ان يشخّص الخلل ويحصّن الانسان حتى لا يقع في حبائل ومصايد التطرف وعصابات القتل والنهب وفكر الكراهية والتكفير.

وما ساعد ايضاً هذه الموجة السوداء فشل برامج التنمية وبقاء شريحة من الناس دون الكفاف (تحت خط الفقر) بحيث يتحول الجوع والعوز الى نزعة للانتقام والقتل وتنعدم المناعة من تبني الجريمة ويساعد على ذلك ايضاً عدم الاستعانة بما يرفع ذوق الانسان ويهذب حواسة، ويسمو بادابه وكمالاته النفسية والروحية أي اهمال في التربية الروحية والنفسية والأخلاقية .

 في النهاية ليست عصابات العنف الديني ظاهرة تاريخية وناتج طبيعي في مسار وصيرورة الانسان انها (استثناءات طارئة) تنمو وتتصاعد متى تردى وعي الناس تردياً هائلا كما هو الان – واستشرى الفقر الفكري وتكاسلت النخب من ان تؤدي واجبها التاريخي .

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

(هو موت رمزي عن طريق اختفاء الذات، يدخل الشخص في القفاز، وقد أصبح غريبا عن نفسه، وحتى عن ذويه، وقد آل إلى بعض الصيغ ..)... دافيد لوبروتون

ليس من البدعة أن نجعل راهن الثقافة اليوم حدا من حدود السياسة، ولا مضمارا لاصطدام "الثقافات" وصراعاتها، أي بين ما نعتبره في العلوم الاجتماعية والسوسيولوجية اليوم، صراعا محتدما بين "الثقافات" السياسية Cultures  politiques و"تقييم الثقافات" Évaluation interculturelle..

 فاعتماد اشتراك البعدين لا يناقض البتة، المدى الذي يتم فيه استمرار وثوقية الثقافة وارتهان السياسة عليها، غير بعيد عن استخدامات كل منهما، إيجابا أو سلبا. لأن جماع الوصل بينهما أكبر بكثير من تفرقات القيمة والمجال. على الرغم من كون "الثقافة" في العمق تتسم بالتعدد، وهو ما يشي على مستوى الوعي بها، وبمدلولها وأثرها في البنى الاجتماعية والثقافية، بالطابع المركزي وقوة استئثارها بكل ما يدخل في سياقات قيم معينة بالمجتمع، أو ثقافة فرعية، أو ثقافة مضادة، بواسطة إنتاج ونشر واستقبال أدوات المعنى، ووسائل ودعم المعنى الرمزي.

 وغير بعيد عن هذه البديهيات، يستأثر صعود وتأثير وسائل الإعلام، والصناعات الثقافية، وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات الجديدة، من ناحية، والحاجة الجديدة لقضايا التثاقف الداخلي والخارجي للمجتمعات، والمناقشات المرتبطة بالهوية والتعليم، والاستثناء الثقافي والتنوع، من ناحية أخرى، بأنساق وأسئلة الراهن الثقافي والسياسي، حيث تختفي الخلفيات السياسية للصناعات الثقافية المرتجاة، وتتكرس بخلفيات وتمثلات استهلاكية بديلة عن قيم المجتمعات وتاريخها الحضاري والإنساني.

وهذا يستدعي بالتالي، إعادة تدوير التقائية الثقافة بالصراع السياسي، وبالهويات الأيديولوجية Identités idéologiques التي تجعل من مسرح الثقافة هاجرة ركح منظاري، تستنزف فيه العقليات والأفكار، سرعان ما تذوبها الصراعات وتهلكها المصالح والرباغماتية المقيتة.

في البلدان العربية، وضمنها المغرب طبعا، تتوارى أدوار النخب الثقافية والسياسية، ويصبح ظهورها الاعتيادي، على رقعة قحلة من خارطة التنمية، كأنما هو نمط مقطع على شاكلة ما يطلب، وليس وفق ما يجب أن يكون عليه منطق الحاجة والقيمة. وتتحول الوظيفة المستحلبة للمثقف، إلى مجرد عبور عكسي لمستقبل المجتمع والإنسان، مدفوع الأجر مقيد الهوية. وهو نفسه، الخطاب السائد في موقع "سلطة القرار السياسي"، حيث يشمل معيار التوظيف والاختيار، السياسة العمومية المتعاقد عليها، في التخطيط والاستراتيجيا وصناعة أو دراسة الجهل / الشك المتعمد الناتج عن الثقافة، وهو علم قائم الذات، يسمى "علم اجتماع المعرفة"، أو "علم التجهيل" (أغنوتلوجي).

لا حاجة إلى ممارسة النقد هنا، ومساءلة الإطار الذي تقوم عليه الوظيفة الحقيقية للمثقف، خارج السلطة السياسية، فالوعي  كما يذهب لوبروتون  "والذي يتجذر في الإحساس بالهوية، لا يكون قط تنبها لا يخطئ، بحيث يتنقل بشكل واضح من حالة إلى أخرى، فهو يعرف تذبذبات لا حصر لها بين اليقظة والسكر ولحظات التردد المعيشة باطنيا ". (1). من ثمة تصبح هذه الهوية المسترقة، مدارة هشة، وواجهة قابلة للتهديد والتلاشي.

هي استعارة مشابهة تماما لما يحصل عند فقدان الشكل الثقافي لحامل تلك الهوية، حيث تبدو الأدوار غير مكتملة، ومحجوزة بفعل التحويل والاستدراج، فلا تستوي مدلولاتها وآثارها في المجتمعات، إلا كما يُقَوِّمُ عود الإعلام مواجد التقلبات والانثيالات، التي تفرضها الظروف وتوجبها المخافي.

ولأن استقالة المثقف، مكتسبة على الشيء المقضي بعدم حدوثه، فإن انسياق الإعلام بتينك الحقيقة المؤلمة، وترجمتها على وجه من وجوه ما لا تستطيع الذوات ترجمته واستحضاره، فإن اختفاء هذه الرغبة وانفصالها عن النفس المجهدة والمفعول بها، "يؤدي حتما إلى التهميش والإقصاء" و "تفكك الروابط الاجتماعية" (2)، وسقوط قيم التنافس والتفكير المعرفي، والاقتدائية السليمة.

ما يجعل مآلات الثقافة في مجتمع العاهات، ترفا زائغا، في عالم موبوء ومدجن، تستغفله الأشكال العولمية الجديدة للذكاءات الاصطناعية، وفضاءاتها السابحة في ذرى المجهولات، جارفة الإعلام المثقف، الذي يمثل آخر "وسائل إيصال ونشر الوعي العام"، مؤبدا أحلامنا الضائعة، المنذورة لتقريب "الشقة بين المواقع والقارات والحضارات" (3)، متورطا  ويا للأسف الشديد، في تغليف وإقبار جواثم النهب وإفساد الذوق، والاستيلاء على مقدرات الأمة، وسرقة تاريخها وثقافتها ووجدانها الحضاري والعمراني.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

........................

هوامش:

(1). دافيد لوبروتون (اختفاء الذات عن نفسها) مبادرة ترجم السعودية 2023 / ص 240.

(2). ادغار موران (لنستيقظ) مبادرة ترجم السعودية 2022 / ص 68

(3). مالكة العاصمي (نحن وأسئلة المستقبل) منشورات الزمن المغرب 2001/ ص 71

المقاطِع لأهل السلطان والمتحصن بالعلم!

"إذا لم تكُنْ هذه الطَّائِفةُ - من أهلَ العِلْمِ- أولياءَ لله فليس للهِ وَليٌّ/ الخليل"

نواصل استعراض الإنجازات العلمية التي أبدعها الخليل بن أحمد في هذا الجزء من المقالة ثم نتعرض لبعض ما لحق به من ظلم وإجحاف من بعض علماء عصره:

الخليل والموسيقى المقيسة "Mensurabili Musica": عن هذه الموسيقى المقيسة نقرأ في الموسوعة الحرة باللغة الفرنسية / ترجمة شخصية: " الموسيقى المقيسة "أو التوقيعية" هي أطروحة موسيقية من أوائل القرن الثالث عشر (فترة العصور الوسطى الأوروبية) وهي الأولى من رسالتين منسوبتين تقليدياً إلى مُنظِّر الموسيقى الفرنسي يوهانس دي جارلانديا؛ والأخرى هي دي بلانا ميوزيكا، وكان أول من شرح النظام الإيقاعي المشروط الذي كان مستخدماً بالفعل في ذلك الوقت: الأوضاع الإيقاعية. الأنماط الإيقاعية الستة حددتها الأطروحة، ومؤلفة من مجموعات من قيم النوتة الطويلة والقصيرة. تعتمد الكثير من الموسيقى المتبقية من مدرسة نوتردام من القرن الثالث عشر على الأنماط الإيقاعية الموضحة في هذه الموسيقى المقيسة. معنى ذلك أن الخليل الفراهيدي قد سبق الأوروبيين بأكثر من خمسة قرون في تأسيسه لهذه الموسيقى وللعلم الذي عُني بها.

إنَّ التلازم الوثيق بين دراسات الخليل اللغوية والموسيقى دفع الباحثين القدماء والمحدثين إلى التساؤل؛ من أين للخليل بهذه المعرفة بالموسيقى؟ فالقفطي يكتب مثلا "وله عِلْم بالأنغام، وله كتاب فيها. ومعرفته بالنغم ومواقعتها أحدثت له علم العروض"، وينكر المخزومي الحكاية التي شاعت لاحقاً والتي تقول إنَّ الخليل أخذ أُسس علم العروض مصادفة حين مرَّ بسوق للصفارين وسمع أصوات مطارقهم تطرق المعادن. يعلل المخزومي نكرانه لهذه الحكاية على اعتبار "أن المعرفة بالموسيقى كانت شائعة في البيئة العراقية والعربية عموما في القرن الميلادي الثامن. فكانت هناك تآليف فيها، وقد عُرف العديد من المغنين والعازفين في العصر الأموي منهم الوليد بن يزيد الذي قيل إنه أول من لحَّنَ الأشعار ودوَّنَ ألحانه. وكان الحجاز مقصدا للهاوين يتعلمون بمدارسه الموسيقية أحدث الألحان والأنغام. وفي العراق عُرِفَ مغنيان مشهوران قبل زمن الخليل؛ أولهما هو أبو كعب حنين النصراني وكان يبيع الأزهار والفاكهة، متنقلاً بين منازل المطربين وعِلْية القوم، فيسمع الغناء، أما ثانيهما فهو إبراهيم الكوفي الموصلي الذي ذهب ليتعلم الغناء في الموصل ثم سافر إلى بلاد فارس وأصبح في الصف الأول من رجال الغناء والموسيقى.

ويقول المستشرق ج ب ترند إنَّ مخترع الموسيقى المقيسة أو الإيقاعية هو فرانكو الكولوني (عالم موسيقى ومُنظر موسيقى ألماني من أهل القرن الثالث عشر الميلادي)، ولكن فرانكو هذا يتحدث عن موسيقى مقيسة كشيء معروف، وقد عرفه الخليل بن أحمد في القرن الثامن الميلادي أي قبل خمسة قرون من زمن كولوني (ولد الخليل سنة 718م).

مظلومية الخليل:

في العصر الحديث، صدر كتاب العين للخليل بن أحمد، سنة 1980وهو أول معجم لغوي عربي في التاريخ، وقد حققه أستاذان عراقيان قديران متخصصان في اللغة العربية وآدابها هما د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي.

وقد طُبع الكتاب من قبل وزارة الثقافة والإعلام العراقية، دار الحرية، عدة طبعات؛ 1980م، 1982م، 1985م، إلا الجزء الأول منه، فقد تولت طبعه دار الرسالة في الكويت عام 1980م.

لم يعتمد الخليل في تصنيف معجمه "كتاب العين" على ترتيب الحروف العربية التي تبدأ بها الكلمات ترتيباً ألفبائيا "هجائيا"، ولا على الترتيب الألفبائي لجذور الكلمات بعد تجريدها بل على مخارج الحروف التي تبدأ بها الكلمات فكل صوت "له مخرج وله صفة، فالمخرج هو مكان توقف الهواء توقفاً كاملاً أو محدودا، لذلك وجدت الأصوات الرخوة والممتدة والشديدة". وهكذا اعتمد الخليل على التقسيم الصوتي للحروف، فوجد أن حرف العين ثالث أبعد هذه الحروف مخرجاً بعد الهمزة والحاء داخل الحلق، فاختاره لاسم معجمه "العين" ثم تلا العين حرفُ الحاء، حتى وصل إلى الميم الذي مخرجه الشفة، أي إنه بدأ من أبعد وأعمق مخرج في الحلق وانتهى بأقربها الى الخارج وهي الشفة، فوضع لكل حرف باباً، ورتب الكلمات التي تندرج في هذا الإطار والحقيقة فإن هذا النظام الخليلي ليس سهلاً وهذه حقيقة معروفة ولكنه نظام دقيق ومضبوط صوتياً "فونولوجيا" لا شك في ذلك. أما ترتيبات المعاجم التي تلت الخليل فقد انطلقت من الخارج إلى داخل الحلق أي من الشفة حتى أعمق نقطة في الحلق.

لقد قدَّم محققا الكتاب، المخزومي والسامرائي، له بدراسة مسهبة ومهمة هي بالأحرى مادة بحثية منهجية مستقلة وتخصصية حول شخصية الخليل وأعماله، وعلى وجه الخصوص كتابه العين. في هذا الكتاب دافع المحققان - وسأنسب المقدمة لكليهما لأنها غير موقعة باسم أحدهما - عن الخليل وعن نسبة كتاب العين إليه. وموضوع نسبة العين إلى الخليل قديم كثر فيه الكلام وتفرع ولكن الأستاذين المخزومي والسامرائي أفلحا في أن يحسما هذا الجدل وينصفا صاحب العين ويعليا من شأنه ويكشفا عن حقيقة ما أحاق به من ظلم وإجحاف.

وبخصوص عائدية كتاب العين للخليل، نقرأ في مقدمة المحققين المخزومي والسامرائي: "كان وهماً أيضاً ما جعله الزبيدي أساسا لنفي نسبة "العين" إلى الخليل. وكان قد استند إلى أمرين كلاهما ضعيف لا يصح الاستناد إليه.

الأول: ما لاحظه من خلاف في الظاهر بين ترتيب الأصوات في العين وترتيبها في الكتاب، ولو كان كتاب العين له "لم يكن ليختلف قوله، ولا ليتناقض مذهبه".  والثاني: ما لاحظه من إدخال الفعل الرباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف، وهو مذهب الكوفيين خاصة، فيما زعم. أما الاول فالجواب عنه هو ما قدمناه من بيان، ومن نقل عن ابن كيسان ومفاده أن الخليل لم يبدأ معجمه بالعين لأن مخرجها أقصى الحلق بل لسبب آخر ينقله لنا ابن كيسان عن السيوطي: "قال، سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة، لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة، لا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف"؛ وبهذا تسقط هذه الدعوى التي قال بها الزبيدي لأنها تستند إلى وهم لم يقله الخليل. وأما الثاني فالجواب عنه أن الزبيدي لم يقع له مذهب الخليل على حقيقته، فالثلاثي المضاعف عند الخليل، أنما هو من الثنائيات، وأن الرباعي المضاعف إنما ينشأ من تكرار الثنائي فهو منه وليس من باب أخر، وإذا أخذ الكوفيون بهذا الرأي فيما بعد فهذا لا يعني أنه من مذهبهم وأنه خاص بهم".

حملة الأزهري والسجستاني ضد الخليل

ويبدو أنَّ الإجحاف التي أحاق بالخليل والبخس والإنكار اللذين جوبهت بهما أعماله وأهمها كتاب العين من قبل بعض المحافظين "حملة الرواية السلفيين" من أمثال السجستاني والأزهري قديم قِدَم هذا العلم. فهذا الأخير مثلا - الأزهري - زعم أن كتاب العين ليس للخليل بل لتلميذه الليث بن المظفر وقد نحله الخليل. وهذا قول يعاكس المنطق والمعهود حيث التلميذ هو الذي ينتحل عادة كتاب أستاذه وليس العكس، ومثلما كان الإجحاف بحق الخليل قديماً، كان إنصافه قديما أيضا، فقد تفطن ابن دريد البصري صاحب معجم "الجمهرة" إلى علة وجوهر هذا الإجحاف حين قال: "وقد ألفَّ أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي رضوان الله عليه كتاب العين، فأتعب من تصدى لغايته، وعنى من سما إلى نهايته، فالمنصف له بالغلبِ معترف، والمعاندُ متكلف، وكل من بعده له تبع، أقرَّ بذلك أم جحد، ولكنه رحمه الله ألف كتاباً مُشاكلاً لثقوب فهمه، وذكاء فطنته/ كتاب المزهر في العلوم للسيوطي. ج1/ ص84".

لم يكن الأزهري منصفاً ولا عادلا حين "عقد في مقدمته باباً ذكر فيه الأئمة الذين اعتمد عليهم فيما جمع في كتابه "تهذيب اللغة "، فذكر أكثر الدارسين الذين صنفوا الكتب في اللغات، وفي علوم القرآن وفي القراءات، بدأهم بأبي عمرو بن العلاء، وختمهم بأبي عبد الله نفطويه، ولم يكن الخليل بن أحمد واحداً من هؤلاء الاثبات فقد تجاهل الأزهري مكانته في الدراسات اللغوية، ولم يذكره إلا على أنه أستاذ سيبويه، وأنه "رجل من الأزد من فراهيد" أي أن سيبويه أشهرُ وأهمُّ من أستاذه الفراهيدي في زعم الأزهري!

الأزهري يسطو على محتوى العين:

والعجيب - كما يخبرنا المحققان المخزومي والسامرائي - أن الأزهري اقتبس مقدمة كتاب العين بكل تفصيلاتها، وجعلها مقدمة لمعجمه هو، فقد نقل منها رأي الخليل في عدة حروف العربية، وأحيازها ومخارجها وصفاتها، وتأثير بعضها في بعض، حين تتألف وتتجاور في كلمات، وأخذ عنه تصنيف الكَلِمِ من حيث عدة أصولها، وأخذ عنه ما يأتلف من الأصوات وما لا يأتلف.

ويضيف المحققان في مقدمتهما لكتاب العين: "ولكننا حين نتصفح كتاب الأزهري "تهذيب اللغة " ونقابله بما في كتاب العين نعجب من أمر الرجل الذي حاول في غير ذكاء أن يجمع بين تحامله على الليث وغضه من شأنه، ونهب ما في كتابه، على حد زعمه، ليبني كتابه عليه، لقد كان "العين" بكل ما فيه من ترجمات وبيانات وتفسيرات أساس كتاب الأزهري الذي لم يزد عليه إلا روايات ونقولا عن غير الخليل، ولم يضف شيئاً على ما فعله الخليل الذي يسميه بالليث أو بابن المظفر إلا مفردات أهملها الخليل". أي أن الأزهري يلجأ أحياناً الى اقتباس جزء مما قاله الليث بن المظفر التميمي - وهو تلميذ الخليل وصاحبه - ويحجب جزءاً آخر ليصور لقارئه أن هذا الجزء هو رأي الليث وبالتالي رأي الخليل وهذا مسلك خاطئ لا يليق بباحث رصين وصادق.

ويضرب المحققان مثالاً على عبث الأزهري هذا فيكتبان: "وأعجب من هذا كله ما فعله -الأزهري- في ترجمة كلمة (سمع) فقد زعم أن الليث قال: "تقول العرب: سمعت أذني زيداً يفعل كذا، أي: أبصرته بعيني يفعل ذاك"، فعقب عليه بقوله: "قلت: لا أدري من أين جاء الليث بهذا الحرف، ليس من مذاهب العرب أن يقول الرجل: سمعت أذني ويعني أبصرت عيني، وهو عندي كلام فاسد، ولا آمن أن يكون مما ولَّدَهُ أهل البدع والأهواء، وكأنه من كلام الجهمية ". وجاء ابن منظور - صاحب لسان العرب - على عادته فنقل ذلك عنه من دون تحفظ". ولنلحظ عرضاً هنا التشكيك ومحاولة الدس وتشويه سمعة الليث - وبالتالي الخليل - بإشاراته إلى "أهل البدع والأهواء والجهمية"، لعلمه بأن الخليل كان ذا ماض خارجي إباضي وعلى شيء من التشييع لاحقا!

ويكشف المحققان عما فعله الأزهري في هذا المثال حين يذكران النص الذي ورد في كتاب العين كاملا غير مثلوم فيكتبان: "قال الخليل في ترجمة (سمع): " وتقول: سَمِعتْ أذني زيداً يقول كذا وكذا، أي: سَمِعتُه، كما تقول: أَبَصَرْت عيني زيداً يفعل كذا وكذا، أي: أَبْصَرْتُ بعيني زيدا"، فأين هذا مما خلط فيه الازهري وحرَّف وصحَّف، وهو كلام سليم لا غبار عليه، غير أن ما فعله الازهري هنا لقليل من كثير مما تعرض له العين من الازهري ومن حذا حذوه، وهو قليل من كثير مما ورط الازهري نفسه فيه من تحامل على الخليل، والغض من شأن عمله اللغوي الكبير من وراء حجاب سماه الليث أو ابن المظفر".

إنصاف الخليل وكتابه العين في الأندلس:

ونستمر في الاقتباس عن مقدمة المحققان العراقيان لكتاب العين المخزومي والسامرائي، فيقولان: "في الأندلس تولى أبو علي القالي إشاعة نفي نسبة العين إلى الخليل ولكن الدارسين والعلماء في الأندلس "أنكروا عليه حملته على كتاب العين ونفي نسبته إلى الخليل والطعن عليه بالتخليط والخلل والفساد، فأخذ يداري حملات الدارسين عليه بالثناء على الخليل ويصفه بـ "أوحد العصر وقريع الدهر، وجهبذ الامة، وأستاذ أهل الفطنة، الذي لم ير نظيره، ولا عرف في الدنيا عديله"، ولكنه ما زال ينفي أن يكون العين كتاب الخليل مرددا مزاعم أبي حاتم الجستاني في نفيه نسبته إلى الخليل، محتجا بحجته، زاعما أن فيه من الخطأ "ما لا يذهب على من شدا شيئا من النحو، أو طالع بابا من الاشتقاق والتصريف ولكنه لم يعزز زعمه بذكر أمثله التخليط والخلل والفساد. حتى إن السيوطي بعد أن اقتبس من كتابه المسمى باستدراك الغلط الواقع في كتاب العين قال منصفا كتاب العين وصاحبه: "وقد طالعته إلى آخره فرأيت وجه التخطئة فما خطئ فيه غالبه من جهة التصريف والاشتقاق كذكر حرف مزيد في مادة أصلية، أو مادة ثلاثية في مادة رباعية، ونحو ذلك. وبعضه أدعى فيه التصحيف، وأما أنه يخطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذب، أولا تعرف فمعاذ الله لم يقع ذلك". وإذا كان الأمر كما قال السيوطي لم يكن يقتضي كل تلك الضجة ولا كل ذلك التشهير، وكان من الانصاف لكتاب العين أن يحمل ما زعموا من تخليط وخلل وفساد على أنه من عبث الوراقين وجهل النساخ، كان يسيرا لو حسنت النية، أن يقوَّم الكتاب، ويصحح ما فيه من خطأ، وينبه على ما فيه من تصحيف لم يسلم منه كتاب في ذلك الزمان".

ونختم بما كتبه المحققان في هذا الصدد: "أما أبو بكر الزبيدي تلميذ أبي علي القالي، وعنه تلقى الدعوة إلى التشهير بكتاب العين ورميه بالتخليط، والخلل والفساد، فقد ارتحل القالي إلى ربوع الاندلس وحمل معه (تحامل) السجستاني، وأشاعه في تلك الربوع، وألف معجماً بناه على كتاب العين، لكنه سماه بالبارع غمزاً لكتاب العين، وإيهاماً بفضله عليه. على أن أبا علي القالي بتأثير شيخه أبي بكر بن دريد، وبالتزامه مقابلة نسخ العين بأمر من الحاكم المستنصر بالله لم ير مناصاً من الاعتراف بواقع الأمر، وبتصحيح نسبة الكتاب إلى الخليل، ولذلك حين صنف (البارع) نسب كل ما فيه إلى الخليل، ولم ينسب شيئا فيه إلى الليث، كما دأب الازهري على ذلك. وقد أتيح لدارس محدث (د. هاشم الطعان محقق كتاب البارع) عُنِيَ بتحقيق نص من البارع أن يوازن بين ما رواه عن الخليل في هذا الجزء وهو معظمه وما جاء في نسختي (كتاب العين) اللتين وقف عليهما "فإذا بالكتابين [يعني البارع والعين] متطابقان حذو القذة بالقذة"، وينتهي هذا الدارس إلى ان يقول: "بهذا يكون البارع أقدم نسخة وصلت إلينا من كتاب العين"!

الخليل الزاهد المشاعي الحر

عاش الفراهيدي طَوال عمره في كوخ صغير من القصب. وكان يكسب مصدر دخله وقوته من حديقة وصقّارة لتربية وتدريب الصقور ورثهما عن أبيه. قام بتدريس اللغويات، وأصبح بعض طلابه أساتذةً أثرياء، أما هو فقد لازم الفقر والزهد منصرفاً إلى العلوم. عُرف الخليل بتواضعه الجم وكرهه للشهرة ونفوره من العلاقات العامة فلم يعرف عنه أنه وقف على باب أمير أو وزير أو غيرهما، وهو القائل كما نقل تلميذه النضر بن شميل "إنّي لأغلقُ علَيّ باب كوخي فما يجاوزه همّي". كما كان بعيداً عن الزهو والخيلاء والكِبَر ولم يكن يتحدث عن نفسه إلا نادراً واضطرارا، غير أنه كان شديد الاعتداد بنفسه وصاحب كبرياء وعزَّة نفس لم يدفعه فقره وخصاصته إلى المساومة أو مدِّ اليد وطلب العون المادي.

نقل ابن خلكان عن النضر بن شميل، تلميذ الخليل، قوله: "أقام الخليل في خصٍّ له بالبصرة، لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال". كما نقل عن سفيان بن عيينة قوله الذي نسبه د. مهدي المخزومي إلى سفيان الثوري:

"من أحب أن ينظر إلى رجلٍ خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد".

وحينما أرسل إليه والى فارس والأحواز سليمان بن حبيب بن أبي صفرة رسولاً يدعوه إليه ليقيم في قصره ويتولى تعليم وتربية أبنائه، رفض الخليل القدوم إليه وقدم لرسول الوالي خبزاً يابساً مما عنده قائلاً ما دمتُ أجدُ هذا فلا حاجة بي إلى سليمان وقال:

أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ

وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ

*

الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ

وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتالِ

*

وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ

وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ

وقد تجلت لامبالاة الفراهيدي بالثروة المادية في سلوكه طوال حياته حتى يوم وفاته وهو منشغل ومستغرق في عمله وأبحاثه. ومما يؤثر عن الخليل قوله: (إذا لم تكُنْ هذه الطَّائِفةُ - من أهلَ العِلْمِ- أولياءَ لله فليس للهِ وَليٌّ).

#لهجة_عراقية_اللامي

***

علاء اللامي

.....................

* حُذفت الهوامش والمصادر في هذه النسخة لنشرها في الصحافة والتواصليات.

*فيديو لفيلم وثائقي عن الخليل: الخليل بن أحمد الفراهيدي.. آثار العبقري الذي أسس علوم اللغة العربية.

https://doc.aljazeera.net/portrait/2022/4/17/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D9%86-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D8%AF%D9%8A-%D8%A2%D8%AB%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D9%82%D8%B1%D9%8A

لمفهوم الديمقراطية أوجه عدة وجوانب متنوعة كما لبقية المفاهيم الأخرى ذات الطابع السياسي والاجتماعي، الأمر الذي يجعل منها محل خلاف واختلاف بين الجماعات التي تؤمن بها وتتبناها من جهة، وبين تلك التي تدينها ترفضها من جهة أخرى . وعلى الرغم من حجم الخلافات وطبيعة الاختلافات التي يكون مفهوم الديمقراطية سببا"لها ومصدرا" أساسيا"من مصادرها، إلاّ أن الغالبية العظمى من الكتاب والباحثين المعنيين بهذا الشأن دأبوا على تركيز اهتمامهم على تناول أحد تلك الأوجه أو الجوانب دون بقية الأوجه والجوانب الأخرى، التي ربما لا تقل أهمية - ان لم تكن أشدّ ضرورة وأكثر أهمية  في بعض الأحيان – من سواها لاعتبارات شتى لا يسع المجال هنا التفصيل بشأنها . 

ولعل من أبرز تلك الجوانب التي تم التركيز عليها والإشارة إليها في الدراسات والخطابات هي القضايا المتعلقة بكون الديمقراطية تهتم أساسا"؛  أما بالصيغة التي يحكم من خلالها الشعب نفسه بنفسه، أو بالمبدأ الأساسي المتضمن الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، أو بالآلية التي يتم عن طريقها جعل مصادر السلطة السياسية خاضعة لعملية التداول السلمي بين القوى الفاعلة في المجتمع . والحال ان كل هذه الشروط المواصفات المذكورة صحيحة، بقدر ما هي أساسية وضرورية – من وجهة نظر الفكرة الديمقراطية - لتحقيق التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي في تجارب حكم المجتمعات التي لا تزال تتعثر داخل أطوار شرانقها البدائية، بحيث يستحيل دون تحقيق أيا"منها الإيفاء بمطالب الديمقراطية المؤسسة . ولكن، هل يا ترى ان الرهان على تلك الصيغ المؤسسية كاف لوحده لضمان نجاح مشروع الديمقراطية العتيد، وبالتالي الاطمئنان الى حصاد مخرجاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي قلما تحققت على أرض الواقع، بحيث يتمكن الإنسان من بلوغ مآربه في الانتقال من عالم الضرورة الى عالم الحرية ؟! .

فعلى الرغم من أهمية وضرورة بلوغ، ولو الحد الأدنى، من النتائج المرجوة والحصائل المتوخاة من تبني النظام الديمقراطي في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، إلاّ أنه من الأكثر أهمية والأشد ضرورة – لجني ثمار الديمقراطية حقا"وفعلا"، ومن ثم الاستفادة من عوائدها المادية والمعنوية - هو التركيز على ميادين ومجالات غالبا"ما أهملت عن قصد، أو جرى التقليل من شأنها والحط من قيمتها لاعتبارات شتى من مثل ؛ أنماط الوعي الاجتماعي، وتمثلات الذاكرة التاريخية، وأنساق الثقافة الفولكلورية، التي يصعب على مثل هذا النمط من المجتمعات التخلي عن إيحاءاتها السيكولوجية والرمزية بسهولة . خصوصا"وأن غياب سلطة (الدولة) وانعدام هيبة (القانون) غالبا"ما تحفز الأفراد وتشجع الجماعات على التمسك بأنماط علاقات ما قبل تكوين الدولة، والرهان على روابط ثقافات ما قبل صيرورة القانون، حيث علاقات التغالب والتكالب في الحالة الأولى من جهة، والتزامات التقاطب الاقوامي والتمذهب الطوائفي في الحالة الثانية من جهة أخرى .

وفي إطار الحديث عن الفكرة الديمقراطية ومدى أهميتها في مجالات شرعنة العلاقات والصلاحيات بين الدولة والمجتمع من جهة، وعلقنة التصورات والتمثلات بين الأفراد والجماعات من جهة أخرى، يغدو من الضرورة بمكان الإشارة الى أن نجاح المشروع الديمقراطي في مسائل البناء الاجتماعي والإصلاح الاقتصادي والنهوض الحضاري، مرهون (حصرا") بأولوية توفر (الجمهور) المنوط به تحقيق مضمون تلك الفكرة على أرض الواقع، على قسط لا بأس به من عناصر الوعي (السياسي) تحديدا" . ذلك لأن هذا النمط من الوعي يعد من أكثر أنماط الوعي نضوجا"واكتمالا"في منظومات الوعي الاجتماعي، حيث لا يستطيع الإنسان - عبره ومن خلاله – من تخطي عوائق خلفياته ومرجعياته وتواضعاته البدائية فحسب، وإنما يمكنه كذلك من حيازة القدرة على التمييز بين حقوقه الشخصية والاجتماعية وبين واجباته الوطنية والإنسانية، التي طالما كان التداخل والتخالط بينهما سببا"أساسيا"من أسباب فشل المجتمعات المتصدعة والمتشظية في التغلب على عوامل تخلفها الاجتماعي المزمن وعدم استقرارها السياسي المتوطن . 

***

ثامر عباس

كانا شاعرين رفيقين، ابن رشيق وابن شرف، هربا من القيروان نتيجة حربٍ فوصلا الأندلس في عهد ملوك الطوائف وذلك قبل ألف عام تقريباً، فلم يدخلها ابن رشيق بالرغم من إلحاح ابن شرف عليه بدخولها، فتردد ابن رشيق وأنشد:

مما يُـزهِّـدني في أرض أندلس

أسمــاء مُعتمدٍ فيهـــا ومُعــتضدِ

*

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهـرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ

حيث كان ملوك الطوائف في الأندلس حينذاك يتّخذون ألقابَ وأسماءَ الخلفاء العباسيين زهواً واعتداداً بالنفس. فأجابه ابن شرف على الفور:

إنْ تَرمـِكَ الغربةُ في معشر

قد جُبلَ الطبعُ على بعضِهـمْ

*

فدارِهِمْ ما دمتَ في دارهمْ

وأرضِهِمْ ما دمتِ في أرضِهمْ

وهذا هو الزيف والتقية والمحاباة!

والتاريخ يعيد نفسه، كما يقال، بعد ألف عام ولكن بصورة ثانية. ذلك أنّ فضل الإنترنت على الفرد العربيّ في التواصل والمعرفة والثقافة كبير جدّاً، ولكنّه في الوقت ذاته ذو تأثير سيّء مضادّ على البعض. فالإنسان يرغب في الشهرة وحبّ الذات، وهي طبيعة بشريّة لا خلاص له منها، وإن كان الأفراد يتفاوتون في درجتها. والمواقع الثقافية لعبت دوراً كبيراً في التغيير، إذ أتاحت الفرص في إبداء الرأي بحريّة كاملة دون المرور برقيب أو محاسبة الذات، وإن كان بعضها رقيباً على ما يُكتب، فيمنع ما لا ينسجم مع خطّه الأساسي ويُطلق العنان لمن يسير في ركابه. وانقسم من يكتب إلى درجات ذاتِ تفاوت كبير جدّاً ، فهنا الذي يعرف ما يكتب لتمكّنه من المعرفة في ذلك الموضوع، وهناك الذي لا يعرف حتّى كتابة جملة واحدة صحيحة! ولكنّ بعض المواقع ينشر له.

ثمّ إنّ من العارفين في موضوع معيّن يتدخّل في موضوع لا يعرف ألفه من يائه فيمزج بينهما ليرِيَ القارئ المسكين إلمامَه بكلّ شيء كذلك (البروفيسور) الذي كتب عن مرض نفسيّ نفى أن يكون له جين وعلمي أنّه لا يعرف ما هو الجين وما هي الدي. أن. أي. ولا أيّ حرفٍ منها ، ولما كتبتُ مقالاً بيّنتُ فيه أنّ لهذا المرض جيناً اكتُشف سنة كذا واسمه كذا وتركيبه كذا، لم يعتذر أو يشكرني بل أغمض عينيه ومضى! وهذا لا يحدث في العالم الغربي الذي نمنّي أنفسنا أن نكون مثله بحسناته ولا شغل لنا بسيّئاته. ما يميّز الإنسان العربي المتعلّم (المثقّف!) وبخاصّة العراقيّ عن الإنسان الغربي هو التباهي والافتخار بنفسه أو بالآخرين وهو ليس بكفء. وهذا يذكّرني ببساطة العلماء الغربيّين كالبروفيسور هاوثورن مثلاً، نائب عميد كلية الطب ورئيس قسم الكيمياء الحيوية في جامعة نوتنغهام البريطانية في السبعينات من القرن العشرين، حيث نشر أكثر من 300 بحث في المجلات العلمية وهو يقول : إنّه لم يعمل شيئاً يُذكرْ! وكذا قال لي الدكتور جون ماير في القسم المذكور (الذي رُقّيَ بعد ذلك إلى بروفيسور وصار رئيس القسم) عند البدء في عملي على الدكتوراه (ولم يكنْ المشرفَ) إنّ الكيمياء الحيوية بحر عظيم ونحن نسبح في بقعة صغيرة منه بالرغم من نشره حينذاك عشرات الأبحاث والدراسات التي تتطلّب (تفكيراً) عميقاً وإنْ قال أحدهم له إنّه (مفكّر) فسيسخر منه! وكذا الحال أيضاً مع الشعراء الأوروبيين الذين لمْ يُنعَـتـوا بصفات العظمة والتبجيل والتفخيم وإضافة ألقابٍ غريبة عجيبة جنب أسمائهم ، مثل: الشاعر الشاعر ، النخلة السامقة أو الشجرة الباسقة ، أسطون الشعر، صنّاجة العرب والجبل الذي لا يصل إلى سفحه أحد والأيقونة التي لا مثيلَ لها ! وغير ذلك من أسماء مضحكة جوفاء! وأعجبها أنْ يُنعَت شخص بكلمة (مفكّر) أو (مؤرخ) وهو ليس سوى مقـتـطفٍ جملاً من كتب المؤلفين وآرائهم وتجميعها في مقال قد يسفّ فيه أحياناً. أذكر أنْ طبيباً ذا (تخصّص) كتب مقالاً عن مرض السكّر في أحد المواقع، وأكثر المواقع تنشر دون تمحيص أو تدقيق، وتبيّن أنّ المقال مسروق بأكمله من مركز أبحاث خليجي ومنشور في موقع ذلك المركز! وقد نبّهتُ صاحب الموقع إلى ذلك وأرسلت له نصَّ المقال المسروق!

