قضايا

إغتيال الورد مع سبق الاصرار

(ولا تَقتلوا أولادكُمْ خشيةَ إملاقٍ) الاسراء31

خلق الله الأنسان وخلق زوجه وبث منهما رجالا ونساءا ليرفدوا الحياة بجيل يفتخر بقيمه النبيلة وخلقه الكريم ويترك بصمته واضحة في كل ميادين الحياة. وقد جبلت الاجيال السابقة على قيم الفضيلة والخلق الحسن وكان نتاجها الأنسان الأنسان الذي يحمل كما هائلا من القيم التي تجعله فخورا بذاته وبمن انتهل من فيضه .

ومع استعار أتون الحروب ومالحق بها من تبعات القت بظلال وضلال تعسفها على شريحة كبيرة من المجتمع حيث كثر الايتام والمشردون وكسدت النساء الارامل ،ثم تطور الامر الى البحث عن لقمة العيش بشتى الطرق في ظل غياب واضح للمنظومة الاخلاقية التي باتت هي الاخرى تعاني تشرذما لاحصر له في حضرة الوجه الاخر للنت!

ومن نتاج هذه الاوضاع وغيرها انقسم المجتمع الى ثلاثة أقسام :

-قسم منفتح الى حد الاستهتار بكل شئ وهذا ماتمثله شريحة كبيرة من المجتمع حتى باتت الظواهر الشاذة  التي لم ينزل الله بها من سلطان تحز جيد المجتمع وتدق ناقوس الخطر على أجيال تتوسم الرذيلة شعارا لها.

-قسم منغلق حد التطرف وهذا ليس بافضل حالا خصوصا إذا كانت سمة أفراده التمرد على واقع يفرض بالقوة وليس بالاقناع.

-والقسم الاخير هو القسم المعتدل وهذا تمثله شريحة المثقفين المعتدلين الذين اتخذوا الوسطية شعارا لهم وعليهم يؤول استمرار المجتمع وديمومته لما يتمتعون به من حرية الفكر التي تحددها ضوابط رصينة .تقوم على اسس تربوي قويمة لانتاج انسان معتدل ينظر الى نصفه المملوء من الكأس بعين الرضا والعرفان.

ومع تقدم الحياة العلمية وتراجع المنظومة الاخلاقية وتقهقرها- الا مارحم ربي- بدات تظهر على السطح ظواهريندى لها الجبين وانتهاكات تطال الحد الادنى من الانسانية، فبتنا نسمع بقتل الابن لوالديه واسرته وزنا المحارم واغتصاب الاب لابنته وتواطؤ الزوجة مع العشيق لقتل الزوج وحرق الزوج لزوجته تحت أي بند واغتصاب الاطفال ثم قتلهم دونما رحمة!!

ونحن اليوم أما جريمة يندى لها الجبين وخزي وعار يطالان المنظومة الاسرية والاخلاقية التي جعلها الله من المقدسات وخطا أحمرا لايمكن تجاوزه.

وحقيقة فالانسان المجرم ولد والاجرام في دمه،واكملت عليه البيئة الحاضنة، وهذه حقيقة ثابتة تفرضها الشخصية التي تستقبل امورا وترفض أخرى كامتداد طبيعي لقابيل وهابيل!

فاليوم تقدم من تخلت الادمية عنها وفتح الشيطان لها بابا لتغتال طفولة بريئة قسى عليها الزمن لتكون تحت موس الجلاد!

لقد أقدمت المجرمة المدعوة (.) على تعنيف وتعذيب إبن زوجها الطفل البرئ (موسى) ذات الستة أعوام على تعذيبه على مضض بمرآى من والده ومدرسته وجيرانه! وقد حاول الطفل مرارا الفرار من البيت واللجوء الى أحد المطاعم لايوائه، وقد بدت عليه علامات التعذيب واضحة ،لكن دون جدوى فلا أحد تتحرك عنده الشهامة ليحتضن الطفل أو ليخبر الشرطة المجتمعية عن ذلك.

ثم يظهر بصورة في المدرسة وهو يرتدي ملابسا شتوية في قمة الحر في حين يلبس اقرانه الملابس الصيفية، وهو يغطي الكدمات الزرقاء التي نالت من وجهه الغض بابتسامة بريئة_حسبنا الله ونعم الوكيل-

وتستغل الام غياب الاب الذي انتزع الحضانة من ام موسى انتزاعا تحت اي ذريعة مهددا اياها واهلها بعدم رؤيتهم ولايستغرب أحدنا فهذا النوع من الاشخاص النرجسيين موجودين وبكثرة في مجتمعاتنا ديدنهم التهديد والوعيد او حتى القتل!

كان الاب المغفل أو إنه تغافل عن تعنيف ابنه فهذه ليست المرة الاولى فقد قامت المجرمة بكسر ساقي الطفل باعتراف الاب وكان يرى كدمات في جميع انحاء جسمه وعندما يسالها تجيب ان الطفل عنيد ولايسمع الكلام!

أما دق ناقوس الخطر في هذا العقل المريض الذي آثر حياة ابنه المعنف على التنازل لزوجته الاولى واعتبار ذلك هزيمة له!فهذا النوع من الشخصيات لديه القابلية للتضحية بكل شئ إلا عنجهيته الفارغة.

والنتيجة ان المجرمة قامت وبكل وحشية بجعل الطفل يلتهم كيلو غراما من الملح وتهديده في حالة القئ سيلتهم المزيد ! ثم قامت وبكل العهر والجريمة بتشويه جسده الغض بالسكاكين والشوكات حتى فارق الحياة!

اي حياة فارقها ،حياة البؤس والتعذيب والحرمان من الام والجو الاسري ،فارق الحياة وهو يطفئ شمعته التي اوقدها غيره دونما ذنب،ولجأ الى رب كريم كملاك صغير تحتضنه الملائكة ليخلد في رياض الرحمة.

نحن امام جريمة مع سبق الاصرار والترصد قامت بها احدى ادوات الشيطان وبلا رحمة مستغلة وكافرة بكل شئ والادهى انها تضع زيفا على راسها العفنة خرقة تسميها حجابا والحجاب براء من  التدنيس.

قتلت الطفل وبقي مرميا على الارض تحت الدرج لعشر ساعات لحين قدوم والده-المزعوم- محاطا بالدود الذي ربما يكون اكثر رحمة من هذه الحثالة،والغريب بل الكارثة انها تطهو الطعام والحياة مستمرة عندها ،فالمكيف يدفع هواءا باردا وعلى الطباخ القدور تفور واطفالها يلعبون ويمرون بجانبه وكأن شيئا لم يكن،كل شئ بدا طبيعيا إلا سؤال الاب كيف مات هذالطفل؟ ومنذ متى ولما لم تخبريني ؟ليأتي الرد صاعقا وقحا لقد مات وانتهى خذه لتدفنه بلا جدال وإلاّ!وإلاّ ماذا ذلك هو السؤال إلاّ ماذا؟

لقد طلب الجيران الشرطة ولم يفعل الاب ،فماذا يحدث في المجتمع وعن اي أسر نتحدث! واي جيل ننتظر! في غياب الله كل شئ مباح.

ان الانفلات الانساني الذي يعاني منه المجتمع بات ظاهرة واقول ظاهرة لانها ظاهرة لشريحة كبيرة من المنحرفين اخلاقيا وانسانيا وسلوكيا،ونحن نطالب بقوانين صارمة تحمي الطفل من التعنيف والتعذيب مع استحداث (قانون الاحتضان) لايواء الطفل المعنف في اسرة ذات خلق ودين تعترف بنعم الله ولاتجحدها-وهذا لايعني بأي حال من الاحوال الانحياز لقانون انتزاع الاطفال الساري في أوربا تحت أي بند-! بل  خيرا الف مرة من بقاء الطفل فريسة التعنيف والحرمان والتشرد ،او انه ثمرة نزوات لاناس غير مسؤولين يدفع ثمنها طفل برئ ينتهي به المطاف في دور الايواءوهذا بافضل الاحوال و سهل جدا بل اسهل من السهل بوجود مقدم برنامج من الواقع (علي عذاب) الذي اخذ على عاتقه ايواء هذه الجحافل المجحفلة من الاطفال الى دور الدولة، الذين جحدتهم اسرهم تحت اي ذريعة.

وحقيقة وامام هذا الالم الكبير نحن نطالب السلطات المعنية بانزال اقسى العقوبات ليد تلطخت بدم طاهر لتكون عبرة لمثيلاتها الكثيرات!

كما نطالب السلطات وجمعيات المجتمع المدني بالسعي لاستحداث قانون الاحتضان الذي سيحل الكثير من الامور في ظل احتضان الطفل المعنف في اسرة صحية نظيفة ذات خلق واخلاق ،وهناك الكثير من الاسر التي حرمت من الانجاب وهي جديرة بهذا الدور،في حين يتوسد الاطفال المعنفون بين الثرى ليدفعوا ضريبة حياة ليس لهم من ذنب فيها.

واخيرا اقول اتقوا الله في خلق الله فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ورحم الله الارواح التي عافرت من اجل الحياة.

***

مريم لطفي/عراق الوالدين

الكونية دعوة الى البحث عن المشتركات من قيم الخير والعدل والمساواة والفضيلة والأخاء بين الإنسانية جمعاء، وتأكيد على ما هو قيمي من حقوق وحريات ومُثل ومبادئ وقيم. والحديث عن ثورة الإمام الحسين (ع) يحمل أبعاداً كونية عديدة رافقت أحداث المعركة وما بعدها، أضافة الى دلالاتها الإنسانية العظمية من تضحية ومبدئية وإيثار وبطولة وعنفوان ووو.. ذكرها أرباب الحوادث والسير في مجلداتهم. فالثورة الحسينية ليس كونية بأهدافها وغاياتها، بل رؤية كونية، وفق القوانين الكونية الإستثنائية. فأثر القضية كونها قضية إستثنائية وحدث كوني، أثارت دهشة الجميع في وقوعها، وعلى مختلف اتجاهاتهم الفكرية والايديولوجية وأديانهم ومعتقداتهم، فالتفاعل الكوني مع الثورة لم يكن وليد واقعة حدثت من قبل، وأنما جاء من عظيم الحدث وعظمة الموقف وفق نسق كوني أمتد إلى يومنا هذا، ليحكى للأجيال عظيم ما أرتكب من جريمة.

أن الثورة الحسينية تلتقي بالتأكيد مع الكثير من الثورات الكبرى العالمية ذات التوجهات الأصلاحية والتحررية من حيث الوقوف بوجه الظلم والإستبداد وإشاعة مبادىء الحرية وحقوق الإنسان، إلا أنها تفترق من حيث كونها وضعت آلية الإستمرار لها وأبتكرت أساليب الديمومة سواء عن طريق الأحاديث الشريفة الداعية الى زيارة الإمام الحسين (ع) أو أستذكار ثورته وشهادته عن طريق تعظيم شعائرها أو أستحضار قيمها الروحية وأهدافها الإنسانية السامية، فهي تمثل أنعطافة كبيرة في مسيرة الإنسانية ونقطة تحول في مسار حوادث التاريخ، نتيجة الزخم الهائل الذي ولدته هذه الثورة العظيمة في الضمير الإنساني، ولدى كل أحرار العالم، وأصبحت مثالاً يحتذي به.

الإمام الحسين (ع) إذاً ثورة كونية نوعية أصلاحية شمولية بكل المقاييس وأن جرت أحداثها في زمن محدد وبقعة محددة قد تبدو صغيرة بالمقارنة مع سعة المساحة التي كونتها في نفوس البشر، فهي حدثت في عصر معين لكن إشعاعاتها وقيمها ومثلها ومحتواها الإنساني الكبير أمتد الى كل العصور، وتشع على كل أمم الأرض مادام الظلم والقهر والأضطهاد قائم في هذا العالم. فهي منهج وسلوك إنساني وتضحية قل نظيرها في كل ثورات العالم الكبرى بدأً من ثورة سبارتكوس (111 ق.م-71 ق.م). في روما إلى الثورة الإنكليزية (1642-1688)، والثورة الأميركية (1774-1884)، والثورة الفرنسية (1789-1870)، وغيرها، تلك الثورات التي تلاشت بعد أن بعدت عن أهدافها التي قامت من أجلها.

فكانت الثورة الحسينية درساً عالمياً أقتدى به عظماء تاريخ النضال والتحرر في العالم أمثال: "المهاتما غاندي" زعيم الهند فخاطب الشعب الهندي وحثهم على أستلهام الثورة الحسينية: (لقد طالعت بدقة حياة الحسين شهيد الأسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء و اتضح لي ان الهند اذا ارادت احراز النصر فلابد لها من اقتفاء سيرة الحسين). و"ماوتسي تونغ" زعيم الصين الذي تعجب من قدوم "عبد الكريم الخطابي" للأستفادة من تجربة الصينين الثورية أذ يقول له:(عندكم تجربة ثورية وانسانية فذة قائدها الحسين و تأتون الينا لتأخذوا التجارب)، وأما المناضل "جيفارا" يقول:(على جميع الثوار في العالم الأقتداء بتلك الثورة العارمة التي قادها الزعيم الصلب (الحسين) العظيم والسير على نهجها لدحر زعماء الشر والأطاحة برؤوسهم العفنة)، وكثير من رجال الفكر والثقافة والمبادئ التحررية في أرجاء المعمورة الذين أرخوا بأقوالهم الثورة الحسينية، فقد فطن المؤرخون والباحثون الغربيون لرمزية ثورة الحسين (ع)، فكانت تمثل لهم ضمير الأديان، فهي تعبير عن رؤية للوجود وتصوير للواقع، وهذا ما أكده المستشرق الأمريكي "غوستاف غروينيام" حين قال: (أن وقعة كربلاء ذات أهمية كونية، فلقد أثرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين ذلك الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أية شخصية مسلمة أخرى). أما الآثاري الإنكليزي "وليم لوفتس" فأكد عظمة شهادة الأمام الحسين: (قدم الحسين بن علي أبلغ شهادة في تاريخ الإنسانية وأرتفع بمأساته الى مستوى البطولة الفذة).

(أن القرون تأتي وتذوب قرناً بعد قرن، كما تذوب حبة الملح في المحيط. وهذا الحسين أسمه باق في القلوب وفي الأفكار والضمائر)، فهو أكبر من القرون وأكبر من الزمن. فثورته تبقى ثورة كونية تاريخية خالدة أستلهم منها كل ثوار وأحرار العالم وحركات التحرر العالمية في نضالهم من أجل الأرتقاء بكرامة الإنسان.

***

بقلم: حسين عجيل الساعدي

المبشرون كانت لهم فلسفة براغماتية لتنصير الشعوب

كانت البراغماتية ولا تزال، تهدد الشعوب والأمم للهيمنة عليهم وطمس هوياتهم، كونها وظفت سياسيا ودينيا، وهو ما نلاحظه في الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي توقع بين الحكومات والتحالفات في مختلف المجالات بما فيها مجال التسليح فقد جمعت بينهما البراغماتية، أي سياسة مصلحية، كلٌّ من موقعه ووفق حساباته حيث وصلت الأمور الى حد التطبيع مع إسرائيل، لولا ظهور جماعة من الإصلاحيين المسلمين الذي تطرقوا الى مفهوم البراغماتية في الإسلام ونشر الوعي محددين واجب الفرد والجماعة داخل المجتمع الإسلامي وتحقيق المعادلة بين الوسيلة والغاية.

كيف نفكر وفي ماذا نفكر وهل افكارنا سليمة أم يشبوها الغموض والضبابية؟، هل افكارنا سلبية أم إيجابية؟، هل هي حيّة أم ميّتة؟ هل تفكيرنا تفكيرٌ علميٌّ أم إصلاحي أم حداثي؟ وهل تفكيرنا نورانيٌّ؟، هي مفاهيم خاض فيها كثير من المفكرين والفلاسفة عرب وأجانب، ثم نتساءل إن كانت الفكرة إبداع أم هي مجرد فكرة تظهر في لحظة تأمل ليس لها ما يطابقها في الواقع، ودون أن نعرف ماهي فائدتها العلمية، كلنا يفكر ولكل واحد منّا طريقة تفكيره، لكن هناك هدف ما نريد الوصول إليه عن طريق تفكيرنا، وكم استغرق تفكيرنا من زمن للوصول إلى هذا الهدف، العالم طبعا مليئ بالمشكلات والتناقضات وهناك مشكلات معقدة، مستعصية، فأحيانا نجد من يقول لقد فكرت طويلا ولم أجد حلا لهذه المشكلة، يقول بعض المفكرين أن تفكيرنا مرتبط بالبراغماتية، إلا أنه ليس كل الناس براغماتيين، قليل من التأمل فقط نجد أن هناك فكر فردي وفكر جماعي.

ليس الغرض هنا الحديث عن الفلسفة البراغماتية، وإنما إلفات النظر الى الخطر التي يهدد الشعوب والأمم ومساعي البراغماتيين في طمس هويات الشعوب، كونها وظفت سياسيا ودينيا، ولعل السبب هو لما أثارته الفردية والجماعية من جدل بين المفكرين، ولكل واحد كان له رأي خاص لاسيما وأن هذا المفهوم لعب دورا خاصا في تسيير الحياة اليومية للفرد والجماعة، بل هيمن على منظومتنا السياسية، الإقتصادية، الفكرية الثقافية والتربوية وحتى المنظومة الدينية، فمصطلح البراغماتية مشتق من الكلمة اليونانية "براغما" ومعناه العمل وهي مذهب فلسفي يرتكز على أن معنى فكرة ما، تتحد بتأثير فكرة أخرى على الممارسة والسلوك وأن حقيقة المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة، والبراغماتية ارتبطت بالفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس وهو أول من صاغ هذا المفهوم في مقال له نشره عام 1878 بعنوان: " كيف نوضح أفكارنا؟" ووضع فيه أسس فلسفة البراغماتية، وهي من الناحية الفكرية تعني أن الإنسان مُكْرَهٌ على العيش في عالم لا عقلاني يتعذر فهمه، لأن كل محاولة لمعرفة الحقيقة تبوء بالفشل، والدليل ما نقرأه عن صراع الحضارات والثقافات وصراع الأديان.

فلا يزال النقاش حوله (أي الصراع) مفتوحا ولم ترفع الجلسات عنه الى يومنا هذا إلى أن ذهب البعض بالقول أنه لا يوجد صراع حضارات أو ثقافات أو أديان، وعلى الجميع أن يتعايش ليحقق كل واحد منفعته، وبالتالي عليه أن يتخلص من الشكوك التي تعرقل حياته طالما هو يريد أن يحقق منفعته حتى لو أدى ذلك انفصامه عن الدين أو بعده عن الأصالة وضربه قوانين الجمهورية في كل المعاملات، ونلاحظ ذلك حتى في المجال الديني، عندما عمل المبشرون على نشر عقيدتهم (المسيحية) بأسلوب براغماتي عن طريق مساعدة الشعوب وتقديم لهم الخدمات خاصة تلك التي تعيش الحروب وتعاني من المجاعة والجفاف والأمراض من أجل تنصيرهم ومحاربة الإسلام وتمكنوا من تعلم اللغة العربية نطقا وكتابة، مثلما حدث في الجزائر أيام الإحتلال، فهم آمنوا بدعوة البراغماتية إلى الاعتقاد بفكرة وإخضاعها إلى التجربة وما تقدمه هذه التجربة من فائدة عملية، وقد تمكن التيار التبشيري من طمس هوية المسلمين وإهدار كرامتهم، فلا تهمهم إن كانت الفكرة صحيحة أو غير صحيحة بقدر ما تحقق للإنسان المنفعة في حياته العملية، حيث ربطوها بالميكيافيلية التي تقول أن الغاية تبرر الوسيلة، لولا ظهور جماعة من الإصلاحيين المسلمين ومفكرين إسلاميين الذين تطرقوا الى مفهوم البراغماتية في الإسلام وراحوا بفكرهم ينشرون الوعي في الوسط الإسلامي محددين واجب الفرد والجماعة داخل المجتمع الإسلامي وعملوا بمقولة " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" أرادوا أن يحققوا المعادلة بين الوسيلة والغاية، وما الصراع الدائر حاليا بين الأصوليين والعقلانيين التنويريين وفي مجال الخطاب الديني لدليل على أن هناك حرب حول الثابت والمتغير وبين المقدس والمدنس.

***

علجية عيش

سعيد حوا أنموذجاً

تُعْرَفُ السلفيّة في سياقها الفكريّ العام، بأنها منهج فكري يدعو إلى فهم النص المقدس، (الكتاب والسنة)، وفقاً لما فهمه سلف الأمّة في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى، وهم صحابة النبي الكرام، والتابعون، وتابعوا التابعين، باعتبارهم يمثلون نهج الإسلام الصحيح، وهذا الفهم لمصطلح السلفيّة، تبنته القوى الإسلاميّة السياسيّة الجهاديّة ممثلة بعدد كبير من الفصائل والأحزاب الإسلامية المعاصرة كالإخوان وداعش والنصرة وجند الشام والقاعدة وبوكو حرام، وغيرهم ممن ظهر على الساحة العربيّة والإسلاميّة، وخاصة مع ما سمي بثورات الربيع العربيّ بشكل خاص، أو قبل هذه الثورات بشكل عام.

إن ما يهمنا في الحقيقة في هذه الدراسة هو تسليط الضوء بشكل أوليّ على الخطاب الإسلاميّ السياسيّ كما يطرحه "الإخوان المسلمون" عبر منظري دولتهم المنشودة وأخص بالذات هنا أحد المنظرين الجهاديين للحاكميّة "سعيد حوا" في كتابه "الإسلام". الذي حدد فيه المنطلقات الأساس التي يجب على المسلمين اتباعها لتحقيق دولة الإسلام المثلى وهي:

1- لكي يستقيم أمر الإسلام، لا بد له من حكومة تقيه وترعاه وتحميه. أي لا بد له من إطار سياسي وعملي تمثله هنا الدولة.

فالحكومة أو الدولة، ضرورة حتميّة من أجل حفظ العقيدة وحمايتها من عبث العابثين ولهو اللاهين المارقين وشبه الكافرين. أي هي حكومة ذات توجه واحد هو الإسلام الذي لا يقبل بالمختلف، الذي يعتبر هنا كافراً أو زنديقاً أو منحرفاً أو غير ذلك من صفات لا تليق بأنموذج المسلم الذي سيقود هذه الدولة.

2- والحكومة ضروريّة لإقامة حكم الردة على المرتدين. أي (من بدل دينه فاقتلوه). أخرجه البخاري. فسرير بروكست، (1) والمقصلة هي الحل أمام من يبدل دينه، فلا رأي ولا عقيدة غير رأي الإسلام وعقيدته وفق فهم الحوا.

3- والحكومة ضرورة أيضاً من أجل إقامة العبادات، فالكسالى عن الصلاة يؤدبون. والممتنعون عن الزكاة يغرمون ويعزرون، وتاركي الصيام يعاقبون، والمقصرون عن الحج وهو باستطاعتهم يزجرون. وهي بهذا المعنى حكومة (مطاوعة)، لمسنا تطبيقاتها العملية وفق هذا التصور في دولة داعش التي امتدت إلى مناطق كثيرة في سوريّة والعراق، وقبلها في السعوديّة قبل انقلاب محمد بن سلمان على الفكر الوهابي.

4- والدولة الإسلاميّة ضرورة لحفظ الأرواح (كتب عليكم القصاص في القتلى) البقرة 178. (ولكم في القصاص حياة يا ألي الألباب لعلكم تتقون.) البقرة 179. فالقصاص هنا أو الحسبة، أمر يُشرع الحكم فيه وفقاً لقيم وأخلاق ومثل القرون الهجريّة الثلاثة الأولى، دون مراعاة لخصوصيات العصر وحالات التطور والتبدل التي أصابت المجتمع.

وهي ضرورة لحفظ أعراض الناس (الزاني والزانيّة فاجلدوا كل واحد منهم مئة جلدة). النور- 2. والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة). النور – 4.

وهي ضرورة لحفظ الأموال (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل). البقرة 188. وأعتقد هنا أن أكل الأموال يأتي من خلال حالات فرديّة كالسرقة وأكل مال اليتيم على سبيل المثال لا الحصر، وليس على مبدأ النظر في تناقضات المجتمع والصراعات الطبقيّة التي تدور بين استغلال المالك للمنتج.

5- وهي ضرورة لإقامة الجهاد (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدو فيكم غلظة). التوبة – 123. وهذا الفهم في الجهاد سيشمل الذين جئنا عليهم وفقاً للبند أعلاه. وهم العابثون واللاهون والمارقون وشبه الكافرين. هذا إضافة إلى حمل مشروع الجهاد الذي مثلته مرحلة نشر الإسلام في مراحله الأولى أو ما سمي بالفتوحات الإسلاميّة.

6- وهي ضرورة كي تكون كلمة الله هي العليا. فإن الإسلام مالم تكن له حكومة تحمله وتحميه يكون ذليلاً، والنفوس تجد الانطلاق والانفلات إلى كل شهوة وهوى : (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.). (المؤمنون – 71.). فلا بد إذن من حكومة تصرف الناس عن الهوى إلى الاستقامة. وقديماً قال الخليفة عثمان: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).

هذا ويأتي الإسلام عند "سعيد حوا" هو الصورة الوحيدة للتقدم البشري في كل زمان ومكان. وغير المسلم لا يؤتمن على حريّة العقيدة، ولا يؤتمن على العدل، ولا قانون ولا حق ولا مصلحة. (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). المنافقين – 8. (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). 139. (2).

إذاً بناءً على ما حدده " سعيد حوا" من معطيات جئنا عليها أعلاه، ترمي إلى ضرورة بناء الدولة الإسلاميّة المعاصرة، نستنتج مجموعة من السمات والخصائص التالية المتعلقة بهذه الدولة المنشودة إذا ما قامت، أهمها:

1- انحسار العقل عند من يتبنى إقامة هذه الدولة، عما كان عليه في الحركة الاصلاحيّة الأولى التي اشتغل عليها "الأفغاني" و"محمد عبده"، وتركيزهم على أهمية الايمان والتسليم المطلق قبل استخدام العقل والبحث عن الحقيقة، مما يجعل هذه القوى الدينيّة السياسيّة ذات توجه استسلاميّ وثوقيّ، أكثر منه توجه عقلانيّ نقدي، كون توجهاتهم الدينيّة تبدأ من الايمان كمسلمة لا تقبل النقاش والحوار حول العقيدة المطلقة الصحة وقداستها. وهذا التوجه الفكري والسلوكي ساهم كثيراً في سيادة العاطفة والتعصب وضيق الأفق والتصلب في الرأي، ورفض الحوار مع المختلف.

2- تبني فكرة "الحاكميّة لله" كأساس للدولة الإسلاميّة، وهذا التبني سيعمل بالضرورة على تقوض أنظمة الحكم القائمة على التشريع الوضعي أو بعضه، من حيث عدم شرعيّة وجودها، مع غياب فاضح عند هذه القوى لعمليّة بحث طبيعة النظم الحاكمة بحثاً موضوعيّاً، على اعتبار أن ليس كل ما في هذه الأنظمة هو من حكم الشيطان، وأن كل قوانينها المطبقة هي قوانين كفر، وأن المجتمع الذي يسير وفق هذه الأنظمة وقوانينها هو مجتمع الجاهليّة، وهذا ما رسمه "سيد قطب" أيضاً في عقليّة جماعة الإخوان، وكذلك "أبو الأعلى المودودي". علما أن في هذه الأنظمة الوضعيّة التي (كُفِّرَت) من قبل هذا التيار، فيها ما يتفق مع الشرع الإسلاميّ، وفيها ما يخالف الشرع، وهي الفكرة التي استخدمت كأهم معول في قتل أو اغتيال الكثير من القادة السياسيين المنتمين لهذه الأنظمة الوضعيّة الحاكمة على مستوى الساحة العربيّة والإسلاميّة من قبل الجناح العسكري لهذه القوى الإسلاميّة المتعصبة.

3- إقامة الدولة الإسلاميّة وتطبيق الشريعة الإسلاميّة كما تفهمها نخب هذه القوى الإسلاميّة الوثوقيّة، تنفيذاً لقانون إلهيّ وطاعة للإرادة الإلهيّة، دون إبراز لمصلحة الجماعة أو العامة (أي الشعب) الذي هو أساس التشريع. ودون النظر إلى الأضرار التي قد تنجم عن هذا التطبيق في المجتمعات المعاصرة، إذا ما كان تطبيقاً فورياً صوريّاً مفروضاً دون تهيئة الظروف الملائمة له والإعداد الصحيح لذلك. وهذا ما أوقع أصحاب هذا التيار في إشكالات تطبيقيّة انعكست سلباً على حياة الناس الذين راح معظمهم يتخذ موقفاً سلبياً من الدعوات الجهاديّة بشكل عام.

إن الشريعة الإسلاميّة وفق رؤيتهم الوثوقيّة الاستسلاميّة وتطبيقاتهم في بعض الدول التي وصلوا فيها إلى السلطة، كانت تعني (الحدود)، أي الحسبة أو تطبيق العقوبات، أي المحرمات دون المباحات، ومطالبة المسلم بواجباته قبل إعطائه حقوقه الطبيعيّة التي حددها لها النص المقدس نفسه، كحق الحياة والرأي، (تجربة داعش).

4- إحداث التغيير الاجتماعيّ من خلال إحداث انقلاب على السلطة القائمة والاستيلاء عليها عملاً بمقولة عثمان بن عفان: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). ودون الانتظار في التمهيد للدعوة والتبشير بها، وتثقيف الناس بأهدافها ومدى إيمانهم بأفكارها. لذلك جاءت الدعوة على رقاب الجماهير بدلاً من أن تأتي على اكتافهم. هذا وإن وجد حالات من التثقيف أو النشر الفكري بين من انضم لهذه لهذا التنظيم، فهو تثقيف يشتغل كثيراً على تكفير المختلف وليس البحث عن القواسم المشتركة معه. والعمود الفقري لهذه القواسم هي مقاصد الدين الخيرة التي نزل أو جاء هذا الدين من أجلها.

5- استخدام العنف في التغيير عن طريق الأجهزة السريّة والجهاديّة للتنظيم، وهذا ما ادخلها في صراع مع الدولة القائمة الوضعيّة.

6- الوقوع في جدل الكل أو لا شيء، فإما أن يُقبل النظام الإسلامي كله أو يرفض كله. أي رفض الدولة العمانيّة ككل.

7- طريقة تفكيرهم هذه أو سلوكياتهم، حولت أصحاب هذا التيار إلى قوى خارجة عن القانون بنظر الدولة الحديثة، حيث راحت تتبعهم الأجهزة العسكريّة والأمنيّة وتنكل بهم وتزج دعاتهم والناشطين منهم في السجون، وهذا ما أخاف الشعب من الإخوان أو الاقتراب منهم.

8- اتسام نظام الجماعة بالنظام الهرميّ، الذي يستخدم الطاعة المطلقة من القاعدة إلى القمة، وبذلك يكون النظام قد توجه توجها سلطوياً أوامرياً.

9– رغم عداء الجماعة للاستعمار الغربي، وللنظام الشيوعيّ او الاشتراكي أو القومي، إلا أنها راحت في فكرها وممارساتها ضحية التصور الرأسماليّ للعالم، حيث ركزت على اقتصاد السوق والتجارة والربحيّة والملكيّة. فهو كله رزق من عند الله يعطيه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء وطبقاً للجهد. وقد اتخذوا من الصحابة قدوة في العمل التجاري كعثمان بن عفان وغيره من أغنياء قريش قبل الإسلام وبعده. (3).

إن كل هذه التوجهات الفكريّة للخطاب السياسي الإسلامي السياسي، عبر عنها حسن البنا في هذه النقاط الثلاثة الأساسيّة وهي:

آ- إن الإسلام نظام شامل يطور نفسه بنفسه تلقائياً. والإسلام هو الطريق الأساس والنهائي للحياة بكل مجالاتها المختلفة.

ب- إن الإسلام ينبثق ويرتكز على مصدرين هما : القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة.

ج- الإسلام صالح للتطبيق في كل زمان ومكان، أي هو أيديولوجيا شاملة يقدم نظاماً قادراً تماماً على تنظيم كافة تفاصل الحياة السياسيّة. (4).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية.

......................

الهومش:

1- بروكرست: شخصية من المثيلوجيا اليونانيّة، كان يعمل حداداً وقاطع طريق من أتيكا، وكان يهاجم الناس ويقوم بمط أجسداهم أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوال أجسامهم مع سريره حديدي. ويطلق عادة لفظ البروكرستية، كنزعة فكرية وعمليّة على الذين «يفرضون قوالب جاهزة» على الاشياء (الاشخاص أو الافكار..) أو ليّ الحقائق وتشويه المعطيات، لكي تتناسب قسراً مع مخطط ذهني مسبق هم رسموه. راج الويكيبيديا.

2- حوا – سعيد - (كتاب (الإسلام) - إصدار دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع - (ص 325 وما بعد.).

3- للاستزادة في هذا الاتجاه يراجع كتاب: حنفي - حسين – "الدين والثورة في مصر – الأصولية الإسلاميّة -1952 – 1981 –" مكتبة مدبولي- القاهرة –-ص33 وما بعد.

4- راجع دراستنا (قراءة نقدية في كتاب معالم في الطريق لسيد قطب.) نشرت في العديد من المواقع الالكترونية. منها صحيفة المثقف وساحة التحرير .

يعتبر التعليم مهنة من أشرف المهن التي يقوم بها الإنسان كما يعتبر رسالة مقدسة بقدسية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو القائل :”العلماء ورثة الأنبياء”، وما أشدّ ما يتعرّض له صاحب رسالة التعليم اليوم “المدرّس” من السخرية والاستحقار والتنكيل على يد القاصي والداني في كل ربوع الوطن العربي وهي وضعية مشكلة – بلغة فقهاء التربية – متداخلة العناصر والأركان منها ما صنعه ونسجه المدرّس لنفسه إما لأخطاء ارتكبها، أو تقصير اعتراه، أو جهل مارسه، أو انحراف طاله ….، ومنها ما هو مفترى عليه لا يعدو أن يكون من باب تصيّد الأخطاء ووضع الفخاخ وجهل بمكانة العلم والعلماء…، والمدرّس في الحالتين معا في قفص الاتهام لذا وجب عليه أن ينتبه إلى رسالته النبيلة وينقيها من شوائب نزواته وعثراته والارتقاء بها من الدركات السافلة إلى درجات عليا لا يرضى إلا بها.

قبل الغوص في الموضوع لابدّ أن أشير إلى أنّ عالمنا تغيّر بسرعة، فالتعليم التقليدي متجاوز في معظم مناهجه ومحتوياته. لهذا يجب على الأطر التربوية والإدارية أن تكون متمكّنة من مهامّها، والسياسة التعليمية يجب أن تعيد النظر في استراتيجياتها، فمصادر المعرفة أصبحت متعدّدة خلخلت كل ما هو تقليدي بما في ذلك المفهوم والممارسة للعلاقة البينية (مدرّس/متعلّم). الكل يجب أن يراجع معطياته، ويحين ويتعلّم الجديد أكثر بروح مرحة لتجاوز ضغوطات تدفّق المعطيات وكثرة المطالب التي يجب أن تضبط بالعقل.

نلاحظ أنّ ظاهرة العنف بين التلاميذ والأساتذة أصبحت منتشرة وبقوّة في المدارس، وهذا راجع لمجموعة أسباب منها:

1- سوء تربية الوالدين:

أكيد أنّ التربية لا تكتمل إلا بمؤسسة مدرسية، لكن أصل التربية هو الوالدين، فالأسرة هي القدوة الأولى للطفل، إن الطفل ومنذ ولادته يعتبر والديه القدوة الأولى له، والقدوة الصالحة من أهم الوسائل الفعالة في التربية الخلقية والدينية، ولها التأثير الكبير على الطفل، سواء في محيط عائلته أو في المدرسة وغير ذلك، والطفل يبحث دائمًا عن قدوة؛ ليتمثل بأخلاقه وصفاته. خصوصاً في مرحله الأولى يبحث عمّن يقلد أعماله وتصرفاته، فلا بد في هذه المرحلة من الحرص على الأخلاق، والتربية الدينية السوية في الطفل، وذلك بتقديم القدوات الصالحة للطفل.

2- المحيط الاجتماعي:

التحصيل الجيد لما يتلقونه المتعلمين من معارف واقفٌ على شروط عدّة تتعلق بالمحيط أيضا، سواء المحيط الذي يعيش فيه أو المحيط المدرسي، فعندما يتعرّض الطفل للعنف ويمارس عليه في الشارع، أكيد عندما يكبر سيقوم بنفس الشيء، لهذا فاستقرار البيئة وعدم اضطرابها من أهمّ الأسباب الوثيقة في تماسك شخصية الطفل وازدهار حياته.

3- الدولة:

ينبغي الإشارة إلى أنّ الدولة مسؤولة بجميع مؤسساتها العامة والخاصة وجميع ممثليها، لذلك مهمة الدولة يجب أن تنطبق على جميع مراحل التعليم والتربية، فالدولة قادرة على إصلاح التعليم والرقي به ولها الإمكانيات والقدرات والشرعية لتحديد المشروع المجتمعي الذي تنبني عليه استراتيجية العمل في كل المجالات وخاصة في مجال التربية. فساد المنظومة التربوية والتنشئة الاجتماعية لأبنائنا عامل محدّد في تفشي ظاهرة العنف المضاد داخل المؤسسات التعليمية، وهذا لا يختلف في شيء عن العنف اللفظي والجسدي الذي أصبحنا نشاهده داخل مؤسسات الدولة كالبرلمان والأحزاب السياسية، فالتعليم مرآة تعكس واقع المجتمع من جهة، والمجتمع نتاج لما أفرزه تراكم التجارب الفاشلة في حقل التربية والتعليم. أؤكدّ على أنّ فساد أجهزة الدولة من الأسباب الرئيسية فيما وصلنا إليه الآن.

4- تعاطي المخذّرات:

تعاطي التلميذ للمخدرات زاد من إمكانية تعرّض أستاذه للعنف، يعتقد الكثير من الشباب أن تعاطي المخدرات يساهم في نسيان مشاكلهم وظروفهم أو في تنشيط الذاكرة ومساعدتهم على التحصيل الدراسي، ولكن هذا الاعتقاد خاطئ، لأن الاستمرار في تعاطي المخدرات يؤثر على التحصيل الدراسي ويسبب عدم القدرة على التركيز والإدراك، فيتولّد الشعور بالامبالاة  وعدم الاهتمام بالدراسة، مما يؤدي إلى تراجع المستوى الدراسي وخلق صراعات بين التلميذ والأستاذ.

5- وسائل الاتصال والتواصل:

بما أنّ التكنولوجيا الحديثة تعدّ من أهم العوامل المؤثرة على حياة الإنسان في عصرنا الحالي ، فقد أثّرت على  التحصيل الدراسي للتلاميذ كما أثّرت على سلوكاتهم وأخلاقهم وتربيتهم، ، لقد شغلت أكبر مساحة من الوقت في حياة التلميذ ، وزاحمت محيطه الأسري والمدرسي، ولازمت تفاصيل حياته الخاصة والعامة، ونحن نعلم بمحتوى ما يبث في قنواتنا التلفزيونية، ونعلم بمحتوى الفيديوهات المتصدر لعدد المشاهدات في مواقع التواصل الاجتماعي، أليس هذا سببا من أسباب تغيّر شخصية التلميذ من شخصية سلمية إلى شخصية عنيفة؟ !

6- المدرّس (الأستاذ):

من الأخطاء القاتلة التي قد يرتكبها المدرس اليوم (المدرس هنا ليس في عموميته) التكبر والتعالي على تلاميذه إذ يصنع لنفسه هالة تحيط به لا يفارقها ولا يغادرها ولو فكر قليلا لوجدها هي سبب جل مشاكله مع تلاميذه إن لم يكن كلها، فالنفس الإنسانية عامة ترفض المتكبر فبالأحرى المتكبر العالم، والمتعلم في هذا الوضع ينفر نفورا شديدا من هذا النوع من المدرسين ولا يتحمس للأخذ عنهم والاستماع إليهم والاستمتاع بما لديهم .

ومن أمثلة هذا التكبر نذكر طرق التعامل مع جماعة الفصل حيث يمارس المدرس أولى درجات وعلامات التكبر دون وعي منه أحيانا وذلك بعدم الاستئذان وقول السلام أثناء الدخول إلى الفصل ، والأمر على بساطته إلا أنه يكون مدعاة للانتباه والتساؤل من مجموعة من المتعلمين ،وقوله السلام من عدمها لا يمكن أن تحدد قيمة المدرس في عين التلميذ أبدا ولا تشكل أي نقص. يليها تكبر المعرفة المقترن بطرح المتعلمين لبعض الأسئلة التي أشكلت عليهم على المدرس الذي قد تعوزه الإجابة فيحول المتعلم إلى متهم لا سائل عن المعرفة، لتخرج إجابات على لسان المدرّس دون تخطيط مسبق أو وعي بها (أنت فقط الزم الصمت، ابحث أنت ،الالتفاف والهروب إلى موضوع أخر.. وزد عليها من أشكال التكبر).

والمدرّس الناجح هو الذي يسلك طريق الحلم والصبر في معاملته لمتعلميه، فيعترف بنقصهم ويفهم أنهم على أمزجة مختلفة ،ومستوياتهم في الفهم والإدراك متفاوتة وهم على كيانات مستقلة واستعداداتهم تتراوح بين الهمة تارة والخمول أخرى، وما ينتابه هو كانسان بين الفينة والأخرى يصيب هؤلاء التلاميذ، فلا داعي للوقوف عند كل كبيرة وصغيرة، والعيش في تفاصيل الأحداث الهامشية والجانبية .

المدرّس الذي يقدّر علاقته بتلاميذه ويبني معهم علاقة محبّة ويحسن التواصل مع جميع أصناف التلاميذ ويتجنّب العنف ويقدّر ظروفهم، لن يتعرّض للعنف أبدا سواء الجسدي أو اللفظي، ولن يرى منهم حتى ذاك الشغب والضجيج داخل الفصل.

إذن يبقى سرّ نجاح قيادة الفصل هو اعتماد المدرس على التواصل وطرائقه المختلفة والتقدير والاحترام وتجاوز قصور المتعلمين الأخلاقي وإدارة الفصل إدارة حكيمة فيها من التوازن النفسي ما يخدم المدرس والمتعلم معا. فمهارة التواصل من المهارات التي تحقق فيها إجماع كل الفاعلين في الحقل التربوي.  فمن الصفات التي تجعل الأستاذ عظيما في فصله هي التواصل ومهاراته، والاستماع الجيد للمتعلمين، وعمق المعرفة لدى المدرس والقدرة على تطوير العلاقات مع المتعلمين والقرب منهم والإعداد والتنظيم وحسن المظهر…وغيرها.

ونخلص أخيرا إلى أن مهنة التدريس مهنة راقية برقي أصحابها وسامية بسمو أخلاقهم. بها تبنى المجتمعات وعلى أساسها نعد الأفراد لتحمل المسؤوليات، ولا يمكن حصرها في صفتين أو ثلاثة صفات وانتهى الأمر، بل العكس فهي جامعة لكل صفة جميلة خيرة ودافعة لكل صفة ذميمة شريرة. تكتمل مهنة المدرس والتدريس باكتمال المحاسن والأخلاق، فالتدريس لا يستقيم دون إخلاص وتقوى لله عز وجل وتجنب النفاق والرياء، واعتماد الوضوح والتعاون وحب الخير لكل متعلم ساع إلى طلب العلم وتحقيق العدل بين المتعلمين وإنصافهم بغض النظر عن سلوكياتهم وتصرفاتهم.

***

بقلم: ذ. فؤاد لوطة

محوت الموت من خارطة الوجود بكلماتك يا حسين، لن أبايع، مثلي لا يبايع، البيعة كلمة، لن أقولها، أنه الحسين "ع" أستشهد ومعه أهل بيته، لن أعلن موت دين جدي ببيعتك يا أبن الدعي، أستشهد بعد غدر أهل الشجاعة له، موطأ قدم الخلافة الراشدية في الكوفة، سقط الحسين جسدًا، وأرتفع فكرًا هز الوجود الإسلامي في مطلع العقد السادس الهجري، منحى جديد في الاسلام المحمدي مقابل الإسلام الاموي، مات الحسين "ع" وأعيد فكر من الاصالة كاد طغاة الوراثة أن يعلنوا موته.

نتساءل ويتساءل معنا العقلاء من عرف الدعوة الإسلامية، هل أن الدين الإسلامي هو دين محمد؟ أم دين غيره ممن رفضوه وشتموا محمد ودعوته في مكة، أنهم قتلوا الحسين بأسم من شتم محمد، وحارب محمد، وحارب دعوته، هل تستقيم الدعوة بقتل حسين؟ لا يمكن أن تقوم أو تستمر، وإن نمت وكبرت ولم تنضج ولكن إنهارت فكان الرفض عبر التاريخ ثأرًا من أل بيت النبي، بمقتل الإمام الحسين حفيد النبي، ولن تكون الدمعة إلا لغة رفض لواقعة كربلاء ومأساة الطف، إذن للدمعة لغة حزن، ولو بعد قرون وتستمر اللغة بكل عام معلنة بلسان عربي وأعجمي.

 أتفق الكل أن يُعبر بذكرى مقتل فكر دين محمد، مقتل أبن فاطمة بنت النبي محمد، وأبن رابع الخلفاء الراشدين كما دون لنا التاريخ تسلسل الخلفاء الراشدين بعد محمد"ص" بلغة خاصة، واللغة هي مفتاح التواصل بين البشر، الدمع لغة، والآهات لغة، والكلام لغة، والحزن لغة، النوح لغة، وحركة الأجساد في حضرة الذكرى الحسينية هي الأخرى لغة أيضًا.. ما أصعب أن تتحول اللغة للتعبير عن ماساة في واقعة الطف في كربلاء.. أنه الحسين صاحب الكلمة، لن أقولها، ولم اقولها بلغة من لسان عربي هاشمي، لسان حفيد النبي محمد "ص"، فاللغة كلمة، ودمعة، وحركة جسد، ونياح، وآهات عبر التاريخ تشعل في الذي قتل الحسين عودة طبيعيه لعدائية لسلالة الحسين من بعده.. وهي عودة المبكوت.  

قُتل الحسين"ع" ولن يقول من بايع محمد وبايع آل بيته، أية معجزة تأتي بمقتل حسينًا، وأي دعاءٍ ملهوف بالمغفرة، وهل للبكاء لغة، أم هل للطم لغة، أم هل للحزن لغة؟ نعم أن للدمعة لغة، وللحزن لغة، وللطم لغة، لغة رفض مهما جار الطغاة، وفسد الساسة من الشيعة في إدارة دولة أموية بأسم الحسين.

واقعة الطف تعود ذكراها كل عام بمقتل الإمام الحسين "ع" وعيٌ لكل العصور ضد الطغاة، في كل مكان وزمان، كما زمجر الصوت من أعالي السماء ضد يزيد، قُلت ما أردت قوله يا حسين، أنك لن تبيع القضية، ولن تقول أبايع أبن الزانية، وإن جب الإسلام ما سبقه، لكن ظلت في دواخلهم كل معاني الجاهلية، وإشعار الأخرين بالدونية، وتقليل شأن بني هاشم بيت النبوة من الرسالة والنبوة، فهان عليهم أن تكون النبوة والسيادة في بيت محمد، فقتل الحسين كأنه كبش فداء لما جاء به محمد "ص" وعنفوان علي"ع" وكبرياء فاطمة"ع" أن يعود أكبر مقاتل في الفتوحات الإسلامية" وهو الحسين" ليعيد الوعي الجمعي لأمة غرر بهم طغيان أبا سفيان وساسة بني أمية، فكان الحسين"ع" يأمل أن يعيد الوعي الجمعي لدى هذه الأمة، أمة محمد" ص" لا أمة بني أمية، أمة الفتوحات ونشر الأصالة في الدين الإسلامي، لا الدين المزيف بتعاليم أل سفيان ومعاوية.. وهل نسى من أمن بمحمد وبرسالته والخلفاء من بعده وأخرهم علي بن أبي طالب "ع" بأن يرفض سليل أمية " معاوية" وشيطانها الأكبر ولاية علي بن أبي طالب؟. أية دعوة على الحسين "ع" أن يقول كلمة بلغة يعلنها بمبايعة دعي وخارج عن الإسلام في الخفاء والعلن، أقصد يزيد.

عرف سابقًا في تاريخ الأمم والحضارات فكرة توريث الروح، وتقوم على فكرة عند الأخذ بالرأي القائل إنه في قديم الأزمان كانت الملوك عند الأعراق الهمجية والبربرية أن لا تنقرض العائلة المالكة يكون تنصيب رجل لديه بُعد نظر نحو المستقبل وإدارة الدولة، ولكن لم نجد ذلك في توريث يزيد للدولة التي أسسها معاوية ضد الدولة الراشدية عنوة وبالأخص خلال تولي علي بن أبي طالب "ع" في الخلافة الراشدية.  

الإمام الحسين "ع" مطلق في الوجود فكرًا ونسبُا وتاريخًا، أليس هو حفيد محمد"ص" النبي الرسول وخاتم الأنبياء، آمن به الأولون بصدق، وأمن به نفرٌ من الرجال بعد فتح مكة غصبًا وعنوة، فردوا هذا الإيمان المزيف بمقتل إبن بنته وعزيزه، وأقرب أحفاده له محبة ومودة، أبن فاطمة "ع"، قتله من دخل الإسلام لا حبًا بالإسلام، ولا إيمانًا بالإسلام، بل مرغمًا، وكأنها صاعقة من ألهة قريش التي يعبدونها ويبيعونها كوهم مقدس للتجارة والسمسرة ومحطة للاستراحة لتجار الجزيرة من شمالها إلى جنوبها لليمن السعيد آنذاك، قتلوا الحسين نكاية بإجباهم دخول الإسلام، ونكاية بمحمد لأنه النبي المختار على كل تلك الاقوام والملل والنحل، رغم الحضارات التي بها أباطرة وملوك وتجار وأسياد.

الإمام الحسين "ع" كبش الفداء لدين محمد "ص" " عودة المكبوت عند بني أمية:

عُرف في الحضارات القديمة منذ الأزل بأن كبش الفداء يكون نحر حيوانًا لقضية مقدسة تعارفت عليها المجتمعات والشعوب والاقوام، ولكن لم يألف في التاريخ أن ينحر قائد من قادة المسلمين وأبن بنت النبي محمد "ص" أمام أهله ضحية لا ندري هي ضحية آلهية لبني آمية، أم قربانًا عَدوهُ لمن رفض دعوة محمد منذ بداياتها وحتى فتح مكة، ونعيد ونقول إن الإسلام يَجُبُ ما قبله.. والله أعلم !! وهل له أن يقدم بنت فاطمة بنت النبي محمد قربانًا لألهة بني أمية، وهو في الحقيقة تعبير رمزي عميق لما يدور في النفس الإنسانية وما عُلق في اللاشعور – اللاوعي الجمعي لدى بني أمية، فقتل الحسين بن علي بن أبي طالب "ع" أبن فاطمة بنت محمد نبي الإسلام، هو عودة المكبوت في لاشعور – لاوعي بني أمية الجمعي، وفي فكر حاكم بني أمية الجديد يزيد بن معاوية. واللاشعور – اللاوعي هو ما كبت في داخل النفس ربما كبتًا عميقًا، لو أنه كبتًا ثانويًا لاستعاد المكبوت عافيته بعد نضال مع النفس وجهاد ضد نزواته في المتعه والسلطة والمال وكل ما يؤذي معتقده، أو يسبب له إيلامًا في نفسه، وربما يشكل صراع غير منتهي.

عاش بني أمية في صراع مستمر منذ بدء محمد "ص" دعوته للإسلام في تغيير مجتمع بدوي جاهلي متعصب إلى مجتمع يسمو إلى الإنسانية، لكن قوة الدفعات ضد التجديد في المجتمع السائد آنذاك كانت أقوى لدى بني أمية بالأخص لأنهم يعتقدون أنهم أسياد قريش، وأسياد العرب، فظلت لغة التكبر والعنفوان هي السائدة لديهم، لغة السيد أو الأخ الكبير على جميع القبائل في الجزيرة العربية، ولأن الحسين هو روح النبي محمد وفكره الأصيل وسليله، فخافت بني أمية من روحه التي قد تسبب لهم أنتقامًا شديدًا لا طاقة لهم بها، فمارسوا ضد سليل النبوة نسبًا وخلقًا وتاريخًا، وهم "بني آمية" الذين لا ينتسبون للإسلام إلا مظهرًا فقط، فكيف يعود سليل من أحدث لهم كبتًا مزمنًا في لاشعورهم – لاوعيهم الجمعي مرة أخرى.

عندما نصب يزيد خليفة بعد معاوية نصب في موقع العبادة" أمير المؤمنين"، أسقطت عنه كل مخاوف "فوبيا – رهاب مرضي" بني آمية التي عاشوها خلال عقود حياة النبي محمد"ص" وإنتشار دعوته وأصبح المسلمين كثرة كاثرة لا قلة منزوية، وبدلًا من أن يصبح هو الرمز لهذه الامة ظلت دواخله تصرخ "لاشعوره" يئن من بني هاشم آل بيت النبوة، فأعلن الحسين نفسه رمزًا لدين محمد جده أبن بنته فاطمة، فكيف يكون الرمز المزيف "يزيد" الذي يحتمي به المتملقين ومن آمن برسالة محمد اسقاطًا لفرض في تغيير دينهم من الوثنية ومشاركة في بنية المجتمع، وبنفس الوقت أعطاه التنصيب قدرة وسلطة مطلقة يستطيع أن يفعل بلا حوار ما يريد مثل القتل " الحسين بن علي بن أبي طالب مثالًا"، التنكيل بأوائل من آمن بدعوة محمد "ص" وحفظة القرآن، التعذيب حتى الموت "عبد الله بن الزبير إنموذجًا"، لو تأملنا في كل تلك من جوانبها النفسية المعمقة لوجدنا أن مركب الخوف من أصالة الدعوة الإسلامية ورمزها الجديد "الحسين بن علي بن أبي طالب" هو الأساس في كل ما حدث، فهو صراع قبل وفاق، أعني قبل الإيمان بدعوة محمد للإسلام، وصراع بعد وفاق، بعد مقتل الإمام الحسين "ع" وهو صراع جمعي عند بني أمية ومن جاء بعدهم للحكم بأسم محمد، ورهاب "فوبيا" مزمن من آل بيت النبوة وسلالة محمد"ص".  