فلماذا نُطلق على أنفسنا أو مَنْ نحبّ صفات العظمة!؟ أهو الفشل في الحياة! والتعويض عن هذا الفشل بصفات لنقنع أنفسنا بأننا جديرون بها فيحترمنا الآخرون! أم هي النرجسيّة البغيضة الناتجة عن (عجز) ذلك الفرد عن الوصول إلى هدفه الأصلي فيفتخر بما ليس فيه. والأعجب من هذا أنّ ذلك النرجسيّ يكره أيّ ناجح في الحياة ويحاول جاهداً أنّ يُلحِقَ به الأذى أو يُلغيه من الوجود إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهذا هو سرّ انحطاط هذه المجتمعات وتخلفها عن اللحاق بالمجتمعات الغربية التي لا تأبه لهذه الألقاب الزائفة بل غايتها النجاح في الحياة ونيل المراد وتشجّع الآخرين إنْ رأتْ فيهم مواهب خاصّة ولا تثبّط عزائمهم كما نفعل نحن غيرة وحسداً. ثمّ هل من حقّ أحدهم أن يُطلق هذه الصفات والألقاب على الآخرين، وما هي (كفاءته) الثقافية ليحقّ له إطلاق مثل هذه الصفات؟ هذه الألقاب أو الصّفات التي تتطلّب هيئة أو لجاناً متخصّصة لهذا الشأن لينال المعنيُّ بها شرف حصولها بحقّ وجدارة . أم أنّه النفاق والمحاباة طبقاً لجدّنا الشاعر ابن شرف القيرواني الذي قالها قبل ألف عام كما ذكرنا أنفاً:

فدارِهمْ ما دمتَ في دارهمْ

وأرضِهِمْ ما دمتَ في أرضِهِمْ

وبعد ذلك نقلب لهم ظهر المِجَنّ ونولغُ في ظهورهم المُدى إن تطلّب الأمر!

***

د. بهجت عباس

25 مايس 2017

قبل ما يقارب الثلاثين عاما إلا بضعة شهور وقع بيدي كتاب "بنية الثورات العلمية" المؤلف لم اسمع باسمه من قبل "توماس كون" والمترجم قرأت له في نهاية السبعينيات ترجمته الرائعة لرواية كازنتزاكيس" المسيح يصلب من جديد "، وكانت هذه الرواية قد قدمها على خشبة المسرح الصديق الراحل عوني كرومي . كنت اتابع مقالات شوقي جلال في مجلة الفكر المعاصر، واتذكر انني دخلت عالم البراغماتية وفلاسفتها من خلال سلسلة مقالات كان ينتقد فيها هذه الفلسفة التي وصفها بانها فكرة طبقية وفلسفة نفعية وتسعى لانكار الواقع الموضوعي، بعد ذلك سيعرفني شوقي جلال على عالم النفس الروسي الشهير إيفان بافلوف الحاصل على نوبل عام 1904، من خلال ترجمته لكتاب " بافلوف وفرويد " لهاري ويلز وقد صدر بجزئين .واذا تفحصنا الترجمات التي اصدرتها سلسة عالم المعرفة لشوقي جلال سنجد العلم هو المؤشر الاول فيها حيث تنوعت بين " تشكيل العقل الحديث " و" فكرة الزمن عبر التاريخ " و" لماذا العلم ؟" و"الالة قوة وسلطة " وسلسلة " تاريخ العلم "، فيما كانت ترجماته الاخرى يطغي عليها جانب الليبرالية والتنوير حيث ترجم: " افريقيا في عصر التحول الاجتماعي " و" العالم بعد مائتي عام " و" لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ " و" التنين الاكبر " و" مستقبل السياسة الراديكالية " و" التنمية حرية " لامارتيا سن، و" كامي وسارتر " و" التنوير الاتي من الشرق " و" صعود الهند والصين " و" فكرة حقوق الانسان " . فيما اصدر له المركز القومي للترجمة العديد من الكتب ابرزها " الانسان اللغة الرمز " و" جغرافية الفكر " وحياة فيثاغورس وتعاليمه " و" موجات جديدة في فلسفات التكنولوجيا " و" فكرة الثقافة " و" الثقافات وقيم التقدم " و"السفر بين الكواكب " و" الثقافة منظور دارويني " و" تطور الثقافة " .في كل ترجماته وكتاباته ظل شوقي جلال يطرح سؤال: تُرى ما هو دور العلم في حياتنا؟، وهل يمثل العلم سلطة، أو طرفا في سلطةٍ مرجعية يمكن ان تكون سندنا في حياتنا وأحكامنا الفكرية؟ بل بلغت بعض اسئلته " حد النزق " كما يقول، فاخذ يطرح اسئلة من عينة: " وماذا عسانا أن نبدع في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية إبداعا على مستوى العصر "، والسؤال الاهم: هل يستقيم لنا في بيئتنا الثقافية أن نتحدث عن العلم دون أن يكون في ذلك تجاوز للتطور التاريخي وتطاولا على إنجاز هو ابن بيئةٍ أخرى؟ .في كتابه حوار مع السلف يكتب شوقي جلال: " والعلم أداة تحقيق الذات عن وعي ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، وإدارة الدفاع عن النفس وكفالة الأمن والانتصار في صراع الوجود .. هي أداتنا للتعبير عن الهويَّة وتأكيد أصالتها بعيدا عن تهويمات أيديولوجية، لأن الهوية في جوهرها فعل الذات الواعية .. فعل إنجاز (النحن) المجتمعية في الاستجابة للتحديات بلغة وقدرات حضارة العصر، وبذا تدعم الانتماء وترسخ عوامل تلاحم بنية المجتمع"، ويكرر شوقي جلال السؤال الذي يطرحه في مقدمات بعض كتبه المترجمة: لماذا تخلَّفنا وتقدم غيرنا؟، والإجابة تكمن في غربة العلم في حياتنا وغربة المستقبل أو غيابه عن إرادتنا. والاهم غياب قيمة مغامرة المعرفة واكتشاف المجهول وحرية السؤال والبحث وحق الاختلاف، وأن التنوع إثراءٌ للفكر وازدهار حضاري .

يرى شوقي جلال، المولود في القاهرة في الثلاثين من تشرين الاول عام 1931، ان العلم هو بيئة وتاريخ وثقافة مجتمع تُحدد طبيعة رؤية الفرد والمجتمع إلى الحياة وأسلوب ممارستها .

ولد وعاش طفولته في منطقة الإمام الشافعي بالقاهرة، وكان تسلسله العاشر من بين 17 شقيقا وشقيقة، الاب صاحب ورشة صناعية، شغوف بقراءة الكتب واقتناء الاسطوانات الموسيقية، وجد الصبي في مكتبة والده الصغيرة ضالته، كتب مصورة وقصص وكتب تاريخ، كان الاب اول من نبه ابنه لضرورة قراءة العلم، ويتذكر انه سمع باسم داروين للمرة الاولى في احد مجالس والده التي كان يعقدها في صالون بيته ، تتعرض العائلة لمحنة مالية بضطر خلالها الاب ان يدخل ابنه احدى المدارس الثانوية الخيرية، أي مدارس الفقراء، في المدرسة يستمع للمرة الاولى الى موسيقى فاغنر الذي تعلق به فيما بعد، ومن بسطيات الكتب حصل على مؤلفات محمد عبده، وقرأ طاغور وروسو، ورغم ايمانه بالعلم والتطور جذبته فرق الجوالة التي شكلها الإخوان المسلمون، وانضم اليها في بداية الاربعينيات، لكنه تركها بعد فترة، لكنه فوجئ باعتقاله عام 1948 ضمن الحملة التي شنتها الدولة ىنذاك على تنظيم الاخوان . ولا حقته تهمه الانضمام الى الاخوان فتم اعتقاله ثانية عام 1954 بعد الازمة بين عبد الناصر وتنظيم الاخوان

التحق بالجامعه طالبا في قسم الفلسفة وعلم النفس كلية الاداب وكان ابرز اساتذته يوسف كرم وعالم النفس مصطفى زيور ، عام 1935 نشر اول كتبه بعنوان " مذكرات تشارلز داروين " صدر ضمن سلسلة " كتابي" التي يصدرها حلمي مراد، في السجن عام 1954 تعرف على الشيوعي البارز صلاح حسين ووجد فيه نموذجا للمثقف المصري الصلب. عام 1956 يعمل معيدا للفلسفة وعلم النفس في معهد المعلمين، بعدها يبدأ رحلته للدراسات العليا تحت اشراف زكي نجيب محمود ويوسف مراد. بسبب مواقفه السياسية يحرم لسنوات من التعيين فيلجأ الى الترجمة حيث تنشر اولى ترجماته عام 1957 وكانت كتاب " السفر بين الكواكب " والثاني كتاب بعنوان " بافلوف حياته وأعماله"، وكان جلال مهتما بافكار بافلوف واعتبر ان عالم النفس الروسي ظلم بالعربية بسبب اهتمام المترجمين العرب بكتب سيعموند فرويد، ولهذا قرر ان تكون اطروحته عن بافلوف . تعرض شوقي جلال الى الاعتقال السياسي اكثر من مرة وقضى في السجون سنوات دون محاكمة، وبلغت سنوات سجنه اكثر من 12 عاما متقطعة بدأت منذ عام 1948 وانتهت فترة ملاحقته عام 1965 يكتب انه اصر ان ينتصر " على قسوة وآلام التعذيب في السجون والمعتقلات من السجن الحربي إلى ليمان أبي زعبل حيث كنا نعيش حفاة الأقدام، شبه عراة الأبدان، نشقى في عمل تكسير الزلط تحت وطأة الشمس الحارقة، والسياط اللاهبة، والسباب المقذعة والشتائم المهينة الجارحة، ولما أتخل عن طموحي وجهدي من أجل مصر، مصر العقل الجديد " .

نشر العديد من المؤلفات ابرزها " نهاية الماركسية " وكتاب " المجتمع المدني وثقافة الإصلاح " و" الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل " و" الشك الخلاق: في حوار مع السلف " وكتاب " العولمة: الهوية والمسار" و" العقل الامريكي يفكر " و" أركيولوجيا العقل العربي " و" ثقافتنا والابداع " و" التراث والتاريخ " وفي معظم هذه الكتابات سعى شوقي جلال الى الى التحول من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير، من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة: " وهذا هو ما سينقلنا طبيعيًّا إلى ثقافة التناقض والحركة كشرط وجودي، الحركة مع التناقض، الفعالية بين النحن والآخر، الانتقال من ثقافة الإقصاء المفضية إلى الانشقاق والانقسام، داؤنا التاريخي؟ إلى ثقافة التناقض أو تلازم النقيضَين، إذ إن ثقافة الحركة الفكرية والمادية في جدلٍ مشترك مطرد لا تنشأ ولا تكون إلا بين نقيضَين (نحن والآخر)، ووجود كل طرف رهن وجود الآخر" .

يطرح شوقي جلال ازمة التفكير العربي، ويناقش مسألة هل مرجعيتنا في التفكير: عقل علمي، أم عقيدة موروثة؟ بعدها يتطرق الى هوية تراثنا الثقافي في التفكير،هل هي هوية تتنافس مع الاخر، أم قناعة بميزة نسبية تتمثَّل في موجودات طبيعية؟ تواكلية في السلوك، أم إبداع وتحدّ؟ صراع على السلطة، أم صراع على برامج ومناهج عمل؟ التركيز على رأس المال المادي أم رأس المال البشري المعرفي؟ هل نحن غبي مجتمعاتنا: رعايا أم مواطنون، هل نهجنا في الحياة والإصلاح إعادة توزيع الثروة أم خلق الثروة؟ هل نلتزم نظام حكم قائم على نزعة أبوية أم الابتكار والمشاركة الديمقراطية بين مواطنين أحرار متساوين؟ هل رأس الدولة غايته الاستقرار والمحافظة أم التطوير والتغيير والتحدي.هذه الاسئلة وغيرها شغلت شوقي جلال الذي ظل مصرا على ان قضيتنا تطوير وتحوُّل حضاري وليست إصلاحا أو تنمية، فليس في واقع البنية الاجتماعية والثقافية بحالتها الراهنة ما يستحق أن ننميه، وأزمتنا هي: " أزمة فعل التطوير الاجتماعي الحضاري في إطارٍ من ثقافة الفعل الإنتاجي، لا ثقافة الكلمة والسكون، وثقافة الانتماء لا الاغتراب التاريخي، وليس الهدف البقاء لمجرد البقاء عيالا على الآخَر المتقدِّم المُنتِج حتى وإن زينا هذا اللغو بقولنا، كما قال فقيه شعبي: (لقد سخَّر الله لنا الغرب)، وإنما الهدف هو الوجود، والفارق بين الاثنين أن البقاء اطراد عشوائي شأن بقية الحيوانات والقناعة بالميسور، ولكن الوجود مشروع إنجازي إرادي يحقِّقه المجتمع بجهد الفكر والعمل، ويحقِّق من خلاله ذاتيته أو هُويته في تكامل متطوِّر" .

في عام 1997 اصدر شوقي جلال كتابه " على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم "، وهو الكتاب الذي فتح لي الباب لدخول عالم توماس كون المثير والعجيب .

اعود لكتاب توماس كون " بنية الثورات العلمية " الذي صدر عام 1992 ضمن سلسلة عالم المعرفة، صدرت له فيما بعد اكثر من طبعة، فيما صدرت ترجمة اخرى للكتاب عام 2007 صدرت عن المنظمة العربية للترجمة قام بها حيدر حاج اسماعيل .

يخبرنا شوقي جلال ان اختياره لترجمة كتاب " بنية الثورات العلمية " كان نابعا من نظرته الى توماس كون الذي يتميز " بمَيزة خاصةٍ قليلًا ما تتوافر عند من يضطلعون بمهمة التفلسف في إطار فلسفة العلم؛ ذلك أن العلاقة بين فلسفة وتاريخ العلم من ناحية وبين العلم من ناحيةٍ أخرى علاقةٌ يتعذَّر النظر إليها نظرةً إجماليةً شاملة لأسبابٍ عديدة، منها أن موضوع الدراسة في تحولٍ سريعٍ وعام، فضلًا عن أنه يقتضي باحثًا عامًّا موسوعيًّا يحيط بكلٍّ من العلم المُعاش والتراث الفلسفي معًا، وكذا تاريخ العلم حتى يتسنَّى له معالجته والنظر إليه تلك النظرة الكلية الشاملة لاكتشافِ ما يراه قانونًا أساسيًّا لحركة تطوُّر المعرفة العلمية " .

كان توماس كون طالب دراسات عليا في الفيزياء عندما طُلب منه أن يقدم محاضرات في دورة تدريبية حول تاريخ العلم لجمهور لا ينتمي إلى فصيلة العلماء، ويخبرنا في مقالة له أن هذه الدورة التدريبية غيرت وجهة نظره حول العلم، فاضطر إلى أن يترك أطروحته في الفيزياء ليقرّر كتابة أطروحة عن تاريخ العلم ثم إلى دراسة فلسفة العلم. في الخامسة والثلاثين من عمره يصدر كتاباً عن كوبرنيكوس بعنوان (الثورة الكوبرنيكية). بعد خمس سنوات من صدور كتاب توماس كون (الثورة الكوبرنيكية) الذي لم يحقق مبيعات،. أصدر كتابه الثاني توما (بُنية الثورات العلمية)، عام 1962 وهو كتاب متوسط الحجم كان الغرض منه كتابة بحث بعنوان (موسوعة العلوم الموحدة)، لكنه اكتشف وهو يراجع العديد من المؤلفات أن الكتب التقليدية التي يقرؤها الطلبة في الجامعات، والتي تناقش تطور العلوم ما هي إلّا عبارة عن "كتب سياحية" كما يقول، فهي تصف نظريات نشأت من تجارب علمية ناجحة أدّت إلى زيادة المعرفة. ويتساءل كون: هل يتقدم العلم بهذه الطريقة؟ والسؤال الآخر: هل أن تاريخ العلم هو سلسلة من التطور التراكمي الذي تنتج فيه النظريات العلمية انطلاقاً من النقطة التي توقفت عندها النظريات السابقة لها؟

يرى كون أن الأمور لا تسير كما يرى أصحاب "الكتب السياحية"، لأن البحث العلمي يقول كلاماً آخر، وهو إن هذه النظرة المثالية صالحة فقط في الكتب المدرسية، لأن تاريخ العلم يحتوي العديد من الانقطاعات أو ما يسميه توماس كون "الثورات العلمية" التي تنتج عن فهم مغاير للسابق وتثمر عن توجه جديد في العلم ونظرة مختلفة. هذه الثورات تعني تحولاً في النموذج المتعارف عليه من القوانين والتقنيات والأدوات المرتبطة بنظرية علمية والمسترشدة بها، والتي بها يمارس الباحثون عملهم ويديرون نشاطاتهم، والتي حالما تتأسس تتخذ اسم "العلم العادي"، ولذا فإن تاريخ العلم حسب نظرية كون يتطور بشكل مغاير، وعلى هذا النحو: تصدر نظرية علمية ما ثم تحظى بقبول المختصين، حتى تتحول إلى مجموعة متكاملة من النظريات والتطبيقات والأدوات التي تتمكن من إعطاء الجواب الحاسم في مجالها، ويصبح الغالبية من العلماء يفكرون من خلالها وينشغلون فيها. في هذه الحالة تصبح هذه النظرية نموذجاً لا بد من الاحتذاء به داخل العلم. تستمر الأمور على هذه الحال حتى يبدأ هذا النموذج بعد سنوات أو عقود أو حتى قرون بالعجز عن الإجابة على أسئلة معينة، في البداية يقول كون يتم الالتفاف على هذه الأسئلة من أجل الإبقاء على النموذج، ولكن مع تزايد الأسئلة تحين الثورة العلمية التي تبدأ بتصورات ونظريات خارج إطار النموذج السابق، بل ومعارضة له وتحمل تصوراً مختلفاً عن السابق للكون والنظريات العلمية، وبهذا يتكون نموذج علمي جديد، فنظرية نيوتن عن الجاذبية أصبحت نموذجا حتى جاء اينشتاين فطرح أسئلة من خلال هذه النظرية، ومن خلال هذه الأسئلة انبثقت النظرية النسبية والتي أحدثت ثورة علمية.

كان صدور كتاب (بُنية الثورات العلمية) صادماً للقراء، حين يفترض أن العلم لا يأخذ الإنسانية على مسار مستقيم نحو حقيقة موضوعية لكنه ينتج من خلال تراكمات ومراقبات تجريبية. يكتب توماس كون: "إن كان العلم محاولة لجعل نظرياتنا تتوافق مع الطبيعة، فإن طبيعة الإنسان حينها هي ما علينا أن نناضل من أجلها أولاً". ويضرب لنا توماس كون أمثلة كيف أن ما يسميه "العلم العادي" استمر في التواجد معظم الوقت، حيث يشتغل العلماء داخل إطار أو نموذج فكري - باراديغم - يشترك فيه كل علماء عصر معين، ويضرب مثلاً أن الناس قبل أن تدرك أن الأرض تدور حول الشمس، كان النموذج هو أن الشمس تدور حول الأرض. كان علماء الفلك ينجزون بحوثهم داخل هذا الإطار وكانوا يقدمون تفاسير لأي دليل يتعارض مع هذا النموذج. كان الاعتقاد بأن كوبرنيكوس الذي كان يشتغل داخل هذا الإطار والذي اكتشف أن الأرض تدور حول الشمس، قد ارتكب خطأ في حساباته، إلّا أن الأشياء تصبح أكثر أهمية عندما يحدث ما يسميه كون "تحول في النموذج العادي"، يحدث هذا التحول عندما تتغير كل طرق الفهم جذرياً، عندها يكتشف العلماء أشياء لا تتماشى مع النموذج القائم. إن تخلي الناس عن الطرق القديمة للتفكير يتطلب وقتاً طويلاً، لكنهم عندما يتحولون إلى النموذج الجديد، تبدأ مرحلة جديدة من "العلم العادي" يشتغل فيها العلماء في إطار النموذج الجديد، وهكذا يستمر العلم في التطور. هذا ما حدث عندما تم قلب الرؤية القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، وحالما بدأ الناس في التفكير في النظام الشمسي بهذه الطريقة، كان هناك علم عادي أكثر بإمكانهم تطويره لفهم مدارات الكواكب حول الشمس.

إذن من وجهة نظر توماس كون فإن الثورات العلمية ليست حقائق جديدة، بل هي تغييرات بالجملة في الطريقة التي نرى فيها هذه الحقائق، وهذا بدوره يقودنا إلى إعادة بناء نظريات تشكل "عملية ثورية نادراً ما يكملها شخص واحد ولا تتمّ بين عشية وضحاها".

ولد توماس صمويل كون في الثامن عشر من تموز عام 1922 حصل على درجة الدكتوراه عام 1949. بعد حصوله على الدكتوراه قرر كون أن يصبح فيلسوفاً للعلم من خلال كتابته لتاريخ العلوم. تذكر محاضرات سارتون التي كان يسخر منها فأعاد قراءة كتبه عن تاريخ العلم، لكنه لم يجد أن اهتمامه الأول هو تاريخ العلم وإنما فلسفة العلوم، لأنّه شعر أن الفلسفة هي الطريق إلى الحقيقة وأن الحقيقة هي ما يسعى إليه. لتحقيق هذا الهدف، استفاد كون من قراءة كتب الفلسفة والعلوم على نطاق واسع، إضافة إلى اهتمامه بالتحليل النفسي الذي كان يأخذ دروسا فيه، حيث سمح له التحليل النفسي أن يرى جيداً وجهات نظر الآخرين، وادرك من خلاله خطأ أفكاره عن معلمه سارتون. يفشل في الحصول على كرسي الأستاذية في هارفارد، فينتقل للعمل في جامعة كاليفورنيا، وبعد صدور كتابه (بُنية الثورات العلمية) عرضت عليه هارفارد منصب بروفيسور، لكنه فضل جامعة برينستون، فالجامعة والبلدة تذكّره بالعبقري أينشتاين. صدر أول كتبه عام 1957 بعنوان (الثورة الكوبرنيكية)، بعدها أصدر عام 1961 كتاب (وظيفة البحث العلمي)، وصدر في عام 1962 كتاب (بنية الثورات العلمية) ثم كتاب (مصادر تاريخ فيزياء الكم) عام 1967، وكتاب (دراسات مختارة) عام 1977. توفي توماس كون في السابع عشر من يونيو - حزيران عام 1996، متأثراً بمرض السرطان الذي لم يمهله طويلاً.

في مقدمة كتاب (بُنية الثورات العلمية) يضع توماس كون مدخلاً بعنوان (دور التاريخ) يؤكّد فيه أن نظريات التطور العلمي التي لخصها في كتابه (بُنية الثورات العلمية) تأتي في مقابل نظريات "رئيسنا سير كارل بوبر الأكثر شهرة"، ويخبرنا كون أنّه ظل معجباً لسنوات طويلة تجعله لا يستطيع أن يتحول بسهولة إلى ناقد لـ "الأستاذ" بوبر، وأنهما قد أكّدا أن تقدم العلم ثوريّ، وكلاهما استبعد أن العلم يتقدم بالنمو. عندما صدر كتاب توماس كون (بُنية الثورات العلمية) بيع منه أكثر من مليون نسخة وتُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، وظل لثلاثة عقود الكتاب العلمي الأكثر شعبية .

في عامه الاخير اصيب شوقي جلال بمرض الفشل الكلوي، يكتب في واحدة من مقالاته الاخيرة: " تجاوزتُ التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظره مودِّع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحوٍ غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعُد مجتمعًا بل تجمعًا سكنيًّا، وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك وهو أنها باتت تجمعًا سكنيا لغرائزَ منفلتة. أفتقد مصر الحلم الحافز، مصر الوعي الموحَّد تاريخيًّا، مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية، مصر المستقبل. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب. ولكن تحت الرماد جذوة نارٍ قد تتأجَّج ويشتد لهيبها، ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل. هكذا علَّمَنا التاريخ، ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء.

رحل شوقي جلال في السابع عشر من ايلول 2023 بعد ان قدم للمكتبة العربية ما يقارب الثمانين كتابا، تاليفا وترجمة .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

احتقار المرأة في معظم الأحيان يكون من النساء أنفسهن ولكنني لا أبرأ الرجال من هذه الفعلة مطلقاً. فما زلنا وحتى هذه اللحظة نعاني من سيطرة الفكر الذكوري والأفضلية الخلقية وتشيء المرأة وتسليعها بتصرفات وعادات لاتتناسب مع التطور والإنفتاح الفكري والمعرفي الهائل والتي على رأسها "الزواج".

هذه المرحلة من الحياة التي قلما نجد من فهم مايريده منها، كل شيء فيه يحدث بمنتهى العشوائية والعبثية  ولا أحد يعلم ماذا له وماذا عليه وكيف ستكون الحياة ومع من أصلاً؟

هو "النصيب"!!

ذلك النصيب يشبه الموت كلاهما يجيئان فجأة كعاصفة تقلب حياتك رأساً على عقب ، تتوقف مشاريعك وخططك وأهدافك ومستقبلك الدراسي والمهني، تركض خلف ذلك النصيب وبدون أن تشعر تجد نفسك وبقوى "النصيب" كذلك في المحاكم لدعاوى الخلع والطلاق والتفريق والحضانة والنفقة ..

وطبعاً هذا النصيب يعصف بحياة المرأة بأعتى وأقسى من حياة الرجل بآلالاف المرات..

وتحت مظلة النصيب يتم تصنيف البنات إلى عدة أصناف:

الأول: من جاء نصيبها مبكراً وأخذها القطار، تتراوح أعمارهن من بعد سن البلوغ وحتى الخمسة وعشرين عاماً

الثاني: من سن الخامسة والعشرين الى الثلاثين وفي هذه المرحلة يدق ناقوس الخطر وعلى الجميع تكثيف الجهود في البحث والتقصي والإصطياد.

الثالث: اليائسات والعوانس.

أما عني شخصياً صنفت من ضمن اللواتي داس عليهن القطار في طريقه للمحطة التالية.

ما ان تتجاوز الفتاة سن الثلاثين حتى تنهال عليها الدعوات في كل مناسبة دينية "بفتح نصيبها" وإقصائها بالمناسبات الرسمية التي تقام للصنف الأول خوفاً من عينها وحسدها وإيقاف "نصيب" الأخريات..

ثم تدخل تباعاً للمستوى الآخر وهو ضرورة اصطحابها لراقي خوفاً من أن عيناً قد أصابتها أو جني عشقها.

تعرضت لموقف في إحدى المرات في مجلس نسائي ،سألتني إحداهن السؤال المشؤوم وعلى غير العادة أردت توضيح وجهة نظري الحقيقية بهذا الموضوع بمحاولة مني بخلق آفاق جديدة فقلت أنا أرى أن هذا الموضوع إختيار وبشكل كامل وليس علينا إرغام البنات على الإرتباط أو زرع وجوبه في رؤوسهن يجب ان تشعر البنت بقيمتها وانه لاينقص منها شيء في حالة عدم زواجها..

قاطعتني قائلة: تعرفي مشكلتك فين بالضبط؟

قلت: فين؟

فقالت: انتي معشوقة !!

قلت: من مين؟

قالت: يعني بسم الله جني اللهم احفظنا

أصابتني حالة ذهول وضحك هستيري وأدركت حينها أني أضعت وقتي بالشرح

فتابعت: فعلاً لاتستهزئي أعرف قريبة لي مثل حالتك بالضبط وحتى نفس الكلام والافكار "سبحان الله كأني أشوفها الان"

أصريت عليها وأخذتها عند شيخ والان هي متزوجة وعندها ولدين هو الشيطان يزين لك الحرام بهذه الأفكار تعالي معي ليقرأ عليك ومن الممكن بعدها أن توافقي على الخاطب الذي رفضتيه

قلت: عني شخصياً أفضل الجني..

كل ما سبق هو نوع من أنواع الإهانه وإنعدام تقدير الذات الذي تمارسه البعض على بنات جنسهن فلا يوجد أسوأ من هذا التحجيم وإعتبار"العانس" هذه أنها عباره عن نصف مهما تقدمت بالعلم وبالثقافه وبالانجاز وبالجمال

دائما ماينظر لها بعين الشفقه والتهميش بل ان هناك أشخاص يمنعونها حرفياً من حضور حفل خطوبه أو زواج لبناتهن لأن رغباتها المدفونة تتحول إلى طاقة شريرة تحطم كل ماهو جميل والتي وان حضرت سوف تتحمل مسؤولية انهيار هذا الزواج "بسبب عينها" ويبدأ البحث عن أثرها وقطع من ملابسها ، شعرها ، لعابها في عصير شربته لفك هذه العين والنحس..

قناعات غريبة ومؤذية ومدمرة للعلاقات الإنسانية الجميلة والنفوس النقية والظنون الحسنة

عدا عن التدمير النفسي الذي يلاحق تلك الفتيات حتى يتحول الزواج من "اختيار" الى "هاجس"

***

لمى أبوالنجا

كان اوغسطين (354-430) قديسا، ليس لأن الكنيسة الكاثوليكية منحته ذلك اللقب(وهو ما حصل فعلا) وانما بسبب انه كان في الغالب رجلا جيدا. وهكذا قيل ان اسقف مدينة هيبون "استعمل سجلات المدينة لتحرير العبيد المضطهدين ضمن العوائل السيئة" (اوغسطين، Henry chadwick، ص11، 2001). لا أحد لم يتأثر بالحنان الرقيق لنثره الذي يكاد ان يكون شعراً في رسائله؟ القليل يكتبون عاطفيا حول كيف اننا "نتحرك تجاه الله ليس بالمشي وانما بالحب". كونه في صحبة اناس غير متعلمين، هو امتلك التواضع حتى انه قال ان "السمة الاخلاقية تُقيّم ليس بما نعرف وانما بما نحب" (الرسائل Epistolae، ص155). في ضوء هذا، ليس من الصعب فهم لماذا الفيلسوفة هانا ارندت كتبت رسالتها الدكتوراه حول "مفهوم الحب لدى اوغسطين: محاولة تفسير فلسفي". ايضا في نفس الوقت، هو كان بروفيسور البلاغة في ميلانو، هو أرسل زوجته غير الرسمية، ام ابنه الى مكانه الأصلي في افريقيا لكي يعزز مستقبل حياته المهنية.

بذور الفكر

اوغستين ابن الأب الوثني والأم المسيحية، وُلد في هيبون (حاليا مدينة عنابة في الجزائر) في 13 نوفمبر عام 354 ميلادية. اوغسطين الشاب كان طالبا نموذجيا، كان قد تلقّى تعليما بمساعدة فاعل خير، استمر في الدراسة في روما واُعطي كرسيا في مؤسسة تعليمية في ميلانو. الموهوب استفاد من دراسة البلاغة، وكتب بلغة لاتينية جذابة وبعبارات تجذب القرّاء بدون تدريب فلسفي.

اكاديمي ناجح جدا ورجل العالم، عُرف عنه من إعترافاته الشهيرة (397 ميلادية) بانه كان يقوم بأعمال متهورة في شبابه. في الحقيقة، كان اوغسطين واعيا بانه كان ولدا باحثا عن المتعة، وكتب بان الحقيقة "لا توجد في أعمال العنف وحفلات الخمر، ولا في الإثارة الجنسية والبذاءات" (الاعترافات، ص 202). ولكن حتى بعد ان تحوّل للمسيحية، هو كافح للاستمرار في ارتداء لباسه القديم . هو اعترف بسهولة انه كان بعيدا عن الكمال، وان لا أحد بلا عيوب سوى المسيح وحده (De Nature et Gratia,p42,415).

عدم كمال الانسان هو ايضا عنصرا هاما لفهم فلسفته السياسية. اولئك الذين يكتبون حول السياسة بعيون فلسفية هم عادة اما طوباويون (مثل افلاطون الذي كتب الجمهورية) او واقعيون (كما هو افلاطون ايضا في القوانين). اوغسطين، طرح يوتوبيا لكنها كانت يستحيل تحقيقها، مثل مدينة الله (413) التي ستتأسس في نهاية الزمن، عندما كما يقول العهد الجديد "الله سيمسح كل الدموع من عيونهم، وسوف لن يكون هناك موت ولا حزن ولا بكاء ولا أي نوع من الألم" (Revelation21:4). هذه المدينة ستكون مثالية. لكن حتى المجيء الثاني للمسيح ، نحن يجب ان نكون راضين بحالة ليست مثالية ربما نسميها "مدينة الانسان"، مع ان اوغسطسن ذاته لم يستعمل هذه المفردة.

كونه كاتب دنيوي وكأسقف واداري محلي، هو امتلك رؤية واضحة حول ما يجب ان يكون عليه المجتمع الأرضي. بعض رؤاه كانت ليبرالية، انت ربما تندهش لو علمت انه مثلا، في مدينة الله عارض عقوبة الإعدام وتحدّث مفضلا الضرائب التصاعدية. في وقت عندما كانت السياسة تتحرك بعيدا عن الديمقراطية، هو كان يرغب في افتراض دورا للناس: في كتابه (حول الاختيار الحر، 388) هو سأل بلغة بلاغية، "اذا كان الناس معتدلين وجادين وحرّاس حريصون على المنفعة العامة، واذا كان كل شخص يفكر قليلا في المصلحة الخاصة بدلا من العامة، أليس من الصواب سن قانون يجيز للناس اختيار القضاة لأنفسهم يديرون شؤونهم بواسطتهم ...؟" (1.6). لم يكن ذلك بالضبط قبولا واضحا بالحكومة الشعبية لكن بالتأكيد هو اكثر تقدما من الكتّاب الآخرين في ذلك الزمن.

لاحقا وبعد عدة سنوات ألهمت هذه الافكار السياسيين بمن فيهم الرئيس الحالي للولايات المتحدة: "قبل عدة قرون، كتب القس اوغستين في كنيستي، بان الناس كانوا جماعة تحددهم اشياء مشتركة في حبهم". هذا ما قاله جو بايدن في خطابه الافتتاحي. الفلاسفة نادرا ما يتم الاستشهاد بهم من جانب رؤساء الولايات المتحدة. في الحقيقة، كانت هذه اول مرة يُمنح فيها التكريم لواحد من الكتاب الكلاسيكيين منذ جورج واشنطن. وبالتأكيد، اوغستين كتب بالفعل بشكل موسّع حتى وان لم تكن بالضبط نفس الكلمات التي اقتبسها بايدن، بل، هو قال في مدينة الله ان "الناس هم مجموعة من الكائنات العقلانية المرتبطة باتفاق عام على تلك الاشياء التي يحترمونها"، واستمر بالقول بان "كلما كانت مصالحهم العليا أفضل، كلما كان ذلك أفضل لأنفسهم" (ص264).

القديم والحديث

ربما يبدو مثيرا بشكل خاص ان الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة اختار الإقتباس من اوغسطين في خطابه الافتتاحي لأن الفيلسوف كان مهتماً بأشياء يجدها العديد من الحديثين غريبة. فمثلا، القس صرف جهدا لا بأس به متأملا في الوقود الذي سيُبقي محارق الجحيم متقدة الى الأبد، وتسائل كيف ان تلك الأجسام المعذبة لا تتلاشى نتيجة لذلك (مدينة الله، ص322). بالتأكيد، اوغستين لم يكن كاتبا في القرن الواحد والعشرين. دائما من السهل العثور على أدلّة تشير الى التحيّز البايولوجي والجنس لدى كتّاب قبل وقت طويل، واوغستين ليس استثناءً. خذ هذه الجملة على سبيل المثال، "لو ان أدم كان بحاجة الى منْ يساعده في محادثة ذكية حقا ... لكان الله بالتأكيد جهّز له رجلا آخر" (De Genesi,p.9,408). ربما مثل هذه التعابير لا تُغتفر بصرف النظر عن الظروف التاريخية التي ادّت لها.

ونظرا لأن اوغسطين كان منشغلا في مسائل غريبة بالنسبة لنا، يمكن قبول تبرير المرء بأن فلسفته هي مجرد اهتمام تاريخي. هذه كانت وجهة نظر مألوفة بين المؤرخين خاصة اولئك مما سمي مدرسة كامبردج الذين يعتقدون ان الأقوال من جانب كتاب كلاسيكيين وُجّهت لـ "حل مشكلة معينة لها ظروفها الخاصة و بطريقة سيكون من السذاجة تجاوزها" (المعنى والفهم في تاريخ الافكار، كونتن سكنر، 1969، ص50) . لكن ذلك لا يعني ان " لا أمل هناك" باننا نستطيع ان "نتعلم مباشرة من الكتّاب الكلاسيكيين" (ص50). بالتأكيد، اوغستين كان منهمكا بقضايا معاصرة . تحطيم ونهب روما عام 410 من جانب القوط الغربيين حفز بعض الوثنيين الرومان ليعزوا ذلك التدمير المذل للمدينة الأبدية للرومان بسبب التحول نحو المسيحية. الخلاف الذي أنتجته هذه الكارثة حفز اوغستين لكتابة عمله العظيم مدينة الله، لطرح نظرية في التاريخ، عقيدة في الثيولوجي، وفلسفة سياسية دافعت عن المسيحية. ولكن من غير الصواب ان نرفض اوغستين وجميع أعماله على خلفية انه كان مهتما فقط بالشؤون السياسية .

عندما نستبعد المفكرين القدماء بسبب تحيزاتهم ذات الصبغة الثقافية ، ذلك معناه اننا ننكر على انفسنا الفرصة لتقدير قمحهم الفلسفي بين قشور شوفينية. اوغستين ذاته كان مطلعا على هذا. مثل القليل من المفكرين الآخرين الذي سبقوه، هو كان مطلعا على ان رؤانا هي دائما ملونة بالسياق التاريخي. لكنه اعتقد اننا قادرين على السمو فوق تحيّزاتنا من خلال قوة التجريد: في كتابه الاول بعد تحوّله "لنرى"، كتب، "نحن يجب ان ننسحب من التعددية ليس فقط من الناس وانما من التصورات الحسية التي نسعى، كما كانت، لتكون مركز الدائرة التي تشد المجتمع ككل" (De ordineKp.3,386). عبر اتباع هذا الإجراء هو كان قادرا على تجاوز زمانه وحتى ايمانه العميق الخاص به والوصول الى صوت ما بعد حداثي متناقض مثل على سبيل المثال، "من الأفضل ان نجد الله من خلال ان لا نجده" (الاعترافات، ص10).

اوغستين الفيلسوف القديس

اعتبر اوغستين نفسه كثيولوجي، لكنه لا يؤكد كونه فيلسوفا. برتراند رسل، الفيلسوف البريطاني الذي لخص رؤاه عن المسيحية بكتابه لماذا انا لست مسيحيا، 1927، مع ذلك أبدى اعتبارا كبيرا للقديس الكاثوليكي، ملاحظا انه عندما شغل اوغستين نفسه بالفلسفة الخالصة "هو يبيّن مقدرة كبيرة"(تاريخ الفلسفة الغربية، ص351). ولكن حتى هذا القبول الظاهر هو تقريبا شيء غير مهم. اوغستين كان ايضا مخترع كلمة "مناجاة" solioquia او الحديث مع الذات. في المناجاة (387)، كان اوغستين وليس ديكارت هو الذي جاء اولا بحجة "انا افكر اذا انا موجود". ليس فقط هذا، بالاضافة لكون الاعترافات اول سيرة ذاتية عالمية، انها ايضا احتوت استطرادا حول مفهوم الزمن الذي كان اشارة مسبقة للعديد من الافكار التي جرى التعبير عنها لاحقا بمزيد من التفصيل وبلغة اكثر كثافة من جانب كانط في نقد العقل الخالص (1781). في القسم الاخير من الاعترافات، اوغستين يعتبر الزمن كنوع من "التصفية" filter من خلاله نتصور الاشياء. بهذا المعنى، كان اوغستين اول "مثالي متجاوز" – مع انه كفيلسوف اراد ان يخاطب جمهورا واسعا، هو بقي بعيدا عن العبارات الثقيلة والرطانة التي استعملها كانط بعد الف وخمسمائة سنة للتعبير عن مثاليته المتجاوزة.

"في البداية كانت الكلمة"، جاءت في الأناجيل (يوحنا 1:1). لذا لا عجب ان اوغستين ايضا فكّر في طبيعة اللغة. في الحقيقة، بعدة طرق هو تنبأ بما سمي "المنعطف اللغوي" لفلسفة اواسط القرن العشرين، ومثل الفلاسفة البريطانيين الذين ارتبطوا بها، اوغستين فكّر بعمق حول العلاقة بين الكلمات والاشياء. اوغسطين كان واحدا من القلة الذين اقتبس منهم لودفيج فيتجنشتاين. كتب النمساوي المولد فيلسوف اللغة "اوغستين، في وصف تعلّمه اللغة، يقول انه عُلّم ليتكلم عبر تعلّم اسماء الاشياء" (الكتابان الازرق والبني، ص77، 1935).

كتب فيتجنشتاين "ان حدود لغتي تعني حدود عالمي" (رسالة منطقية فلسفية، ص149، 1921)، ومن ثم غيّر آرائه. في الحقيقة، اوغستين وصل الى نفس الاستنتاج ولاحظ بان "الانسان لايستطيع قول اي شيء حول ما لا يقدر ان يشعر به" – لكنه اضاف "هو يستطيع ان يشعر بما لا يقدر وضعه في كلمات" (sermons.p.117). الرؤية الاساسية لاوغستين تلخصت في كلمات "إعتقد لكي تفهم". لكنه لم يكن مهتما فقط بالايمان: يبدو ان – جزء الفهم – اللاحق كان الهدف الحقيقي. ما اذا كان صائبا حقا بان "الرؤية ستُمنح لمن يعيش جيدا ويصلي جيدا ويدرس جيدا" (De ordine,ii,51)، يمكن نقاشها – مع ان مثال اوغستين كان بالتأكيد رائعا. ربما وبدون قصد، بيّن القس اوغستين نفسه فيلسوفا اكثر مما هو ثيولوجي. كفيلسوف حقيقي، محب للحكمة، هو اعترف بشكل صحيح بان هذا "عنصر مهم في الاكتشاف لطرح السؤال الصحيح ولتعرف ما ترغب انت اكتشافه" (سبعة اسئلة تتعلق بالكتاب الاول من الاناجيل السبعة).

توفي اوغستين في مدينة هبون او عنابة في الجزائر في 28 اوغسطس عام 430 عندما كان الغوغائيون يحاصرون المدينة.

***

حاتم حميد محسن

"مَن أحبَّ أن ينظر إلى رجلٍ خُلِقَ من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد/ سفيان بن عُيينة ونسبها د. مهدي المخزومي إلى سفيان الثوري (ابن سعيد بن مسروق"

لا يحتاج الخليل إلى التعريف به مني أو من سواي بين المتخصصين في المعجميات وعلوم اللغة، فهو علم من أعلام التراث والسردية الثقافية العراقية والعربية الإسلامية في عصرها الذهبي، ولكنها محاولة لاغتنام مناسبة إهدائي معجمي هذا "معجم اللهجة العراقية" إلى ذكراه الجليلة للإضاءة على بعض الجوانب التي قد تكون مجهولة أو معتم عليها من سيرته وشخصيته وإنجازاته العلمية من خلال هذا العرض الذي يستلهم ويعتمد عدة دراسات وتقارير علمية:

هو أَبُو عَبْدِ اَلرَّحْمَنْ اَلْخَلِيلْ بْنْ أَحْمَدْ اَلْفَرَاهِيدِي اَلْأَزْدِيّ اَلْبَصَرِيَّ المعروف بَالْفَرَاهِيدِي، نسبة إلى جده فرهيد أو فرهود (وتعني الشبل) بن شبابة بن مالك، عربي من قبيلة الأُزْد اليمانية. ولد وفق أقوى الروايات سنة (100 هـ -  718م) وتُوفي سنة (170 هـ -   786م)، وهناك من يقول إنه ولِدَ في عُمان ثم انتقلت أسرته وهو طفل صغير إلى البصرة، كحاتم الضامن وضياء الحيدري، دون أن يذكرا مرجعاً أو إسناداً قديماً لقولهما. وكان الخليل يحب أن يتلقب بالبصري دون سواه من ألقاب كما ورد في مقدمة كتابه الأشهر والتأسيسي "العين".

كان والد الخليل خارجياً يأخذ بالمذهب الإباضي، ولكن ابنه الخليل حين شبَّ وكبر صاحبَ الفقيه والصوفي على مذهب السنة والجماعة أيوب السختياني البصري، ويقال إنَّ الخليل تأثر به دينياً وفقهياً ومسلكيا، وأن السختياني زين له الاهتداء إلى مذهبه والتخلي عن المذهب الإباضي. أما د. مهدي المخزومي، أحد محققيْ كتاب العين، فيقول إنَّ الخليل نشأ خارجياً إباضياً ثم أصبح سُنيا وانتهى شيعيا. وماتزال هذه القضية موضع أخذ ورد بين الكتاب المعاصرين، ولكنني لا أعتقد بأنها ذات أهمية في ما يتعلق بالتراث العلمي الغزير لهذا العالم العبقري الجليل إذا كان هو نفسه لم يشر ولا مرة واحدة إلى هذه الأمور العقدية والمذهبية في كتبه وتصاريحه.

تلقى الخليل العلم على يد علماء بصريين كبار منهم أبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. وأخذ العلم على يديه العديد من العلماء الذين أصبح لهم شأن عظيم في اللغة العربية وآدابها ونحوها ومنهم سيبويه واضع أول كتاب في النحو العربي سماه "الكتاب" في القرن الثاني الهجري الموافق للثامن الميلادي، ويقال إن هذا ليس اسمه ولكن الناس سمَّته به لأن سيبويه تركه دون اسم أو عنوان، والليث بن المظفر الكناني الذي نسب خصوم الخليل كتاب العين إليه وسنفصل الكلام في الموضوع بعد قليل، والأصمعي، والكسائي، والنضر بن شميل، وهارون بن موسى النحوي، ووهب بن جرير، وعلي بن نصر الجهضمي، بمعنى أن غالبية أئمة ومعلمي مدارس اللغة والنحو والمعجمية العربية المؤسسين خرجوا من عباءة الفاهيري!

إنجازات الخليل العلمية:

اتخذ الخليل الاستقراء العلمي طريقة ومنهجاً في البحث والتنظير، وشفعه بالمنهج التجريبي التطبيقي في صيغته البسيطة والأولية، مستعملا البوق والمطرقة والجرة الفخارية في تجاربه لدراسة الأصوات ومكوناتها وصفاتها. ويعتبر الخليل من مبتكري ومؤسسي عدة علوم تطورت في عصور لاحقة واستقرت على هيئتها وتعاريفها، ولكنه أسسها ووضع ركائزها في عصره ومنها؛

- علم التأثيل المفرداتي إيتمولوجي (Etymology). ،

- وعلم فقه اللغة المقارن فيلولوجي (Philology) ،

- وعلم الصوتيات الوظيفي فونولوجي (Phonology)، الذي يعنى بدراسة الكلمات، وكيفية تكوينها، وعلاقتها بكلمات أخرى في اللغة نفسها. إنه يحلل بُنية الكلمات وأجزاء من الكلمات، مثل التفرعات والكلمات الجذرية والبادئات واللاحقات،

وعلم الأصوات الصرفية مورفولوجي (Morphonology).

* كتاب العين: إنه أول معجم مفرداتي أُلِّفَ في اللغة العربية، يعكس عنوانه هدف مؤلفه في اشتقاق الأصول الاشتقاقية للمفردات والمعاني العربية. قبل هذا الكتاب ألفَّ العرب كتباً موسوعية تخصصية قليلة قد لا ترقى إلى نوع المعاجم اللغوية ومن هذا القبيل الموسوعي كتاب الأصمعي عن الخيل، كما ألفت كتب أخرى عن أنواع الأسلحة وكانت هذه الكتب تسمى دواوين المعاني.

لكنَّ الفراهيدي في كتاب العين أسس نظاماً تأثيليا للغة العربية جمع فيه كل مفرداتها بطريقة رياضية حاصرة، فقد تمتع بعقلية حسابية رياضية، "فأنتج معجم العين معتمدا على ظاهرة التباديل والتوافيق ورد الكلمات إلى جذورها وهو من وضع فكرة الجذر، فمثلا الفعل "كتب" يضع له صيغا افتراضية هي بكت وتكب وبتك، ثم يقوم بعرض الصيغ على اللغة العربية المتمثلة بالقرآن والشعر العربي الجاهلي حتى العصر الأموي، ويقرر على هذا الأساس إن كانت الصيغة مستعملة أم مهملة، فما كان مهملا أهمله، وما كان مستعملا أثبته"، كما يقول د. محمود حمزة.

وبهذه الطريقة الحسابية الميسرة استطاع استحضار جميع كلمات اللغة العربية متدرجة من الأصول الثلاثية والرباعية، ومن ثم الخماسية.

كان سيبويه والأصمعي من بين تلاميذ الخليل، وكان الأول مديناً للفراهيدي أكثر من أي معلم آخر تعلم لديه. يقول ابن النديم المعتزلي البغدادي وكاتب السير المتوفى في القرن الرابع الهجري -  العاشر الميلادي، أن كتاب سيبويه "الكتاب" هو في الواقع عمل تعاوني ساهم فيه اثنان وأربعون من الكتاب، وأكد ابن النديم أن المواضيع والمبادئ في كتاب "الكتاب" استندت إلى نظائرها عند الخليل. فقد نقل سيبويه، واقتبس عن الخليل في كتابه "الكتاب"، أكثر من ستمائة مرة أي أكثر من أي مصدر آخر، فيما قدرها د. محمد حماسة عبد اللطيف بخمسمائة وسبعين اقتباساً وذكراً وفق إحصائيات معاصرة. والملاحظ أن سيبويه يكرر قوله «سألته» أو «قال»، دون تسمية الشخص المشار إليه بالضمير، ولكن المتفق عليه بين التراثيين القدماء والمحدثين أنه يقصد الخليل الفراهيدي.

* علم العروض: كان الفراهيدي أول عالِم أخضع عَروض الشعر العربي الكلاسيكي لتحليل صوتي معمق. كانت البيانات الأولية التي أدرجها وصنفها دقيقة ولكنها معقدة للغاية وصعبة الإتقان والاستخدام، وفي وقت لاحق طوَّر المنظرون اللاحقون صيغاً أبسط مع قدر أكبر من التماسك والمنفعة العامة.

عرف الخليل بذائقته العالية للشعر وبأذنه الموسيقية، فقد كان هو نفسه شاعراً معروفاً وكان يستمع في بعض الأحيان لشعر لا يتوافق مع الإيقاع الشعري العربي المألوف والذي تعود عليه، فيأخذه العجب والتساؤل كيف تمكنَ من معرفة هذا الخلل، وهذا ما جعله يفكر بوضع علم وقواعد محددة لضبط الأوزان الشعرية العربية لمعرفة الصحيح من الفاسد من الشعر.

وحين بدأ الخليل تأسيساته العلمية فقد استمد مصطلحاته من بيئته العربية الصحراوية فأخذ كلمة العروض اسما للعلم. والعروض هي العارضة التي تعترض الخيمة فتقام عليها وترفعها، كما استخدم الوتد والسبب وهما أيضاً من مكونات الخيمة وبيت الشَّعر العربي الصحراوي.

وقد أوجد الفراهيدي، مستعينا بحاسته الموسيقية دون معلّم، ما يسمى بالوحدة التي تتبادل فيها الحركة والسكون، هذه العلاقة أوجدها من خلال التقليب، ولازمته وعاشت معه وأنتج بها معجم العين وعلمي العروض والقافية.

استخرج الخليل خمسة عشر بحراً من بحور عروض الشعر العربي وأتمها تلميذه الأخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة) ببحر أخير هو السادس عشر وسماه بحر المتدارك، أو المستدرك، أي البحر الذي استدرك به الأخفش على بحور معلمه، وكان الخليل يعرف هذا البحر ولكنه أهمله لانعدام أمثلة شائعة من الشعر عليه.

* علم القافية: أحدث الخليل طفرة لغوية بوضعه معجم العين، كما كان تحديده لعلمي القافية والعروض طفرة موسيقية للعلماء والنقاد والشعراء. وعلم القافية مكمل لعلم العروض، وقد اتحدا كلاهما ليكمل أحدهما الآخر، فالقافية اصطلاحا تشير إلى آخر كل شيء (وجذرها؛ قفا يقفو؛ بمعنى يتبع. ويقول صاحب الصحاح: ومنه سمِّيت قوافي الشعر لأنَّ بعضها يتبع أثر بعض) والجذر اللغوي للقافية يشير لمؤخر الأشياء، يقتفي أو يقفو، والذي يقفو أثر فلان لا بد أن يكون سائراً خلفه، أما في الشعر فالقافية هي آخر حرف في البيت الشعري.

* علم التعمية "التشفير": كان كتاب "علم التعمية" للفراهيدي أول كتاب في علم التشفير وتحليل الشفرات السرية كتبه عالم لغوي في عصره. يحتوي هذا الكتاب - المفقود في عصرنا للأسف -  على العديد من القواعد الأولية بما في ذلك أول استخدام للتباديل والتركيبات لسرد جميع الكلمات العربية الممكنة مع وبدون حروف العلة. لاحقاً لجأ علماء التعمية العرب وغيرهم إلى التحليل الصوتي للفراهيدي لحساب تكرار الحروف في أعمالهم. وقد أثر عمل الخليل في علم التعمية على الفيلسوف الكندي (801- 873م)، الذي اكتشف طريقة تحليل الشفرات عن طريق تحليل التكرار.

* نظام التشكيل: يُنسب إلى الفراهيدي أيضا المعيار الحالي لعلامات التشكيل العربية؛ فبدلاً من سلسلة من النقاط التي لا يمكن تمييزها، كان الفراهيدي هو الذي قدم أشكالاً مختلفة لعلامات التشكيل بالعربية، مما سهل نظام الكتابة لدرجة أنها لم تتغير منذ ذلك الحين. كما بدأ في استخدام حرف شين صغير ( ّ) للدلالة على علامة الشدة. كان أسلوب الفراهيدي في كتابة الأبجدية العربية أقل غموضاً بكثير من نظام التنقيط السابق له، حيث كان يتعين على النقاط في ذلك الأخير أداء وظائف متنوعة. وبينما كان الفراهيدي ينوي استخدام ذلك التشكيل للشعر فقط، فقد تم استخدامه بعد ذلك للقرآن أيضا.

* إضافة إلى ما تقدم، كان الفراهيدي ضليعاً في علم الفلك والرياضيات والشريعة الإسلامية ونظرية الموسيقى والعلوم الدينية.

الخليل وحُنين بن أسحق:

أما ما قيل عن تأثر الخليل بغيره من علوم وعلماء عصره نتوقف عند ما ذكره د. مصطفى نظيف من أنه تأثر بالنحو السرياني عن طريق الطبيب العباسي حُنين بن أسحق وانه كان على اتصال به وأن حنين كان قد تعلم العربية على يديه. ويفند د. مهدي المخزومي هذه الفكرة تفنيدا تاماً، دون أن يعني ذلك أن الخليل لم يتأثر قط بأحد سواه من  علماء عصره، ولكن الخليل كان قد توفيَ وفق أقوى الترجيحات في سنة لا تتعدى 180 هـ في حين أن حُنيناً ولد سنة 190 هـ فكيف تسنى لهما أن يلتقيا ويتواصلا؟

وقد كرر أحمد أمين -  كما يخبرنا د. المخزومي -  هذا الغلط في كتابه "ضحى الإسلام" رغم أنه ذكر أن حنيناً ولد سنة 194، وهناك روايات أخرى تجعل سنة ولادته أبعد من هذه. ولكنه في الجزء الثاني من كتابه، وحين ترجم للخليل ذكر -  أمين -  أنه عاش بين (100 و175هـ). ومن القدماء لم يقل بخبر هذا التأثر إلا ابن أبي أصيبعة والقفطي، وكلاهما ولد بعد أكثر من أربعة قرون على ولادة الخليل!

ومن المستشرقين الأوروبيين ذهب الباحث الألماني ليتمان إلى أن النحو السرياني مأخوذ من العربي لا العكس، أما زميله المستشرق البريطاني هاملتون جِب فذهب إلى أن النحوَين العربي والسرياني نشآ معاً وفي وقت واحد. وفي شرحه لموضوعة التزامن بين النحوين العربي والسرياني يكتب د. المخزومي "نعم، أخد السريان يفكرون في وضع قواعد للغتهم حين شعروا بالخطر يتهدد لغتهم بالفناء بعد انتشار اللغة العربية في ربوع العراق وبلاد الشام واستعان الشرقيون منهم وهم سكان العراق بالنُّقط في إعراب بعض الكلمات كما كانت الحال عند العرب، وكان ذلك حوالي سنة 700 ميلادي، وكان العرب إذ ذاك قد فرغوا من نقط المصحف القرآني على يد أبي الأسود الدوئلي بين سنتي 49 و53 هـ أو على وجه التقريب بين سنتي 670 و674 م". يتبع في الجزء الثاني والأخير.

#لهجة_عراقية_اللامي

***

علاء اللامي

............................

* حُذفت الهوامش والمصادر في هذه النسخة لنشرها في الصحافة والتواصليات.

اللهُ تعالى هوَ مَصدَرُ الرَّحمةِ في هذا الوجود. كل الرَّحمةِ التي نراها في عالَمِنا هي تجليات لرحمة الله المتجليَّة في اسم الرحمن (الرَّحمة الرَّحمانيّة) واسم الرَّحيم (الرَّحمة الرَّحيميَّة) .

 هناكَ ثلاثَةُ تَجَلِّياتٌ لِلرَّحمَةِ في هذا الوُجُودِ:

1- الرَّحمةُ الطَّبيعِيَّةُ: وهي الرَّحمةُ المَوجودةُ في طبيعةِ الاشياءِ في هذا الكون المترامي الأطراف، فذراتُ الطبيعةِ ينجذبُ بعضُها الى البعض الآخر بطبيعةٍ أَودعها الله فيها، وبدون هذهِ الرَّحمةِ ينفرطُ عِقدُ الكونِ وتتصادَمُ الاشياء ويُدَمِرُ بعضُها البعض. انما اتساقُ الكونِ وحركتُهُ وجمالُهُ بهذهِ الرَّحمة التي التي جعلها الرحمنُ في بنيةِ الاشياء وتراكيبها.

2- الرَّحمةُ الحَيَوانِيَّةُ: وهي الرَّحمةُ الموجودةِ عندَ كُلِّ الكائناتِ الحَيَّةِ  والتي من خلالِها ترحمُ الكائناتُ الحيَّةُ صغارَها.وتدافعُ الأُمُّ الحَيَوانِيَّةُ عن صغارِها وان عَرَّضَها دفاعُها الى الموتِ.

 هذهِ الرَّحمَةُ مصدرُها الغريزةُ، هذه الرَّحمةُ مشروطةٌ ومقيَّدَةٌ بقيودٍ ، فالأُمُ الحَيَوانِيَّةُ تُدافعُ عن صغارها هي، ولايمكنُها بهذهِ الرَّحمةُ الغريزيَّةُ أنْ تدافعَ عن صغارِ خصمها. الأُمُ الحَيَوانِيَّةُ تدافعُ عن بيتِها وعن صغارِها وعن حُدودِها وعن كلِّ مايتعلقُ بها. لايمكنُها أَنْ تتجاوزَ الغريزةَ وتدافعُ عن صغارِ عدوها ؛لان صغار العدوِّ يستحقونَ الحياة. الرَّحمةُ الحَيَوانِيَّةُ لايمكنُ أَنْ تتجاوزَ هذا الافق المحدودَ ؛ لانَّها رحمةٌ مشروطةٌ وَمُقَيَّدَةٌ بقُيودٍ.

3-الرَّحمةُ الانسانِيَّةُ:وهي الرَّحمةُ التي تتجاوزُ حُدودَ الرَّحمةِ الحيوانِيَّةِ ،وتتجاوز الغريزة لتدافعَ عن العدو اللدود ؛ لأنَّهُ كائنٌ يستحق الحياة ؛ فهي ليست رحمةً مسجونَةً بحدود الغريزةِ.هي رحمةٌ تقوم على الصفح والتسامح والايثار ولاتقوم على ردودِ الافعال كما هو الحال في الرَّحمةِ الغريزيَّةِ . وهذه الرَّحمةُ الانسانيَّةُ المتجاوزةُ للغريزة الى الآفاق العليا تتجلى في قول السيد المسيح حسب انجيل متى "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،" (مت 5: 44).

 وكما جاء في القُرآنِ الكريم :

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ). فصلت: الآية:(34).

وهذه الرَّحمةُ الانسانِيَّةُ الواسعةُ الآفاق المتجاوزةُ لحدود الغريزة بلغت غايتَها الكاملة في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بلغَ أعلى درجات الكمال، والذي وصفه ربُّهُ بقوله تعالى:

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ). الانبياء: الآية:(107).

 فرسولُ الله هو الانسانُ الكامل والذي تجلّت فيه الرَّحمةُ في انصعِ صورها ، صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مولده وفي كلِّ يوم عَلَّنا نتخذ من رحمتهِ دروساً في عالَمٍ يفترِسُهُ التَّوحش وتدمرُهُ الحروب وتقتل فيه كل معاني الخير والحب والرَّحمة.

***

زعيم الخيرالله

جوهر المسألة التي حاولت إيضاحها في الأسبوعين الماضيين، هو دور الثقافة العامة في تحفيز التقدم؛ لا سيما على الجانب الاقتصادي.

نقصد بالثقافة هنا ما نسميه العقل الجمعي. ولكيلا نقع في خطأ التصور السلبي للعقل الجمعي، تهمني الإشارة إلى أنه ليس صفة سيئة. إنه أقرب إلى معنى العرف العام، أي مجموع القناعات والقيم والمفاهيم التي تحكم سلوك عامة الناس في مجتمع ما، وتشكل الصورة العامة للمجتمع. فنقول إن هذا المجتمع بسيط أو متحفظ، وإن المجتمع الثاني كريم أو بخيل، والثالث نشط وسريع الاستجابة... إلخ. هذه ليست صفات دقيقة لكل فرد في هذا المجتمع أو ذاك؛ لكنها المتوسط العام الناتج عن مجموعة صفات يتصف بها كل مجتمع.

أما المراد بالاقتصاد فهو دائرة المعيشة، أي مصادر الإنتاج ووسائله، وقابليتها للتجدد والتطوير، ومدى العدالة في توزيع ثمرات النشاط الاقتصادي القومي على أفراد المجتمع. نعلم أن غالب المجتمعات العربية في وضع أقل من المطلوب؛ لأن المسافة بيننا وبين الدول الصناعية شاسعة جداً، في مختلف المجالات، في إنتاج العلم والتقنية، وفي مستوى المعيشة وجودة الحياة، إلى المساواة والعدالة والمشاركة في صناعة المستقبل.

هذا يقودنا إلى العنصر الأول من عناصر الثقافة الداعمة للتقدم، أعني به الحاجة لمثال نحتذي به كمعيار للتقدم المنشود. إن النموذج والمثال الواضح أمامنا اليوم هو المجتمعات الصناعية الغربية، ومن سار على أثرها في الثقافة والتنظيم الاجتماعي. أريد التأكيد على هذا؛ لأننا في أمسِّ الحاجة إلى علاج ما أعده عقدة تفسد نفوسنا، وهي العقدة المتمثلة في إعلان الكراهية للغرب، وادعاء العداوة له، رغم ميلنا الصريح -أو الضمني- لاحتذاء نموذج الحياة الغربية.

هذه العقدة لم تقم على أرضية الدين كما يتخيل كثيرون؛ بل «استعملت» عباءة دينية لتبرير الانكماش على الذات، والتفاخر بالذات في الوقت نفسه. إن الشتيمة الآيديولوجية والشتيمة السياسية للغرب، ليست سوى محاولة للموازنة بين الانكسار الذاتي الذي يحث على الانكماش، وضغط الحاجات الملحة الذي يتطلب التواصل مع الغرب. وهذا هو مسلك «النفس المبتورة»، حسب تعبير المفكر المعروف داريوش شايغان.

لن نستطيع الانضمام إلى ركب منتجي العلم، ولن نقيم اقتصاداً قادراً على الصمود في وجه الأزمات، إلا إذا اجتهدنا في تنسيج أصول العلم والإدارة الحديثة في ثقافتنا. وهذه الأصول عند الغرب وليست عندنا. وهي محملة بفلسفة تتعارض جدياً مع كثير من قناعاتنا وأعرافنا الموروثة. فإذا بقينا على «وهم» أن تبنِّي فلسفة الحياة الجديدة مشروط بتوافقها مع موروثنا الثقافي، فلن نخرج أبداً من أسر التقاليد العتيقة التي عطلتنا ما يزيد على 1000 عام. الحل الوحيد والضروري هو التخلي عن تلك الأوهام، مهما كان الثمن.

أما العنصر الثاني، فهو إعادة الاعتبار للعلم كقائد لقطار الحياة. أقول هذا مع علمي بأن بعض الناس سيعترض قائلاً: كيف نزيح الدين عن دفة القيادة ونسلمها للعلم؟ وجوابي لهم: إن الدين الذي يُفهم كمزاحم للعلم أو معارض له، لا يصلح لقيادة الحياة، ولا يمكن أن يكون دين الله؛ بل هو نسخة أخرى من التقاليد الاجتماعية التي لبست عباءة الدين.

لا يتعارض الدين مع العلم، ولا يحتل مكانه في إدارة الحياة وتسييرها.

للدين مكان رفيع وللعلم مكان آخر، ولا يمكن لأحدهما أن يحتل مكان الثاني. فإن أردت أن تعرف من يقود الحياة، فانظر في حياتك اليومية: كم نسبة الأعمال والسلوكيات والقرارات التي تتخذ بناء على معطيات العلم أو في سياقه، وكم يتخذ خارج هذا السياق.

الاقتصاد الحديث قائم على معطيات العلم الحديث، فإن أردنا النهوض ومسابقة الآخرين في هذا المجال، فليس ثمة طريق سوى تمكين العلم من مقعد القيادة، أي الاعتماد على معطياته في كل جانب من حياتنا دون استثناء. وأعني هنا الحياة العامة، لا الشخصية.

ولنا عودة للموضوع في القريب إن شاء الله.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

(سؤال العقل الحائر)

يقف العقل حائرا أمام إشكاليات عقائدية، يؤازره الفؤاد تسائلا ليطمئن، (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[1]، والاطمئنان يتطلب الدليل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ )[2]، والدليل حجة قاطعة تزيح في طريقها إلى العقل والفؤاد كل الرماديات الغبشة والشوائب؛ التي تحول دون صفاء القلب، ونقاء العقل، ووضوح الفهم، وجلاء البصيرة، وصدق الإيمان. وهو مسلك الأنبياء إلى أقوامهم للدعوة والإيمان بمن أسلكم هذا المسلك؛ ما يعبد طريق العقل والقلب إلى طلب الدليل والحجة بسلاسة من مزاعم كثر، تفشت فينا دون أن تقدم بين يديها دلائل وحججا دامغة واضحة بائنة، تثبت من جهة صدقها وصحة قولها ومترتباته العملية أو العقلية، وتفند من جهة أخرى نواقضها وتبرهن بطلانها. تخلق وتولد في العقل والفؤاد سلسلة طويلة من علامات الاستفهام، التي تقيد الفهم وتلبسه، وتزيد الغموض في طريقه، والشك في منهجه ونتائجه، وتعقد مهام الوعي وقبول الأمر والتصديق به. ما يجعل طلب الحجة والدليل أمرا طبيعيا في سبيل المعرفة والإيمان والعمل.

ومن الإشكاليات العقدية المعقدة، التي تصعب على العقل فهمها، وعلى الفؤاد التسليم بها وتصديقها، هو التناقض الذي يحصل بكل وضوح وجلاء بين المتن المقدس، القرآن الكريم وبين ما يزعم أنه من " السنة " حديث شريف منسوب إليه صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما سأطرحه في هذه الورقة من أجل الفهم والتصويب، وطلب إجلاء الأمر عندي الذي حيرني، ومازال يؤرقني بطرح الأسئلة علي دون انقطاع. وما السبيل إلى جلاء الأمر إلا بطرح الإشكال على أهل الاختصاص. بعد أبجديات تعلمتها في الدين حين كنت طالبا بكلية الشريعة بجامعة القرويين، بفاس. فقد تعلمت عن أساتذتي الكرام في المدخل إلى الحديث، ومادة الحديث الشريف والسنة النبوية الشريفة حينئذ ـ رحم الله رحمة واسعة من حل ضيفا على رب العالمين، ورزق الحي منهم الصحة والعافية والجزاء الأوفى عنا ـ أن السنة قاضية على القرآن، وفي نفس الوقت تعلمت عنهم في المدخل إلى التفسير، ومادة التفسير، أن القرآن الكريم هو الأصل الذي يرجع إليه، وإذا تعارض الحديث الشريف مع القرآن الكريم تعارضا بائنا غير قابل لصيغة من صيغ التوفيق والتوافق القولي؛ فإن الراجح هنا القرآن الكريم.