***

د. اسعد الامارة

تمر بنا ذكرى واقعة الطف الأليمة ونحن نعيش حالة من الفوضى في مجالات الحياة الشخصية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وليس للفوضى هدف تبلغه، بينما للنهضة هدفها الذي بدأت خطوات تحقيقه على ارض الواقع من خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة حتى وصوله الى طف كربلاء يوم العاشر من محرم، لذلك أحاول في أجواء هذه الفاجعة الأليمة أن أقدّم قراءة جديدة لعلنا نستفيد منها في توجيه واقعنا الفوضوي وجهة قد نصل بها الى ما نبتغي .

من يوم العاشر من محرم والى يومنا هذا تصلنا رسائل الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره عبر التاريخ الذي أراه أدّى دوره في توثيق وحفظ الأحداث ونقلها إلينا.

 كما أرى إن الأدب في فنونه المنوعة قد أدّى دوره في وصف أحداث النهضة وشخوصها والتعبير عنها شعرا ونثرا وبلاغة وإعلاماً، فكتب التاريخ وكتب الأدب حافلة بكثير من الإسهامات القيمة لكتاب وشعراء وأدباء ومؤرخين من مختلف الثقافات والاتجاهات والمعتقدات، جمعهم حول الحسين بعد نهضته الإنساني، رأيت كباحث في علم الإنسان أن انظر إلى أحداث تلك الواقعة بعيون الواقع الذي نعيشه اليوم وأتساءل هل هذا كل ما نريده من ثقافتنا كمسلمين بحق الحسين عليه السلام وتلك النهضة العظيمة وذلك اليوم الموعود؟

مفهوم الثقافة ..

قبل أن استرسل في البحث أقف عند مفهوم الثقافة الذي يحتمل تعريفات عدة، فأقول إن الثقافة عندي هي وعي الواقع وفهم حركة الحياة فيه ودراسة الطريقة التي  يعيش بها الناس، فهي تصل الى حدود الوعي الإنساني، لذلك أرى إن صناعة الوعي هي الرسالة الحسينية المعاصرة التي علينا أن نقرأها ونشتغل عليها اليوم خصوصاً في المرحلة التي يمر فيها المجتمع بثنائية التغيير والثبات..

التغيير والثبات ..

يرى علماء الاجتماع وعلماء الإنسان ان التغيير صفة طبيعية في كل مجتمع، لا يختلف مجتمع عن آخر في التغيير، إنما الاختلاف في درجات التغيير، فنحن كمجتمع إسلامي نرجو من عملية التغيير الإرتقاء بمنظومة الفرد والمجتمع وتطويرها ثقافياً وإقتصادياً وإجتماعياً وعمرانياً في إطار المشروع الإسلامي الثقافي الحضاري، وهنا أتساءل ما هو تقييمنا لحركة التغيير في المجتمع اليوم هل تتم في إطار المشروع الإسلامي الثقافي الحضاري؟

الأمر الثاني هو الثبات على القيم والمثل العليا التي لا تتضح في العربي المسلم معالم شخصيته بعيداً عنها والتي توافق عليها العرف الإجتماعي والدين، فصارت جزءاً أصيلاً في ذات الشخص، فهل يتفق الثبات مع التغيير الحاصل في المجتمع؟

ثمار الوعي الأولى ..

إذا أخذنا بنظر الإعتبار ان الظروف الزمانية والمكانية والبيئة تدخل عاملاً مهماً مؤثراً في جوانب الشخصية العقلية والسلوكية والعاطفية والنفسية فإنها تدفع بالإنسان إلى أحد اتجاهين:

الإتجاه الأول هو الإستسلام للواقع وقبوله بما فيه من دون الأخذ في نظر الإعتيار إن كان صحيحاً أم خطأ وإن كان على خط القيم والمثل العليا أم منحرفاً عنها .

الإتجاه الثاني هو رفض الواقع والإنقلاب عليه لتغييره الى ما ينبغي ان يكون ..

في التاريخ شواهد كثيرة على هذين الإتجاهين، تذكر كتب التاريخ والمصادر ان الإمام الحسين كتب الى  عدد من زعماء البصرة ممن كانوا على خط الإمام علي عليه السلام يوضح لهم خطورة الوضع الذي يمر به المجتمع ويدعوهم الى نصرته والوقوف معه لتغيير ذلك الواقع  ..

اختلفت درجات تفاعل الزعماء، فمنهم من لبّى الدعوة مسرعاً وهو عبد الله بن مسعود النهشلي، ومنهم الأحنف بن قيس الذي دعا الحسين الى التريث والصبر  ومنهم المنذر بن جارود العبدي الذي أمسك بيد رسول الحسين وسلمه الى عبيد بن زياد الذي كان والياً على البصرة حينها فأمر بقتل رسول الحسين ..

بالمقابل حفظ لنا التاريخ مواقف في الإتجاه المعاكس، فقد ذكرت المصادر ان رسول عمر بن سعد طلب الإذن بالدخول على الحسين عليه السلام فلما تم له ذلك قبّل يد الإمام ورجله وطلب الإلتحاق بمعسكره فقاتل حتى الموت، وكان حبشة بن قيس مقاتلاً في معسكر يزيد، انقلب الى معسكر الحسين عليه السلام واستشهد في الجولة الاولى، موقف بطولي آخر لأبي الحتوف واخيه سعد وهما من الخوارج لحقا بالمعركة بعد سماعهما نداء الحسين هل من ناصر ينصرنا فقاتلا دونه حتى قتلا ..

هؤلاء وآخرون معهم يمثلون الثمار الأولى للوعي الذي دعا اليه الحسين في نهضته والذي نراه ضرورة ملحة نحتاجها اليوم، لذلك ادعو خطباء المنبر الحسيني الى أن يسلطوا الأضواء على هذه الأسماء التي كثيراً ما يغيب ذكرها خلال الحديث عن أجواء وأحداث وظروف تلك الواقعة .

كيف تتم صناعة الوعي؟..

الوعي كما يعرّفونه في ابسط صوره هو الاحساس بالوجود الداخلي والوجود الخارجي، هو اليقظة المستمرة في حياة الإنسان، هو عكس الغفلة.

في محاضرة له، يقول السيد محمد باقر الصدر "ومجرد اننا نحب الحسين ومجرد اننا نزور الإمام الحسين ومجرد اننا نبكي على الإمام الحسين مجرد اننا نمشي الى زيارة الامام الحسين كل هذا شيء عظيم شيء جيد ممتاز شيء راجح لكن هذا الشيء الراجح لا يكفي ضماناً ودليلاً لكي يثبت اننا لا نساهم في قتل الإمام الحسين، يجب ان نحاسب أنفسنا، يجب ان  نعيش موقفنا بدرجة اكبر من التدبر والعمق والاحاطة والانفتاح على كل المضاعفات والملابسات لكي نتأكد من اننا لا نمارس من قريب او بعيد بشكل مباشر او بشكل غير مباشر قتل الامام الحسين عليه الصلاة والسلام"

تلك هي أجواء صناعة الوعي التي تبدأ بمرحلة الإستفهامات: لماذا وكيف ومتى وأين وما السبب، ثم تليها مرحلة  البحث عن إجابات، وقد يقتصر بعضهم على إجابة معينة وهو بذلك لا يستمر في صناعة الوعي، المطلوب هو مواصلة طرح الإستفهامات والبحث عن أجوبة، من تنوع وكثرة الإجابات تأتي مرحلة الفرز والإختيار التي تبدأ عادة إنفعالية عاطفية عصبية وبعد فترة من المواصلة ينتقل الإنسان الى مرحلة التأمل والتفكير وهذه المرحلة تأخذه الى مزيد من الإطلاع والبحث والقراءة التي بمواصلتها تبدأ معالم صورة الجواب والسؤال تتضح اكثر، هكذا هي عملية صناعة الوعي التي أراها من أهم الصناعات التي علينا ان نشتغل عليها في هذه الفترة القلقة من عمر المجتمع الإنساني وهو يتعرض الى محاولات إدخاله في خطوط إنتاج مشاريع الإستثمار الإقتصادي الصناعي السياسي الثقافي وهي تسعى الى انتاج عالم من الأشياء والأرقام تحكمه لغة رقمية بتقنية عالية وسرعة فائقة ..

دور الحب في صناعة الوعي ..

الحب هو أول وأقوى مستلزمات نجاح صناعة الوعي، وهو موجود في قلوب مساحة كبيرة جداً من الناس حول العالم بحكم التكوين الفطري، وتحظى نهضة الحسين بنصيب وافر من نسبة هذا الحب وهذا واضح في مراسيم عاشوراء وأربعين الإمام الحسين عليه السلام  التي نرى فيها أناساً يكلفون أنفسهم فوق طاقتها أحياناً من أجل أن يعبّروا عن حبّهم للقضية الحسينية ومن أجل أن يشاركوا في إحياء هذه الذكرى الأليمة..

لكي لا يقتصر دورنا المعاصر في محرم على إثارة تلك المشاعر وإظهار درجة حبنا للقضية الحسينية، علينا أن ننّمي هذا الحب ونوظفه عبر صناعة الوعي ليتحول الى طاقة إيجابية كبيرة لا تنطفىء جذوتها بعد مرور وقت الذكرى، ولعلنا نلحظ كثيراً من الناس يشاركون في مواكب العزاء لكنهم لا يجدون في أنفسهم القدرة الكافية التي ينقلبون فيها على واقعهم فيغيرونه، أكثر الناس يتحركون في حياتهم تحت تأثير الظروف المحيطة بهم، هنا تأتي أهمية صناعة الوعي في مساعدة أولئك للإنتقال الى مرحلة أهم واكبر نحن بحاجة اليها اليوم لأن المفاهيم التي لا زلنا نتداولها منذ القدم وحتى اليوم بدأت تأخذ تعريفات جديدة قد لا تتوافق مع التعريفات التي عرفناها عنها، فالحب والعاطفة والعشق الحسيني يفهم اليوم على انه مشاعر تقررها منظومة الجسم البيولوجية والسيكولوجية ومن حق الإنسان إبداؤها وإظهارها وعلى الآخربن إحترامها ..

بدون الوعي يحتمل ان تتحول المقدسات الى أماكن تراثية تندرج ضمن السياحة الدينية التي توفر لزائريها جواً من راحة النفس وفرصة للإطلاع على الماضي، وللتبرك، والتقاط الصور للذكرى . ولأن الحسين  وسائر ائمة أهل بيت النبوة عليهم الصلاة والسلام قدموا من العطاء ما يجعلنا أمام مسؤولية ثقافية تحركنا لرفض النظر اليهم في حدود الزمان والمكان الذي بذلوا فيه ذلك العطاء ويدفعنا الى تفعيل ذلك العطاء وتلك التضحية في حياتنا اليوم وفي حياة كل جيل قادم ..

صناعة الوعي تقدم للإنسان توازنا في جوانب شخصيته العقلية والعاطفية والسلوكية والنفسية، بدون الوعي قد يقع الإنسان تحت تأثير قوة من القوى فينتج عنها موقفاً قد يبدو للبعض غريبا، ولعل هذا يتضح فيما قدمه بعض الباحثين في قراءاتهم للنهضة الحسينية  فالمستشرق الفرنسي سيدو رأى ان الحسين عليه السلام لم يكن شجاعاً كأبيه، ورأى ابن خلدون ان حركة الحسين تمت على ضوء ثنائية أهلية الحسين لمواجهة فسق يزيد وقدرته على تحقيق ذلك، فرأى ان الحسين عليه السلام اخطأ في تقدير الثانية لأن عصبية مضر كانت في قريش بينما عصبية عبد مناف كانت في بني أمية وهو ما يجعل رجاحة كفة بني امية واضحة لا تحتمل اي مجال لتغيير المعادلة على وفق الحساب المادي لمفهوم القوة ..

التقنية الرقمية بوصفها مصدراً للمعلومة ..

من دواعي الحاجة الى صناعة الوعي، دخول التقنية المتطورة على خط تزويد المستخدم بمصادر المعلومة والخبر، وهنا يواجه الإنسان حيرة في الإطمئنان الى المصادر، تقول الإحصاءات الحديثة ان الجيل الجديد بين 20 و30 عاماً يعتمدون اعتمادا كلياً على التقنية في الحصول على المعلومة واذا اخذنا بنظر الاعتبار ظهور تقنية التزييف العميق التي يخشى ان يسهم مستقبلها في تزييف التاريخ وتقديم حقائق مزيفة للأجيال القادمة التي ستظنها حقائق موثقة تناقلتها التقنية، كما حصل خلال فترة جائحة كورونا عندما روّجت بعض وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت ان مصادر وكتب قديمة ذكرت مرور البشرية بالوباء وجاءت على ذكر اسماء لمصادر ولمؤلفين اتضح انها وهمية لا وجود لها، واذا اخذنا في نظر الإعتبار آراء خبراء ومختصين في التقنية الحديثة قولهم ان ما يخشى عليه في المستقبل انه لن يكون بوسع الشخص التمييز بين ما هو حقيقي وما هو وهمي مما تعرضه هذه التقنية، فقد تجد أجيال المستقبل في المصادر الالكترونية ما يقدم لهم معلومات مغلوطة عن واقع النهضة الحسينية  ..

الحسين عليه السلام بين الأمس واليوم ..

من الأمور المهمة التي ينبغي اخذها بعين الإعتبار هي ان الحسين عليه السلام اليوم اصبح انتصاراً لا يحتمل الهزيمة بعد ان كان بالأمس انتصاراً من الممكن إحتمال هزيمته وعلى ذلك عملت القوة في المعسكر المعادي بكل جهدها لمنع الوعي الذي أراده الحسين في نهضته من أن يصل الى الناس وينتشر بينهم ، لأنها كانت نهضة شاملة لتصحيح الأخطاء من ظلم السلطة ومن تشويه فكري ومن تحريف عقائدي ومن تلويث أخلاقي ويؤكد ذلك قوله عليه السلام ( انما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) بعد أن تأكد للجميع فسق يزيد وذكر ذلك ابن خلدون في مقدمته، بهذا فإن مفهوم النهضة أشمل من مفهوم الثورة وإن كان بعضهم يستخدم إصطلاح الثورة عندما يتحدث عن حركة الحسين عليه السلام لكني أرى إن في إصطلاح النهضة مدى أوسع من الذي يحققه مفهوم الثورة، فقد يشتمل مفهوم الثورة على تغيير نظام حكم معين أو تغيير اسلوب معين أو تغيير سياسة معينة وفي فصول حياة مجتمعنا مشاهد كثيرة لثورات حصلت لكنها لم تصل الى ما وصلت اليه نهضة الحسين عليه السلام من نتائج، ولا اظنني ابتعد عن الصواب اذا قلت إن أغلب الثورات في العالم العربي والإسلامي قد فشلت أو انها حكمت على نفسها بالفشل بعد وصولها الى السلطة بسبب إعتماد القائمين عليها على طريقة التفكير القديمة التي ثاروا بها على السلطة، فكانت ثورتهم عبارة عن تغيير في الوجوه والمناصب لذا اعتقد ان صناعة الوعي ستتيح المجال لإعادة تفعيل البعد الثقافي كخطوة سابقة اساسية وكقاعدة تقوم عليها ثنائية التغيير في السياسة والاقتصاد لكي لا تضمن السلطة بقاءها على الرغم من وجود المعارضين والرافضين والساخطين .

الفهم المعاصر للسلطة ..

مفهوم السلطة اليوم لم يعد كما هو بالأمس فقد كان الحاكم والخليفة يمثل الدين والسياسة كونه خليفة الله في الارض   فكانت السلطة تمثل التفكير والتقرير وعندما صدر من حكومة يزيد ما يقبح وجه الدين والسياسة ويصادر كل فكرة خارج مصانعها اقتضت المرحلة مواجهتها منعا للتلوث والتشويش الذي يمكن أن يطال المجتمع بسبب ذلك الإنحراف خصوصا وان ذلك حصل بعد وقت قصير على وفاة نبي الأمة بحوالي خمسين سنة، اما  سلطة اليوم فلم تعد تمثل الدين وصارت تعنى بالسياسة والإدارة، فهي توفر الحماية لزائري الإمام الحسين وتحمي مواكب العزاء وتقيم مجلس عزاء يوم العاشر من محرم ومع ذلك لا يزال الناس يعيشون الظلم ويتطلعون الى نهضة حسينية معاصرة، وحول العالم صار بمقدور الشيعة ممارسة طقوسهم في العلن وبحماية السلطة فقد ظهرت مسيرات العزاء ومواكب الحزن في شوارع اوربا بحماية اجهزة أمن الدولة، مثلما يجري اليوم إهانة المقدسات بحماية أمن الدولة كما حصل في السويد مؤخراً حين أقدم أحدهم على حرق القران الكربم وبررت السلطات انه عمل يندرج ضمن حرية الرأي والتعبير التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 19 التي تعطي الإنسان حق الرأي وإبداء الرأي والتعبير والنشر والإعلام بكل الوسائل دون قيود، مثلما بررت سلطات الدانمارك والسلطات الفرنسية قبل سنين تلك الرسوم الكريكاتيرية المسيئة لشخص نبي الرحمة ..

لا اظنني ابتعد عن الصواب اذا قلت ان المراقب لمشهد الحياة في المجتمع العراقي خصوصا والعالمي اجمع طيلة اكثر من عقدين من الزمن منذ بداية القرن الحادي والعشرين سيلحظ ان هناك مشاريع تحول دون توفر شروط ثقافية ودينية وسياسية واقتصادية امنة، وهذا ما يحفز فينا المضي في مشروع صناعة الوعي في المجتمع لاعادة توفير هذه الشروط الامنة ..

 لقد تغيرت المعادلة ولم تعد "لا" التي اطلقها الحسين عليه السلام بوجه فسق يزيد تفهم بالطريقة ذاتها، فاليوم يكفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حرية إبداء الرأي والمعتقد ونشر الأفكار وبالطريقة التي يراها دون قيود أو ضوابط، وما دام الوضع الإنساني عالميا لا يزال مصدر قلق فإن صناعة الوعي تكفل فهما جديدا لهذه المتغيرات بأن مشاريع جديدة يراد لها ان تمر على الناس دون ان تترك انطباعا سيئا فيهم يمكن ان يحفزهم لمواجهة الوضع القائم ..

 لقد صار من حق كل مواطن ان يقول " لا "  وان يمتنع عن التصويت في الإنتخابات لكن قد لا يعيق رفضه وصول الفاشلين الى السلطة .

الحاجة الى التجديد في الخطاب الديني ..

ادى المنبر الحسيني دورا بالغ الأهمية في فترة كان محضوراً فيها على الناس صناعة الوعي لذا اعتمد المنبر على المادة الاساسية لصناعة الوعي وهي الحب والعاطفة وعمل على تحديثها باستمرار لكي تكون جاهزة وقت الطلب لإنجاح مشروع صناعة الوعي لذلك ينبغي على المنبر ان لا يقف عند مرحلة النعي وعليه ان يتحرك بخطابه للوصول الى مرحلة الوعي ويتم ذلك عن طريق تدريب المتلقي على اثارة الإستفهامات ودعوته الى التفكير اكثر من مجرد عرض الاخبار والروايات لمجرد عرضها مع بعض الإنتقادات المتعلقة بالواقع والتي لا تتحرك بالمتلقي الى مستوى تفعيله للنقد الذاتي ومراجعة ومحاسبة النفس واعادة تأهيلها من جديد ..

بين المجلس الحسيني والمجلس الثقافي ..

 مشروع صناعة الوعي الذي ادعو اليه يحتاج الى قوتين عمليتين لهما حضورهما في الشارع، قوة المنبر وقوة المجلس الثقافي لاعادة تنظيم هيكلة البناء الاجتماعي ليكون ملائما لبيئة واعية واعدة تنهض بالواقع .

قوتان تقفان وراء حراك الحياة الاجتماعية، قوة الدين وقوة العلم فقد تبدو قوة العلم غالبة على قوة الدين في مساحة كبيرة من مساحات العالم ولأننا نعيش في قرية كونية فالتأثر بالمحيط العالمي امر وارد، لذا فإننا بصناعة الوعي نتمكن من إعادة تفعيل قول النبي الخاتم " اطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم"

الثقافة والوعي ..

بدون الوعي تصبح الثقافة والتعلم نشاطاً شخصياً، واقعنا اليوم بحاجة الى الوعي الجمعي حاجة ملحة لأن واقع العالم العربي والاسلامي اليوم يتوافر على عدد كبير من العلماء والكتاب والمفكرين والفلاسفة ومع ذلك لا يشهد الواقع حالة من المعافاة لذا فان الوعي يسهم في التشجيع على اشاعة الهوية الجمعية وهذا هو شكل النهضة الحسينية المرتقبة .

يقول الفيلسوف الفرنسي فيليب فينيكس ( فلكي يكون الفرد انسانا يجب ان يكون ذا قدرة على توسيع ميدان ادراكه وراء كل الحدود المباشرة التي وضعها الزمان والمكان وذلك عن طريق الذكاء والخيال الخلاق فالرجل الحر الذي يتبع العقل ويسمو بذاته لا يرث فقط بيئة يتكيف معها ولكنه يتصور عالماً جديداً ويبدأ في خلقه ويستطيع ان يقوم بذلك في كل مظاهر النشاط الثقافي بما في ذلك مهنته).

رسالتنا الثقافية ..

رسالتنا الثقافية اليوم هدفها حماية البسطاء من الناس ممن اضطرتهم ظروف الواقع الحياتي الجديد الى استخدام التقنية المتطورة وهم يجهلون الأضرار التي يمكن ان تلحق بهم جرّاء حاجتهم الضرورية الى استخدامها، لذلك ياتي دور صناعة الوعي في حماية هؤلاء من ان يطالهم الابتزاز الالكتروني وغسيل الادمغة وتشويه الافكار واحتلال العقول، كما تهدف رسالتنا الثقافية الى توضيح صور المشاهد الحياتية لواقع الناس من اجل توعيتهم لمنعهم من الإنخراط اكثر في مزيد من المشاكل الإجتماعية والمشاكل الشخصية، ولنا في طف كربلاء دروس يليغة كفيلة اذا نجحنا في اعادة صياغتها بما يتوافق والمدارك اليوم ..

*** 

د. عدي عدنان البلداوي

ليس من الغريب القول انه في المجتمعات المتصدعة البنى والمتشظية الأنساق والمتذررة الجماعات – كما هو حال المجتمع العراقي – غالبا"ما يعاني الوعي الاجتماعي من ظاهرة (الانكفاء) في الوظيفة النقدية و(التراجع) في الأنشطة التنويرية، الأمر الذي يفسر لنا سبب تعطل السيرورات الاجتماعية وتخلخل الديناميات الحضارية على النحو الذي يفضي بالمجتمع المعني الى الدخول في دوامات من التأزم السياسي، والتفاقم الاقتصادي، والتصادم الثقافي . هذا دون أن يتمكن من الاهتداء الى سبل الخلاص من هذه الخوانق التاريخية أو النجاة من تبعاتها المدمرة لكيانه والفانية لحضارته والمهددة لمصيره، طالما ظل حبيس تلك الخوانق (يجتر) أمجاده الزائلة و(يغتر) بمواريثه الآفلة .

وإذا ما فتشنا عن الأسباب وتساءلنا عن الدوافع التي تسوق المجتمع قهريا"صوب هذا الاتجاه (العدمي) والنزوع (التدميري)، سنلاحظ ان هذا الأمر ما هو إلاّ حصيلة تضافر إشكاليتين متعاقبتين ومتزامنتين في نفس الآن، لم يتسنى للمجتمع المقصود ليس فقط الظفر بإمكانية (المعرفة) بوجودهما فاعلين في بنيته التحتية والفوقية على حدّ سواء فحسب، وإنما انعدام قدرته على فضّ التشابك البنيوي والترابط الوظيفي بينهما لجهة التأطير الذهني والتأثير النفسي، فضلا"عن غياب الوسائل والأساليب التي من شأنها منحه ما يحتاجه ل (تفكيك) الأساسات التي بنيت عليهما تلك الإشكاليتين بالصيغ السليمة والطرق الملائمة التي من شأنها التمهيد للمعالجات والاستشراف للحلول، دونما خسائر كبيرة أو أضرار خطيرة قد يتعرض لها الكيان الاجتماعي برمته جراء ذلك التفكيك البنيوي للأساسات والتحليل المنهجي للديناميات، ومن ثم إعادة البناء من جديد على أسس تاريخية مختلفة وسياقات حضارية مغايرة .

ومن هذا المنطلق نجد في إطار الإشكالية الأولى المتمثلة (باحتباس) الوعي الاجتماعي داخل شباك (النسقيّة الثقافية) المتسمة بالطابع التقليدي المتقادم تاريخيا"والمتوارث انثروبولوجيا"، والتي رغم كونها تتقاطع مع أواليات التغيّر وديناميات التطور التي شملت كل المجالات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية والمنظومات الرمزية، إلاّ أنها لا زالت تحكم قبضتها القوية وتفرض سطوتها الشاملة على مجمل المسارات الحضارية والتوجهات الثقافية والنشاطات الفكرية، التي تعد - في الوقت الحاضر - من أبرز المعطيات وأقوى المؤشرات التي تقيّم على أساسها مستويات تطور مجتمع ما في مضامير العلوم الاجتماعية والمعارف الإنسانية والانجازات الحضارية، ناهيك عن ميادين الصناعات الإنتاجية المتعددة والمبتكرات التكنولوجية المتنوعة . هذا في حين نلمس على صعيد الإشكالية الثانية استمرار (تخبط)  ذلك الوعي في أتون ظواهر (الأصنمة) للتصورات السياسية ذات التوجه الانفرادي، و(الأقنمة) للمعتقدات الدينية ذات المنزع التعصبي، عبر الانتماء للراديكاليات السياسية (اليمينية واليسارية)، والانخراط بالأصوليات الدينية (المذهبية والطائفية)، والارتباط بالتكوينات الانثروبولوجية (القبلية والعشائرية) .

وهكذا، فبالنسبة للإشكالية الأولى المتمثلة بخاصية (النسقيّة الثقافية) فان وظيفتها على صعيد (الوعي) الاجتماعي، تتركز في شدّها المتواصل للفاعل الاجتماعي صوب سرديات (الماضي) والاستغراق بمواريثه التاريخية الملتبسة، وما قد يعنيه ذلك من تحيين مستمر لأرشيف (الذاكرة التاريخية) للجماعات السوسيولوجية والمكونات الانثروبولوجية من جهة، وتفعيل متواصل لمخزون (تمثلاتها) الأسطورية والرمزية والثقافية من جهة أخرى . لاسيما وإنها تعيش في مجتمعات أصبحت هي والأزمات البنيوية بمثابة توأم سيامي يتعذر فصل أحداهما عن الآخر، بحيث ان بنية (وعيها الجماعاتي) تبقى حصينة أمام التغييرات الداخلية الطارئة وعصية على الاختراقات الخارجية المفاجئة، التي من الممكن – في حال رجحان كفتها – إحداث انزياحات كبيرة في الأدوار وتبدلات واسعة في الوظائف .

أما بالنسبة لخاصية الإشكالية الثانية المرتبطة بطبيعة (النسقيّة الإيديولوجية) فان دورها لا يقتصر فقط على (اختزال) ثراء جدليات الواقع الاجتماعي الحافل بالخلافات والاختلافات، كما لا يقف عند حدود (تنميط) وعي الجماعات والمكونات بما ينسجم وطروحات المعتقد المؤسسي الذي تبنى عليه الأفكار والتصورات والتمثلات فحسب، وإنما تسهم في (أمثلة) الخيارات والتطلعات وتفضي بها الى الانغماس بالتأملات المخيالية واليوتوبية، بدلا"من التماس النهج المفضي الى المسارات الواقعية والاتجاهات العقلانية . أي بمعنى ان إشكالية (النسقيّة الثقافية) تقود الى التمسك بمواريث (الماضي) والرهان على أرصدة قيمه وعاداته وتقاليده ورموزه، بصرف النظر عن مستوى قيمتها التربوية والأخلاقية والإنسانية . هذا في حين ترمي بنا إشكالية (النسقيّة الإيديولوجية) في أتون التمثلات المتنابذة والسرديات المتصارعة، على خلفية انخراط المتخاصمين والمتكارهين في مساعي الارتقاء ب(النحن) الى مصاف (القديسين) من جهة، والانكفاء ب(الهم) الى حضيض (الشياطين) من جهة أخرى .  

***

ثامر عباس

(كل الوسائل التي كانت ستجعل الإنسانية أخلاقية قد كانت حتى الآن لا أخلاقية للغاية).. نيتشه

(هناك فوضى بالخارج والفوضى تعني فرصة).. مارك أوستروفسكي

تثير إشكاليات معالجة التحول الرقمي في مجال العلاقات العامة، جملة من الأسئلة المتصلة أساسا بالآثار الإيجابية والسلبية للرقمنة على ممارسات هذه العلاقات، وكيفية ابتداع أساليب واعية بطفرات ورهانات الاتصال الرقمي الجديدة.

ويطرح مفهوم العلاقات العامة الرقمية، في المنطلق، جدلا عميقا في اتصاله بمجال تسويق الأفكار والمنتوج الاستهلاكي، على وجه التحديد.

بيد أن ارتباطه بمصطلح "التسويق العام"، هو الأكثر حضورا في النظام الاتصالي للمنظومة الرقمية  (Le système numérique)، من حيث كونها مجموعة من استراتيجيات التسويق الهادفة إلى زيادة الوعي بالعلامة المسوقة والتواجد عبر الإنترنت، حيث يكون من ضمن أهداف ذلك، مساعدة تلك العلامات على تعزيز هويتها وظهورها بشكل لائق وذكي، حيث تعد الإشارات الاجتماعية والارتباطات الخلفية لها وحركة مرور الإحالة من الأهداف الرئيسية للعلاقات العامة الرقمية المرتجاة.

ولهذا فإن العلاقات العامة الرقمية هي أكثر من كونها مرئية وموثوقة، بحكم اشتداد المنافسة في مدى إقناع المستعملين والمتابعين لجودة عناصر الفكرة والمنتوج، تحت تأثير وضعيات الإخراج وإبداع العرض وطريقة التسويق.

وهو ما يفرض حدودا معيارية دقيقة، تتداخل فيها ضوابط مراقبة الوسائط ومتابعتها وتوجيهها وتكريسها القيمي طيلة زمن الترويج .

لقد أضحت العلاقات العامة في المجال الرقمي، متشعبة ومترامية الأطراف، تستدرج ضمن سياقاتها المنظورة وغير المنظورة، مواضعات تأسيسية للثقافة الجديدة، وخلفياتها التقنية والاجتماعية والسياسية، ومدى الاستفادة من ممارسات العلاقات العامة التقليدية من المساحات والأدوات الرقمية ، أو بعبارة أدق التفاعل بين الكلاسيكي والحديث ، مع التركيز بالأساس على مستويات كيفية تحويل الرقمنة للجمهور المستهدف من ممارسات العلاقات العامة وممارسات الاتصال للجمهور المعني ، وكذا معالجة جميع جوانب المساحات والأدوات الرقمية وطرق العلاقات العامة الجديدة المناسبة للاحتياجات المتصلة بالجمهور المستهدف .

إنها تيمات غير مسبوقة في حقل سوسيولوجيا الإعلام الجديد ، أو ما يطلق عليه "علم اجتماع الاتصال والإعلام"، ويمكن التداول في بعض مطامحها، خصوصا فيما يتعلق بما اقترحه سابقا المفكر الفرنسي ايريك ماجريت في كتابه "علم اجتماع الاتصال والإعلام"*، بخصوص دراسة الظواهر المرتبطة بالإعلام، كوجود خطابات أيديولوجية أو نفسية ، والاستخدامات النفسية والثقافية لما يسميه ب "الذعر الأخلاقي" المرتبط بظهور وسائل الإعلام "الجديدة"، وارتباطاتها بالأعمال "التأسيسية" للمجال (مدرسة فرانكفورت ، وأنثروبولوجيا الاتصال في أعمال مكلوهان) ، مع استحضار مشاكل المنهج" لمنظري مدرسة فرانكفورت وتلامذتها على وجه الخصوص، والتي تذهب إلى أن "تنظيم وعقلنة الإدانة الغريزية، تصب في نبوءة اجتماعية غالبًا ما تحتكر النقاشات العامة حول وسائل الإعلام" .

ويأتي سؤال "المنطق الاجتماعي الجديد لوسائل الإعلام" الذي يخضع منهجيا ومفاهيميا لنقد تجاوز التحليل المعياري للآثار الضارة للوسط الاجتماعي ، ليكرس مشكلات التفاعل مع بنية القيم حيث تتفكك الهويات وتفصل ويعاد تكوينها وتشكلها، وهي النقطة التي تتداخل فيها التقائية عالم الإنترنت وتقنياته الجديدة، مع الاعتبارات الثاوية لنسق الخطابات والممارسات المرتبطة بالوسائط إياها، وهو ما يحدد أيضا بعض مظاهر "الأيديولوجية الساذجة" كما يطلق عليها ...

نستحضر هنا الحافز التأويلي في الجانب الأخلاقي للتحول الرقمي في العلاقات العامة، وما يؤطره في الجانب الإعلامي على مستوى "الجمهور المستهدف"، وما تطرحه كذلك، الصناعة الثقافية للفضاءات المرصودة، واستخدامات ذلك كله في أحواز النقاشات ومضامينها النقدية السطحية، وما يتولد عنها من شروخات سلوكية وتفاهات أخلاقية.

إن ما يكرسه علم الاجتماع الإعلامي هنا، من أجل دراسة وسائل الإعلام ومدى تأثيرها في المجتمع السياسي والاقتصادي والثقافي ، سواء من خلال ما تنقله على مستوى المحتوى، أو عبر الوسائل المستخدمة، مع ما يرافق ذلك من طريقة استيعابية لرؤية العالم ناتجًا عن ما يمكن تضمينه كفلسفة لتحديد مهمة تحليل العلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات، سيعيد من جديد تتوير المفاهيم وإعادة تشكيلها، وظيفيا ومنهجيا، بما يتناسب والثقافات السيبرانية المهيمنة، والتي تعمل على فرض آرائها بشكل احتيالي واستباقي، يتناسب والوضعية السائدة الآن، القائمة أساسا على حقيقة أن الحدود بين مرسلي ومستقبلات الوسائط الأكثر قابلية للاختراق، وهو ما يستدعي إعادة التفكير في دراسة وتنظيم مجالات أكثر تدافعا وأقوى نفوذا في متتاليات الدعاية / المهيمنة، والإنتاج الثقافي/ المهيمن عليه هو الآخر؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

......................

* Sociologie de la communication et des médias

de Eric Maigret, 2003, Paris, Armand Colin

السطور التالية جواب عن سؤال وُجّه لي تكراراً، وفي صيغ مختلفة، محورها جميعاً هو المسافة بين الثقافة والوعي، على مستوى المجتمع أو البلد بأكمله. ويظهر لي أن هذا من نوع الأسئلة التي لا يمكن الجواب عنها بنحو قطعي.

بيان ذلك، أن الذين يطرحون السؤال، ليسوا متفقين على الإطار الموضوعي الذي يدور فيه نقاشهم. فهل يقصدون الوعي والثقافة بالمعنى العام الذي يملكه غالبية الناس؟. أم يا تُرى يعنون صنفاً خاصاً من الثقافة والوعي؟.

وقرأت قبل أيام مقالة تعيب على بعض كبار المثقفين العرب تقبلهم فكرة التطبيع مع إسرائيل، ويقول الكاتب إن أولئك المثقفين ينقصهم الوعي بحقيقة الصراع وأبعاده، وموقع التطبيع من هذا الصراع التاريخي. فالواضح أن الوعي واللاوعي يعادل - عند هذا الكاتب - تبني موقف محدد من الصراع مع إسرائيل، وليس الوعي في معناه العام.

وفي وقت مقارب ذكر كاتب آخر أن الشعب الأميركي مغيّب وغير واعٍ بما تدبره النخبة اليسارية من مؤامرات كبرى للسيطرة على مقدرات البلاد. وأظنه قد أشار إلى أن النخبة اليسارية التي يعنيها، تتألف من الأميركيين الأفارقة ورجال الأعمال الذين يديرون شركات التقنية الكبرى. ومعظم هؤلاء من المهاجرين الجدد. أما زعيم هذه النخبة فهو الرئيس الأسبق باراك أوباما، كما يظهر من سياق الكلام.

كما قرأت قبل سنوات مقالاً لكاتب أميركي يقسِم بالإيمان المغلظة، أن كل ما يجري في الولايات المتحدة من انتخابات ومؤسسات، ليس سوى مسرحية محبوكة جيداً، وأن الحكومة الحقيقية التي تدير هذه البلاد هي منظمة الأمم المتحدة، وهي التي تعيّن الرؤساء وقادة الجيش، وتسخّر الإعلام والفن لإبقاء الشعب مغيباً وغير واعٍ بما يجري من حوله.

وأعلم أن بعض القراء الأعزاء سيضحك في سره من هذه التقديرات المنحازة. لكنها أمثلة حية على أن الوعي المقصود في بعض الكتابات، هو تبني الموقف الخاص بالكاتب أو المتحدث: مَن قَبِله فهو واعٍ، ومَن أنكره أو تبنى غيره فهو مغيّب أو غافل.

ويغلب على ظني أن لا فائدة ترتجى من الأسئلة العامة التي لا تدري في أي عالم تدور. ولهذا؛ فقد يكون الأَولى أن «نفترض» مقصداً للسائل، فنحيل السؤال إليه، ونجيب عنه بما يقتضيه هذا المقصد. والغرض من هذا التحوير هو تلافي تضييع الفائدة المرجوة من النقاش. وقد رأيت عدداً من كبار الأساتذة يفعله صراحة، فيقول مثلاً: إنني لا أعلم المقصود بهذا السؤال، لكن سأفترض أنه كذا وكذا...

وعلى هذا المنوال، فسوف أفترض أن غرض السؤال الذي بدأنا به، هو المسافة بين الثقافة في معناها العام، وبين الوعي المؤدي لفهم الواقع والسعي لتغييره؛ فالوعي هنا يقابل القدرة على نقد الواقع، واكتشاف الفارق بينه وبين الوضع الأمثل، أي بين الحاضر والمستقبل، والدعوة إلى سلوك طريق التغيير.

الثقافة هنا تمهد للوعي وتوفر المادة اللازمة لاكتماله، فهي تحرك حاملها كي يلعب الدور التاريخي المطلوب من أهل العلم. وما دمت قد بلغت هذه النقطة، فلا بأس بالإشارة إلى أنني لا أرى المثقف مسؤولاً عن أي شيء، سوى أن ينتج شيئاً يليق بما يحمله من معرفة، تماماً مثل الطبيب والمهندس والفلاح الذين نطالبهم بأن يتقنوا مِهنهم، كي يسهموا في عمران الكوكب.

زبدة القول إذن، أن الوعي يساوي القدرة على نقد الواقع، أي فهم وتفكيك الثقافة التي تبرره، وكمال الوعي يكمن في تشخيص المسافة التي تفصل بين النقطة التي نقف عندها، والنقطة التي نريد الوصول إليها.

***

صادق السامرائي

لم يكن حرق الكتب، المقدسة منها بعيون معتنقيها كالمصاحف، او غير المقدسة فأنها تتمتع بمكانة خاصة لدى معتنقي محتوياتها الفكرية وأحيانا تتمتع الأخيرة بنفس قدسية ما تتمتع به الكتب المقدسة بأختلاف مصادر تلك الكتب، وأن الأمر يرتبط بتأثير الكتب بالعقائد الأيمانية لدى المعتنقين أو المؤمنين بجوهر المحتوى الذي أتت به وتأثيرها على الحياة الروحية والنفسية والسلوكية لمن تنسجم ممارساتهم مع ما أتت به بطون تلك الكتب والتي يفترض ان تشكل مع الزمن الطقسي والسلوكي مرجعية لا يمكن الأستغناء عنها بسهولة في حل مشاكل الوجود اليومي وتفسير مختلف الظواهر الطبيعية منها والأجتماعية.

وبالتالي وأنطلاقا من تلك الأهمية فأن الأقدام على حرقها تعسفيا من قبل الطرف الآخر الذي لا تعني له تلك القدسية او المكانة كما تعني لمعتنقيها يعبر بأي شكل من الأشكال عن تشوهات سلوكية وعقلية الى جانب أزمة فرديةـاخلاقية تعكس ابعادها في التعدي على حرية الآخرين ورموزهم المكتوبة لأثارة استجابة انفعالية مؤلمة وحادة لدى الطرف الآخر الذي يؤمن بها، والغرض من الحرق او السحق او الأتلاف هو محاولة مقصودة لزرع الألم لدى الطرف الآخر الذي وقع عليه فعل الحرق، ومن هنا تأتي استجابة الطرف المتضرر بأشكال سلوكية متنوعة تستند الى ثقافة المؤمن بها وفهمه لدوافع الحرق بعيدا عن قدسية المحروق، اي بمعنى سايكولوجي هناك "مثير" وهو الحرق وهناك "استجابة" ما للأفراد المستهدفة بفعل الحرق، وقد تتحول الأستجابة ذاتها الى مثير جديد لخلق استجابة ثانية وثالثة وكذلك المثير قد يتكرر، وبالتالي يقع طرفي الفعل في دائرة مغلقة من الأفعال وردودها والأخطر منها ذو النزعة الأنفعالية المدمرة.

وسلوك الحرق أو الأتلاف وغيره من أساليب التجاوز لا تمت بصلة لحرية التعبير، لأن حرية التعبير تكون مكفولة عند حدود عدم التجاوز على حرية الآخرين ومعتقداتهم، وبأمكان الفرد ان يمارس حرية النقد لفكر الآخر ومعتقداته من خلال الكتابة والتحدث وعقد مختلف الأنشطة الفكرية والثقافية من تأليف ونشر وندوات ومجالس ثقافية وغيرها، لأن الحياة بدون ممارسة للنقد البناء هو اقصاء للحياة ذاتها بما فيها من تنوع واختلاف في الثقافات والأفكار، وتلك مهمة التطرف الفكري والسلوكي والتي تصل الى حد تصفية الأفراد والجماعات ومعتقداتهم، وداعش وغيرها هي نماذج حاضرة بكل حمولتها الشرسة في الأقصاء.

وكل اشكال حرية التعبير تبقى مشروعة ومكفولة عندما لا تفضي الى اثارة النعرات الدينية والمذهبية وتهدد السلم المجتمعي وكذلك الى تهديد أمن المجتمعات المحلية والعالمية وتضعف النسيج الأجتماعي وتشرذمه. ووفقا للمواثيق الأممية فأن حرية التعبير هي إحدى حريات الإنسان الأساسية في الحياة، وقد أكدتها جميع الاتفاقيات الدولية والإقليمية حول العالم، على الرغم من ذلك لا تعتبر حرية التعبير من الحريّات المطلقة، وإنما تحددها مجموعة من القيود والمحددات. ويمكن تعريف حرية التعبير على أنها منح الإنسان الحرية في التعبير عن وجهة نظره، وإطلاق كل ما يجول في خاطره من أفكار بمختلف الوسائل الشفهية أو الكتابية، حيث إن بإمكانه الإفصاح عن أفكاره في قضية معينة سواءً كانت خاصة أو عامة بهدف تحقيق كل ما فيه خير لمصلحة الأفراد والجماعات.

وبشكل عام يمكن القول إن حرية التعبير هي قدرة الإنسان على أن يعلن عن الأفكار التي تجول في خاطره، وعن قناعاته المختلفة التي يعتقد أن فيها مصلحته ومصلحة غيره من الأفراد إزاء أمر معين. وتعتبر حرية التعبير حقاً من الحقوق الأساسية للإنسان، وذلك باعتباره جزءاً أساسياً من المجتمع ومكلفاً ومسؤولاً فيه. ومن المواد التي تنص على حق الإنسان في التعبير المادة رقم 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تنص "على أن لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير، والذي يتمثل في تلقي الأفكار والآراء واستقصائها وإذاعتها دون أدنى تدخل أو تقيد بالحدود الجغرافية ". وبالتالي نفهم من ذلك أن لا حرية للتعبير في التهكم والتهجم على الآخر المغاير لك في المعتقد او الرأي او الفكر، كما أنه لايجوز استخدام حرية التعبير في التنكيل والتشويه الشخصي أو الأفتراء والكذب على الآخر او التحايل عليه وتشويه سمعته الشخصية او الفكرية والأيمانية، فأن حرية الأفراد والجماعات وأمنها وتماسكها يجب ان يكون حاضرا في سياقات حرية التعبير ولا يمكن التأليب والتحريض على ما يحرض المجموعات الدينية والعقائدية الفكرية المختلفة الى الأزدراء والأهانات والفناء، كما ان حرية التعبير لا علاقة لها بتشويه السمعة الفردية والجمعية عبر وسائل التنكيل والأهانة وتزوير الحقائق والكذب ومصادرة حرية الآخرين بواجهات مختلفة وذرائع كاذبة.

لقد عملت الكثير من الأنظمة الدكتاتورية في العالم ومنها في العالم العربي والأسلامي على قمع حرية التعبير بأشكال مختلفة وبما يخالف المواثيق الأممية، كالأعتقال والتصفيات الجسدية وتجفيف الروافد الفكرية والسياسية لمعارضيها عبر اللجوء الى حرق وتمزيق ومصادرة واتلاف الكتب التي تجسد الرؤى الفكرية والفلسفية والسياسية للمعارضة ومنع تداولها وبيعها في المكتبات وتجريم حيازتها في المكتبات الخاصة للأفراد، ونرى الكثير من الأنظمة والحكومات والتي احتجت على حرق المصحف او تمزيقه تمارس شتى صنوف حرق ومصادرة المعارف الفكرية والفلسفية الأخرى بواجهات مختلفة غرضها البقاء على الأوضاع السائدة كما هي وبقاء الأنظمة القمعية المعادية لحرية التعبير، وطبعا مع الأختلافات النوعية بين حرق المقدس في اذهان مقتنعيه وحرق الوضعي، إلا ان الموقف من حرية التعبير واحد لا يتجزأ.

ورغم ان حرق المقدس وبما يمتلكه من اسباب نزول لمعتننقيه هو أخطر لما يمتلكه المقدس من كتلة بشرية ايمانية ذات طابع حشدي  يتجاوز الجغرافيا اشد خطورة من معتنقي الأفكار الوضعية والتي تكون في اغلب الأحيان منظمة ومنضبطة، إلا ان تجاوزات الأنطمة الدكتاتورية والقمعية لديها سجل حافل بالمظالم في التعدي على حقوق الأنسان وحرية التعبير. والكثير من الحكومات القمعية والبوليسية وجدت ضالتها في حرق المصحف في تعبئة الرأي العام وتحشيد الجماهير في محاولة للتخفيف عن مظالمها وسلوكها القمعي والبحث عن انجازات مؤقتىة لتصريف ازمتها المستعصية والتضليل على فسادها المالي والاداري والأجتماعي.. ومن السهل لنظام سياسي منافق او حركة ارهابية كداعش ان يضطهدوا معارضيهم ويقتلوا ابناء جلدتهم من المسلمين وغيرهم ويفصلوا الرأس عن الجسد لآلاف من الأبرياء ويحتجون على حرق المصحف دون اي اكتراث لبعض من نصوصه في قدسية الحياة وحرمتها، وهكذا تختلط الأوراق والمشاعر والنوايا بين مؤمن صادق مدافع عن دينه ومصحفه وبين فاسد سارق للمال العام ومجرم قاتل.

حرق المصحف لأكثر من مرة في السويد في دولة تتمتع بمدى واسع من حرية التعبير في اطار ديمقراطية عريقة وفي مجتمع مشهود له في الأمن والأمان والهدوء كان بمثابة قنبلة موقوته اختلط فيها ما هو قضائي ودستوري وقانوني، السويد من اكثر البلدان تسامحا وانسجاما مع الجاليات والثقافات المختلفة فيه، وخاصة الجالية الأسلامية التي يتجاوز عددها اكثر من 875 ألف مسلم، أي بحدود 8.5% من مجموع سكان البلد البالغ 10 ملايين للعام 2023 " حسب الأحصائيات الواردة من موقع المركز السويدي للمعلومات.كوم، وتقوم السويد وعلى مدى عقود بدعم الثقافة والجالية الأسلامية بكل مستلزمات الحفاظ على رموزها من مؤسسات مختلفة، جوامع ومساجد ومجالس عليا وهيئات تنسيقة واندية ثقافية، وتتلقى الجالية الكثير من الدعم المالي من قروض واعانات بما يدعم ثقافة الأندماج والعيش المشترك.والتسامج الديني، وعلى سبيل المثال فهناك " الرابطة الأسلامية "و " المجلس الأسلامي السويدي " و " ورابطة الجمعيات الأسلامية " و " اتحاد الشباب المسلم السويدي " والكثير من المؤسسات الأخرى المتشابهة، الى جانب انشاء مؤسسات تعليمية خاصة.

ومن الصعب هنا التحدث عن كتلة متحانسة من المسلمين في السويد، بل هناك تنوع داخلي كبير فكريا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، وقد يلتقون عند مشترك واحد هو هجر بلدانهم الأم لأسباب من انعدام حرية التعبير بمعناها الواسع " السياسي والثقافي والأجتماعي والأقتصادي " والبحث عنها في بلدان المهجر كالسويد، وهم قد يشتركون في ذلك الموروث الديني المتداول في العقل الجمعي القادم من البيئة الأجتماعية والثقافية للعالم الأسلامي عموما، وكذلك يختلفون بطبيعة استجابتهم لمختلف الظواهر والأحداث في محيطهم القريب والبعيد بما فيه عملية حرق المصحف.

ان ما جرى في السويد من حرق للمصحف هو الأستغلال الوقح والنشاز لحرية التعبير الواسعة، وقد ادانت الحكومة السويدية تلك الواقعة واعتبرتها اضرار وتعسفا وتهديدا للأستقرار والأمن المجتمعي، كما ادانها الرأي العام السويدي واعتبره خروجا ومخالفا لحرية التعبير إلا ان المشكلة ذات ابعاد قانونونية ودستورية وتستحق المعالجة في المستقبل، طبعا كما ادانت المنظمات العالمية كافة من امم متحدة واتحاد اوربي الى جانب امريكا وبريطانيا والمنظمات العربية والأسلامية.واصدار قرارات اممية تمنع التجاوز على الكتب المقدسة.

نعتقد ان ما قام به كلا الشخصين وهم. سلوان موميكا من العراق، والدنماركي السويدي المتشدد اليميني راسموس بالودان في ظروف   اشتداد المد اليمني في اوربا عموما وفي السويد ايضا، فأذا كانت اجندة راسموس هي من ضمن امور كثيرة كالأحتجاج على الأشتراطات التركية لأنظمام السويد الى الناتو والطلب من تركيا ذلك، إلا ان اجندة اليمين تتجاوز تلك الجزئية الى ابعد من ذلك هو استهداف التنوع المجتمعي للسويد والتضييق على الهجرة واعادة النظر بكثير من القوانين التي تستهدف الانجازات السويدية في مجال الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية الفكرية والثقافية والدينية للسويد، اما اجندة سلوان موميكا سليل المليشيات المسلحة العراقية وينتمي تارة الى المسيحية وتارة الى غيرها فهل كان يستهدف ايضا كصاحبه راسموس الأحتجاج على الأشتراطات التركية لدخول السويد الى الناتو عبر اثارة المشاعر الدينية لأوردغان أم يستهدف اثارة مزيدا من الكراهية الدينية والطائفية في العراق " وخاصة انه تجاوز على القرآن ثانية قرب السفارة العراقية" وخاصة بين المكونيين الاسلامي والمسيحي، ام انه يريد الحصول على الجنسية السويدية بأسرع الطرق عبر ادعائه انه مهدد بالقتل بعد واقعة حرق المصحف، او يستهدف اثارة الأسلاموفوبيا في السويد وفي مجتمع تتضائل فيه تلك الفوبيا الى ادنى مستوياتها وفي مجتمع عرف بتسامحه الديني والعرقي والثقافي، وبالتأكيد فأن كل من راسموس وموميكا ينتميان الى ذات الأعاقة الفكرية ـ المعرفية والسلوكية.

بالتأكيد ان حرق المصحف والكتب المقدسة الأخرى لا يقع في اطار حرية التعبير لأنه يشجع على الكراهية الدينية والثقافية ويهدد السلم المجنمعي في السويد وخارجه ويسيء الى علاقة السويد مع العالم الاسلامي وغيره. ان اللجوء الى الأساليب العنفية من قبل بعض الدول كالعراق وغيره في غلق السفارة السويدية وحرقها او اللجوء الى المقاطعات الأقتصادية ومختلف الوسائل الأخرى التي تدهور علاقة السويد بالعالم العربي والاسلامي فأنه لا يجدي نفعا إلا بالارضاء المؤقت لحالات الانفعال الشديد، ونعتقد ان اللجوء الى المحافل الدولية والمنظمات العالمية للحد من اثار التصعيد واعادة بناء جسور الثقة بين السويد والعالم العربي والاسلامي هو افضل السبل واكثرها في الحد من ظاهرة الأسلاموفوبيا المنتشرة في بعض البلدان الاوربية والتي لم تجد طريقها بذات الحدة في السويد الى الآن وتفويت الفرصة على قوى اليمين احزابا وافراد لأستثمار الأحتقان لأهداف غير انسانية.

ويعتمد الكثير على عقلانية الأستجابة الرسمية والشعبية في العالم العربي والأسلامي لرأب الصدع الذي حصل بينهما وبين السويد، كما ان السويد مطالبة بأتخاذ الخطوات الرادعة الفورية في عدم السماح بحرق المصحف او اي كتاب مقدس له دلالته في نفوس اتباعه، واعتقد ان السويد كرأي حكومي وشعبي ادركت الآن مخاطر ذلك على الأمن والسلم المجتمعي، الى جانب احساس صحافتها المتزايد ان تلك الأفعال لا علاقة لها بحرية التعبير، وبالتالي على السويد ان تتجنب تلك السمعة التي بدأ الأعلام الآخر يروج لها بأنها دولة معادية للأسلام وهي خلاف ذلك لعقود عديدة خلت.

***

د. عامر صالح

إنّ الفكر الغربي بمرجعيتيه الدينية والفلسفية أسهم في تشكيل صور الاساءة والتشويه لشخصية الرسول الكريم محمد(ص) والقرآن الكريم، وتأتي هذه القصدية من رغبة في تشكيل الصور في الذهنية الغربية. قامتا هاتان القصديتان (الدينية والفلسفية) لغاية معينة، هي من أجل أنّ تكون هذه الصور غير قابلة للتكذيب في المجتمعات الغربية، لاسيما بعد دعمها بحجج قائمة على نظام متعالي يجعل من الشعوب الأخرى مخالفة وعدوة لها في أشياء كثيرة منها :(العقلية الفلسفية) و(أفضلية الديانة الغربية) على سائر ديانات العالم سواء أكانت منها الوضعية، أو السماوية، ومن ثم فإن رسم هذه الظاهرة التشويهية رافقتها ظاهرة تخويفية من الآخر، وخصوصاً المسلم، إذ جعلت من هاتين القصديتين ركيزتين في الوعي الغربي السلطوي الذي تأزر مع كل من الدين والفكر الفلسفي في جوانب مهمة في محاربة الأخر ثقافياً، لذا نرى أنّ ظاهرة الثنائيات التي كانت في البدء (متحضر وهمجي) هي نظرة أتت من الفكر اليوناني لتتحول الى ظاهرة (المؤمن والكافر)، التي أتت من الفكر الديني في القرون الوسطى والحروب الصليبية، وبعد ذلك تتحول الى ظاهرة (المتحضر والمتخلف) في الفكر التنوير، نلاحظ أنّ هذه الثنائيات شكلت حلقات وصل مهمة في بناء ظاهرة التشويه والقصدية في داخل البناء الفكري والديني الغربي.

إنَّ الرغبة في تشكيل الصور المتقصدة هي كانت مبنية على أساس الرغبة في تشكيل وعي جمعي غربي يحكمه الخوف من الآخر المسلم وخصوصاً الصفات التي حاول البعض لصقها بالرسول الكريم (ص)، على أعتبار هو من أوجد الإسلام ودولته، وهو من يتحمل مسؤولية هذه الدولة، التي أخذت من صفاته الكثير، وهذه الصفات التي ساقها الفكر والدين في الغرب ماهي إلا صفات الغرض منها صناعة شكل المسلم في العقلية الغربية.

ربما سائل يسأل ويقول ؛ أنّ الفكر الديني المسيحي المؤدلج في الغرب ضد الإسلام هو من تقع عليه المسؤولية، أو على بعض من رجالاته مسؤولية التشويه فما دخل الفلسفة اليونانية وغيرها في هذه المشكلة بين الديانتين ؟، وهنا نود أنّ نؤكد أنّ الصراع بين الشرق والغرب وتشكيل صورة الأخر في الذهنية الغربية هي لم تأتي فقط من فترة القرون الوسطى، وما بعدها من الحروب الصليبية وغيرها، بل أنّ تشكيل صورة الآخر ووصفه بأوصاف دونية استندت عليها فيما بعد العقلية الدينية الغربية في أكمال الثنائيات في داخل المنظومة العقلية الغربية السلطوية على مستوى الخاص، والمنظومة العقلية لدى الجمهور الغربي على المستوى العام.

أما الغاية الأخرى المهمة أيضاً، هي تدمير الذات الشرقية المسلمة من خلال تشوية وتدمير الشخصية الشرقية المتمثلة بشخصية الرسول(ص)، بمعنى أنّ الأوصاف التي أنتجها الفكر الغربي - وخصوصاً كما ذكرنا في بداية هذا الفصل- أصبحت قاعدة لدى البعض ممن تأثروا بهذه الأوصاف فيما بعد في إكمال هذه الصور المشوهة، ضد شخصية الرسول (ص)، وإنَّ عملية التوصيف هي امتداد طبيعي لأوصاف الشرقي ما قبل الإسلام، فهذه الشخصية الشرقية المستبدة الغارقة في الشهوانية والمغيبة للعقل في فترة ما قبل الإسلام، هي من إبداع الفكر اليوناني وما بعده، انسحبت على شخصية الرسول (ص) كجزء من ظاهرة التدمير للذات الثقافية الشرقية، فعند استهدافها سوف تنعكس سلباً على البناء السلوكي لدى أبناء الديانة الإسلامية التي تغطي معظم مناطق الشرق الاوسط والادنى.

لقد عمل تشكيل الانحراف والتشوية للصورة المحمدية أنطلاقاً من هذه الظاهرة التشويهية في داخل العقلية السلطوية الغربية ضد الآخر، التي كانت جزء منها العقلية الدينية الغربية، كان هدفها الهيمنة الثقافية، ودعم ما يمكن أنّ يقدم للثقافة الأخرى الأكثر تقدماً ووعياً من الثقافات المحلية التي تحكمها العقليات الهمجية، والشهوانية التي لا تراعي حقوق الإنسان والأقليات وغيرها في الشرق، ومن ثم عملت هذه الثقافة المتعالية على أنتاج بديل للحقيقة المحمدية وهي صور مشوهه قابلة للتطبيق، وما (داعش) ومثيلاتها إلا صناعة لهذه العقلية الغربية وصورة مهمة للتصوير المحرف والمشوه لشخصية الرسول الكريم محمد (ص) الذي حاول العقل الغربي تسويقها داخلياً كما قلنا لأجل التخويف الداخلي للشعوب الغربية، وكذلك لأجل تثبيت هذه الصفات في الذهنية الغربية من جهة، ولأجل التسويق الخارجي وفصل الشخصية الشرقية المسلمة في الوقت الحاضر عن ثقافتها الاصلية، التي عمل الغرب على تشويهها بكل جهد و اصرار وتقصد في هذا الاتجاه.

إنَّ الخطاب الثقافي الغربي الموجه الى الداخل و الخارج في رسم صورة الرسول محمد(ص) بهذه الطريقة هي تأتي من أجل بناء مركزية حتى تصبح جزء من ميتافيزيقية البناء العقلي الغربي الجمعي وجزء من ذاكرة تُحفز متى يشاء من يقوم على تحفيز هذه الصورة، لذا فإن حضورية تشوية الصور الذهنية في العقل الغربي في الوقت الحالي هي امتداد طبيعي لآفاق التشوية السابقة، وكأنها كونت قوالب جاهزة في وصف الآخر، وحتى البعض من أبناء الشرق المسلم أخذ يصدّق بهذه الصور، وخصوصاً ممن يرى بالثقافة والحضارة الغربيتين قاعدتين مهمتين في بناء الفرد، دون أنّ يدقق بمدى مصداقية هذه الصور، في تقيم موضوعي يفصل بين الحضارة الغربية، ومنجزاتها المادية، وبين النوايا التي تحاول أنّ توظفها في تشكيل ثقافة الآخر وبناء صورته كون كل من الحالتين منفصلتين، ولابد من الفرد في الشرق أن لا يتأثر بالحضارة الغربية فكرياً كونها متقدمة ماديأً من دون أنّ يكون لي خصوصية ثقافية أتعامل بها مع هذه الحضارة، حتى لا الغي هويتي الخاصة، ومن ثم الغي ثقافتي وأهم الشخصيات التي شكلت واقعي، ومن أهمها هي شخصية الرسول الكريم محمد (ص)، حتى لا أقع في التناقض، فالحضارة الغربية بمنجزاتها المادية نستطيع أن نتواصل معها كون أغلب المنجزات تخدم الإنسانية ككل، لكن تبقى عملية التغيير الثقافي قابلة للنقاش، والتساؤل حول أهم المقاصد التي يريدها العقل الغربي وهيمنته الثقافية من الآخر المختلف ثقافياُ، فتصوير أهم الرموز بصور مشوهه هو مخالفة فاضحة وأشاره دالة على سلوك الهيمنة الثقافية وتشويه ما في كتابه المقدس أيضاً مخالفة فاضحة، فلا بد أن يستوعب المندمج مع الحضارة الغربية هذا الفرق بين المنطلقين، حتى لا تصبح ذاكرتنا الجمعية مساهمة بظاهرة التشويه لشخصية الرسول (ص)، وحتى لا نصبح مدانين من قبل رسولنا الكريم بجزء من أذيته، كما قال في الاشارة الى الأذية التي تعرض لها ومازال يتعرض لها، وهي اكبر عملية تشويه يتعرض لها على مر التاريخ.

إنّ هاتين الركيزتين (الفلسفة والدين) ساهمتا بشكل مؤثر في تثبيت الأوصاف، حتى أصبحت هذه الأوصاف من المرجعيات التي يرجع اليها من يريد تأكيد هذه الصور، وأثارتها في أي وقت ضد الآخر المسلم. يساعدهم في ذلك ما يوفره الآخر من تطبيقات لهذه الصور المشوهة في أزمان مختلفة من الصراع بين الحضارتين الغربية والشرقية، والشواهد كثيرة ومنها ما وصلت إليه في الوقت الحاضر حركات التطرف الاسلامي التي أصبحت مساعدة للنوايا الغربية في تثبيت هذه الصور المختلقة عن الرسول (ص)، لذا يجب أن يصبح فضح وفصل هذه التطبيقات عن هذه الشخصية العظيمة من خلال العودة الى الصورة الحقيقية التي حفظها لنا بعض الثقاة ممن كتب التاريخ بصورة صحيحة.

***

الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

الاحتفال بالأحداث التاريخية مهم جدا للشعوب، والجماعات البشرية، أيا كان انتماؤها الديني أو الثقافي، أو السياسي، أو غيرها من الانتماءات، لما في ذلك الاحتفال من احتفاء برمزية الحدث وأثره في صياغة الوعي وتكامله عند هذه الجماعة أو تلك، بما يجعلها - الحدث- أكثر فهمًا للواقع الذي تعيشه الجماعة/ الأمة/ الطائفة/ الأقلّية، واستيعابًا للمتغيرات في كل عصرٍ، وفقًا لتلك الثوابت التي انطلقت منها وآمنت بها، وجعلتها قِبلةً تُحدِّد من خلالها الصواب من دونه، هذا ما ينبغي أن يكون على أساسه إقامة الاحتفاء وإحياء الذكرى وإنعاش الذاكرة به، أما إذا كان الاحتفال منسلخًا من كل ما تم ذكره من أولويات عقلانية تنفع حاضر الجماعة وتمدّها بجرعات معنوية تعينها على مواجهة التحديات المعاصرة أو المستقبلية في ظل التغيرات التي يعيشها العالم، فلا قيمة لإحياء مثل هكذا مناسبات، واستعادة التاريخ في ذكرى بعض أحداثه؛ لا لقصور في تلكم الأحداث، فهو تاريخ على أي حال، ولكن لتقصيرٍ يرتبط بهذه الجماعة أو تلك ممن يهمُّها إحياء هذه المناسبة أو غيرها، بما ينسجم ومحددات هويتها بين الهويات الأُخر.

وعلى سبيل المثال أرى ما القيمة التي نتغيّاها عند أمةٍ من الأمم، حين تحتفل بذكرى استقلالها، وهي لم تتخلّص بعد من براثن التبعيّة للآخر الذي تحتفل بذكرى استقلالها منه..؟! أو تحتفل طائفة من البشر آمنت بدينٍ من الأديان، أو مذهبٍ من المذاهب، بذكرى رحيل أحد كبار رموزها، وهي لم تعمل على ترجمة أفكاره التي نادى بها عمليًّا في حياته وبُحَّ صوتُهُ من أجل تطبيقها وإشاعتها لا بين جماعته التي آمنت بخطابه فحسب، بل بين كل الناس على مختلف توجّهاتهم، أو تعمل جماعةٌ من البشر بوصفهم ممثلين لهذه الطائفة الدينية على إحياء ذكرى استشهاد أحد أئمة هذا المذهب الذين يدينون له بالطاعة والتوقير، ويرون فيه المثال الأوحد لترجمة التعاليم الدينية دون غيره، وهي لم تستفد من المنعطفات التاريخية التي مرّت بهذه الجماعة، أو لم تقرأ الظروف التاريخية التي أُحيطت بذلك الإمام/ الرمز الممثِّل لتلك الجماعة، وبالمحصِّلة قد تقع تلكم الجماعة بالمطبّات التي وقع فيها السلف منهم، من دون اجتيازٍ آمن يوفِّر لها الوقت والجهد في آنٍ واحد، فيجعلها تراوح في مكانها ماديًّا ومعنويًّا بين سواها من جماعات، من دون أن تأخذ العِبرة ممّا سبق وقوعه من أحداث، وبهذا يكون التاريخ عند هذه الجماعة لا يأخذ سوى دور "الاجترار" الفج، من دون أن يُعاد تدويره بطريقة خلّاقة تصبُّ بالدرجة الأساس في صالح الجماعة التي شاءتْ أن تُنسج هويّتُها المذهبية/ الثقافية، من خيوط أحداث التاريخ التي ترى وقوعها من عداد المُسلّمات، أو قد تقع في بعض الممارسات الخاطئة التي كانت السبب في ما حصل من مآسٍ راح ضحيّتها أولئك القادة الذين أضحوا على طول زمن هذه الجماعة أو تلك رموزًا لا يطالها شكٌّ أو شبهة فيما صدر لها من خياراتٍ أو قرارات تُمثِّل مصائر تلكم الجماعة وقناعاتها، لاسيّما إذا كانت المنطلقات لدى هذه الجماعة أو تلك داخل الإطار الإسلامي الواحد غير مبنيةٍ على أسسٍ صحيحة بما يكشف تخبّط أهواء قادتها الزمانيين، وجهل القاعدة الجماهيرية التي يسوسها أولئك القادة، بما يؤدي إلى سلوكيات تصدر عنها أبعد ما تكون مستقاةً من فكر أولئك الرموز من أئمة لم يفكِّروا بجماعتهم على حساب المصلحة العامة للإسلام، وفي هذا الشأن يذكر السيد فضل الله في أحد خطبه، أنه (إذا كنتم تفكِّرون كمسلمين فإنكم تستطيعون أن تلتقوا مع المسلمين الآخرين، ولكن عندما تفكِّرون من مواقعكم الطائفية، فإنَّ كل الواقع السياسي يُبعد بعضكم عن بعض، لأن كل طائفة تعمل على أن تكون مستقلة عن الطائفة الأخرى في كلِّ قضاياها وتعمل على أن تتقوّى على الطائفة الأخرى، حتى بالكافرين..! وهذا ما يحدث في داخل اللعبة اللبنانية وفي داخل واقع العالم الإسلامي [...] إنَّ معنى التزامنا عليًّا (ع) هو أن نلتزم الإسلام ومصلحته، وإلا فقد نلتقي بعلي (ع) يوم القيامة، وقد عبثنا بوحدة المسلمين وأعنَّا المستعمرين عليهم، وناصرنا الكافرين ضدّهم نتيجة عقدة. فنقول له: يا علي لقد حاربنا من أجلك وسببنا الناس من أجلك وعملنا كل ما عملنا من أجلك فأعطِنا جائزتنا، فيقول علي (ع): من قال لكم إنكم عملتم من أجلي..؟ إنكم واهمون فمن يعمل للإسلام ولعزته ولقوّته، فهو الذي يعمل من أجل علي (ع) لأن عليًّا باع نفسه لله ولم يبعها لنفسه، ولم يكن يعمل لذاته بل كان يعمل للإسلام، فإذا كنتم تعملون لعلي (ع) فاعملوا للإسلام من خلال خطِّه)[1]، فلا بدّ من الوعي التام بتمثّل التاريخ وضرورة قراءته بدراية تقي من الوقوع في الأخطاء التي عانى السلف من تداعياتها، ولا يُفهم من هذا الطرح، (فالوعي التاريخي حاجة مُلحّةٌ ليس لقراءة التاريخ فحسب وإنما لقراءة الواقع أيضًا، فالذي لا يكون له بصيرة تاريخية يقع في أخطاء كبيرة حتى وإن كان رساليًّا يُصنِّف نفسه في عداد الثُوّار، فإننا نجد كثيرًا من هؤلاء عندما كتبوا في التاريخ وقعوا في الأخطاء نفسها التي وقع فيها المؤرِّخ السلطوي)[2].

إنَّ فكرة استلهام الحدث الديني واستثماره لارتقاء الواقع الذي تعيشه الجماعة الموالية لهذا الرمز، أو لذاك، أشار لها القرآن الكريم في أكثر من آيةٍ أعربت عن الغاية التي من أجلها سيقت قصصُ الأوّلين من الأنبياء والمُرسلين وغيرهم من أهل الضلال والانحراف، وكان استدعاؤها لبيان العِبرة لمن يأتي بعد هذه الأقوام، ولإسقاط الحجّة لمن يتذرّع بجهله – فردًا كان أم جماعة- فيما يمرُّ به من أزمات أو مواقف، فقد (أنزل الله في القرآن آيات كثيرة، يحدّثنا فيها عن بعض النَّماذج في وقائع المعركة، وعن الدروس التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوها من المعركة، لأنَّ الإسلام، في ما جاء به القرآن، لا يريد للمسلمين عندما يمرّون بأيّ تجربة، سواء كانت التجربة تجربة نصر، أو تجربة هزيمة، أو تجربة يختلط فيها النصر بالهزيمة، كما كانت هذه المعركة، أو تجربة خطأ أو صواب أو فشل أو نجاح، إنَّ الله لا يريد للمسلمين أن تنتهي التجربة وينتهوا معها، ليصفِّقوا لانتصاراتهم وليبكوا هزائمهم، بل يريد لهم أن يدرسوا كلّ تجربة في الحياة ليفهموها جيّداً، فإذا كانت تجربة نصر ونجاح، فعليهم أن يدرسوا كيف انتصروا وكيف نجحوا وما هي عناصر النجاح والنّصر، ليستفيدوا من ذلك في المستقبل، وعندما تكون المسألة مسألة هزيمة أو فشل، فعليهم أن يدرسوا أسباب الهزيمة وأسباب الفشل، من أجل أن يتفادوها في المستقبل. إنَّ الله يريد للإنسان دائماً أن يستثمر نجاحاته لنجاحات أخرى، وأن يأخذ الدرس في هزيمته، حتّى لا يقع في هزيمة أخرى، لتكون تجربة الإنسان مدرسة له في كلِّ مجالات الحياة)[3] ولأنَّ "المؤمن لا يُلدغ من جُحرٍ مرَّتين" كما ورد في الحديث، كان المفروض أنْ لا تُكرَّر المآسي التي يقع فيها المؤمنون بهذا الخطِّ الرسالي الذي يرون فيه الصواب دون سواه، ولكنْ للأسف كانت العِبَر تمرُّ من دون استثمارٍ عمليٍّ لها في كثيرٍ من محطّات التاريخ للأمّة، وكأنَّ قول الإمام علي (ع): (ما أكثرَ العِبَر وأقلَّ الاعتِبار) أضحى سُنّةً تاريخية تقع فيها الكثير من الأمم، وفي مقدِّمتها أمةُ المسلمين في العالم؛ لما نشاهده من تداعيات الواقع المرير الذي تمرُّ به جماعة المُسلمين هنا أو هناك، في كثيرٍ من المجالات جعلها تأخذ دور المستهلك أو المقلِّد للآخر، كلُّ ذلك لم يكن غير واحدٍ من أسباب عدم استلهام التاريخ وقراءته بوعي لا على مستوى الفرد، بل على مستوى الجماعة، ولأنَّ التغيير الإيجابي نوعًا وكمًّا لا يتحقَّق على صعيد الأفراد، بل على مستوى الجماعة؛ فلذلك ليس عجبًا اليوم من توالي النكسات على هذه الأمة، الأمر الذي دعا أحد كبار علماء الدين المُصلحين – وهو السيد هاشم معروف الحسني- إلى القول: (لقد ترك لنا الحسين وجدُّ الحسين والأئمة من ذرية الحسين، من أقوالهم وسيرتهم وسلوكهم وجهادهم، مدرسةً غنيةً بكلِّ ما نحتاجه في الحرب والسلم والشِدّة والرخاء والفقرِ والغنى وكلّ نواحي الحياة، فما أولانا ونحن ندّعي الإسلام والتشيّع لهم، أن نرجعَ إلى سيرتهم ونسيرَ على خُطاهم، ونصنعَ من ميراث أمّتنا وقادتنا خير أمةٍ أُخرِجتْ للناس)[4]. وهذه النظرة أعلاه، تؤكِّد لنا الأهمية القصوى لوعي التاريخ واستلهام تجاربه السالفة بما ينفع الناس في حاضرهم، ويرتقي بهم لما فيه خيرهم وعزّتهم وقوّتهم بين الأمم، ولكنْ في الواقع لم يكن للمنتمين إلى هذا الدين أو هذا المذهب ذلك الوعي الكافي بتلكم التجارب التي صارت في ذمّة التاريخ، وذلك لاستلابه الدراية الاجتماعية لواقعه التي تستلزم منه الحضور الواعي لما حوله من تداعيات معاصرة، بما يكشف استلهامًا دقيقًا للتاريخ وتمثُّلاً ذكيًّا لدروسه، وإلا كان "الاستحمار" قدرَ هذه الأمّة، الذي يعمل على (تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مساره عن "النباهة الإنسانية" و"النباهة الاجتماعية" فردًا كان أم جماعة. وأيُّ دافعٍ عملَ على تحريف "هاتين النباهتين" أو فرد أو جيل أو مجتمع عنهما، فهو دافع استحمار! وإن كان من أكثر الدوافع قدسية وأقدسها اسمًا. إنَّ أي عملٍ ومهمةٍ سوى هاتين النباهتين، أو ما يعد في طريقهما، ما هو إلا وقوع في العبودية، والذهاب ضحيةً لقوةِ العدو والاستحمار المُطلق، وإن كان عملاً مقدّسًا وموضوعه مهمٌّ جدا)[5]. ولعلَّ هذا الطرح النظري يتأكّد لنا تطبيقًا فيما ذكره السيد هاشم معروف الحسني، ناظرًا فيما آل إليه حال المسلمين الشيعة وتشرذهم، في قوله: (ولو نظرنا ومع الأسف الشديد، إلى مبادئ التشيّع التي تجسِّد الإسلام بكل فصوله وخطوطه، وقارنّا بينها وبين ما نحنُ عليه من تخاذلٍ وتراجعٍ وإذلال، وانحرافٍ عن الإسلام ومبادئه وقيمه، وجدنا أنفسنا من أبعد الناس عن عليٍّ وبنيه وعن الحسين بالذات، الذي نحتفل في كل عامٍ بذكراه ونبكيه، ونردِّدُ بألسنتنا: يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزًا عظيما، وأنا لا أشكُّ بأن الحُسين لو وُجِد في زماننا هذا، لصنع من القدس وجنوب لبنان كربلاء ثانية، وسوف لا يناصره ممّن يدّعون الإسلام والتشيّع، وممّن يتباكون على القدس والجنوب ويُتاجرون بهما في البيانات والخطب، وعلى صفحات الجرائد أكثر من العدد الذي ناصره في كربلاء الأولى)[6]. وشواهد أخرى كثيرة، يمكن أنْ نضعها على محكِّ الوعي تارةً واستلابه تارةً أخرى، منها ما نراه اليوم من غيابٍ لوعي الأعمِّ الأغلب من الناس وهم يُخدعون بشعارات المُرشّحين للانتخابات، ممّن ينهمكون في أواخر دوراتهم الانتخابية بأعمال من شأنها تضليل الرأي العام، في سبيل إظهارهم بمظهر الخادم للشعب، والمضحّي لأجله، وهي لعبةٌ قذرة تهدف إلى أنْ ينسى عموم الناس، ما كان لهؤلاء من صفقات فساد، أو استغلال المنصب لمصالح شخصية لهم ولحاشيتهم، وهذه اللعبة لم تكن جديدة في عالم السياسة، بل لها شواهد كثيرة في التاريخ، منها (لمّا أراد أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس، طلب من زياد أنْ يأخذ بيعة المسلمين في البصرة، فكان جواب زياد له: ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب، والقرود، ويلبس المصبّغات، ويُدمن الشراب، ويمشي على الدفوف وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر؟ ولكن تأمره يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين فعسانا أنْ نُموِّه على الناس)[7]، فلو كان فعلاً هؤلاء الناس على وعيٍ تامٍ بتاريخهم، مستلهمين منه الدروس الكفيلة بعدم وقوعهم بمآسي السابقين، لما كان لهذا السياسي – وإنْ كان متسربلاً بثوب الانتماء لنهج آل البيت – أنْ يفلح في تمرير مثل هذه اللعبة القذرة في غايتها؛ لأنَّ القاعدة الجماهيرية صارت على وعيٍ تامّ أنَّ الذي يُمارس التضليل معها مثله مثل معاوية وسياسته مع الرعية في إبراز الصلاح بصورةٍ كاذبة ليتسنى له فيما بعد ما يريد الوصول إليه من غاية، وإنْ كان هذا السياسي المعاصر يتظاهر بكل ما يسعه من سبيل، أنه من الموالين الخُلّص لرموز الإسلام والمدافعين عن مبادئهم. ولكن نأتي إلى الواقع، فنرى أنَّ الكثير من الناس ما زالت تتمتع بذاكرتها السَمَكيّة "قصيرة الأمد" فتعيد الكرَّة بعد الأخرى لانتخاب هذا السياسي أو ذاك؛ لما يُخدعون به من مظاهر تنطلي عليهم لأوّل وهلة، وما بعدها لا ينفع الندم.

ولمّا كانت الخطوة الأولى لتنضيج وعي جمعي للأمّة بضرورة استلهام التاريخ والتقاط الدروس الأخلاقية من أحداثه، تقوم على غربلة ذلك التاريخ/ التراث وتصنيفه، وهذا ما يقوم به العلماء المُصلحون والباحثون المتخصِّصون في ذلك الحقل، (فإنَّ أي جهدٍ حركيٍّ لإصلاح الأمّة يكون بعيدًا عن مناله إذا أُهمِلَ الوعي التاريخي، لأنه ليس ضرورة معرفية فحسب وإنما ضرورة حياتية راهنة، فلو تغيّرت رؤية الأمة إلى التاريخ لَتَغيّرت آليًّا حياتها، لأن رؤيتها إلى التاريخ ستنعكس على موقفها في الحياة، ومواقف الأمة في الحياة حينما تكون إيجابية صحيحة فإن حياتها تتحوّل كلُّها إلى حياة إيجابية)[8]، ولعلّ هناك من يعترض، ويقول: ما علاقة توظيف أهداف النهضة الحسينية ودروسها الأخلاقية، فيما ذكرته من تردٍّ شمل مرافق الحياة بأجمعها في حياتنا الراهنة؟ وفي مقام الإجابة، نرى أنَّ من الظُلم والإجحاف بهذه النهضة، أنْ تكون مقصورة الفائدة على جانبٍ دون آخر من جوانب الحياة؛ لأنَّ امتداد الرسالة الإسلامية قد تجلّى بشخص الإمام الحسين (ع) وبما يصدرُ عنه من سلوكٍ يُترجمُ هذا الامتداد الرسالي، ولما كان إيماننا بهذا الدين منطلقًا من امتلاكه القابلية المُطلقة على حلِّ سائر مشاكل الحياة البشرية وتذليل سائر عقباتها، والجواب عن جميع استفهاماتها على الأقل فيما يتّصف به من الناحية الواقعية، وإلا فمن الناحية الفعلية فهو يحتاج إلى جهدٍ وتفكيرٍ واجتهادٍ يبذله أبناؤه ذوو القابليات العقلية العالية لإثراء هذه الجوانب التي تغطّي كل متطلّبات الحياة[9]، فالحسين (ع) لم يُقتل لأجل أنْ نبكي عليه، أو ليكون ذكرى شهادته موسمًا لطبخ بعض الأطعمة ولبس السواد، واستظهار كلمات العزاء، واستماع الخُطب أو الأناشيد التي تستعيد الذكرى بما يُهيّج العاطفة الدينية فحسب، أو لقطع الشوارع واستعراض مواكب العزاء وغيرها، وتعطيل الأسواق وإيقاف الدوام الرسمي من المؤسسات الحكومية وغيرها، بل كان قتله يمثّل إنعاشًا للدين الإسلامي، وتحريرًا لنا من قيود التبعيّة للمُضلّين من حُكّام طُغاة، ومن قيود التقاليد البعيدة عن قيم الإسلام العُليا في مضامينها، وانعتاقًا من عبوديّة الشهوات التي تُكبّل الإنسان عن نيل حقوقه المشروعة، بعد أنْ ظهرت البِدعةُ باسم الدين، الأمر الذي مسخ كلَّ تعاليم الدين السمحاء التي يُفترض أنْ ترقى بأتباعها إلى ما يجعلهم أفضلَ الشعوب بحسب فرض قوله (ع): (إنما خرجت لطلب الإصلاح) فالإصلاح المقصود هنا يعُمُّ سائر ميادين الحياة، ولا يقتصر على الزمن الذي عاش فيه، فحجم التضحية العظيمة التي قدّمها الإمام الحسين (ع) يُفترض أنْ يُقابلَ بارتفاع مطاليبها الإصلاحية إلى ما يخترق حدود الزمان والمكان، باعتبار أنّها أفهمت الأمة بأجيالها المتطاولة مقدار ما ينبغي أنْ يكون عليه الفرد من درجة الإخلاص والصمود وقوة الإرادة ونكران الذات تجاه العدل، ومن أجل محاربة الظلم والانحراف، وبهذا يكون الفرد مستشعرًا بأهمية الأطروحة العادلة، ومتّجهًا بكل رحابة صدر إلى تقديم المصلحة العامة على كلّ مصالحه الخاصة[10]؛ ليكون لبنةً في طور الاستخلاف الربّاني على يد المصلح الموعود.

ولا نبالغ إذا قلنا بأن درجة نجاحِ صدى تقبّلنا لرسالة تلك النهضة الحسينية تتحدَّدُ من طبيعة الرسالةِ التي نبعثُها للعالمِ من خلالِ ما نُمارسُه في عمليَّةِ الإحياءِ لموسمِ عاشوراء، فحين نقدِّمُ للعالمِ صورةً مشرقةً لهذه النهضةِ العظيمة، نكون قد أحرزنا درجةَ النجاح، إذ كلَّما كانتِ الصورةُ أكثرَ إشراقاً وتعبيراً عن واقعِ النهضة كلَّما أحرزنا درجةً متقدمةً من النجاح، فقيمُ النهضةِ أقربُ شيءٍ للقيمِ الإنسانيَّة وهي التعبيرُ الصادقُ لقيمِ الإسلام، فحينَ يُعبِّر الخطابُ الحسيني المترجم من خلال سلوكياتنا المنطلقة من قيمِ الحسينِ (ع) ومكارمِ أخلاقِه، وأهدافِ نهضته، والشعاراتِ التي رفعَها، والبطولاتِ والملاحمِ التي سطَّرها، فإنَّه يكونُ قد تمكَّن من تعريفِ العالمِ بنهضةِ الحسينِ وقدَّم له صورةً ناصعةً عن قيمِ الإسلام وروَّاده[11].

***

أ. د. وسام حسين العبيدي

..................

[1]  الجمعة منبر ومحراب: 107 .

[2]  التاريخ الإسلامي دروس وعبر، محمد تقي المدرّسي: 29 .

[3]  الجمعة منبر ومحراب: 269 .

[4] من وحي الثورة الحسينية: 42 .

[5] النباهة والاستحمار، علي شريعتي، سلسلة الآثار الكاملة: 100 – 101 .

[6] من وحي الثورة الحسينية: 42 .

[7] تاريخ اليعقوبي: 2/ 220 .

[8]  التاريخ الإسلامي دروس وعبر: 37 .

[9] ينظر: القانون الإسلامي وجوده، صعوباته، منهجه، السيد الشهيد محمد الصدر: 15 .

[10] ينظر: اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني، السيد محمد الصدر: 618 – 619 .

[11] ينظر: من خطبة الشيخ محمد صنقور، موقع صحيفة الوسط البحرين على موقع:

http://www.alwasatnews.com/news/print/1033799.html

لعلنا لا نحتاج إلى ديباجة ومقدمة، توضح أهمية التفاهم والتلاقي بين مختلف المكونات والتعدديات والتعبيرات في المجتمع الواحد لتحقيق مفهوم الأمن والاستقرار.. فالأخير ليس وصفة جاهزة، وإنما هو مرحلة وفضاء تصل إليه المجتمعات، حينما تزداد وتيرة التفاهم والتلاقي بين تنوعاتها ومكوناتها المختلفة.

وما نود أن نثيره في هذا الصدد هو دور التربية الجمالية في تعزيز خيار الاستقرار والسلم الأهلي والاجتماعي. فلو تأملنا قليلاً في مفهوم التربية الجمالية نجد أنه يعتمد اعتماداً أساسياً على حقيقة الشعور بالبعد الجمالي لحقيقة التعدد والتنوع الموجود في الطبيعة والحياة الإنسانية. فالطبيعة ليست لوناً واحداً، كما أنها ليست منظراً واحداً، من هنا فإن تنمية الذائقة الجمالية لدى الإنسان، تعني الاقتراب من مفهوم التنوع الهائل الذي تشهده الحياة الطبيعية.

من هنا فإن التربية الجمالية تقتضي التعامل مع الحياة الطبيعية والإنسانية على قاعدة وجود حالة التنوع، وأن جمال الحياة الحقيقي ليس في تحولها إلى لون واحد، وإنما في استمرار تنوعها وتعددها. فالحياة كالشجرة التي تمتلك عشرات الأغصان، وكل غصن يمارس وظيفته ويعطي جماله الخاص. كذلك هي الحياة الإنسانية، فهي مليئة بصور التعدد والتنوع، وهذا هو سر جمالها. ومقتضى التربية الجمالية هو التعامل الخلاق مع تنوع الطبيعة وتعدد الحياة الإنسانية.

وأعتقد اعتقاداً جازماً أن تطور التربية الجمالية بكل أبعادها في حياتنا الاجتماعية، هو أحد المداخل الأساسية لتوطيد أركان الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي. لأن الركن الأساسي لعملية الاستقرار هو الاعتراف والتعامل الإيجابي والخلاق مع كل حالات وحقائق التنوع والتعدد الموجودة في الحياة الإنسانية. إن التعامل بروح إيجابية أو بمنظور جمالي مع حالة التعدد والتنوع، لا يأتي صدفة، وإنما هو بحاجة إلى تربية وتدريب في مختلف مراحل حياة الإنسان. فكما يحتاج كل واحد منا إلى أن يربي عقله، ويربي نفسه، ويربي روحه، ويربي جسده، هو بحاجة أيضا أن يربي ذائقته الجمالية.

وهنا نحن لا نتحدث فقط عن ضرورة تنمية الذائقة الجمالية للاستمتاع بالجمال الحسي فقط. وإنما نحن نقول ونعتقد أن مفهوم الجمال لا ينحصر في القضايا والمسائل الحسية، وإنما هو أوسع من ذلك بكثير. فأنا وأنت حينما نربي ذواتنا على الصدق مثلاً، فإننا نزرع في وجودنا وحياتنا شجرة جميلة، مزهرة، مثمرة، يراها الآخر في هذا السلوك اللطيف والتعامل الجميل والكلمات الطيبة فتبعث في نفسه ما تبعثه شجرة حقيقية مورقة، مشرقة. ويشير إلى هذه الحقيقة أحد الكتاب بقوله: إن الطفل الذي يفتح عينيه ليرى أمّاً صبوحة الوجه أنيقة الثياب، عذبة الألفاظ، وينتقل في بيت تكاد النظافة تنطق في كل جوانبه وزواياه، ويجد الصفاء يرفرف في أنحائه من أم حانية وأب عطوف، ينغرس حب الجمال في نفسه فينشأ وهو جميل في ملبسه وفي تعامله وفي نظرته للأشياء.

لهذا كله فإن التربية الجمالية التي هي في جوهرها تعني القبول بحقيقة التعدد والتنوع، والتعامل مع هذه الحقيقة بوصفها هي سر جمال الكون والإنسان، هي أحد المداخل الأساسية لتوطيد أركان السلم الأهلي. ولو نظرنا قليلاً في كل الممارسات التي تناقض مفهوم السلم الأهلي والتعايش الاجتماعي، لرأينا أن هذه الممارسات لا تنسجم والرؤية الجمالية المتنوعة لحياة الإنسان فرداً وجماعة.

ونحن هنا لا نتحدث فقط عن الجمال الظاهري للإنسان، الذي يتجسد في النظافة وحسن الطلعة وفي الأناقة والزينة، وإنما نتحدث عن الجمال الباطني والجوهري الذي يتجسد في جمال البيان ورجاحة العقل والأخلاق الفاضلة. ولو تأملنا في الفضائل الأخلاقية والاجتماعية كالحب والعفو والعفة والخير والتعاون والكرم والتواضع لرأينا أن هذه الفضائل وغيرها من صميم مفهوم الجمال الذي نتحدث عنه. وفي المقابل فإن كل الرذائل التي تضر بالحياة الإنسانية والاجتماعية فهي من القبيحات التي تناقض مفهوم الجمال. فالكذب قبيح، والعدوان على السلامة الخاصة والعامة قبيح، والغش قبيح وهكذا دواليك.

لهذا نجد أن التوجيهات الإسلامية، تحثنا وتدعونا إلى تجسيد المحاسن والابتعاد كل البعد عن كل ما يشين ويقبح حياتنا. فالآيات تدعونا إلى العمل الأحسن دائماً. قال تعالى [إنا جعلنا ما على الأرض زينة لنبلوهم أيهم أحسن عملاً] (الكهف، الآية 7). والقول الأحسن [ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين] (فصلت، الآية 33). والتحية الأحسن [وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها] (النساء، الآية 86). والصفح الجميل [فاصفح الصفح الجميل] (الحجر، الآية 85). إلى غيرها من التوجيهات التي تحثنا دوماً وفي كل الأحوال إلى تبني سلوك الجمال في حياتنا الخاصة والعامة.

لهذا فإن السلم الأهلي والاجتماعي، يقتضي دائماً إشاعة الجمال من حولنا في ما نكتب وفي ما نرسم وفي ما نعمل وفي ما نبني من علاقات، لنسهم جميعاً في إضافة ولو لبنة صغيرة في البناء الاجتماعي.

لهذا كله فإننا نستطيع القول: إن جوهر المشكلة الحقيقية ليس وجود حالة التنوع والتعددية في المجتمعات الإنسانية، وإنما في غياب الإدارة الواعية والحكيمة والحضارية لحالة التنوع ومتطلباتها المختلفة. وإن تجارب المجتمعات الإنسانية، تعلمنا أن الأفكار والرؤى والقناعات، لا تنتقل بين الناس بالفرض والقهر، وإنما بالحرية والتداول الطبيعي للأفكار والثقافات. وإن المحاولات التي تبذل دائما لفرض رؤية وقسر الناس على نمط واحد من الفكر والثقافة، لا تفضي إلى نتائج إيجابية، حيث تتوفر كل موجبات التحرر من قهر الفرض والقسر.

فالتعصب هو الذي يقود صاحبه بشكل أو آخر للتعدي على حقوق الآخرين ونواميسهم. والمتعصب هو الذي يقوم بتصنيف الناس وفق آرائه الخاصة. والأنكى من ذلك أنه لا يكتفي بهذا التصنيف وإنما يعمل ويتحين الفرص للانقضاض على الآخرين الذين اعتبرهم خارج دائرته أو لا ينسجمون وقناعاته الفكرية والثقافية. فالتعصب هو الذي يحيل الحياة الإنسانية المليئة بصور التعدد وحقائق التنوع إلى ساحة لممارسة العنف والقتل الجماعي.

فاحتكار المشروعية وممارسة الوصاية على شأن الحياة والإنسان، هو الذي يدمر كل أسس ومكونات السلم الأهلي والاجتماعي.

وعليه فإننا نعتقد أن تنمية أسس وأبعاد التربية الجمالية من احترام عميق لكل أشكال التنوع الموجودة في الحياتين الطبيعية والإنسانية إلى تعزيز كل الفضائل الأخلاقية والاجتماعية، هو أحد السبل الأساسية لتجاوز كل المخاطر التي تهدد النسيج الاجتماعي لكل مجتمع.

فنحن مع الحب والمحبة قولاً وفعلاً، ومع احترام الإنسان بصرف النظر عن أصوله العرقية وانتمائه الأيديولوجي وصيانة كل حقوقه الخاصة والعامة. ومع الوحدة بكل مستوياتها، ولكنها الوحدة التي لا تبنى على جماجم الآخرين أو خصوصياتهم الثقافية، وإنما الوحدة التي تبنى من خلال احترام التعدد والتنوع، وفسح المجال لكل الخصوصيات لكي تمارس دورها في مشروع الوحدة وتمتين أواصر العلاقة بين كل مكونات الأمة والمجتمع الواحد. فالسلم الأهلي لا يبنى بنزعات الاستفراد والإقصاء، وإنما بمبادئ الشراكة والتعاون والتعاضد وإزالة كل الضغائن من النفوس والعقول والسلوك.

***

أ. محمد محفوظ

حضرت ليلة 23-7-2023 مساحة حوار بعنوان: "الإنسان في علم الكلام الجديد: الأنسنة عند عبد الجبار الرفاعي" على منصة "أنا" في  Twitter  لمدة خمس ساعات متواصلة من البحث والنقاش الحر. الشكر موصول للأستاذة "أنا" على هذه المساحة المميزة في نقاش التساؤلات الفلسفية واللاهوتية، والشكر للدكتور عباس براهام على مداخلاته ومعلوماته الكثيرة، وشكر للدكتور محمد حسين الرفاعي الذي لا يكفّ أبداً عن التساؤل وتجديد التساؤل بروحٍ حرة وذهنٍ عقلاني متقد. حاولت التحدث بهذه المداخلة، لكن يبدو أن الفرصة لم تسمح بسبب كثرة الحضور والمتداخلين الذين كانوا نحو 1000 مستمع. وفيما يلي ما وددت ذكره في المداخلة.

  بما أنَّ عنوان الحوار عن علم الكلام الجديد عند الدكتور عبد الجبار الرفاعي، فلا بد أن نعرف أن "إعادة تعريف الوحي" هي محطة من محطات "إعادة التعريفات" المركزية في الفكر الديني للرفاعي، لذلك لا يمكن عزلها عن بقية التعريفات، لا سيما تعريف الإنسان والدين لديه، الذي ينبغي التركيز عليه كونه هو عنوان الحوار الرئيسي.

  في مداخلة أحد الأساتذة جرى خلط واضطراب بين توجهات كلامية جديدة عدة في حقل إعادة تعريف الوحي، تحدث الأستاذ وكأن تعريف الرفاعي متطابق مع تعريف الدكتور نصر حامد أبو زيد، على الرغم من أن الاختلاف عميق بين الموقفين، نصر أبو زيد يرى أن الوحي "منتَج ثقافي" يُنتجه الواقع العربي عصر البعثة، بوصفه ديالكتيكاً صاعداً، أي أن أبو زيد يقع في فخ إبستمولوجي، بسبب تجاهله للوحدة المنطقية بين المفهوم والمصداق. هذا الفخ لم يقع فيه الرفاعي مطلقاً، فهو ينطلق من مقدمة واضحة في إعادة تعريف الوحي، يصرح فيها "ان ماهية الوحي غيبية إلهية وليست بشرية"، وهذا كلام واضح في أن الوحي ليس "منتَجاً ثقافياً" يُنتجه الواقع كما يرى نصر أبو زيد. إعادة تعريف الوحي عند الرفاعي لا يمثل أبداً استئنافاً للمقولات الكلامية القديمة حول طبيعة الكلام الإلهي. تجديد علم الكلام عند الرفاعي تجاوز مستوى المحاولة إلى مستوى الفعل الحقيقي والانتقال من النقد إلى البناء، كما ظهر في رؤيته الرحمانية للدين، التي هي ضرورة اليوم في بلادنا، بعد شيوع العنف بمختلف أشكاله.

  الدين ليس هامشياً في المجتمعات الإسلامية، لذلك يؤكد الرفاعي في مؤلفاته على أن البداية في التجديد من إعادة تعريف الدين، بوصفه كما يرى: "حياةً في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". ويشير إلى أن كل كتاباته أتت في سياق إعادة تعريفه للإنسان والدين والوحي، وفي ضوء هذه التعريفات، ولدت رؤيته لله والإنسان والعالم. وذلك يدلل على وعي الرفاعي بعدم امكان تكوين الذوات الحرة من دون إعادة بناء موقع الإنسان في الرؤية الدينية.

  الخلط الآخر هو أن إعادة تعريف الوحي عند الرفاعي ليس استئنافاً للجدل الكلامي القديم بين المعتزلة والأشاعرة حول القرآن الكريم: أهو مخلوق أم مُحدَث، كما سحب بعض المتداخلين الحوار لهذه النقطة، وعقب على هذا القول الدكتور عباس برهام على أن هذا دليل على استمرار الكلام القديم بالجديد. يمكن ملاحظة هذا القول عند الدكتور نصر حامد أبو زيد وإلى حدٍ ما عند الدكتور محمد أركون، ولا نقرأ هذا عند الدكتور عبد الجبار الرفاعي. اهتمت محاولات أركون وأبو زيد للربط بين تأويليتهم الجديدة لماهية الوحي وقول المعتزلة بخلق القرآن، وهذا نوع من الإسقاط التاريخي للمفاهيم مُورس في الفكر العربي للبحث عن الشرعية السوسيولوجية للمقولات المعرفية الجديدة، عبر ربطها في لحظة من الماضي، هذه الظاهرة كانت حاضرة بقوة في مشاريع الفكر العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. الرفاعي تنبه لهذا الإسقاط التاريخي فتجاوزه بوضوح، حيث يرى الرفاعي: "ان تراث المعتزلة برغم عقلانيته، لكنه مرآة لعقلانية عصره"، وهذه التفاتة دقيقة يشير إليها في عدة موارد من كتبه. مقولات المعتزلة حُملت فوق طاقتها في الفكر العربي الحديث والمعاصر، كما حُملت مقولات ابن رشد فوق طاقتها عن الدكتور محمود عابد الجابري، هؤلاء المفكرين انشغلوا بمقولات التراث وألبسوها جلباب الحداثة ومكثوا يدورون فيها، وأغرقوا العقلانية الحديثة بتلك المقولات الأجنبية عنها.

  أظن الدكتور عباس برهام لم يلتفت للتغير البراديغمي / الإبستيمي المهم في حقل الكلام الجديد واختلافه الكبير عن القديم، وهو المتمثل في عنوان الحوار (الإنسان في علم الكلام الجديد عند الرفاعي)، فعندما تتحدث عن الإنسان فأنت تتحدث عن الذات، أي تسعى لبناء ذوات عبر إعادة كشف منابع التذّوت، بحسب تعبير السوسيولوجيست الفرنسي ألان تورين. علم الكلام القديم كان يسعى لبناء جماعات، والجماعات بطبيعتها لا تطيق بناء الذوات، لا تهتم بأي ذات سوى ذات الجماعة، فهي التي تتحكم في مختلف شؤون حياة الأفراد المنتمين إليها. نجد الشكل الحديث لهذا الموقف في الحركات اليسارية والقومية والأصولية في العالم العربي.

  أستاذنا الدكتور محمد حسين الرفاعي كسوسيولوجيست من القلة الذين يتحدثون عن ضرورة إعادة بناء الذات في العالم العربي أولاً في أي مسعى للتحديث، وهو ما كان محوراً لمحاضرته واجاباته التفصيلية في الندوة. يرى: ألان تورين الإنسان "بوصفه ذاتاً ينبغي أن توضع حريتها ومساواتها وكرامتها في منزلة تعلو القوانين نفسها"، بناء الذات أهم من بناء هوية على طريقة الحركات القومية والأصولية واليسارية، وخنق الذات داخل قفصها. كما يحاول الدكتور طه عبد الرحمن وغيره فعل ذلك عبر وضع حدود قومية وإسلامية للتفلسف داخل الهوية، ويطالب بالاختلاف في بناء فلسفات تتعدد بتنوع الهويات القومية والدينية، ويرفض ما هو عالمي في العقل البشري بعيداً عن الهويات المنعزلة.

الإستمرار بثنائية جديدة كثنائية العلمنة / الدين، كما يذهب د. عباس برهام، يمثل ترسيخ الثنائيات من جديد في الفكر العربي، فبدلاً من ثنائية الحداثة / التراث، ها نحن نخرج بتلفيقة أخرى بين فضائين يحتويان على كم هائل من "صراع التأويلات" بتعبير بول ريكور. العلمنة ليست شكلاً واحداً إلا من حيث التسمية، العلمنة متعددة التأويلات كأي مصطلح ينتمي للمعرفة الحديثة في علوم المجتمع والإنسان، وكذلك الحال مع الدين فنحن إزاء تأويلات عديدة للدين. منطق الثنائيات يُدخل العقل في قفص لا يمكن الخروج عليه إلا بتحطيم الفبركة التي تحتوي عليها فكرة الثنائيات.

ختاما أشكر أستاذي الدكتور محمد حسين الرفاعي، الي يقوم بزحزحة إبستمولوجية للثنائيات التي كبلت الفكر العربي الحديث وأقحمته في الاختزال والأحادية، وهو بهذه الطريقة يقوم بتدشين مسار جديد لجيل كامل، والشكر للدكتور عباس برهام، وشكر خاص مجدداً للأستاذة "أنا" على هذه المساحة الحيوية في Twitter.

***

براء ريان - كاتب عراقي من الموصل.

المبادئ هي مجموعة القواعد والقوانين التي تشرح وتوضّح أساس الأشياء وكيفية حدوثها، ولذلك نجد عدة مبادئ حياتية وعلمية، بُنيت على أساسها مجموعة من التطبيقات العملية  ومن المعاني التي تشير لها كلمة مبدأ أنّها معتقد راسخ الثبات، ومعيار علميّ تُقاس على أساسه الأحكام والآراء، والأساس المعرفي المسلّم به لشدة وضوحه، فمثلاً هناك مبدأ النظرية النسبية في الفيزياء، ومبدأ باريتو لتنظيم الأولويات، ومبدأ كارتر، ومبدأ الحرية الفكرية، وغيرها الكثير من المبادئ التي صيغت على أساس العلم والتجربة، فرسّخت المفاهيم وأتاحت المجال لتكون منطلقاً لعلوم ونظريات أخرى.

تعرّف المبادئ بمعناها الاصطلاحي على أنها مجموعة القواعد والضوابط الأخلاقية والمعتقدات التي يميّز به الصواب من الخطأ، فالتزام الصدق يعتبر من المبادئ الشخصية التي تضبط أقوال الفرد وأفعاله، وللمجتمع أيضاً مبادؤه الجماعية، التي يقرّ بمكانتها، ويحتكم لها، في تبيين مشروعية أفعال الأشخاص، من عدمها، حيث تعتبر دائرة المبادئ أوسع من دائرة السياسات العامة والأهداف.

والحديث عن المبادئ سيقتصر هنا علي مجال الرياضة وبالتالي سنسقط الكلمات التالية علي رائد المبادئ ومؤسسها (كما يحلو لهم القول) في مجال الرياضة (النادي الأهلي المصري) والذي يحمل شعار الأهلي فوق الجميع وهويعني أن مصلحة النادي الأهلي فوق كل شئ ولا يمكن لأحد أن يقف أمام مصلحة النادي مهما كان فذلك أساس يمشى عليه أبناء النادي على مر العصور.

ولكن هل النادي الأهلي فعلا صاحب مبادئ ثابته ومٌثل عليا يحتذي بها في مجال الرياضة اما ان بعضها شعارات تطبق حسب الاهواء والمصالح واللعب علي مشاعر الجماهير ويتم تفصيلها كما يحلو لهم.

قبل الأجابه عن ذلك السؤال لا احد يجرأ أن ينكر ما يفعله النادي من انجازات رياضيه علي المستوي المحلي والأفريقي بل أيضا علي المستوي العالمي ولا أحد ينكر الفارق الكبير إداريا بين هذا النادي وباقي الأندية وخاصة النادي المنافس نادي الزمالك. ولكن كل ذلك يحدث لأن المنظمومة الرياضية بالكامل تعمل لخدمة هذا النادي أولاً ولنا في كثير من الواقع ما يدل علي ذلك سواء من تغيير نظام بطولات أو فتح قيد في غير موعدة أو عدم جرأة مسؤلي  لجنة الانضباط واتحاد الكره علي ايقاف لاعبي الفريق والدواعي الأمنية التي لا تظهر إلا اذا تعارض الحدث مع مصالح النادي الأهلي .ومجلس الادارة الذي يتم حله ويتم تعيينه في نفس الوقت دون تغيير وغيرها من الامور التي توضح ان هذا النادي يتقدم والتيار يسبح معه وليس ضده.

ولكن في القتره الاخيره يتم تطبيق  مبادئ النادي بشكل انتقائي وعلي حسب الأهواء وما تقضية المصلحة العامة واتصفت معايير النادي بالازدواجية وخير دليل علي ذلك تعاقد الاهلي مع (امام) الذي أهان النادي ورموزه مبررين ذلك بثقافة الاعتذار وان ما حدث وقتها كان اللاعب ليس علي قوة النادي. من يبرر ذلك هو في نفس الوقت من رفض عودة حسام عاشور (الكابتن التاريخي للنادي) والذي يري أنه من الصواب أن ترمي أبنك حين يخطئ وتذهب لتبني أبن الجيران (المنحرف علي حد قولهم) لكي تربية.