وعليه؛ تلح نازلتي علي بالسؤال بعد سردها. في بلادي المغرب الحبيب، زلزلت الأرض تحت أقدام أهلي المغاربة بمنطقة الحوز، المتربعة الأطلس الكبير، وهي جبال شامخة شموخ أهلها الكرام، من لقنونا الدروس في الصبر والإيمان والاحتساب لله عز وجل، من تفديهم لقيمهم ونبلهم الأرواح، وتعانقهم السماء وتحتضنهم الملائكة. من شكروا الله على مصابهم الجلل، وزادوا في حمده، وزانوا أنفسهم بالعطاء والسخاء وهم في أمس الحاجة إليه. من أكرموا ضيوفهم من المتضامنين والمتعاطفين والمسعفين والمنقذين والزائرين المواسين، بما أبقاه لهم الزلزال من المؤن. من تعففوا عن أخذ أكثر من حاجتهم، وصرفوا الباقي لمن ليس بكاف حاجته من المؤن، ومتطلبات الحياة المؤقتة والظرفية التي وضعتهم الكارثة فيها وتحت رحمتها. هم مشهد من مشاهد شعب أبي أصيل، هرع إلى نجدة نفسه بنفسه قبل غيره، لأنه اشتكى منه عضو بالسهر والحمى نتيجة زلزال مدمر عات، ما أبقى خلفه سوى الخراب والدمار ورائحة الموت والجثث المدفونة والدواب النافقة والأنقاض والهدم والردم. لابأس فالإيمان بقضاء الله وقدره أقوى وأكبر من كل فاجعة موجعة، تهون وتصغر إلى حد التلاشي أمام إيمان عقدي يستصغر كل كبيرة مهما كان حجمها أو أثرها. فالله كفيل بالخلف والعوض والمدد مهما كان المصاب جلل. هنا؛ أهلي غارقون في النسيان والتهميش ساستهم إليه سياسة سياسوية بليدة جهلة نتنة فارقت الفكر الاستراتيجي، ونأت بنفسها عن رجال الدولة العظام، من خدموا البلاد والعباد تحريرا وبناء. سياسوية لا تنظر بعيدا ببصيرة العقل والفؤاد، وإنما تنظر إلى قدميها بمنظار المصلحة الخاصة والمنافع الفئوية، دون استحضار الهوامش والمنسيين، ودون طموح نحو مستقبل أفضل إلا لأهلها وأزلامها وحاشيتها وماشيتها؛ فهامت هذه الهوامش والمنسيون في طلب المعيش اليومي لسد حاجتهم في جغرافية جبلية وعرة تكاد تخلو من الطرق المعبدة المزفتة إلا تلك الترابية التي ما صمدت أمام هزات الزلزال، فانشقت وتشققت أو تساقطت عليها الأحجار والصخور الكبيرة والعظيمة التي قطعتها وسدت المنافذ إلى القرى والدواوير والأرياف، فعظم الخطب وكبرت المأساة وصعبت مهام الإنقاذ والإغاثة، سامحة فقط باستعمال الوسائل التقليدية من المشي على الأقدام لمسافات طويلة أو التنقل بالدواب أو استعمال الدرجات النارية أو الهوائية؛ حتى تفتح الآليات الضخمة والعملاقة الطرق، وتزيح عنها أثقال الصخور والأحجار والأتربة وحملها العظيم من المآسي. فهؤلاء هم أهلي الغارقون في الإيمان بالله الواحد القهار، والمنغمسون في عذابات تفاصيل ومفردات يومياتهم قبل الزلزال، الذي زادهم ـ والحمد لله على كل حال ـ ألما على ألم التهميش بمنطوق المغرب المنسي أو المهمش عند السياسوية المريضة العفنة أو بمنطوق الأرقام المهملة في صناديق الانتخابات الموسمية بعد الانتخاب. تلك التي يمقتها المغاربة ويمجونها، ويكرهونها كرههم لأكل الحرام. المتشبثون بأصالتهم وعراقتهم العرقية والدينية والتاريخية. وهم في لجة أمواج الزلزال وارتداداته المتعاقبة وهول النازلة، انبرى لفيف من فقهاء وشيوخ العقيدة الإسلامية، وتحت ما حفظوه تلقينا وتوارثوه أجيالا بعد أجيال، أو ما سكنوا فيه منذ زمن طويل من تراث ديني وشروح للمطولات والقاصرات المقصرات والهوامش وهوامش الهوامش، داعين الناس إلى الثوبة والرجوع إلى الله لإثمهم العظيم الذي يحيون فيه ويعيشون في رحابه، وما هم به من خبث كبير، ومن الكبائر والصغائر، وما أعظمها من دعوة حين تكون في سياقها، وتحت أسبابها ومتطلباتها وشروطها. وأتوا في دعوتهم الناس إلى تقوى الله العديد من الآيات الكريمات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[3]، و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[4]، و(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[5]؛ مستنكرين عليهم ما اقترفوا من المعاصي الظاهرة والباطنة، والخفية والجلية، وكافة آفاتهم وأمراضهم وسلبياتهم الاجتماعية والنفسية والأخلاقية والتربوية والسلوكية والاقتصادية والسياسية التي لا ننكر وجودها عند البعض لا الكل، ومذكرين إياهم بأن زلزالهم علامة واضحة على فحشهم وخبثهم ومنكراتهم، وعصيانهم لله تعالى وعقابا لهم. ومخبريهم؛ أنهم ما زلزلوا إلا لتفشي الموبقات بينهم، التي ما استنكروها ولا نهوا عنها، وأمروا بالمعروف بينهم، وما علموا أن حناجر المغاربة بحت تجاه واقعهم المر بأعلى الأصوات وأشدها شجبا واحتجاجا، وشوارعهم ملئت بمنهوك الأمة اليتامى في موائد اللئام، من سرقوا البلاد والعباد وزادوا الفساد حد فبركة الملفات والقضايا والحكم على الأبرياء بالسنوات الطوال، وما قرأوا لافتات الاحتجاج والوقفات أمام الأبواب والنواب. وأتوا على قولهم ذاك بما رفع إليه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث (زينب بنت جحش رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب، فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)[6]، و(عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل)[7]. وعضدوا ذلك بآيات قرآنية كريمة في العقاب والأخذ بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة؛ (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)[8]،و(تِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)[9]. ومنهم من أغلظ القول وكأنه أمام قوم لوط أو نوح عليهما السلام!

ولما سمعت مواعظهم ورأيت شرائطهم ووثائقهم الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي، وردت على ذهني وعقلي وتفكيري جملة من علامات الاستفهام والتعجب؛ فتساءلت أولا: عن مناسبة المواعظ مع سياق الفاجعة، وهل أهل النكبة في أمس الحاجة إلى الموعظة أم إلى المواساة والتضامن والعون والمساعدة والإغاثة؟ وهل هؤلاء الوعاظ أكثر إيمانا ممن نكبوا؟ ... ثم تجلت لدي أسئلة عقلية تحرق وعي، وتلبس علي الفهم، وتكدر صفاء فؤادي ... وتقودني إلى شيوخي وفقهائي طلبا لإنارة الطريق أمامي توضيحا للقول وتنقية للفهم وتصفية للوعي؛ حين ألح علي السؤال بالظهور إلى العلن في صيغة: ألا يوجد هناك تناقض في هذه الحجج والدلائل والأقوال والبراهين الواردة في نازلة الزلزال وهلاك قومي الكرام ـ رحم الله الشهداء منهم، وشفى الجرحى، وواسى المكلومين المهمومين ـ بما اقترفوا من معاصي وذنوب وأنا بمعيتهم في تقدير هؤلاء الفقهاء والشيوخ؟ كيف تقف أحاديث مرفوعة إليه صلى الله عليه وآله وسلم ظنية الثبوت والدلالة قاضية على آيات قرآنية قطعية الثبوت والدلالة؟ كيف يصير تحميل وازرة وزر أخرى نفيا لقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْء)[10]؟، وكيف الجزاء يتعلق بالفرد وحده دون غيره (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[11]؟ ولا تسأل الأنفس عما فعلت غيرها؟، وكيف توفى كل نفس ما عملت وقد أتاها العذاب بما عمله الآخر (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[12]؟، وكيف يكون جزاء الاكتساب عدلا ونفيا للظلم وقد ظلم المؤمنون بما عمله السفاء من منكرات (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[13]؟، ألا تتضمن هذه الآيات الكريمات عدل الله الذي هو صفة من صفات ذاته السنية العلية؟ كيف نوفق بين عدالة الله جل وعلا وهلاك الصالحين بذنوب الفاجرين والطغاة؟ ألم يكن في عقاب الله سبحانه وتعالى الأقوام البائدة استثناء للمؤمنين بموجب عدالة الرحمان الرحيم (ثُمَّ صَدَقْنَٰهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَٰهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرِفِينَ)[14]، و(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ)[15]، و(حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[16]، و(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)[17] ...

أمام صفاء عدل الله تعالى، كيف يقبل العقل بقضاء تلك الأحاديث المرفوعة على آيات العلي القدير؟ من يغفر الذنوب كلها إلا الشرك (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[18]، (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)[19]، (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[20]. كيف لرب رحيم غفور عادل أن يقبل حمل عبده المؤمن وزر عبد عاص فاجر تحت ظل وجوده الأبدي السرمدي؟ وكل نفس في ملكوته مسؤولة عن نفسها لا غيرها؟ ... من هنا؛ يريد العقل والفؤاد الخروج بما يناسب عدل الله تعالى في سياق نازلة زلزال بلادي بعد استحضار سؤال جوهري يصيغ نفسه على ضربي الحقيقة والواقع من جهة أولى، ومن جهة مقابلة افتراضية مفارقة للحقيقة والواقع؛ هل عم الفساد والمنكر والخبث والرذيلة منكوبي الزلزال ببلادي الجميلة العزيزة حقيقة وواقعا أم افتراضا مفارقا للحقيقة والواقع؟ وتنبثق عنه سلالة من الاستفهامات: ما رأي فقهاء وشيوخ هذا القول فيمن حملن الطوب على ظهورهن وأكتافهن مشرئبات لبناء مسجد القرية في أعالي الجبال؟ ألا يوجد مؤمنون ومؤمنات من منكوبي الزلزال يستثنيهم الله من الكارثة، أم كلهم هالكون؟ ألا توجد دعوة مؤمن صادق في عقيدته تشفع لهؤلاء الذين عم فيهم الفساد، وتقيهم عند الله الكارثة؟ أولئك الذين نجوا من الكارثة أهم مؤمنون أم برقابهم الموبقات؟ ... وبقي لدي سؤال علمي محض: أيتعلق الزلزال بمسببات فيزيقية أم ميتافيزيقية؟ أيتعلق الزلزال بقوانين كونية وضعها الله في كونه، الذي يسير وفقها أم يتعلق بعلية تقلبات مزاجية عاطفية، ومشاعر ورغبات إنسانية؟ وماذا عن الزلازل في الكواكب الأخرى والمجموعات الكونية التي لا يوجد فيها الإنسان والفساد؟ ... سادتي الفقهاء والشيوخ الكرام والأفاضل؛ ما أنا إلا تائه بين زعمكم وزعم العلماء؛ بين قول ديني تراثي وقول ديني مقدس وقول علمي، لا أدري فيه الارتباط الموضوعي والحقيقي والواقعي بين الزلزال وسببه. في كنفه لم أستوعب كيف تزر وازرة وزر أخرى أمام عدل الله المطلق (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)[21]؛ فهل أنرتم لي من فضلكم وجودكم وكرمكم الطريق إلى الحقيقة الموضوعية والواقعية في لبسي هذا بعلمكم ومعرفتكم بحقائق الأمور، حتى يستقيم فهمي ويطمئن قلبي، وما ذلك عليكم بعزيز، فأنتم منارة التائهين مثلي إلى طريق الحق، والحق عز وجل كفيل بجزائكم. فمع كامل احترامي وتقديري، فأنا في حضرتكم سوى تلميذ مستفت ... وشكرا جزيلا على تفهمكم.

***

عبد العزيز قريش

..................................

[1]  سورة البقرة، الآية: 260.

[2]  نفسه، الآية:260.

[3] سورة آل عمران، الآية:102.

[4] سورة البقرة، الآية:278.

[5] نفسه، الآية:281.

[6] أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما.

[7] أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح.

[8] سورة الإسراء، الآية:16.

[9] سورة الكهف، الآية: 59.

[10] سورة فاطر، الآية: 18.

[11] سورة البقرة، الآية: 281.

[12] سورة النحل، الآية: 111.

[13] سورة غافر، الآية: 17.

[14] سورة الأنبياء، الآية: 9.

[15]  سورة يونس، الآية: 103.

[16] سورة يوسف، الآية:110.

[17] سورة هود، الآية: 40.

[18] سورة الزمر، الآية: 53.

[19] سورة الفرقان، من الآية: 68 إلى الآية: 70.

[20] سورة آل عمران، الآية: 133.

[21] سورة ق، الآية: 29.

لقد اشتهرت الإيزيدية بهذا الاسم كونها أتت من تسمية يزدان، وهي تطلق عندهم على الله تعالى، وتفسيرها هو الخالق الرزاق، حيث لا يزال الإيزيديون يفتحون صلواتهم وادعيتهم بعبارة (بناظىَ يةزدانىَ ودلوَظان)، أي بأسم الله العلي الكريم. وذكرهم المؤرخ الكردي شرفخان البدليسي في كتابه (الشرفنامة) بـ(الإيزيدية واليزدانية)، وكشفت لنا مقولاته بأن هذه التسمية يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام إلى كردستان، وإلى كونهم يعبدون (أيزدان) وينتسبون إليه.

والديانة الإيزيدية ديانة قديمة، وهي من بين أقدم الديانات الشرقية، وبالرغم من غموض تاريخها وزمن ظهورها، إلا أننا نستطيع القول أنها من الديانات التي ظهرت قبل الميلاد بمئات من السنين. كما ذكر المؤرخ اليوناني زينفون في كتابه (رحلة عشرة الآلاف- اناباسيس)، أنه كان هناك في حدود عام 401 ق.م ثمة طائفة تستقر قرب مدينة نينوى تدعى (بيزيدي) وكان لهم شهرة بارزة في القتال، وكذلك جرت الإشارة إلى تسمية بارتاسى كتعريف بالإيزيدية الذين اعتبرهم هيرودوت إحدى الجماعات الميدية القوية التي شاركت مع بقية القبائل الميدية في السيطرة على نينوى عام 612 ق.م، والواضح أن المقصود بـ(بارتاسى) هو الداسانية أي الإيزيدية، حيث يطلق عليهم أيضاً تسمية الداسنية وخاصة في المصادر السريانية.

فقد وردت كلمة (يزدان) بمعنى الخالق العظيم في نصوص الإيزيدية المقدسة، وقد جاءت في إحدى النصوص (خودانىَ ئاخرةتىَ حاسلىَ مرازا منىَ، يزدانىَ منويىَ بتنىَ)، أي بمعنى (أن يزدان هو صاحب الدنيا والآخرة، وهو يلبي رغباتي وامنياتي، وهو إلهي الوحيد). والديانة الإيزيدية ديانة غير تبشيرية، وديانتهم على الأتفاق حول المبادئ الدينية الأولية محفوظة في صدور رجال الدين، واعتمدوا ولقرون طويلة على توارث الطقوس والتقاليد من جيل إلى جيل من دون أن يتم تدوينها، كما أنها تمتلك أجوبة كاملة حول مفهوم الحياة والخير والشر، وأجوبة حول معاناة الفرد، والموت وتناسخ الأرواح، وبمقارنتها مع الأديان الأخرى فأن الديانة الإيزيدية لا تسعى إلى السلطة أو شن الحروب على الآخرين باسم الدين، وكل ذلك نابع من صلب عقيدتهم الدينية.

وحقيقة التوحيد في الديانة الإيزيدية واضحة من خلال نصوصهم وأدعيتهم الدينية، حيث يتقربون إلى الله مباشرة، وهم يعتقدون بأن الله موجود في كل شيء وفي كل مكان. وأثناء الفتوحات الإسلامية، بدأت ايديولوجيات الديانة القديمة بالاضمحلال، فاضطر معتنقي تلك الديانات ومنهم الإيزيدية إلى خوض الكفاح المرير، ومقاومة ظهور بعض العقائد، ولولا ظهور بعض القادة والمصلحين أمثال الشيخ عدي بن مسافر الهكاري الذي قام بتنظيم الإيزيدية وفق أسس حديثة، وبمجيئه إلى معبد لا لش، ومكوثه بين الإيزيديين، دخلت الإيزيدية منعطفاً تاريخياً حاسماً، ومرحلة جديدة من مراحل تطورها، وتعتبر الحد الفاصل بين الإيزيدية القديمة والإيزيدية الجديدة.

ومن عقائد الديانة الإيزيدية نظرتهم إلى نشوء الكون والطبيعة والملائكة وآدم وحواء والبشرية جمعاء، وتقر الديانة بأن الله قد خلق في البداية درة نورانية من ذاته، وشاء الله أن يدخل الروح من ذاته إلى هذه الدرة الجامدة، إلا أنها لم تتمكن من تحمل هذه الروح الإلهية فأرتعشت من هيبة الله وانفجرت وتكونت منه سبع طبقات من السماء مزينة بالسدائم والمجرات والأجرام السماوية، ومن ثم زين الأرض بالنباتات والأشجار، وتم كل ذلك بدءاً من الجمعة ومنتهياً في الأربعاء، ولهذا فأن يوم الأربعاء له قدسية خاصة عند الإيزيديين، ويقع فيه عيد رأس السنة الإيزيدية، وهي من أكبر أعيادهم المرتبطة بالطبيعة وتكوين الخليقة، ومن مراسيمه الرئيسية احضار وسلق البيض (تشبيهاً بالدرة الإلهية)، وتلوينها بمختلف الألوان عن طريق الأعشاب الطبيعية "كدليل على دخول الروح إلى الدرة ومن ثم أنفجارها ونشوء الحياة على الأرض". وبحسب النصوص الدينية الإيزيدية خلق الله بعد تسعين ألف سنة سبعة ملائكة من نوره خلال سبعة أيام، حيث خلق في كل يوم ملاك واحد، وهم أزليون ومتواجدون دائماً في حضرة الله، ويعملون تحت أمرته، وهم المسؤولون عن تبليغ الرسائل الإلهية إلى البشر، كما أن الله قد أوصاهم بأن لا يسجدوا إلا لهُ، لأنهم من ذاته، لكن عندما خلق آدم قال للملائكة: أسجدوا لجسد آدم حتى تأتيه الروح، سجدوا ستة ملائكة إلا عزازيل (طاووس ملك) لم يسجد، وقال: ألم توصينا بعد السجود لغيرك يا رب؟؟ فقال له الله سبحانه وتعالى: أنكَ طاووس الملائكة يا عزازيل، وتكريماً له جعله رئيساً للملائكة لفوزه في أختباره المصيري تجاه واجبه المطلق في الطاعة والتقديس والتوحيد، ولهذا يعتبر الإيزيديون بأن طاووس ملك هو أول من جسد وحدانية الله ولم ينسى وصية ربه.. وبعد تركه لآدم دون روح سبعمائة سنة اجتمع الملائكة مع ربهم حول هيئته في إحدى أيام الأربعاء، فجلب الله تعالى كأساً من ماء الحياة لآدم، فشرب منه وأصبح بشراً، ثم قام الملائكة ورئيسهم طاووس ملك بأدخال آدم إلى الجنة بأمر من الله الذي أباح له أن يأكل من كل الثمار الموجود فيها عدا الحنطة، ومكث آدم فيها مدة طويلة، ثم جاء طاووس ملك إلى ربه سائلاً: كيف يكثر النسل البشري وآدم في الجنة لا يأكل من الحنطة؟ فقال له الرب: لك التدبير، فذهب إلى آدم وأرشده بأن يأكل من الحنطة، فأكل ثم أخرجه من الجنة لكي لا يدنسها، وبعد ذلك خلق الله حواء من أبط آدم وأمرها بالتزاوج، وتم ذلك وتكاثر البشر من نسلهما.

أما ما يخص الخير والشر في فلسفة الديانة الإيزيدية، فلا ترسم خطاً فاصلاً بين النقائض في الطبيعة والحياة والموت والخير والشر والليل والنهار، كل واحد مكمل للآخر، وأية ظاهرة من هذه الظواهر لا تستطيع العيش بمعزل عن نقيضها، فهي تستمد ضرورة بقائها من هذا النقيض، لذلك فكل ظاهرة طبيعية وكل طرف من هذه الثنائة إله، وهذه الآلهة كلها جزء من الإله الكبر وهو الله. لذا فأن الخير والشر في الديانة الإيزيدية مصدرهما واحد وكليهما في ذات الله، وما على الإنسان إلا الاستجابة لنداء الضمير والأخلاق والنفس باعتبارهم المسؤولون عن الأفعال، أما الجانب الآخر من ذلك فهو العقل البشري الذي يميز بين الخير والشر ويختار الصالح أو الطالح. وهنا يبرز دور الإنسان وعقله في الديانة الإيزيدية، حيث اعطته الحرية الكاملة في الاختيار بين الخير والشر وبين النور والظلام وبين الصالح والطالح. والإنسان في الديانة الإيزيدية دائماً في حالة الصيرورة والحركة، فالموت والحياة مكملان البعض بتعاقبهما الدائري المستمر، ومحرك الروح هو الرغبة الكامنة في كل اعمالها وفعالياتها، وهي تسيطر على الخواص الأخرى.

والديانة الإيزيدية لها اتصال مباشر مع الله لعدم وجود نبي أو رسول من الله ليهديه إلى الطريق الصحيح، فأن مسؤولية الفرد الإيزيدي في الحياة كبيرة وهذه سببت له هموماً وأعباء إضافية، فالروح البشرية تنبع من بذرة إلهية، لكنها تدخل جسداً بشرياً، وأن هذا الجسد البشري هو أساس الإنحراف إلى السوء إن لم يتحكم بها العقل المنير، ويجب على الإنسان أن يكون صبوراً كي يصل إلى شعاع الحقيقية، فالفرد الإيزيدي مخير في اعماله الخيرة أو الشريرة. ويعتقد الإيزيديون بأن الله في كثير من الحالات يعاقب الإنسان على أفعاله الشريرة في حياته وترتبط حالة الأمراض عند الإيزيدية بفلسفة ديانتهم على اعتبار المرض نتيجة عقاب الإنسان بسبب سوء أعماله وعلاقته الرديئة مع الله.

ويعتقد الإيزيدية بأن الموت هي حالة لا بد منها، وهي التجربة الأولى من الحياة، وأمراً طبيعياً محتوماً، ولا اعتراض على حكم الله. وقد شغل الموت فكر الإنسان الإيزيدي منذُ القِدم، ويحدثنا الأدب الشفاهي الإيزيدي عن اسطورة (مير مح)، ذلك الأمير الذي حاول بجهود مضنية البحث عن الخلود أو الوصول إلى مكان لا يلاحقه شبح الموت، إلا أنها تشبه ملحمة كلكامش البابلية، وتبين من خلالها الصراع بين الموت والحياة ومحاولة الإنسان للتعرف على ماهية الموت. إلا أنه في النهاية بأن الموت حقيقة وهو المصير المحتوم للإنسان.

أما فكرة الحلول في الميثولوجيا الإيزيدية فتقوم على أساس أن كل إنسان يحمل جزءاً من ذات رئيس الملائكة (طاووس ملك)، الذي خلق الله من نوره أو من ذاته، وهذه الفكرة مبنية على اساس ما كان كله مقدساً تصبح اجزاءهُ الصغيرة مقدسة أيضاً في حالة التقسيم، ولعظمة هذا الملاك في المعتقد الإيزيدي ترى الديانة الإيزيدية بأن الإنسان يولد وكيانه يحوي شيء من قدسية طاووس ملك، وبالتالي جزءاً من الله، ولكن ليس بدرجة طاووس ملك، لأنهُ هو المنبع الذي يستمد منهُ قوتهُ الإضافية بسبب ارتباطه المباشر معهُ، وهذه المعرفة تجري بوعي، فالمصدر واحد لكن شريان الامتداد ودرجة الأخذ والعطاء تختلف من فرد إلى آخر، وهنا يتحكم العقل.

أما بالنسبة للروح وفق فلسفة الديانة الإيزيدية، فالجسد يتضمن في كينونته المادة والحياة والروح والعقل حال وجوده على وجه الأرض، وبواسطة تواجد الجزء الإلهي فيه يحاول الجسد تطوير الروح إلى الأحسن، وهكذا تنتقل الروح ثانية بعد موت الجسد إلى جسد ثاني وثالث إلى أن تتنقى وتعود إلى مصدرها الأول أو الروح الأزلية، كما أن الحلقة الدائرية لفكرة طاووس ملك هي نفس الحلقة الدائرية لحياة الإنسان بموجب فكرة تناسخ الأرواح، فالروح تتعاقب بالعودة إلى الأرض مرة وأخرى إلى أن تستكمل صفائها بالتجربة الذاتية لتواجه الله بنقاء تام في يوم القيامة.

واليوم الآخر والقيامة بالنسبة للديانة الإيزيدية تختلف عن الأديان الأخرى في تفسيرها، إذ يؤمن الإيزيديون بأن اليوم الآخر يسبق يوم القيامة، وتجري فيه محاسبة الروح بعد خروجها من الجسد بغية أختيار جسد آخر مناسب لها، ويتوقف هذا الأختيار على الأفعال الحسنة والسيئة للروح، فإذا كانت الحسنات منها أكبر تدخل الروح إلى الأجسام الطاهرة والطيبة، أما إذا كان العكس فتدخل الروح إلى اجسام مكروهه لتتعذب، وهكذا تنتقل الروح بين الأجساد إلى يوم المحاسبة النهائية للروح، وهو الذي يسمى في الإيزيدية بيوم القيامة، إذ لا تعود الروح إلى الأرض ثانية، حيث نهاية الكون وعالمنا هذا. والعلاقة بين الروح والجسد بسبب حسناتها وخطاياها تخضع لقانون الفعل ورد الفعل، الثواب والعقاب. فالروح ضيف مؤقت على وجه الأرض وهي أرقى وأقدس شيء في الجسد، والروح عندما تفارق الجسد ستدخل جسداً آخراً وهكذا تتكرر العملية إلى أن تصل مرحلة السمو.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

...................

المصادر:

1- شرفخان البدليسي، الشرفنامة في تاريخ الدول والإمارات الكردية، ترجمة: ملا جميل بندي روزبياني، بغداد، 1953، ص147.

2- خليل جندي، نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية، اينبيك، 1992.

3- عدنان زيان فرحان، الكرد الإيزيديون في أقليم كوردستان العراق، السليمانية، 2004، ص15.

4-  أرشد حمد محو، الإنسان في فلسفة الديانة الإيزيدية، دراسة مشاركة في أعمال المؤتمر الفلسفي الحادي عشر المنعقد بتاريخ 6/7 تشرين الأول 2012 لقسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة، بغداد، ط1، 2013، ص117.

5- أرشد حمد محو، الإيزيديون في كتب الرحالة البريطانيين من مطلع القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، دهوك، 2012، ص94/97.

6- زينفون، الصعود، ترجمة، يعقوب افرام منصور، مجلة المورد، المجلد الرابع، العدد: 2، بغداد، 1975، ص91.

7- عز الدين سليم باقسري، مه ركه الإيزيدية الأصل المفاهيم التسمية الطقوس والمراسيم والنصوص الدينية، من منشورات مركز لالش الثقافي والاجتماعي، دهوك سلسلة (1)، 2003، ص22.

8- هوشنك بروكا، دراسات في ميثيولوجيا الديانة الإيزيدية، المانيا، 1995، ص38/39.

10- شكري رشيد خيرافاي، فلفسة الموت في بعض المعتقدات والديان، مجلة لالش، العدد: 28، دهوك، 2008، ص112.

وعند السيكولوجيا.. الخبر اليقين!

تــوطئــة: الشعر العراقي له تاريخ يمتد لقرون، وتذكر في مصادر إنخيدوانا أو إنهدوانا (2285-2250 ق م) وهي أميرة أكدية من أهل القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، والكاهنة الأعلى للإله نانا إلهة القمر عند السومريين في مدينة أور، وأنها أقدم شاعرة معروفة تم تسجيل اسمها!.وقد عرف العراق بـ«بلد الشعر والشعراء» أو «بلد الشعراء» عند الأدباء العرب.

واستمر الشعر في صعود لاسيما في العهد العباسي حيث دعمه الخلفاء والأمراء واجزلوا العطاء والهبات للشعراء، ليصبح هو الهوية للثقافة العربية وصورة ذلك العصر. ومع تعرض العراق عبر تاريخه لمحن، أقساها ما حدث لبغداد على يد هولاكو(1258)، ورمى الكتب وبينها دواوين الشعر في دجلة، فأن العراق بقي موطن الشعر والشعراء.

هذه المقالة تهدف الى الأجابة عن هذا السؤال:

لماذا.. العراق موطن الشعر والشعراء؟

سيفاجأ الشعراء ونقاد الشعر أن الأسباب سيكولوجية خالصة.. ولكن قبلها، دعونا نستطلع آراء عدد من المثقفين عن اسباب تفرّد العراق بهذه الظاهرة.

ما الشعر؟

اطلعت على الكثير من تعاريف الشعر، فوجدت أنهم يصفونه فنيا ويغفلونه نفسيا. اليكم اشهر ما قيل عنه:

ابن منظور: "الشّعر مَنظومُ القول غلب عليه؛ لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كلّ عَلَم شعراً".

الجرجاني: "إن الشعر علم من علوم العرب ويشترك فيه الطبع والرواية والذكاء".

بن طباطبا: " هو الكلام المنظوم البائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم ونظمه معلوم محدود".

أما ابن خلدون فيقول عن الشعر بأنه: "الكلام المبني على الاستعارة والوصف المفصّل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده".

ما يعني ان معظم من عرفوا الشعر من القدماء والمحدثين، ركزوا على الجانب الفني (القافية، الوزن،.... ) واغفلوا الجانب السيكولوجي فيه.

الشعر.. سيكولوجيا

الشعر، برأينا، حقيقة سيكولوجة مطلقة، لأنه انفعالات، والانفعالات لها فص موجود في الدماغ مسؤول عن الفرح، الحزن، الغضب، الحب، وأن كل انفعال له هرمون خاص يزداد حين يستثار. فالشعور بالفرح، مثالا، مرتبط بهرمون "الدوبامين" الذي يُنشط المخ ليفرز "السيروتين والأندورفين والاندوكانابى المضادة للضجر". وحين تقع في الحب يفرز "الأدرينالين والدوبامين" اللذين يزيدان شعورك بالسعادة. وعند الغضب تزداد ضربات القلب ويرتفع التنفس وتنقبض العضلات، لترسل إشارات لإفراز "الأدرنالين والكورتيزول والتيستوستيرون".

ولأن الشاعر لا يقول شعرا مؤثرا الا حين يستثار انفعاليا، فأن مقولتنا.. (الشعر حقيقة سيكولوجية مطلقة).. تكون هي الأصدق في وصف حقيقة الشعر.

شعراء ومثقفون.. يؤيدون

اول الشعراء الذي يؤيد مقولتنا هي نازك الملائكة باصدارها كتاب (سيكولوجية الشعر ومقالات اخرى 1979). ومن ابرز الأكاديميين، الدكتور حاتم الجواهري الذي يرى ان للشعر عملية سيكولوجية محددة، فهو لا يكتب الا عند حالة من التوحّد والتشّبع بروح ما (يقصد انفعال ما ).فيما يرى الدكتور فالح نصيف الكيلاني ان الشاعر يتخذ موقفا واحدا من الحياة، اما ان يكون منطلقا في رحابها او منطويا على نفسه.. اما متفائل فرح يملأ قلبه السرور والانشراح، او متشائم مفعم قلبه بالالم والحسرة والحزن.

وترى الدكتورة لطفية الاعكل أن الغموض خاصية الشعر العربي قديما وحديثا.. وتقصد ان الغموض يثير في المتلقي دافعا سيكولوجيا لكشف حقيقته. يشاركها الرأي الكاتب عز الدين اسماعيل في كتابه (الشعر العربي المعاصر...) الذي يرى ان جمالية القصيدة المعاصرة مرتبطة بالغموض، وأن (الرمز) في القصيدة يفعل ذات الفعل السيكولوجي الذي يحدثه في المتلقي. وتعدّ قصيدة (انشودة المطر) لبدر شاكر السياب من اجمل القصائد التي وظّف فيها الرمز بشكل مكثف من صور شعرية فنية مليئة بغموض فني سيكولوجي، ما يثير لدى المتلقي أمنية اشراقة الحرية على الوطن.. لنخلص الى ان الغموض والرمز يعبران عن معاناة الشاعر واغترابه الذي يعيش في وطن مشحون بضغوط نفسية وأزمات وتوالي خيبات.

استطلاع رأي

في (7 ايلول 2023) توجهنا باستطلاع كان نصه:

(العراق موطن الشعر والشعراء.

شو السبب :

جينات، وراثة، احداث مفجعة، قساوة انظمة حكم، حب جنون...؟)

اليكم نماذج من الأجابات:

سيد وحيد البوهلاله

تعاقب انطمة الحكم واغلبها ذات طابع حرمان وظلم وسلب حق المواطن جعلت الفرد العراقي بحاجة الي اهتمام لم يجده ابدا، فنتج عن هذه المعاناة عظماء في الادب والشعر والسياسه وكذلك طبقه مميزه من الفنانيين جسدوا مراحل للشعب العراقي عبر تحدي الصعاب والحرمان.

د.عقيل مهدي يوسف

الشعر يحقق.. التطهير.. في كل لغات العالم.. ولكل ماتفضلت به دكتورنا من اسباب.. تتعلق بالبيئة الاجتماعية والسلطة والسايكولوجية الذاتية والعامة.

عبد العزيز ججو

العراق من الشعوب العاطفية قياساً لخمسين شعبا عايشتها. شعب مر بمراحل جعلته يحلم كثيراً ويحصل على القليل من الحكام القساة، وبالتالي عندما تتوفر له فرصة فانه يفرغ ما عنده من غضب على من هو ادنى منه وبقساوة، لانه يعتقد بان ذلك من حقه وهو الاسلوب الصحيح.. واحد اشكال التعبير عن ذلك وجدانياً هو الشعر والغناء.

علي نعمة

ربما طبيعة العراق تنوع أرضه وانهاره َوالمروج الخضراء وتقلب المناخ إضافة إلى كثرة الحروب الفواجع، جعلت من العراقي إنسانا رقيقا شفافا مرهف الحس عميق الحب شديد الحزن.

مهدي نعيم الحلفي

الظروف الي يعيشها المواطن العراقي تجعل منه شاعرا وفيلسوفًا.

د. الكفائي

لكل الاسباب التي ذكرتها دكتور ويضاف اليها.. انظمة حكم فاشلة جعلته يعاني من القهر والظلم والعوز المادي.

فاضل عبود

العراق ومنذ فجر التاريخ مطمع للجيران فارتبط تاريخه بالاحتلالات والغزوات وهذا يتطلب من اهله مقاومة الغزاة فكان الشعر احد وسائل رفع المعنويات وصولا الى استخدام الهوسات (الطوب احسن لو مكواري ) مثالا.

بهاء التميمي

الشعر غالبا مواهب وليس مكاسب.

هادي علي

تعدد حالات ألمجتمع من ألرفاهية ألمفرطة إلى ألحرمان ألشديد وألشعور بالظلم وألتذمر وألأنتقاد للسلطة في كل ألعصور.

د. صالح الطائي

للبيئة اثر كبيرعلى انماط السلوك البشري، لاسيما ما يتحصل عليه من خلال المثاقفة مع الاخرين.ولان مجمل حياتنا تحيط بها الفجائع والالم فان الغناء يعد مصدرا للتنفيس، والشعر هو الغذاء الروحي للغناء، فكثر عندنا شعر التفجع وغناء الآه والحسرة، فضلا عن موروثنا القديم يوم كانت بغداد قبلة شعراء الدنيا.

نوري خرخاش

ليس العراق وحده يتميز بذلك فان موريتانيا مليئة بالشعراء، ولكن لكل بلد بصمته الشعرية التي تميزه عن غيره بسبب البيئة المعاشة.والعراق بلد المعاناة وصدق المشاعر التي لا يمكنه البوح بها مباشرة الا من خلال درع الشعر فهو المساحة الوحيدة التي ترتاح بها النفوس المتعبة.

حسين راشد الجبوري

الظروف القاهرة تؤدي الى جعل الانسان في موضع دفاعي تجاهها وبأقل الخسائر عن طريق الشعر.هذا من جهة، وطريقة سهلة لجني الرزق من جهة أخرى.

احسان الفرج

الابداع يولد من رحم المعاناة.. ما يعني أن كل عناصر الظلم والإيلام و القهر و التعذيب عبر التاريخ، تشترك في صقل الشخصية العراقية وجعلها مبدعة في الشعر بشكل خاص.

د. عزيز مزعل

اعتقد كل ماذكرت، فضلاً عن ظلم وحرمان طويل وطويل جداً، حتى انطبع بمنجزاته وبات يشكل علامه فارقه، ناهيك عن توفر خصب الخيال، الميزه التي لابد من حضورها لغرض الابداع.

احمد الخياط

الشعر يحتاج لخيال واسع جدا للحياة والكون والوجود.وكان من ناتج هذا الخيال.. اختراع الكتابة من خلال تصور نوع الحرف بالتعامل الإنساني، فكانت الكتابة الصورية اول اختراع للانسان العراقي، فالرمزية فاللهجات المستعملة على صعيد الواقع.وهذا الخيال الواسع انتج ليس الشعر وحده وانما المدنية والزراعة والعمارة والحقوق والعلاقات بين الناس والدول.وأول قصيدة مكتشفه قبل ٤٠٠٠ عاما نقشت على ١٢ عشر لوح هي.ملحمة كلكامش التي بينت عظمة وقوة الخيال والفكر وجسدت البحث عن سر الوجود واكسير الحياة فيها والحب وفلسفة الوجود، والذي لايزال العالم يبحث عن سر الوجود واكسير الحياة فيها والحب رغم تقدم كل العلوم والتكنولوجيا والمعرفة.

عباس

Log into Facebook

Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.

موسى

ياسيدي: حينما ينكمش الدماغ يطول اللسان!