تلك الموقف هو سقطه كبيره من الناحية الأدارية والتي نسفت شعار المبادئ المزيف ، وقبل ذلك كان سقطه أخري لتلك الإداره في علاقة النادي الأهلي بالمستشار تركي وكلنا نعلم ما حدث . وقبل أي شئ ما يدفع أي لاعب كره قدم من التمسك بالانتقال لفريق معين هو المقابل ولنا في تجربة فريق بيراميدز خير دليل والذي كشفت عدد كبير من اللاعبين.

لذلك صاحب المبادئ الحقيقي هو الذي يطبق المبادئ حتي لو تعارضت تلك المبادئ مع مصالة ونجاحاته الشخصية علي المدي القصير ولكن تأثيرها سيكون إيجابيا علي المدي الطويل. ومع ذلك نقر ونعترف ان هناك فارق كبير علي كافه المستويات بين الأهلي وباقي الأندية في مصر وخاصة نادي الزمالك الذي تسببت إدارته منذ عام 2005 إلي الأن في حدوث فارق كبير بينه وبين المنافس والفضل يعود إلي المستشار مرتضي منصور الذي جعل النادي بلا مبادئ ولا بطولات والآن بلا لاعبين.

وخير تعبير عن ما يحدث علي الساحة الرياضية قول الشاعر " إن الرجال تقاس بأفعالها لا بالكلام".

***

الكاتب: د. محمود بكار

مدرس مساعد بقسم إدارة الأعمال – كلية التجاره – جامعة بني سويف 

المبحث الرابع:  واقع الحكومة الالكترونية في العراق

وتأتي أهمية هذا المبحث في أنه إضافة علمية لقطاع الإدارة الحكومية في العراق، لتنمية وعي العاملين في المؤسسات الحكومية بالدور الذي تقوم به نظم المعلومات في هذه المؤسسات من نشاطات تشمل الجمع والتخزين والمعالجة والبث للمعلومات الالكترونية وكذلك الاتصال والتنسيق بين مختلف النشاطات في المؤسسات الانتاجية والخدمية، وكذلك دورها في دعم عملية اتخاذ القرار في هذه المؤسسات كما تأتي أهمية الموضوع من الاعتبارات التالية:

أ. عدم استغلال التقنيات والتجهيزات في المؤسسات الحكومية العراقية الاستغلال الأمثل المطلوب.

ب. جمود الهياكل التنظيمية وعدم مواكبتها للتغيرات والتقدم في مجال أنظمة المعلومات والاتصالات وتقنياتها العالية.

ج. تلاقي أنظمة المعلومات معارضة من قبل القادة الإداريين ذوي الخبرات السابقة لعدم تقبلهم لهذه التغييرات الجذرية نظرا لعدم وجود ثقافة معلوماتية لديهم.

د. تسارع التطورات في مجال أنظمة المعلومات الالكترونية على مستوى الاقتصاد الكلي والجزئي.

وتعتبر ادارة المشاريع الانتاجية بواسطة استخدام مختلف الأعمال الالكترونية جوهر أي نشاط انتاجي عبر شبكة الانترنيت. فالتعامل مع المنتوج بصورة الكترونية في اطار ومحتوى ستراتيجية الأعمال الالكترونية يؤدي الى أن تصبح الكثير من القضايا التي تخص المنتج مختلفة. أذ أن التعامل بشراء وبيع التصانيف المختلفة من المنتجات عبر شبكة الانترنيت يؤثر على كثير من الأسس والمفاهيم الكلاسيكية في عالم ادارة المشاريع الانتاجية [1].

أولاً: مؤشر الخدمة عبر الانترنيت

بلغت قيمة هذا المؤشر في العراق 0.3194 وهذا ما يعني ان الخدمة عبر الانترنيت لم ترتقي إلى مستوى الطموح كونها لم تتجاوز مستوى المتوسط.

وتجّدر الإشارة إلى إن ثمانية عشر من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ليس لديهم حضور عبر الانترنيت في العام 2003 والعراق أحد هذه الدول، حسب تقرير الحكومة الالكترونية لسنة 2003 في ص40، ولذا يمكن اعتبار هذه النتيجة تحسناً جيداً ولكن في نفس الوقت لا تعتبر جيدة عند مقارنتها بالتقدم الكبير في العالم بخصوص تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

ثانياً: مؤشر البنية التحتية للاتصالات

بلغت قيمة هذا المؤشر في العراق 0.1840 وهذه قيمة منخفضة جداً حيث تقع في أدنى مستوى من المستويات المؤشر.

اشتراكات الهاتف الثابت لكل 100 ساكن.

لا يتجاوز اشتراكات الهاتف الثابت لكل 100 ساكن في العراق 6 اشتراكات وبالتحديد 5.46 وهذه نسبة متواضعة جداً. ويعزى هذا الانخفاض إلى دخول الهاتف النقال الى العراق بعد 2003.

اشتراكات الهاتف النقال – الخلوي لكل 100 ساكن.

بلغ عدد اشتراكات الهاتف النقال – الخلوي 81.19 لكل 100 ساكن، وهذا مؤشر جيد.

النسبة المئوية لاستخدام الأفراد للانترنيت.

للأسف لا يزال استخدام الانترنيت في العراق متواضعاً حيث لم تتجاوز 22.5 % وهذا ما يؤثر على مؤشر الحكومة الالكترونية بشكل كبير.

اشتراكات النطاق الثابت(السلكي) لكل 100 ساكن.

كنتيجة لدخول الهاتف النقال انخفض الطلب على اشتراكات النطاق الثابت (السلكي) بحيث أصبحت لا تشكل سوى 0.01 من كل 100 ساكن.

اشتراكات النطاق العريض اللاسلكي لكل 100 ساكن.

بلغ عدد اشتراكات النطاق العريض اللاسلكي 16.24 لكل 100 ساكن، وهذا عدد منخفض، ويمكن أن يعزى هذا الانخفاض لأسباب عديدة من بينها عدم تغذية جميع المناطق بشبكات الاشتراك أو انخفاض مستوى الدخول أو لعدم الرغبة بالاشتراك أو غيرها.

ثالثاً: مؤشر رأس المال البشري

هذا المؤشر أفضل من سابقيه كون قيمته شكلت 0.5094 والتي تجاوز بها المستوى الأول والمستوى الثاني وهو الآن في بداية المستوى الثالث من مستويات المؤشر [2].

أطلقت الحكومة العراقية بوابة إلكترونية لتوفير الخدمات للمواطنين عبر شبكة الإنترنت  وتسمى  رسميا بوابة أور الالكترونية للخدمات الحكومية. وفي بيان لمجلس الوزراء جاء فيه " أن بوابة أور ستتيح وصول المواطنين إلى الخدمات الإلكترونية التي تُقدمها الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة، عبر النافذة الواحدة. وهي أحد العناصر الأساسية لمشروع الحكومة الإلكترونية". كما أن: البوابة تعمل ضمن بيئة مركز البيانات الوطني في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، الذي تَشكّل حديثاً، ويُعدُّ التجربة الأولى من نوعها في العراق، الطامحة إلى بلوغ إدارة الكترونية شاملة.

وتوفر بوابة “أور” في الوقت الحالي 63 خدمة متنوعة منها (التعليم، الصحة والبيئة، الكهرباء والماء والخدمات المحلية، المال والضرائب، العدل والقانون والتظلمات، الاعمال والعاملين لحسابهم الخاص، الولادات والوفيات والزواج، خدمات التقاعد، النقل والبنية التحتية، الجنسية والتأشيرات وجوازات السفر، العلوم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات..) وغيرها. وعنون البوابة الإلكترونية للحكومة العراقية هو: ‏https://ur.gov.iq. كما وخَصّصت دائرة مركز البيانات الوطني، رقم الهاتف (5599) لتقديم الخدمات الإرشادية إلى المواطنين، للاستعلام عن الخدمات المتاحة عبر البوابة الإلكترونية للحكومة العراقية على الإنترنت  [3].

المبحث الخامس -  دور البنك المركزي العراقي في تطوير وادارة الاقتصاد الوطني العراقي

يلعب الجهاز المصرفي العراقي دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية باعتباره الأداة المنفذة للسياسة النقدية التي يخططها ويشرف على تنفيذها البنك المركزي العراقي والذي يشكل العجلة الأساسية في تمويل وإدارة عملية التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمار العراقي والعربي والأجنبي. وبالرغم مما أشارت إليه الدراسات والتقارير الرسمية الصادرة عن المنظمات الدولية والبنك المركزي العراقي بأن القطاع المصرفي العراقي بسبب التحديات التي يواجهها لم يساهم المساهمة المطلوبة في التنمية الاقتصادية خلال السنوات الماضية. كما أكدت جميع الدراسات والتقارير الصادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. أن ارتباك الرؤية وعدم التنسيق بين السياستين المالية والنقدية واختلاف السياسات الاقتصادية وعدم وضوح المنهج الاقتصادي للبناء الجديد للاقتصاد ساهم مساهمة واضحة في تشتت التطبيقات في السياسة النقدية واختلاف الرؤى والاستراتيجيات للوصول إلى الأهداف المركزية المحددة، إضافة إلى قصور في بعض مواد البيئة التشريعية للقوانين الاقتصادية التي تنظم العملية الاقتصادية، مما أدّى إلى إضطراب في التطبيق  [4]. وهذا الذي نلاحظه في العشرة سنوات الأخيرة وبالتحديد منذ العام 2012  وخصوصا بعد استقالة الدكتور المرحوم سنان الشبيبي من إدارة البنك المركزي العراقي بسبب رفضه اقراض الحكومة العراقية خمسة مليارات دولار أمريكي من احتياطي البنك المركزي ملتزما بقانون البنك المركزي الذي يحظر الإقراض الا في حالة الطوارئ القصوى بأنه في الفترة الزمنية الموضوعة البحث  ضعف عمل البنك المركزي العراقي الذي من المفروض أن يكون كما تقول المقولة الاقتصادية  بأن البنك المركزي هو بنك البنوك.

ومن مهام البنك المركزي العراقي :

1ـ رقابته على الجهاز النقدي والصيرفي في البلاد وأثره في ذلك.

2ـ تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصاديين.

3ـ يقوم بعمليات الصيرفة المركزية تحت ظروف اقتصادية ومالية معينة.

4ـ معالجة التضخم النقدي من خلال :ـ

أ ـ رفع سعر صرف الدينار العراقي.

ب ـ رفع أسعار الفوائد التي يدفعها الى المصارف على ايداعها وكذلك تلك التي يتقاضاها على انكشاف ارصدة تلك المصارف لديه والتسهيلات والقروض التي يقدمها لها.

وكذلك لا توجد الرقابة الكافية من قبل البنك المركزي على :

عمليات تحويل العملة الصعبة وتهريب الأموال الى خارج العراق التي تقوم بها شركات الاستيراد والتصدير والبنوك التابعة الى القطاع الخاص والأحزاب السياسية

كبح جماح التضخم من خلال تثبيت نسبة تضخم لا تتجاوز سنويا 2.5% كما هو الحال في الدول المتقدمة مثل مملكة النرويج والتحكم في سعر الفائدة حتى تتلائم وتحقق المرجو من الأهداف التي ترسمها وتحددها متطلبات خطط التنمية الاقتصادية والاصلاح الاقتصادي

نافذة بيع العملات الصعبة في البنك المركزي العراقي.

ومن الضروري القيام بالتالي:

اتخاذ قرار من قبل البنك المركزي العراقي بأن لايزيد معدل التضخم في العراق عن 2.5 % سنويا

تثبيت سعر صرف الدينار العراقي مقابل العملات الأجنبية وخصوصا الدولار الأمريكي

تأسيس مديرية للتحويل الخارجي من أجل السيطرة على تهريب العملة الصعبة الى الخارج.

ومن الضروري أن نلقي نظرة على الخلفية التاريخية لمشكلة مزاد العملة، هذه المشكلة التي باتت تؤرق  مضاجع العراقيين اذا صح التعبير والاقتصاد الوطني العراقي على حد سواء.

الخلفية التاريخية لمشكلة مزاد العملة

ولازال ملف الفساد في مزاد العملة يلقي بظلاله على المشهد الاقتصادي والسياسي ايضا لارتباط المصارف التي تستحوذ على المزاد، بجهات سياسية تمول من خلاله احزابها وتعود عليها بالربح المالي الوفير على حساب اقتصاد البلد طالما أن قانون البنك المركزي العراقي -الذي صدر اثناء وجود بول بريمر في دفة الحكم- رقم 56 لسنة 2004 يسمح بالبيع للعملة الصعبة لكل من طلبها دون قيود وشروط. ويعد مزاد العملة شكلاً جديداً من أشكال الفساد الاقتصادي المرتبط بعملية غسيل الأموال في البلاد وخروج العملة الصعبة من العراق  [5].

في تصريح لعضو اللجنة البرلمانية المعنية بمتابعة تنفيذ الموازنة عبد الهادي السعداوي في الثامن من شهر تموز العام 2019 حيث قال بأن مزاد العملة خارج سيطرة البنك المركزي الذي يبيع من 150 الى 200 مليون دولار يومياً. وأضاف السعداوي أن “هناك مشاكل ومخالفات سجلت على بيع العملة من قبل البنك المركزي وكذلك سعر صرف العملة الذي غالبا ما يكون متحركا وغير ثابت في اغلب الأحيان”، لافتا إلى ان “أي مرشح لمنصب المحافظ عليه الجلوس مع المالية النيابية لمناقشة هذين الأمرين”[6].

نشرت في العام 2018  وثيقة تشير الى مخالفة صريحة وعملية فساد في مبيعات العملة الاجنبية للبنك المركزي العراقي في مزاد بيع العملة الأجنبية في العام 2015 بموجب كتاب صادر من رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب آنذاك أحمد الجلبي، يخاطب فيه رئيس المحكمة الاتحادية، داعيا القضاء الى اتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على احتياطات العراق من العملة الصعبة. وجاء في الكتاب ان جدول تحليل مبيعات العملة الاجنبية للبنك المركزي العراقي في مزاد بيع العملة الاجنـــبية ليــــــــــــــــــــــوم 2015/ 5 / 31 والذي بلغ “393,104,332” دولار، يعد مخالفة صريحة للمادة “50” من قانون الموازنــــة العامة الاتحادية للدولة في العام 2015 والتي حددت مبيعات البنك المركزي العراقي بـخمسة وسبعين مليون دولار يومياً في حين بلغت المبيعات لهذا اليوم  حوالي خمسة اضعاف ونصف المبلغ الذي حدده القانون.

وبذلت اللجنة المالية التابعة لمجلس النواب جهوداً حثيثة في كشف تهريب مليارات الدولارات الى خارج البلاد عبر شركات مالية وهمية وصيارفة جدد استنزفوا هذه المليارات من خزينة الدولة ومن قوت الشعب. وتمكن في حينها أحمد الجلبي من جمع الكثير من الوثائق التي أعتمد عليها في كتابة تقرير قدمه الى رئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة. وقد حّمل الجلبي في هذا التقرير مسؤولية تداعيات انهيار البنية المالية للبلاد الى المافيات التي تتحكم بسعر السوق وان أحد أسباب الانهيار الاقتصــــــــــادي هو اهـــــــــــدار نحو 312 مليار دولار في المدة الزمنية 2006 – 2014.

ويقول الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني في تصريح لصحيفة بغداد  بوست  ان” 15% من مبيعات البنك المركزي عبر المزاد تذهب كغسيل اموال”.. مبينا ان “اللجنة المالية والاقتصادية البرلمانية تحدثت عن ذلك وكل الاجهزة الحكومية لم تتمكن من ايقاف المزاد وظل مستمرا في استنزاف العملة الصعبة لارتباطه بشخصيات سياسية كبيرة”. ويضيف المشهداني ان “معدل الاستيرادات الحقيقية للقطاع الخاص هو 35 مليار دولار سنويا الا ان ما يقوم البنك ببيعه خلال السنة الواحدة عبر المزاد هو 50 مليار دولار”.. مشيرا الى ان “الفساد اصبح واضحا حتى لدى الاجهزة الرقابية الا ان قوة ونفوذ الاشخاص المتنفذين بمؤسسات المصارف هي اكبر من المحاسبة وهو مستمر في ذلك على الرغم من تقنينه في السنوات السابقة”.[7]

خروج العملة الصعبة مقابل استيراد بضائع وهمية

في حين يقول الخبير الاقتصادي ضرغام محمد علي أن “المزاد الذي تم تاسيسه في العام 2004 انشئ بهدف عدم حصول احتكار للدولار من جهه ولشراء الدينار العراقي لتغطية الموازنة ومنع التضخم من جهه اخرى وكانت اداة لضبط سعر الصرف الا ان فرق القيمة بين البيع النقدي والحوالات شكل هامش ربح للمصارف المشتركة في المزاد وعدد محدود من الشركات ما ادى الى تهريب كميات كبيرة من الدولارات” [8]. واكد ان “المزاد اصبح ممرا للربح بدلا من الصيرفة الحقيقية ولخروج الدولار باذونات استيراد لا تستورد شيئا ولايجري التدقيق حول السلع المشتراة مقابل هذه التحويلات مما شكل ممرا للفاسدين لاخراج اموالهم خارج البلاد بطريقة قانونية وعدم اعتماد الاعتمادات المستندية المتبعة في العالم لتغطية الصفقات التجارية وحيث لاتزال المصارف لحد الان وشركات الصيرفة تتقاسم مغانم المزاد من خلال تحويل العملة الى الخارج بدون حاجة استيرادية وبعناوين شتى ما ادى الى ضياع عشرات المليارات سنويا من العملة الاجنبية المهربة” [9].

تأسيس مصارف داخل العراق دون تدقيق في هوية مؤسيسيها

ومن جانبه يقول الخبير الاقتصادي محمد الحسناوي ان هناك “مصارف وخاصة الاسلامية منها تم افتتاحها ومنحها رخص بدون اي تدقيق عن امكانياتها وقدرتها المالية”.. كاشفا عن “وجود مصارف تم افتتاحها من قبل موظفين يعملون في البنك المركزي او مشاركين فيها”. ويضيف الحسناوي ان “هذه المصارف لا تقوم باي عمل ائتماني وانما ينحصر عملها في مزاد العملة وتحويل العملة الصعبة الى خارج البلاد من خلال غسيل الاموال”.. داعيا “البنك المركزي والجهات الرقابية الى التدقيق في كيفية حصول هذه المصارف على رخصة التاسيس”.

ويقول النائب عن تيار الحكمة علي البديري، ان “الاموال التي هدرت في مزاد العملة طيلة السنوات السابقة تعادل موازنات دول وتكفي لتشغيل عدد كبير من المصانع المتوقفة وتقضي على النسبة الاكبر من البطالة في البلد”، مشيرا الى ان “هنالك بعض الاطراف مهيمنة على القرار وتملك سيطرة على بعض وسائل الاعلام تمنع تسليط الضوء على هذا الملف الخطير”. ويضيف البديري أن “بعض المستفيدين من مزاد العملة هم موجودين في مصدر القرار، سواء كان القرار تشريعي ام تنفيذي”، مبينا ان “اي طرف او نائب يفتح موضوع مزاد العملة فانه يتم غلقه وبسرعة عجيبة غريبة”. ويشير البديري إلى أن “العملة الصعبة تخرج الى خارج العراق في عمليات غسيل اموال وتهريب للعملة تحت عناوين مختلفة ووصولات وسندات غير صحيحة”.. لافتا الى ان “هنالك تخطيط اقليمي وداخلي وتكتيم على ملفات الفساد في مزاد العملة والمافيات المسيطرة عليه”. ويؤكد البديري، اننا “إذا تركنا جميع ملفات الفساد وركزنا على ملفي المنافذ الحدودية ومزاد العملة فاننا سنعيد مبالغ ضخمة جدا لخزينة البلد ونوفر وارد مهم جدا للموازنات المقبلة”[10].

مزاد العملة ملف كبير للفساد

من جانبها تقول عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار البرلمانية ندى شاكر جودت، ان “لجنة الاقتصاد والاستثمار البرلمانية ماضية في التحقيق بقضية مزاد العملة”.. مبينة ان “لدينا تواصلاً مستمراً مع عدد من الجهات الخاصة في هذا المجال”. وتضيف جودت ان “عملية هدر العملة وما يجري في مزاد العملة هو امر لم نسمع به او نراه في جميع بلدان العالم التي تتخذ كافة الاجراءات للحفاظ على عملتها الصعبة من الهدر وتعمل على تقنين الانفاق منها حتى في مجال الاستيراد الى مستــــ ويات معقولة”.. لافتة الى ان “مايجري بالعراق هو عبارة عن حالات استيراد وهمية وغيرها من الطرق التي تؤدي يوميا الى هدر ارقام كبيرة من العملة الصعبة دون سبب”. وتشير شاكر الى ان “ملف مزاد العملة هو ملف كبير للفساد وقد عملنا على فتح تحقيق فيه، لكن التظاهرات والتركيز على القوانين التي تدعم مطالب الجماهير ومن بينها قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص جعلت اجراءات التحقيق تجري بروية”.. موضحة ان “من بين المقترحات التي لدينا للحد من الهدر بمزاد العملة هو فرض ضريبة على الاموال الخارجة بنسب معينة بما يخلق ايرادات للدولة وتجعل الامور تجري بشكل صحيح”. وتؤكد جودت، ان “هذا المقترح لاقى ترحيبا واسعا من قبل الهيئة العامة للضرائب وقد توصلنا الى صيغة شبه نهائية وهي بحاجة الى تنضيج بغية طرحها بشكل رسمي”.. مشددة على المضي “في الاجراءات للحفاظ على العملة الصعبة من الهدر والفساد ولدينا تنسيق وتعاون مع الجانب الصيرفي والبنك المركزي وهيئة الضرائب بهذا الشان” [11].

اما الباحثة شذى خليل فتقول “ان مزاد بيع الدولار قانون شرعه وامر به الحاكم المدني للعراق سابقا بول برايمر في العام 2004 وهو المزاد الوحيد في منطقة الشرق الأوسط ويعد من أكبر التحديات التي تواجه الدولة العراقية اذ يشوّه السياسة العامة ويهدم الاقتصاد وقد استمر هذا المزاد بعمله حتى الآن واستغل من قبل أصحاب النفوذ والمسؤولين البارزين في العملية السياسية المرتبطين بإيران في تهريب أموال العراق وغسيل الأموال وتدويرها لصالح الاقتصاد الإيراني في تمويل الارهاب ومواجهة العقوبات الاميركية ولمصالحهم الخاصة. وتضيف انه بحسب تحقيق لجان مجلس النواب العراقي والتقارير الدولية فقد تم هدر ونهب مبلغ بحدود 312 مليار دولار على مر السنوات الماضية وهي عائدات للنفط ضخها البنك المركزي العراقي إلى الاسواق وتم تحويل معظمها إلى الخارج.. موضحة ان هذا رقم يعد كبيرا جدا في دولة تعاني أزمة اقتصادية خانقة وصل الحال في دولة “الثروات” الاستدانة من صندوق النقد الدولي لتغطية نفقاتها!"  [12].

يشار الى ان البنك المركزي العراقي يقوم ببيع الدولار الى المصارف الاهلية وشركات التحويل المالي عبر المزاد الذي يجريه يوميا وبمقدار 150 مليون دولار والتي ترتفع هذه الارقام او تنخفض حسب الطلب من قبل هذه المصارف مما يؤثر بشكل او بآخر على احتياطي البنك المركزي العراقي والذي تاثر بشكل ملحوظ بالاونة الاخيرة نتيجة عدم التكأفو بين ما يحصل عليه من الدولار وما بين عملية البيع عبر المزاد.

ويذكر أن وتيرة الاتهامات تصاعدت بشأن عمليات تهريب العملة التي ألقت بظلالها على أسعار بيع الدولار في الأسواق المحلية وأدت إلى زيادة سعر صرفه قبل اشهر في حين طالب نواب بضرورة أن تبادر الحكومة إلى إيقاف عمليات بيع العملة في مزادات البنك المركزي، أكد آخرون أن العراق يخسر أموالاً طائلة جراء تهريبها يومياً إلى خارج الحدود.

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى الموصلي

الأكاديمية العربية في الدنمارك

........................

[1] انظر بحثنا: دورالأعمال الإلكترونية وتأثيرها في رفع فاعلية إدارة المشاريع الإنتاجية (مع التركيز على تجربة الأردن). الحوار المتمدن 11/8/2013.  وكذلك:

“The Influence of e-business development in productive project management, Case study: The Hashemite Kingdom of Jordan” Zarqa University, Faculty of Economics and administrative sciences, The Ninth International Conference, 24-24 April 2013 (17 pp.)

[2]  حامد عبد الحسين الجبوري، واقع الحكومة الالكترونية في العراق. 17/3/2019.

[3]  جريدة الأمة بتاريخ 5/9/2021.

[4] سمير النصيري. اتحاد المصارف العربية. البنك المركزي العراقي: سياسة نقدية تدعم التنمية الشاملة. الدراسات والأبحاث والتقارير. العدد 435.

[5]   انظر مقالتنا: سناء عبد القادر مصطفى. مزاد العملة أحد أسباب انتفاضة تشرين. 22/12/2019. صحيفة الزمان العراقية.  وكذلك موقغ الحوار المتمدن  بتاريخ 25/11/2019 و17/12/2019.

[6]  نفس المصدر السابق. ص8..

[7] د. عبد الرحمن المشهداني.تصريح لصحيفة بغداد بوست. نفس المصدر السابق. وكذلك تصريح المشهداني لقناة الرشيد الفضائية بتاريخ 21/1/2023.

[8] ضرغام محمد علي، تصريح لقناة السومرية نيوز بتاريخ  26/1/20.19.

[9]  نفس المصدر السابق.

[10]  علي البديري، تصريح لقناة السومرية نيوز بتاريخ  26/1/20.19.

[11]  سناء عبد القادر مصطفى، الاقتصاد السياسي لمزاد العملة في العراق أحد أسباب انتفاضة تشرين السلمية، موقع الحوار المتمدن،17/12/2019

[12]  نفس المصدر السابق.

يتبنى الأكاديمي المغربي الأستاذ إبراهيم بورشاشن مشروعًا فكريًا تجدر الإشارة إليه؛ حيث إنَّه يدعو إلى ضرورة استئناف التفلسف الإسلامي الذي توقف- تقريبًا- في القرن الثاني عشر الميلادي، بالعودة إلى الجذور العقلانية في تراثنا الفلسفي من خلال إحياء تراث مجموعة من الفلاسفة التنويريين الكبار في تاريخ الفلسفة الإسلامية من أمثال: الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي، ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد.

وقد عمل بورشاشن على إحياء هذا التراث، مؤمنًا بأهمية مشروعه، بطريقين متوازيين؛ الأول: من خلال كتاباته الغزيرة سواء أكانت كتبًا أو مقالات، وقد راعى فيها الأسلوب الفلسفي الأدبي الجمالي؛ الذي لا يؤدي إلى تسطيح المعنى على حساب العمق الفلسفي، ولا يُعقّد المعنى فينفر منه القارئ، كما هو الحال في كثير من المؤلفات الفلسفية، ونجح في ذلك الأمر نجاحًا يحسب له، ولِمَ لا، فهو الشاعر الجهبذ صاحب الأسلوب البياني البديع الذي يظهر في دواوينه الشعرية المتتالية، من قبيل: "الطين المسجور"، و"إبحار في عيون الحوريات"، و"كنت نائمًا فانتبهت".

أمَّا الطريق الثاني فيتمثل في تلك الندوات التي يقدمها بورشاشن على موقع مركز الدراسات الفلسفية التابع لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، والتي قدم فيها عدة حلقات متلفزة، تمَّيز عرضه فيها بالسهل الممتنع؛ حيث أحاط بفلسفة فلاسفة الإسلام من معظم جوانبها بدءًا من الكندي وحتى ابن رشد في مجموعات حلقات أطلق عليها  "فلاسفة مسلمون"، في عمق يشهد له بالتمكن من أفكار كل فيلسوف على حدة.

وهو في كل ذلك يضع هدفه الأساسي نصب عينيه، وهو ضرورة العودة بالعرب إلى التفلسف، فذاك هو سبيل التقدم واللحاق بالركب الحضاري. وقد أفرد بورشاشن مقالة خاصة لعوائق التفلسف، بيَّن فيها أن محنة الفلسفة لم تظهر في الحقيقة بسبب إفشاء أسرارها لغير أهلها كما ذهب البعض، بل لأنها لم تستطع أن تُنتج خطابًا تربويًا يقدم القضايا الفلسفية بشكل مبسط يمكن أن يرتقي بسهولة إلى مدارك العامة ومخيلتها.  وأنَّه لو تم معالجة هذا الأمر لتغير الحال، ولم تعد الفلسفة تُصور في بلادنا – زورًا وبهتانًا- بأنها كفر وإلحاد، كما ادعى أعداؤها قديما من أمثال ابن الصلاح وغيره.

كما يدعو بورشاشن، في دعوة جريئة تحسب له، أن يعمل مفكرو الإسلام اليوم على تجسير الهوة بين الفلسفة والدين، من خلال النظر في قضايا الدين والشريعة نظرًا فلسفيًا، كما فعل فلاسفة الإسلام قديمًا، الذين تركوا لنا إرثًا عظيمًا يمكننا، عن طريق فهمه وهضمه جيدًا، أن نرفع راية التحدي اليوم لاستئناف الإبداع الفلسفي، وتحقيق الثورة الحضارية، والدخول إلى العصر من بابه الطبيعي الواسع. ومنا ثم كانت ضرورة إلقاء الضوء، من خلال هذه اللمحة الموجزة، على هذا المشروع الفكري المكين للأستاذ بورشاشن. 

***

د. غيضان السيد علي (أكاديمي مصري)

لنلقِ نظرة أكثر تبسيطا على هذه الظواهر اللغوية مستعينين بكتاب الراحل هادي العلوي في كتابه " المعجم العربي المعاصر – المقدمة/ ص22":

الإمالة: هو الميل عند نطق الفتحة إلى كسرة، والألف إلى الياء. ونصَّ عليها الخليل في كتابه "العين" وقال إنها تعم الألف والواو والياء. وذكر ابن قتيبة وقوعها في "متى" و "بلى" وقال إن الإمالة فيهما أفصح ولهذا كتبتا بالألف المقصورة. وهذا هو لفظهما في العاميات العربية المعاصرة كما في بيت الحداء الديني الذي يقول: (يا مِتىَ يظهر الغايب يا مِتىَ). وفي كلمة "بلى" تكون الإمالة أكثر وضوحا فيقال وفي العراق "بلي" وفي لبنان تكون أخف بين الكسرة والياء بلىَ". وقد انتقلت هذه اللفظة بلفظها المُمال ومعناها في الإجابة على السؤال المنفي إلى اللغة الإسبانية المعاصرة وهي من رواسب العربية هناك.

ويميل اللبنانيون والتونسيون إلى إمالة الألف حتى تكاد تلامس الياء وهذه ظاهرة قديمة كما يبدو إذ أوردها الزمخشري وذكر عليها مثالا هو: عماد.

الاختزال: وهو قديم في اللغة العربية وفي العاميات ومن امثلته:

مشا الله – ما شاء الله

أيش - أي شيء.

وقد رصد عهد فاضل ورود الاختزال في بعض مواضع التراث ومن ذلك: "إيش" و"أيش" في تاريخ الطبري، فنقرأ "وقال: إيش صناعتك؟ قال: نجار". وأيضاً: "كم قتيل قد رأينا ما سألناه لأيش؟". وهنا: "أيش تمشون؟". وهنا: "أيش ظن العبدي؟ وفي كتاب الواحدي الشهير "شرح ديوان المتنبي" ذكر الكلمة فقال: "لأنه لا يعلم إيش الداء". و: "بأيش يداوي؟". واستعملها ابن خلكان في "وفيات الأعيان" كثيراً، فترد مثلاً، على هذا الشكل: "فإذا هو لا يدري الحديث أيش هو!". وهنا: "وأيش أقول؟". وكذلك: "أيش خبرك؟ فقال بخير". وهنا: "ويحك.. إيش عملت؟". وهنا: "أيش في المرأة الحسناء يشبه الظبية؟". و"أيش هذا يا شيخ؟" فاضل عهد –مقالة بعنوان " كلمة عربية عامية فرضت نفسها...".

معليهش ومعليش = ما عليه شيء.

هالساعة وهسع وهسَّ في العاميات - وتعني هذه الساعة.

الإدغام: وهو قريب من الاختزال ومتكامل معه ومن أمثلته:

بلقاسم = أبو القاسم في الجزائر المعاصرة أو بني القاسم في غيرها.

ووردت في الشعر القديم

تقول إذا أهلكت مالاً للذةٍ ....... فكيهة هشيٌ بكفيك لائق

هشيء = هل بشيء.

وكقول الفرزدق:

هلنتم عائجون بنا لَعنّا ..... نرى العرصاتِ أو أثر الخيامِ

هلنتم =هل أنتم

لعنا = لعلنا

عنعنة تميم: وهي إدال الهمزة عيناً ويقصرها بعض اللغويين على الهمزة المبدوء بهاكقولهم : عنتَ – أنتَ. وغالبا ما تون في وسط الكلمة وأخيرها فيقال: سعال – سؤال. ويسأل يسعل. وفي العراق يقولون لع ويريدون لا..

إبدال الذال دالا: في العامية المصرية والسورية كقولهم دهب –أي ذهب. وجدع أي جذع للغلام.

إبدال الواو ياء: حيث يجعل العامة الواو في نهاية الفعل المعتل واواً كقولهم: دعيت أي دعوت وشكيت أي شكوت. وهذا مسموح لدى القدماء كما يبدو حيث نظم ابن مالك قصيدة جمع فيها الأفعال التي تقال بالواو والياء معا.

تخفيف الهمزة أو حذفها أو إبدالها: ونجد ذلك في معظم اللهجات العامية العربية. فالهمزة الوسطية تمد عادة إلى حركة الحرف الذي يسبقها فيقال:

راس أي رأس، وبير أي بئر. ويبقى هذا الإبدال في حالة جمع هذه الكلمات فيقال: روس وبيار. وورد هذا الجمع في نصوص قيمة ومنها هذا البيت لعروة بن الزبير:

صار الأسافلُ بعد الذل أسنمةً ....... وصارت الروسُ بعد العزِّ أذنابا

وهناك إبدال الهمزة إلى ياء فنجده في لهجة أهل الحجاز وأهل العراق فهم يقولون: بدينا أي بدأنا.. وورد قديما قولهم يجوون أي يجيئون.

إبدال الثاء تاء: ويكثر في العاميتين المصرية والسورية كقولهم تلاتة أي ثىثة، وتامر أي ثامر، وتاني أي ثاني.

وهذا الإبدال قال به الأصمعي من القدماء.

والاستنطاء: أي إبدال العين الساكنة نونا ومنه قولهم ينطي بدل يعطي وورد ذلك في حديث نبوي.   

فالفعل أنطى بمعنى "أعطى" المستعمل في اللهجة العراقية واللهجات الخليجية فعل فصيح. وراه بسنده ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ج:11 ص:64 ونصه؛ "بسم الله الرحمن الرحيم ... هذا ما أنطى محمد رسول الله تميم الداري وأصحابه وفيه وشهد أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان".

وأنطى لغة يمانية في أعطى وهي شائعة في العراق وفي بعض أنحاء بلاد الشام والجزيرة العربية.

إبدال القاف همزة:

ويقول العلوي إنه لم يجد له أصلا وسكت عنه الباحثون الآخرون ولكن وجوده في لهجتي مصر وسوريا يوحي بأن له مرجعا واحدا في اللهجات القديمة.

إبدال القاف والغين، والغين قاف في العراق والخليج فهم يقولون غاسم يريدون قاسم، وإبدال معاكس لهذا فيقولون قراب ويريدون غراب.

إبدال اللام نونا كما في قولهم اشنون في اشلون في العراق، ومنيح أي مليح في سوريا.

وهناك إبدال نادر هو إبدال القاف كاف والمعتاد ان تبدل القاف الفصيحة الى قاف حميرية "جيم قاهرية" ولكننا نجدها تبدل إلى كاف في العراق وفلسطين وفي غزة تحديدا فيقال وكت أي وقت، وكتل من قتل. وجاء في لحن العوام للزبيدي أن هذا الإبدال وجد في الأندلس فيقولون "استكتل" في الأمر إذا جد فيه أي استقتل.

 الإبدال بين السين والصاد: ويميز إبراهيم أنيس في كتابه "الأصوات اللغوية" بين السين ويعتبرها أقرب إلى الحضارة ونطق أهل المدن والصاد إذا جاورتها بعض الأصوات المفخمة ويعتبرها أقرب الى البداوة. ومن أمثلة هذا الإبدال: سراط وصراط، سخر لكم – صخر لكم، ويوجد هذا الإبدال في العراق كقولهم صخل يريدون سخل والصخي أي السخي ويفصخ أي يفسخ وصدارة أي سدارة.

ظاهرة كشكشة ربيعة:

الكَشْكَشَةُ هي لغة (لهجة) لربِيعة، وفي الصحاح: لبني أَسد، يجعلون الشين مكان الكاف، وذلك في المؤَنث خاصة، فيقولون عَلَيْشِ ومِنْشِ وبِشِ؛ وينشدون:

 فَعَيناشِ عَيْناها، وجِيدُشِ جِيدُها..... ولكنَّ عظمَ الساقِ مِنْشِ رَقِيقُ.

 وأَنشد أَيضاً:

 تَضْحَكُ مني أَن رأَتني أَحْتَرِشْ.....  لو حَرَشْتِ لكشَفْتُ عن حِرِش

ومنهم من يزيد الشين بعد الكاف فيقول: عَلَيكِشْ وإِليكِشْ وبِكِشْ ومِنْكِشْ، وذلك في الوقف خاصة، وإِنما هذا لِتَبِين كسرةُ الكاف فيؤَكد التأْنيث، وذلك لأَن الكسرة الدالة على التأْنيث فيها تَخْفى في الوقف فاحتاطوا للبيان بأَن أَبْدلُوها شيناً، فإِذا وصَلوا حذفوا لِبَيان الحركة، ومنهم من يُجْري الوصل مُجْرى الوقف فيبدل فيه أَيضاً؛ وأَنشدوا للمجنون:

 فعيناش عيناها..... وجِيدُشِ جِيدُها.

 قال ابن سيده: قال ابن جني وقرأْت على أَبي بكر محمد بن الحسن عن أَبي العباس أَحمد بن يحيى لبعضهم:

 عَلَيَّ فيما أَبْتَغِي أَبْـغِـيشِ،

بَيْضاء تُرْضِيني ولا تَرْضيشِ

وتَطَّبِي وُدَّ بـنـي أَبِـيشِ،

إِذا دَنَوْتِ جَعَلَـت تَـنْـئّيشِ

وإِن نَأَيْتِ جَعَلَتْ تُـدْنـيشِ،

وإِن تَكَلَّمْتِ حَثَتْ في فِيشِ،

حتى تَنِقِّي كنَقِـيقِ الـدِّيشِ.

أَبْدَل كاف المؤَنث شِيناً في كل ذلك، وشبَّه كاف الدِّيكِ لكسرتِها بكاف المؤنث، وربما زادوا على الكاف في الوقف شيناً حِرْصاً على البيان أَيضاً، قالوا: مررت بِكِشْ وأَعْطَيْتُكِشْ، فإِذا وصلوا حذفوا الجميع، وربما أَلحَقُوا الشينَ فيه أَيضاً.

وفي حديث معاوية: تَيَاسَرُوا عن كَشْكَشةِ تميمٍ أَي إِبدالِهم الشين من كاف الخطاب مع المؤنث فيقولون: أَبُوشِ وأُمُّشِ، وزادُوا على الكاف شيناً في الوقف فقالوا: مررت بكِشْ، كما تفعل تميم. مادة الكاف / لسان العرب) ... يتبع. ابتدءا من الجزء القادم سنبدأ بنشر معجم مفردات من اللهجة العراقية التي اعتبرها الكاتب قيس مغشغش السعدي مندائية وهي عربية فصيحة أو أن تخريجاته ضعيفة وعشوائية...يتبع.

***

علاء اللامي

أخطاء منهجية وظواهر لغوية

اللغة العربية وتحولاتها: وبناء على ما تقدم، فليس دقيقاً، في اعتقادي، اعتبار اللغة العربية لهجة من لهجات اللغة الآرامية أو غيرها بحجة الاعتبارات الاستعمالية ومنها أنها كتبت بخط أقرب إلى الخط الحيري، أو لأن اللغة العربية أخذت التراث الآرامي وأعادت إنتاجه، فاللغة المنطوقة "اللسان" شيء والأخرى المكتوبة "القلم" شيء آخر ومختلف تماما، كما أن المجتمعات هي التي تنتج أو تهضم أو تعيد إنتاج المنجز الحضاري لها أو لمجتمعات وشعوب أخرى وليس اللغة فهذه الأخيرة ليست إلا وسيلة من مجموعة وسائل.

أما إذا قصد البعض هذا المعنى بشكل مجازي إنشائي فكلامهم يبقى إنشاءً ولا يدخل في باب التأصيل المنهجي الألسني. ثم إن مولد اللغة العربية لا يمكن حسمه بشكل رسمي وعلمي دقيق إذْ أنَّ أعمار اللغات والشعوب تقريبية واحتمالية دائماً، وتحسب بالقرون بل وبعشرات القرون لا بالسنوات والعقود كأعمار البشر، وبالتالي لا يمكن اعتبار اللحظة القريشية مثلا تاريخ ميلاد للغة العربية مثلما لا يمكن بخفة اعتبار ما قبلها بقليل - أي مع دولتي الغساسنة والمناذرة - هي ذلك التاريخ لميلادها كلهجة من لهجات آرامية، دع عنك إننا لا نعرف على وجه الحصر والدقة الفروق بين لهجة قريش وغيرها من اللهجات في عصر ما قبل الإسلام إلا على جهة التخمين والتقدير بناء على ما تبقى من مفردات من هذه اللهجة او تلك،  فالأمر - إذن- أكثر تعقيداً وغموضاً من ذلك.

لقد كانت اللغة العربية على الأرجح موجودة - إضافة إلى وجودها البديهي في الجزيرة العربية - في المجتمعات الثانية والتعددية المكونات في شمال الجزيرة الفراتية كمملكتي الحضر "عربايا" والرُّها وكلتاهما كانت تكتب بالخط واللغة الآرامية في حين كانت الغالبية السكانية في الحضر عربية اللغة، وربما كانت في الرُّها ثنائية اللغة (ناقشتُ هذا الموضوع في دراسة مفصلة نشرت قبل أيام قليلة بعنوان "العرب والآراميون في ممالك الشمال القديمة").

أما تطور الخط الحيري "النبطي" إلى الخط العربي بهيئته الكوفية لاحقا فهو موضوع آخر ومختلف عن موضوع ولادة ونشأة اللغة العربية نفسها. وخلاصة القول فهذه المواضيع لا تناقش وتحسم بطريقة الإفتاء التي يأخذ بها الفقهاء ورجال الدين حين يردون على استفتاءات المؤمنين بقصاصة من بضعة أسطر بل هي بحاجة إلى أبحاث علمية رصينة وعميقة تستند إلى توثيق دقيق ومحايثة نقدية متسائلة تأخذ بنظر الاعتبار التطور الاستعمالي والحياتي الذي يطرأ على المعجم اللغوي حتى ليظن الباحث أحيانا أنه إزاء نسخة أخرى ومختلفة من اللغة ذاتها.

ولفهم المراد من الملاحظة الأخيرة يمكننا مقارنة المعجم المعاصر للغة العربية المكتوبة المعاصرة مثلا بمعجمها القديم. فلو أنك كتبت نصاً في عصرنا وأوردت فيه كلمات من قبيل "بدلة – خزانة – متعوب –أسدلت – استهتر –الاستحمام – نعنع – البناء – استضحك -استعجل"، لما فهمها على الأغلب العربي الذي عاش قبل عدة قرون، فهي لدى المعجميين القدماء كلمات عامية أو مولَّدة ودخيلة على اللغة العربية رغم أنها عربية الجذور والنجاد تماما، أو لأن أحد حروفها حُرك خلافا للفظ الموروث. وقد أوردت هذه الكلمات تحديدا كأمثلة لأنها وردت في كتاب "لحن العوام / ص 38 لأبي بكر الزبيدي" وهو من أهل القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي (379 هـ /928م). بل إن شيخنا الشبيبي نظم قائمة بمجموعة من المفردات والعبارات التي كانت تقال في اللغة العربية المتداخلة مع اللهجة العراقية في نهاية العصر العباسي وبداية المغولي ويصفها بأنها من المضحكات. ومن هذا القبيل كانوا يستعملون في الكتابة والمخاطبات كلمة "الإنهاء" بمعنى العريضة أو الإبلاغ (من أنهى الشيء أي أبلغه). وعبارة "انكسار الدراهم" وتعني هبوط سعر النقد، كما نقرأ في كتاب" الحوادث الجامعة" لابن الفوطي الشيباني البغدادي (لقوا شدة في الغلاء وانكسار الدراهم). وكلمة "التقدُّم" بمعنى الأمر الحكومي كقولهم (ورد تقدُّم إلى علاء الدين صاحب الديوان). وقولهم (رفع إلى الخليفة "قصة" يذكر فيها من أمره كيت وكيت). وكلمة قصة هنا تعني خبرا أو حديثا. وقول الموظف لمرؤوسه "خذ رقع الناس للحوائج واستعجل عليها" ومعنى هذه العبارة هو: خذ استدعاءات /عرائض الناس إلى ديوان الحوائج وخذ عليها جعلا. والجعل والاستعجال هو أخذ الأجرة أو الرسم النقدي/ ص29"! ومن هذه الأمثلة يظن القارئ والسامع انه إزاء لغة عربية أخرى لا عهد له بها وهو المعنى نفسه الذي يخطر ببال العربي القديم حين يقرأ ما نكتبه نحن في عصرنا من كلمات وعبارات عربية.

يكمن الخطأ المنهجي الرئيس والأول في الطريقة التي اعتمدها مؤلف كتاب "معجم المفردات المندائية في العامية العراقية" لمؤلفه قيس مغشغش السعدي في أنه اعتبر المفردات العراقية التي تلفظ بسكون الحرف الأول منها، وكأنها مبدوءة بهمرة مكسورة، وهذا اعتبار ليس صحيحا. فتسكين الحرف الأول في العديد من الكلمات ظاهرة شائعة في العديد من اللهجات العربية المشرقية كالعراقية، وفي بلدان المغرب العربي "شمال أفريقيا". وقد انعكس "تهميز" الكلمات قسراً على صورة المفردة حيث تحولت الى كلمات مهموزة (تبدأ بهمزة مكسورة غالبا) وليس بحرفها الأول الأصيل وهذا ما يُصَعِّب معرفة جذرها الصحيح والتعامل معها اشتقاقاً وسياقاً لمن يجهل هذه الظاهرة اللغوية. وقد تحدث الراحل جلال الحنفي عن هذه الظاهرة في كتابه "معجم اللغة العامية البغدادية" فكتب: "ومن دأبه - عامة البغداديين – النطق بأوائل الكلمات ساكنة من نحو (كْتاب، حْصان، شْراع، وسُلاح.. وقد يستعينون على لفظها بهمزة مجتلبة فيقولون: اِكتاب واِسلاح. ويزيدون الياء بعد الهمزة في أوائل الألفاظ –أحيانا- مثل اِيمام للإمام، واِيزار، إيذان للأذان... ويزيدون النون في بعض الحالات كقولهم (انتخذ) بمعنى اتخذ وقولهم "انتچا) بمعنى اتكأ/ ص 11". والحالة الأخيرة يقصد بها الشيخ الحنفي تحول الأفعال من صيغة فَعَلَ المبني للمعلوم إلى صيغة المطاوعة انفعل. والشيخ الحنفي ممن يؤكدون عروبة المعجم العامي العراقي وخصاصة البغدادي رغم أن بغداد كانت متنوعة إثنيا ولغويا الى درجة قد تبدو لنا اليوم مذهلة فهو يقول (العربية الفصحى هي الأصل الأول للعامية البغدادية ... وذلك أمر ظاهر لمن يلاحظ مئات الألفاظ والمفردات الشائعة على ألسنة البغداديين.  ببل إننا نجد بين ألفاظهم من الكلم الفصيح ما يرقى إلى العصر الجاهلي وقد ورد الكثير منه في التنزيل العزيز (القرآن) ص 9" ويقول في موضع آخر هذا المعنى بقوله "فالعربية رغم جرَّت عليها جرائر الدهر لا تزال هي المورد الثر الغزير للهجة المحلية في بغداد. ص10". وللأسف فلم يوضح لنا الشيخ مبرراته للأخذ بعبارة "اللغة العامية البغدادية" وليس "اللهجة" في مقدمة كتابه هذا مع انه كان ضليعا في اللغة العربية وأيضا في اللهجة البغدادية والعراقية عموما.

الخطأ المنهجي الثاني نجمَ عن جهل المؤلف بعدة ظواهر صوتية وتركيبية لصيقة بموضوع اللغات واللهجات ومنها:

الإبدال والإدغام والإمالة وتخفيف الهمزة أو حذفها أو استبدالها و"كشكشة ربيعة"، أي قلب الكاف جيما مثلثة، وسمّاه الزمخشري " الكاف التي كالجيم"، وهي تختلف عن الجيم المعجمة بنقطة كما سنرى، و"شِنشة اليمن" أي قلب الكاف شيناً ونسبها ابن عبد ربه لقبيلة تغلب فقد سُمِعَ بعض أهل اليمن في عرفة يقول:

"لَبِّيشَ اللُّهمَّ لَبَّيشَ"، أي لبَّيك، ولا تزال هذه ظاهرة صوتية شائعة في اللهجة الحضرمية، ولن نتوقف عندها لأنها خارج اهتمامات البحث. وهي تَتَمثَّل في قلب الكاف شيناً مطلقاً.  والإبدال اللغوي "الحروفي" والإبدال النحو "القلب النحوي".

لنترك الإبدال في النحو والذي يسمونه " القلب النحوي" جانبا فهو بعيد عن مرامنا، ولنركز كلامنا على الإبدال اللغوي أو الاشتقاق الكبير كما رصده بحث دراسي جامعي[1]. ومكونات هذه الظاهرة أو أطرافها هي: البدل والمُبْدَل منه، والقلب والمقلوب، والمحوَّل، والمضارَعة، والتعاقب أي التتالي، والنظائر أي "المتماثلات". ويعني الإبدال عمليا إقامة حرف مكان حرف مع الإبقاء على سائر الحروف الأخرى في الكلمة، وبذلك قد تشترك الكلمتان بحرفين أو أكثر، ويبدل حرف منهما بحرف آخر يتقاربان مخرجاً أو في المخرج والصفة معاً ومن أمثلة ذلك:

*قضب وقضم، وقطع وقطم، فقد اشترك الزوج الأول بحرفين منهما القاف والضاد، واختلف بالباء والميم، أحدهما مبدل من الآخر، وكلاهما من مخرج واحد، أي هما حرفان شفهيان. وأما الزوج الثاني فقد اشتركت لفظتاه أو صورتاه بحرفين منهما القاف والطاء، واختلف بالعين والميم، غير أن العين حلقية، والميم شفهية.

وقد يطرأ الإبدال على الحرف الأول وهو فاء الفعل نحو: خبن وغبن، أو على الثاني وهو عين الفعل نحو: رسم ورشم، وهناك أنواع أخرى منه.

ثمة أيضا الإبدال الصرفي، وهو أكثر شيوعا من غيره. ويكون بجعل حرف مكان آخر لضرورة لفظية؛ إما لتسهيل النطق أو لمجاراة الصيغة الشائعة.

ومن أمثلة ذلك إبدال التاء إلى طاء حيث يرى بعض الباحثين أن الفعل طرد مثلا كان المزيد منه أصلا بالتاء (اضترد) ولكنه بعد التغيير والإبدال أصبح (اضطرد) ومثله (اصتفى) وصار (اصطفى) والواضح أن إبدال التاء بالطاء سهَّل التلفظ بالكلمة.

وهناك الإبدال الصرفي الإعلالي: تغيير حرف العلة (الواو، أو الياء، أو الألف) والهمزة. فكلمة سماء أصلها سماو فأبدلت الواو بهمزة. وكلمة قاول أصبحت قائل لأن أصل الألف في الفعل قال واو. (لمعرفة أصل ألف الفعل اجعله في زمن المضارع فيظهر واضحا (قال- يقول) أصل الألف واو.  باع يبيع. أصل ألف باع ياء. نال ينال الألف في ينال أصلية وغير منقلبة).

أما الإبدال اللغوي فهو جعل حرف مكان آخر لغير ضرورة لفظية. ومثال ذلك:

لثام – لفام

أرمد –أربد

الحثالة - الحفالة

الثوم – الفوم.

الإبدال اللغوي القياسي: وقال عنه ابن سيد البطليوسي: "مِنْ هذا الباب ما يَنْقاس‏:‏ وهو كلُّ سينٍ وقعت بعدها عينٌ أو غينٌ أو خاءٌ‏ أوقافٌ أو طاءٌ جاز قلبُها صاداً. وشرطُ هذا الباب أن تكون السينُ متقدَّمةً على هذه الحروف لا متأخرةً بعدها، وأن تكونَ هذه الحروفُ مُقارِبةً لها لا متباعدة عنها، وأن تكون السين هي الأصل". ومن أمثلة هذا الإبدال:

السُّقع – الصُّقع

الرسغ – والرصغ

صماخ – وسماخ

السراط – الصراط

السوط – الصوط

أما الاشتقاق الإبدالي فهو ردّ الكلمات إلى أصل واحد إذا تدانت معانيها وتقاربت حروفها في المخارج أو في الصفات. وقد أورد ابن جني في باب تصاقب (التصاقب هو المجاورة والدنو والقرب) الألفاظ لتصاقب المعاني أمثلة كثيرة تصلح له، ويمكن تمييز ثلاثة أنواع منه بحسب عدد الحروف المتقاربة في المخرج أو في الصفة. ومن أمثلة ذلك:

هديل – هدير

جبل – جبن

سحل – صهل

لنلقي نظرة أكثر تبسيطا على هذه الظواهر كما لخصها الباحث هادي العلوي في كتابه " المعجم العربي المعاصر – المقدمة": يتبع.