استنتاجات

اوضحت نتائج الأستطلاع ان كل الأسباب المذكورة فيه كانت وراء ان يكون العراق موطن الشعر والشاعر، واختلفوا في حجم دور كل سبب، وأضافوا اسبابا اخرى مهمة، لكن معظمهم اتفقوا على أن طبيعة الأحداث التي عاشها العراقيون عبر تاريخهم هي السبب الرئيس: (شعور بالظلم، بالقهر، بالحرمان، بالعوز، بالتذمر.كثرة الحروب وما نجم عنها من فواجع وفقدان أحبة.انظمة حكم فاشلة سلبت حق المواطن..).

الأغتراب.. السبب الرئيس

ما تفضل به المستجيبون.. صحيح. ومع ان جميع الأسباب.. سيكولوجية، الا اننا نرى أن السبب السيكولوجي الرئيس هو الأغتراب.. الذي شغل اهتمام فلاسفة (هيجل، ماركس، روسو، سارتر..) وعلماء نفس بدءا من فرويد الى المعاصرين.

ومع تعدد نظريات الأغتراب (نعم نظريات!) فأننا نرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل عدد من الاسباب نوجز اهمها بالآتي:

1. العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجيةاهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.

2. فقدان المعنى: ويعني الاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.

3. فقدان المعايير: ويعني نقص الاسهام في العوامل الاجتماعية المحددة للسلوك المشترك.

4. التنافر الحضاري: ويعني الاحساس بالانسلاخ عن القيم الاساسية للمجتمع.

5. العزلة الاجتماعية: وتعني الاحساس بالوحدة والشعور بالنبذ.

6. الاغتراب النفسي: ويعدّ اصعب حالات الاغتراب تعريفا ويمكن وصفه بانه ادراك الفرد بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته(أنا منو؟!).

ونضيف لها (الفقر).. في مقولة سبق بها الامام علي علماء النفس: (الفقر في الوطن غربة).. لاسيما اذا كنت تعيش فقيرا في اغنى بلد في العالم!

غير ان هنالك نوعا آخر من الاغتراب هو الاغتراب السياسي، ويعني: الشعور بخيبة الأمل والعجز والنفور من العمل السياسي، واعتقاده بأن العملية السياسية بكاملها صارت لا معنى لها في وطنه.. فيغادره في حالة صراع سيكولوجي، بين أن يكون طاردا للوطن او مطرودا منه، وبين من يعدّ الرحيل عن الوطن مسألة مشروعة وبين من يعدّه قيمة لا اخلاقية لأنه اناني.. يهرب بنفسه ويترك الأهل والأحبة للعذابات التي هرب منها، وبين من راح يمنّي النفس بشمّ هواء الحرية في الغربة وبين من اختنق بهواء المنفى.

استنتاج ختامي

ان السر الذي يكشف صدق مقولة (العراق.. موطن الشعر والشاعر) يكمن في ان قراءتنا لتاريخ الشعر في العراق اوصلتنا الى مقولة جديدة هي ان (الشعر.. حقيقة سيكولوجية مطلقة) وانها تتمتع بالمصداقية وتشكل اضافة عراقية في نقد الشعر.. أم أن للشعراء رأيا آخر؟

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسيية العراقية

تتميز الحياة خلال هذه الحقبة بأنها الأكثر تواصلًا في تاريخ البشرية، وبالعديد من الإيجابيات حيث يتمكن أفراد الأسرة الواحدة البعيدون عن بعضهم من الالتقاء عبر جلسة FaceTime والاستمتاع بوقت عائلي ممتع سوياً.

لكن الكثير من التكنولوجيا - سواء أكان ذلك الوقت الذي نقضيه على الهواتف الذكية، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو أمام الشاشات الرقمية الأخرى - يمكن أن يكون له عواقب غير محمودة. وقد يشير ذلك إلى الحاجة إلى التخلص من السموم الرقمية.

إن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا يمكن أن يكون على حساب الأنشطة الأخرى مثل النوم، وممارسة الرياضة، والتواصل الاجتماعي الوقعي، والتي تعتبر كلها مهمة لتحقيق الصحة العامة.

تقول العالمة الأمريكية " كارول فيدال" Carol Vidal أستاذة الطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة جونز: "أن الاستخدام المتكرر للتكنولوجيا يرتبط بزيادة أعراض نقص الانتباه، وضعف الذكاء العاطفي والاجتماعي، وإدمان التكنولوجيا، والعزلة الاجتماعية، وضعف نمو الدماغ، واضطراب النوم في بعض الحالات".

الاستخدام المرضي للتكنولوجيا

النوموفوبيا هو الإدمان على استخدام هاتفك المحمول والأجهزة الرقمية الأخرى. وهو مصطلح جديد يعني نوع من الرهاب والخوف المرضي، والذعر من الانفصال عن الأجهزة الرقمية وخاصة الهاتف المحمول. فما هي العلامات والاختبارات للتعرف عليه؟ ما هي العواقب على الحياة الاجتماعية أو المهنية؟ وهل يؤثر فقط على الشباب؟ كيفية التخلص من ذلك؟

وجدت دراسة استقصائية أجرتها شركة "ديلويت" Deloitte عام 2020 أن حوالي 69% من مستخدمي الهواتف الذكية يقومون بفحص منصة التواصل الاجتماعي في الدقائق الخمس التي تسبق الذهاب إلى السرير، وفي غضون 30 دقيقة بعد الاستيقاظ صباحا.

إن الاتصال الرقمي أمر بسيط وسهل وجذاب، وقبل كل شيء عمل تجاري. وسرعان ما يصبح عادة تملأ الفراغ. الشاشات، وخاصة الهاتف، هي نوع من السلع الاستهلاكية: نحن ننطلق، وننتقل من شبكة اجتماعية إلى الأخبار، من صورة أزياء إلى فيديو ترفيهي. دماغنا يسير في كل الاتجاهات وليس لديه سوى القليل من الوقت للجلوس والتفكير بشكل بناء، فهو ليس في رحلة حسية يمكن أن تغذيه، بل في شكل التجول دون هدف كبير. في النهاية، يؤدي الإفراط في استخدام التكنولوجيا الرقمية إلى الإرهاق بصرياً وعقلياً وعاطفياً، مصحوبًا بنوع من الملل. ويؤدي ـ وهو الأخطر ـ إلى الإدمان. لذلك من المثير للاهتمام التخلص من السموم من وقت لآخر.

ما هي فوائد التخلص من السموم الرقمية؟

 إذا كنت مثل معظم الناس، فإن منبه هاتفك الذكي يوقظك في الصباح. أثناء الاستعداد للذهاب إلى العمل مع تستمع إلى بعض الأخبار التلفزيونية، ثم تتفقد وتمسح رسائلك النصية ضوئياً. على مدار اليوم، تكرر عملية التحقق من البريد الإلكتروني، وإجراء بعض الدردشة مع الأصدقاء. ثم المرور على Facebook وInstagram  ومنصة X، وكتابة بعض التعليقات، أو نقرات الإعجاب. في المساء، يمكنك مشاهدة برامجك التلفزيونية المفضلة أثناء التسوق عبر الإنترنت، وتسجيل الدخول على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي وقت النوم، تستخدم تطبيقات الهاتف الذكي للتأمل أو للاستماع إلى بعض الضوضاء البيضاء، أو تصفح TikTok.

هذا مجرد يوم نموذجي لكثير من الناس. في الواقع، يقضي الأمريكيين ـ على سبيل المثال ـ ما معدله أربع ساعات في مشاهدة التلفزيون ونحو سبع ساعات ونصف الساعة على الأجهزة الرقمية. ليس من المستغرب أن الكثير من الوقت الذي نقضيه أمام الشاشات يشكل ضغطاً على الكثير منا.

قد يكون الحل هو التخلص من السموم الرقمية، والتي يمكن أن توفر الراحة من ضغط الاتصال المستمر بالأجهزة الإلكترونية. لقد وجدت الأبحاث أن القيام بالتخلص من السموم الرقمية قد يساعد أيضاً في تحسين نومك وعلاقاتك ومزاجك.

التخلص من السموم الرقمية

التخلص من السموم الرقمية هو الوقت الذي يقضيه الأفراد بدون الأجهزة الرقمية، مثل الهواتف الذكية، وأجهزة الحاسوب، ومنصات التواصل الاجتماعي. دخل المصطلح لأول مرة إلى قاموس أكسفورد في عام 2014، ومنذ ذلك الوقت يُستخدم بشكل متزايد في الدراسات.

برزت الحاجة إلى فترة من الوقت يمتنع فيها الأشخاص طوعاً عن استخدام الأجهزة التي تحيط بحياتنا، بازدياد الوقت الذي يستهلكه الأفراد على الأجهزة الرقمية والإنترنت، وزيادة نسبتهم بصورة مرعبة.

يتم استخدام التخلص من السموم الرقمية للابتعاد عن الشاشات والهواتف لمدة أسبوع أو شهر أو أكثر. كيف نفعل؟ ما المزايا؟ تعليمات للابتعاد عن التوتر المزمن والتمتع بالهدوء أكثر.

بعيداً عن كونه تحدياً سهلاً، فإن التخلص من السموم الرقمية يتكون من التخلص من الشاشات لفترة معينة من الوقت للتخلص من الاتصال المفرط. يوم واحد، أسبوع واحد، شهر واحد أو أكثر. إذا أصبح اتجاه التخلص من السموم الرقمية أكثر شيوعاً، فذلك لأن التكنولوجيا الرقمية تشغل مساحة متزايدة في حياة الشعوب، الذين يقضي بعض منها ما معدله أربع ساعات واثنان وعشرون ساعة يومياً أمام الشاشات (باستثناء العمل)، وفقاً لأحد التقارير الذي يتناول نتائج دراسة أجرتها مجموعة BVAوقام بها خبراء السلوك. اعترف ما يقرب من ثلثي الفرنسيين أنهم يعتمدون على أدواتهم المتصلة بالأجهزة الرقمية، والثلث يعتمدون عليها بشكل كامل، مما يسبب لهم الشعور بالحرمان. ومع ذلك، لا ينبغي شيطنة هذه الأجهزة، بل يجب استخدامها بطريقة أكثر مسؤولية ورعاية. لذا، في الوقت الذي تنتشر فيه الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وأجهزة التلفاز وأجهزة الحاسوب والساعات المتصلة في كل مكان في حياتنا اليومية، يبرز السؤال الهام: كيف يمكنك التخلص من السموم الرقمية؟ وماذا نستفيد من تركهم لفترة من الزمن؟

ما هو التخلص من السموم الرقمية؟

تعريف التخلص من السموم الرقمية هو أخذ استراحة من استخدام الأجهزة الإلكترونية أو وسائط معينة لفترة من الوقت، من بضعة أيام إلى عدة أشهر. لكن التفاصيل تختلف من شخص لآخر. الأشياء التي يتجنبها الأشخاص أثناء التخلص من السموم الرقمية قد تشمل ما يلي:

ـ التحقق من البريد الإلكتروني. ـ ألعاب الفيديو. ـ تصفح وسائل التواصل الاجتماعي. ـ الرسائل النصية. ـ استخدام الهواتف الذكية أو الأجهزة اللوحية. ـ مشاهدة الأخبار أو البرامج التلفزيونية الأخرى.

التخلص من سموم وسائل التواصل الاجتماعي

يعد أخذ استراحة من مشاهدة وسائل التواصل الاجتماعي أو المشاركة فيها، هو الشكل الأكثر شيوعًا للتخلص من السموم الرقمية. إن وسائل التواصل الاجتماعي تربطنا بالآخرين بعدة طرق مفيدة، ولكن في الوقت نفسه، يمكن أن يكون لها أيضاً تأثير غير صحي على الناس. تجارب وسائل التواصل الاجتماعي السلبية يمكن أن تثير القلق والاكتئاب وتؤثر على احترام الذات. هذا يتضمن:

ـ الغضب أو الانزعاج من المحتوى المنشور. ـ التنمر الإلكتروني (التسلط اللفظي عبر الإنترنت). ـ الخوف من الضياع. ـ مشاعر العزلة. ـ المقارنات الاجتماعية.

فوائد أخذ استراحة من التكنولوجيا

يعد التخلص من السموم الرقمية طريقة رائعة لمعرفة ما إذا كانت التكنولوجيا تمنعك من عيش حياتك الأفضل. يمكن أن تكون نتائج الانفصال بعيدة المدى، بدءًا من زيادة الإنتاجية في العمل وحتى تعميق علاقاتك مع العائلة والأصدقاء. تشمل فوائد أخذ مهلة للتكنولوجيا ما يلي:

ـ تركيز أكثر حدة:

من خلال أصوات التنبيه المتكررة والإشعارات المنبثقة على الأجهزة الإلكترونية، من السهل تشتيت انتباهك عما يدور حولك. أثناء عملية التخلص من السموم الرقمية، قد تجد أنك تلاحظ المزيد في محيطك المباشر. يمكن لعقلك التركيز بشكل أفضل على مهامك.

ـ ضغط اقل:

بالنسبة لبعض الناس، يمكن أن يكون الكثير من المعلومات مرهقاً. نلاحظ ـ على سبيل المثال، العديد من الأشخاص الذين يشعرون بالانزعاج الشديد من مشاهدة الأخبار لفترات طويلة، وبمجرد أن يقللوا من استهلاكهم للأخبار ويبدأون في القيام بشيء آخر، يشعرون بالهدوء.

ـ تفاعلات اجتماعية أفضل:

يؤدي القضاء على عوامل التشتيت الرقمية إلى خلق المزيد من الفرص للانتباه إلى من حولك. على سبيل المثال، بدون الأجهزة الموجودة على العشاء، يمكنك التفاعل بشكل طبيعي والتواصل بشكل أكبر مع عائلتك. أو إذا لم يكن أنفك مدفوناً في هاتفك الذكي، فلديك فرصة مقابلة شخص جديد في مكان ما تتواجد فيه. وإذا كانت الرسائل النصية محظورة، فمن المرجح أن تلتقط الهاتف للدردشة مع صديق.

ـ المزيد من السيطرة على وقتك:

هل شعرت يوماً برغبة عارمة في التحقق من هاتفك الذكي أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي؟ انت لست وحدك. في المتوسط، يتفقد الغربيين هواتفهم الذكية 96 مرة يومياً ويقضون أكثر من ساعتين على وسائل التواصل الاجتماعي. بالنسبة للعديد من الأشخاص، يعد التحقق من هواتفهم أو وسائل التواصل الاجتماعي كلما كانت هناك بضع دقائق مجانية بمثابة إجراء لا يستند إلى أي حاجة حقيقية. يساعدك أخذ استراحة من الأجهزة أو الوسائط الرقمية على مكافحة الاستخدام القهري.

يقول أحد الذين خضعوا لتجربة التخلص من السموم الرقمية في الولايات المتحدة: "لقد انقطعت عن الفيسبوك لفترة من الوقت عندما كنت أدرس لامتحان الترخيص الخاص بي. لقد كان الأمر ممتعاً جداً، لأنني لم أرد على التنبيهات. على الرغم من أنني بدأت في استخدام الفيسبوك مرة أخرى، إلا أنني لا أستخدمه كثيراً. ما زلت أقوم بتسجيل الخروج كل يوم حتى لا تزعجني التنبيهات. أنا أقوم بالتحقق عندما أريد التحقق من ذلك. إنه أمر مريح لأنني لم أعد مستهلكاً لما يحدث".

علامات تحتاج إلى اخماد الأجهزة

هل تتساءل عما إذا كنت بحاجة إلى التخلص من السموم الرقمية؟ إذا تسبب استخدام الوسائط الإلكترونية في تعرضك لأي من التجارب التالية، فهذه علامة على أنك قد تحتاج إلى قطع الاتصال:

ـ مكتئب المزاج. ـ زيادة التهيج والإحباط أو الغضب. ـ الشعور بعدم الأمان. ـ فقدان النوم أو النوم المتقطع. ـ الشعور بالالتزام بالاستهلاك، أو الاستجابة، أو التفاعل، أو التحقق.

كيفية القيام بالتخلص من السموم الرقمية

1ـ  اتخاذ قرار بشأن السلوك الذي تريد تغييره: تحديد المشكلة. هل أنت متصل دائماً بهاتفك الذكي؟ هل الأخبار تضغط عليك؟ هل تقضي الكثير من الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي؟ اكتشف الأنشطة التي تريد تقليلها أو التخلص منها.

2ـ إنشاء الأهداف: حدد هدفاً لنفسك بناءً على ما إذا كنت ترغب في تقليل استخدام جهاز معين أو نوع معين من الوسائط أو التخلص منه. اجعل الاستخدام محدد. وهل سيكون طوال اليوم أم في أوقات معينة فقط؟ على سبيل المثال، قد تقرر قضاء 15 دقيقة فقط يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي، أو وضع هاتفك في غرفة مختلفة ليلاً، أو جعل يوم الأحد يوماً خالياً من التكنولوجيا.

3ـ الالتزام بالوقت: يستغرق الأمر وقتاً لكسر العادات الرقمية القوية. خطط للالتزام بأسبوعين على الأقل. تريد الوصول إلى النقطة التي تشعر فيها وكأنك قد كسرت هذه العادة.

4ـ جمع الدعم: من الجيد أن يكون لديك شريك أو أحد أفراد العائلة أو صديق مقرب لتشجيعك وتوفير المساءلة. شارك أهدافك مع الأشخاص الداعمين. يمكنك أيضاً أن تطلب منهم أفكاراً حول كيفية إيقاف سلوكك المستهدف.

5ـ تقييم التقدم المحرز الخاص بك: بعد أيام قليلة من بدء التخلص من السموم الرقمية، تحقق بنفسك من كيفية سير الأمور. احذر من استبدال عادة رقمية بأخرى. على سبيل المثال، إذا كنت تقضي المزيد من الوقت على Instagram  الآن بعد أن أصبحت خارج فيسبوك، فقد تحتاج إلى التفكير في إزالة الوسائط الاجتماعية بالكامل.

6ـ فكر في التغييرات طويلة المدى: لاحظ الفوائد والعوائق التي واجهتها أثناء التخلص من السموم الرقمية. ماذا حدث عندما توقفت عن مشاهدة الأخبار لمدة ثلاث ساعات متواصلة؟ ما هو شعورك عندما لا تستخدم Facebook أو Instagram؟ هل كان الأمر أسهل مما كنت تعتقد أم كان من الصعب القيام به؟ ثم قرر ما إذا كنت ترغب في استمرار أي جانب من جوانب التغيير للأمام. على سبيل المثال، جعل القاعدة المنزلية هي عدم استخدام أي شخص للوسائط الرقمية أثناء العشاء العائلي. أو قم بمعالجة تغيير المزيد من العادات الرقمية الآن بعد أن أكملت بنجاح عملية التخلص من السموم الرقمية الأولى.

إن القيام بالتخلص من السموم الرقمية يتعلق بالتحكم في كيفية قضاء وقتك وطاقتك وما توليه اهتمامك. فهو يساعدك على إدراك ما تريده أكثر فأقل حتى تتمكن من التخلص من العادات غير المفيدة وإنشاء عادات جديدة ذات معنى أكبر.

الآثار والمخاطر

تبين الدراسات أن الإفراط في استخدام التكنولوجيا يؤدي إلى تقليل جودة النوم، ويسبب إجهاد العين ومشاكل في الرؤية، كما يؤدي إلى زيادة حدوث الصداع النصفي. وجدت دراسة بحثية سابقة أجريت على أكثر من 7000 مشارك في الدنمرك عام 2021 أن ما يقرب من 70% من أولئك الذين يستخدمون التكنولوجيا مع الشاشات قد عانوا من "إجهاد العين الرقمي نتيجة الاستخدام المتزايد.

أشارت الأبحاث حول تأثيرات الأجهزة التكنولوجية الشائعة مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الحاسوب على النوم إلى أن الضوء المنبعث من الشاشات قد يثبط إنتاج هرمون الميلاتونين، وهو مادة كيميائية حيوية تنظيمية مهمة تتحكم في مدة وطبيعة دورات النوم للإنسان.

وفقًا للإحصاءات، يقوم العديد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بزيارة منصاتهم عدة مرات يومياً، حيث يقوم بذلك 68% من مستخدمي سناب شات، و50% من مستخدمي فيسبوك. استنادًا إلى دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث عام 2019، يستخدم 73% من البالغين في الولايات المتحدة موقع YouTube، و37% يستخدمون  Instagram، و69% يستخدمون  Facebook. ويبذل حوالي 60% من مستخدمي Facebook جهداً للخضوع لعملية إزالة السموم من وسائل التواصل الاجتماعي.

من الناحية العملية، يحتاج الجميع تقريباً إلى القيام بالتخلص من السموم الرقمية. بعض الناس أكثر من غيرهم بالطبع. ليس من الممكن ألا ندرك في لحظة معينة أن استهلاك الفرد الرقمي يمثل مشكلة. تشعر بالتعب، أو الشبع، أو الملل العميق، والذي غالباً ما يبدو وكأنه محفز، الزناد الذي يجب عليك إيقافه. حتى أن المتخصصين يصفون مرضاً يسمى نوموفوبيا (الخوف من البقاء بدون هاتفك). ومن الناحية النظرية، هناك اختبارات لمعرفة ما إذا كنت مدمناً أم لا.

الهاتف ليس له قيمة تشخيصية، لكنه يسمح لك بوضع نفسك على مقياس الاستهلاك الرقمي. على سبيل المثال، هناك واحد تم تطويره بواسطة العالم الأمريكي "ديفيد جرينفيلد" David Greenfield مؤسس مركز إدمان الإنترنت والتكنولوجيا. هذه سلسلة من 12 سؤالًا يجب الإجابة عليها بنعم أو لا. كل نعم تقابل نقطة واحدة. يقدر أنه من 4 نقاط أو أكثر من المحتمل أن يكون لدى الشخص نمط استخدام إشكالي أو قهري. ومن بين الأسئلة:

ـ هل تنام بانتظام وهاتفك الذكي تحت وسادتك أو بجوار سريرك؟

ـ هل تجد نفسك تتحقق من الرسائل النصية والتغريدات ورسائل البريد الإلكتروني وترد عليها طوال ساعات اليوم، حتى لو كان ذلك يعني مقاطعة الأشياء الأخرى التي تفعلها؟

ـ هل تشعر بعدم الارتياح عندما تترك هاتفك أو أي جهاز رقمي آخر عن طريق الخطأ في السيارة أو في المنزل، أو عندما لا تكون لديك شبكة أو يكون معطلاً؟

ـ هل يظل هاتفك الذكي جزءًا من إعداد الطاولة عندما تأكل؟

ـ هل تجد نفسك تقضي وقتاً بانتظام في التحديق في هاتفك الذكي أو جهازك اللوحي أو جهاز الحاسوب، على الرغم من أنه قد تكون هناك أشياء أفضل أو أكثر إنتاجية يمكنك القيام بها؟

إنه الوقت المناسب

التخلص من السموم الرقمية بدون سحب القابس بالكامل هي الطريقة الأمثل. بالنسبة لمعظم الناس، لن يتوقفوا عن استخدام التكنولوجيا. ولكن يبدو أن التخفيض هو النهج الأكثر واقعية.

حدد وقتاً في اليوم للابتعاد عن الشاشات.  خذ فترات راحة دورية من التكنولوجيا. خفض مستوى هاتفك واستبدل الهاتف الذكي بآخر بسيط لا يمكنه دعم التطبيقات. قم بإيقاف تشغيل هاتفك في وقت محدد، مثلاً حاول إيقاف تشغيل الطاقة قبل العشاء وحتى صباح اليوم التالي. اضبط إعدادات هاتفك للحد من تطبيقات معينة. يمكن لمستخدمي Apple iPhone تعيين حدود باستخدام Screen Time وجدولة وقت التوقف. إنشاء مناطق ممنوع فيها استخدام الهاتف في المنزل، مثل غرف النوم.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

بحسب الدليل الاحفوري، ونظرية التطور، وكل النظريات التي بحثت في الجنس البشري، فان جميع الانواع البشرية الاخرى في جنسنا انقرضت ماعدا نوعنا الانسان المعاصر او العاقل، كيف انقرضت هذه الانواع البشرية مع انها اكثر تطورا من الثديات الأخرى في طائفتنا، بل حتى من اكثر القردة تطورا في فصليتنا. بل ان نوع الهومو نياندرتال كان نوعا يشابه نوعنا الحالي من حيث التطور البايلوجي والمجتمعي ويملك نفس ذكاء اجدادنا، فما هو السبب وراء انقراض هذه الانواع البشرية واندحارها؟

التطور لايفرض ابدا انقراض الانواع السابقة او السلف عند ظهور نوع جديد فقد عاشت مجاميع الهومو هابليس النوع الاول في جنسنا لالاف السنين وعاصرت كثيرا من الانواع الجديدة اللاحقة التي تفرعت منها .وكذلك الانسان المنتصب وهو نوع سلف لنوعنا ولانواع اخرى ظهرت بعده وعاصرها حتى انقرض قبل ٥٠ الف عام فقط!

النياندرتال تعاصر مع الانسان العاقل - مع انهما ليسا سلفا لبعضهما- لعشرات الالف من السنين. فما السبب الحقيقي وراء الانقراضات الجماعية لمجاميع البشر الاوائل من الانواع الاخرى وماسبب صمود نوعنا فقط!!؟؟

يطرح المختصين بهذا الجانب نظريات وفرضيات عديدة هي اقرب للتكهنات او الاراء فقط حسب رأيي الشخصي .اغلب الاراء او النظريات تتعلق باسباب لها علاقة بظروف الطبيعة السيئة واسباب تتعلق بالطعام او التنافس بل بعضها يلقي اللوم على نوعنا في ان يكون وراء انقراض الهومو نياندرتال. لانعرف الحقيقة الكاملة مهما كانت النظريات او الاراء حصيفة وتعتمد اقحام الادلة المعتبرة المادية والعقلية في اسناد وجهة نظرها. قد يكون فعلا توحش البشر هو وراء احداث الانقراض البشري.قد يكون اجدادنا من نوعنا الهومو سابيان (الانسان العاقل) كانوا على قدر كبير من الوحشية والانانية والعنف واعتبروا ربما الانواع الاخرى البشرية اقل بشرية او عاملوها مجرد حيوانات اخرى فقاموا بأبادة المجاميع البشرية التي عاصرتهم والتي شاء سوء حظها ان تتواجد معنا في نفس الجغرافية او المحيط البيئي ربما قام البشر باكل بعضهم البعض كما ياكلون الطرائد الاخرى؟

علما ان هنالك اراءا كثيرة عن وجود اكلي لحوم البشر في التاريخ وهنالك ادلة اكثر عن قتل البشر طقوسيا كنوع من تقديم القرابين للالهة، بل في وقت قريب للتأريخ قد حدث ذلك، فقد وجدت جماجم كثيرة في المدن الفينيقة في قرطاج، جماجم للاطفال اعتقد المختصون انها تعود لاطفال كان يضحى بهم في طقوس قربانية. المصريين ايضا فعلوا ذلك، كانت الهياكل العظمية لحاشية الفرعون المتوفى دليل على دفن هولاء البشر بعد انتحارهم الاختياري مع الفرعون لغرض خدمته في العالم الاخر.ويقال ان السومريين ايضا فعلوا ذلك الدفن الجنائزي القرباني. ان قصة النبي ابراهيم في الديانات الابراهيمية في تقديم اضحية بشرية كقربان للالهة -اي ابنه اسماعيل في الديانة الاسلامية او اسحاق في اليهودية و المسيحية- هو اشارة لوجود القربان البشري الى عهد قريب من الحضارة البشرية.

يورد (كولن ويلسون) في كتابه (التاريخ الاجرامي للجنس البشري) بحوثا قام بها مختصين في التاريخ البشري والحفريات البشرية تروي قصة مروعة عن وجود جماجم بشرية في كهوف ومساكن الانسان المنتصب كانت هذه الجماجم محطمة من خلف واستدل الدارسين ان هذه الجماجم لبشر اخرين تم افتراسهم من قبل الانسان المنتصب وان كسر الجماجم هذه يدل على استخراج الانسان المنتصب للادمغة والتهامها وكذلك وجود كسور في عظام بشرية كدلالة لاستخراج نخاعها الغني بالبروتين والمفضل لدى الانواع البشرية القديمة كطعام. لكن مع ذلك يورد المختصين رايا اخرا ايضا ينفي الوحشية هذه بان كسور الجماجم تلك قد يكون سببها الصخور او الطمر السيء. لكن اذا كانت جميع الكسور من نقطة معينه في الجمجمة فهل تصح هذا الصدفة العجيبة بان تكون الصخور او الطبيعة هي سبب تلك الكسور!!؟

ويورد ايضا كولن ويلسون- في كتابه السالف الذكر- قصصا عن تجارب علمية لحيوانات من القوارض والثديات تعرضت للموت الذاتي لاسباب تتعلق بافرازات الادرينالين بغزارة في الدم بسبب التوتر ادئ الى وفاتها ذاتيا، فيذكر ان هنالك مجاميع من نوعٍ من الفئران لما تتعرض للضغط بسبب انعدام او انحسار المساحات بسبب جمعها للتجربة في اقفاص وباعداد كبيرة لاتناسب وضعها الطبيعي في بيئاتها الطبيعة وبسب هذا الاكتظاظ تقوم هذه الفئران وفق نظريته في فقدان السيطرة وغلبة التوتر عليها بافراز الأدرينالين من الغذة الكظرية بكثرة مما يؤدي إلى موتها جماعيا! وكذلك تفعل الغزلان هذا التدمير الذاتي، وثديات اخرى.

وايضا يورد تجربة عن نوع من الفئران توضع في اقفاص متداخلة تقوم الفئران ذات السيادة العالية-وهو مصطلح يُنظّر له الكاتب في كتابه السالف الذكر - بالسيطرةعلى طرفي الأقفاص على الجانبين والدفاع عن اماكنها مع اناثها اما بقية الفئران منخفضة السيادة فستضطر الى استخدام الاقفاص الوسطية المزدحمة والتي سيكون وضعها سيئا والدفاع عن المساحة فيها شبة مستحيل. لكن ايضا هنالك فئران لديها سيادة عالية اصبحت تعيش في هذه الاقفاص الوسطية بيد انها لاتستطيع فرض قيادتها في هذه المساحة، ولكن لاحقا وحسب التجربة تقوم هذه الفئران بسلوك فضيع حتمه عليها الوضع الجديد حيث قامت آخرا باغتصاب الاناث الاخريات جميعا بل حتى الذكور وظهور المثلية بين فئران هذه المساحات واكثر من ذلك مارست هذه الفئرات العنيفة المسيطرة القتل على الفئران الاخرى الاضعف والتهمتها. يستدل الكاتب من ذلك ان ماحدث لنا نحن البشر بعد انشاء الحضارات والمجتمعات والمدن اننا حُشِرنا ايضا في الاقفاص، والاقفاص هنا هي المدن والمجتمعات، وان عنفنا وشراستنا غير المبررة هي بسبب تلك الاقفاص والحبوسات المدنية.

فهل ياترى قد فُعِلَ بالانواع البشرية المنقرضة مافُعِلَ بالفئران ؟ اي ان سبب انقراضها هو التوتر العالي كالذي حدث للقوارض بسبب ضغط المساحة وبالتالي افراز الادرينالين المبالغ به الذي ادى الى وفيات ذاتية جماعية؟

او حتى ان الانواع البشرية قامت بقتل بعضها والتهام البعض الاخر وفق فرضية السيادة العالية لبعض الانواع وضغط المساحة وفرض الوجود والسيطرة على البيئة المختلطة بالانواع البشرية والمواردالطبيعية، بل حتى اعتبار المجاميع البشرية الاخرى موردا للبروتين!!؟

ان تاريخ البشرية مليء بالعنف والشر منذ البدايات القديمة لجنسنا، لكن في الحقيقة ان العنف الذي مورس بعد بزوغ الحضارات هو التاريخ الاكثر عنفا والاشد وضوحا، بل وان العنف الحديث والمعاصر يفوق ذلك العنف باضعاف الاضعاف .علما ان هذا العنف الذي تلا التاريخ وانشاء الحضارات هو عنفنا نحن المنتمين لنوع الهومو سابيان (الانسان العاقل او المعاصر) فقط، انه عنف اجدادنا وعنفنا نحن الابناء، وهو العنف الاسوء والاكثر شراسة والاكثر احصاءا منذ التأريخ، منذ تدوين ذلك التأريخ والى اليوم.

***

بقلم: محمد اسماعيل السراي

تُعتبر البوذية رابع الديانات الشعبية المعروفة في العالم يدين بها ما يقارب 507 مليون تابع في كل انحاء العالم. عند التجوال في الهند والصين وغيرها من الدول التي تشهد انتشارا للبوذية تتجلى المعابد الانيقة وأضرحة بوذا والأتباع المتدينين (اشبه كثيرا بالأديان الكبرى الاخرى).

لكن البوذية هي ايضا يُشار لها دائما كفلسفة، خاصة من جانب الناس في الغرب. هي تشترك في العديد من تعاليمها مع المدارس الفكرية الشهيرة الاخرى مثل الرواقية. وبوذا ذاته أكّد على الطبيعة الخاصة لأفكاره مفضلا التحقيق الفلسفي على الدوغما الدينية.

كل هذا يثير سؤالا: هل البوذية فلسفة ام دين؟ هذا المقال يستكشف لماذا وكيف تعني البوذية مختلف الاشياء لمختلف الناس، وما اذا كانت حقا صُنفت كشيء واحد بعينه ام لا .

هل البوذية دين ام فلسفة ام الاثنين معا؟

اول ما نشأت البوذية في الهند في القرن السادس قبل الميلاد. انها دين غير ايماني. بمعنى لاتؤمن بوجود خالق كالله، على خلاف الاديان الايمانية كالمسيحية. تاسست البوذية بواسطة سيدهارتا غوتاما(ويُعرف ايضا ببوذا) الذي طبقا للقصة القديمة كان في وقت ما اميرا هنديا. لكن سيدهارتا قرر بالنهاية التخلي عن ثروته واصبح بدلا من ذلك حكيما. هو اتخذ هذا القرار بعد حصوله على وعي واطّلاع بمعاناة الانسان وما تسبّبهُ من ألم للناس. وبالنتيجة سلك سيدهارتا اسلوب حياة زهيدة. هو كرس نفسه لتطوير نظام عقيدة يمكن ان يعلّم الاخرين كيفية تجنب الـ سانسارا وهي كلمة في اللغة الهندية القديمة تصف" دورة الحياة والموت واعادة الميلاد المحكومة بالمعاناة، بدون بداية او نهاية"(Wilson 2010).

ورغم شعبيتها اليوم، كانت البوذية في البدء بطيئة في اكتساب الأتباع. اثناء القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، كانت الهند تباشر فترة من الاصلاحات الدينية الهامة. البوذية تطورت استجابة لفشل الهندوسية المفترض للتعامل الكافي مع الحاجات اليومية للناس. ولكن فقط في القرن الثالث قبل الميلاد اكتسبت الديانة جاذبيتها. الامبراطور الهندي اشوكا العظيم تبنّى البوذية وبالنتيجة انتشرت بسرعة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق اسيا.

بعض التعاليم الأساسية

كما ذكرنا اعلاه، بدأ بوذا بتطوير تعاليمه بعد ادراكه الحجم الحقيقي للمعاناة في العالم. وخصيصا،هو ادرك انه بسبب موت الانسان، فان كل شيء أحبه سوف يموت بالنهاية (بما فيه ذاته). لكن الموت ليس هو المعاناة الوحيدة في حياة الانسان. اعتقد بوذا ان الناس يعانون في الولادة (كل من الأم والرضيع)، وطوال حياتهم نتيجة للرغبات والحسد والخوف وما شابه. هو ايضا اعتقد ان كل شخص تناسخ في السامسارا(دورة الحياة والموت اللامتناهية) وحُكم عليه لإعادة هذا العملية الى الأبد. لذلك فان التعاليم البوذية تهدف الى كسر هذه الحلقة. "الحقائق النبيلة الأربع" توضح اتجاه بوذا بتفصيل اكثر:

1- الحياة معاناة

2- سبب المعاناة هو الاشتهاء او الرغبة الشديدة

3- نهاية المعاناة تأتي مع نهاية الاشتهاء

4- هناك مسار يقود المرء بعيدا عن الاشتهاء والمعاناة

هذه الحقائق تعطي الأساس لكامل هدف البوذية والذي هو لإيجاد مسار بعيد عن الإشتهاء والمعاناة من خلال التنوير.

المظهر "الفلسفي" للبوذية

لاحظنا سلفا ان بعض المظاهر الفلسفية للبوذية بدأت بالظهور. الحقائق النبيلة الاربع أعلاه تبدو مشابهة لتفكير منطقي عادي يستلزم مقدمات وعلاقات بين المقدمات. لكن ربما العناصر الفلسفية الاكثر وضوحا في هذا الدين تأتي من بوذا ذاته. بدلا من ان يتوسل أتباعه ليتّبعوا تعاليمه حرفيا، شجع بوذا الناس على التحقيق فيها. التعاليم البوذية والتي تُعرف بـ Dharma (كلمة هندية قديمة: "حقيقة حول الواقع")، تحتوي على ست خصائص متميزة، احداها هي ايباسيكو. هذه الكلمة استعملها بوذا دائما وتعني حرفيا "تعالوا وانظروا بانفسكم".

شجع بوذا الناس بقوة على الانخراط في التفكير النقدي وطرح خبراتهم الشخصية لإختبار ما يقوله. هذا النوع من الموقف يختلف جدا عن الاديان كالمسيحية والاسلام، حيث الأتباع عموما يتم تشجيعهم لقراءة واستيعاب وقبول الكتب المقدسة بلا سؤال. انه ايضا من المهم ملاحظة ان التعاليم البوذية رفضت تقاليد فلسفية متميزة. عندما بدأ الناس يكتبون دروسهم بعد موت بوذا بقرون، برزت مختلف التفسيرات بين مختلف الجماعات الفلسفية. في البدء، استخدم الناس الذين يناقشون التعاليم البوذية وسائل واساليب لتوضيح وجهة نظرهم. لكن منطقهم كان مدعوما بايمان كامل بان بوذا كان صائبا مهما قال. بالنهاية، بدأ الناس من اديان اسيوية معينة لكنها ذات صلة يحللون التعاليم البوذية وهو ما أجبر البوذيين على التفرع الى مجالات تقليدية للفلسفة (مثل الميتافيزيقا والابيستيمولوجي) لإثبات قيمة البوذية للناس الآخرين الذين لا يعتبرون تعاليم البوذية موثوقة.

المظاهر الدينية للبوذية

بالطبع، هناك الكثير من المظاهر الدينية لهذا الدين ايضا، نحن رأينا سلفا ان بوذا يعتقد في التناسخ مثلا. هو يصف كيف عندما يموت شخص ما، فانه يولد من جديد كشيء آخر. إعادة ولادة الفرد تعتمد على افعاله وكيفية تصرفه في حياته السابقة (كارما). اذا اراد البوذي ان يولد من جديد في عالم من الناس، وهو ما يراه بوذا أحسن شيء لتحقيق التنوير، عندئذ هو يجب ان يستلم كارما جيدة ويتبع التعاليم البوذية. لذا حتى عندما يشجع بوذا على التحقيق النقدي، هو ايضا يعطي حافزا ممتازا لإتباع ما يقوله.

العديد من الديانات العالمية ايضا تقدّم نوعا من المكافأة النهائية لأتباعها لكي يسعون ويهدفون لها طوال حياتهم. بالنسبة للمسيحيين المكافأة هي الوصول الى السماء بعد الموت. اما البوذيون فالمكافأة هي حالة من التنوير تُعرف بالنيرفانا. غير ان النيرفانا ليست مكانا وانما حالة من الذهن المتحرر. النيرفانا تعني ان احدا ما ادرك الحقيقة النهائية حول الحياة. عندما يحقق الفرد هذه الحالة فهو عندئذ يكون قد هرب من دورة المعاناة وإعادة الميلاد الى الأبد، لأنه في ذهنه المتنورستزول جميع أسباب هذه الدورة .

هناك ايضا العديد من الطقوس البوذية والمراسيم التي تشكل جزءا هاما من العبادة عند معظم الناس حول العالم. PuJa هو احتفال يقدم فيه الاتباع الطقوس الى بوذا. هم يقومون بهذا لكي يعبّرون عن تقديرهم لتعاليم بوذا. اثناء مراسم البوجا يمارس الأتباع فعاليات اخرى يتأملون، يصلّون، يرددون، يكررون التعاويذ.

هذه الممارسة التعبدية تُنفّذ لكي يفتح الأتباع انفسهم بعمق لتعاليم بوذا وليرعى تفانيهم الديني. خلافا لبعض الاديان، التي يجب ان تتم فيها الاحتفالات تحت تعليمات من قائد ديني، البوذيون يستطيعون الصلاة والتأمل اما في المعابد او في بيوتهم الخاصة.

لماذا نحتاج لتصنيف البوذية الى دين ام فلسفة؟

كما نرى، البوذية تحتوي على عدة خصائص تطمس الخطوط الفاصلة بين الفلسفة والدين. لكن الحاجة لهذا التصنيف تبرز بشكل واضح في المجتمعات الغربية بالذات دون غيرها.  في الغرب، الفلسفة والدين مفردتان متميزتان جدا. العديد من الفلسفات (والفلاسفة) ضمن التقليد الغربي لا يعتبرون انفسهم افرادا متفانين دينيا. واذا قاموا بذلك، فان الأتباع المعاصرين كانوا قد تمكّنوا بنجاح من عزل المظاهر الفلسفية عن الدينية لمدرسة معينة من الفكر.

العديد من الناس الذين يعتبرون انفسهم ملحدين او لا ادريين يميلون لتجاهل المظاهر الدينية للبوذية . في النهاية، تعاليم البوذية تتناسب بسهولة مع تركيز كامل للذهن والتأمل وحركات اليوغا التي اكتسبت شعبية في الغرب في العقود الأخيرة. احيانا هذه التعاليم يتم اتّباعها بدون فهم مناسب لإصولها، كما نرى الناس ما بعد بوذا يقتبسون من بوذا في الميديا الاجتماعية او يدّعون انهم مهتمون بالبوذية بدون ان يدرسوا أي من مناهجها الاساسية.

الحقيقة هي ان البوذية دين وفلسفة في آن واحد، وكلا المظهرين لتعاليمها يمكن ان يتعايشا جنبا الى جنب في سلام نسبي. الناس المهتمون في الفلسفة البوذية يمكنهم بسهولة دراستها كمدرسة للفكر طالما هم لايحاولون إنكار ان هناك الكثير من العناصر الخارقة للطبيعة محتواة ضمن التعاليم البوذية. الرهبان البوذيون والمعابد والاحتفالات الدينية توجد لسبب. المراسيم والطقوس هي مظهر هام جدا للبوذية لملايين الناس حول العالم. ولكن بنفس المقدار، من الممكن ايضا للملحد اتّباع الكثير من تعاليم بوذا بدون الشعور انه ملزم بتنفيذ أفعال عبادة.  

***

حاتم حميد محسن

* وهم أم افتراض غير مستحيل:

يثير عنوان الورقة إشكالية جدلية أو سجالية ما بين مؤيدي الذكاء الاصطناعي ومعارضيه، حيث يراه مؤيدوه إضافة نوعية، تحسن التربية والتعليم نوعا وكما ونهجا وتقنيا وأداء وممارسة تعليما وتعلما. في حين يراه معارضوه معطلا للتعليم والتربية بخلق الاتكالية عليه في إنجاز المهام التعليمة التعلمية، بما فيها مهمة بناء كفايات ومهارات وقدرات التفكير عند المتعلم، ويذكي فيه سمة الانهزام أمام الآلة فضلا عن إحلاله محل الإنسان في كثير من المواقع، والاستحواذ على مناصب أعماله، ووضعه رهن إشارة البطالة.

ومنه؛ يمكن التساؤل عن حقيقة إشكالية الذكاء الاصطناعي وموت المدرسة، أهي وهم في واقع متغير متقدم ومتطور أم افتراض محتمل غير مستحيل الوقوع في ظل معطيات هشة للمنظومة التربوية والتكوينية؟ وهل يستطيع الذكاء الاصطناعي قتل المؤسسة التعليمية فعلا؟ وإلى أي مدى يمكنه قتلها أو إحياءها؟ وفي حالة صدق موت المدرسة تحت ضربات الذكاء الاصطناعي؛ فما السبل المتاحة للتصدي لهذا التحدي والخطر القادم؟ وكيف يمكن تحويل التحدي إلى فرصة نجاح الفعل التربوي والتعليمي والتكويني؟.. في مقابل أسئلة إحياء الذكاء الاصطناعي المؤسسة التعليمية من قبيل: كيف يطور الذكاء الاصطناعي المدرسة؟ ما الفرص التعلمية التي يمنحها للمتعلم؟ وما الخدمات التي يقدمها للمارس البيداغوجي؟.. أيمكن حقيقة للذكاء الاصطناعي قتل المؤسسة التعليمية؟..

* مشروعية التساؤل:

هذه الأسئلة مشروعة الطرح من حيث المؤشرات التالية:

ـ في ظل الطاقة الكبيرة للذكاء الاصطناعي تعليما وإنجازا وأداء؛ فهو يتسم بسمات عديدة، قد تفوق سمات الإنسان في بعض المناحي، مثل إنجاز مهام وأعمال مكروية غاية في الصغر والدقة، تبلغ في الصغر حد مكونات الخلية ومكونات الذرة ومركبات المواد، وأعمال موضعية مجهرية، وحسابات معقدة دقيقة آنية يتخذ فيها قرارات ذاتية، كما فعل ذلك في توجيه الصواريخ والمركبات ذاتية السياقة إلى أهدافها ونهايات مسيرها.. وغيرها من مشهديات يومية واقعية. فانطلاقا من هذه الإمكانيات والإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي، ومقارنة بمعطى المدرسة المتواضع؛ يجد معارضو هذا الذكاء مؤشرات موت المدرسة بموت خدماتها ومنتجها البشري، الذي سيلقى به خارج الفعل التعليمي التعلمي؛ لالتماسه في أداء مهامه الذكاء الاصطناعي، والتشبع بثقافة الاعتماد عليه، لتسهيله المهام وتسريع النتيجة بأقل جهد وأقصر زمن وأقل تكلفة. ويرون فيما يقع الآن من الاتكال عليه في إنجاز الواجبات التربوية المنزلية أو ما يسمى الدعم الخارجي للفعل التعليمي التعلمي مؤشرا دالا عن البطالة العقلية.

ـ في إطار معطيات وواقعيات المجتمعات المتخلفة ومنظوماتها التربوية والتكوينية الهشة والضعيفة، التي مازالت تبحث عن نفسها وذاتها فعلا عملياتيا ناضجا، مساهما في تنمية المتعلم/ة على مختلف مستويات كينونته، وعلى تنوع حضوره في المشهد المجتمعي. يظهر لمعارضي الذكاء الاصطناعي أنه سيميت المؤسسة التعليمية وهي مازالت لم تتقو، ولم تبلغ الحلم بعد. وذلك خطر على تربية وتعليم وتكوين وتنشئة المتعلم/ة. خاصة في عصر الرقميات ومنتجاتها وتقنياتها وعاداتها التي حطمت العديد من المجالات والقطاعات والقناعات والمسلمات، كالعلاقات الاجتماعية في الأسرة وغيرها، وطرق التفكير، وفعل القراءة، والكتاب الورقي والصحف.. ونشرت فكر القطيع وثقافة التفاهة، فأصبح التافهون يتصدرون المشهد الاجتماعي والثقافي والفكري والسياسي.. وحاصرت الحقيقة ونبذتها، وضيقت نطاق وجود النخبة الفكرية التي تصنع الحضارة والتاريخ بالوعي الإنساني وبالعلم والمعرفة، ووسعت إطار انتشار ثقافة الاستهلاك وثقافة السوق، وضربت منظومة القيم والأخلاق في المجتمعات البشرية، عاكسة المفاهيم والقيم، مخربة للمؤسسات الاجتماعية الأساسية كالأسرة والشارع والمدرسة.. كل ذلك يؤدي إلى التخوف من الذكاء الاصطناعي في هدم المدرسة.

ـ تحت سقف ضعف المنظومة التربوية والتكوينية الحالية التي مازالت لم توضع على السكة المنشودة بعد، التي تلحقها بالمنظومات التربوية والتكوينية الرائدة والجيدة في العالم. فمازالت ذات مردودية داخلية وخارجية ضعيفة؛ على مستوى كفاية التفكير بما يعني من قدرات ومهارات ومعرفة، وعلى مستوى كفاية الوجود بما يعني كينونة ذاتية مستقلة حرة فاعلة متفاعلة مع نفسها وغيرها إيجابيا، تمتلك من السمات الإنسانية ما يعطيها الوجود الحقيقي في المجتمع الإنساني ويميزها عن الآخر، وعلى مستوى كفاية الفعل بما يعني من مهارات وقدرات ومعرفة تطبيقية إجرائية أدائية تتساوق مع كفاية التفكير وتترجمها عمليا في الميدان، ما يصنع التغيير في الفرد والمجتمع معا.

ومازال المتعلم/ة فيها يطلب طريقه نحو امتلاك أبجديات وأساسيات المواد الدراسية، ومازال يتحسس سبيل التحكم في التعلمات الأساسية، وهي معضلة رئيسة وكبيرة في مساره الدراسي، لأن تجاوزها يدخله إلى استكمال دراسته، وإلى التكوين الذاتي، القاعدة الأساسية واللبنة الأولى في صرح توظيف الذكاء الاصطناعي والتعامل معه من منطلق الوعي، وكفاية التحكم والاستثمار عن دراية وبصيرة بالمزايا والإمكانيات التي يتيحها، وبالتحديات التي يطرحها. فمنظومتنا التربوية والتكوينية لم تتجاوز بعد تحدياتها، فهي قائمة تحت ظل الخرائط المتسلسلة وبرامج الإصلاحات المتتالية والمتواصل صبيبها؛ لم يجف نبعها بعد دون أن تعرف الاستقرار والاستكمال. فآخر صيحة في هذا المجال " مدارس الريادة " بسلك التعليم الابتدائي العمومي خلال السنة الدراسية الجديدة الحالية: 2024/2022، والتي تستهدف تصحيح الثغرات والتعثرات والسلبيات والتحديات والإكراهات الأساسية للمتعلم/ة في مادتي القراءة والحساب عبر إجراء وتنفيذ أنشطة الدعم التربوي بالتعليم الابتدائي بتوظيف مقاربة التدريس وفق المستوى المناسب "TaRL ". وهنا؛ أسجل إشارتين:

1 ـ السلبيات والتعثرات والتحديات والإكراهات أمر عاد وجوده وحصوله؛ انطلاقا من كون الفعل التربوي والتكويني والتعليمي فعل إنساني معرض للخطإ والصواب. وهو يأتي بعد الفعل، ويتطلب التدخل تصحيحا ومعالجة لانتفاء أثره وعائده السلبي.

2 ـ قبل الدعم التربوي يكون البناء الجيد والدقيق للفعل التعليمي والتربوي والتكويني، الذي إن ترك بعض التعثرات والثغرات، تكون خفيفة في الكم والنوع، ويصحح على إثرها لكيلا تتكرر وتتراكم. والفعل التعليمي والتربوي والتكويني لا يتحمل الأخطاء الاستراتيجية، لأن عائدها سلبي جدا وقاتل، وطويل الأمد في مفعوله وتصحيحه. لذا؛ قبل التفكير في الدعم التربوي يكون التفكير أولا في هندسة وتخطيط جيد ودقيق للعملية التعليمية التعلمية. وإلا؛ سنبقى ندور في دائرة مفرغة ومميتة.

فالمؤسسة التعليمية التي يعاني متعلمها/تها من التعثرات الدراسية المتعلقة بالتعلمات الأساسية؛ لن تستطيع التعامل مع الذكاء الاصطناعي فهما وتوظيفا واستثمارا. فهي مازالت قاصرة في هذا الشأن، وغير مؤهلة لذلك. وعندما تتأهل لن تلحق بالقطار الذي يكون فاتها بسنوات وعقود وربما قرون. ومدخل بناء فعل تعليمي وتربوي والتكويني صلب وقوي وفعال وناجع يتطلب تقدير الكفاءة وإحلالها مناصب المسؤولية بمنطق المساءلة والمحاسبة معا، والقطع مع فكر وسلوك الزبائنية بالمطلق في هذه المسألة. وتأهيل الإطار التعليمي والتربوي والتكويني علميا ومهنيا تأهيلا جيدا، يراكم الكفاءة والتجربة والخبرة، ويفعلها في الميدان، ويقطع مع التأهيل الموسمي الهش بالمرة. وتوفير شروط ومطالب ومستلزمات الفعل التعليمي والتربوي والتكويني كيفما كان نوعها وكمها وشكلها، فهذا شرط أساس في أي نظام تربوي وتعليمي وتكويني. وكذلك يتطلب مدخل البناء منح الحقوق للإطار التعليمي والتربوي والتكويني وزيادة حتى يستغني عن الاسترزاق خارج المنظومة؛ مقابل استيفاء الواجبات والمحاسبة عليها بصرامة ومسؤولية، والقطع النهائي مع ثقافة غض البصر وتركيم وترصيد الأخطاء المهنية بمصوغات شتى. فلا يصح هذا في الفعل المتعلق ببناء الإنسان والمستقبل. والعمل على تجسير الأسرة بالمؤسسة، وتظفير العلاقة بينهما؛ وكل هذه المتطلبات والشروط وغيرها تفصيلي كثير، تتوقف على الإرادة السياسية القادرة على إحداث التغيير والطفرة النوعية والنقلة المطلوبة لمنظومتنا التربوية والتكوينية.

والمنظومة التربوية والتكوينية التي مازالت تتطلع إلى تفعيل الممارسات الصفية الناجعة في المؤسسة التعليمية، التي أثبتت عائدها الإيجابي على التعلمات عند المتعلم، والتي تحضر في المدرسة المغربية منذ زمن طويل. والتي ترنو إلى تكوين وتأهيل الإطار التعليمي والتربوي والتكويني فيها، وتوفير الموارد والوسائل البيداغوجية اللازمة لها. لا تستطيع حاليا توظيف الذكاء الاصطناعي لغياب التكوين المهني الأساس في الرقميات وتكنولوجيتها ومنتوجاتها خاصة أننا دخلنا إلى الموجة الرابعة منها. وهي عالية المفعول والأثر. والمدرسة التي ستستدعي التدريس بالتخصص ـ بعد زمن طويل جدا تمت المطالبة به ـ وتستهدف الاستفادة القصوى من اهتمامات الإطار التربوي والتعليمي والتكويني وكفاءته. والمنظومة التربوية والتكوينية التي ستوفر في مدارسها الرائدة الظروف المادية كالفضاء الداخلي من أقسام ومرافق صحية، والأمن، والنظافة، والتجهيزات وجودتها وتنوعها وكمها، وستوفر العتاد الديداكتيكي وغيره؛ لن يجديها حالا التعاطي مع الذكاء الاصطناعي كنظام ونسق، وإنما قد يجديها ذلك كأفراد أو مجموعات مستقلة عن النظام والنسق. وبالتالي؛ فالمؤسسة التعليمية المغربية وهي في العقد الثالث من القرن 21 مازالت تبحث عن نفسها وعن سكتها ووجهتها وأدواتها وغاياتها، ومازالت تتخبط في المشاكل وتعيش الأزمة، لن تتساوق مع الذكاء الاصطناعي وجيله الأخير، نتمنى لها أن تجد نفسها وموقعها ودورها المسؤول والمقدر من الكل.

ـ في إطار غياب التكوين الأكاديمي والمهني الأساس في التكنولوجيا والرقميات وعلوم الحاسوب وتقنيات الذكاء الاصطناعي للممارس البيداغوجي وزملائه الأطر الأخرى التربوية والإدارية، وضعفه إن وجد؛ لن تستطيع المؤسسة التعليمية مسايرة موجة الذكاء الاصطناعي كفعل معرفي أولا، ثم كفعل وظيفي ثانيا، وكفعل استثمار ثالثا، ثم كفعل تثقيفي رابعا؛ بما يشبع تربة المجتمع بما فيها تربة المدرسة الفكرية والعقلية بالمواد الأساسية لاستنبات واحتضان شتلة هذا المعطى الجديد المتطور بسرعة، والذي إن لم تكن ملما بلغته ولغة التواصل معه لا يفيدك في شيء سوى الانحصار والانكسار. وبناء عليه يرى معارضو الذكاء الاصطناعي موت المدرسة البطيء، لاعتقادهم بأن الوسيلة مكون من مكونات تحصيل النتائج. فهم يلحون على إدراج حصص رسمية قانونية للتكنولوجيا والرقميات وعلوم الحاسوب وتقنيات الذكاء الاصطناعي في برامج التكوين المهني الأساس لأطر التربية والتكوين، بما يساهم في رفع كفاءة الممارس البيداغوجي بالأساس في توظيف الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية التعلمية، وتعليم وتدريس المتعلم/ة مداخل هذا الذكاء، وكيفية استخدامه في التعلم، وإنجاز المهام البحثية والتدريبية والإنتاجية، وكيفية الاستفادة منه في امتلاك الكفايات المتنوعة التي يتطلبها البناء الشخصي للمتعلم على اختلاف أشكالها ودرجات أهميتها.

فبمجرد ما يحتك المتعلم/ة مع هذا الذكاء؛ يتبادر إلى ذهنه نسق من علامات الاستفهام تستدعي البحث للإجابة عنها؛ يمكن اختزالها بسؤال عام مركزي جوهري يفيد: كيف يعمل الذكاء الاصطناعي؟ وهو السؤال نفسه الذي طرحته عليه، فأجاب بالتالي:

(الذكاء الاصطناعي (AI) هو مجال من علوم الكمبيوتر يهدف إلى إنشاء أنظمة كمبيوتر قادرة على أداء المهام التي تتطلب عادة الذكاء البشري. هناك العديد من الأساليب والتقنيات لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، ولكن فيما يلي نظرة عامة على المفاهيم والأساليب الرئيسية وراء كيفية عملها:

1. التعلم الآلي: أحد الأساليب الأكثر شيوعًا في الذكاء الاصطناعي هو استخدام خوارزميات التعلم الآلي. تسمح هذه الخوارزميات لأجهزة الكمبيوتر بالتعلم من البيانات واتخاذ القرارات بناءً على تلك البيانات. تشمل تقنيات التعلم الآلي الرئيسية الشبكات العصبية وأشجار القرار وآلات ناقل الدعم وما إلى ذلك.

2. البيانات: البيانات ضرورية للتعلم الآلي. يتم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على كميات كبيرة من البيانات، سواء كانت نصية أو صور أو مقاطع فيديو أو أنواع أخرى من المعلومات. كلما كانت البيانات أكثر تنوعًا وجودة، كان أداء النموذج أفضل.

3. التدريب: خلال مرحلة التدريب، يتعرض نموذج الذكاء الاصطناعي للبيانات ويضبط معلماته الداخلية لإجراء تنبؤات أو قرارات. الهدف هو تحسين هذه المعلمات لتقليل الأخطاء أو زيادة أداء النموذج إلى الحد الأقصى.

4. الاستدلال: بمجرد تدريب النموذج، يمكن استخدامه للتنبؤ أو اتخاذ قرارات بشأن البيانات الجديدة باستخدام ما تعلمه أثناء التدريب. وهذا ما يسمى الاستدلال.

5. الشبكات العصبية: الشبكات العصبية الاصطناعية هي نماذج للتعلم العميق مستوحاة من عمل الدماغ البشري. وهي جيدة بشكل خاص في معالجة البيانات المعقدة، مثل الصور والنصوص.

6. معالجة اللغات الطبيعية (NLP): البرمجة اللغوية العصبية هي فرع من فروع الذكاء الاصطناعي الذي يركز على فهم وتوليد اللغة البشرية. لقد أحدثت نماذج البرمجة اللغوية العصبية، مثل المحولات، ثورة في الطريقة التي تعالج بها أجهزة الكمبيوتر النص والكلام.

7. رؤية الكمبيوتر: يركز نظام الذكاء الاصطناعي هذا على فهم وتفسير الصور والفيديو. تشمل التطبيقات التعرف على الكائنات، واكتشاف الوجه، وتجزئة الصور، وما إلى ذلك.

8. التعزيز: التعلم المعزز هو أسلوب يتعلم فيه الوكيل اتخاذ إجراءات في بيئة لتحقيق أقصى قدر من المكافأة. يُستخدم هذا بشكل شائع في ألعاب الفيديو والروبوتات وأنظمة التوصية.

9. التعلم الخاضع للإشراف وغير الخاضع للإشراف والتعزيز: هذه هي الفئات الرئيسية للتعلم الآلي. يتضمن التعلم الخاضع للإشراف استخدام البيانات المصنفة لتدريب النموذج، بينما يهدف التعلم غير الخاضع للإشراف إلى اكتشاف الأنماط في البيانات بدون تسميات. يركز التعلم المعزز على اتخاذ قرارات متسلسلة في البيئة.

باختصار، يعمل الذكاء الاصطناعي باستخدام تقنيات التعلم الآلي لتحليل البيانات وتعلم الأنماط من تلك البيانات واستخدام تلك الأنماط لأداء مهام محددة. الذكاء الاصطناعي هو مجال دائم التطور، مع العديد من التطبيقات المحتملة في مختلف المجالات، من الطب إلى التمويل إلى السيارات وغيرها الكثير)1.

مما يبين مدى إمكانية الاستفادة منه في كثير من المواضيع؛ فهذا الجواب يدخل المتعلم إلى عالم البحث الإشرافي أو عالم البحث الذاتي، بما يمكنه من المعرفة بجانب كفايات متنوعة، تساعده على بناء شخصية مستقلة وحرة، ذات توجهات ورؤى وآراء ذاتية، قد تتقاطع مع الآخرين أو تنفصل عنهم في إطار القبول بالاختلاف والتكامل لا الانصهار والاندماج والذوبان والتبعية. فالذكاء الاصطناعي إذن يمنح المتعلم الكثير من فرص التعلم والتكوين.

ـ في ظل عقلية عربية وإسلامية مأزومة بواقع مأزوم بئيس هو الآخر، لا تستثني بلدنا منها؛ تبحث من صباحها إلى مساءها عن المعيش اليومي للبقاء على قيد الحياة وضمان استمرار النسل المأزوم، أو البحث عن الترف والبذخ والرفاهية في بؤس الوجود العربي والإسلامي. لا يمكنها حسب معارضي الذكاء الاصطناعي أن تستنبت في بيئتها وعقليتها ومدرستها مداخله، معرفة وإنتاجا وأداء واستثمارا. فالهم الأكبر لهذه العقلية الحزينة المحزنة، المسكينة الساكنة المسكونة بهاجس المعيش اليومي الذي ما عاد حقا مكتسبا وإنما حاجة ممنوحة، وبهم الترف ووهم البرجوازية، هو كيف تحافظ على وضعها الحياتي بكل أطياف ألوانه ودرجاتها ونوعياتها وطبقاتها، كثافة وكما. والتي تبقيها في هذا الهاجس للاستغلال والاستعباد العقلية المأزومة السياسية والتدبيرية مآزرة بالعقليات الأخرى " الإيديولوجية، الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية، التربوية، التراثية، العقائدية، الشعبوية.. " ذات البعد الواحد نحو الذات ومصلحتها الخاصة، والطوفان كفيل بالباقي أو ما تبقيه هذه الذات المتعالية الأنانية النرجسية، القيصرية الكسروية، القارونية الفرعونية، من شبه إنسان في بلد غارق في لجة الجهل المركب. لا يمكن لهذه العقلية ـ دائما حسب معارضي هذا الذكاء ـ أن تربط مع الذكاء الاصطناعي روابط التنمية البشرية والحجرية، ولا يمكنها التعامل معه، لأنها عاجزة بفكرها ومنطق تكوينها التربوي والتعليمي والتراثي والتقليدي عن فهم أساسياته ومقدماته، بله توطينه في المنظومة التربوية والتكوينية. وهي مازالت لم تستقر بعد من تدفق مسلسل الإصلاحات وتوارد الأفكار والفتاوي والرؤى.

هذه العقلية المأزومة ترى الذكاء الاصطناعي وافدا جديدا غير مرغوب فيه، لأنه سيعري عنها ما يدثره ادعاء التفكير والذكاء البشري، وعن اشتغاله في المنظومة التربوية والتكوينية تأسيسا وتوظيفا من خلال تعليم وبناء مهارات وقدرات وكفايات التفكير عند المتعلم/ة بكل أنواعه وأنماطه. فهو يسائلها عما رشحته عند المتعلم من تفكير منطقي وآخر نقدي وثالث إبداعي ورابع علمي.. وكيف يوظفها في مقاربة تعلماته وموارده، وفي إنتاجه المعرفي والعملي، وفي تواصله وعلاقاته بنفسه وبالآخرين، وفي حل مشكلاته ومشاكله ويعالجها. وكيف يحلل المعطيات والواردات إليه من كل جهة، ويتخذ القرارات المناسبة التي تحل المشاكل والقضايا، وتدفع بالتطور إلى الأمام. فهذه المساءلة من خلال إطار الذكاء الاصطناعي هي التي يهابها ويخافها العقل التربوي والتكويني المأزوم، الذي يستكبر عن خوض معركة التكوين وإعادة التكوين من جديد في مستجدات العلوم وحقولها المعرفية والاعتراف بضعفه وفقره المهني والأكاديمي. فهو عقل اكتسب امتيازات من وضعيته الحالية ولا يريد التخلي عنها أو عن بعضها لمن سيخلقه ويبدعه الذكاء الاصطناعي من أجيال متعلمة متميزة، تسائل واقعها وتحاسب صانعيه وتعالج مسبباته. أجيال ستغير الواقع الذي ورثته من الآباء والأجداد، خاصة منهم ساسة الارتزاق على حساب معاناة وعذابات الآخرين، وسرقات الأموال العامة بمسوغات خدمة الصالح العام.

انطلاقا من هذه الحيثية ورديفاتها السابقة، يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي مسوغا لتبنيه واحتضانه في المؤسسة التعليمية، والعمل عليه وبه تعليما وتعلما، ما ينتشل وضعية المنظومة التربوية والتكوينية من أزماتها، ويطور الفعل المدرسي على عدة مستويات منها:

1 ـ المناهج الدراسية: حيث نجد المناهج الدراسية الحالية تبني الهندسة التعليمية على نظريات تربوية ونفسية واجتماعية وديداكتيكية ومعرفية ترتكز على المتعلم/ة المتوسط، غالب الحضور في حجرات الدرس، دون استحضار الفروق الفردية والسمات الخاصة والشخصية لكل متعلم/ة على حدة إلا في نطاق الدعم التربوي. فهي تتعاطى مع المتعلم/ة المطلق كأنه المعيار والمقياس للتعليم والتعلم؛ وتبقيه في المركز. ما ينتج تباعدات في النتائج يمينا ويسارا، بالمعنى إحصائي؛ العمل بالمتوسط الحسابي يستجلب البعد عنه البسيط بالموجب والسالب. والذكاء الاصطناعي يكسر هذه القاعدة من حيث يمكنه إحداث تكيف في المناهج الدراسية متنا ومنهجا وأداء وفق حاجات واحتياجات المتعلم/ة، وسيرورة الأداء عنده نوعا وكما. ما يغطي تلك الفروق الفردية؛ ويذهب به إلى التقارب في المستوى التحصيلي والأدائي تحت سقف سد فجوات التعليم والتعلم معا. وضمن هذا الإطار يعمل الذكاء الاصطناعي على تسهيل وتسريع ولوج المتعلم/ة إلى الموارد التعليمية بتقنياته المتعددة والمتنوعة؛ فيوسع بذلك دائرة المعرفة عنده فضلا عن إكسابه الكفايات والمهارات والقدرات في أبعاد شخصيته المعروفة، والمهارات التكنولوجية والتقنية. ويعزز في نفس الوقت التعلم الذاتي المستقل والحر، الذي يرسب لديه كفاية البحث والتعلم والثقة بالنفسة، ويورثه الحافزية والمغامرة التعلمية وجرأة اقتحام المجهول.

وفي هذا النطاق يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعمل على أتمتة المهام التربوية والإدارية للمدبر التربوي والإداري، موفرا له الوقت لإجراء مهام أخرى وممارسة الفعل التدريسي بأريحية معرفية وزمنية وإجرائية وبفعالية وجودة؛ فمثلا: منظومة التدبير المدرسي "مسار" تشتغل على عدة مهام تربوية وإدارية، وتسمح بتتبع مسار المتعلم/ة التعليمي. وبذلك تخفف الكثير عن المدبر التربوي والإداري عبء ملء الأوراق والبيانات والجداول. وهو الذكاء الاصطناعي يمكنه تصحيح الاختبارات والواجبات المنزلية وتجميع النقط والترتيب والتصنيف.. ما يمنح للمتعلم/ة والممارس البيداغوجي المزيد من الوقت لتخصيصه للدراسة والتدريس والبحث والإعداد القبلي والتفاعل الصفي، والتواصل الخارجي بين المدرس ومتعلماته ومتعلميه، وبين أفراد جماعة القسم أو مجموعاتها. وقد بدأت الأنظمة الرائدة في العالم تستند عليه في أتمتة مجالات اشتغالها وخدماتها.

2 ـ الممارسة الصفية: ويمكنها أن تعتمد على الذكاء الاصطناعي في التدريس بتوفير الموارد المتنوعة للحقول المعرفية المدرسة، وتوفير فرص تطبيق الكفايات والمهارات والقدرات المكتسبة إما افتراضيا أو ضمن مشاريع فردية عملانية أو ضمن سياقات تفاعلية داخل الحجرة الدراسية. فهو يطلع الممارس البيداغوجي على مجموعة من التجارب والخبرات الناجحة في ميدان التدريس ويتيح فرصة التقاسم والاقتداء والتنفيذ باستحضار مناطق التقاطع والاختلاف، وإدخال التعديلات والتطورات عليها. وهنا يستحضر الذكاء الاصطناعي معرفة التجربة بشكل واسع وكبير لتضمنه عددا هائلا منها، يمنحه روح الحياة في العالم بأكمله. فهو كفيل بتغيير الطريقة والأسلوب الذي يدرس به الممارسون البيداغوجيون، وبتغيير كذلك طرائق وأساليب تعلم المتعلمات والمتعلمين، إلى مزيد إلى الاحتكاك مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، بما يساعدهم على اكتساب الجديد من استراتيجيات التفكير وأنواعه.

فالممارسة الصفية يمكنها عرض معطياتها على الذكاء الاصطناعي لتحليلها واقتراح الحلول لمشاكلها وسبل استثمار إيجابياتها، بل يذهب أبعد من ذلك؛ إلى اتخاذ قرارات في شأن موضوعها وطرق أدائها وإجرائها. فهو يستطيع أن يخطط للعملية التعليمية التعلمية ويميز أنشطتها ويتعرف على أصنافها، ويناسبها مع معلومات المتعلم/ة ويحل المشكلات العملية والتطبيقية الطارئة، ويخلق وضعيات تعليمية افتراضية أو شبه افتراضية للمتعلم/ة. فيها يتعلم كيف يقوم بالتجارب أو يحل وضعيات ديداكتيكية مشكلة أو بنائية أو تقويمية؛ وبالتالي، فإن الذكاء الاصطناعي فضلا عن قيامه بالعمليات الحسابية والبرمجية، يستطيع إتمام مهام متنوعة ومختلفة بشكل مرن مثالا حيا يقدمه للمتعلم/ة ويمرنه على ذلك ويدربه على فعله. إذ يمكنه أن يبين للمتعلم/ة تعديل وتكيف المعطيات مع الخبرة والتجربة والمهمة المطلوبة لإنتاج حاصل تعليمي مبتكر ومبدع. كما يمكن للممارسة الصفية في إطار الذكاء الاصطناعي أن تستخدم روبوتات Robots المحادثة التي تفهم مشكلات المتعلم/ة بشكل أسرع، وتقدم إجابات أكثر كفاءة من خلال معالجة اللغة الطبيعية التي يستعملها، ويمكن استخدام برامج التعلم الآلي كذلك.. وإلى غير ذلك؛ حيث يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي في إطار الممارسة الصفية أن تساعد الممارس البيداغوجي كهيئة تدريس افتراضية، تقدم له المساعدة في تدريس المتعلم/ة داخل حجرة الدراسة أو خارجها. ما يضفي على الممارسة الصفية التفاعل والتفاعلية والحافزية.