يتبع.

***

علاء اللامي

.........................

* ابتدءا من الجزء القادم سنبدأ بنشر معجم مفردات من اللهجة العراقية التي اعتبرها الكاتب قيس مغشغش السعدي مندائية وهي عربية فصيحة أو أن تخريجاته ضعيفة وعشوائية.

[1] - موقع قسم اللغة العربية - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة الملك عبد العزيز. منشور على الشبكة "النت".

https://www.angelfire.com/tx4/lisan/fiqhlughah/ibdal.htm

الهجرة في مفهومها الديني والسياسي تقود إلى الحديث عن قضية حقوق الإنسان باعتباره مشروعا للحاضر والمستقبل،  فالمراجع للتاريخ يجد أن حقوق الإنسان كمنظومة وجدت منذ بدء البشرية وبالتالي فهي ليست غربية، إلا أن حقوق الإنسان لم تكن متجذرة في الثقافة العربية الإسلامية، ربما السبب راجع لغفلة المفكرين الإسلاميين الذين لم يدرسوا فقه الهجرة من جانبه السياسي  وربطوا الفكرة بالدين فقط، فهجرة الرسول من مكة إلى المدينة لم تكن من أجل نشر الإسلام فقط بل كانت ضمن حقوق الإنسان في العيش في أمان واستقرار وتحقيق ذاته وتوفير الآليات القوية للحماية.

 فالرسول لما رأى حقوق الإنسان في مكة بدأت  تنتهك أمام أعينه وقد كانوا أقلية أدرك الرسول انه أمام ازمة حقيقية، لأن قوى الكفر كانت تملك المال والسلاح، فلم يجد سبيلا لحمايته سوى اللجوء، والبحث عن وسيلة لتقرير المصير، هل يمكن القول إذن أن هجرة الرسول صلعم من مكة الى المدينة  كانت هروبا من الإرهاب؟  وهل يمكن القول أن الإرهاب قديم متجذر في تاريخ الإنسانية؟، أرادت قريش اغتصاب السلطة الدينية والسياسية، وبالتالي فقضية حقوق الإ نسان مرتبطة بواقع تاريخي، وهجرة الرسول من مكة الى المدينة كانت مرتبطة بمشروع على مدى بعيد جدا، في كل ابعاده الدينية، السياسية، الإجتماعية والإقتصادية والفكرية الثقافية.

فهذه الأبعاد مرتبطة بحقوق الإنسان وروحانيته، حيث كانت بوابة للانفتاح لتأسيس الدولة الإسلامية  وبناء حضارتها، لقد حدث في الهجرة تحول كبير على مرّ السنين، وهو ما لاحظته الشعوب والأمم عندما ظهر حوار الأديان والحضارات والثقافات، التي كان الطرح الإسلامي فيها هو الأساس، خاصة والصراع السياسي من قِبل الرسول كان في داخل المجتمع، حيث رأى البعض أن قضية الهجرة فرزت فيها  قضية العنف وما اثير حولها من اتهامات معاصرة للإسلام والمسلمين قبل وبعد وفاة الرسول، وقد أحدثت كتابات جدلا عقيما هو هذه الإشكالية بحيث ذهب البعض إلى القول أنه منذ وفاة الرسول كان تاريخ العالم الإسلامي  هو تاريخ العنف.

***

علجية عيش

الملخص باللغة العربية

يدور الاقتصاد الوطني العراقي منذ العام 2003 في فلك حلقة مفرغة تتسم معالمها في التالي:

لم يحدد الدستور العراقي طبيعة النظام الاقتصادي، فقد ورد في المادة 25: «تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده وتنويع مصادره وتشجيع القطاع الخاص وتنميته» (الدستور العراقي).

يقوم النظام الاقتصادي-السياسي العراقي، المشوه في الوقت الحاضر، على اساس المحاصصة الطائفية والإثنية السياسية (المحسوبية والمنسوبية). وانطلاقاً من هذا فقد تحولت المؤسسات الرسمية والدوائر الحكومية الى نظام الطوائف – الإقطاعي الذي ساد أوروبا في القرون الوسطى. وهذا ما أدى الى نخر كافة أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والأمنية وإصابتها بالشلل نتيجة للفساد الإداري والمالي.

ضعف دور الهيئات الاقتصادية المستقلة مثل ديوان الرقابة المالية والبنك المركزي العراقي باعتباره بنك البنوك في إدارة الاقتصاد الوطني العراقي بسبب تدخل رئيس الوزراء المباشر في عملهما.

غياب التخطيط الاقتصادي العلمي الذي يستند على الخطط البعيدة والمتوسطة والقصيرة المدى بسبب التخبط والفوضى العارمة في إدارة قطاعات الاقتصاد الوطني، الأمر الذي أدى الى ضعف مساهمة هذه القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي.

ظاهرة غسيل الأموال أو غسل الأموال Money laundering واستثمارها في الدول المجاورة أصبحت مسألة طبيعية في الاقتصاد الوطني العراقي، وما يستغرب له المرء إنه توجد بنوك في دول الجوار تستقبل هذه الأموال برحابة صدر كي تستثمرها دون أن تكلف نفسها بالسؤال كيف خرجت هذه الأموال من العراق بشكل غير رسمي وأصولي!

أما استعمال مصطلح غسل أو غسيل الأموال فهو خطأ شائع بين كثير من الاقتصاديين العراقيين والعرب مثل مصطلح الدخل الوطني (National income) والذي ترجم الى الدخل القومي واستعمل من قبل الكثير من الاقتصاديين في مصر والعراق وبقية الدول العربية في ستينيات القرن الماضي. ومن الأفضل استعمال مصطلح تهريب رؤوس الأموال الى الخارج. فحتى مصطلح غسل رؤوس الأموال هو تعبير مجازي.

عدم السيطرة على سعر صرف الدينار العراقي بسبب غياب السياسة المالية والنقدية الواضحة المعالم وذات الأهداف المنطلقة في خدمة الاقتصاد الوطني وليس خدمة بنوك القطاع الخاص التي سادها الفساد والرشوة المالية.

عدم وجود شبكة أنظمة لإدارة المعلومات المالية والإدارية الحكومية والتي بواسطتها يتم متابعة تنفيذ الموازنة السنوية العامة لكافة قطاعات الاقتصاد الوطني في البلد.

تعدد اللجان الاقتصادية التابعة للأحزاب السياسية التي تقوم بأخذ المقاولات من الوزارات التابعة لها لتربح منها ومن ثم تقوم بتمويل مالية الحزب التابعة لها. إن ظاهرة تشكيل اللجان الاقتصادية هذه أصبحت موضة في اقتصادنا الوطني!

وجود مجلس نواب لا يملك من الناحية العملية السلطة التشريعية والرقابية بسبب سيطرة رؤساء الكتل السياسية من خارج وداخل البرلمان، ولأن القانون الانتخابي صمم بحيث ينتج ويعيد إنتاج فئات إدارية حاكمة من قادة وأصدقاء وأزلام الكتل السياسية بالإضافة الى المتملقين لهم.

إن “الهيئات المستقلة” من الناحية العملية هي هيئات تابعة لأحزاب السلطة، إذ تتكون من ممثلي أحزاب المحاصصة الطائفية والإثنية وينفذ رئيسها بما يأمره رئيس حزبه. وهذا ما لاحظناه في جميع الانتخابات “اللاديمقراطية” في العراق منذ العام 2003. وخير مثال على ذلك هو مفوضية الانتخابات المستقلة وهيئة المساءلة والعدالة وشبكة الإعلام التي غالباً ما تقوم بدور وعاظ السلاطين!

الكلمات المفتاحية: اصلاح اقتصادي، سعر الصرف وسعر الفائدة، صندوق النفط السيادي، التضخم. الاختلالات الهيكلية والبنيوية للاقتصاد الوطني

Prof. Sanaa Abdel Kader Mustafa Al-Mosuli

Arab Academy in Denmark

The Absract

Since 2003, the Iraqi national economy has been in a vicious circle, characterized by the following:

The Iraqi constitution does not specify the nature of the economic system, as it is stated in Article 25: "The state guarantees the reform of the Iraqi economy according to modern economic foundations and in a way that ensures the investment of all its resources, diversification of its sources, and the encouragement and development of the private sector" (the Iraqi constitution).

Iraq's presently distorted socio-political system is based on sectarian and ethno-political quotas (nepotism and attributionism). Accordingly, official institutions and government departments were transformed into the feudal caste-system that prevailed in medieval Europe. This has led to the erosion of all civil, military and security state agencies and their paralysis as a result of administrative and financial corruption.

The role of independent economic bodies such as the Financial Supervision Bureau and the Central Bank of Iraq as a bank of banks in managing the Iraqi national economy has weakened due to the direct intervention of the Prime Minister in their work.

The absence of scientific economic planning based on long medium and short-term plans due to confusion and chaos in the management of sectors of the national economy, which led to the weak contribution of these sectors to the GDP.

The phenomenon of money laundering and investment in neighboring countries has become a normal issue in the Iraqi national economy, and what surprises one is that there are banks in neighboring countries that receive these funds with openness in order to invest them without bothering to ask how these funds came out of Iraq informally and fundamentally!

The lack of control over the exchange rate of the Iraqi dinar due to the absence of a clearly defined fiscal and monetary policy with objectives in the service of the national economy and not the service of private sector banks, which were dominated by corruption and financial bribery.

The absence of a network of systems for managing government financial and administrative information, through which the implementation of the general annual budget for all sectors of the national economy in the country is monitored.

There are many economic committees of political parties that take companies from their ministries to profit from them and then finance their party finances. The phenomenon of forming economic committees has become a fashion in our national economy!

The existence of a parliament does not have legislative and oversight power in practice because of the control of the heads of political blocs from outside and inside parliament, and because the electoral law was designed to produce and reproduce ruling administrative categories of leaders, friends and cronies of political blocs in addition to their sycophants.

In practice, "independent bodies" are subordinate to the parties in power, as they are composed of representatives of sectarian and ethnic quota parties, and their president carries out what the head of his party orders. This is what we have observed in all the "undemocratic" elections in Iraq since 2003. A good example of this is the Independent Electoral Commission, the Accountability and Justice Commission and the media network that often acts as preachers of the sultans!

Keywords: economic reform, exchange rate and interest rate, sovereign oil fund, inflation. Structural and structural imbalances of the national economy.

المقدمة: حداثة الموضوع

أنا من الأوائل اللذين كتبوا عن موضوع الاصلاح الاقتصادي في اطروحتي للدكتوراه باللغة الروسية الموسومة "Промышленность Растительных Масел Ирака и Экономичех Проблеми её Развия. (المشاكل الاقتصادية لتطوير صناعة الزيوت النباتية في العراق صفحات 14-15)(1981-معهد الاقتصاد التابع لأكاديمية العلوم الأوكرانية - الاتحاد السوفيتي) [1]." وتغيرت استراتيجية التطور الإقتصادي للبلد الذي أصبح فيها رفض طريق التطور الرأسمالي وادخال الاصلاح الاقتصادي الذي هو محور ارتكاز في عملية بناء الاقتصاد الوطني وإعطاء قطاع الدولة دوراً مهماً".

وكذلك :" ملخص اطروحة الدكتوراه الذي ترجمته من اللغة الروسية الى اللغة العربية المنشور في شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 08/09/2019. " يعار اهتمام خاص من قبل المهتمين بالإقتصاد العراقي لتصفية تراكيب الإقتصاد الوطني المتخلفة. ويبرز برنامج كبير فيه إقامة صناعة ثقيلة وبناء المكائن. وتتخذ اجراءات لتطور سريع في فروع صناعية أخرى وفي مقدمتها الصناعات الغذائية الذي يحتل المكان الرئيس في تركيبها إنتاج الزيوت النباتية، إذ تلعب منتجات هذا الفرع الصناعي دورا مهما في توفير المنتجات الغذائية للسكان. كما أن استمرار تطورها يلبي المصلحة الإقتصادية للبلد" [2].

وبالإضافة الى مقالة عن الاصلاح الاقتصادي في العراق بعنوان : إلى أين يتجه الاقتصاد الوطني العراقي والتي نشرت في شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 7/3/2016.

يشكل الاصلاح الاقتصادي ركناً اساسياً في تطوروتنمية أية دولة في العالم ، ولذلك فإن "الإصلاح الاقتصادي هو مجموع الاجراءات الهادفة إلى معالجة الاختلالات الهيكلية والبنيوية للاقتصاد الوطني. وبنتيجة ذلك يتم الانتقال إلى نظام منفتح يقوم على أساس تحرير السوق وتوسيع قاعدة التنمية. من بين الإجراءات الفعالة في مجال الإصلاح الاقتصادي إعادة هيكلة مؤسسات الدولة بحيث تصبح أكثر كفاءة وأعلى إنتاجية. ومما يعنيه ذلك مواكبة مؤشرات العرض والطلب بشكل فعال وإيجابي على المنتجين والمستهلكين"[3] .

كما يعني الإصلاح الاقتصادي "تصحيح أسس الاقتصاد الكلي وإعادة رسم الأولويات لكي يتم توفير الظروف الملائمة لتحقيق النمو الاقتصادي القابل للاستمرار وتحسين مستويات المعيشة في بيئة اقتصادية كلية مستقرة يتم فيها السيطرة على ضغوط التضخم من خلال اتباع سياسات مالية ونقدية تهدف إلى سيادة نظام السوق وتحسين وضع ميزان المدفوعات " [4] .

أهمية البحث:

تكمن أهمية البحث في بيان قدرة العراق على تنفيذ كافة متطلبات الاصلاح الاقتصادي من أجل تنفيذ تنمية اقتصادية تشمل كافة قطاعات الاقتصاد الوطني العراقي بما فيها الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف على عملته الوطنية.

أهداف البحث:

ويهدف البحث الى القاء الضوء على أهم التحديات التي تواجه العراق في الاصلاح الاقتصادي من حيث:

1. بيان وتحديد الأسباب الحقيقية التي تقف حجر عثرة أمام الاصلاح الاقتصادي وتطور العراق، اعتمادا على التحليل العلمي الذي تحدده منهجية هذا البحث.

2. طرح الحلول العملية من خلال الخطط الاقتصادية الطويلة والمتوسطة الأمد لضمان تحقيق تنمية اقتصادية شاملة ومتواصلة حسب التصورات المرسومة لها وتطوير الاستثمار في صندوق السيادة العراقي.

وتهدف هذه الدراسة ايضاً الى:

بيان وتحليل نتائج الاصلاح النقدى فى برنامج الاصلاح الاقتصادى وتأثيره على سعر صرف الدينار العراقي مع اظهار مدى استقرار السياسة النقدية وتأثيرها على سعر الصرف.

دراسة وتحليل الازمات الاقتصادية وتأثيرها على الاقتصاد الوطني العراقي مع وضع خطوات لعدم تكرارها

دراسة تاثير اتباع سياسة نقدية لتثبيت التضخم عند مستوى معين على سعر الصرف .

تقييم سياسات سعر الصرف التى اتبعتها الدولة ومدى فاعليتها فى الاقتصاد الوطني من حيث تحقيق اهداف التنمية والاستقرار الاقتصادى ودعم سعر صرف الدينار العراقي.

مشكلة البحث:

ما هي التحديات التي يمكن أن تواجه الاصلاح الاقتصادي في العراق؟

في هذا البحث سوف أشرح مفاهيم معينة للإجابة على الأسئلة أعلاه ومن ثم الإجابة كيف يمكن للمرء أن يحل المشاكل التي ستواجه العراق مستقبليا في الاصلاح الاقتصادي.

فرضيات البحث: والفرضية الأساسية للبحث هي وجود مؤسسات اقتصادية ومالية في العراق هدفها عند الضرورة تنفيذ كافة متطلبات الاصلاح الاقتصادي بما فيها تغيير سعر صرف الدينار العراقي حتى تتحقق رفاهية المواطن العراقي.

الفرضية الأولى: الاعتماد على التخطيط الاستراتيجي الطويل الأمد (خطط لمدة 10 سنوات) وخطط اقتصادية خمسية تلائم طبيعة العراق وتناسب بيئته الاجتماعية من أجل تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية-الاجتماعية المنشودة.

الفرضية الثانية: إن نظم المعلومات في المؤسسات والمشاريع الإنتاجية التي لها علاقة مباشرة بالإقتصاد الوطني هي من الدعائم الأساسية المساهمة في حل معظم مشاكل النظام الإقتصادي من خلال اتخاذ القرارات الرشيدة والقضاء على البيروقراطية الإدارية وكذلك التداخل في المهام الإدارية بين الوحدات التنظيمية المختلفة حتي يتم تنفيذ كافة متطلبات الاصلاح الاقتصادي.

منهج البحث:

ومن أجل تحقيق الأهداف المنشودة من هذه الدراسة والوصول الى اثبات فرضية البحث أو نفيها اعتمدت في هذا البحث استخدام المنهج الاستنباطي الوصفي التحليلي الذي يستند على أساليب الاحصاء الاقتصادي ومحاولة معرفة العلاقة الكمية التي تربط هذه المتغيرات بعضها ببعض. وحتى تساعد متطلبات الاصلاح الاقتصادي في العراق في تنفيذ المشاريع الاقتصادية والاجتماعية وتحقق الأهداف المرجوة منها، فإننا نحتاج إلى مؤسسات مالية ودستورية توفر لها كل مقومات النجاح بدءاً من الاستراتيجيات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر إحدى أولوياتها، وتبنًي السياسات المالية والتمويلية اللازمة لتنفيذها.

المبحث الأول: توصيف الأزمة الاقتصادية في العراق

ومن تحليل المؤشرات الاقتصادية في الجدول رقم 1 يمكن القول: أن أزمة اقتصادية في ظل هذه المؤشرات توجد في العراق . فمن معدل سلبي لنمو الناتج المحلي الاجمالي(-15.7%) الى معدل بطالة وصل الى 14.2% ومعدل تضخم 4.50% ونسبة الحساب الجاري الى الناتج المحلي الاجمالي قدرها (-10.8%) ونسبة الميزانيات الحكومية من الناتج المحلي الاجمالي بلغت (-12.8) وهذه البيانات تعكس كارثة حقيقة تطور الاقتصاد الوطني العراقي السلبي كما تعكسه بيانات جدول رقم (1).

جدول رقم 1 : المؤشرات الاقتصادية في العراق %3498 سناء

وكما هو واضح من الجدول رقم 1 أن التضخم بلغ 4.5 % وهذا حدث نتيجة الأسباب التالية: الاستيراد وارتفاع سعر صرف الدولار أمام العملة المحلية. وهذا الذي أكدت عليه وزارة التخطيط العراقية وكذلك الجهاز المركزي للإحصاء اللذين قد أعلنا عن ذلك على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة التخطيط العراقية عبد الزهرة الهنداوي بأن ارتفاع التضخم السنوي في العراق يرجع الى أسباب خارجية وداخلية. وأضاف الهنداوي ان "مؤشرات التضخم في العراق كمنظومة اقتصادية جزء من المنظومة الاقتصادية العالمية وخصوصا ان الكثير من المواد سواء أكانت انشائية او استهلاكية مستوردة، وبالنتيجة شهدت ارتفاعا بالأسعار بمعدلاتها العامة وخاصة الغذائية المستوردة". وكذلك "كثرة الطلب الاستهلاكي على مختلف المواد الاستهلاكية والانشائية ووجود كتلة نقدية كبيرة تتحرك داخل السوق العراقية يضاف الى ارتفاع قيمة الدولار وانخفاض قيمة الدينار بالأساس ، اسهمت جميعها الى ارتفاع نسب التضخم" [5].

من تحليل بيانات الرسم التوضيحي رقم 1 التي توضح نسب ايرادات بيع النفط العراقي والاجور والرواتب التقاعدية والميزان المالي والايرادات غير النفطية والنفقات الأخرى وسعر برميل النفط الواحد من الانتاج المحلي الاجمالي[6] نجد أن حصة الاسد تعود الى الأجور والرواتب التقاعدية والنفقات الأخرى اللتين يشكلان نصف الموارد من بيع النفط العراقي وهذا هو السبب الرئيس في اختلال نمو وتطور الاقتصاد الوطني العراقي والذي يجب أن يبدأ به الاصلاح الاقتصادي في العراق.3499 سناء

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى الموصلي

الأكاديمية العربية في الدنمارك

...................

[1] انظر اطروحتنا للدكتوراه باللغة الروسية الموسومة "Промышленность Растительных Масел Ирака и Экономичех Проблеми её Развия. (المشاكل الاقتصادية لتطوير صناعة الزيوت النباتية في العراق صفحات 14-15)-(معهد الاقتصاد التابع لأكاديمية العلوم الأوكرانية - الاتحاد السوفيتي ، 1981).

[2] ملخص اطروحة الدكتوراه الذي ترجمته من اللغة الروسية الى اللغة العربية المنشور في شبكة الاقتصاديين العراقيين بتاريخ 08/09/2019.

[3] Made for minds, DW.

[4] سوسن جبار عودة ، الإصلاح الاقتصادي:المفهوم، السياسات، الأهداف ، فرع المنطقة الغربية بالهيئة العامة لتشجيع الاستثمار وشؤون الخصخصة. 7/11/2013.

[5] وزارة التخطيط العراقية، "تجربة الصندوق الاجتماعي" ، 2021

[6] Attaqa.net

وهل خلت القرون من التوحيد؟

 (ماتَعبدونَ من دونهِ إلا أسماءً سَميتموها أنتم وآباؤكم ماأنزلَ الله بها مِن سُلطان) يوسف 40

إن قضية الشرك بالله تعتبر من أخطرالقضايا التي تعرضت لها البشرية على مر العصور لما تحمل من جحود بنعم الله، والتي انحرفت عن صراطها بسبب الغلو والمغالات والتعظيم ثم التقديس لغير الذات الالهية.

ومع علم الانسان إن لله خالقا مدبرا حكيما له مقادير الحكم والرزق والحياة والموت، لكنه انحرف وضل الطريق بسبب غواية الشيطان والمغالات بتقييم وتعظيم غير الله.

وإذا ما تأملنا الايات القرآنية التي نزلت بالمشركين سنجد الاتي:

-الظلم (وَاتبع الذينَ ظَلموا أَهواءَهُم بغيرِ علمٍ) الروم 29

ويتجسد بظلم الانسان لنفسه بانحرافه وضلالته وبابتعاده عن الله وعن جنته، ثم توريثه وانتشاره

 فيما بعد ليحمل بذلك كل الاوزار والذنوب لكل من تبعه (وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة.

-الانحراف عن الحق (فمن أظلم ُ ممن افترى على الله كذبًا ليُضلَّ الناسَ بغيرِ علمٍ) الانعام144

-الرضوخ لفجور النفس وغواية الشيطان (ومنَ الناسِ من يُجادِل في الله بِغير عِلمٍ ويتبعُ كلَّ شيطانٍ مَريدٍ.كُتبَ عليهِ أنّهَ من تولاهُ فأنّهُ يُضلّهُ ويهديهِ إلى عذاب السعير) الحج3-4

-إتخاذ مالاينفع ولايفقه وجعله ندا لله (أتجادلوني في أسماءٍ سميتموها أنتم وآباؤكم مانزلَ الله بها من سلطان) الاعراف 71

 وعندما يقع اختيار الله على أي نبي فلابد أن يكون النبي مستوفي الشروط لاداء الرسالة، وعندما خلق الله آدم عليه السلام وعلّمه الاسماء كلها (وعلم آدم الاسماء كلها) البقرة 31

لكي يستطيع أن يكون خليفة في الارض، ومن صفات النبي التنبؤ بكل شئ عن طريق الوحي، مما يعني إن آدم قد علّم ابناؤه ومن ورثه كل شئ بما في ذلك عبادة الله، فكيف إذن ظهر الشرك وعبادة الاصنام؟

بحقيقة الامر وحسب الأيات القرآنية التي ذكرها الله لتكون بيّنة وبيانا للناس فإن الشرك وعبادة الاصنام ثم الكفر فيما بعد ظهر بعد طوفان نوح بدليل الآية القرآنية (أولئك َ الذين أنعم الله عليهم من النبيينَ من ذُريّةِ آدمَ وممَّن حَمَلنا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إبراهيمَ وإسرائيلَ وممَّن هَدَينا واجتبينَا إذا تُتلى عليهم آياتُ الرحَمنِ خرّوا سُجَّدا وبُكيَّا فَخَلفَ مِن بَعدِهم خَلفٌ أضاعٌوا الصَّلاة واتَّبعوا الشّهوات فسوفَ يَلقَونَ غَيَّا) ..مريم 58

هذه الآية القرآنية توضح إن عبادة الله الواحد الأحد بقيت ممتدة من خلافة آدم، أي إن القرون لم تخلو من التوحيد، لكن ظهر الشرك، والشرك كما نعلم هو إشراك أي أحد بعبادة الله، فمتى ظهر الشرك؟

إن بداية الشرك في البشرية جمعاء كانت بسبب الغلو، ففي الفترة مابين آدم ونوح لم يشرك أحد بالله جل وعلا، ثم جاء قوم نوح وكان فيهم كبراء القوم وساداتهم الموحدين لله، وقد إكتسبوا شعبية بسبب أخلاقهم الفاضلة والكثير من الصفات التي جعلت لهم مكانة كبيرة في نفوس القوم، لكن وبعد وفاتهم، وبسبب حب القوم الشديد لهم اقترح أحدهم أن يصنعوا لهم تماثيل، ليتذكروا محاسنهم ومناقبهم واخلاصهم في عبادة الله .

لكن للشيطان شأن آخر (قالَ رَبّ بما أغوَيتني لأ’زَيّنَنَّ لهم في الأرضِ ولأغوينهُم أجمَعين) الحجر39، فكما غوى آدم وأخرجه وزوجه من الجنة، سيكمل عمله الى الأخير، فبدأت غوايته لأولئك القوم الذين كانوا متيمين بكبرائهم، وقد أحسن التغرير بهم لكي يتخذونهم قدوة ثم آلهة فيما بعد!!

 (مانعبدهم إِلَّا لِيُقرِّبونا إلى اللهِ زُلفَى) الزمر3

وتلك كانت البداية بداية الشرك التي بدأت بغوايةو إيغال ثم شرك ثم كفر، فقد عمدوا الى صناعة تماثيل لهم ليمجدونهم ويتذكروا صفاتهم وطرق اجتهادهم في العبادة، هذاا لتذكير الذي إعتبروه الدافع والمحفزظنا منهم إن ذلك يقربهم لله جلَّ وعلا (قُل يا أهل الكتابِ لا تَغلُوا في دينكم غير الحق ولا تتَّبعوا أَهواءَ قومٍ قد ضَلّوا مِن قَبلُ وأَضلوا كثيرًا وضلّوا عن سَواءِ السبيل) المائدة77

وقد دعا الله سبحانه وتعالى لبناء السفينة ودعوة الناس لترك عبادة الاصنام والاوثان التي لاتضر ولاتنفع واتباع سبيل الحق والرشاد (لقد أرسلنا نوحًا إلى قومهِ فَقَال ياقومِ اعبدوا اللهَ مالكم من إلهٍ غيرهِ إنّي أخافُ عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ) الاعراف59

إن الدليل العقلي والنقلي قد أكدا على بطلان الشرك فما الذي دعا المشركين وفيهم أصحاب عقول وفطنة الى الشرك بالله؟

وقد أجاب الله سبحانه وتعالى عن ذلك في كتابه العزيز (بل إن يَعدُ الظالمونَ بعضهم بعضًا إلا غرورا) فاطر40

أي إن الطريق الضال الذي سلكوه ليس لهم فيه حجة، وانما زين بعضم لبعض اعمالهم، واقتدى المتاخر بالمتقدم الضال، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم، فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة من صفاتها، فتعسر زوالها والتخلص منها، اضافة الى النفع المادي الذي تخلل ذلك فحصل ماحصل من البقاء على الكفر والشرك والضلالة (بل قالوا إنا وجدنا آباءَنا على أمّةٍ وإنا على آثارهم مهتدون) الزخرف 22

ومالبثت تلك الضلالة إلى أن تطوّرت كالنار في الهشيم لتصبح تلك ظاهرة بين القبائل وهو تمجيد زعيم القبيلة من خلال صنع تمثالا له عند موته، ثم عبادة ذلك التمثال فيما بعد، وقد تطور الامر ليتخذ أشكالا شتى ومنعطفات أخرى، فبدأ الناس بصنع تمثالا لكل متوفى حتى امتلأت البيوت والأسواق بانواع الاصنام والاوثان وشيئا فشيئا انصرف الناس لعبادة الاصنام وابتعدوا عن عبادة الله الواحد (فَخَلفَ مِن بَعدِهم خَلفٌ أضاعٌوا الصَّلاة واتَّبعوا الشّهوات فسوفَ يَلقَونَ غَيَّا) .. مريم 58، فهي اذن شبهة أوهى من شبهة وتقليدا أعمى بغير علم واعتمادهم على موروث كاذب وآراء فاسدة وعقول كاسدة، لان الشرك لم ينزل به سلطان وهو تخرص بغير علم ومحض افتراء على الله (ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما) النساء48

وعليه فإن التجاوزات على الذات الالهيّة قد بدأت بعهد نوح عليه السلام واستمرت واستفحلت ثم ظهرت الاساطير وتداولها الناس، وكان لابد لله أن يقوّم هذه الامة بإرسال الرسل والانبياء لتوحيدها وهدايتها سبيل الرشاد (إنّا أرسلناك بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا وإنّ من أُمةٍ ألا خلا فيها نذيرٌ) البقرة 119

وفي هذه الاية دلالة واضحة بيّنة كعين الشمس على إن البشرية لم تخلو من التوحيد وهذا ما جسدته الآية الكريمة بما يقطع الشك باليقين.

فتبا لمن قلد تقليدا أعمى واتبع من لاعلم له ولاعقل راجح، وافتراء الكذب والتكذيب بآيات الله وانهم جعلوا لاصنامهم صفة التقديس وهي لاتعلم ولاترى ولاتضر ولاتنفع (وقيل لهم أين ماكنتم تَعبدون .من دون الله هل ينصروكم أو ينتصرون) الشعراء92

***

مريم لطفي/ العراق

من المؤسف أن أغلب الدراسات التي تناولت تأريخ الأهواز كانت ذات غاية سياسية أو اقتصادية، مما أدّى إلى إهمال الجانب الثقافي في حقبات معينة من تاريخ هذه المنطقة العربية. لقد تناولنا باختصار الثقافة في الحقبة المشعشعية في الفقرة السابقة ونركز هنا على الثقافة في الحقبة الكعبية. وكلّ هذا لإظهار حيوية الأدب والثقافة عند الأهوازيين فعلى مدى قرون لم تنطفئ مظاهر التطور الثقافي وانتقل مصباح المعرفة من جيل إلى جيل. ونؤكد أنّ النهضة الأدبية والثقافية استمرت إبان الحقبة الكعبية في الأهواز ولاسيما في مدينتي القبان والمحمرة ونشير دون إسهاب إلى أنّ :

* بداية الاهتمام الأدبي والثقافي كان في فترة حكم الأمير سلمان الكعبي والذي فتح الأبواب للعلماء والأدباء والشعراء.

* كان الأمير جابر وولداه الأميران مزعل وخزعل متنورين ولايفرقون بين الأجناس والأديان ويحترمون كل العقائد في إمارتهم ومهّدوا أسباب التقدم والارتقاء فكان صفاءً وودادا بين الشيعة والسنة، وغيرهما من المذاهب الإسلامية واليهود والنصارى والإفرنج من هنود وانجليز وأرمن والأعاجم الفرس من مسلمين ومجوس. فكان يقول الأمير خزعل مثلا: إن الاختلاف مابين المسلمين قد انقضى عهده والمطلوب هو الاتحاد وليس التفرقة. وأيضا يذكر الكاتب اللبناني أمين الريحاني عند لقاءه بخزعل أنّه قال "أنّ التعصب بلية العالم وياليت لولم يكن شيئا من التعصب الديني والإنسان أخو الإنسان أحبّ أم كره."

* يؤكد الصحفي عبدالمسيح الأنطاكي على اهتمام الأمير جابر بن مرداو بالأدب والثقافة ويذكر أنّ مجالسه كانت مجالس علم وأدب. وأيضا يؤكد أن كانت له رغبة منصرفة لمساعدة كل أديب ومثقف واهتم بإحياء دولة الشعر والأدب في هذه البقعة.

 * رغب الأمراء الكعبيون في تقدم وإسعاد رعاياهم فباشروا بالإصلاح والعمران ونشروا آداب القرآن الكريم وبسطوا أيديهم بالعطاء والهبات الوافرة على الفقهاء والعلماء وفتحوا المكاتب والمدارس لهذا الغرض في المحمرة والفيلية والمدن والقرى.

* كانت المدارس في بداية حكم الأمير خزعل مثلاً تقتصر على تعليم اللغة العربية وتعلم القرآن والرياضيات ومن ثم بادر بتعزيز هذه المكاتب والمدارس بمدرسين محترفين في علوم التاريخ والجغرافيا والآداب العربية.

*كان هناك اهتمام بالغ باللغات الثلاث العربية والانجليزية والفارسية لأن الأولى لغة القرآن وإنها اللغة الأم واللغتان الفارسية والانجليزية لتمشية الأمور السياسية والتجارية.

* دعم الصحافة ونذكر صحيفة "ليلى" المهتمة بالمرأة وقضاياها.

*بدأت البعثات الشبابية إلى الهند ومصر وأوروبا للمشاهدة والتطلع من أجل عمران البلد.

* على الصعيد التعليمي أسس الأمير خزعل في المحمرة 10 كتاتيب للتعليم حتى عام 1908 ومن ثم بادر إلى تأسيس المدارس العامة . في عام 1911م. أسس المدرسة الكاسبية و بعدها أسس المدرسة الخزعلية. ثم بعدها شَيّد المدرسة الجعفرية. المواد التي تدرس كانت تحتوي على القرآن و الرياضيات والجغرافيا وتاريخ الإسلام والصرف والنحو وبعض اللغات الأجنبية .والجدير بالذكر أنّ كل المواد كانت تدرّس باللغة العربية وكان الأمير خزعل يطمح إلى تأسيس مدارس عليا فبادر بإنشاء دائرة للتربية والتعليم.

* تعامل ودعم الأمير خزعل وأولاده مع الفن التشكيلي ولاسيما الفنان اللبناني إسحق جميل واهتم أيضاً بالفرق الموسيقية السورية والعراقية والمصرية وعلى رأسهم علي الدرويش.

* ظهرت وجوه أدبية وعلمية كثيرة منها الشيخ عبدالكريم الجزائري أستاذ الصرف والنحو وعلوم القرآن والأنساب،الشاعر والأديب ايفير البحير، سعد بن عبدالله الكعبي الحويزي وهو من الذين رفعوا شأن الأدب والكتابة وكان بيته مقصدا للأدباء والمثقفين، هاشم بن حردان الكعبي والمعروف بشاعر الملاحم العربية، محمد مؤمن الجزائري وهو أديب وخطيب وكاتب لامع، فتح الله بن علوان الكعبي القباني وهو أديب وكاتب وعالم وقور سجلت له عشر مؤلفات. جعفر بن حسين التستري، سلمان الفلاحي، عدنان بن شبر الغريفي المحمري، عيسى الجزائري المحمري، ابن شرع الإسلام الحلفي، فرج الله بن درويش، أحمد بن مطلب المشعشعي وآخرون كثر.

* من أهم المكتبات أو بالأحرى المؤسسات الفكرية التي عرفها المهتمون بالأدب والثقافة العربية والإسلامية في الحقبة الكعبية مكتبة الحويزة، مكتبة تستر، مكتبة الفلاحية، مكتبة المحمرة ومكتبة الشيخ عبدالحميد التي ذكرها الأنطاكي في مجلة العمران.

في الختام أنوّه أنّ للثقافة الأهوازية آنذاك شأناً عظيماً وإنها بالكاد تكون مادة دسمة للدراسات والبحوث الأكاديمية والجامعية المستقبلية.

***

سعيد بوسامر

.....................

المصادر التي راجعها الباحث:

- الأنطاكي، عبدالمسيح. الدرر الحسان. مصر. مطبعة العرب.دت.

- بوسامر، سعيد، وفرحان، ميثم. سين وجيم لمحات من تأريخنا. نشر قهوة. الأهواز. ٢٠١٨.

- اللامي، عبدالرحمن كريم. الأدب العربي في الأهواز. منشورات وزارة الثقافةوالإعلام. العراق. ١٩٨٥.

- الريحاني، أمين. ملوك العرب. دار الجيل: بيروت. ١٩٨٧. ص ٦٨٢-٦٨٧.

- المحمودي، قاسم. الأدب العربي في الأهواز

شهد العقدين الماضيين جهود حثيثة لإعادة فهم العالم الذي نحيا في ظله، والعوالم التي تحيط بنا لكننا لا نراها بأم اعيينا، ومن ثم اعادة اكتشاف الطاقات والمواهب والعلوم الخفية التي وهبها الله لبعض الخلائق ومنهم هرمس

عاد العالم بقوة يبحث عن هذه القوي الخفية لشخصية هرمس التي اكتنزت المواهب العقلية والفلسفية والروحية معا، وذلك نجده حاضرا في كل الحضارات والثقافات والاديان بمسميات مختلفة، وكل حضارة تنسبه اليها، فالمسلمون يرون ان هرمس هو نبي الله اخنوخ، وعلماء مصريات يعتقدون انه الاله "أوزوريس".. ومؤرخون يرونه الحكيم "هرمس" بينما ذكرته التوراة بأنه "أخنوخ" من نسل آدم، ووصفه "المقريزي" بأحد بناة الأهرام.

جاء في تواريخ كل من الطبري، ابن كثير، ابن الأثير، والمسعودي، فإن إدريس هو أخنوخ من نسل شيث بن آدم، وتسميه الصابئة "هرمس"، بينما ذهب الامام جلال الدين السيوطي الى انه نبي وملك حكم مصر بعد ان توارث العلوم عن جده شيث بن آدم . أما "هرمس" عند الاغريق فهو شخصية أسطورية إغريقية، وعند اليونان فكان معبودا ضمن "آلهة الأولميب" الشهيرة، وكان ابنا لزيوس !!!

نسبت كل حضارة هرمس اليها وافادت من علومه وتعاليمه، من خلال تلاميذه، فهرمس هو نبي الله إدريس قد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وإليه انتهت الرياسة في العلوم الحرفية واسرار الحكمة واللطائف الربانية والإشارات الفلكية، واستقى الحكماء والفلاسفة من حكمته، وتشرب العلماء من فيوضات علومه .

وقد صنف كتاب كنز الأسرار وذخائر الأبرار، وهو خامس كتاب كان في الدنيا في علم الحروف، وعلمه جبرائيل علم الرمل، وبه أظهر الله نبوته وقد بنى اثنين وسبعين مدينة،وتعلم منه علم الحروف .

الهرامسة وهم أربعون رجلا، وكان أمهرهم اسقلينوس الذي هو أبو الحكماء والأطباء، وهو أول من أظهر الطب، وهو خادم نبي الله إدريس وتلميذه، ثم ابنه متوشلخ ثم ابنه لامه ثم ابنه نوح، وهو نبي مرسل وله سفر جليل القدر، وهو سادس كتاب كان في الدنيا في علم الحروف، ثم ابنه سام ثم ابنه أرفخشد ثم ابنه شالخ ثم ابنه عابر، وهو نبي الله هود ثم ابنه فالغ ثم ابنه يقطر وهو قاسم الأرض بين الناس، ثم ابنه صالح نبي الله ورث علم الحروف، ثم ارغوا ابن فالغ المذكور ورث علم الحروف، ثم ابنه اسردع ثم ابنه ناحود ثم ابنه تارخ ثم ابنه إبراهيم، وهو نبي مرسل أنزل الله عليه عشرين صحيفة، وهو أول من تكلم في علم الوفق .

هذا يفسر وجود المبادئ الهرمسية جوهر الديانات الأسيوية الشرقية كالهندوسيَّة والطاويَّة والبوذيَّة، والديانات الشرق أوسطية من يهودية ومسيحية وإسلام إلى ديانات الشعوب الأصلية في الأمريكيتين، وإفريقيا وأوروبا واستراليا .

فلسفة هرمس

تقوم الفلسفة الهرمسية على سبعة قوانين وهي قانون الوحدة العقلية، والتطابق، الذبذبة أو الاهتزاز، الأقطاب أو الأضداد، السبب والنتيجة، الجنس، والايقاع .

وأثبت علماء الفيزياء الحديثة بعالمنا المعاصر، أنّ المبادئ الهرمسية كانت لديها المعارف المتطورة التي بدأنا في استكشافها في حقول الفيزياء الكونية والكيمياء وعلم الطبيعة وعلوم النفس والروح أو ما يعرف بعلم الكيمياء .

قانون الوحدة او العقلانية:

فالعقل هو الشيء الوحيد الذي يمكن إثباته وهو الحق، والكون عبارة عن تمثُّلات وتجسيدات لتصوّرات إبداعات العقل الكوني الكلي . وجميع الإبداعات والاختراعات والتصميمات البشرية لا يمكن وجودها في الواقع، ما لم تكن في البداية فكرة في ذهن المبدع ومن ثَمّ تجسدت في الواقع .

قانون التماثل أو التطابق

ويشير إلى وجود تماثل ما بين عالمين متوازيين، كما الأعلى الأسفل، وتَماثُل بين المبدأ وبين الظاهرة؛ القاعدة والتطبيق؛ والتّماثُل هو القدرة على إدراك ما هو غير محسوس، ويشير ذلك الى وجود عوالم لا متناهية، فكل عالَمٍ هناك ما يماثله في مجال زماني ومكاني آخر .

الذبذبة أو الاهتزاز

فالكون في حركة دائمة، كل شيء وكل كائن لديه حركة أو ذبذبة تصدر عنه، وهو ما اكتشفه اليوم علماء الفيزياء بأن للمادة حركة المادة إما أن تكون بطيئة أو سريعة، وكذلك على صعيد الفكر والروح هناك طاقة حركية ذات درجات من التذبذب؛ فتكون سريعة في الحالة الروحية بحيث تبدو في حالة ثبات .

الأقطاب أو الأضداد

والكون هو عبارة عن ثنائية؛ فلكل شيء وجهان، فالضوء هو كيان واحد له حالتان هما النور والظلمة، والحرارة هي شيء واحد له وجهان؛ الوجه الساخن والبارد . إذن فكل موجودات الكون لها قطبية: الكره والحب، الخير والشر، النهار والليل، الحزن والفرح،ولا بدّ للبشر من اختبار كافة المتناقضات لفهم الازدواجية .

السبب والنتيجة

ما يقع في الكون له سبب، وكل نتيجة لها مسبِّب. وهذا المفهوم يُعرف في الهندوسية بـ”الكارما”، وهو يدل على أن ما يحدث لنا هو نتيجة لأفكارنا، وأنّ ما يحدث في عالمنا هو نتيجة لأعمالنا، فمن عاش التعاسة إنّما هو استجلبها لنفسه بفكره وسلوكه؛ فالنجاح نتيجة الجهد والمثابرة .

قانون الجنس

يقرر هذا القانون أنّ لكل شي في الكون حالة ذكورية وحالة أنثوية، وقد أشار القدماء إلى هذا المفهوم بتمثال الشمس بوصفها ذكورية في القوة والسطوع، والقمر بوصفه أنثوي في الغموض والبرود، وفي الفلسفة الهرمسية فالأب هو العقل الكليّ وهو بالحالة الذكورية، وتليها الحالة التجسيدية التي خلقت كل الموجودات الكونية، وهي جميعها متواجدة في الرحم الكوني، إذ أننا نجد الوعي بالفكرة ومن ثمّ بعد ذلك خلقها وتجسيدها.

قانون الإيقاع

فكل الأشياء لها إيقاع مثل الأرجوحة . وكل ما يصعد لا بد له من أن يهبط، وهذا ينطبق على البشر في حالة الولادة والموت، البناء والدمار، طلوع الأمم ثم اندثارها، في الشروق والغروب، الاخضرار والذبول، والحياة والموت في كل المخلوقات، ونرى الازدهار في الشباب والاضمحلال في الكِبَر .

هذه القوانين السّبعة هي عماد الفلسفة الهرمسيّة ومنهجَ يفسر طواهر الكون وحركته وقواعده، فكل الموجودات تخضع لهذه القوانين، وفهم الانسان لها وادراكه بها يجعله أكثر تناغما مع الكون واستقرارا نفسيا ومتحققا بالسلام الداخلي .

***

 سارة طالب السهيل

مزيج حضاري ودول ثنائية الهوية

إنَّ هذه الفكرة حول المزيج الحضاري، أو الثنائية القومية في الممالك والإمارات الآرامية والعربية في الجزيرة الفراتية وعموم شمال العراق القديم وشرقي سوريا، قريبة أيضاً من الفكرة الخاصة بالعلاقة بين اللغتين العربية والآرامية والتي عبر عنها الباحث الهولندي البروفيسور هولغر غزيلا، في مقابلة معه / ضفاف 18 كانون الأول 2017، قال فيها: "يمكن القول إنَّ الآرامية بمثابة ابنة عَمٍّ للعربية، وليست شقيقة مباشرة، فاللغتان ساميّتان غربيتان، لكن الآرامية تنتمي إلى الفرع السامي الشمالي الغربي، أو إلى لغات بلاد الشام القديمة بالمعنى الجغرافي"، أي أنه يضع الآرامية بالتزامن، أو إلى جوار العربية المنتمية  إلى اللغات السامية الشمالية الغربية أيضا، ولكن إلى جنوبها جغرافيا (وشمال الجزيرة العربية). كما يوضح فكرته في موضع آخر بقوله "لا يمكن الحسم بهيمنة العربية في المناطق التي ذكرت (تدمر والحَضَر وأورفا)، فالأسماء تهاجر كما تعلم وليست دليل انتشار عرقي. هنا يأتي دور الدين والثقافة. الأسماء تهاجر مع الأفكار. ولتلافي التعميم في حالة شرقي المتوسط في العصر الروماني، يمكننا الحديث عن مجتمعات ثنائية اللغة، آرامية-عربية، في سورية الوسطى والشمالية، مع أكثرية عربية في الأردن وشمال الجزيرة العربية (الأنباط)".

وفي السياق، يفرق غزيلا بين لغة سريانية يسميها "القديمة"، وهي كما يقول لغة النصوص الدينية من العصور القديمة المتأخرة، ولم تكن لغة الكلام اليومي (لسان)، ولا يجب الخلط بينها، وبين ما يعرف بـ "السريانية الحديثة"، التي تشكّلت مع انتشار المسيحية في الشرق، والدالة على اللهجات الآرامية الشرقية المحكية حاليا في مناطق متفرقة من العراق والجزيرة السورية وجنوب تركيا، ويمكن مقارنة السريانية القديمة بالعربية الفصحى، التي هي لغة الأدب والتعليم والثقافة والدين، لكنها ليست لغة التواصل اليومي التي هي بالأحرى اللهجة الآرامية العامية التي كتبت فصارت تسمى "السريانية الحديثة". إن هذه الفكرة التي يقدمها غزيلا حول الفرق اللغوي واللهجوي بين العربية والسريانية يمكن استلهامها بشيء من الحذر عند الحديث حول المكونات العرقية المتجاورة والمتداخلة في المنطقة في العهدين الفارسي فالروماني بهدف رفض المنطق القومي الأيديولوجي المعاصر والساعي لفرض هوية عرقية واحدة هي السريانية أو العربية في حالتنا على سكان الممالك القديمة في هذه المنطقة وخصوصا في منطقة مملكة الرها. أما فيما يخص هوية مملكة الحضر الثقافية والسكانية فيبدو أن هويتها العربية كانت أكثر نضجاً ووضوحا، من دون أن يعني ذلك الشطب على موضوعة "الثنائية القومية واللغوية" تماما، فلغة الكتابة في مملكة الحضر كانت الآرامية، وخصوصاً وهي تحتل موقعاً وسطاً بين الرها شمالها والممالك العربية الأخرى جنوبها.

لقد عثر على دليل آثاري داخلي يؤكد عروبة الحضر، أو في الأقل يؤكد ما سماه هولغر غزيلا "الغالبية العربية" وقبلة توصل الباحثان العراقيان د. يوسف قوزي ود. محمد روكان في كتابهما "آرامية العهد القديم"، إلى هذا الاستنتاج فكتبا "وقد كان سكان هذه المملكة - الحضر - أخلاطاً من الآراميين والعرب ويبدو أن القبائل العربية كانت تشكل غالبية سكانها لذلك يطلق عليها اسم (عربايا)، أو ربما لأن ملوكها كانوا من أصل عربي. ص 30". عوداً إلى الدليل الآثاري والذي يمثله نقش وُجِدَ على تمثال الملك الحضري سنطروق ونصه بالآرامية: "صلما دي سنطروق ملكا دي عرب (ز-ك-يأ-) بر نصرو مريا بر نشريهب". وترجمته الشائعة هي: "تمثال (صلما / قارن مع صنم العربية) سنطروق، ملك العرب المنصورين/ الظافرين، ابن نصرو سيدي، ابن نشريهب". ولكني أتحفظ على عبارة "ملك العرب المنصورين/أو الظافرين" التي أرجحُ انها لم ترد حرفياً في العبارة الآرامية بل وردت "ملك دي عرب زكأ" وأعتقد أنها تعني، كما يوحي السياق، "ملك العرب الظافر"، دون أن أجزم بذلك لأنني لا أجيد اللغة الآرامية، ولكن المعنى العام المؤكد لعروبة الملك ورعيته لن يتغير كثيرا.

ثمة تمثال آخر للملك سنطروق مصنوع من حجر الحلان "الجيري" يؤكد ما تقدم ويضيف إليه غلبة العرب السكانية فقد دُوِّنت عليه بالآرامية في سطرين الحروف التالية:

1- ص.ل.م.أ. د.ي. س.ن.ط.ر.و.ق. م.ل.ك.أ. د.ي.

2- ع.ر.ب. ب.ر. ن.ص.ر.و. م.ر.أ.ي

وترجمتهما: تمثال سنطروق ملك العرب ابن نصرو سيدي.

وفي كِلا النصين، لا يمكن نسبة كلمة "العرب" إلى البادية أو الصحراء، كما يعتقد البعض ممن ينفون عروبة مملكة الحضر، بل إلى هوية السكان. وقريب من هذا الاستنتاج ما يورده د. قوزي الذي فسر كلمة عربايا في هامش له على ص، 45، م. س، قال فيه إنه آتٍ من سكانها المختلطين من الآراميين والبدو الرحل (رعاة غنم/ عِربايي).

مملكة الحضر في الأدب العربي قبل الإسلام

ومن الأدلة الثقافية التي تفيدنا في سياق تأكيد عروبة هذه المملكة الكاتبة بالآرامية، يمكن إيراد اهتمام المؤرخين والشعراء العرب في عصر الإسلام وما قبله بعدة قرون بقصة مملكة الحضر وملوكها، فقد ذكروها في أشعارهم، وسمّوا أشهر ملوكها؛ قال ياقوت الحموي (ت 1229) إن مؤسسها هو الملك الساطرون، وهي تحريف من "سنطروق" كما يرجح الباحث فؤاد سفر في الكتاب الذي ألفه بالاشتراك مع زميله طه باقر "المرشد إلى مواطن الآثار/ص33" ولكنه للأسف لم يبينِّ للقارئ معنى الاسم وجذره.

في هذا الكتاب ينقل لنا فؤاد سفر وصف الحموي لأبراج عاصمة الحضر الستين، وتفاصيل سقوط مملكة الحضر وتدميرها ومقتل ملكها الضيزن / سنطروق الثاني بأيدي جنود الملك الفارسي شاهبور بعد صمود رائع أمام جيوشهم. (يعتقد البعض أن سنطروق كلمة آرامية وتعني "الملك"، أما الضيزن العربية فمن معانيها؛ الحافظ الثقة، والمزاحِمُ غيره في أمر). وقد ذكر مملكة الحضر مؤرخون وأدباء عرب كثر منهم ابن قتيبة وابن إسحاق، وأورد أبو الفرج الأصفهاني وياقوت شعراً عربياً مقفىً لشعراء عرب من عصر ما قبل الإسلام منهم مثلا عمر بن آلة وفقَ رواية أبي الفرج الأصفهاني، أو جدي القضاعي حسبَ رواية ياقوت، كما نسبت الأبيات الى عمرو بن كلثوم، في رثاء الحضر وأهلها:

أَلَم يَحزُنكَ وَالأَنباءُ تَنمي

بَما لاقَت سَراةُ بَني العُبيدِ

وَمَقتَلُ ضَيزَنٍ وَبَني أَبيهِ

وَإِخلاءُ القَبائِلِ مِن يَزيدِ.

وبنو العُبيد - بضم العين - هم بطن من عشيرة سليح من قبيلة قضاعة القحطانية اليمنية. كما ورد ذكر مملكة الحضر في قصيدة للشاعر الجاهلي عَدي بن زيد العبادي التميمي (توفي سنة 587 م وكان شاعراً ومترجماً ودبلوماسيا، عربيا مسيحياً من أهل الحيرة) التي خاطب فيها النعمان بن المنذر عاهل مملكة المناذرة جنوبي العراق مذكراً إياه بمأساة الحضر وملكها الضيزن وشعبها، فهذه الإشارات الأدبية والتأريخية تؤكد الهوية العربية لمملكة الحضر وملوكها، بل إننا نضع أيدينا على إشارات في التراث العربي القديم على أن غالبية سكان الحضر وربما نخبتهم كانت من قبيلة قضاعة اليمنية كما يذكر مثلا ياقوت الحموي وفق توثيق فؤاد سفر، ومن قبائلها بني يزيد وبني عُبيد التي أجلاها  الغزاة الفرس والرومان من أراضي الحضر.

عوداً إلى موضوع العلاقة بين مملكتي الحضر والرها، وإيهما كانت تسمى عربايا، يمكن القول إن دليلاً آثارياً آخر ثم العثور عليه في أطلال مدينة الحضر ربما حسم الإجابة نسبياً على هذا السؤال وأكد أن مملكة الحضر هي عربايا نفسها. وهذا الدليل هو "لوح رخامي يحتوي نقشاً أنيقاً بالخط الآرامي يذكر اسم "الحضر" كمركز لمنطقة "عربايا" (مملكة عربايا). خلال فترة الاحتلال الفارسي البارثي، من القرن الأول إلى القرن الثالث الميلادي. والنقش معروض في المتحف العراقي في بغداد" وهو أيضا معروض بهذا التعريف على الموسوعات الحرة.

ولكن هذا النقش، بنص تعريفه الذي تقدم، والذي وردت فيه آن واحد كلمتا "المنطقة والمملكة"، قد يثير تحفظات وأسئلة من أخرى من قبيل؛ هل وردت عبارة "الحضر مركز لمنطقة ومملكة عربايا" نصاً وحرفياً في النقش، أم أن هذا التعريف هو مجرد استنتاج من قبل الطرف المعرِّف بالنقش؟ وعلى الإجابة على هذا السؤال - بعد الاطلاع على النص الأصلي وترجمته بدقة، تترتب نتائج مهمة على صعيد التعريف والتحديد الماهوي.

النفي الأيديولوجي للحضور العربي

إن مملكة الرُّها لا تختلف من حيث الهوية الحضارية كثيراً عن مملكة الحضر، على الرغم من احتمال غلبة الطابع الآرامي على الأولى، والعربي على الثانية، فأسماء ملوك الرها "الأباجرة؛ جمع أبجر" والتسميات الأجنبية التي أطلقت عليها تؤكد أنها على الأرجح كشقيقتها الحضر مزيج سكاني وثقافي من العرب والآراميين. وعلى هذا، فإنَّ الخلاف حول هويتها وهل هي عربية أم آرامية "سريانية" فقط ولا علاقة لها بالعرب، هو خلافٌ نافل ولا يخلو من شحنة أيديولوجية وعاطفية معاصرة ولكنها لا علمية. أما إضافة الفرس الآريين كمكون ثالث لسكان الحضر كما يفعل بيرتولينو (R. Bertolino)، فهو أمر لا يمكن القبول به بحثياً، فالفرس دخلوا المنطقة عدة مرات كجيوش غازية، شأنهم شأن الإغريق والرومان، لأراضي ممالك شعوب أخرى مختلفة عنهم لغة وانتماء عرقياً، ثم رحلوا عنها برحيل جيوشهم ولم يبق منهم سوى حالات فردية اندمجت في الموجود المجتمعي السائد.

نجد مثالاً على هذه النظرة الأيديولوجية القومية الباترة لدى هنري بدروس كيفا الذي يصف نفسه بالباحث الاختصاصي بتاريخ الأراميين، وهو من القائلين بأن مملكة عربايا تعني مملكة الرها لا الحضر، فهو ينفي أن تكون عبارة "ملكا دي عرب زَكّأ" الآرامية تعني "ملك العرب المظفّر" كما يقول منطوقها، بل تعني "ملك البادية المظفر" مع اعترافه بأن الرها بعيدة نسبيا عن الصحراء. وهو يعتقد أن "منطقة الحضر كانت تابعة جغرافيا لبيت عربايا التي يعتبرها الرها، وهذه الأخيرة لا تعني بلاد العرب تاريخياً وجغرافياً ولغوياً، كما يعتقد، بل تعني "البادية". بمعنى أن كيفا يحاول تحويل المعطى الإثني الصريح والمعبر عنه بكلمة "عرب" إلى آخر جغرافي محتمل وبعيد نسبيا عنها هو البادية أو الصحراء التي جاءوا منها وليس بسكانها.

 من الحجج التي يوردها كيفا أن القبائل العربية كانت تتنقل من الصحراء العربية الجنوبية إلى البادية السورية فعلاً، ولكنها لم تستقر في بيت نهرين وعاصمتها الرها في "بيت عربايا" ولهذا بقيت بيت عربايا آرامية! أما لماذا لم يستقر العرب في مملكة تحمل اسمهم – كما تزعم هذه القراءة - وظلوا يعيشون بمحاذاتها في الصحراء المجاورة لها، ولماذا نَسب الملك الحضري سنطروق المظفر نفسه الى العرب (أي البادية بقراءة كيفا) ولم ينسبها الى الآراميين أو إلى مملكته الحضر، وماذا عن سلسلة ملوك الرها (الأباجرة) وغالبية أسمائهم العربية؟  فهذا ما لم تفسره لنا هذه القراءة.

ويضيف كيفا حجة أخرى يصفها بالجغرافية فيقول "لقد أطلق علماء التاريخ والجغرافيا القدامى من اليونانيين تسمية " بلاد العرب "على المناطق الواقعة جنوب سوريا وشرقي نهر الأردن وليس على المناطق الواقعة قرب الرها أو نصيبين"، ما قد يعني أن بلاد العرب لا تشمل وادي الرافدين ولا منطقة أعالي الجزيرة الفراتية. وعبثا يحاول السيد كيفا إبعاد العرب عن مملكته الخاصة بكل الوسائل، فإذا ما علمنا أن هذه المنطقة التي نسميها بلاد الشام وسهول بلاد الرافدين حتى منطقة الحضر وشمالها الرها هي منطقة مفتوحة لا عوائق طوبوغرافية فيها، تعزل أجزاءها عن بعضها، وهي مفتوحة تماما على شبه الجزيرة العربية، وهي أيضا صفيحة تكتونية واحدة تمتد من جبال طوروس شمالاً وحتى البحر العربي وساحل حضرموت جنوبا وتسمى الصفيحة التكتونية العربية (Arabian tectonic plate)؛ وإن الكيانات السياسية التي نشأت فيها منذ أقدم الأزمان كانت تتسع أحياناً لتشمل هذه المنطقة كلها بل وتعبر أحياناً صحراء سيناء نحو وادي النيل كما حدث في عهد الآشوري آسرحدون سنة 673 ق.م، وتضيق أحياناً أخرى في عهود انحطاطها وضعفها فتنكمش إلى حدود عواصمها الأولى؛ إذا ما علمنا كل هذه الحيثيات، أصبحت وجهة النظر النافية لعروبة مملكة الحضر متهافتة ولا معنى لها، وبالمثل لا يمكن القبول بالشطب على الوجود العربي الممتزِج والمتداخل مع الوجود الآرامي في مملكة الرها.

عوداً إلى ملوك مملكة الرها، فلا يمكننا الجزم في ما إذا كانت كلمة "أبجر وجمعها أباجرة" التي تَسمى بها أحد عشر ملكا من ملوكها هي اسم لسلالة عرقية أم اسم علم ملكي لجدهم أبجر الأول (68-92 ق. م)! فكلمة أبجر - بالجيم القاهرية غير المُعطشَّة- يمكن أن تكون آرامية مثلما يمكن أن تكون عربية فهي تعني بالآرامية "الأعرج" وبالعربية "البطين"، كما يخبرنا كاتب آخر هو جورج شمعون.

ويضيف شمعون معلومة أخرى مفادها أن هناك مزاعم أرمنية بأن "مؤسس مملكة الرها هو أبكار وهو مرادف لأسم "ابجر". وينقل عن مؤرخ أرمني هو موس الخوريني قوله: إنَّ أرشام بن أرتاشيس من آل الملك ديكران الكبير جلس على عرش المملكة عام 33 ق. م. وحكم الرّها مدة ثلاثين عاماً. ولكن مؤرخاً، يسميه "روبانس"، نفى هذه المزاعم ووصفها "بأنها حكاية مزورة لفقوها ترويجاً لبضاعتهم"! 

باختصار، يمكن الاتفاق مع جورج شمعون على أنَّ هوية مملكة الرها هي مملكة آرامية لغةً، بدليل أن غالبية الآثار والكتابات التي عثر عليها فيها كانت باللغة الآرامية السائدة. وسيادة اللغة لا يمكن اعتبارها دليلاً حاسماً على السيادة العرقية لأهل اللغة فالآرامية كما قلنا كانت لغة الدولتين الفارسيتين "الأخمينية والبارثية"، أما أسماء الملوك فهي مزيج بين العربية والآرامية (بينهم ملوك بأسماء عربية بحتة كعبدو وبكرو ومعنو وأبجر، وأخرى آرامية كأريو وسومقا)، وهذا ما يجعلنا نميل إلى مقولة الهوية الثنائية الآرامية العربية للملكة، مثلما كانت حال النسيج السكاني كله لمنطقة الجزيرة الفراتية في شمالي بلاد الرافدين. لقد كان هذا الإقليم على الدوام منطقة وسيطة بين دولتي فارس والرومان المتصارعتين في حروب دامية وطويلة، فدفعت ثمن باهظا لهذا الصراع الطويل بينهما واستهدفها الطرفان بالاضطهاد والحروب المستمرة، مع غلبة نسبية ومتصاعدة للحضور العربي كلما توجهنا نحو جنوب الجزيرة الفراتية وللحضور الآرامي كلما توجهنا نحو شمالها.

نعلم أيضاً أن "الملك أبجر الخامس (أبْگر حَميشويو) قد عاصر يسوع المسيح وراسله، ومن ثم اعتنق المسيحية على يد "مار أدي" أحد التلاميذ الاثنين والسبعين وفقاً للتقليد الكنسي وفي سياق معجزة دينية مشهورة شعبيا، تحسب ضمن باب المرويات ذات النكهة الأسطورية الشعبية الكثيرة، والتي لا يمكن البت بصحتها منهجيا. ولكن الثابت هو أن مملكة الرها أصبحت أول دولة مسيحية في التاريخ في عهد الملك أبجر التاسع في القرن الثاني الميلادي كما يرى بعض الباحثين، سابقةً تنصر الإمبراطورية الرومانية بقرن تقريبا.

يُفهم من الإحداثيات الكرونولوجية المسجلة أن المملكتين - الرُّها والحضر - قد تزامنتا لفترة قصيرة، ثم زالتا من الوجود بفرق زمني قد لا يتجاوز العام الواحد. وهناك معلومات تأريخية أخرى تؤكد أن المملكتين تحالفتا في فترة تاريخية معينة مع إمارة حيداب ومركزها أربيل وحاكمها المتهوِّد إيزاط الأول سنة 194م، لمواجهة الهيمنة الرومانية وانتهت تلك المواجهة بهزيمة الحلفاء وتحويل مملكة الرها شبه المستقلة إلى ولاية رومانية تابعة.

إن القول بالكيانية الجغرافية المتحولة إلى أخرى حضارية تأريخية ثنائية أو مختلطة السكان عرقيا، لا يعني - إذا كان الحديث هنا عن العرب والآراميين في مناطق الجزيرة الفراتية - أي تأكيد أو تأييد لما يزعمه بعض المعاصرين لوجود سكاني أو ثقافي آشوري وكلداني، فالآشوريون والكلدان كيانات حضارية وسياسية انتهت بانتهاء دولها الإمبراطورية البائدة، وذابت كشعوب في شعوب وأمم أخرى طالعة، ولا يمكن من الناحية العلمية جعل الآراميين السريان امتدادا عرقيا للآشوريين أو الكلدانيين القدماء أو العكس في عصرنا، ولأسباب سياسية وأيديولوجية، وهذا موضوع يستحق مقاربة منهجية علمية مفصلة أخرى مستقبلا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

الغرض من هذه الكتابة هو استدراك ما فات تبيانه في مقال الأسبوع الماضي. وعلّته أن زملاء أعزاء وجدوا فكرة المقال غير مقنعة، كما شكك آخرون في أهمية هذا النوع من «السوالف العتيقة» كما قالوا.

والحق أن قصة الطبيعة البشرية، أي سؤال: هل الإنسان صالح بالطبع أم فاسد بالطبع، عتيقة جداً. فقد وردت في كتابات أفلاطون الذي عاش قبل 2300 عام. وظهرت في كتابات فقهاء وفلاسفة مسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي. ثم تكررت في نقاشات الفلاسفة وعلماء السياسة في القرون الوسطى. لكنها لم تخسر أهميتها في العصور الحديثة. بل أن غاري ماديسون رأى أن أي نظرية في الفلسفة السياسية، هي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، نظرية حول طبيعة الإنسان ذاته. وقد ذكرت في دراسة سابقة، أنني أميل لرؤية فيها تعديل على رأي البروفسور ماديسون، وخلاصتها أن أي نظرية في علم السياسة أو في الفقه أو القانون، يجب أن تقام على موقف مسبق من طبيعة الإنسان. بمعنى أن على المشرّع أن يقرر الأساس الذي يبني عليه: هل يتوجه بتشريعه لبشر طبيعتهم صالحة خيرة، أم العكس؟

بيان ذلك: حين يفكر المشرّع في مواد القانون الذي يريد وضعه، يضع نصب عينيه الغاية التي يستهدفها هذا القانون. فالمشرّع الذي يحمل رؤية متفائلة إزاء طبيعة البشر، سوف يصدر قانوناً ليناً، يستهدف في المقام الأول تمكين الناس من تحصيل حقوقهم، وحيازتها بيسر وسلام.

وسيحدث العكس حين يحمل المشرّع أو الفقيه رؤية متشائمة، أي حين يكون معتقداً بأن الناس أميل للفساد، فهو حينئذ سيجعل غاية القانون وغرضه الأساس، تضييق الثغرات التي ربما يستغلها الفاسدون والعابثون. وبالتالي سيأتي خشناً معقداً، لا يمكّن الناس من حقوقهم إلا بعد ألف تحقيق وتحقيق.

بعبارة أخرى، فإن النوع الأول يفترض أن الناس طيبون، وأنهم حين يدّعون حقاً، فهم في الغالب صادقون، وأن دور القانون هو مساعدتهم. أما الثاني فيفترض أن الناس فاسدون، وحين يدّعون حقاً فإنهم في الغالب يسعون للاستحواذ على حقوق غيرهم، أو أن الجشع يحملهم على أخذ ما يزيد على حقهم. ولذا؛ تجب الحيلولة دون وصولهم إلى الحق المزعوم قبل التحقيق والتدقيق.

أعلم أن كثيراً من الناس يميل إلى الرأي الثاني. وقد قرأت عشرات الأمثلة التي ضربها قراء وزملاء لتأكيد هذا الرأي. أما أنا فأميل للرأي الأول، ولدي دليل واحد فحسب، وهو موقفك أنت عزيزي القارئ. أدعوك للتوقف لحظة وسؤال نفسك سؤالين، وأنت تعرف جوابهما، وفي هذين الجوابين يكمن الدليل على ما زعمته.

السؤال الأول: لو عقدت مقارنة افتراضية، بين عدد الفاسدين الذين تعرفهم وعدد الصالحين الذين تعرفهم. هل ترى أن عدد الفاسدين سيكون أكبر أم العكس؟

السؤال الآخر: ألقِ نظرة على تاريخ البشرية خلال ألف عام، هل تراها تقدمت أم تأخرت... على صعيد القانون والتكنولوجيا وتوافر الغذاء والدواء ورعاية الأطفال وكبار السن والتواصل وانتشار العلم والمعرفة... إلخ. هل يمكن للفاسدين أن يصنعوا هذه التحولات العظيمة. إذا كان الجواب نعم، فينبغي أن تكون السجون مصدر العلم والاختراع، وليس الجامعات ومراكز البحث والمصانع والمختبرات. فهل هذا ما حدث فعلاً؟

بعد هذا دعنا نتحدث انطلاقاً من مصلحتنا كأشخاص عاديين: ما هو الأصلح لي ولك وما الذي نريده لأنفسنا: أن يعاملنا القانون كأشخاص صالحين يريدون العيش بسلام، أم كأشخاص فاسدين يبحثون عن ثغرة كي يفسدوا عالمهم؟.

هل أمثّل أنا وأنت وعشرات الأشخاص الذين نعرفهم، نماذج عن ملايين الناس الذين يعيشون على هذا الكوكب، أم أن الله اصطفاك وبضعة ممن تعرفهم، دون بقية خلقه؟.

***

د. توفيق السيف - كاتب وباحث سعودي

تعتمد هذه المقاربة التأريخية التحليلية مفهوم "الهوية الحضارية/ الثقافية" بمحتواه الإناسي "الانثروبولوجي" للدول والمجتمعات موضوع البحث، في تعارض جوهري مع مفهوم "الهوية القومية" بمحتواه العرقي "الإثنولوجي". وعلى هذا المفهوم "الحضاري /الثقافي" ينبني تعريفنا لهويات مجتمعات ودول سادت ثم بادت في شمال العالم العربي الآسيوي، وتحديدا في منطقة الجزيرة الفراتية الممتدة من جنوب جبال طوروس شمالا ونزولا حتى خط الفلوجة تكريت شمال بغداد. ومع هذا التعريف سنعالج موضوعتنا القائلة إنها دول ومجتمعات تعددية، متنوعة (وثنائية التكوين أحياناً) من حيث النسيج السكاني والهيمنة الهوياتية الفعلية - التي قد تخف أو تكثُف تبعاً لتبعات العامل الجغرافي / البيئي - على الدولة والمجتمع المعني وفي إطار تحول الكيانية الجغرافية إلى أخرى سياسية وحضارية وبالعكس.

بين الإناسية والعرقية

معنى ذلك، إننا لا نأخذ مقولة الهوية الحضارية بماهيتها العرقية التي سادت وشاعت في العصر الحديث، وتحديدا خلال القرنين الماضيين، تحت تأثير الفلسفات والنظريات الغربية وبخاصة الألمانية، ففي الشرق القديم وحتى الوسيط، تنعدم حالات الصفاء العرقي أو "النقاء الرِّسي" في تلك الممالك البائدة. وعلى الأرجح، فلم تكن هذه الحالات والنَّزَعات تهم الشعوب القديمة ودولها كثيرا في غابر الأزمان على الرغم من الحروب والصراعات المديدة بين شعوب وأمم تلك العهود حول الأراضي الخصبة الغنية بالماء والغذاء أكثر منها حول الأصول والأعراق، بل سجلنا عدة حالات تخلت فيها بعض الشعوب غير الجزيرية السامية كالحيثيين والميتانيين عن لغاتها القومية ودياناتها، واتخذت الأكدية أو الآرامية والآلهة الرافدانية لغة وآلهة لها،  طوعا أو تماشيا مع موجبات الاندماج المجتمعي والحضاري الدائب واتخذت، الآرامية أو غيرها لغة لها، واندمجت في الأمة السائدة أو الأكثر إنجازات حضارية؛ وقبلهم سجل التاريخ حلول الأكديين محل السومريين - هذا إذا تأكد وجود الأخيرين المشكوك به كشعب - وجاء الأموريون من البادية بين العراق وبلاد الشام - ليسودوا في جنوب الرافدين ويقيموا دولة سلالة بابل الأولى (بين 1894 و 1531 ق م)،وينبغ منهم الملك حمورابي ثم ذابوا وانقرضوا في شعوب الوادي العراقي القديم. لقد أمست الهوية العنصرية العرقية ومشمولاتها من نقاء الدم وصفاء العنصر شيئاً من الماضي في سهول الشرق المفتوحة بفعل سلسلة الهجرات وعمليات التهجير والسبي الجماعي والغزوات والحروب وكوارث الجفاف والفيضانات الطوفانية وحالات الاندماج التي حدثت ومزجت الوجود السكاني المشرقي مزجا شديدا طوال آلاف السنوات، ولكن هذا النقاء أو الصفاء الرِّسي ظلَّ عزيزا على قلوب القوميين المعاصرين وهو يستيقظ لأسباب كثيرة أغلبها مفتعل وذو نكهة سياسية أيديولوجية أو أنه يأتي كرد فعل دفاعي على الغزو الاستعماري الأوروبي الغربي الدموي الاستئصالي طوال القرون الثلاث الماضية وما يزال مستمرا في عصرنا بأشكال ناعمة وأخرى شرسة. 

إن القوميين المتشددين المعاصرين من أبناء الأقليات القومية كالذين ينسبون أنفسهم إلى الهويتين الآشورية والكلدانية، والذين ينفون أي مظهر حضاري له علاقة بالعرب في هذه الممالك والإمارات البائدة يمكن اعتبارهم الضد النوعي العاطفي شكلا للقوميين العروبيين الذين يعتبرون كل الشعوب الجزيرية "السامية" بدءاً من الأكديين ومروراً بالآشوريين والكلدانيين وانتهاء بالآراميين عربا لا يجوز التشكيك بعروبتهم، بل أنهم أحيانا لا يستثنون من حملاتهم التعريبية حتى الأقوام والشعوب غير الجزيرية "السامية" كالكرد والأمازيغ وغيرهم. غير أن هاتين الرؤيتين "القوميتين"، المتخاصمتين مظهراً تنطويان على جوهر واحد نواته النزعة الأيديولوجية النفسية الشاطبة على التنوع والتعدد السلالي الجزيري، والساعية إلى تسييد لونها ونمطها القومي الخاص دون سواه، وهذا منطق يمكن وصفه من دون تردد بأنه لا تأريخي ولا علاقة له بالعلم وشؤونه.

إن َّهذه النظرة الواقعية إلى مفهوم الهوية الحضارية المركبة، ليست ابتكارا جديدا، بل يمكن أن نجد جذروها الحقيقية في ما عبر عنه عدد من الباحثين المعاصرين، منهم مثلا العلامة العراقي طه باقر في كتابة "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج1- الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين"، حيث كتب في هذا الصدد: "إن ما سنذكره عن الأقوام التي استوطنت وادي الرافدين وأسهمت بالأدوار الرئيسة في بناء حضارته سيقتصر بالدرجة الأولى على الجوانب اللغوية وليس بما يطلق عليه الجنس أو "الرِّس" (RACE) - ص 73". ومعلوم أن المعطى اللغوي ينتمي إلى الفضاء الثقافي الحضاري الأوسع وينأى عن المعطى العرقي السلالي الضيق.

ولكننا سنحاول تطوير وتنمية هذا المفهوم، لنعطيه مضموناً مادياً تاريخياً أكثر سعة وعمقاً، عَبْرَ ربطه بسياقه التاريخي الواقعي الموثق بما توفر من أدلة حاسمة سواء كانت آثارية وإناسية وتأريخية في محاولة للخروج من الإطار الضيق لمفهوم الهوية الحضارية وتوسيعه إلى الحد الذي يسمح لنا بتتبع التدرجات في تلك الهيمنة وفي محتوى الهوية وتحولها الى هوية تعددية بما يؤكد حقيقة التدامج والامتزاج بين مكونات منطقة الجزيرة الفراتية موضوع البحث.

لنبدأ بالأسماء العَلَمية، ولنلقِ نظرة فاحصة على الاعتقاد القائل بأن "بيت نهرين" وترجمتها اليونانية والرومانية "ميزوبوتاميا" قد أطلق على مملكة الرُّها دون غيرها، وإنه لم يعنِ يوما بلاد الرافدين "العراق القديم". ومع إننا كنا قد فصلنا في هذا الموضوع في مناسبة سابقة (الأخبار 1 تموز 2022)، ولكن لا بأس من التذكير بخلاصته التي تهم بحثنا هذا بعد تنقيحها: إن عبارة "آرام نهرايم"، كما يرى طه باقر (م.س - ص24)، هي عبارة آرامية، وردت في التوراة وتعني أرض النهرين. وأقدم منها، وجدت عبارة أكدية بابلية بذات المعنى هي "مات بريتيم" وترجمتها الحرفية هي "أرض الما بين"، وأصبحت لاحقاً تعني الجزء الشمالي من بلاد ما بين النهرين الممتدة - كما أسلفنا- بين جبال طوروس وحتى الخط الممتد بين الفلوجة وتكريت شمال بغداد والتي تسمى غالبا منطقة الجزيرة. وهناك أيضاً مصطلح "بيت نارم" (ما بين النهرين)، ومصطلح "نهارينا" الذي أطلق على المملكة الميتانية التي بلغت أوج قوتها حوالي سنة 1350 قبل الميلاد، في منطقة الجزيرة ذاتها كما ورد في رسائل تل العمارنة.

وبعد ترجمة التوراة إلى اليونانية في ما سمي الترجمة السبعينية، أخذ الإغريق عبارة "ما بين النهرين" وترجموها الى لغتهم فكانت "ميزوبوتاميا"، وبعد الإغريق جاء الاحتلال الروماني للمنطقة فأمست ميزوبوتاميا اسما لاثنتين من المقاطعات "المحافظات" التابعة للإمبراطورية الرومانية في بلاد الرافدين، إحداهما ظهرت لفترة قصيرة أثناء حكم الإمبراطور تراجان بين عاميّ 116 و 117 م، والأخرى أسّسها الإمبراطور سيفيروس حوالي العام 198 م، أما آسوريا (بلاد آشور) والتي اختزلت لاحقا إلى "سوريا" اختزال الكل الى الجزء، فقد أطلقها الرومان على ما سماها العرب بلاد الشام أو على شرقها تحديدا. وبعد ترجمة التوراة اليونانية السبعينية إلى اللغات الأوروبية الأخرى اتسع مدلول الكلمة (ميزوبوتاميا) كترجمة حرفية لما بين النهرين وتحول من معنى القسم الشمالي من بلاد ما بين النهرين ليعني البلاد كلها. وظل هذا الاسم بهذه الدلالة حتى عودة اسم العراق الحالي في عصر ما قبل الإسلام (عصر الاحتلال الفارسي الساساني)، واسم العراق تعود جذوره إلى العصر الآشوري وفي حوالي القرن الثامن قبل الميلاد بلفظ "آراكيا" كما كشف الباحث أولمستيد في كتابة "تاريخ آشوريا" ثم صار مرادفا له بصيغة بلاد الرافدين.

جدلية الكيانية الجغرافية والأخرى السياسية

إن الخلل في النظرة "التعقيمية/ الاستئصالية" الحاذفة للآخر إلى هوية وماهية الدويلات القديمة في المنطقة، إذا وضعنا جانباً الدافع النفسي والأيديولوجي الكاره للعرب والمحاوِل الشطب على اسمهم وحضورهم الحضاري قديماً وحديثاً بهدف تقديم هوية جديدة أو قديمة أعيد طلاؤها وفرضها قسراً على الماضي والحاضر، ينبع أساساً من عدم إدراك كُنْهِ العلاقة الجدلية بين الكيانية الجغرافية والأخرى الثقافية/ الحضارية في سياقهما التطوري، وتفاعل هاتين الكيانيتين، وتحول إحداهما إلى الأخرى بمرور الأزمان. فالبعض، ممن يجهل طبيعة هذه العلاقة، يشطب على الوجود العرقي لشعب ما، ويعتبر الاسم الموجود دالّاً على الكيانية الجغرافية فقط ودائما، وقد حدث هذا فعلا حتى مع الكنعانيين الذين قيل إنَّ اسمهم لا يدل على شعب بهذا الاسم بل على المنطقة "المنخفضة" التي عاشوا فيها، وحدث مع الآراميين أنفسهم حيث أنكر بعض الكُتاب وجود شعب بهذا الاسم في شمالي بلاد الرافدين واعتبره مشتقاً من "أور رمثا" أي الأرض المرتفعة، بل إنَّ هناك مَن أنكر وجود شعب باسم الآراميين واعتبر الكلام عنهم تلفيقاً من مؤرخين غربيين "متآمرين" لأغراض سياسية (فاضل الربيعي مثلا، في مقالته "خرافة الشعب الآرامي وتخريب تاريخ فلسطين القديم/ موقع الجزيرة 19 كانون الأول 2017")، وهذا كلام يُلقى على عواهنه ولا يصح منهجياً كما سنرى.

إن الدليل على وجود هذا الخلل في معالجة موضوع الكيانيات الجغرافية والأخرى الحضارية نجده مثلا في عرض تحولات اسم "بيت نهرين" الذي يقدمه هنري كيفا نفسه في مقالة له. فالملفت أن كيفا يؤكد في إحدى الفقرات التي يقدمها لتحولات اسم بيت نهرين، وربما دون أن يعلم، بقِدَمِ اسم بيت نهرين وكونه يسبق قيام مملكة الرها بعدة قرون. تقول الفقرة: "وقد عُثر على لوحات فخارية تذكر أسماء بعض العبيد الذين قدموا إلى بابل من مدن، تقع في بلاد (مات بيريتم)، وفي كتابة أخرى (مات ناريم). ويضيف؛ "وقد أثبت العالِم جاكوب جي فنكلشتاين في بحثه أن هاتين التسميتين هما التسميتان الآكاديتان اللتان أطلقتا على بيث نهرين قديماً / مقالة بعنوان - بيت نهرين؛ تسميتها موقعها وحدودها/ موقع الآرامي الديموقراطي".

ومعلوم أن الدولة الأكدية يعود تاريخ تأسيها على يد سرجون الأكدي (حكم من 2334 حتى 2284 ق.م) الى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، أما مملكة الرها فتأسست بعدها بواحد وعشرين قرنا، وبالضبط في 132 ق.م، وزالت من الوجود بعد 180 عاما؛ فهل يعقل أن يطلق الأكديون اسم بيت نهرين على مملكة ستنشأ بعد أكثر من ألفي عام، أم أن المنطق العلمي يقول إنَّ الآراميين ورثوا هذا الاسم الأكدي للمنطقة (للكيانية الجغرافية) التي هاجروا إليها والتي تقع فعلا بين نهرين مثلها مثل بلاد الرافدين الأكبر والأقدم، مثلما ورثوا أسماء الأنهار والروافد وهي أسماء أكدية مثل الفرات وبليخ والخابور؟

هوية مملكتي الحضر والرُّها

 يخلط بعض الباحثين المعاصرين - للأمانة العلمية، فقد وقع كاتب هذه السطور في هذا الخلط حين أورده مقتبساً عن بعض المصادر دون تحفظ أو تفحص نقدي (الأخبار - عدد 27 نيسان 2022)، يخلطون بين مملكتين قديمتين نشأتا في شمال بلاد الرافدين (الجزيرة الفراتية)، ويطلقون على كل منهما مملكة "عربايا"،  وتعني وفق التفسير الأشيع "العربية"، وهما مملكة الرُّها / أورهاي / أسروينا / أدمة (عمَّرت بين 132 ق م، و214)، وتقع اليوم داخل حدود تركيا المعاصرة، ويسمونها باللغة التركية "أورفا"، ومملكة الحَضَر جنوب الموصل في العراق (عمَّرت أقل من قرن بين 185م و241م). فهل نحن إزاء مملكة واحدة أم مملكتين مختلفتين، أم أن هذا الاسم يشمل هذه المنطقة ككيانية جغرافية واحدة نشأت فيها هاتان المملكتان اللتان يصفهما بعض الباحثين بالعربيتين، فيما يصفهما البعض الآخر بالآراميتين والسريانيتين وينفي أي علاقة لهما بالعرب؛ فما هويتهما وموقعهما الجيوسياسي بين الدول العربية وغير العربية القديمة شمال الجزيرة العربية في ذلك العصر كدول الغساسنة والمناذرة وكندة وتدمر وسلع "البتراء"؟

وردت كلمتا عربي وعربايا بملفوظات مختلفة في الكتابات المسمارية الرافدانية، فكلمة عربي، كما يخبرنا عبد الحق فاضل في كتابه "مغامرات لغوية ص 17"، ترد بالملفوظات التالية: عَرَبي – عَرْبي – عُرْبي – عرِبي -  عَرُبي. ونضيف أنها وردت أيضا بلفظ "آريبي /آريبو" في اللغات التي ينعدم فيها حرف العين. أما الصفة، التي ربما تطورت إلى اسم علم للمنطقة فوردت بلفظتين: عَرَبيا – عرابايو. كما وردت في اللغة الآشورية بلفظة آريبو كصفة لقائد حربي هو "جنديبو آريبو/ جندب العربي" الذي شارك بجيشه من الهجانة على الجمال في معركة قرقرة سنة 853 ق.م، ضمن تحالف من أثني عشر ملكا لدولات المدن بقيادة الملك الآرامي بن حدد الثاني ملك دمشق، ضد جيش الإمبراطورية الآشورية بقيادة الإمبراطور شلمنصر الثالث. وما يهمنا هما لفظتا عربايا وعرابايو واللتان تدلان على مسمى أو موصوف واحد، وقد يكون هو نفسه، أو شبيها بالذي أطلِقَ على شبه الجزيرة العربية في عصر الفتوح الاستعمارية وربما قبله بكثير ودخل في القواميس الجغرافية والسياسية بلفظة "العربيا" (Arabie/ Arabia) وما يزال مستعملا حتى الآن.

 يمكن القول إنَّ المعطيات التاريخية والجغرافيا والآثارية تؤكد وجود مملكتين مستقلتين إحداهما عن الأخرى؛ الأولى والأقدم هي مملكة الرها "أورهاي"، فأول ملوكها هو أريو (132-127) ق.م، وآخرهم أبجر العاشر إبراهاط (يقرأه بعض الباحثين فرهاد) بن معنو242-240 م، وقد حكم بالاسم فقط تحت الهيمنة الرومانية، والثانية والتي نشأت بعد الميلاد هي مملكة الحضر وأول ملوكها ولجش (158- 165 م) وآخرهم الملك سنطروق الثاني بن عبد سميا/ والأدق؛ عبد سميسا، نسبة إلى الرايات المقدسة التي كانوا يسموها الـ "سميسا" التي كانت من معبوداتهم (200-241 م).

لا يقتصر الأمر على مملكة الرها في هذه المنطقة، بل ثمة العديد من الممالك والإمارات الأخرى الناطقة بالآرامية، يحصي منها طه باقر ست ممالك أو إمارات مدن هي: نهرايا "أرام نهرين"، فدان آرام ومركزها حران، آرام صوبة، آرام معكة في جبل الشيخ، آرام دمشق، دولة سمأل "الشمال" في إقليم زنجرلي، إضافة إلى هذه الممالك والإمارات ثمة أخرى أصغر مساحة وأقرب الى المشايخ والبيوتات منها: بيت أغوشي، بيت بحياني، بيت أديني وغيرها"/مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة. م.س - ص 543. أما الباحث الهولندي وأحد الأسماء اللامعة في حقل الدراسات الآرامية، البروفيسور هولْغَر غزيلا (Holger Gzella) فيذكر الإمارات الآرامية الأولى في الفرات الأوسط من دون أن يذكر بين نهرين بينها وهي تيمانا، بيت بحياني، بيت زماني، بيت عديني، والإمارات الشمالية بيت أغوشي، يأدي، والإمارات الوسطى والجنوبية حماة، دمشق، صوبا، رحوب، ومعكا- مقابلة معه / موقع ضفاف 18 كانون الأول 2017.  وقد فشلت هذه الممالك والإمارات في أن تتوحد في دولة قوية وتعرضت جميعها للسحق والتهجير من قبل الدولة الإمبراطورية الآشورية المجاورة لها وخصوصا في عهدي ثجيلات بلازر وشليمانصر ثم إلى الاحتلالات الفارسية فالإغريقية فالرومانية حتى جاء عهد الفتح والتحرير العربي الإسلامي.

ولكنَّ الآراميين رغم هذا الفشل سياحضاري، نجحوا - كما يسجل طه باقر وآخرون - في إنتاج تراث ثقافي ولغوي عريض فاق تراث جميع الأمم والشعوب السابقة لهم في المنطقة، حيث تحولت اللغة الآرامية إلى لغة دولية في شمال غربي آسيا، وأنجزوا الثورة الكتابية الثانية بعد أن أنجز الرافدانيون الجنوبيون الثورة الأولى بابتكارهم الكتابة المسمارية على الطين، أما الثانية فكانت الانتقال الى الكتابة الأبجدية على ورق البردي وجلود الحيوانات وقد أصبحت اللغة الآرامية هي لغة العلم والثقافة والدولة منذ الدولة الأكدية الحديثة " الكلدانية" واستمرت خلال فترة الاحتلال الفارسي لبلاد الرافدين والشام وبلوغه وادي النيل.

أما نسبة ابتكار الكتابة على الجلود وورق البردي إلى الدولة الفارسية في زمن داريوس الأول، كما ذكرنا سهوا ذات مقالة، فليس صحيحا، بل إن هذه الدولة استعملت الإنجاز الآرامي الموجود قبلها، وحدث ذلك بموجب قرار الملك الفارسي باتخاذ الآرامية لغة رسمية للدولة/آرامية العهد القديم. ص24 - د. يوسف متي قوزي. وفي عهد داريوس كان اليهوذاويون المسبيون في بابل، قد تخلوا عن أبجديتهم القديمة وكتبوا أجزاء من التوراة وخاصة سفر عزرا وأجزاء من سفر دانيال باللغة الآرامية وأبجديتها ذات المربعات. وماتزال هذه الطريقة في الكتابة قائمة حتى اليوم (ويسمونها في "إسرائيل" الحروف العبرية المطبعية وينكرون أنها آرامية).

وفي السياق، فمن المؤسف حقا أن يخضع بعض العرب والآراميين المعاصرين للابتزاز الصهيوني فيتخلون عن استعمال هذه الأبجدية الآرامية المربعة وعن اسمها - كما حدث في المعهد العالي لتعليم اللغة الآرامية في بلدة معلولة بسوريا قبل سنوات قليلة. لقد تراجع المعهد السوري المذكور عن اعتماد الأبجدية الآرامية المربعة لأن الصهاينة في الكيان - كما قيل في التبرير- استولوا عليها ونسبوها لأنفسهم، وكان الأجدر بالقائمين على المشروع أن يتمسكوا بأبجدية أجدادهم ويفضحوا لصوص الحضارات الصهاينة المعاصرين لا أن يتحولوا عنها إلى أبجدية إحدى لهجاتها وهي الأبجدية التدمرية الأحدث عهداً، فهذا أمر لا يمكن وصفه إلا بالخضوع للابتزاز الصهيوني واستسلام مجاني له.

إن كتابات اليهوذاويين المسبيين في بابل القديمة، والتي يسميها د. متي قوزي "العبرية" لم تكن "عبرية" إلا على سبيل التشبيه والمجاز؛ فالتوراة نفسها كانت تسمي اللغة تكلم بها بنو إسرائيل في فلسطين "شفة كنعان" أي اللغة الكنعانية، أما ما يسمى باللغة العبرية (لاشون عبريت = اللسان العبري)، كما تكتب الباحثة الجزائرية هاجر شيخي في دراستها الموسومة "الكنعانيون وتأثيرهم على اليهود /ص 41"، فلم تظهر كمصطلح إلى الوجود إلا مع البدء بتدوين المشناة "المثنى" كتفاسير توراتية في القرن الثالث الميلادي، وتخلُص شيخي إلى أن العبرية هي في الحقيقة لهجة من لهجات اللغة الآرامية، ورغم تسميتها اللغة العبرية فهي لم تكن لغة "جميع العبريين" بل لغة فرع منهم هو فرع بني إسرائيل (أبناء يعقوب).

والملفت أن الباحثة شيخي، وبعد كل ما أوردته من معلومات دقيقة عن اللغة والكتابة الكنعانيتين، تعود لتستعمل عبارة "الخط العبري" و "الكتابة العبرية" و "القلم العبري" على الصفحة ذاتها، ومن دون أن توضح إن كان الأمر يتعلق بلهجة عبرية اتخذت الكتابة الكنعانية قلما لها أم لا! ولكنها، ولحسن الحظ، تعود في خاتمة بحثها لتسجل الحقيقة الآتية: "تفرعت اللغة العبرية من الفروع السامية القديمة ومنها الأوغاريتية وسائر اللغات الآرامية القديمة وتدوين التوراة باللغة الآرامية، إذ إنهم لم يستعملوا غير لغة الكنعانيين في مراحلهم التاريخية، والتي صاغتها التوراة فيما بعد إلى ما سمي بلغته العبرية مستمداً حروفه من الحروف الأبجدية الآرامية المربعة - ص 43". أما آثارياً، فالأمر أكثر وضوحا؛ إذْ أن جميع الأدلة التي عثر عليها العلماء "الإسرائيليون" وغير الإسرائيليين في عصرنا، وهي شحيحة ونادرة أصلا، تؤكد أن حروف ما سمي باللغة العبرية القديمة لم تكن تختلف في شيء عن الأبجدية والحروف الكنعانية الأم، شأنها شأن لهجات كنعانية عديدة أخرى كالفينيقية والعمونية والمؤابية والأدومية.

وقبل أن ننتقل إلى الفقرة التالية لنتذكر أن بيت نهرين أو نهاريا قد ورد اسمها كواحدة من الممالك الآرامية في الشمال وهي ليست أعظمها قدرا وقيادة فالقيادة كانت منوطة تأريخياً بمملكة آرام دمشق وملكها الشجاع بر هدد "بن حدد" الذي قاد حرب التصدي للغزو الآشوري.

أما من ناحية الهوية الحضارية "الثقافية" للمملكتين -الرها والحضر- فالراجح أن مملكة الرها كانت ثنائية القومية مع غلبة للآراميين أما الحضر فكانت ذات غالبية عربية ولغتها المكتوبة هي الآرامية التي حلَّت بأبجديتها الصوتية السهلة محل الكتابة المسمارية المقطعية الرافدانية المعقدة وصارت سائدة في الشرق الجزيري "السامي" آنذاك وحتى في دول فارس، أو هي هوية عمادها مزيج حضاري من العربية والآرامية. وسوف نركز كلامنا في هذا الجزء القادم من هذا المبحث على هاتين المملكتين مؤجلين الحديث حول ممالك أخرى جنوباً كتدمر وسلع والغساسنة والمناذرة وغيرها.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

في خضم الصراعات والنزاعات الكبرى التي تعاني منها البشرية اليوم. وفي ظل الحروب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنتاب العديد من مناطق العالم البشري. من الضروري أن نتساءل: كيف لنا في هذا الجو المحموم، أن نبدع ثقافة حوارية، تساهم في تطورنا الروحي والإنساني والحضاري. كيف لنا أن نطور ثقافة البناء والإصلاح في عالم يمور بالنزاعات والحروب.

ونحن حينما نتساءل هذه الأسئلة المحورية، لا نجنح إلى الخيال والتمني، ولا نتجاوز المعطيات الواقعية، وإنما نرى أن الخروج من نفق الحروب والنزاعات ومتوالياتهما النفسية والاجتماعية، لا يتم إلا بتوطيد أركان ثقافة الإصلاح والحوار والتوازن. ولا بد من إدراك أن هذه الثقافة، ليست حلاً سحرياً للمشكلات والأزمات، وإنما هي الخطوة الأولى لعلاج المشكلات بشكل صحيح وسليم.

فالعنف المستشري في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن مقابلته بالعنف، لأن هذا يدخل الجميع في أتون العنف ومتوالياته الخطيرة. ولكن نقابله بالمزيد من الحوار والإصلاح في أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم بشكل أو بآخر في تغذية قوافل العنف والقتل والتطرف بالمزيد من الأفكار والتبريرات والمسوغات.

فالاختناقات المجتمعية، تؤدي لا شك إلى بروز حالات من العنف ومظاهر الانحراف والجريمة. وعلاج هذه المظاهر، لا يتم إلا بعلاج البيئة التي أخصبت هذه المظاهر، وهي بيئة مغلقة، تصادمية، تشاؤمية، ذات نسق تعصبي.

فالتعصب يؤدي إلى العنف، والتزمت يفضي إلى الانغلاق والانطواء والانحباس. ولا علاج إلى العنف إلا بتفكيك نظام وثقافة التعصب، ولا علاج إلى التزمت إلا بالمزيد من الحوار، ونبذ الأحكام المطلقة، وتأسيس قواعد موضوعية للتعارف الفكري والمعرفي.

وثمة مفكرون، حاولوا أن يقدموا إجاباتهم ومشروعاتهم الفكرية والثقافية حول هذه الأزمات والإشكاليات..

ومن هؤلاء الصديق الدكتور عبد الجبار الرفاعي، الذي عمل عبر عطاءاته الفكرية المتعددة وجهوده الإصلاحية المتنوعة، على تقديم رؤيته لمعالجة هذا الواقع المريض بأمراض الاستبداد والتعصب والعنف..

وحين التأمل والتعمق في مؤلفات الأستاذ الرفاعي وأبحاثه المتعددة، نجد أن الأستاذ الرفاعي مهموم بهمي أساسيين وهما: هم الإسلام وهم الإنسان.. بحيث يرى أن الإسلام بالمعنى المعياري هو عبارة عن طاقة روحية وفكرية هائلة، ولكن هذه الطاقة لم تمارس فعلها الحضاري في بيئتنا العربية والإسلامية، من جراء مناهج النظر والتفكير ومتواليات ظاهرة الاستبداد التي سادت المنطقة العربية والإسلامية خلال عقود مديدة، مما أفضى إلى تشوهات فكرية وثقافية ومجتمعية، أدت إلى جمود مجتمعاتنا وغيابها عن المبادرة والفعالية الحضارية.. لذلك يعمل الاستاذ الرفاعي في أبحاثه ودراساته على تأهيل فكرة التجديد والتنوير، ويلح على تجاوز المتواليات النفسية والاجتماعية والفكرية لظاهرة التخلف الحضاري، حتى يتسنى لمجتمعاتنا العربية والإسلامية الانطلاق في مشروع النهضة والتقدم.. وحتى تستند هذه المجتمعات في مشوارها الحضاري على طاقة الإسلام التحررية والتنويرية في آن. ويوضح الدكتور الرفاعي هذه المسألة بقوله (أراد القرآن للتوحيد أن يكون صبغة لسائر مرافق حياة الإنسان (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) (سورة البقرة، الآية 138)، بمعنى أن تفكير الإنسان وفعالياته وسلوكه اليومي يجب أن يصطبغ ويتلون بالتوحيد، حتى تصير كل قضية علمية أو عملية، هي التوحيد قد تلبس بلباسه وتظهر في زيها، وتنزل في منزلها  فبالتحليل ترجع كل مسألة وقضية إلى التوحيد، وبالتركيب يصيران شيئا واحدا، لا مجال للتجزئة ولا للتفريق بينهما.. لقد كانت العقيدة التي يستوحيها المسلم من القرآن طاقة تنتج الإيمان، وتوجه السلوك، لأنها تجعل الإيمان معطى عمليا فاعلا، مفعما بالحيوية، عبر دمج النظر بالعمل، وعدم الفصل بين الإيمان كحالة وجدانية والسلوك الإنساني، الذي يتجلى من خلاله المحتوى الاجتماعي للتوحيد.. غير أن علم الكلام الذي تمت صياغته لاحقا بالاستناد إلى أدوات المنطق الأرسطي لم يقتصر على تعميق البعد النظري في العقيدة، بل تجاوزه إلى تفريغ التوحيد من مضمونه العملي، والتعامل مع المعتقدات كمفاهيم ذهنية مجردة لا صلة لها بالواقع ) (راجع كتاب مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، ص23).

وفي موضع آخر يقول الدكتور الرفاعي (ومع أن المسلم أصر على التمسك بالإيمان بالله و بوحدانيته، ولم يتخل عن إيمانه، غير إن هذا الإيمان فقد إشعاعه الاجتماعي، وتجرد من فاعليته، فلم يتجسد في نزوع للوحدة والمؤاخاة في حياة المجتمع المسلم، باعتبار أن عقيدة التوحيد توحد المجتمع، في التصورات، والغايات، والشعور، وأنماط السلوك.. وإنما تعرض المجتمع إلى انقسامات شتى، وأمسى جماعات وفرقا متعددة، أهدرت الكثير من قدرات الأمة في سجالات أفضت إلى مواقف عدائية، وأقحمت الأمة في حروب أهلية في بعض الفترات.. وهكذا يضمحل دور العقيدة، فلا تحول دون اقتتال الأمة الواحدة، ولا تكون منبعا للوحدة، حين تفرغ من محتواها الاجتماعي) (راجع المصدر السابق ونفس الصفحة)..

وفي هذا السياق يدعو الاستاذ الرفاعي إلى إحياء علم الكلام وتجديده، وتطوير الدرس الحوزوي، وتطوير الفهم الاجتماعي للإسلام، والاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة، وإعطاء أولوية للاجتهاد والإصلاح..

والهم الآخر الذي يبرز في كتابات ومؤلفات الاستاذ الرفاعي هو: هم الإنسان في وجوده ومصيره وحقوقه ومآلاته.. من هنا أعطى الاستاذ الرفاعي أولوية فكرية على هذا الصعيد لتفكيك ظاهرة التعصب والكراهية لأسباب دينية أو مذهبية أو قومية ووقف بجرأة ضد كل عمليات القتل والتدمير التي تجري باسم الإسلام وهو بريء منها كامل البراءة..

فالإسلام لا يشرع لأي أحد انتهاك حقوق الآخرين أو التعدي على حقوقهم المعنوية والمادية.. فالإسلام يدعو إلى صيانة حقوق الإنسان المختلف، ويحرم التعدي عليها مهما كانت المبررات والمسوغات..

فحياة الإنسان وكرامته مقدسة، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال انتهاك هذه الحقوق أو امتهان الكرامة المعنوية والمادية..

لهذا نجد لدى الدكتور الرفاعي اهتماما بمعالجة ظاهرة التعصب والإرهاب وتفكيك موجباتها الذاتية والموضوعية..

فالإنسان يجب أن يحترم ويحمى في وجوده وحقوقه وآراءه وأفكاره.. لهذا فإننا نعتبر مشروع الاستاذ الرفاعي الفكري يتجه إلى تطوير مناهج النظر والتفكير للإسلام للإفادة من طاقة الإسلام الروحية والحضارية..

***

أ. محمد محفوظ

(لا يكفي على المثقف أن يقرأ "أوراق بيكويك" أو أن يحفظ منولوجاً من "فاوست"، فإن ما يحتاجه المثقف هو العمل الدائم، ليل نهار، والقراءة المستمرة، والدراسة، والإرادة، فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة  له).. أنطوان تشيخوف

أن تكون مثقفاً إنسانياً يعني الدفاع عن مصالح الإنسان بكل بساطة، وهذا لا جدال حوله، دون صناعة الأحقاد ودعم ثقافات الكراهية والتسقيط والاضطهاد ضد الآخر. أن تكون مثقفاً إنسانياً عليك أن تلاحق "الخلل" في أبعاده الإنسانية، بعيدا عن اساليب صناعة الصراعات وبلا تقديس غير المقدس ودون التسرع في  الحكم على عناصر مجال الخلل.

 المثقف الإنساني، دون الاستغراق في  معاملات المصطلح وتداعياته، يسعى دائماً أن يعرض فكرته بشفافية وصدق وموضوعية وتواضع، يناقش أفكاره مع غيره مع تبنيه لها، يحاور بأخوة وصراحة ويلتزم السلمية والعدالة في تبليغ ما توصل إليه من رؤى وأفكار ومطارحات. هذا المثقف-الإنسان، يظل إنسانيا في كل حضوره الوجودي، وعيه إنسانيته يبعده عن كل ميادين التوحش بإسم الثقافة والدين والوطنية والحرية، او البغي بإسم الندية والسباب تحت عنوان المعاملة بالمثل والتهكم كمنهج الإعجاز والنفاق والانتهازية بحثا عن النجومية في حقول التأثير والتسيير لواقع الناس، قوة المثقف في سلميته وكرامته الانسانية التي يستمد منها عدالته وحريته في التفكير والنضال من أجل الحقيقة والحق كله..

لهذا مراوغات المثقف بكل أشكالها ليست شطارة أبداً، ولا صمته من فضة أيضاً. هذا التمويه الانحيازي هو تضليل للرأي العام..

لأن التمويه الثقافي حقل ألغام في الواقع والمستقبل، هو فضاء التلاعب بالعقول والمجتمعات، عموما التمويه هو سياسة المثقف الأيديولوجي والطائفي والنصاب في أروقة الثقافة ومؤسسات التعليم والإعلام ومجاميع الدين، إنه مثقف المصالح الضيقة، حيث يستقدم الاوراق التاريخية السوداء، ليصنع الفتن ويشوه الآخر ويستخدم كل وسائل  التزوير والتسقيط مقابل تأجيج الواقع عبر بث السموم بين الطوائف والإثنيات والاديان والشعوب والأحزاب والمدارس الفكرية والتيارات الثقافية. هذا النمط من المثقف هو في الواقع سمسار يدعي الاعتدال والموضوعية في خطاباته، اعتدال في صناعة الفوضى وموضوعية تخفي كل حقائق التاريخ الوحدوية وصور اللقاء ومواقف وأفكار التعايش، شغله الشاغل هو تضخيم الخلافات الفقهية والتاريخية وتغطية الإسلام الحضاري والوطنية الجامعة، هذا التلاعب الثقافي شكل عبر التاريخ العربي والإسلامي المعاصر أكبر المغالطات الفكرية والثقافية.

المثقف الذي ينحاز لكل صور الشر والباطل والخلاف والظلم في التاريخ والواقع، ليستعملها في تمرير مخططاته الاستدمارية لكل مفردات الوعي والتجديد والتغيير والإصلاح والتعايش والتعارف والتسامح، هو من حرم الشعوب العربية من وعي الحرية وثقافات الاختلاف والتعددية الفكرية عبر الترويج لثقافات احتكار الفكر والتاريخ والدين ..بعبارة  أدق "المثقف المتحيز سرطان النباهة وقاطع طريق النهوض أمام الشعوب "!

التخلف الاجتماعي هو نتاج تحيزات المثقفين في كل مجالات الإجتماع، في جل مؤسسات التعليم والإعلام والفن والاقتصاد والإدارة والإدارة والقانون والرياضة والدين، في كل مناشط الواقع، لذلك لا نستغرب وصولنا إلى ابتكار حيل شرعية (!!) ، ونلفق المتناقضات مع بعضها في تبرير الفساد، حتى صار قول الحق خيانة عظمى والشفافية والعدالة ترهات الحمقى.

في الوقت الذي يصبح المثقف يتلعثم في مواقفه ويلف ويدور في دهاليز التاريخ لخطف الأضواء عن الصدق والعدل والحق، اكيد الواقع الاجتماعي سيظل يئن من آلام التشويه والتسقيط والتفاهة والفساد الأخلاقي والإداري وما هنالك من معاملات الانحطاط والتخلف..