3 ـ مستوى علاقة الذكاء الاصطناعي بالتعليم: والتي تتضمن ثلاث مجالات: فأولا؛ التعلم والدراسة عن الذكاء الاصطناعي. وثانيا؛ الاشتغال على التحضير للذكاء الاصطناعي، وتفريج التربة المدرسية لاستنباته؛ بمعنى تمكين جميع المتعلمات والمتعلمين والمجتمع برمته من فهم تأثيره على الحياة، والتي لا تنفك تغادر الذكاء الاصطناعي إلا إليه، في الأسرة، في المدرسة، في المعمل، في الشارع.. وثالثا؛ التعليم والتعلم بتوظيف الذكاء الاصطناعي المتضمن الأدوات التي تعمل به في الحجرات الدراسية والمؤسسات التعليمية بصفة عامة، حيث يساهم حاليا وبشكل إيجابي في سد الاحتياجات، ومواجهة أوجه القصور في التعليم عبر تخصيص وتفريد التجربة التعليمية، وتبسيط وتسهيل المساطر والقوانين والمهام الإدارية والتربوية، وتعزيز ممارسات الكفاءة والفاعلية وتركيمها وترصيدها. ما يسمح للمتعلم/ة بتعلم ودراسة أوسع وأجدى وأنفع وأنجح، وللمدرسين بإتاحة فرص أوقات أوسع للقيام بمهام معرفية تعجز عنها الآلات والتقنية ومتفرغة لها، فلا يمكن للآلات والتقنية أن تحل محل الإطار التربوي والإداري بالمطلق، فهي مهما كانت ذكية لن تكون كالإنسان.

وفي نطاقه؛ يمكن للذكاء الاصطناعي كشف مناطق الغش السرقة الأدبية والاحتيال الأكاديمي من قبيل ما يجري في بحوث الشهادات الجامعية والمهنية، ومن قبل ما جرى في الاستحواذ على جهود الآخرين في التأليف الأدبي دون ذكر المصادر والمراجع من خلال التناص ولصها. وكذلك كشف نسخ الواجبات المنزلية أو الغش في الامتحانات عبر الإنترنت وغره من التقنيات الرقمية. كما يمكنه تشييد مجتمع التعلم الاجتماعي والتعاوني المدرسي، وتغيير موروثنا الثقافي ونظرتنا السلبية للتعاون المدرسي والاشتغال بالفريق ومجموعات القسم في الدراسة والتعلم والتعليم. فذلك يسهل الشراكة والتعاون بين المتعلمات والمتعلمين وأفراد جماعة القسم الواحد، وخارجه، بما ينشئ روابط اجتماعية وأكاديمية بينهم في الاهتمامات والمهارات المماثلة والمترادفة والمتكاملة؛ مما تؤدي هذه الروابط إلى خلق ثقافة البحث الجماعي والتعاون والشراكة في صنع المستقبل بثقافة "نحن" كما في اليابان، لا بثقافة " أنا" كما في وطننا العربي بما فيه المغرب. وتحت سقف هذه الروابط يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بالاتجاهات التعليمية والتربوية والتوجهات البيداغوجية، فضلا عن التوقعات المستقبلية عبر تحليل معطيات هذه العلاقات والروابط واهتمامات الجماعات والمجموعات، وبخلق تكيف سياسي تعليمي وبيداغوجي معها، ومع متطلباتها وشروطها، وتسييل استيعابها في المجتمع المدرسي. ويبقى   تبني الذكاء الاصطناعي في المنظومة التربوية والتكوينية محط إدارة معقلنة وموضوعية ومتفهمة وفطنة ومسؤولة، ترعى خصوصية المتعلم/ة وضمان معطياتها ومعلوماتها وبياناتها، وتكريس البعد الإنساني للفعل التعليمي دون الهروب به إلى متاهات الأتمتة الصرفة والآلية الجامدة، التي ليس لها المشاعر والقيم الإنسانية، والحفاظ على موقع الممارس البيداغوجي في العملية التعليمية التعلمية دون موقعته هامشها وتجريده من لعب أدواره المختلفة في الأداء المدرسي، من منطلق الذكاء الاصطناعي عامل مساعد لا عامل حال محل.

* احتمالية الكارثة:

مما سبق، ومن غيره من المعطيات والحقائق والوقائع التي تحفل بها الحياة التربوية والتكونية يوميا، وما يستجد عليها من محدثات ومستقبليات، وما يرد عليها من تقنيات وفنيات تحجم دورها في بعض المناطق العملية، وتطورها في أخرى؛ يمكن طرح وبكل جدية احتمالية موت المدرسة بسكين أو برصاصة رحمة الذكاء الاصطناعي. هذا الوافد الوحش الذي لا يمكن التعاطي معه إلا بالذكاء والدهاء والفطنة، وبقراءة طبيعته ودلالاتها السيميولوجية والحقيقية معا وفي نفس الآن. وإلا سيحاصرنا في وجودنا ودورنا؛ فكم من معمل أو مشغل سرح عماله بمختلف وظائفهم، ولم يبق إلا على نخبة النخبة، من لهم ذكاء وكفاءة تفوق جودة ذكائه وكفاءته. فهو حاليا يقتل الكتاب الورقي الذي انحصرت ثقافته مع فئة مثقفة معينة، خاصة في عالمنا العربي والإسلامي، الذي مازال يحارب من أجل قوته، والذي يزاحمه فيه الذكاء الاصطناعي. فويل لأمة تقتل عقل شعبها الجمعي ولا تحييه بالتربية والتكوين والتعليم والدراية والبحث الحقيقي، وتملأ دماغه الجمعي بالخزعبلات والخرافات والأساطير والميثولوجيا القاتلة للتفكير. فويل لأمة لا تستعمل عقلها الجمعي في قراءة واقعها بموضوعية ومسؤولية وأخلاقية. فهي إلى زوال واندثار واندحار، إن لم تكن ذاهبة إلى الانتحار أو الاستعمار. فالفارق بين مجتمع ومجتمع، يكمن فقط في درجة ونوع وكم المعرفة والتفكير، وقبله التكوين والتشكيل العقلي والفكري. فالفارق في المستقبل هو فارق الذكاء بين مجتمع ومجتمع آخر.

ففي ظل ما سبق؛ نجد أسباب إحياء المؤسسة التعليمية وأسباب إماتتها في نفس الآن، ولنا الاختيار بينهما بكل حرية ومسؤولية.. ومنه يبثق السؤال الحتمي علي وعليك وعلى السياسي والمثقف والعامل والأب والأم والدولة.. على المجتمع برمته؛ مؤسسات رسمية وغير رسمية وأفراد وجماعات وطبقات اجتماعية: ماذا نختار ونقرر؟.. إذن: فما قرارك واختيارك؟ فلك حرية الاختيار إما إلى الحياة أو إلى الفناء..

*للسؤال جواب وللورقة تتمة:

هذه الورقة مفتوحة على جوابك من أي موقع كنتَ أو كنتِ، فعليك إتمام فصولها.. فاكتب من فضلك للتاريخ والتاريخ؛ فإننا في عالمنا العربي في مفترق الطرق.

***

عبد العزيز قريش

...........

(GPT-3.5) ، نص مترجم آليا عن جواب سؤال: Comment fonctionne l'intelligence artificielle ?

في السنوات الأخيرة أصبح رقص العروسة ليلة زفافها شيء طبيعي، أمام جمهور المدعوين إلى حفلة الزفاف، دون حياء كما كان معتادا من قبل وأصبحت عادة منتشرة.

يقول المفكر والفيلسوف المصري والمثير للجدل في الأوساط الثقافية، والتاريخية، والدينية عن هذه الظاهرة...

(العروس) تعكس بهز أردافها علانية وسط الجمع، التردي الذي لحق بمفهوم الأنوثة.

ليس من قبيل الصدفة، أن فجر الحضارات الإنسانية على اختلاف، أماكنها، شهد اشتراكا بين البشر في عبادة آلهة مؤنثة وارتباط بين النساء والقداسة والكهانة. فكانت "الربة هي المعبودة في مصر القديمة" باسم إيزيس، وفي العراق القديم باسم "عشتار وإنانا"، وفي سهول الشام والأناضول باسم "الأم العظيمة"، وفي اليونان باسم "أرتميس" وأثينا.

وفي هذه الفترة المبكرة \"التأسيسية\" للحضارة، كانت النساء صورة أرضية للمعبودة العلوية، والفارق بين المرأة والربة الإلهة هو أن الأولى تحتاج رجلا كي تنجب، أما الإلهة فيمكنها ذلك من دون التماس مع الذكر على النحو الذي رأيناه في قصة إنجاب إيزيس (است) لحورس (حور) بعد موت زوجها أوزيريس (أوزير) وفقدان عضوه الذكرى.

وفي إنجاب الإلهة السومرية القديمة ننخر ساجيا \"لابسو ونمو (الماء العذب والماء المالح وتعامت (الأرض) حسبما ورد في الإنوما إيليش أسطورة الخلق السومرية البابلية... وكلمة أسطورة لا تعنى الأوهام والخرافات وإنما المسطور المكتوب.

وأدت هذه التصورات الأولى، إلى النظر نحو المرأة بشيء من التبجيل الذي ظهر أثره فيما لا له من أمثلة، أشهرها ليلة زفاف الرجل.. حصر الزوج إلى المرأة، حيث ترتدى العروس الثوب الأبيض وتضع على رأسها التاج وتجلس بوقار مقدس باعتبارها في تلك الليلة، هي الصورة الأقرب للمعبودة العليا...،

ولهذا فإنه من الخزي الجهول المعاصر، أن العرائس اليوم في بلادنا صرن يرقصن بأردافهن أمام الحاضرين في حفل الزفاف، بعد ألوف السنين من جلسة الوقار المرتبطة بمفهوم الأنوثة المقدسة الواهبة المؤلهة...،

فإذا بالأنثى العروس) في أيامنا الحالية تعكس بهز أردافها علانية وسط الجمع، التردي الذي لحق بمفهوم الأنوثة. إذ صارت قرينة الإثارة الغريزية فقط، فإذا بالعروس تعبر عن فرحها بالرقص، جهلا منها وعمى عن رؤية طبيعتها البهية ليلة العرس...،،

ويستعرض الدكتور /زيدان في رؤيتة التاريخية ..عن

"الأنوثة الواهبة"

حيث يقول:

ظهر مفهوم "الأنوثة الواهبة" وتشكل فى أذهان البشر منذ زمن مبكر، وانعكس في رسوم الكهوف، ويعود تاريخ هذه الرسوم إلى خمسين ألف سنة، وقد استمرت هذه الرسومات الأولى قرابة عشرة آلاف سنة، وهي الفترة التي سكن فيها الإنسان الكهوف قبل تجواله فى مواضع الخضرة والكلأ للرعى وقبل استقراره على ضفاف الأنهار للزراعة....،

حيث رسم إنسان الكهوف صور الحيوانات التي كان يسعى لاصطيادها، ورسم ايضا صورًا متقاربة الشكل، على الرغم من تباعد أماكنها، لامرأة بدينة عظيمة الصدر والأرداف. وهو ما يعكس رؤيته للأنوثة، ليس بوصفها موضعا لإطفاء شهوته الجسدية، وإنما باعتبارها الفياضة بحليب الرضاعة، والواهبة للأطفال. وقال :-

لن نجد في رسوم الكهوف صورًا لامرأة" لعوب" يتناوب عليها الرجال، ولا صورًا تمثل العملية الجنسية. بل لا نجد في رسوم الكهوف المبكرة أصلا، صورًا للرجال ."

وبعد صورة الأنثى الواهبة المرسومة على جدران الكهوف المتباعدة جغرافيا، بالمواصفات ذاتها، ظهرت فى أزمنة الاستقرار الأولى تماثيل بدائية الصنع لامرأة بالغة البدانة، ولم تصلنا من هذه الفترة المبكرة تماثيل للرجال. فما السر في ذلك...؟

حين تعقل الإنسان الأول ما حوله، وحين اجتمع البشر وتعاونوا على الصيد وعلى الزراعة، أدرك الرجل أن المرأة كائن فيه" سحرية وغموض." فهى تريحه من شدة الاشتهاء والإلحاح الحسي، كمكافأة، وتتولى بالفطرة تربية الأطفال، ويتبدل شكل الجسم مع الحبل فيتخذ هيئة الدائرة أكمل الأشكال الهندسية ومع الإرضاع. ثم يعود سيرته الأولى، فيسيل من باطنه كل شهر السائل المقدس الذى هو سر الحياة "الدم"

لماذا تجنب يوسف زيدان طرح الموضوع من الناحية الدينية.. رغم انة من أسرة صوفية...؟!

وهنأ أطرح سؤالا على الدكتور يوسف زيدان

من وجهة نظر هيجل...؟؟

هل يتفق الدكتور يوسف مع رؤية هيجل...؟

يعد الدين في نظر هيجل جانبا أساسيا من الثقافة الإنسانية وعاملا حاسما في تطور المجتمعات والدول الإنسانية...!! ويرى أن الدين ليس مجرد شأن خاص للفرد، بل هو ظاهرة عامة واجتماعية تلعب دورا هاما في حياة المجتمع والدولة...، الدين، بالنسبة لهيجل، هو شكل من أشكال الوعي يكتسب الناس من خلاله فهم للروح المطلقة أو الإلهية...،

ومن المعروف ترتبط فلسفة هيجل الدينية ارتباطا وثيقا بفلسفته في التاريخ. كان يعتقد أن تقدم التاريخ البشري هو مظهر من مظاهر مشيئة الله وانكشاف الروح المطلق في العالم، وينظر إلى الدين، في هذا السياق، على أنه مرحلة محددة في تطور الروح المطلق. ومن خلال الدين تصبح الروح واعية بذاتها. لكن هذا الوعي يتطور مع مرور الوقت...!!

هل أصبح رقص العروس ليلة زفافها تطور مع مرور الوقت...؟!

***

محمد سعد عبد اللطيف

 كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

طوال رحلتنا عبر الزمن، لاحظنا القانون الثاني للديناميكا الحرارية أثناء عمله. منذ الانفجار الكبير، أثناء تشكل النجوم، وظهور الحياة، وتشتت المجرات ثم تبخر الثقوب السوداء، زادت الإنتروبيا بشكل لا يمكن علاجه. وهذا النمو المستمر يمكن أن يجعلنا ننسى أنه في الواقع إن حكم المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية هو أمر احتمالي فقط. وكما أشرنا من قبل، يمكن للإنتروبيا أن تنخفض محليًا. يمكن لجزيئات الهواء المنتشرة حاليًا في جميع أنحاء غرفة المعيشة الخاصة بك أن تتجمع في كرة معلقة بالقرب من السقف، مما يجعلك تشعر بالاختناق في كرسيك. هذا الحدث ببساطة غير محتمل. إن النطاق الزمني المطلوب للحصول على فرصة لمراقبته ضخم جدًا لدرجة أننا، مع إدراكنا أنه ممكن من الناحية النظرية، فإننا نستمر في عيش حياتنا دون أخذ ذلك في الاعتبار. ومع ذلك، بما أننا الآن نتبنى وجهة نظر طويلة المدى، فنحن بحاجة إلى تجاوز شوفينيتنا الزمنية والنظر في بعض الحالات المذهلة للغاية لاضمحلال الإنتروبيا.

لنتخيل أنك تقرأ هذا النص، وتجلس على أفضل كرسي لديك، بينما تحتسي أحيانًا القليل من الشاي من كوبك المفضل. إذا سألتك كيف وجدت نفسك في هذا الوضع المريح، ستخبرني أنك اشتريت هذا الكوب من أحد الحرفيين المحليين، وأنك ورثت هذا الكرسي من عمتك، وأنك كنت دائمًا مهتمًا بكيفية عمل الآلة. ومن هنا جاء الكتاب الذي كنت تحمله بين يديك لعدة دقائق. إذا ضغطت عليك لتقديم المزيد من التفاصيل، كنت ستخبرني عن طفولتك، وإخوتك، والديك، وما إلى ذلك. إذا أصررت مرارًا وتكرارًا على العودة بالزمن، فربما تعطيني كل ما تحدثنا عنه في الفصول الأولى.

المعرفة هي انعكاس للأفكار والذكريات والأحاسيس الموجودة حاليًا في دماغك. لقد كان شراء الكوب شيئًا من الماضي منذ فترة طويلة؛ ما تبقى هو تكوين معين من الجزيئات التي تتتبعها في دماغك. الأمر نفسه ينطبق على ذكرى تراث عمتك، أو فضولك حول الكون، أو حتى ما تقرأه في هذا الكتاب. من وجهة نظر فيزيائية، كل هذا موجود في رأسك الآن، مدمجًا في الترتيب المحدد للجسيمات. مما يعني - تمسك جيدًا - أنه إذا كان في كون لا يحتوي على بنية إنتروبيا قريبة من الحد الأقصى، فإن سربًا عشوائيًا من الجسيمات تطفو عبر الفراغ سينتهي تلقائيًا في تكوين إنتروبيا منخفضة جدًا والذي، بالصدفة، يتوافق تمامًا مع ذلك مع الجزيئات التي تشكل دماغك حاليًا، فإن هذه المجموعة من الجزيئات سيكون لها نفس الذكريات ونفس الأفكار ونفس الأحاسيس التي لديك في هذه اللحظة. لا أعرف إذا كان ذلك تكريمًا لبولتزمان أم توبيخًا له، لكن هذه العقول الافتراضية الحرة التي تشكلت من الالتحام العشوائي النادر ولكن المحتمل للجسيمات تحمل الآن اسمه: إنها أدمغة بولتزمان.

وحيدًا في ظلام الفضاء الجليدي، هناك عقل بلا جسد إنه عقل بولتزمان. لن تتاح لبولتزمان فرصة تكوين العديد من الأفكار قبل وفاته. ومع ذلك، إذا كنا نأمل في مثل هذا الالتقاء التلقائي بين الجسيمات، فلا شيء يمنعنا من إضافة بعض الملحقات: مأوى الرأس والجسد، واحتياطي الطعام والماء، ونجم وكوكب مناسب، على سبيل المثال. في الواقع، يمكن أن يؤدي الالتحام التلقائي للجسيمات (والمجالات) إلى ظهور كوننا الحالي بأكمله، أو على الأقل إعادة خلق الظروف اللازمة لإحداث انفجار كبير، والذي سينشأ منه كون مشابه لكوننا مرة أخرى. ومع ذلك، يجب الاعتراف بأنه فيما يتعلق بالهبوط التلقائي في الإنتروبيا، فإن الاحتمالات تفضل إلى حد كبير التخفيضات الأكثر تواضعًا: تلك التي تجمع عددًا قليلاً من الجسيمات، في تكوينات ليست حساسة للغاية لعدم دقة الترتيب. وعندما أقول إنهم يفضلونهم إلى حد كبير، فإنني أعني ذلك إلى حد كبير. من مكان بعيد جداً. وبما أننا نفكر هنا في مستقبل الفكر، فإن دماغ بولتزمان المنعزل هو الحد الأدنى، وبالتالي الأكثر احتمالا، على الأرجح، للتكوين العشوائي القادر على التفكير لفترة وجيزة في الجمال في وسط الكون والتساؤل عن كيفية وصوله إلى هناك.

ما يجعل هذا السيناريو أكثر بقليل من مجرد مقدمة لفيلم خيال علمي من السلسلة B هو أنه بالنظر إلى المستقبل البعيد جدًا، يبدو أن الظروف ستكون مثالية لمثل هذه الأحداث لتظهر حدوث أشياء غريبة. تسريع توسيع الفضاء هو العنصر الرئيسي. أعلاه بقليل، لاحظنا أن هذا التوسع ينتج أفقًا كونيًا - وهو مجال بعيد يحيط بنا، وبعده يهرب أي جسم منا بسرعة أكبر من سرعة الضوء، مما يقطعنا عن كل إمكانية للاتصال به. ومع ذلك، فكما أثبت ستيفن هوكينغ أن الثقوب السوداء لها درجة حرارة وتشع من خلال تطبيق قوانين ميكانيكا الكم في محيط آفاقها، أظهر هوكينغ وزميله غاري جيبونز، من خلال نهج مماثل، أن الأفق الكوني أو أفق الحدث حول مدخل الثقب الأسود له أيضًا درجة حرارة، ويشع أيضًا. كان تفكيرنا بشأن مستقبل الفكر يعتمد تحديدًا على هذه النتيجة: لقد توصلنا إلى استنتاج مفاده أن درجة الحرارة المنخفضة جدًا لأفقنا الكوني، تقريبًا 1o-30 كلفن، سيكون كافيًا لاستهلاك مفكرو المستقبل الذين سيحاولون التفكير إلى أجل غير مسمى. وسنرى الآن أنه على نطاقات زمنية أطول بكثير، فإن اعتبارات مماثلة تقدم للفكر إمكانية غريبة للانبعاث. في المستقبل البعيد، سيشكل الإشعاع المنبعث من الأفق الكوني مصدرًا هشًا ولكنه دائمًا للجسيمات (جسيمات عديمة الكتلة بشكل أساسي، مثل الفوتونات والغرافيتونات) والتي ستتقاطع مع منطقة الفضاء المحاطة بالأفق. ومن وقت لآخر، تصطدم بعض هذه الجسيمات لتنتج عددًا أقل من الجسيمات الضخمة مثل الإلكترونات والكواركات والبروتونات والنيوترونات وجسيماتها المضادة. تقلل هذه العمليات من عدد الجسيمات، علاوة على ذلك تكون سرعات هذه الجسيمات المولودة أقل عدداً؛ وبالتالي فإنها تقلل الإنتروبيا. ولكن، إذا انتظرت لفترة كافية، مثل هذه الأحداث  فإن أشياء غير محتملة ستحدث في نهاية المطاف. على نحو نادر، ولكن بانتظام. وفي حالات نادرة، تتحرك بعض البروتونات والنيوترونات والإلكترونات التي تم إنشاؤها بهذه الطريقة حسب الحاجة لتكوين الذرة. :إن المدة الهائلة المطلوبة لحدوث ذلك تفسر لماذا لا تحدث مثل هذه الأحداث أثناء تركيب النوى الذرية بعد الانفجار الكبير، ولا في أعماق النجوم. ولكن بما أن أمامنا الآن وقت غير محدود، فإن هذه الآليات مهمة. وعلى مدى فترات زمنية أكثر ضخامة، ستتجمع الذرات بشكل عشوائي في مجموعة كاملة من التكوينات المتزايدة التعقيد، ويمكننا أن نكون متأكدين من أنه على الطريق إلى الأبدية، من وقت لآخر، ستظهر جميع أنواع الهياكل المجهرية - الرؤوس المزركشة وسيارات البنتلي. - عن طريق الاندماج التلقائي للجزيئات. وفي غياب الكائنات المفكرة، سيظهر الجميع ويختفون دون شاهد. وفي حالات نادرة، سيكون أحد هذه الهياكل العيانية المتكونة عشوائيًا هو الدماغ. الفكر، الذي انقرض منذ زمن طويل، سوف يعود سريعًا.

ما هو المقياس الزمني اللازم؟ إن الحساب التقريبي (الذي سيجده هواة الرياضيات يسمح لنا بتقدير أن دماغ بولتزمان لديه فرصة معقولة للتشكل على مدى فترة عشرة أسا عشرة أس ثمانية وستين  101068 سنة. وهذا وقت طويل. يمكننا أن نكتب المدة التي يمثلها الجزء العلوي من مبنى إمباير ستيت، 10102 سنة، "1" متبوعًا بـ 102 صفر، أي حوالي سطر ونصف؛ ولكن لكتابة 101068 - أي "1" متبوعًا بـ 1068 صفرًا -، يجب علينا استبدال كل "شخصية في كل كتاب يُطبع على الإطلاق. وحتى ذلك الحين، سنكون بعيدين جدًا. لحسن الحظ، ليس الأمر وكأن أي شخص ينتظر حدوث ذلك. انهيار الإنتروبيا اللازمة لإنتاج " الدماغ الكون" يمكن أن يستمر لمدة نصف الأبد في حالة اضطراب عادية ذات أقصى قدر من الإنتروبيا ولن يشتكي أحد!

الأمر الذي يثير سؤالاً مثيراً للاهتمام، ومؤكداً  هو سؤال شخصي من أين يأتي دماغك؟ يبدو هذا السؤال سخيفا، ولكن من فضلك اتبعني. للإجابة، سوف تشير بطبيعة الحال إلى ذكرياتك وذاكرتك ومعارفك ومعلوماتك للإجابة، وتشرح لي أنك ولدت بدماغك وأن تصورك هو ثمرة تاريخ طويل يمكن إرجاعه إلى الانفجار الكبير من خلال نسبك. والأسلاف التي تنتمي إليها، وتاريخ تطور الحياة، وتكوين الأرض والشمس، وما إلى ذلك. للوهلة الأولى، هذا معقول. ولكن، كما رأينا في مقاربات سابقة، فإن النافذة الزمنية التي تتشكل خلالها العقول بهذه الطريقة محدودة - ولنفترض أنها تقع بين الطابق العاشر والرابع عشر من مبنى إمباير ستيت. إن النافذة الزمنية التي يمكن للأدمغة أن تتدرب خلالها بطريقة بولتزمان هي أكبر بما لا يقاس - إن لم تكن غير محدودة تمامًا  . مع مرور الزمن، سوف تستمر أدمغة بولتزمان في الظهور، ولو نادرًا ولكن على نحو مؤكد، وبالتالي فإن عدد هذه الأدمغة سوف ينمو بشكل لا يمكن علاجه. إذا نظرنا إلى فترة زمنية طويلة إلى حد ما، فسنرى أن إجمالي عدد أدمغة بولتزمان يتجاوز بكثير عدد الأدمغة التقليدية. ويظل هذا صحيحًا إذا أحصينا ببساطة أدمغة بولتزمان الأكثر ندرة، والتي يقنعها ترتيب جسيماتها بشكل خاطئ بأنها ظهرت بالطريقة البيولوجية التقليدية. مرة أخرى، على الرغم من أن العملية قد تكون نادرة جدًا، إلا أنها ستحدث عددًا كبيرًا من المرات على مدى فترات زمنية طويلة بشكل تعسفي.

لذلك، من وجهة نظر احتمالية بحتة، كيف اكتسبت معتقداتك وذكرياتك ومعارفك الحالية؟ إن الإجابة الباردة والهادئة، المستندة إلى حجم السكان البسيط، واضحة: لقد تشكل دماغك للتو تلقائيًا من جزيئات تنجرف في الفراغ، مع كل ذكرياته وخصوصياته العصبية والنفسية المطبوعة على رأسك من خلال التكوين المحدد للجسيمات المذكورة. قصة ظهورك كما أخبرتني بها للتو كانت مؤثرة، لكنها كاذبة. إن ذكرياتك وسلاسل التفكير المختلفة التي أنتجت معرفتك ومعتقداتك كلها وهمية. ليس لديك ماضي. لقد وصلت للتو لقد وصلت للتو إلى العالم كعقل بلا جسد، ولكن مع ذكرى أشياء لم تحدث أبدًا.

إلى جانب كونه غريبًا تمامًا، فإن هذا السيناريو يتضمن استنتاجًا مدمرًا آخر، وهو بالتحديد سبب تركيزي على الظهور التلقائي للأدمغة بدلاً من عدد لا يحصى من الأشياء غير الحية الأخرى غير التجمعات العشوائية من الجسيمات التي يمكن أن تنتج أيضًا. إذا كان الدماغ، سواء كان دماغك أو دماغي أو أي شخص آخر، لا يستطيع أن يثق في أن ذكرياته ومعتقداته تعكس أحداث الماضي بشكل صحيح، فلن يستطيع أي عقل أن يثق في نفسه. ويكون فخور بالقياسات والملاحظات والحسابات التي يعتقد أنها تشكل أساس حياتنا وفق الفهم العلمي. أتذكر دراسة النسبية العامة وميكانيكا الكم. يمكنني تلخيص سلسلة التفكير التي تبرر هذه النظريات. أتذكر أنني نظرت إلى البيانات التي تشرحها هذه النظريات بشكل مثير للإعجاب، وما إلى ذلك. ولكن إذا كنت لا أستطيع الاعتماد على فكرة أن هذه الأفكار قد طبعت في ذهني من خلال الأحداث الفعلية التي أنسبها إليها، فلا أستطيع أن أكون على يقين من أن هذه النظريات ليست سوى خيالات عقلية، ولا أستطيع أن أثق في أي من هذه النظريات. الاستنتاجات التي توصلوا إليها. ومما يزيد من روعة هذا التصور، أن من بين هذه الاستنتاجات المشكوك فيها الآن هو احتمال أن أكون دماغًا يطفو في الفراغ. لذا فإن احتمالية تشكل الأدمغة بشكل عفوي تدمر المنطق الذي دفعنا إلى النظر في هذا الاحتمال. كل التفكير غارق في الشكوك العميقة.

باختصار، من المحتمل أن تؤدي الانهيارات النادرة والعفوية للإنتروبيا، والتي هي نتيجة لقوانين الفيزياء، إلى تقويض ثقتنا في قوانين الفيزياء نفسها وفي جميع عواقبها المفترضة. ومن خلال النظر في عمل هذه القوانين على مدى فترات زمنية طويلة بشكل تعسفي، نجد أنفسنا منغمسين في كابوس حيث تصبح الثقة في أي شيء ملموس مستحيلة. نحن هنا في ورطة كبيرة. كيف يمكننا أن نستعيد ثقتنا في التفكير العقلاني، ذلك النوع من التفكير الذي جعل من الممكن تسلقنا المذهل إلى مبنى إمباير ستيت وما بعده؟ لقد توصل الفيزيائيون إلى استراتيجيات مختلفة.

ويخلص البعض إلى أن هناك الكثير من اللغط حول أدمغة بولتزمان. ومن المؤكد أنهم يدركون أنه من الممكن أن تتشكل أدمغة بولتزمان. لكن كن مطمئنًا، فمن الواضح أنك لست واحدًا منهم. وإليك كيفية إثبات ذلك. انظر إلى العالم من حولك، ولاحظ كل ما تراه. إذا كنت مثل عقل بولتزمان، فمن المحتمل جدًا أنك لن تكون موجودًا في اللحظة التالية. إن دماغ بولتزمان طويل الأمد هو جزء من نظام أكبر وأكثر تنظيمًا وقادر على الحفاظ عليه، وبالتالي يتطلب انخفاضًا عشوائيًا أكبر وأكثر ندرة في الإنتروبيا، مما يجعل تكوينه غير محتمل. وبالتالي، إذا وجدت، عند إعادة فتح عينيك على العالم، أنه يشبه إلى حد كبير ما رأيته قبل لحظة، فسوف تطمئن نفسك أنك ربما لست عقل بولتزمان. وفي الواقع، وبحسب هذا الرأي، فإن كل لحظة تمر تقوي التظاهر وتزيد من ثقتك بنفسك.

ومع ذلك، لاحظ أن الإثبات المعني يفترض أن كل لحظة من هذه اللحظات المتعاقبة حقيقية بالمعنى التقليدي. إذا كنت تتذكر الآن مراقبة العالم خلال الاثنتي عشرة دقيقة الأخيرة وإخبار نفسك مرارًا وتكرارًا أنك لست دماغ بولتزمان، فإن تلك الذكريات تعكس فقط الحالة الفيزيائية لدماغك في هذه اللحظة، وبالتالي فهي متوافقة مع فكرة أنه ظهر للتو، مزودًا بهذه الذكريات على وجه التحديد. إذا أخذنا هذا السيناريو حرفيًا، فإنك تدرك أن الملاحظات التجريبية التي استخدمتها للقول بأنك لست عقلًا مدبرًا لبولتزمان قد تكون في حد ذاتها جزءًا من الخيال. ربما أتذكر أنني قلت لنفسي كما قال ديكارت يوماً  "أنا أفكر، إذن أنا موجود")، ولكن في أي لحظة ما يجب أن أقوله بدلاً من ذلك هو: "أعتقد أنني فكرت، لذلك أعتقد أنني كنت كذلك. )) في الواقع، تذكر هذه الأفكار لا يضمن أن هذه الأفكار قد تمت صياغتها بالفعل.

النهج الأكثر إقناعا هو التشكيك في السيناريو نفسه، بما في ذلك إن وجود أفق كوني بعيد يشع باستمرار الجسيمات - المادة الخام التي تتشكل منها الهياكل المعقدة، بما في ذلك العقول - هو الحجة الرئيسية لصالح أدمغة بولتزمان. وعلى المدى الطويل جدًا، إذا تبددت الطاقة المظلمة التي تملأ الفضاء، فإن تسارع التوسع سيتوقف، وسيختفي الأفق. وبمجرد أن لا يصبح محاطًا بسطح يشع الجسيمات، يبرد الفضاء تدريجيًا إلى الصفر المطلق؛ وفي ظل هذه الظروف، فإن احتمالية تشكل الهياكل العيانية المعقدة تلقائيًا تميل أيضًا إلى الصفر. لا يوجد حاليًا أي دليل على إضعاف (أو تقوية) الطاقة المظلمة، لكن بعثات المراقبة المستقبلية ستحقق في هذا الاحتمال بمزيد من التفصيل. ولذلك فمن الآمن أن نقول أنه في الوقت الحالي، لم يتم تحديد أي شيء.

تقترح المقاربات الأكثر تطرفًا أن الكون المرئي، أو على الأقل الكون كما نعرفه، لن يكون موجودًا بشكل اعتباطي في المستقبل البعيد. وبدون القدرة على النظر في فترات طويلة اعتباطية، فإن احتمال تكوين أدمغة بولتزمان يصبح ضئيلًا للغاية لدرجة أنه يمكننا تجاهلها بأمان. إذا كان للكون أن ينتهي قبل وقت طويل من الجداول الزمنية التي تجعل تكوين أدمغة بولتزمان محتملا، فيمكننا أن نتخلى عن شكوكنا ونتبنى موقفا أكثر راحة: القصة القديمة عن أصل دماغنا تصبح صالحة مرة أخرى، وتصبح ذكرياته ومعرفته ومعلوماته صحيحة. المعتقدات تعكس الأحداث الماضية  . والسؤال هو: ما الذي يمكن أن يجعل الكون ينتهي بهذه السرعة؟

هل النهاية قريبة؟

أعلاه بقليل، اعتبرنا أن مجال هيغز يمكن أن يحدث قفزة كمية إلى قيمة جديدة، وبالتالي يغير خصائص الجسيمات الأساسية بشكل مفاجئ من خلال إعادة كتابة معظم عمليات الفيزياء والكيمياء والأحياء بشكل كامل. ومن المؤكد أن الكون سيستمر في الوجود بعد ذلك، ولكن بدوننا. إذا حدث هذا الكسر قبل وقت طويل من المقاييس الزمنية اللازمة فلن نكون موجودين لندرسه .

***

د. جواد بشارة

لطالما ظلت الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية في الجامعات العراقية – رغم تنوع مواضيعها وتكاثر مصادرها - تتهيب الخوض في غمار بحث وتحليل الطبيعة الفسيفسائية للجماعات والمكونات العراقية المتشظية والمتصارعة ؛ من حيث خصائص البنى التكوينية، وأنماط الثقافات الفرعية، ومضامين السرديات التاريخية، ومحتوى التمثلات المخيالية . ومن ثم الكشف عن أدوار تلك البنى والأنساق والأنماط التي كانت – ولا تزال – من أبرز الأسباب المعيقة للسيرورات والديناميات من جهة، وإماطة اللثام عن التأثيرات والتداعيات والتبعات المحفزة لعوامل التخلف الاجتماعي – الاقتصادي، والتطرف الديني – المذهبي، والتعصب القومي – الاثني، والتخندق الثقافي – اللغوي، والتمترس الإيديولوجي – الحزبي من جهة أخرى . لا بل ان هناك من الباحثين والمؤرخين من يستهجن استخدام عبارة (الفسيفساء) لتوصيف طبيعة المجتمع العراقي، من منطلق حرصه (العاطفي) على استبعاد كل ما يوحي ب (تعدد) الجماعات و(تنوع) المكونات التي يتشكل منها النسيج الاجتماعي العراقي (الموحد) ! .