أحد أشكال تحيز المثقف هو تحوير معنى الفتنة. فتكون الفتنة كل ما لا يخدم مصالحه الضيقة، فالطائفية ليست فتنة، فقط لو لم تخدم تياره المقدس، والتحرش الجنسي والمثلية والشذوذ  وما هنالك من انحرافات جنسية واخلاقية لا تكون فتنة ما دامت تنطلق من مرجعيات  الدمقرطة والحداثة والليبرالية..

في الغالب هذا المثقف هو صانع الطاعة العمياء والفتن الكبرى والتخلف الذي أسسه في المؤسسات الاجتماعية والتربوية والسياسية والدينية، من العائلة مروراً بالتعليم والمسجد والإعلام وصولاً إلى التكوينات بشتى مشاربها اليسارية والليبرالية والدينية وغيرها..

المثقف الإنساني هو من ينتج "المفاهيم" النقدية المؤسسة على مرجعيات الواقع والمعتبرة من الماضي والمتطلعة للمستقبل.

هو مثقف الشعب بكل تنوعاته، يؤمن بأن "الثقافة هي  تنوير الواقع وتطويره من أجل كرامة الإنسان، هو ذاك المثقف الذي لا يسكت عن الظلم..

المثقف الإنساني مدافع عن إنسانية مجتمعه، هو المثقف الذي ضمنياً يقاوم التحيزات في ذاته وواقع مجتمعه..

وفي ذلك يظل المثقف هو الشخص القادر على تفكيك ورفع الغطاء عن فكر الخذلان والبهتان، هو القادر على إقناع الجمهور بأن ما التفكير معا والتعاون مع الاحترام والتعايش والتسامح هي كلها حلقات النهضة عينها.

المثقف الإنساني يولد ويكبر حكيما حكمة الكلمة الطيبة والعمل الصالح والوعي المتطور.. ليس ميكيافيليا، إنه ابن  المواقف الحرجة، إنسانيته كونه طليعي في مسرح فعل تقديم الخير للإنسان والوطن،  خير الحقوق وحرية الإنسان. همه هو الوطن والإنسان هذا المثقف الإنساني هو القادر على تحويل كل الأدوار الاجتماعية إلى ثقافة إصلاح وتجديد وشفافية وتسامح وتعاون وإبداع من أجل نهضة الوطن وكرامة الإنسان فيه..

***

ا. مراد غريبي

تضايق البعض من مكانته عند الحكام، وفُتن آخرون بطاقته الباهرة على الدفاع عن افكاره. مستشار الوزراء، صاحب الرسائل الحكيمة، المؤمن بأن الفيلسوف ليس هو الزاهد المنسحب في تأملاته، وإنما الذي يشترك في التغيير المعتاد للأراء، حتى يمكن للحقيقة ان تجد لها مكانا آمنا في المجتمع.يصفه صدبقه ابو حيان التوجيدي برغم الخلافات التي تنشب بينهم بين فترة واخرى بأنه: " لطيف اللفظ، رقيق الحواشي، سهبل المآخذ، مشهور المعاني كثير التواني، وبعد فهو ذكي،، حسنُ الشعر، تقي اللفظ، وله بهد ذلك مآخذ كشدوٍ من الفلسفة، وهو حائل العقل لشغفه في الكيمياء " – الامتاع والمؤانسة تحقيق احمد امين.

يرى ابن مسكويه ان افعالنا والقوى التي نختص بها من حيث نحن بشر وبها تتم انسانيتنا، ليست هي الافعال التي تصدر عن اجسامنا والتي نشترك فيها مع الحيوان، مثل التغذية والنمو والاحساس، بل هي الامور الإرادية التي تتعلق بها قوة الفكر والتمييز. وهذا ما ينتهي بنا الى افعال الخير او الشر، فالخير هو الأمر الذي يحصل للانسان بإرادته وسعيه والشر هو الذي يُعوق هذا الخير وايضا يتم بإرادة الانسان وسعيه، لقد اراد ابن مسكويه ان يدخل الى عقولنا نظاما اخلاقيا مبني على اساس فلسفي سليم حتى تصدر افعالنا جميلة من غير كلفة ولا مشقة. ونراه يربط بين السعادة والفضيلة. ويهتم بالفضائل الخلقية لصلتها بالعمل. وليست الفضائل طبيعية فينا وإنما هي مكتسبة ومن ثم يجب الاهتمام بتعليم المعارف حتى لا تضعف قوة العقل. وانسب المعارف الى الانسان هي قبول الحكمة وطلب الفضيلة والبلوغ الى السعادة. والسعادة هي افضل الخيرات

يقسم ابن مسكويه السعادة الى خمسة اقسام

الاول: في صحة الجسم واعتدال المزاج، حيث يكون الانسان سليم الحواس الخمس

والثاني: في الثروة التي عليه ان يجعلها في خدمة الخير

والثالث: في الاخلاق الحسنة واشاعة الفضل والاحسان

والرابع: في ان يكون ناجحا في الحياة

والخامس: ان يكون صاحب رأي صائب وفكر سليم الاعتقاد.

ابن مسكويه واحد من اكبر منظري الاخلاق والسعادة في الفكر الاسلامي. وقد كان كتابه "تهذيب الاخلاق" – تحقيق عماد الهلالي –محاولة لشرح ماهية الكمال الانساني وكيف يتم بناء الانسان عن طريق تهذيب الاخلاق ونشر الفضيلة، وكيف يتم بناء الدولة عن طريق اقامة العدل، مثلما يتم بناء الامم عن طريق الاستعانة بحكمة الفلسفة الخالدة.

كان ابن مسكويه مفتونا بكتاب ارسطو "علم الاخلاق" والذي طرح فيه المعلم الاول تحديد العوامل التي تجعل الناس يعيشون سعداء، وقد ذهب الى ان الاشخاص الأخيار والناجحين يمتلكون جميعا فضائل متشابهة. وقال إن من المفيد ان نحدد تلك الفضائل حتى نستطيع رعايتها وتنميتها في انفسنا، وحتى نستطيع تقديرها لدى الآخرين. فيما رأى ابن مسكويه ان هذه الفضائل لا يبلغها الإنسان إلا بالعقل، في كتابه " تجارب الامم " – تحقيق كسروي حسن – يقسم ابن مسكوية الناس الى ثلاث طوائف، قلة خيرة بفطرتها، وكثرة شريرة بطبيعتها ، وطائفة ينتقلون من الخير الى الشر او من الشر الى الخير، وفقا لاساليب التربية. ولكل انسان خيره الخاص أو سعادته، وهي عنده تتحقق بتنمية القدرات العقلية. ويرى ان اجتماع الناس ضرورة طبيعية، ومن اجل هذا كانت المحبة بين الناس، وهي اصل الفضائل واساس الواجبات، ولا يبلغ الانسان كماله إلا بالتضامن والتعاون مع الآخرين. ومن اجل هذا استهدف علم الاخلاق الذي يدعو اليه الى الوقوف على ما ينبغي ان تكون عليه اخلاق الانسان في المجتمع، ومن هنا يوجه ابن مسكويه نقده الى الرهبان والزهاد الذين يظنون ان عزلتهم عن المجتمع تتماشى مع تعاليم الدين، فهو يرى ان مثل هذه الافعال تخرج عن مبادئ الاخلاق. يكتب محمد اركون ان اعمال ابن مسكويه تعد من بين ابرز الاعمال الهادفة الى اعادة الاعتبار للعقل وجعله احد ركائز العقيدة الدينية.

***

بدأ يقرأ كتب افلاطون وارسطو وهو في الثانية عشرة، الفتى الذي فقد آباه في سن مبكرة، عاش صباه وشبابه من اجل العناية بامه، سيصاب بصدمة عندما تقرر الام الزواج وكان ابنها قد بلغ العشرين من عمره، يخبرنا ابو حيان التوحيدي وكان اقرب اصدقائه ان ابن مسكويه كان في مشغولا بطلب الكيمياء مع ابو بكر الرازي ومفتونًا بكتب جابر بن حيان.

ولد أبو علي الخازن أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب بـ "ابن مسكويه" في الرابع من ايار عام 929 م في منطقة الري، اختلف المؤرخون في اصل ديانته فقال ياقوت الحموي في معجم البلدان انه كان يهوديا واسلم، فيما يؤكد آخرون انه من عائلة زرادشتية دخل الاسلام وهو صغير، ويرجح عبد الرحمن بدوي ان ابن مسكوية من عائلة اسلمت قبل ولادته بعقود كثيرة. وجدت الام ان ابنها كثير الاهتمام بالكتب، دخل الى حلقة أبو الحسن العامري وكان من ابرز المشتغلين في الفلسفة في مدينة الري يصفه ابو حيان التوحيدي بانه كان: " متبحراً في الفلسفة اليونانية منكباً على كتب أرسطو، وله على بعضها شروح"، ويخبرنا ابن مسكويه انه: " استأنف القراءة عليه، وكان يعد نفسه في منزلة من يصلح أن يتعلم منه فقرأ عليه عدة كتب مستغلقة ففتحها ودَّرسه إياها " –تجارب الامم -، بعدها يدرس المنطق عند أبو سليمان السجستاني، قال لامه ذات يوم انه قرر ان ياخذ من الكتابة مهنة فسخرت منه مثلما سخرت ام الجاحظ من ابنها، إلا ان الابن العنيد اصر على مواصلة المشوار، فعمل في عدة مهمن لاعالة عائلته المكونة من امه وثلاثة اشقاء ونراه يخبر ابو حيان التوحيدي انه كان يأمل ان يقضي حياته بالتأمل لولا محاصرة الفقر. قرر ان يهجر البيت بعد ان تزوجت امه، وبسبب ازمته اتجه الى حياة اللهو، الامر الذي كان ينتقده التوحيدي الذي وصفه بانه كان في تلك المرحلة " جاهلا مغرورا محبا للهو وللمشاجرة والنزاع ".عاش ابن مسكويه في هذا الجو كأنه ينتقم من نفسه بسبب سلوك امه، وبدا شابا غريباً، لكن هذه الحياة ستمر بتجربة قاسية بعد ان علم بوفاة والدته.يترك حياة اللهو ويعود الى هوايته الاولى كتب الفلسفة . يقرر السفر الى بغداد، هناك يدرس التاريخ على يد ابي بكر القاضي، والمنطق والطب عند ابن الخمار الذي كان يسمى في بغداد " ابقراط الثاني ".وسيفتن بتجارب جابر بن حيان في الكيمياء، يعمل خازنا في مكتبة ابن العميد الذي كان وزيرا في الدولة البويهية، ويخبرنا في كتابه " تجارب الامم " انه: " صحب ابن العميد سبع سنين لازمه فيها ليل نهار " وكانت مكتبة ابن العميد تحوي عشرات الكتب في معظم المعارف، وقد استفاد كثيرا من عمله في المكتبة كما يقول التوحيدي: " افاد الاطلاع على هذه الخزانة وهي موفورة "، وهذا الاطلاع ساعده في بلورة رؤيته في موضوعة الاخلاق والسعادة. استمر بخدمة ابن العميد ثم عمل مع الوزير ابا الفتح، ومن بعده عضد الدولة الذي اختاره ليصبح احد كتابه، وظل يعمل خازنا للكتب وكاتبا في ديوان الوزير حتى تفاقمت عليه الامراض فقرر العودة الى مدينته ري التي توفى فيها في السادس عشر من شباط عام 1030 وقد تجاوز عمره المئة عام.

في بغداد يقرر الاستعانة بالفلسفة اليونانية لوضع فلسفته الخاصة عن الاخلاق وقد كان يؤمن ان المعرفة الاخلاقية للفيلسوف لا تسقط من سماء الافكار، وانما ينبغي ان تُستخلص من ظواهر الحياة ومن تجارب التاريخ وعبره، ونجده يتخذ منهج ارسطو الذي يؤكد فيه ان السعادة الحقيقية للانسان تأتي من الخيارات التي نصل اليها من خلال العقل، فبعد ان جرب ابن مسكويه حياة اللهو والمتعة اكتشف ان حياة المتعة المجردة لا تجعلنا سعداء، فالسعادة في نظرابن مسكويه هي الخير التام في نفسه.. ولهذا نجده يجتهد لان يضع ثمانية شروط لاكتساب السعادة

1- ايثار الخير على الشر في الافعال، والحق على الباطل في الاعتقادات والصدق على الكذب في الاقوال

2- تحصيل السعادة يكون بالأختيار دائما

3- محبة الجميل لانه جميل لا لغير ذلك

4- الصمت في اوقات حركات النفس حتى يستشار فيه العقل

5- الاقدام على كل ما كان صوابا

6- الاشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره

7- ترك الخوف من الموت

8- قوة الامل وحسن الرجاء

ان نقطة البدء في مفهوم ابن مسكوية للاخلاق هي السعادة، فهو يؤمن بان الناس مخلوقات عقلانية تتخذ القرارات التي ستقودها الى الخير والفضيلة، ولا يتميز ابن مسكويه في موضوع السعادة، عن الفلاسفة القدامي الذين تأثر بهم، ارسطو وقليل من الابيقورية ولمحات من الرواقية. انه ابيقوري من خلال رفضه الشرور، واصراره على اشاعة مبدأ الخير كتب ابيقور " ان تتفلسف يهني ان تتهلم معنى الخير " ولهذا فان ابن مسكويه ابيقوري بامتياز من خلال ميله للسعادة، واحترامه للصداقة، وهو ارسطي من خلال احساسه الشديد بقيمة المعرفة.

يكتب ابن مسكويه في تهذيب الاخلاق ان: " الكمال الخاص بالانسان كمالان، وذلك ان له قوتين: احدهما: العالمة، والأخرى العاملة، فذلك يشتاق باحدى القوتين الى المعارف والعلوم، وبالاخرى الى نظم الامور وترتيبها، وهذان الكمالان هما اللذان نص عليهما الفلاسفة، فقالو: الفلسفة تنقسم الى قسمين: الجزء النظري والجزء العملي، فإذا اكمل الانسان الجزء العملي والجزء النظري، فقد حصل على السعادة التامة – تهذيب الاخلاق –

الى جانب السعادة كانت قضية العدل تاخذ حيزا مهما في فكر ابن مسكويه حتى ان محمد اركون يعتبر مسكويه الفيلسوف العربي الابرز الذي اكد على مفهوم العدالة – محمد اركون نزعة الانسنة في الفكر العربي – حيث نجده في كتاب الهوامل والشوامل يرد على سؤال يطرحه عليه ابو حيان التوحيدي عن ماهية العدل؟، فيكون الجواب ان العدالة دواء للانسان، يمكن ان يصل اليها عن طريق العقل، وبفضل الاهمية الكونية للعدل فانه حسب ابن مسويه يمكن ان يشكل احدى نطاق الانطلاق الى الحكمة. ويذهب ابن مسكويه ابعد من ذلك حين يقر بان الحياة الاخلاقية كلها هي عبارة عن جهد يقوم به الانسان لكي يتوصل الى امتلاك العدالة، وتحقيق المساواة والتوازن بين الناس.

***

في بغداد التي وصلها وهو في الخامسة والعشرين من عمره، هاربا من مجتمع اللهو، باحثا عن الحقيقة في مجالس العلماء وكتب الحكماء، فنجده في كتابه الحكمة الخالدة يستعير عبارة من افلاطون يقول فيها: " ان الانسان إذا فقد ميزة العقل كان دائم البلاء "، ولهذا يرى ابن مسكويه ان ما يميز الانسان عن سائر الحيوانات، هو القدرة على اتيان الافعال الارادية الناجمة عن التفكير.وهذه الافعال نوعان " خيرة وشريرة. الافعال الخيرة هي تحصل للانسان بإرادته وسعيه في الامور التي وجد الانسان وخلق من اجلها. والافعال الشريرة هي " الامور التي تعوقه عن هذه الخيرات بإرادته أو سعيه او كسله " – تهذيب الاخلاق -.

يقسم ابن مسكويه كتابه " تهذيب الاخلاق " الى سبع مقالات يتحدث فيها عن النفس وقواها ويبين ان الفضائل تقرب بين الاطراف المتباعدة، والخير هو اسمى حالات الكمال الانساني، والفضيلة ارادية، لانها تتعلق بافعالنا الخيرة، وهي نتيجة لافعالنا التي نأتيها عن قصد وارادة، وان الفضيلة لا تكون فضيلة إلا متى اصبحت عادة تصدر عن صاحبها في يسر وسهولة جتى يجد في مزاولتها لذة.وكذلك الرذيلة تتعلق بنا، وكما نستطيع ان نقول نعم، نستطيه ان نقول لا، فإذن كما يتعلق بنا الفعل الخير، كذلك يتعلق بنا الفعل الشرير، وبهذه الطريقة يمكننا أن نحكم على الناس عندما نصفهم كاخاير او اشرار، والأمر يتعلق بنا في ان نختار بين الفضيلة والرذيلة.

يرى ابن مسكويه ان الانسان اشيه بعالم صغير، وقد انطوى في ذاته على كل ما يحتويه العالم، يكتب في " الفوز الاصغر " - تحقيق صالح عضيمة – اما ان الانسان عالم صغير وقواه متصلة وفيه نظائر جميع ما في العالم الكبير من المعمورة والخراب، ومن البر والبحر والجبال ونظائر من الجماد والنبات والحيوان، وكأنه مختصر من الجميع ومؤلف من الكل، فبعضه ظاهر بيّن وبعضه خفي غامض ".

يرى محمد اركون ان اصالة فكر ابن مسكويه تكمن من خلال كونه قدم مفهوما جوهريا لمسألة العقل وهو ما اراد ان يبينه في كتابه " الحكمة الخالدة حيث اكد ان: " العقل الانساني واحد في كل زمان ومكان، يأمر رغم الظروف الطبيعية والاجتماعية والجنسية، بنفس الاوامر والنواهي الخلقية ".

كان السؤال الذي يشغل الفلاسفة الاغريق هو: " كيف يمكننا أن نزيد حظوظ الانسان من السعادة ؟". وكان سقراط يصر إن السؤال يجلب لنا الحقيقة وهذه الحقيقة هي التي ستدلنا على السعادة، في الوقت الذي كان فيه افلاطون يرى ان السعادة تقوم على نوع معين من التناغم والانسجام بين الرغبات والأهداف، فيما أصر أرسطو أن يخبرنا إن الاحساس بالسعادة سيقودنا إلى السلوك الحسن.أرسطو الذي كان يطرح على تلامذته سؤالاً هو: "كيف يجب أن نعيش؟ ".كان يؤمن إن الاجابة عن هذا السؤال هي الطريق إلى الفلسفة ولهذا ظل طوال حياته يرفع شعار " إبحث عن السعادة".، وقد اختار ابن مسكويه ان ينحاز الى ارسطو مؤكدا ان السعادة تعني اكتمال الفضائل في النفس، فالسعادة تعني السعي لأن نكون أحسن، وأن نفعل الشيء الصحيح. هذا ما يجعل الحياة تسير على ما يرام. والسعادة لا تنبت إلا في المجتمعات التي ينتشر فيها العدل والمساواة، ولاتدرك إلا في علاقة مع الحياة في المجتمع. نعيش معاً، ونحتاج أن نجد السعادة بالتفاعل جيداً مع الناس الذين يحيطون بنا: " ان الانسان لم يخلق خلق من يعيش وحده ويتم له البقاء بنفسه، كما خلق كثير من الوحوش والبهائم، لأن كل واحد من تلك خلق مكتفيا بنفسه غير محتاج في بقائه الى غيره.وإذا كان هذا هو شأن تلك الحيوانات والطيور،فإن الانسان خلافا لها بحاجة الى التعليم والتعاون مع غيره من افراد البشر. ومن العدل ان نعين الناس كما اعانونا، ومن الظلم ان يعيش الانسان عالة على غيره " – الفوز الاصغر -. هكذا يدعو ابن مسكويه الى اخلاق تقوم على الاجتماع لا التوحد، بحيث تكون اول الواجبات محبة الانسان لكل الناس، وتعاونه معهم.واذا كانت الطبيعة تتجه الى غايتها بلا شعور في الجماد والنبات وبالغريزة في الحيوان، فانها تتخذ في الانسان طريقا آخر هو العقل، فهو اكمل الطرق لتحقيق اسمى الغايات، ووظيفة الانسان ان يستكشف بنفسه العقل الطبيعي، وان يترجم عنه بافعال أي أن يحيا وفق الطبيعة والعقل.

من المسائل الفلسفية المهمة التي خاضها ابن مسكويه مسالة وجود الله وخلق العالم، فقد ذكر ان جميع الفلاسفة القدماء اثبتوا وجود الله واقروا بوحدانيته،ونجد ان دليله المفضل على وجود الله يستند الى ارسطو فهو يراه اقوى الحجج الفلسفية على وجود الخالق الذي يعتبره ارسطو " المتحرك الذي لا يتحرك "، غير متغير، وهو يختلف كل الاختلاف عن اي كائن آخر. وينسب اليه اسمى الكمالات، وفي نشاة الكون، يرى ابن مسكويه ان الله هو العقل الفعال خلق جميع الاشياء من لا شيء.

يكتب المستشرق دي بوير في كتابه تاريخ الفلسفة في الاسلام ان ابن مسكويه نزغ في الكثير من نواحي تفكيره نزعة عقلية واقعية، استعان في تصويرها بخبراته الشخصية اضافة إلى اطلاعه على الفكر القديم، فوضع مذهبا اخلاقيا وفلسفيا جدير بالتقدير، فلسفة تدل على سعة في التفكير والثقافة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

- نقطة الصفر بالعلم حسب جاستون باشلار هي بداية شروع علمي وليس نهاية مشروع علمي وصل نهايته. اما نقطة الصفر في حياة الانسان فلسفيا فهي ناتج محصلة الشد والجذب التي يتساوى فيها النجاح والفشل في التفكير وليس في السلوك. ارادة الانسان في طموح ورغبة التجاوز تجعل من نقطة الصفر كما هي بالعلم بداية شروع وليس نهاية مشروع.

- صناعة الطغاة في كل مجالات حياة الشعوب المقهورة المغلوبة على امرها انما تكون في افشاء الجهل والخرافات وتضليل وعي المجتمع بوسائل برمجة ايديولوجيات التخلف.

- مذهب وحدة الوجود  يكون مطلقا ميتافيزيقيا صوفيا يجمع بين الدين والطبيعة والفلسفة. مذهب وحدة الوجود يفقد حقيقة معناه في الصوفية التي يعتبرونها المتصوفة هي وسيلة تلاقي الذات بالحلول الالهي النوراني وهو ما لا يتحقق بسبب عدم توفر مجانسة نوعية واحدة تجمع خصيصة الذات الصوفية الروحانية مع خصيصة الذات الالهية غير المدركة لا بالعقل ولا في ما وراء العقل اي في التجربة الروحية . بهذا المعنى تكون التجربة الصوفية روحانية تدور في فلك ذاتيتها التي تفترض حلولها التواصلي مع الذات الالهية وهي لم تغادر مادية وجودها الارضي.. فالذات الالهية لا تمتلك الروحانية البشرية المدركة صوفيا في مجانستها الروحانية الصوفية التي هي في كل حالات التجربة الصوفية لا تغادر مواقع اقدامها.الذات الالهية لا تجانس الذات الروحية البشرية لا  بالماهية ولا بالصفات لذا تبقى الذات الصوفية روحانية مرتبط بالارض على خلاف الذات الالهية المرتبطة بنفسها بما لا يستطيع العقل ادراكها.

- يقول ياسبرز" حقيقة الاخفاق هي التي تؤسس حقيقة الانسان". الاخفاق بالحياة هي مرتكز مفترق الطرق الذي يجعل اهمية مراجعة الانسان ليس لماذا اخفق فقط. بل في مراجعة مجمل معتقداته وسلوكياته مع الذات والمجتمع. ومن الحماقة ان يحزن الانسان على اخفاقات حياته التي هي الوسيلة الوحيدة في جعله  يفهم كل شيء بحياته.

- ميراث الانسان الحقيقي بالحياة هي الاخلاق الرفيعة وليس المال رغم اهميته كوسيلة وليس كغاية بذاته.

- سألني احدهم لماذا تركت الكتابة في السياسة؟ اجبته اضعت اكثر من اربعين عاما اكتب بالسياسة فانكرتني محمّلا بكل رذائلها. وكتبت بالفلسفة ما يزيد قليلا على 15 عاما فاعطتني ما ارغبه بالحياة حين وجدت نفسي فيها. وانا سعيد انهي عمري بالتعلم منها والكتابة فيها.

- لم اجد فكرا يستحق الاحترام بالحياة لا تلازمه كثرة الاعداء.

- افضل لي اجد نفسي وسط ضمائر قليلة صادقة في تعاملها الاخلاقي الرفيع خيرا ان تحتويني شلة منافقة تظهر لي الود والاحترام وفي حقيقتها تكرهني.

- حاجة السؤال وكرامة الانسان لا يتعايشان.

- الاحلام نوع من اسطورة اللاشعور التي تلبست الانسان بلا رغبة منه. الانسان قديما في ميثالوجيا السحر وطقوس الاديان الوثنية التي يتم بها خرق قوانين الطبيعة في الزمان والمكان خرقا خرافيا وليس واقعيا علميا حقيقيا.وأنتقلت الاسطورة في ملازمتها الانسان في غيبيات الاحلام لاشعوريا أثناء النوم بفرق أن الاساطير تتوسل الالهة والاحلام متحررة منها عقليا زمانيا. والاحلام نوع من الاساطير التي يبتدعها اللاشعور في خرقه قوانين الطبيعة اثناء النوم ولا تنفع الانسان أكثر من تفريغ شحنات أمانيه المحروم منها في حياته,  وتترائى له في الاحلام تعويضا كاذبا له.

- الموضعة اللغوية في تعبيرها التجريدي عن الاشياء هي ادخار معرفي بها وليس اضافة تكوينية لها. الموضعة هي تلك القراءات التاويلية التداولية للادرك المتطور التي تعيد وتضيف وتعدل التي هي في حقيقتها تجريد تعبيري لغوي عن تلك الاشياء المدركة.

تساؤلنا هل الموضعة اللغوية المتعالقة بالفهم تكون معطيات مكتسبة قبلية عن ذالك الشيء ام هي معطيات فطرية عنها؟

- لا يوجد افكار فطرية معرفية قبلية غير مكتسبة بالخبرة عن الاشياء. اما بالنسبة للزمكان فهو وعي العقل لفراغ احتوائي للاشياء يوجد باستقلالية. فهو اي الزمكان لا يدخل مع الاشياء التي يحتويها بعلاقة موضعة تعريفية بها. ولا يدخل بعلاقة جدلية ديالكتيكية او تكاملية معرفية معها بل يبقى احتواء الزمكان للاشياء حياديا كما هي علاقة الزمن في ملازمته وجود الاشياء. وتكون افصاحات العقل عن مدركاته الاشياء التي يحتويها الزمكان هو الافصاح عن  علاقات تلك الاشياء المادية البينية مع بعضها. وبهذا تكون الموضعة اللغوية تحت وصاية العقل مادية في علاقة تكامل معرفي. الشيء الاهم هو الاقرار بحقيقة ان المادة لا تتموضع مع غيرها من الاشياء بغير علاقة تجريدية لا تعي ذاتها ولا تدرك موضوعها.

- لا تستغربن العمل الناقص من خبيث يخرج من حاضنة مفقس تخريج امثاله على الدوام.

- كل معرفة تكون خبرة مكتسبة حينما لاتوّرثها الجينات. والجينات تورث الصفات ولا تورث الجواهر والماهيات.

- صرخات حقائق الحياة لا تحتاج حكمة الصمت وما قيمة الصمت حين تكون محتاجا الصراخ.؟

-  الشعر الذي يتمثّل الواقع بصدق زائف وادراكات شعورية منطقية يخرج من دائرة خاصية الشعرالخيالية المصنوعة الى دائرة عاميته حين يصبح كل الناس يقولون الشعر.

- الشعر هو اللاشعور اللغوي الذي ينظّم منطق العقل.

- ما يسمى الاستكشافات الغربية لمنطقة الشرق الاوسط لم تكن في غالبيتها بريئة هدفها اكتشافنا حضاريا بل كان هدفها استعمارنا استكشافيا.

- حين يتجاهلك من  يعرف قيمتك فلا عجب على من يتجاهلك غباءا.

- من يخنك في ستر سرك فاعلم انه يبيعك بالمتاجرة به.

- ابحث عن الخير ولا تدعه يفتش عنك.

- الزمن يسبق الوعي الحقيقي.

- عشوائية الزمن حسب افلاطون تنظّم نفسها بدلالة نظام الطبيعة.

- من يفهم الاخلاق الفاضلة بازار مساومة فقد عرف اصله ولم يعرف نفسه.

- اعرف نفسك بالحق قبل محاولتك مساومة غيرك بالباطل.

- المال الفاسد يشتري وضاعة الاخلاق بالحياة لكنه يعجز شراء ذمم الناس.

- الصمت حمّال اوجه تاويلية بخلاف اللغة التي تكون هي التعبير الحقيقي عن الحياة.

- حين يجد الانسان ذاته في اسعاده الاخرين يكن صاحب رسالة بالحياة.

- نظافة القلب من الشرور سلوك يذيب جبالا من جليد الافكار الخاطئة.

- النيّة بالعمل والامور بخواتيمها.

- اخلاق المال الفاضلة اسمى من امتلاك المال ذاته.

- من يترفع عليك بالمال يطلبك تستجديه كرامتك منه.

- ما تستخف  به من مقدسات غير دينك ستجده ادانات لمقدسات دينك من غيرك عديدة.

- عمر الانسان المريض تلجم النفس عواطفها, كما تلجم بيولوجيا الجسم محاولة انبعاثها. كلا المنحيين كي يكتسبا حيوية الوجود لا بد لهما التخلص من مرض الجسد قبل الشروع بانطلاقة الثمالة الاخيرة بالحياة.

- اجد ان صدق عاطفتي تلجمني ان لا اجد كلمة لم يفت اوانها.

- الشك بعد تجربة مؤلمة توقع خيبات الحياة العاطفية مفتوحة النهايات.

- عليك ان تبحث عن عمل الخير ولا تنتظره ياتي اليك.

- تبنى الامجاد الزائفة بالعطايا في غير محلها يرافقها قرع الطبول.

- اذا لم تضع للحق مسطرة عدالة ومساواة لا يبقى المجاهرة بالعطايا معنى.

- يستغرب العديدون حين اخبرهم اني احرقت شهادتي الجامعية بالفلسفة حينما وجدتها عند الاخرين هوية انتساب لفلسفة لا يعرفون عنها شيئا.

- ليس الفضل لمن يغفر للاخرين اخطاءهم بحقه بل الذي يحفظ لهم كرامتهم بحكمته.

***

علي محمد اليوسف

كنت قد نشرت خلال شهر حزيران من العام الجاري مقالة بجزأين هي قراءة في كتاب "معجم المفردات المندائية في العامية العراقية" لمؤلفه قيس مغشغش السعدي. وقد ضمنتها استدراكاتي على العديد من الكلمات التي اعتبرها المؤلف كلمات مندائية دخلت في قوام معجمية اللهجة العراقية؛ وحين أكملت الاطلاع على الكتاب دهشت لكثرة تلك الكلمات العربية التي زجَّ بها المؤلف ضمن الكلمات المندائية أو ذات الأصول المندائية بطريقة لا علاقة لها بأي علم من علوم اللغة، وأقرب إلى ما يمكن أن نسميه التعسف التأثيلي "الإيتمولوجي" والعشوائية في الفقه لغوي "الفيلولوجي"، ولذلك قررت العودة إلى الكتاب مرة أخرى، ولكن هذه المرة بهدف آخر غير تقديم قراءة تعريفية به تعطيه حقه، بل لتأثيل هذه الكلمات ذات الجذر أو الاشتقاق العربي وترك الكلمات الأخرى والتي يُحتمل أنها تدخل فعلا ضمن ما سمّاها العلامة الراحل طه باقر رواسب لغوية من اللغات العراقية القديمة كالأكدية بلهجتيها البابلية والآشورية والآرامية وفرعها المندائي، وبهدف ضمني آخر هو تفكيك عملية القسر التأثيلي وإعادة الاعتبار إلى العلوم اللغوية واللهجوية وكشف التأويلات والتأثيلات العشوائية والرغبوية والتي قد لا تخلو من النزعة الأيديولوجية والذاتية المناهضة لعروبة اللهجة العراقية العربية العماد والمعجمية مقاربةً للحقيقة وإنصافاً للعلم ومنهجياته وأساليبه. وخلال هذه المراجعة التأثيلية لمفردات الكتاب المذكور ولعدد من المراجع في هذا الباب تطور نص مقالتي وأمسى على ماهو عليه الآن كبحث موسع في المعجم اللهجوي العراقي وفي مقترباته وعلاقاته باللغة العربية الأم واللغات الجزيرية "السامية" الشقيقة.

بكلمات أخرى؛ يمكنني القول إنني في قراءتي السريعة السابقة للصفحات الأولى من هذا الكتاب تفاءلت به أكثر مما ينبغي، ولكنني، ومع تقدمي واستغراقي في القراءة والاطلاع على المزيد من الصفحات والمفردات، وجدت أنني كنت على خطأ في تفاؤلي ذاك؛ فالكلمات في اللهجة العراقية ذات الأصل المندائي الأكيد لا تشكل إلا نسبة ضئيلة مما ورد فيه من كلمات، وهي نسبة طبيعية في لهجة تعيش منذ القدم وسط اختلاط وتنوع لغوي قل نظيره حيث سادت وبادت لغات عديدة في وادي الرافدين كاللغات الجزيرية "السامية" مثل الأكدية بلهجتيها البابلية والآشورية والأمورية والآرامية - وفروعها أو لهجاتها المندائية والنبطية والسريانية -  وعاشت معها حديثاً، وجنباً إلى جنب لهجات لغوية غير جزيرية كاللهجات الكردية الثلاث، والتركمانية وغيرها.

المأمول إذن أن يستدرك المؤلف على كتابه في طبعة لاحقة ويتجنب هذه الهفوات والثغرات الوفيرة والفادحة أحياناً ويتمسك بالأسلوب المنهجي العلمي، ويزيد من اطلاعه على المعاجم العربية الفصيحة والمنشورات التخصصية ذات العلاقة للتأكد من وجود هذه الكلمة أو تلك في اللهجة العراقية وفي العربية الفصحى أو في اللغات الجزيرية الأخرى قبل أن يزج بها في معجمه للكلمات المندائية في اللهجة العراقية المعاصرة، وبهذا سيقدم كتابا مفيدا يضيء بشكل موضوعي وعلمي على المساهمة المندائية الجميلة في اللهجة العراقية دون مبالغات أو قسر.

إنَّ هذا النوع من الكلمات العربية الفصيحة يمثل الكثرة الكاثرة والغالبية الساحقة من كلمات اللهجة العراقية إلى جانب ما سماها العلامة طه باقر الرواسب من اللغات العراقية القديمة المنقرضة، بل أن هناك كلمات عربية فصحى منقرضة أو نادرة الاستعمال وممعجمة في المعاجم القديمة ولكنها ماتزال حية في اللهجة العراقية وقد ضربت عليها أمثلة عديدة في كتابي "الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام" ومنها مثلا: برطيل، مدردحة، أريحي، نازك، دحس، برطم، ملخ، دفر، أثرم، أجلح، ثخين، ثول، ثرب، خبن، دحس، أهدل وختل....إلخ، فهي كلماته الأليفة في لهجته العراقية المعاصرة، وفي الوقت ذاته مفردات مؤثلة الجذور والمشتقات في المعاجم العربية القديمة على الرغم من عدم وجودها أو ندرة استعمالها في اللغة العربية الوسيطة "الفصيحة" المعاصرة، وقد ذكرت توثيقاتها في كتابي.

خلاصة القول هي أنَّ العلاقة بين اللغة العربية الفصحى بلهجاتها المختلفة المعاصرة في العالم العربي واللغة المندائية واللغات الجزيرية الأخرى هي علاقة عضوية، جذورية واشتقاقية لأنها لغات شقيقة ومن عائلة لغوية واحدة. لذلك، ليس من الغريب أن نجد مفردات كثيرة بلفظها ومعناها في أكثر من لغة من هذه اللغات أو أنها توجد بقليل من التحريف اللفظي أو البعد في المعنى، أما اعتبار بعض الكلمات في اللهجة العراقية ذات الجذر العربي هي كلمات مندائية أو أكدية وأن هذه الكلمات في اللهجة العراقية جاءت منها فهو أمر غير علمي بتاتاً والأقرب الى المنهجية البحثية العلمية أن نعيد المفردات في أية لهجة في الدول العربية المعاصرة إلى جذرها العربي القريب، فإن لم نجده ووجدناه في لغة جزيرية أو غير جزيرة أخرى صحَّ عندنا  القول بأنها من رواسب هذه اللغة القديمة أو تلك.

كما أنَّ كون المندائية فرعاً من الآرامية والتشابه بل والتطابق بين هاتين اللغتين يجعل من العسير علينا البتُّ في ما إذا كانت هذه المفردة أو تلك في اللهجة العراقية هي ذات أصل مندائي أو آرامي.

إن محاولة إخراج المعجم اللهجوي العراقي من حاضنته العربية وهي اللغة السائدة الأحدث في عصرنا وإرجاعها الى لغة منقرضة أو في طريق الانقراض عمل لا مغزى فيه ولا يمت بصلة للمنهجية العلمية ولا يخلو من النزعات الأيديولوجية السياسية التي لا علاقة لها بعلوم اللغة.

إذن، سأخصص هذا العرض للكلمات التي اعتبرها مؤلف الكتاب مندائية ووجدت أنها ليست كذلك بل هي كلمات عربية ممعجمة.  وعلى أية حال فهذه مناسبة طيبة ليتعرف القارئ العراقي على الجذور العربية الفصيحة لمفردات لهجته إن لم يكن يعرفها من قبل.

اللهجة العراقية وعلاقتها بالعربية الفصحى

يربط العديد من الباحثين، كالشيخ محمد رضا الشبيبي في كتابه "معجم وأصول اللهجة العراقية"، بين ظهور وشيوع اللهجات وظاهرة الانتكاس الحضاري والتراجع المدني الذي أعقب سقوط الدول العربية الإسلامية وأهمها الدولة العباسية وعاصمتها بغداد، وهؤلاء يعتبرون اللهجة نقيصة ودليلا على الاستسلام الاجتماعي للمجتمعات العربية أمام الأجنبي، ويضيفون عاملا آخر إلى هذا العامل وهو اختلاط الشعوب غير العربية التي دخلت الإسلام بالعرب. والواقع فإن ظهور اللهجات أقدم كثيرا عصر ظهور الدول العربية الإسلامية، وهناك من يرى أن اللغة العربية الفصحى لم تكن في البداية إلا لهجة من لهجاتها القبلية ويحددونها بلهجة قريش.  والحقيقية هي أن العلاقية بين اللغات واللهجات علاقة جدلية "ديالكتيكية" لا تخلو من التعقيد والغموض؛ فإذا صح أن هناك لغات تطورت عن لهجات وهناك الكثير من الشواهد والأدلة في ما يخص اللغة العربية ولهجاتها القبلية قبل الإسلام وفي سوح لغات أخرى غير العربية كاللغات اللاتينية التي تقترب معجمياً وقواعدياً من بعضها إلى درجة يمكن اعتبارها أقرب الى اللهجات التي استقلت عن بعضها بمورو الزمن والتطورات التاريخية، فيمكن - في المقابل- أن نرى بعض الصحة في النظرية التي ترى في أن ظهور اللهجات جاء لاحقاً لوجود لغة أم أصيلة وبسبب عوامل تاريخية واجتماعية وجغرافية ولسانية كما هي الحال في اللهجات العربية في البلدان المتباعدة في قارتي آسيا وأفريقيا. وهذا ما عنيتُهُ بالعلاقة الجدلية التطورية بين اللغات واللهجات. يتبع.

***

علاء اللامي

"الديمقراطية بحاجة إلى الدعم، وأفضل دعم للديمقراطية لا يمكن أن يأتي إلا من الفاعلين الديمقراطيين"

المقدمة: صارت الديمقراطية من الأمور المستحيلة في العالم العربي بعد أن كانت أن تتحول إلى مكسب مدني وتعطل القطار الذي اعتقد الكل بأن العرب قد ركبوه دون نزول بعد موجات من الحراك الاجتماعي السلمي. ربما يعود هذا التعثر إلى ضبابية المفهوم وغياب الضمانات والمؤسسات الراعية وتأخر الذهنيات وتعطل الثورة الثقافية وبروز التكالب على السلطة وانقسام النخبة بشكل لافت عن القيادة واختلاط مشاريع تحديث وتنمية.

فما هي الديمقراطية؟ كيف تعرف الديمقراطية؟ ما هي أسسها؟ وماهي مختلف أنواعها؟ وما الفرق بين المباشرة والتمثيلية والتشاركية والتداولية؟ ولماذا يعتبرها المدافعون عنها نظامًا سياسيًا محفوفًا بالمخاطر؟ ما الذي جعل الديمقراطية عندنا متعثرة وغير مالكة لوجودها القانوني؟ ومتى يتم تحصيلها بصورة تامة ونهائية لا رجعة فيها واستنباتها على أرضنا؟ ألا يجدر في البداية التربية على الديمقراطية وإعداد ديمقراطيين؟

مفهوم الديمقراطية

من الناحية اللغوية، يشير مصطلح "الديمقراطية" إلى نوع من النظام السياسي يكون فيه الناس (ديموس) هم من يمسكون بزمام السلطة (كراتوس). ومع ذلك، فإن أصل الكلمة هذا يتوافق بالتأكيد مع الديمقراطية التشاركية، وهي نادرة جدًا ودائمًا على نطاق محدود (بلدية بورتو أليجري على سبيل المثال)، ولكن ليس مع ما تفهمه عادةً الديمقراطية، الديمقراطية التمثيلية، أي لنقل نوع من نظام سياسي يكون فيه الناس هم من يحدِّد من يمسك بزمام السلطة أو من يملكها. ولكن من خلال الاكتفاء بهذا التعريف الأخير "الأدنى"، يمكن للمرء أن يصل إلى انحرافات حقيقية، وعلى وجه الخصوص تسمية الأنظمة "الديمقراطية" التي ليس لها حتى مظهر واحد. لأن الديمقراطية الحقيقية، حتى التمثيلية، تتطلب أكثر بكثير من الاقتراع العام. على وجه الخصوص، يمكننا أن نشير إلىالتعددية السياسية أو التعددية الحزبية، والتي تمنع الناخبين من الاضطرار إلى الاختيار بين مرشح واحد، وكذلك إمكانية حقيقية للجميع، دون تمييز، للترشح في الانتخابات. بعد ذلك ترتكز الديمقراطية على فصل السلطات - التشريعية والتنفيذية والقضائية - مما يجنب تركيز السلطة في أيدٍ قليلة. على سبيل المثال، لا يمكن المبالغة في التأكيد على استقلال القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، في حالة من غير المحتمل أن يكون ممثلو هاتين السلطتين محل اهتمام القضاة لأسباب تدينها العدالة. من جهة ثالثة تقتضي فترة ولاية معقولة، والتي تتجنب التقاعس عن العمل في السنوات الأولى من السلطة مثل إنشاء أنظمة لمنع التناوب السياسي، سواء كانت هذه الأنظمة قانونية - تعيين أشخاص "موثوق بهم" في مناصب رئيسية، ومحسوبية مختلفة،كما انها تحد من انتشار الفساد والاحتكار والتمركز والاقصاء على سبيل المثال.

علاوة على ذلك تحتكم الديمقراطية الى ضوابط وتوازنات عديدة ومتنوعة وتمثيلية - نقابات، وجمعيات مختلفة، ووسائل إعلام مستقلة - لها الحق في التعبير عن نفسها بحرية، والتي يجب أن يمنع عملها الحكام من الاستسلام لإغراء خطير لحل مشاكل الأغلبية بإيذاء أقلية حتى مع الموافقة الصريحة من هذه الأغلبية، مهما كانت هذه السياسة قد تبدو ديمقراطية. لكن هذه الضوابط والتوازنات لا ينبغي أن تكون "جماعات ضغط"، أي أعداء للمصلحة العامة، وهي ليست دائما، بعيدة عنها، مصلحة الأغلبية.

زد على ذلك ان “الضمانات" الأخرى هي بالطبع ممكنة بل ومرغوبة، حيث يُظهر التاريخ، وخاصة التاريخ الحديث، أنه حتى لو تم استيفاء جميع هذه الشروط إلى حد ما، يمكن أن يصاحب ما يسمى بالنظام الديمقراطي مواقف قد تبدو غير ديمقراطية على وجه التحديد، مثل وجود شكوك قوية حول نزاهة كبار السياسيين، شكوك يستحيل تأكيدها أو نفيها من خلال حقيقة ما يسمى بالقوانين الديمقراطية. على هذا لنحو يبدو إذن أن أهم هذه "الضمانات" تكمن، من الناحية النظرية على الأقل،فيما يشكل شرعية الديمقراطية ذاتها: فكرة أن الناس، أو بشكل أدق غالبية الناس الذين يتحدثون أثناء الانتخابات (والتي في بعض البلدان وفي بعض الانتخابات قد يتوافق مع الحد الأدنى من المواطنين) أولاً، يعرف دائمًا مكان مصلحته - كشعب - وبالتالي يعرف لمن يجب أن يصوت حتى يتم أخذ هذه المصلحة في الاعتبار،وثانيًا، يصوت دائمًا في اتجاه مصالحها الفضلى - دائمًا كشعب. ومع ذلك، فيما يتعلق بالنقطة الأولى، هناك العديد من الحالات التي تظهر أن الناس يمكن أن يكونوا مخطئين بشأن أولئك الذين يجب أن يتولوا مسؤولية مصالحهم، كما يتضح من جميع "خيبات الأمل" التي يدعي الناخبون أنفسهم أنهم ضحايا لها. فيما يتعلق بالنقطة الثانية، لا يزال هناك عدد أكبر من الحالات التي لا يصوت فيها الناخبون - لم يعد بإمكان المرء أن يقول الناس، الذين لم يعد لديهم وحدة - لمصلحة الشعب، ولكن لصالح الشعب. الشعور بمصالحهم الشخصية، أو ما يعتقدون أن يكون. على وجه الخصوص، تعتبر الانتخابات المحلية فرصة لمناشدة هذه المصالح الخاصة أكثر من المصلحة العامة، في تحد للديمقراطية. نحن نطلق على "الغوغائية" جميع الوسائل التي يمكن من خلالها للمرشحين في الانتخابات أن يحرفوامعنى الانتخابات الديمقراطية، أي تحديد المصلحة العامة وأولئك الذين سيكونون مسؤولين عن إرضاء له.

في الحالة الأولى، يعاني الناخبون من الغوغائية ("لم يتم الوفاء بالوعود").

في الحالة الثانية، يتم قبول الغوغائية بشكل أو بآخر من قبل هؤلاء الناخبين، على سبيل المثال عندما "يلعب" المرشحون على مخاوف أو تخيلات، عندما لا يهاجمون صراحة أقلية (مهنية، عرقية، مذهبية إلخ).لذلك يجب أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت هذه الفكرة التي هي أساس أي ديمقراطية، فكرة أن الناس يتمتعون بالوضوح الكافي ويتمتعون بالكياسة الكافية حتى لا ينحرفوا، طوعا أم لا، الديمقراطية بأصواتهم، إذا كانت هذه الفكرة، بالتالي، هي شيء آخر غير الوهم. فهل تقوم الديمقراطية على الوحدة ام التعدد؟

"في مقدمة فينومينولوجيا الروح، يخبرنا هيجل بأن: "الحق هو الكل". هذه الجملة، للوهلة الأولى،ملغزة وغامضة، ومع ذلك فهي تدل على موقف وجودي رئيسي انخفض في جميع الثقافات عبر تاريخ الفلسفة. هذا الموقف يسمى الوحدانية. في حالة هيجل، أن التحرير الحقيقي يعني الكل وأن الاختلاف بين كائنات الكون والذات التي تتمثلها قد تم إلغاؤه حتى لا يصنع شيئًا أكثر من طبيعة مشتركة (التي يسميها هيجل الروح) وهذا،من خلال تاريخ طويل من المعالجة التاريخية. هذه الأحادية بالذات هي موقف فلسفي خاص بهيجل، ولكن الأحادية تراجعت في الإصدارات التي تتجدد دائمًا، على سبيل المثال موقف تلميذ هيجل، كارل ماركس، أو قبل ذلك بكثير في التاريخ البوذية،العلموية، ذرية ديموقريطس والعديد من الفلسفات الاخرى أو وجهات النظر الدينية. ولكن ما الذي يوحد كل هذه الآراء التي تبدو متنوعة للغاية؟ تشترك جميع الفلسفات والديانات الأحادية في هذا الأمر الذي يجعلهم يعتبرون كل ما هو موجود مكونًا من مبدأ واحد. يمكن أن يكون هذا المبدأ في قاعدة كل الوجود على سبيل المثال جوهر، وهذه كلها أشكال من المادية، ولكنها يمكن أن تكون أيضًا الروح، أو حتى الله، على سبيل المثال في النظرة اللاهوتية للعالم. تعني وحدة المبدأ هذه أن كل شيء موجود في الكون هو نتيجة لهذا المبدأ. على سبيل المثال، في الهيجلية، التاريخ هو العملية التي من خلالها يدرك الروح الكون على أنه من نفس الطبيعة كما هو الحال في حدس يسمى المعرفة المطلقة. في أحادية العالم، الإنسان مخلوق مادي، نتيجة لعمليات فيزيائية كيميائية معقدة. الفكر والمفاهيم يتم اختزالها في التبادل الكيميائي بين الخلايا العصبية والإنسان، تمامًا مثل الكونما هو إلا مجموعة من الذرات ذات بنية سعيدة.

الانسان او العالم

إن لمجتمع الوجود هذا بين الكون والإنسان الذي يسكنه ويمثله لنفسه نتائج فلسفية مهمة. النتيجة الأولى هي أن الفلسفة الأحادية هي دائمًا حتمية. في الواقع، إذا كان هناك استمرارية للطبيعة بين الكون والإنسان، فإن الاثنين يخضعان لنفس القوانين، قوانين الكون التي لا استثناءات لها والتي تخضع لها كل الأشياء لأن قوانين الكون هي تعبير عن المبدأ (المادي أو الروحي) من حيث هو أساس كل شيء. على سبيل المثال، إذا كان كل شيء، كما في حالة المادية، فستخضع كل ظاهرة لقوانين المادة، لأن المادة هي أساس كل الأشياء الموجودة. النتيجة الثانية هي الوضوح التام للكون. إذا كان كل شيء من نفس الطبيعة، فهذه الطبيعة مفهومة. في الواقع، الوضوح قدرة بشرية، وفي الوحدانية، الإنسان له نفس طبيعة الكون؛ وبالتالي فإن الكون نفسه مفهوم تمامًا: فالعقلانية والكون وجهان بالفعل لشيء واحد. هذا ما يقوله هيجل في مبادئ فلسفة القانون التي من أجلها: "كل ما هو عقلاني هو حقيقي، وكل ما هو حقيقي، عقلاني". العقلانية، اللغة العقلانية في كل الأحاديات، حتى اللاهوتيات، اللغة المميزة للوصول إلى الكون، والنتيجة الثالثة، والتي هي بالنسبة للعديد من الناس العاديين في الفلسفة الأكثر صعوبة في القبول، تتمثل في المكانة الممنوحة للإنسان من قبل الوحدانية. إذا كان الإنسان من نفس طبيعة الكون، فهو بطريقة ما غبار إذا قارناه بالكون، إذن، بعيدًا عن كونه مركز الكون، فإن الإنسان عبارة عن فتات سخيفة وادعاءاته سخيفة. يذوب الإنسان في المادة من أجل المادية، في الدولة، انبثاق الروح العالمي لهيجل، في إرادة الله لبعض اللاهوتيين. وبالتالي، فإن وجود الإنسان، في ظل هذه الظروف، لا لزوم له وطفلي. وبالتالي فإن كل أحادية هي معاداة إنسانية، وهذه اللاإنسانية وهذه الحتمية، المشتركة بين جميع الأحاديات، تتوج في البوذية، التي حتى الوعي هو مجرد وهم. في حين أن العلموية، التي تعتبر أن الإنسان قد اختزل إلى ظاهرة فيزيائية - كيميائية، تستبعد كل خصوصية الإنسان فيما يتعلق ببقية الكون. ومع ذلك، فإن هذه النتائج الثلاثة للوحدة،والحتمية، ومناهضة الإنسانية، والعقلانية المطلقة، هذه النتائج الثلاثة لها نتائج طبيعية، ونتائج عملية عندما يتعلق الأمر بالتفكير في العواقب الأخلاقية والسياسية لهذه النظريات. كما رأينا، فإن الأحادية لا تميز بين الكون والفرد. لذلك، يجب أن تكون قوانين المدينة من نفس طبيعة قوانين الكون وخاضعة لها. وبالمثل، يجب على المواطن داخل المدينة الخضوع لقوانين الكون لأنها نتيجة لها.لحسن الحظ، لم تعد الدول الحديثة انعكاسًا للنظام الإلهي كما كانت المدن القديمة أو الإنشاءات السياسية في العصور الوسطى. لكن الأحادية السياسية لا تزال قائمة على فكرة أن السلوك الفردي وقوانين المدينة يجب أن يخضع لقوانين وأعراف موضوعية، وواقعها الذي لا لبس فيه يتجاوز إرادة الفرد البسيطة. تتخذ الأحادية السياسية المعاصرة شكلين أساسيين: شكل الإيكولوجيا السياسية والماركسية الشعبية.

أولاً، تدعي البيئة السياسية أنها تبني سياستها على نتائج بيئية ملزمة، مثبتة من خلال البيانات والنتائج العلمية التي لا لبس فيها في موضوعيتها. وهكذا، بالنسبة لبعض علماء البيئة، فإن القوانين البيئية ليست ثمرة للتداول الحر، وليست ناتجة عن خيال ذاتي، ولكنها ضرورة قسرية ناتجة عن ملاحظة موضوعية. هذه هي الطريقة التي يدعي بها بعض دعاة حماية البيئة أنه، باسم الموضوعية البيئية، يجب أن نقصر البشرية على نصف مليار إنسان. المشكلة هي: كيف سيتم ذلك؟

ثانياً، تنوي الماركسية أن تبني برنامجها السياسي على أساس حل التناقضات الحقيقية والموضوعية للصراع الطبقي. إن الصراع الطبقي، محرك التاريخ، يولد بالضرورة المادية الديالكتيكية التي هي العلم الذي يمكّن من حل التناقضات الخاصة بالرأسمالية، مما يؤدي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا والمجتمع اللاطبقي.