وإذا كانت الممنوعات السياسية والمحرمات الإيديولوجية في السابق قد حالت دون ظهور وتطور مثل هذه الدراسة، بدعاوى الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي والحيلولة دون تفكك روابطه وتشظي أواصره، ومن ثم الزعم بأن مكونات المجتمع العراقي تعيش في أفضل حالات التجانس الثقافي والتناغم الوطني . فان تغير الظروف السياسية وتبدل الأوضاع الاجتماعية وتحول الأنساق الثقافية وانزياح السياقات التاريخية في الوقت الحاضر، لم تعد تبيح أو تسمح للمتخصصين (باحثين وأكاديميين) بالتعكز على مبررات ومسوغات باطلة لم يعد لها وجود، بقدر ما تحفّز المعنيين والمهتمين للخوض في غمار تلك المواضيع ذات الطبيعة (الحساسة) المؤمثلة في المخيال . بحيث يكون بمقدور كل من أتيح له امتلاك العدة المعرفية والمنهجية الغوص في أعماق تلك الممانعات الشخصية والممنوعات الاجتماعية، ليس فقط لكسر حواجز الخوف وتحطيم قيود الردع التي طالما كبلت العقل وغلت الإرادة فحسب، وإنما لامتلاك القدرة على التحرر من كوابيسها النفسية والتخلص من عواقبها السلوكية، وبالتالي الخروج بدراسات وتوصيات ذات جدوى على مختلف الصعد الإنسانية .

ولعل سؤال يطرح نفسه؛ ما الذي يجعل علم الانثروبولوجيا ضروري الى هذا الحدّ بالنسبة للمجتمعات التي لا تزال تعاني عواقب ماضيها السياسي والاجتماعي والثقافي الشائك والملتبس، لاسيما وان هناك علوم اجتماعية وإنسانية أخرى تشاطر هذا العلم اهتماماته وانشغالاته كعلوم (علم الاجتماع والتاريخ والحضارة والدين والاقتصاد) على سبيل المثال لا الحصر ؟! . وللإجابة على ذلك نقول ؛ ان الانثروبولوجيا هي العلم الذي يسعى للنبش في السيرورات التقليدية والتواضعات الاستاتيكية التي طالما شكلت سمة بارزة من سمات تلك المجتمعات . أي بمعنى أنه (الانثروبولوجيا) يسعى الى تفكيك البنى العميقة لتلك المجتمعات، والحفر عميقا"في طبقات وعيها الباطن، والتنقيب في طمى سيكولوجيتها المضمرة، وهو الأمر الذي دفع بالفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) - ضمن بحثه عن (اركيولوجيا العلوم الإنسانية) – الى وصف الانثروبولوجيا بأنها (علم مضاد) للمألوف والمعيش، من منطلق كونها (ليست أقل عقلانية، بل لأنها تسير في الاتجاه المعاكس، وتحاول دائما"(تفكيك) طبقات الإنسان التي تصر العلوم الإنسانية، كالاقتصاد، على صنعها) . 

وعلى هذا الأساس تتكشف أمامنا ليس فقط أهمية هذا العلم وضرورته بالنسبة لهذا النمط من المجتمعات الإنسانية المتصدعة والمتشظية (الفسيفسائية) على صعيد نتائج التحليل والتأويل التي يقدمها للباحث فحسب، وإنما تتوضح لنا خطورته على صعيد المقاربات المعرفية والمداخل المنهجية التي يستلزمها لسبر أغوار المسكوت عنه في ميادين التاريخ المؤمثلة، والمحذور الاقتراب منه في مجالات الدين المؤسطرة، والممنوع القول فيه في مضامير السياسة المؤدلجة . بحيث ان التقليل من شأن هذا العلم والحيلولة دون تطوير مجالاته وتفعيل ميادينه – تحت شتى المزاعم السياسية والإيديولوجية – أفضيا الى أعاقة العديد من الحقول المعرفية لجهة اجتراح التنظيرات النقدية واقتراح المنهجيات التفكيكية، التي من شأنها إيجاد الحلول واستنباط المعالجات لأغلب مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والثقافية والتاريخية والدينية، التي لم تبرح ضغوط تراكماتها وتفاقم تداعاتها تضاعف من عوامل تهديد كيان دولتنا المتخلع وأمن مجتمعنا المتضعضع . 

***

ثامر عباس

(إن المطر ينهمر دائماً بعد الرعد)

هل ينهزم الإنسان بيولوجيا؟. من يرسخ هذه النظرية، ويحتمي بتأويلاتها؟ وهل تمة ما يؤكد هذا التفكير علميا أو حتى فلسفيا؟.

كل العلوم الطبيعية، بما فيها البيولوجيا، التي تقع في صلب علاقة الكائن الإنساني بالعالم، وتحولاته، وأنساقه المتقاطعة مع عوالم البيئة والمحيط الكينوني المترامي، هي جزء صغير من رواسي اندغام هذه المنظومات البيولوجية المتفاعلة ووظائف الإنسان، ومحددات عمله، وصرائف مدده وائتمانه.

ولا تجد شعبة من شعب هذه البيولوجيا، مهما تفاوتت درجات حضورها في بنية الحياة والفاعلية، من التشريح إلى علم النبات إلى البيوكيميا، إلى التطور وعلم البيئة والبيوفيزيا إلى الأنثرويولوجيا ..، إلا ونسجت خيوطا رفيعة تتحاور من داخلها علامات الارتباط ومفارق التوسع، معلنة أن حقيقة امتلائها بالاستسلام للعقل الإنساني، أكبر من أي تخمين أو حدس مشفر.

إن الفهم السطحي لهذه العلاقة الغامضة والمستحيلة، تفرض اعتباريا إعادة قراءة مآلاتنا بإزاء "نظام تسخير الأرض للإنسان"، وما يشكله من مؤسسات عظيمة، وارتقاءات تعلي من قيمة البشر وأثره في سيرورة الكون والخلق.

ولهذا، ينتفي، أحيانا، هذا الاحتواء، وتلك العنق النجود، عند استيعابنا لميسم التقاء القوة بالعقل، والقيمة البشرية بالوجود الحتمي، والهوية بالنظام العام للعيش، والتشارك الإنساني بالمطالب والاستحقاقات.

إننا نظل تلك الطريق، التي ترفض الاقتراب من بعض تآويل الغيب ووحي السماء، ونحاول الزيغ بأفكار مهزومة، تجافي استدرارنا لكل ما هو ملتبس، أو نافذ بالاحتماء خلف "الغائية"، تاريخا ونظرا متجاوزا لمفهوم "التقدم البشري".

وبعد ذلك، نقرع جرس السؤال، في الجدوى من إعمال العقل، تحت إكراه "النظر العلمي التجريبي"، وتغليفه بالأبعاد الأيديولوجية المنتقاة؟ وما موثق الإيمان والعقيدة من ذلك كله؟ وكيف نحول الافتراقات الفلسفية والفكرية، إلى مناطق لإثارة مشكلات، سبق ومضغت وأكلت وهضمت، منذ مئات السنين، قبل أن يعاد تدويرها ونفتها وتعويمها؟.

في كل مناسبة، وتحت القصف الفوضوي المتهاطل، يعود السؤال نفسه، وتبلغ القلوب الحناجر، دونما محاولة لاسترداد القراءات السابقة، أو تحيينها معرفيا على الأقل. فالحقيقة التي تنهض عليها المعلومات الجديدة في مجال ربط انهزام الإنسان بالبيولوجيا، وانكماشه الفاغر تحت وقع الأخطاء والشرودات المجافية للناموس والطبيعة، وتأثيرات ذلك على مشمولات الأرض والعمران والحيوان، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن صيرورة ربط الأفعال والأعمال الإنسانية بمنتوج الطبيعة، وفق قواعد دقيقة ومتناهية، هي نظرية لا تحتاج لتبيان أو فرقان. بينما نجتاز هذه الحتمية المصيرية، إلى أبعد من ذلك، عندما نمارس "إعادة تطويع جدل الوجود والمادة" وعلاقته ب"قدرة الإنسان وسلطته العلمية"، وما يوازي هذا الاعتبار من "اقتدارية فكرية" و"توجه علمي" و"ارتباط بالنتائج المدروسة المحسوبة"؟.

إن حدوث الكوارث الطبيعية، من زلازل وبراكين وفيضانات وحرائق وزوابع وجفاف، هي منتوج طبيعي بشري، نعم، لكنها أيضا، حوادث غير متوقعة وضبابية، قد تكون ناجمة عن أفعال بشرية أو بيئية، ولكنها أيضا، تدخل في دائرة الغيبيات. وهو ما يؤسس لذاك الغموض المكتنف لأسباب الحدوث والتداعيات .

 فهؤلاء إخوان الصفا، يفسرونها في رسائلهم المعلومة، على أنها تأتي نتيجة احتباس البخارات في جوف الأرض والجبال والكهوف والمغارات، وبعد انقطاعها زمنا طويلا تحم في باطن الأرض وتنخسف مفاجأة بالخروج فيسمع لها دوي وهدة وزلزلة. بينما يرى القاضي الجغرافي القزويني، أن ذات الأبخرة المجتمعية تحت الأرض تنحبس وتتصلب، فتصير ماء مضطربا"، ونفس الشيء بالنسبة لابن سينا والرازي وغيرهما.

 وكلها مقاربات، قريبة من فهومات تطبيق العلوم المذابة بنظم الكون وأبنيتها وقياساتها، حيث تلتقي عند تناول النظرية التكتونية للحياة الجيولوجية، ومستتبعاتها من غرابات التقاء الكواكب واقتراب بعضها ببعض، غير ذلك مما لا يفهمه عقل أو يدركه؟.

هل كان حد ذلك، أن يقف العقل البشري إزاء هذه الخروجات، والاقتباسات، والتفسيرات، مشدوها ومتحيرا، أمام عظمة وجلال هذا السر الرباني السديمي المرعب؟ أم أن الاحتواء الداعر لكل قراءات المتحيرين بإزائه، يفاقم من هزالة الإدراك البشري لعظمة الله الخالق، الذي (قدر فهدى)، حيث الشقوة والسعادة، والإخبار بعين الحجة، على أن الطرق المنذورة للوصول، تكون إما شرا أو خيرا .

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

وهل وجب أدلجة الإسلام لمواكبة التطور؟

لقد جعلت بعض التيارات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي الإسلام إيديولوجيا وليس دين وعقيدة فقط، بحيث اهتمت بشكل مبالغ فيه بالجانب السياسي ودخلت في صراعات مع الأحزاب العلمانية من أجل الحكم، وإن كان من حق التيارات الإسلامية أن تطالب بأن يكون الحكم في بلادها حكما إسلاميا طالما الدساتير العربية أقرت بأن الإسلام هو دستور البلاد، لكن الخطأ التي وقعت في الأحزاب الإسلامية هي أنها لم تعتمد على المنهج النبوي والرسالة المحمدية في مخاطبة الآخر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قضى زمنا طويلا (23 سنة) وهو يصحح العقيدة ويدعو الناس إلى الإسلام والتوحيد، ولم يستعمل خطاب العنف والتهديد، كما قسم النبي الدعوة الإسلامية إلى مراتب ودرجات، فركز على الجانب العقائدي لنشر دين التوحيد دون أن يهمل الجانب الذي يعتبر الأساس في دعوته كتهذيب الأخلاق والمعاملات من أجل تحقيق الفضيلة، وأمام التغيرات التي يشهدها العالم وظهور منظومات فكرية وعقائدية وتيارات سياسية معادية للإسلام باسم الحداثة والعصرنة، بات من الضروري أن تؤخذ الأمور بطريقة عقلانية وأن تتكيف هذه الأحزاب مع الواقع، وتتبنى الحوار العقلاني، لأنه لكل عصر خصوصياته، وهذا من خلال معالجتها للمسائل والقضايا الحساسة بعقلانية ووعي سياسي كمسألة الديمقراطية والحريات كخروج المرأة إلى العمل، وكل الظواهر الإجتماعية التي أدت إلى تفسخ الأسرة، أمام ما يعرضه الغرب الكافر من مغريات تجعل الشباب ينجرف وراءها، ذلك عن طريق الغزو الثقافي مستعملا الإعلام كوسيلة للتأثير فيه.

فالتظاهرات التي ينظمها الغرب كاتفاقيات التوأمة بين الغرب والعرب من أجل التبادل الثقافي، هي من أجل التغريب والفرنجة، وهو مشروع استعماري، لدليل على مستوى الانحطاط الفكري والسياسي الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية، لأنها لم تعمل على وضع الآليات الكفيلة لاستقطاب الشباب وإعادته الى الطريق الصحيح، وعلى سبيل المثال من الصعب على أي حزب سياسي إسلامي وفي أي بلد اليوم، أن يغير ذهنية الشباب المغترب خاصة جيل ما بعد الجيل الثالث لأنه متأثر بالحياة الغربية، لأن الفكر الغربي عشّش في ذهنه، ومن الصعوبة بمكان إصلاحه، ففي الضفة الأخرى يجد المسلم المغترب الحرية التي طالما حلم بها في بلاده ولم يعثر عليها، وقد ذهب المفكر الإسلامي شكيب أرسلان إلى تسليط الضوء على الصراع بين ما أطلق عليه اسم الجامد والجاحد، وقال أن الأول هي الفئة التي لا تريد أن تغير شيئا مهما كان مستوى التطور والتقدم الذي بلغه العالم، ولا ترضى بإدخال تعديلات على أصول التعليم الإسلامي والثانية وهم دعاة "الفرنجة" حيث تطالب هذه الفئة (الجاحدة) بترك الماضي والعيش في الحاضر، لأن مجتمع النبوّة في نظرها مجتمع رجعيٌّ منغلق على ذاته، وهو يختلف عن المجتمع العصري أمام ظهور الرقمنة والتكنولوجيات الحديثة، لكن الواقع يعكس ما تفكر به هذه الفئة، لأن هناك مجتمعات رغم تطورها وتقدمها علميا حافظت على قوميتها (الصين واليابان).

لقد حاولت العديد من الأقلام الإجابة على سؤال إن كان الإسلام عقيدة أم إيديولوجيا؟ في ظل الصراع القائم بين الأصوليين والحداثيين، إذ يرى التنويرون أنه من الضروري إعادة قراءة النص الديني وتفكيكه، وأمام الفتاوى التي تطلق هنا وهناك واختلاف الخطاب الديني بين العلماء والفقهاء ظهر ما يسمى بالإسلام السعودي والإسلام الإيراني والإسلام الإخواني المصري، والإسلام الأفغاني، هذا الأخير الذي تمكن من خلق قوة إسلامية وبسك جذوره في عديد من البلاد العربية وبخاصة في الجزائر، كما أصبحنا نقرأ عن إسلام ابن تيمية وإسلام الألباني وإسلام الشيعة وإسلام السُنّة، حول هذه المسألة بالذات يلاحظ أن القاسم المشترك بين الشيعة والسنّة هو أن كلاهما يعتبران الإمام البخاري مرجعية، وهنا نتساءل اين الإختلاف بينهم، فهل هناك بخاري سُنِّي وبخاري شيعي؟ طبعا هناك بخاري واحد، فلماذا الإختلاف والانقسامية إذًا؟، هذه الإشكالية أعطيت لها أبعادا فكرية عبر القنوات الفضائية (قناة صفا مثلا) التي تستعمل الخطاب الهجومي الغير معتدل.

والإيديولوجية كما عرفها المفكرون هي علم الآراء والأفكار، التي تُبنى منها النظريات والفرضيات، كما هو الشأن في مفهوم الاشتراكية والشيوعية، حيث يعتبر البعض الأولى أي الاشتراكية نظام اقتصادي في حين يرون أن الشيوعية إيديولوجية، ويرى آخرون أن الإيديولوجيا ارتبطت بالإسلام بعد ظهور الإسلام السياسي، وتحاول اطراف أن تربط الديمقراطية بالإسلام على أساس أن الديمقراطي تعني الشورى والإسلام دين شورى، ولذا يرى محللون أن الفصل في إشكالية الإسلام دين أو إيديولوجية، وجب معرف ماهية النظام الإسلامي هل هو نظام سياسي كباقي الأنظمة السياسية في العالم العربي والغربي، أم هو نظام ديني يعني لا يخرج دوره عن دُورِ العبادة (المسجد)، أي ان يكون خطابه خطاب نصح وتهذيب وإرشاد ولا شأن له بالسياسة ولذا قال هؤلاء أن أدلجة الإسلام هو تقزيمٌ له.

***

علجية عيش

زيادة بالأعداد..نقصان بالخدمات

لا توجد إحصائية دقيقة لأعداد الأطفال المصابين بمرض التوحد في العراق، بسبب عدم وجود البيانات وعدم تسجيل جميع الحالات في مراكز التوحد الحكومية والأهلية. يؤكد ذلك تحقيقان صحفيان اجرتهما مؤخرا السيدتان (عواطف مدلول و بدور العامري) فيهما تصريحات لمسؤولين في مؤسسات صحية. يعزز ذلك تقرير طبي نشره موقع (ذي ناشونال) تحدث فيه مدير مركز التوحد التابع لوزارة الصحة العراقية الدكتور حسين الكعبي "أن أعداد الأطفال المصابين في تزايد ويتوقع وجود أكثر من 200 ألف طفل يعاني من اضطراب طيف التوحد، وسط تراجع الخدمات لهذه الفئة من المرضى، إذ يعاني المركز الحكومي الوحيد في بغداد من نقص الملاكات الطبية والمستلزمات الضرورية لتشخيص وتأهيل الأطفال المصابين بالتوحد، ما حدا بذوي المرضى للتوجه إلى مراكز العلاج  والتأهيل الأهلية، بالرغم من ارتفاع التكاليف المالية مقارنة بالنتائج المتواضعة التي يمكن أن يقدمها عدد قليل من تلك المراكز".

ما هو التوحّد؟. تحديد مفهوم

سنبدأ بما تقوله المؤسسات العلمية المتخصصة بالتوحد، ثم نبسّطه لحضراتكم.

تعريف المعهد الوطني للصحة العقلية في الولايات المتحدة:

اضطراب دماغي (Brain Disorder) يؤثر في قدرة الشخص على الاتصال بالآخرين، واقامة علاقات معهم، والاستجابة للبيئة على نحو ملائم .

تعريف الجمعية الوطنية للأطفال التوحديين (National Society For Autistic Children)

هو مظاهر مرضية أساسية تظهر قبل أن يصل عمر الطفل ثلاثين شهراً،يتضمن الآتي:

1. اضطراب في سرعة أو تتابع النمو.

2. اضطراب في الاستجابات الحسية للتنبيهات.

3. اضطراب في الكلام واللغة والمعرفة.

4. اضطراب في التعلق او الانتماء للناس والأحداث والموضوعات.

تعريف الدليل الاحصائي الرابع DSM –IV

حالة من القصور المزمن في النمو الارتقائي للطفل يتصف بانحراف وتأخر في نمو الوظائف الأساسية المرتبطة بنمو المهارات الاجتماعية واللغوية، وتشمل الانتباه، الادراك الحسي، والنمو الحركي.

تعريف الجمعية الأمريكية للتوحد:

هو إعاقة في النمو،تتصف بكونها مزمنة وشديدة،تظهر في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، وهو محصلة لاضطراب عصبي يؤثر سلباً في وظائف الدماغ.

تنويه:

ينبغي التعامل بحذر مع هذه التعريفات، فالتوحّد لا ينطبق على الطفل الذي يكون سلوكه الشاذ ناجماً عن تلف في الدماغ،ولا يمكن وصف جميع الحالات التي يرفض فيها الطفل التعاون لاسباب تعود إلى خوفه  من بيئة أو مصدر غير مألوف بأنها " توحّد " . فضلاً عن أن التوحّد يصيب الأطفال بغض النظر عن مستوى ذكائهم..فقد يكونون طبيعيين أو أذكياء جداً أو متخلفين عقلياً.

وننبه الى انه لا يمكن حصر اضطراب التوحد بعدد محدد من الأعراض والأسباب،ولهذا سمي (طيف التوحد) لأن الأعراض فيه تتداخل وتتنوع. وللوالدين نقول:

ان اعراض ظهور التوحد على الطفل تكون في ثلاثة: تبدأ في ضعف التواصل البصري وعدم قدرته على فهم مشاعر الآخرين ورغبته في اللعب معهم،و صعوبة في فهم الايماءات والتوجيهات باليدين، وصولاً إلى عدم تطور النطق.

ونزيدكم ليسهل عليكم التشخيص ان من اعراضه: انزعاج الطفل من صوت معين بطريقة مبالغ فيها، او: تمسكه بلعبة  أو قميص،أو تعلقه بطعام معين،أ تكرار حركات او كلمات.. بشكل مبالغ فيها.

ما العمل،واطفال التوحد في ازدياد  والخدمات في نقصان؟

الأجابة الممكنة والمفيدة تكون بالتوعية في ثلاثة مجالات..اعلامية و أسرية و مجتمعية،بأن تكون هنالك برامج تلفزيونية واذاعية يقدمها او يشرف عليها متخصصون باضطراب التوحد.وتوعية الأسرة العراقية الكريمه بتبسيط اعراض التوحد(كما فعلنا الآن) وكيفية التعامل مع الطفل المصاب به،وان تمتد التوعية الى المجتمع بتنظيف افكاره من المعتقدات الخاطئة بخصوص المرض ومنها الوصم الاجتماعي،وتسمية من يعانون من طيف التوحد (بالمتخلفين عقلياً).

عباقرة ..مصابون بالتوحد!

ستندهش  ان عرفت ان احدهم هو المخرج السينمائي الشهير (سبيلبيرغ)  الذي اخرج اربعة من بين اعظم عشرة افلام حققت اعلى الايرادات ومنها (اي تي ) او كائن من الفضاء الخارجي.

وستعجب اكثر ان قلت لك ان مؤسس شركة مايكروسوفت وامبراطور الكومبيوتر (بيل جيتس)، ما يزال حتى الآن يعاني من عارض اسبيرجر وهو احد اعراض مرض التوحد!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)

الشريعة والمنهاج مصطلحان متمايزان في دلالاتهما وطريقة عملهما، فـ (الشريعة) في سياقها القيمي ذات نزعة أخلاقيّة شاملة تعمل على ضبط مجمل ما يطالب به الدين ذاك المتبع لعقيد هذا الدين أو ذاك، من سلوكيات تتعلق بحياة الإنسان. أما (المنهاج ) فهو طريقة أو أسلوب في التفكير والممارسة بشكل عام، أو في تطبيق الشريعة بشكل خاص، وفقاً لمعطيات الواقع وتغير الظروف في الزمان والمكان. أي هو تاريخي قابل للتطور والتبدل.

إن متابعة أوليّة لما تناوله مؤسسو الخطاب الفقهي الإسلامي على سبيل المثال في القرون الهجريّة الأولى عند السنة والشيعة، سنجد مبالغة واضحة في مسألة اعتبار الشريعة الإسلاميّة القائمة على النص المقدس القرآن والحديث الشريف، مسألة شموليّة صالحة لكل زمان ومكان، ضُبطت ويجب أن تُضبط دائماً وفقاً لمواقف منهجيّة حددها أصحاب تلك المذاهب، إن كان باعتماد القرآن والحديث والاجماع والقياس عند السنة، أو اعتماد القرآن والعقل والحديث الذي يتعلق منه بآل البيت، أي ما قاله أو حدث به آل البيت من الأئمة المعصومين عند الشيع، وخاصة ما يتعلق بالأحكام (القانونيّة). أي ما أمر به الله من تطبيق للجزاءات على المعاملات والأحوال الشخصية، على من التزم بحقوق الله أو أساء إليها. وهذه المسألة إذا ما قرأنا النص المقدس قراءة متبصرة، نجدها تتناقض أو لا تتفق وروح الشريعة الإسلاميّة في جوهرها العام، الداعي إلى المحبة والعدالة والمساواة والعدل بين الناس ومراعاة ظروف حياتهم، انطلاقاً من  أن هذه الشريعة في سماحتها تدعوا إلى ضرورة مراعاة روح العصر الذي نزل فيه النص المقدس من جهة، والروح العامة لهذا النص القابل لفتح دلالاته تفسيراً وتأويلاً بما يتفق وتطور حياة الإنسان نفس. وقد كان عمر بن الخطاب رائداً في مسألة هذا التطبيق للنص المقدس بعد فتح دلالاته التاريخيّة على الواقع المعيوش بعد وفاة الرسول، وخاصة موقفه من السرقة في عام الرمادة، ثم موقفه من المؤلفة قلوبهم وتوزيع الغنائم وغير ذلك.

نقول: إذا أخذنا كتاب الله بآياته الـ (6000) لوجدنا أن هناك (80) آية فقط هي ما يتعلق بالأحكام الشرعيّة بالنسبة للمعاملات أو الأحوال الشخصيّة بما فيها الجزاءات والإرث والزواج والطلاق والعدة.. الخ. وما تبقي من آياته كلها تصب في قضايا الإيمان والأخلاق. فالدين الإسلامي في عمومه دين إيمان وأخلاق.

أما المنهاج في هذا السياق فهو يستخدم في تطبيق هذه الشريعة. أي هو الأسلوب الذي يستخدمه الفقيه في قراءات النص الديني وتفسيره وتأويله وفتح دلالاته، بما يخدم مصالح الناس المتغيرة والمتطورة دائماً وفقاً لمقاصد الدين في خطوطها الإنسانيّة المراعية لمصالح الناس في الزمان والمكان المحددين.

إن القرآن دعوة دينيّة عقيديّة وأخلاقيّة في أساسه، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)،  وليس قوانين فقهية وحقوقيّة أو علميّاً، وإذا اعتقد بعضهم أنه كتاباً علميّاً وحقوقيّاً، يشرع لمجمل الحياة الاجتماعيّة بدءاً من كيفيّة خلق الكون والإنسان وصولاً إلى تنظيم الحياة الأسريّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة  والسياسيّة... إلخ. فهذا يتنافى مع جوهر الدين الأساس.

إن الإسلام في خطوطه العامة كما أشرنا، يقدم جوهراً أخلاقيّاً لحياة الناس في كل عصر بما يلبي حاجاتهم ومصالحهم، حيث نجد أن الكثير من الجزاءات للمخطئ والمصيب، لا تطبق في الحياة الدنيا، فعقابها مؤجل إلى يوم العودة، عدا بعض حالات القصاص كالسرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها من القضايا التي ورد فيها نص ديني ثابت مثلاً. فالقرآن يشدّد كثيراً على الأخلاق ويعتبرها فوق القانون، وأن المحبة والعفو عنده يجبان القانون إذا ما جاء لفرض العقوبة المستحقة. فلننظر في نص الآية القرآنيّة التالية ونرى كيف أن القيم الأخلاقيّة في الإسلام تتقدم على قانون العقوبات: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (المائدة - 45). أو قوله تعلى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( الشورى - 40).

إن حالة القصاص بموجب النص الديني المقدس تعتبر ضرورة قانونيّة/ حقوقيّة تمثل روح العدالة والمساواة بالنسبة للدين، وهي ضرورة اجتماعيّة أيضاً، ولكن العفو بموجب المحبة والبعد الإنساني المطلق لمقاصد النص المقدس، تظل في المقابل واجباً أخلاقيّاً ومعنويّاً في العلاقات الشخصيّة أو الاجتماعيّة. فالمسألة الأخلاقيّة ممثلة في العفو، تعادل الحق على المستوى القانوني وهو القصاص هنا.

أما بالنسبة للمسألة (السياسيّة) كما حددها النص المقدم في الإسلام، فهناك آيتان بينتا موقف الدين من السياسة وهما : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). (الشورى - 38). (وشاورهم في الأمر) (آل عمران – 159). دون تحديد لآليّة عمل أو تطبيق مضمون هاتين الآيتين، حيث ترك منهاج ممارستهما للإنسان نفسه ووفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيوشة. وهذا الأمر المتعلق في ترك طرق تقدير  الإنسان لمصالحه، نجدها أيضاً في النصوص التي تناولت مسائل الزكاة والصدقات والربا، وهذه كلها تحتاج في الحقيقة لتعريف قانوني لها وهي ذات توجه أخلاقي.

انطلاقاً من هذا المنهج أو الأسلوب الذي يتعامل مع النص الديني حقوقيّاً، يأتي دور الفقه كصياغة حقوقيّة بشريّة محض، وهو وفقاً لذلك تاريخي، أي عليه أن يعمل على البحث الدائم في مقاصد النص الديني، من داخله، أو من خارجه عن حلول لمشاكل الإنسان بكل مستجداتها، أي البحث عن حلول لقضايا الواقع المتطور والمتبدل أو المتحول وفقاً لروح الشريعة أولاً، ووفقاً لمصالح الإنسان التي لا تخرج أصلا في بعدها الأخلاقي والقانوني عن مقاصد هذا النص الديني المقدس أو روحه، وفقاً للحالة التاريخيّة المعيوشة. ومن هنا جاء في أصول الفقه الإسلامي الفرعيّة ما سمي بالمصالح المرسلة، وتغير الأحكام بتغير لأحوال، والاستحسان، والعادة والعرف، وسد الذرائع، واعتبار المصلحة وتقديمها.. الخ.

إن مشكلتنا مع فهم وتطبيق النص الديني فيما يتعلق بـ (الشريعة)، تكمن في تلك العقليّة الجموديّة التي تتعامل مع النص المقدس فقهيّاً من قبل مشايخ الدين والسياسة والسلطان، فهم من ساهم كثيراً في جمود حركة المجتمع وتقديس التراث، الأمر الذي أدى إلى تقديس الفقه ذاته وما تناوله فقهاء العصر الوسيط من شروح وتأويل وتفسير لهذا النص، حيث تحولت شروحاتهم وتأويلاتهم وتفسيراتهم ذاتها إلى نصوص مقدسة أخرى يعتبر الخروج عنها كفراً وزندقةً، بل وخروج عن الدين الصحيح.

ملاك القول: أمام كل هذه الإشكاليات التي نعيشها في مسائل الخطاب الديني الإسلامي، وما تركته هذه الإشكاليات من مواقف عمليّة متطرفة لمتبني الإسلام السياسي الجهادي بشكل خاص التي أساءت للدين والإنسان معاً، لا بد لنا من التأكيد هنا على بعض المعطيات التي يمكن لها أن تساهم في إخراجنا من ذاك الفهم الجمودي الوثوقي الاستسلامي للنص المقدس وهي:

1- لا بد من إعادة النظر في مسألة شموليّة النص الديني المقدس بما تمثله هذه الشموليّة من فهم لروح الشريعة وأخلاقياتها وإمكانيّة تطبيق هذه الروح على قضايا العصر، وذلك يتأتى من خلال اعتمادنا على القرآن كمرجع أساس للنظر في مقاصده.

2- ضرورة التأكيد دائماً على تاريخيّة النص من خلال فهمنا لجوهر وأهداف مسألة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه في النص الديني نفسه. وهذا يدفعنا للنظر في قضايا الواقع عند قراءتنا للنص الديني بمنظار الحاضر وليس الماضي، وبذلك نفتح باب الاجتهاد بعد أن أغلق مئات السنين.

3- لا بد من إعادة النص الديني تفسيراً وتأويلاً إلى حوامله الاجتماعيين الحقيقين المعبرين عن مصالح (المجتمع)، انطلاقاً من النص المقدس الذي يقر بأن كلكم راعِ وكلكم مسؤول عن رعيته. وبذلك نكون قد خلصنا النص الديني تفسيراً وتأويلا وتوظيفاً من قبضة المرجعيات التقليديّة من رجال الدين الذين ملأ الزيغ قلوبهم، ومن رجال السياسية المستبدين الذين يعملون على توظيف هذا النص لمصالحهم. أو بتعبير آخر تخليص الدين من العمامة والعمرة معاً.

***

د.عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

أحتمل أن بعض القراء قد سمع عبارة «فيتامين واو» التي يتداولها الناس أحياناً في العراق والخليج. وهم يعرفون بالتأكيد أن «الواو» هنا تشير للواسطة. وقد سمعتها للمرة الأولى في الكويت نحو عام 1997. حين تحدث زميل لي مع أحد الوجهاء، طالباً شفاعته كي ينجح في اختبار قيادة السيارة، وكان يومها شديد العسر. وحين سمع الزميل موافقة الطرف الثاني، قال ضاحكاً: «فيتامين واو حلال المشكلات». وعلمت فيما بعد أن معظم الناجحين جاءوا مع ذلك الفيتامين القوي.

وتعرفت في بداية القرن الجديد على رئيس بلدية مشهور عندنا، كان يتباهى بعبارة «اشفع تُشفَّع» التي تدعو –من دون مداورة- إلى اعتماد الواسطة إذا أغلقت الأبواب. ورأى صمويل هنتنغتون في مقالة مثيرة للجدل أن الواسطة (الرشوة بين قوسين) قد تكون علاجاً محتملاً إذا تخشبت القوانين، فباتت سداً يعيق الاستثمار الضروري لتوليد الوظائف وتحسين مستوى المعيشة.

لكننا جميعاً نعلم أن الواسطة ليست بالخيار الأمثل حتى لو لجأنا إليه أحياناً. ذلك أنها تؤدي لاستئثار فئة من الناس بما هو حق للجميع. أي تقريب جماعة وإقصاء بقية الخلق.

حسناً، دعنا من هذا الكلام الخطابي، فكل الناس يعرفونه. ولنذهب إلى مسألة مفيدة، تندرج في سؤالين، أولهما: ما جوهر «الواسطة»، ولماذا هي مفيدة أكثر من غيرها؟ والآخر: إذا كانت فعّالة ومفيدة، فهل يمكن تعميمها، أي تحويلها من امتياز لفئة خاصة إلى امتياز لجميع الناس؟

«الواسطة» هي الثمرة الرئيسية للاشتراك مع جمع محدد من الناس، في منظومة قيم أو معايير، تولد خيطاً من التعاطف والثقة المتبادلة فيما بينهم، بحيث يشعر كل منهم أن بوسعه الاعتماد على دعم الآخر وإسناده.

ربما تنشأ هذه العلاقة عن الانتماء المشترك إلى قبيلة واحدة، أو قرية أو مذهب أو حزب، أو حتى الصداقة التي تولدت خلال سنوات المدرسة أو العمل. لكن هذا القدر من الثقة المتبادلة يفيد أقلية من الناس فحسب وقد يؤدي –كما أسلفت– لاستئثار جماعة صغيرة بما هو حق للجميع.

السؤال الذي لطالما راود الباحثين في علم الاجتماع، هو: هل يمكن تحويل منظومة القيم والمعايير تلك إلى أساس للعلاقة بين جميع أهل البلد؟ بعبارة أخرى: هل يمكن تصميم منظومة قيم، أو تطوير المنظومة القائمة، بحيث تستوعب الناس كافة...؟ وتبعاً لهذا، هل يمكن لجميع الناس في بلد معين أن يتمتعوا بما يشبه الواسطة في علاقاتهم وأعمالهم، بحيث يعاملهم موظف البنك والشركة والدائرة الحكومية، كما يعامل أهله وأصدقاءه؟

وجّهت هذا السؤال لأصدقاء عدة هذا الأسبوع. فوجدتهم متشككين في إمكانية توسيع «دائرة الثقة» خارج حدود التعارف الشخصي. وقال أحدهم إن قلة الشركات الكبرى في بلدنا سببها ضيق دائرة الثقة واقتصارها على المعارف. لكني تذكرت على الفور مثالاً جيداً، هو الشركات المساهمة، التي شارك فيها آلاف الأشخاص مع أنهم لا يعرف بعضهم بعضاً ولا يعرفون مؤسسي الشركة ولا مديريها. بعبارة أخرى، فقد توافرت لديهم الثقة الكافية ليضعوا أموالهم بيد أشخاص لا يعرفونهم. أليس هذا مثال جيد؟

هنا يظهر دور الثقافة. أي القناعة التي تولدت في أذهان هؤلاء الناس، بأن القانون يمكن أن يضمن أموالهم، وأنهم لا يعطون أموالهم لشخص بعينه، بل لنظام عمل، إذا نجح فالكل رابح وإذا فشل فالكل خسران، بمن فيهم المدير والمؤسس. هذه الثقافة تقود الإنسان من الثقة بالأشخاص إلى الثقة بالنظام الذي يخضع له الجميع.

«دائرة الثقة Radius of Trust» تتناول في المقام الأول التعويل على القيم الموضوعية (مثل القانون) بدل الشخصية، والاقتناع بأن عامة الناس حريصون بعضهم على حقوق بعضاً، ولذلك يمكن أن تأتمنهم وتطمئنّ إلى عقلانيتهم. هذه كلها عناصر ثقافية يمكن غرسها في أذهان الناس كما يمكن انتزاعها منهم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

في المثقف اليوم