الوحدانية والحتمية

في كلتا الحالتين، نرى أن طبيعة الأشياء تعني أن سياسة المدينة ليست اختيارًا متعمدًا ولكنها مفروضة بالضرورة إما بيئية أو تاريخية بعد الملاحظات التي تدعي الموضوعية العلمية. من السهل أن نرى أن هذه النظريات الأحادية تنكر حريات الإنسان لأن الحرية تُنكر بالضرورة. في الواقع، فإن النظرية السياسية القائمة على الوحدانية هي دومًا شمولية لأن المواطن في الوحدانية يخضع دائمًا لواقع كوني وموضوعي لا يستفيد من حريته كثيرًا. إذا لم تكن كل الأنظمة الشمولية بالضرورة أحادية، فإننا نستنتج من هذه الاعتبارات أن كل الأحادية السياسية هي بالضرورة شمولية. ومع ذلك، فإن الوحدانية لها أيضًا عواقب أخلاقية: داخل المدينة (سواء كانت حرة أو دكتاتورية)، لا توجد إرادة حرة للمواطن إذا كان هذا الأخير نتيجة لنظام الكون الذي يتصرف فيه. مصير أسطورة إير في جمهورية أفلاطون، كارما البوذيين، الأقدار لجون كالفين، كلها نظريات كونية تنكر حرية الإنسان. وبالمثل، جغرافيًا ونفسيًا واجتماعيًا أو الحتمية الاقتصادية، إذا لم تكن هذه النظريات أحادية بالضرورة، فإنها تعمل كنظريات أحادية لأنها تنكر الإرادة الحرة للإنسان وتختزله إلى كونها تحديدًا بسيطًا بدون مضمون، فإنها غالبًا ما تعمل مثل النظريات الكونية للقدر المذكورة أعلاه بينما تريد بوعي أن تكون عقلانيًا وخاليًا من الخرافات اللاهوتية. ان الأحادية، هي سيف ذو حدين. إذا تصرفت بشكل جيد، فأنا أتواصل مع الكون، ولكن إذا تصرفت بشكل سيئ، فإن الكون كله يدينني ويعاقبني حتى لا أستطيع فعل أي شيء لتصحيح نفسي. تفترض الأحادية الشفافية بين الموضوع والكون وقوانين المدينة. نادراً ما تكون هذه الشفافية، في الأزمنة المعاصرة، دينية بل علمية إلى حدٍ ما: فقد حلت موضوعية العلم محل إرادة الله، ويجب على الديمقراطيات الغربية، في رأينا، أن تحذر من جعل العلم (وبياناته الموضوعية) برنامجًا سياسيًا. إنها ليست مسألة إعادة تأسيس النسبية أو القوانين التعسفية، لكن العلم يريد أن يكون موضوعيًا وينكر حرية الإنسان ليحل محله الإكراه. لذلك ينكر تنوع الآراء الذي هو أساس الديمقراطية".فكيف نجعل من النضال الديمقراطي مركز الثقل في البرنامج السياسي الذي يجدر تنزيله في زمن الموجات الثورية المتعاقبة؟

معنى الديمقراطية وشروط امكان استمرارها

"اخترعت العصور القديمة الأثينية المصطلح، والمفهوم المترابط للمواطنة، في شكل اجتماعي قائم على العبودية، بحيث يكون الرجال فقط، وليس النساء، "أحرار"، أي غير العبيد، مواطنين. من ناحية أخرى، تم تصور المثالية الديمقراطية الحديثة من خلال معارضة فكرة أن السلطة تأتي من الله - ما تقوله ملكية الحق الإلهي؛ ولكن أيضًا فكرة أنه قائم على النسب - وهو ما يؤمن به النبلاء. يمكننا تحديد أن فكرة تحديد المصدر الذي تأتي منه السلطة السياسية في الشعب تتعارض مع عدد من المعتقدات وعدد من الممارسات: على سبيل المثال، الاقتناع بأن السلطة تستمد شرعيتها من تفوق القوة. الحق في الغزو؛ السلطة "الغاشمة") - أو سلطة الأغنياء، والتي من شأنها أن تمنحهم "جميع الحقوق". ان أصل الكلمة: من الشعبdemos،"الجمهور" وkratos، "السلطة"، "السيادة". نظام سياسي يقوم على مبدأ أن السيادة ملك لجميع المواطنين، إما بشكل مباشر (من خلال الاستفتاءات) أو بشكل غير مباشر من خلال ممثليه المنتخبين. يجب إجراء الانتخابات بالاقتراع العام، على أساس منتظم ومتكرر. تفترض الديمقراطية وجود مجموعة من الخيارات والمقترحات، تتجسد بشكل عام في الأحزاب والقادة الذين يتمتعون بحرية معارضة وانتقاد الحكومة أو الجهات الفاعلة الأخرى في النظام السياسي. لذلك فإن الديمقراطية لا توجد إلا إذا كان هناك "تنظيم دستوري للمنافسة السلمية من أجل ممارسة السلطة" (ريموند آرون). تتطلب الديمقراطية أيضًا الاعتراف بالحريات العظيمة: حرية تكوين الجمعيات وحرية التعبير وحرية الصحافة. من الناحية القانونية، الديمقراطية جزء من سيادة القانون. ثقافيا، يتطلب قبول التنوع. كما تتعارض الديمقراطية مع الاستبداد: الاستبداد والأرستقراطية والملكية والديكتاتورية وجميع أشكال السلطة حيث يتم استبعاد الأغلبية من عملية صنع القرار (الأنظمة الاستبدادية والشمولية). يستخدم المصطلح أحيانًا بطريقة مسيئة أو مضللة لإخفاء الديكتاتورية (مثال: "جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية"). وتجدر الإشارة إلى أن المصطلح اليوناني demos لا يتوافق مع المجموع البسيط للمواطنين الأفراد. ميز القدماء لاوس عن العروض التوضيحية. المصطلح الأول مرتبط بحشد أو كتلة بدون تنظيم، بدون وعي واضح ؛ في الحالة الثانية، إنها مجموعة منظمة من المواطنين. نادرًا ما يُستخدم مصطلح الديمقراطية قبل القرن الثامن عشر. لم ينتشر الاستخدام الحالي للمصطلح إلا بعد الثورتين الليبرالية، الأمريكية والفرنسية. ومع ذلك، هل يكفي للديمقراطية أن يكون "صوت الشعب" "مقدسًا"، أن تستخدم المثل الروماني " صوت الشعب صوت الله "؟ يظهر التاريخ أن الانقلابيين يتمتعون بشعبية بعد مصادرة السلطة لإرساء الاستبداد أو الديكتاتورية. كان هذا هو الحال مع نابليون الثالث الذي أسس النظام الاستبدادي للإمبراطورية الثانية بعد الانقلاب الذي قام به في عام 1851. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنه إذا كان بالفعل "صوت الشعب" هو المصدر الشرعي الوحيد السلطة السياسية في ديمقراطية، هذا الصوت لا يملي أي شيء في الأمور الاقتصادية والمالية. إن المفهوم الحديث للوجود المدني الديمقراطي، كما تم تطويره في القرنين السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، يفترض استقلالية السياسي فيما يتعلق بجميع سجلات الوجود العام الأخرى - وعلى وجه الخصوص ليس فقط تلك المتعلقة بالممارسات والسلطات الدينية، ولكن أيضًا في المجال الاقتصادي. لذلك ينبغي التأكيد على أن الاقتصاد الذي تحكمه المنافسة الحرة بدون مكابح لا ترتبط بطبيعته بالديمقراطية بأي حال من الأحوال. تحتفظ الملاحظة التي أدلى بها روسو في الكتاب الأول من العقد الاجتماعي بأهميتها: "في الواقع، تكون القوانين مفيدة دائمًا لمن لديهم شيء وتؤذي أولئك الذين لا يملكون شيئًا: ومن ثم فإن الحالة الاجتماعية مفيدة للبشر فقط. طالما أنهم جميعًا لديهم شيء ما، وليس لدى أي منهم أي شيء أكثر من اللازم ". في شرح مفصل لمبادئ أي مجتمع ديمقراطي، يرفض روسو في ملاحظة ما يتعلق بمسألة الثروة ويقتنع بالتشديد على أنه من المناسب للمواطنة ألا يكون هناك أحد فقير، لدرجة القلق فقط بشأن بقائها - ولا أيضًا. غني، لدرجة الرغبة في "شراء" الآخرين. يجب أن نصر: الاستقلالية السياسية تعني أن السلطة العامة هي التي تنظم الشؤون المشتركة - لا الدين وكنائسه المختلفة (كما هو الحال مع الثيوقراطيات) - ولا الاقتصاد والتمويل (هذا هو الحال مع الأوليغارشية). لذلك نرى أهمية البدء، كما هو مُحاول هنا، بعدم ترك مستوى التعريفات والمبادئ لأننا لا نستطيع الحكم على الحقائق التاريخية الماضية والحالية دون تصورات واضحة. روسو، بلا شك الأول، رأى بوضوح أن "سلطة الشعب" يجب أن تعني ليس فقط أن الشعب وحده هو المصدر الشرعي للسلطة، ولكن، علاوة على ذلك، يجب أن يُسمح لهم وحدهم بممارسة هذه السلطة. ويؤكد أنه "إذا كان روسو قد اقتصر على التأكيد على أن السيادة كانت أصلاً في الشعب، فلن يقل شيئًا أكثر من هوبز، المدافع عن النظام الملكي المطلق، الذي يرى أن: "الملكية، مثل الأرستقراطية، تستمد أصلها من سلطة الشعب، التي تنقل حقها، أي السيادة، إلى رجل واحد". على العكس من ذلك، فإن ما "يمثل حقبة"، هو التأكيد على الطابع "غير القابل للتصرف" للسيادة الشعبية: إذا لم يكن هناك حاكم آخر غير الشعب، فيجب على الأخير ممارسة السيادة بنفسه. يمكننا أن نرى بوضوح سلسلة الصعوبات التي سببتها فكرة الديمقراطية كسلطة للشعب من قبل الشعب: كيف نسمع صوت الشعب؟ كيف يمكن للشعب ممارسة السلطة؟ من هو "الشعب"؟

تتمثل الديمقراطية في ممارسة الشعب للسلطة بشكل مباشر أو غير مباشر. يتضمن هذا التنظيم السياسي حالة اجتماعية تتميز بحقيقة أن الجميع متساوون أمام القانون، وأن الجميع لهم نفس الحقوق. الوظائف متاحة للجميع، يجب أن يُدعى المواطنون إلى الحياة الفكرية والأخلاقية، وأكثر فأكثر في وضع يسمح لهم بممارسة جزء من السلطة لهم بطريقة فعالة ومعقولة يُنسب إلى الدولة الديمقراطية واجب إقامة الأعمال الإرشادية والتعليمية وأعمال التضامن. النظام الديمقراطي لديه حق الاقتراع العام كأداة له والشكل الجمهوري كإطار أكثر ملاءمة بشكل خاص. من الذي سيعلن إعجابه وتفضيله لنظام شمولي؟ حتى الحركات الدينية تدعو إلى الديمقراطية للحصول على الجنسية في البلدان أو في الأنظمة التي تتحدىها. حتى الأحزاب الفاشية والشعبوية تعتقد أن لها الحق الكامل في التمتع بالحريات الديمقراطية في التنظيم والتعبير عن نفسها علنًا، على الرغم من أنها أعداء للديمقراطية. يقول معظمهم إنه في الديمقراطية لا ينبغي "شيطنة" أحد، ولكن على العكس من ذلك، يجب أن يكون كل شخص قادرًا على التصرف والتحدث بحرية.إذا لم نعد نعارض "الحكم المطلق" - "الثيوقراطية" - "الاستبداد"- "الملكية" إلى "الديمقراطية"، من ناحية أخرى، فإن "الديكتاتورية" و "الديكتاتور" يعودان إلى اللغة المشتركة، بينما يتراجعان "الشمولية" ؛ إن نجاح هذا المصطلح باعتباره المتناقض الوحيد لكلمة "الديمقراطية" طوال الحرب الباردة يدين بالكثير لكتابات حنة أرندت. تُفرض سلسلة مزدوجة من الشروط: من ناحية، يجب أن تجد الإرادة الشعبية تعبيرًا عنها، الأمر الذي يتطلب تنظيم الاستشارات بالاقتراع. لذلك يبدو الحق في التصويت كحق سياسي رئيسي لتحديد مكانة المواطن. لكن من ناحية أخرى، لا يمكن أن تكون هناك إرادة شعبية إذا كان المجتمع يفتقر إلى كل من المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام المحايدة. فالجاهل، كما نعلم، يقعون بسهولة فريسة للتعصب الأعمى الذي يجعلهم غير قادرين على الحكم على الصالح العام بشكل صحيح؛ وإذا حلت الدعاية محل المعلومات من خلال التظاهر بوضوح بأنها كذلك، فكيف يمكن للجماهير الشعبية أن تتجنب، كما يظهر التاريخ الحديث، التملق بطاغيتها؟ من خلال "زعيمهم" الكاريزمي (الفوهرر) لا يشكلون شعبًا سياسيًا، حتى لو تمت استشارتهم اشادة أو الاستفتاء العام الأخير. إما أن يقرر الناس بأنفسهم مباشرة في ديمقراطية مباشرة أو يفوضون سلطتهم في ديمقراطية تمثيلية. لم تتوقف النقاشات أبدًا بين مؤيدي الديمقراطية المباشرة وأنصار "التمثيل". الديمقراطية المباشرة، أو يقرر المواطنون المجتمعون بأنفسهم، بشكل مباشر، في كل ما يتعلق بالصالح العام. لا يجب عندئذٍ استدعاؤهم بانتظام فحسب، بل يجب أيضًا "استدعاءهم" دون توقف، نظرًا للطبيعة غير المتوقعة للظروف. الديمقراطية التمثيلية أو المواطنين يقررون، ولكن بشكل غير مباشر، من خلال ممثليهم، وهو أمر يمكن تصوره لمستويات متعددة من الوجود الاجتماعي. التمثيل يؤسس الشعب كشعب سياسي، ويؤسس كلاً من الممثل، على سبيل المثال الملك، والممثل، الذي هو دائمًا الشعب. وهكذا في المسرح، من خلال التمثيل، يظهر كل من الممثل (الممثل في عملية العزف) والممثل (هاملت على سبيل المثال) إلى الوجود. ومع ذلك، يرفض روسو هذا النوع من المصطنعة ويرى في تفويض السلطة إلغاءها. على العكس من ذلك، حسب رأيه، في صفة كل فرد أن يكون في نفس الوقت "سياديًا"، أي مشرّعًا، و "خاضعًا"، أي مطيعًا للقوانين، أن الجنسية تكمن. ليست الحرية الميتافيزيقية بأي حال من الأحوال، بل الحرية المدنية والسياسية التي ينظر إليها روسو وحده عندما يعلن أن هذا يتمثل في "طاعة القانون الذي يمنحه المرء لنفسه". " في الديمقراطية المباشرة نفس "ذات سيادة" و"رعايا". في الديمقراطية النيابية، يفوض "صاحب السيادة" لممثليه السلطة التشريعية المنوطة بمجلس نواب الشعب، ويبدو أن مناشدة المواطنين المجتمعين هي أفضل طريقة لتجنب الاستيلاء على قرارات الشعب. ومع ذلك، فإن هذا المظهر يتناقض إذا فكر المرء للحظة في ظاهرة جماعية، والتي تحدث حتى في مجموعات صغيرة: المنافسات، والحيل، وظهور "القادة" - بشكل عام الأكثر فظاظة، أولئك الذين يتحدثون بصوت عال، يعرفون كيفية جذب الناس. رأي. ولأن أفلاطون تحديدًا بين كل الديمقراطية والديمقراطية المباشرة، فقد كان أكثر قتلة لها: لقد رأى بوضوح شديد أن الأكثر عنفًا والأكثر استبدادًا استحوذ على عواطف وآراء الآخرين ورأى بصعوبة. على الرغم من أنه إذا كان رأي الجميع كذلك من المفترض أن تكون شرعية، لم يعد هناك صواب أو خطأ - لا صواب أو خطأ، صواب أو خطأ. الجاهل سيكون على حق ضد المتعلمين، والأطفال ضد تجربة المسنين، والبلطجية ضد الرجال الشرفاء، وهكذا، حتى يسود ميزان القوى في النهاية. وهكذا، فإن أثينا، التي أصبحت فريسة الديماغوجيين عن طريق الديمقراطية، غرقت في الطغيان، وبالتالي ستبقى الديمقراطية التمثيلية. رأى روسو في هذا، وليس بدون سبب، الخطر الكبير المتمثل في أن ممثلي الشعب يخلطون بين مصلحتهم والمصلحة العامة، أو أنهم يطيعون مصالح مجموعات معينة. ومع ذلك، يمكن تقليل هذا الخطر بشكل كبير إذا تم انتخاب ممثلي الشعب لفترات قصيرة - وخاصة إذا تم وضع مؤسسات للتحكم في قراراتهم وأفعالهم (مع سلطة تقييد واضحة في حالة الخيانة أو الاختلاس). الخطر الرئيسي الآخر هو أن ممثلي الشعب يصبحون محترفين في السياسة، وهو ما يمكن فهمه بمعنيين مختلفين للغاية. هذا لأن التسويق الإعلاني يتطلب خبرة ومهارة بطريقة مختلفة تمامًا عن فن السياسة. لالتقاط المشاعر والمعتقدات، لا تحتاج إلى شعب بل جمهور - ليس مواطنين، ولكن مستهلكين للصور. لذلك من الضروري معرفة كيفية إثارة التخيلات المغلفة ضمنيًا بعناصر اللغة والشعارات وتسريحة الشعر ولون ربطات العنق والأزياء. من ناحية أخرى، إذا أفسحت تقنيات التقاط المشاعر المجال للعلوم السياسية، فإن إدارة الشؤون العامة لم تعد مجازفة بأن تكون ديمقراطية بل، بالمعنى الدقيق للكلمة، "أرستقراطية" كحكومة من أكثر الحكومات علمًا، "الأفضل. ومع ذلك، فإن اعتناق العقيدة الديمقراطية يسير في اتجاه معاكس تمامًا: فهو يمنح الجميع القدرة على الحكم على المصلحة العامة بشكل صحيح، والتي يتم التعبير عنها من خلال المساواة في الأصوات. سواء كنت غنيًا أم فقيرًا، قويًا أم لا، مشهورًا أو مجهولًا، فإن بطاقة اقتراعك تحسب صوتًا واحدًا، مثل صوت أي شخص آخر: لا يوجد خبير في السياسة. هذا هو السبب الذي يجعل "الناخبين"، في الديمقراطية، "مؤهلين": الوصول إلى المناصب السياسية مفتوح للمواطنين. ومع ذلك، يبقى الناس، ويمارسه الناس أنفسهم، يقول إنه من الضروري التساؤل عما هو يقصده الناس. كيف يصبح السكان شعبا سياسيا؟ هناك نوعان رئيسيان من الإجابات: من ناحية أخرى، من خلال السؤال عن معرفة ما هو أساس التماسك الذي بدونه لا يمكن أن تكون وحدة الشعب كـ "هيئة سياسية" ممكنة (الإجابة من خلال أسس المجتمع السياسي ) ؛ من ناحية أخرى من خلال مسألة أغراض الوجود المدني (الذي يسأل المجتمع "لماذا"؟) ما هو الشعب السياسي؟

السكان ليسوا شعبًا سياسيًا: هذا التمييز هو الذي يفهمه هوبز، على سبيل المثال، عندما يراعي نفسه في الفكر مع حالة الطبيعة، والتي يجب، حسب رأيه، أن تُصوَّر على أنها حالة طبيعية. الكل ضد الكل. وبالمثل، عندما تصور روسو المجتمعات الأولى على أنها تجمعات عشوائية بسيطة خالية من جميع الحقوق، فإنه ينوي الإشارة إلى أن تجاور الأفراد في منطقة ما لا يجعل هؤلاء الناس شعباً. نحن نتحدث عن "الناس" من حيث "الجسم" السياسي - أو "الجسم" المدني للإشارة إلى أن فكرة السياسيين تغلف فكرة وحدة التعددية: المصلحة العامة، في الواقع، تسمح للكميات تعيش.من مجموعات معينة مع مصالحها المتنوعة، ولكن لا يوجد تماسك اجتماعي إلا إذا كانت هذه المجموعات والمصالح الخاصة لا تتعارض مع المصلحة العامة. وبالتالي فإن العلاقة بين المصلحة العامة والتماسك ستكون بالضرورة دائرية ؛ على العكس من ذلك، نفهم كيف أنه إذا كانت النزاعات بين مجموعات معينة (التي هي أجزاء من المجتمع) هي السائدة فقط، فإن الوجود الاجتماعي يصبح مجزأًا إلى درجة تدمير أي منظور عام. عندما لا يكون هناك سوى فصائل متنافسة في السلطة، فلا يوجد شعب سياسي، ولكن ما يسميه سبينوزا العزلة، أو "الصحراء". لأغراضنا، يكفي أن نفهم فقط ما هو أساس الاحتمال. كشعب يصر على تعايش الحريات. "التعايش" وليس "القيود المتبادلة". ومع ذلك، فإن الحريات الطبيعية للأفراد لا تتعايش إلا عندما تتحول إلى حريات مدنية، أي إلى حقوق فردية يكفلها حكم القانون. وترتبط طبيعة الجسم المدني بمسألة أخرى: وهي غايات الوجود في المجتمع. في ضوء أي وجود اجتماعي؟

خاتمة

يمكن اختزال وجهات النظر في العمل في تاريخ الفكر إلى مسارين رئيسيين: إما أن تكون الاحتياجات الحيوية هي التي تتطلب ضرورة تكوين المجتمع لأنها تتطلب التعاون، الطوعي أو غير الطوعي، من جميع أنواع المهام لتطوير التقنيات المطلوبة لإنتاج وصيانة وتوزيع البضائع - وهو ما قالته الأسطورة الأفلاطونية القديمة لبروتاغوراس جيدًا. لذلك فإن الغرض من المجتمعات هو الأمن، أو ما يسمى الرفاهية. الوجود المشترك في هذه الحالة ليس له نهاية ؛ إنها فقط وسيلة لضمان البقاء. كما ترتبط هذه النظرة السياسية بفرضيتين أخريين: من ناحية، تعد البشرية نوعًا ماديًا تتميز احتياجاته الخاصة بكونها قابلة للتمدد إلى أجل غير مسمى ؛ من هذه الملكية سيتبع الافتراض الثاني الذي يدعي أن الرجال سيكونون بالضرورة فريسة لرغبات الممتلكات والمتعة والسلطة مثل المنافسات، "حرب الكل ضد الجميع" لا يمكن كبحها إلا من خلال الهيمنة الحديدية. عندما نرى أن الأنثروبولوجيا المهينة مرتبطة بآراء سياسية سلطوية، فإن المسار الذي يمكننا تسميته بالعقلانية فقط هو الذي يتوافق مع المثل الأعلى الديمقراطي. يرى كل الفكر العقلاني الكلاسيكي (أي القرنين السابع عشر والثامن عشر) في الإنسانية، ليس فقط بالطبع، الوجود المادي لنوع حي، ولكن أيضًا وجودًا يسمى "أخلاقيًا" ؛ كل ما يمس مسألة معنى وقيمة الوجود الذي يقود المرء، ينتمي إلى الإنسان "الأخلاقي". يعرّف كانط الإنسانية على أنها نوع أخلاقي من خلال القدرة على تخصيص غايات أخرى غير الطبيعية (والتي تتكون بدورها من السعي لإشباع الحاجات والرغبات.) هذه القدرة تحدد بدقة حرية الإنسان.وبالتالي يرى كيف أنه من الضروري الإيمان في الحرية من أجل تصور الديمقراطية والدفاع عنها ؛ إذا كان المرء يؤمن فقط بالاحتياجات والرغبات، فإن "الاستبداد المستنير" سيكون كافياً بشكل كبير - ولكن أيضًا، للأسف، الاستبداد والاستبداد بدون عبارات، ذلك الذي يتبنى المبدأ القديم للأباطرة الرومان، "الخبز والدوائر" - الخبز والألعاب! بهذا، يُفترض أن يسكت الجمهور ... لأن الديمقراطية تقوم على الإيمان بالحرية، لأنها تؤسس الحريات وتضمنها وتحميها، فإنها تظهر وفقًا لمفارقة تشرشل على أنها أسوأ نظام غذائي، رغم أنه لا يوجد أفضل منها. الاتصال أكثر من الانهيار في الديمقراطية بالنسبة لتوكفيل، لا يمكن ولا ينبغي إعاقة المسيرة نحو الديمقراطية. وإلا فإنها تخاطر بالتسبب في اشتباكات عنيفة بين أفراد المجتمع (دفعت عائلتها ثمناً باهظاً في الثورة الفرنسية). هو بالأحرى تعبير عن انفصال بين تطور قيم المساواة من جهة والنظام السياسي الذي لم يتطور في هذا الاتجاه من جهة أخرى. يُظهر توكفيل أن ظهور الديمقراطية لا يشكل قطيعة مع نظام القديم. وهكذا استمرت بعض المؤسسات المركزية مثل محكمة المقاطعة بعد سقوط النظام الملكي. من المفروض ان تتم عملية "معادلة الشروط" التاريخية لضمان استمرارية الديمقراطية وتفادي عودة الاستبداد ومع ذلك، لا يحلل توكفيل الديمقراطية على أنها تجديد بسيط للنظام القانوني والسياسي، حيث تكون المساواة بين المواطنين شكلية فقط. تنبع الديمقراطية السياسية مباشرة من تطور لا يمكن إصلاحه للمجتمع بأسره وقيمه: إنها عملية تاريخية يسميها "تكافؤ الشروط". توكفيل يجعلها سمة مميزة للمجتمعات. يمكننا الاحتفاظ بثلاثة أبعاد لـ "معادلة الشروط":

- حقوق متساوية: يخضع جميع المواطنين لنفس القواعد القانونية

- تكافؤ الفرص: المواقف الاجتماعية مفتوحة للجميع حسب الجدارة وبغض النظر عن أصلهم الاجتماعي

- المساواة في الاعتبار: يمثل كل مواطن نفسه على أنه مساو للآخر حتى لو اختلف وضعه الاقتصادي والاجتماعي. إذن فالأمر يتعلق بحالة ذهنية، إنها القيمة الأساسية للمجتمعات الديمقراطية.

هناك علاقة جدلية بين تكافؤ الظروف والديمقراطية، بقدر ما يكون صعود الشعور بالمساواة هو ركيزة الديمقراطية. وهذا بدوره يعمل على البحث عن مساواة اجتماعية أكبر بين أعضائها. فمتى نرى الديمقراطية صلبة العود وضامنة للأساس الوجودي لاستمرارها؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

في الأكثرية والأغلبية وإرادة الأمة والحاكمية الإلهية ووضعية فقهنا السياسي

عندما نتناول بعض القضايا الأساسية المتعلقة بالحكم والسياسة (الإمامة والسياسة) ينبغي أن لا نقيسها بأحد العقول في تقابل ضدي وهما العقل التراثي والعقل الغربي ...

أو بالتبسيط والإختزال والإنطباعية والتبعيض والقفز على السياقات وتصنيم الموروث أو تراث الاخر وتقديس الإجتهاد البشري ورفعه إلى درجة الوحي...

إن موضوع الشورى يرتبط بقضايا عديدة وبدراسة لميكانيزماتها وكيفية إشتغالها في النموذج التطبيقي التاريخي الإسلامي البشري من بداية ميلاده إلى إخفاقاته إلى تحوله إلى حكم وراثي...الخ..

و هو يرتبط أيضا بما دون وشاع في تراثنا على قلته وضعفه وندرته وقلة جودته مما نجده في الفكر السياسي الإسلامي وما سمي بالسياسة الشرعية..

فقد تغلب ما يسمي بفقه العبادات على الفقه السياسي والدستوري والإداري الذي بقي باهتا أو شبه معدوم أو لم يصلنا..

و من ثمة ضرورة إنفتاح العقل القياسي حتى يستقيم قياسه ومقارنته وتحيينه على التجارب الإنسانية رغم تعثراتها وانزلاقاتها بما لها وما عليها بخصوص التجربة الديمقراطية والديمقراطية التشاركية ودور البرلمانات والمجالس المنتخبة والنقابات وصهاريج الافكارو الجمعيات والمنظمات غير الحكومية وقارتي الاعلام والمعلوماتية والمجتمع المدني ودوره...الخ..

فهي لا تتوقف على مراجعة لالياتها وأسسها ونقائصها وعوراتها وأعني التجربة الديمقراطية ...

عنوان نفكر في ونفكر ب عنوان يشمل كل مفاصل الحياة بل التفكير في اللامفكر فيه وبه أيضا بات موضوع نقاش وهي مقولة يتسرع بعض الناس في حكمهم على من يذكرها وتصنيفه أركونيا أو مستلبا بالمفهوم السلبي وهذا من أفعال العقل التصنيفي للأسف الذي يعيق عن التقدم. والمقولة تتعدى أركون انظر مثلا كلود لوفور وغيره ..

 نفكر الاسلام  نفكر العالم  نفكر الحداثة  نفكر السياسة  نفكر الإلحاد  نفكر العقل  نفكر ظاهرة الخيانة والجين والايطيقا والموت والحياة  نفكر التربية  نفكرالعالم الإسلامي والعربي والغربي وأوروبا ..الخ..بل نفكر كل شيء ...

...penser ..penser le monde ..penser l'avenir ..penser l'europe ..penser l'islam ..penser soi méme ..penser l'autre

و نحن للأسف كل شيء مقدس يسترجع من غير تفكير ونقد وتحليل ومراجعة...

على العقل العربي الاسلامي أن يكتشف الاخر ويقيس تلك الفوارق الكبرى التي توقظ وتصدم العقل العربي والاسلامي الذي يتحدث عن الشورى بصورة فضفاضة وهلامية في مخابىء التراث دون إلتفاتة إلى المنجز الغربي المختلف...

يجر تراثا فيه من المفاسد بلغة الفقه كما فيه من المحاسن التي يقدر حسنها في سياق معين ومحدد..

ينبغي أن نتلمس ونبحث بعمق وذكاء ووافر إطلاع على الذات و الاخر في كل ما يرتبط بموضوع الشورى والأكثرية من تراث وصلنا..

مع إنحسار مقولات إرادة الأمة و الأمة مصدر السلطات واتساع مقولة الله مصدر السلطات والتي تختصر في فهوم البعض في إرادة الله و الحاكمية الإلهية موضوعان مثيران للقلق قلقا لا يحسمه ببساطة هكذا للأسف إلا من كان بلغة القدامى عارية على الدين والفقه والتراث ومنجز الإنسانية في حين يهجر هذه الثغرة المجددون المقتدرون من النخب القليلة وهي ثغرة متروكة عارية.

لا يقرأ التراث من سمة وصفة كينونته المزايدات وبنيته النفسية نزاعة للإنغلاق والحسم المتعجل البسيط السطحي ومن كان عقله مشفرا يتقبح على الناس تكفيرا وتفسيقا وتتفيها ويجزم ويحسم في وثوقية ويقين مفتخرا بذلك طاردا ورافضا كل شك وتردد وسؤال...

ولا يقرأ التراث من لم يفهموا التراث بإستنارة أو الذين إختزلوه وتعاطوا معه بعقل إنطباعي قياسي فقهي يقفز على السياقات التاريخية او عقل هجين ملفق بعنوان التثاقف...

ويفرض علينا إستهلاك ما انتهت صلاحيته في سياق محدد ويلومنا بما ليس من مقولة الديني بل من مقولة فهم الديني والمطلق وهو دنيوي محايث خالص يمكن مراجعته أو تركه...

ومن خلال مبدأ الحاكمية الإلهية الذي إنزلقت فهوم الناس إليه ننزلق نحو فهوم كهنوتية تمنح مبررات لمن يتهمون الإسلام بالثيوقراطية ويشرع للدولة الثيوقراطية بامتياز مختصرا الاسلام في ايات الحكم وعلى رأسها من لم يحكم بما انزل الله .. قرآن

إن الأكثرية والأغلبية ليست مشكلة صواب وخطأ أو مشكلة الحقيقة بل قيمة أساسية تطبع الأداء السياسي الدنيوي وتحميه من الإستبداد والتفرد بالحكم باسم الدين أو التاريخ أو العلم ولا يجب أن نتعدى هذا الإعتبار...

إن إحترام مبدأ الأكثرية يصون حماة الثوابت اليوم وغيرهم ويطمئن العالم والناس أيضا ويرفع عن تيار الأصالة والدين تهمة أنهم يستخدمون الديمقراطية لينقلبوا عليها ويمارسوا بعدئذ مقولاتهم التراثية التي يؤمنون بها لبسط تفردهم واستبدادهم...

كما أن موضوع احترام الأكثرية يعلم الناس كيف أن للمدرسة دور هام وللجامعة دور مهم وللمؤسسات التثقيفية والدينية دور لا يقلل من قيمته في بناء الوعي الجمعي وصناعة العقل والسلوك الحر والمستقل والإرتقاء بالكسب والفهم والوعي...

و يجعل المجتمع يتقن ويحسن اختيار ممثليه الذين يشكلون هيئة الشورى عبر اللجان التقنية أولا التي تفحص الاراء عبر الخبرة ثم الهيئة العامة ثانية بحيث تتقلص احتمالات الخطأ والرأي الفاسد بما يمنع التفرد بالرأي والإستبداد تحت أي مبرر كان...

ينبغي التمييز بين الرأي التقني العلمي الدقيق المتعلق بعلوم المخابر وهندسة الطرقات والراي العلمي الإسلامي والإنساني وغيرهما.. الخ وبين الشأن المتعلق بالحكم وإدارته والشأن العام...

بل بات من مقتضيات الديمقراطية الصحيحة والياتها وأذرعها ما يسمى بالتنمية المستدامة او الدائمة وكذلك من بين اليات وأدوات اشتغالها العمل الجواري او المقاربة الجوارية التي تحولت الى هرف أي ثرثرة على المنابر للأسف وشعارات فضفاضة تنمق خطاب الباحثين والسياسيين والحكام عندنا وهي تقليد عملي في الحكامة والحكم عند غيرنا ومنها استشارة الناس عامة حول الخيارات الممكنة في كل ما يتعلق بالمشاريع الهامة التي تخدمهم وتمثل أولوياتهم...

و هو شكل من الاقتراب من الناس واشراكهم في القرار وهذا من الاجراءات التي اضيفت لترافق الممارسة الديمقراطية او التشاركية حتى تتقلص الهوة بينهم وبين الناس والمجتمعات لعزوفهم عن السياسي وهذا موضوع اخر...

عند إستجماع هذه الشروط يمكن ربما الجهر بأن رأي الأكثرية البرلمانية التي تعكس حقا إرادة الاكثرية إن إفترضنا فساده هو أهم من رأي صالح أتى به فرد متفرد لا نراه إلا يشق الطريق نحو الإستبداد...

لا مكان للرأي الفردي ولو صدر عن كبير علماء القوم في نظرهم ومن شيوخهم وكبار المختصين فهو رأي مكانه الكتب وحلقات النقاش ومخابر البحث والجامعات تعود إليه النخب ويعتمد عليه في المؤسسات المعنية ويعبر من خلال قنوات التفكير والتخطيط وصناعة المشاريع من أحزاب وجمعيات وكل من يتنافسون في معركة التمثيل النزيهة أو تلك المخولة لتمثيل الشعب ونخبه والتكفل بالمهمة التشريعية والمنبثقة حقا عن إرادة الشعب الفعلية...

أما الذين لم يتمكنوا من الوعي بالسياق وأهميته ويفكرون خارج التاريخ تفكيرا أسطوريا فعليهم أن يدركوا بأن المعرفة كما يقول جورج غورفيتش لها أطر إجتماعية - معرفية وكما يقول غيره لها زمن ثقافي ولحظة ثقافية...

كثير من الفكر التراثي القديم هو إجتهاد مرتبط بالسياق لا يعلو فوق النقد العلمي المفكك لبطاناته السياسية والايديولوجية محررا لدلالاته في السياق متجاوزا إياه لضرورات اللحظة الراهنة...

فلا نمكث مكاننا نستدعي اليات قديمة توفر اليوم ما هو أفضل منها بل علينا أن نشجبها ونستوعبها في إطار رؤية جديدة تمنحها محمولا أخلاقيا ومقاصديا وحضاريا مناسبا ومحينا أو نتجاوزها كلا أو بعضا ...

لم يعد اليوم يجدي نفعا اللجوء إلى مقولات أهل الحل والربط والإستمرار في النقاش حول هل الشورى ملزمة أم معلمة وهل رأي الأكثرية أم رأي الأقلية وهل دولة الإسلام تقوم على الحاكمية الإلهية وهل مقولة الأمة مصدر السلطات تنافي قيم الإسلام ومقاصده الكبرى ومقولة الديمقراطية كالية أو ميكانيزم وتقنية مجردة من علمانيتها الصلبة المعادية للدين هي خطر بليغ على الأمة الإسلامية أو هي كفر بواح...

لم يعد ممكنا الإنزياح بنقاشات قديمة غير مجدية اليوم نفعا بدل تطوير فقه سياسي جاد وعميق وراهني قائم على طرح عميق وقوي يستوعب التجارب الإنسانية ويتجاوزها نحو بديل قوي يغري العالم والإنسانية...

نعم لأننا مطالبون بحكم عالمية الرسالة أن نخاطب الناس لعلهم يغنوننا عن ذوينا الذين ينقلون لنا تراثا بشريا تتجلى لا راهنيته وتخلف مقولاته عن اللحظة الراهنة لا يتوقفون عن تكرار مقولة لا يصلح اخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وكم في هذه المقولة من مخابىء للجهل المقدس...

إن الأكثرية والأقلية مقولتان ترتبطان بموضوعات كثيرة رئيسة لابد أن نعود إليها وكذلك أيضا مقولة طبيعة الدولة والحكم في الإسلام ومقولات الجبر والإختيار والحق ومدى سلطان الدولة في تقييده (عنوان لمبحث أصولي تقليدي علمي صاحبه فتحي الدريني) لكن بتوسع وطرح مختلف مغاير يشمل كل قضايا الحق والعنف الرمزي واحتكار الدولة للعنف ومقولة مجتمع اللادولة على نحو ما ذهب إليه بيار كلاستر وهي حالة أوغلنا فيها بل يضاف إليها مجتمع اللامجتمع . ..الخ

إن الأكثرية والأقلية ليست مهمة العقل الانطباعي التأملي اللاعلمي الذي يفتش فقط في التراث عن حلول لواقعه أو في الغرب وحده عن حلول لراهننا ولحظتنا..

فليس هذا من مقتضيات الاستخلاف الحضاري بمفهومه الإسلامي - الكوني...

ذلك أن العقل الانطباعي التأملي عقل سطحي تبعيضي ينتزع الواقعة التاريخية من سياقها ويمنحها القدسية ويريد أن يجعلها من ملهمات عقله وهو يهربها تهريبا من فضاء إشكالي لأمة قد خلت ويحتثها من سياقها...

هل تراني أقفز على كل التراث كلا أبدا بل أمنحه وظيفته وحجمه الحقيقي الذي لا يحوله إلى مطلق إلهي بل إلى مرتكز خبراتي بشري في فهم النص للاستئناس والقراءة والتحليل والنقد والتجاوز والأخذ منه بيقظة والترك منه بفهم رفيع وتبرير وعلم متنوع ووافر...

إن العقل التجزيئي والتبعيضي والانطباعي والتأملي والتراثي والاغترابي وغيرها كلها استلابات بالمعنى السلبي والهييمني لا تسعفنا اليوم...

***

حمزة بلحاج صالح

لماذا الحرية الأكاديمية مهمة جدا وفي نفس الوقت لا يطالب بها احد؟

هل هناك حدود مشروعة للحرية الأكاديمية؟

ما هي بالضبط العلاقة بين الحرية الأكاديمية وحرية التعبير بشكل عام؟

لا يمكن إنكار أن الحرية الأكاديمية هي أساس المشروع الاكاديمي السليم، ولكن عندما يتعلق الأمر بالتخصصات الاكاديمية كعلوم الاجتماع والنفس والتربية والتاريخ والاقتصاد والفلسفة والتي تبحث في ألافكار والمفاهيم والقيم، تصبح القضية أكثر تعقيدا واهمية. فقد تعتبر جهات معينة تفسيرا معينا لحدث ما تفسيرا مسيئا وخطيرا. في هذه الحالة، ما الذي يمكننا فعله للحفاظ على الحرية الأكاديمية عندما تعتبر جهات معينة بداخل الجامعات تفسيرات معينة للأحداث الاجتماعية او التاريخية اساءة او اعتداء او كفر. بصراحة، تصبح المشكلة أكثر حدة عندما تكون هذه الجهات مجرد قوة مسلحة بدون سلطة رسمية، ولكنها تمثل تيارا سياسيا او اجتماعيا رئيسيا، وبهذا تكون لديهم القوة للرقابة على ما يثار ويناقش من الحجج والموضوعات والتفسيرات.

يتمثل الرأي السليم في أن الحرية الأكاديمية هي قيمة اساسية، أي شرط ضروري لتحقيق قيم أخرى، مثل الكشف عن الحقيقة او تحقيق إنجاز علمي. وبالتالي، فإن أي تقييد للحرية الأكاديمية يمثل حاجزا غير مباشر أمام تحقيق القيم الجوهرية، والتي تشكل سبب وجود الجامعة. فالعمل التعليمي الاكاديمي بحسب د. سعيد اسماعيل علي (2005) ”ليس مجرد تزويد الطالب بكم من المعارف والمعلومات، وإنما الجامعة ” بيئة ” اجتماعية وثقافية ذات مواصفات خاصة تسهم في إعادة صياغة الإنسان".

لكن ما هي الحرية الأكاديمية بالضبط؟ ما الذي يجوز لنا أن نقوله ونعمله وماذا لا يمكن ان نقوله ونعمله؟ هل تتيح لنا الحرية الأكاديمية الإدلاء بتصريحات فظة وخبيثة أو الإساءة الى احد عمدا تحت ستار البحث العلمي؟ علاوة على ذلك، هل لنا الحق في اقتراح نظريات وأفكار وحجج مسيئة باسم الحرية الأكاديمية؟

نحتاج اولا إلى تعريف واضح للحرية الأكاديمية. يمنحنا بحث غوغل البسيط بعض هذه التعريفات: "الحرية الأكاديمية هي حرية الباحث في التعبير عن الأفكار دون التعرض لخطر التدخل الرسمي أو الحرمان المهني". أو: "الحرية الأكاديمية هي حرية التدريسيين والطلاب في التدريس والدراسة واكتساب المعرفة دون أي تدخل غير معقول أو دون أي قيود قانونية أو تنظيم مؤسسي أو ضغط عام. من بين عناصرها الأساسية حرية التدريسيين في البحث عن أي موضوع يهمهم فكريا، وفرصة لعرض نتائج أبحاثهم على طلابهم وزملائهم وعامة الناس، ولنشر بياناتهم واستنتاجاتهم البحثية دون رقابة، وأن يدرسوا بطريقة يعتبرونها مهنية صحيحة. بالنسبة للطلاب، تتمثل العناصر الأساسية لحرية التعبير في حرية دراسة أي موضوع يهمهم، والتوصل إلى استنتاجاتهم الخاصة، والتعبير عن آرائهم حول هذه الموضوعات" (موسوعة بريتانيكا). من هذه التعريفات، يمكننا أن نستنتج دون أي صعوبة جوهر الحرية الأكاديمية. هي حرية البحث في أي موضوع دون التعرض لخطر النبذ أو العقاب بسبب الاستنتاجات التي قد تتوصل إليها.

في الحقيقة تحدد طبيعة الأشياء التي نتحرى عنها طبيعة البحث الذي نقوم به. حقيقة أن العلوم الطبيعية تبحث في الأشياء الجامدة أي الأشياء الخالية من الإرادة الحرة والعقلانية والعواطف تحمي الباحثين من المشكلات التي تنشأ في العلوم الاجتماعية والفلسفة والعلوم الإنسانية. التحديات التي تواجه حرية التعبير الناتجة عن طبيعة الأشياء التي تبحث عنها العلوم الاجتماعية هائلة. القيود الأخلاقية الأساسية الذي يواجهه الباحث هو أنه يجب عليه فصل آرائه الشخصية وقيمه وتحيزاته وصورته النمطية ومصالحه عن الحياد العلمي أو الموضوعية. وبشكل أكثر تحديدا، ما نؤمن به كبشر حول حقائق وأحداث ومواقف معينة لا ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار عندما ننخرط في البحث العلمي الذي نحاول فيه إيجاد تفسيرات معينة أو إظهار بعض الارتباطات أو اختبار مجموعة من الفرضيات.

في هذا السياق، السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكننا اقتراح أي نوع من الفرضيات التي نعتبرها ذات صلة، أو على العكس من ذلك، هل هناك سلسلة من الفرضيات التي لا ينبغي لنا أبدا صياغتها؟ على سبيل المثال، هل يسمح للاكاديمي ان يبدي رأيا معارضا لمشروع لائحة تنظيم المحتوى الرقمي والتي من شأنها تهديد الحق في حرية الرأي والتعبير والتضيق على الحريات في الفضاء الرقمي؟ وما هو قدر الجرعة المسموحة للتدريسي من المساءلة والتشكيك في عقيدة او فكر لغرض ممارسة قدر من التفكيك والتحليل العلمي ومن دون التعرض للملاحقة القانونية او التهديد بالقتل؟ وهل يمكن للتدريسي من انتهاج اسلوب مغاير للتعليم عبر التلقين والتكرار ودراسة الكتب الكلاسيكية وباساليب تدريس تقليدية عقيمة دون تفاعل مع الطلاب (محمد الربيعي، 2018)؟ وهل الخروج عن نمط ثابت ومبرمج في التدريس او الامتحانات والتخلص من فكرة قديمة هو عمل ضد الادارة العليا "السامية والنبيلة"؟ وهل يُسمح للاقتصادي، في حريته الأكاديمية، بمحاولة إيجاد علاقات متبادلة بين الاقوام والشعوب والتنمية الاقتصادية؟ أم بين العرق والقومية والذكاء والأداء الأكاديمي؟

وفي هذا الصدد يطرح د. محمد سعد برغل (2021) سؤالا جوهريا  وهو: هل تمثل علاقة الأستاذ الجامعيّ بالدرس والطلاب ترجمة أمينة للسياسات الحكومية التي تختار مناهج التعليم العالي وتحدد مقاصده وآلياته بحكم أنّ ميزانية الجامعات تأتى منها، وهو ما يمكّنها  بالتالي من إحكام قبضتها على السياسات الأكاديمية وإزاحة كلّ الموضوعات التي ترى فيها خطرا يهددّ وجودها؟

في الواقع اتجهت الجامعات العربية منذ نشوئها إلى تضييق حدود الحريات فكبلت التدريسي بقيود الرقابة والمحرمات والمقدسات، ومنعت عنه حرية التعبير عن آرائه، وغرست فيه الخوف من النقد، ودربته على الاستلاب الفكري وقبول الواقع وأبعدت عن عقله فكرة مقاومة السلبيات الاجتماعية والاقتصادية والفساد السياسي، ودرَّبته على الثناء والمديح (سمر روحي الفيصل، 1996، خالد صلاح محمود، 2015). وحسب ما كتبه د. عبد الفتاح ماضي (2012) فان الجامعات العربية تعاني من الانغلاق الفكري والبحثي لكثير من اساتذتها وباحثيها، باكتفاء البعض بما تعلموا في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه، أو في بحوث الترقية، وعدم الانفتاح على مدارس فكرية جديدة أو محاولة اكتساب معارف جديدة.

يتعلق التمييز الاول للحريات الاكاديمية بحقيقة أنه يكاد يكون من المستحيل رسم خط فاصل واضح بين الحدس الشخصي والعناصر الذاتية الأخرى، من ناحية، وعملية البحث العلمي، من ناحية أخرى، والتي، على الأقل من الناحية النظرية، يجب أن تكون موضوعية تماما. يتعلق التمييز الثاني بالقيم التي يجب أو لا يجب على التدريسي أو الباحث الالتزام بها. في السنوات الأخيرة، شهدنا في العالم الأكاديمي الغربي عملية تم فيها إلقاء اللوم على الكثير من الأساتذة بسبب قيمهم الشخصية ووجهات نظرهم للعالم. جادل بعض الأشخاص وفئات اجتماعية معينة بأن الأشخاص الذين يلتزمون بقيم سياسية ايديولوجية محددة لا ينبغي السماح لهم بأن يكونوا مدرسين أو باحثين. منطق هذه الحجة هو: للحصول على وظيفة مدرس، لن يكفي تلبية معايير أداء معينة، لكونك ستفي، في نفس الوقت، ببعض المعايير الأيديولوجية أو العقائدية، وعندها سيكون هناك تعارض بين معايير الاداء الاكاديمي والمعايير الايديولوجي .(Charlotte West, 2021)

حقيقة أن طريقة التفكير هذه تدفعنا نحو فهم سلطوي للجامعة  حيث ترتبط هذه المسألة ارتباطًا وثيقا بفهمنا للحرية الأكاديمية. ما هو بالضبط دور الجامعة في مجتمعاتنا الحديثة؟ هل دور الجامعة يتركز في تعزيز البحث العلمي واكتشاف المعرفة والتحصيل الدراسي؟ أم على العكس من ذلك دور الجامعة في تعزيز قيم مثل العدالة الاجتماعية والمساواة؟

إذا كان دور الجامعة هو تعزيز الاكتشاف والابداع العلمي، فمن المشروع اعتبار الحرية قيمة مفيدة تخلق الظروف اللازمة لتحقيق القيم الجوهرية، مثل الحقيقة العلمية والإنجاز الأكاديمي. من ناحية أخرى، إذا كان دور الجامعة هو تعزيز تحقيق القيم الجوهرية بخلاف تلك المذكورة أعلاه، فقد لا تشكل الحرية الأكاديمية قيمة مفيدة فيمكن أن تحل محلها اليات أخرى، مثل الرقابة أو التدخل من أعلى إلى أسفل لسلطة رسمية لتحديد مواضيع الدراسة، واستنتاجات البحث، ومحتوى المناهج والمقررات، وهذا ما يحصل فعلا في الدول الدكتاتورية. ويبدو لي ان من اهم المبادئ التي يجب على الجامعات العراقية والعربية تبنيها كأسس عامة هي حق الاستاذ الجامعي في حرية التفكير التحليلي النقدي والمبادرة والتجديد وجعله قادرا على الجمع بين ضروريات التدريس والبحث العلمي والادارة الوظيفية والاكاديمية (محمد الربيعي، 2007).

دعونا نذكر بإيجاز ثلاثة أسباب تجعل دور الجامعة يجب اساسا أن يكون لتعزيز البحث العلمي واكتشاف المعرفة، وليس فضاء لتجانس القيم ووجهات النظر. أولاً، لا يوجد إجماع حول القيم التي يجب أن تروج لها الجامعة، وبالنظر إلى الطبيعة التعددية للمجتمعات الحديثة، سيكون من غير الواقعي التفكير في أننا سنصل إلى مثل هذا الإجماع. ثانيا، الجامعات بطبيعتها مؤسسات يجب أن تكون محايدة فيما يتعلق بالاختلافات في الرأي والقيم وبالعلاقة مع التدريسيين والطلاب. أخيرا، تعتمد رفاهيتنا ونوعية حياتنا على تقدم المعرفة العلمية، والتي تعد المدخل الرئيسي للتقدم التكنولوجي. إن أي تغيير في وظيفة الجامعة لا علاقة له بالاكتشاف العلمي والتقدم في المعرفة من شأنه أن يقوض تقدم المعرفة، وبالتالي التقدم التكنولوجي. كما ان عدم مراعاة معايير النزاهة الأكاديمية، والأمانة العلمية والالتزام بالحياد وحماية الطلبة من أي عمليات قد تستهدف التلقين الأيديولوجي أو المذهبي أو الحزبي قد يمكنه ان يقوض تقدم المعرفة.

واخيرا، يأتي التحدي الرئيسي للحرية الأكاديمية من أولئك الذين يريدون تغيير الدور المجتمعي للجامعة. حتى لو لم يعترفوا بذلك علنا، فهم يتبنون نهجا قوميا او طائفيا وبعضهم يطلق شعارات كالجامعة المنتجة والاخر يصر على التمسك بالمركزية وبالضد من الاستقلالية. وبالتالي، إذا أردنا المضي قدما وإجراء مناقشة صريحة حول الحرية الأكاديمية، يجب أن نذهب إلى جذر المشكلة ونجيب على السؤال بصراحة: ما هو دور الجامعة في المجتمع اليوم؟

***

أ. د. محمد الربيعي

 

(تقييد حرية التعبير يؤدي الى إشاعة النفاق والتملق، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة).

هذه عودة مختصرة الى مسألة يكثر الكلام حولها. وهي دعوى ان حرية التعبير التي ينادي بها بعض دعاة الحداثة، ربما تؤدي لضرر شديد بالتقاليد السارية والقيم الفاضلة، بل لعلها تطيح بالاستقرار والسلم الاجتماعي. اعلم ان بعض القراء سوف يستنكر هذه المبالغة، لهذا يقتضي الانصاف بيان ان الخائفين من عواقب الحرية، أي حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، لا ينادون بقمع الأفكار، ولا يعتبرون الحرية - في حد ذاتها – من الرذائل. لكنهم يقولون ان كل ما يحتمل الحسن والقبح، يوجب الاحتياط في التعامل معه، مثل النار التي تستعملها لطبخ طعامك، لكنها قد تحرق البيت أيضا.

ومقتضى هذا الكلام انه يتوجب علينا – قبل منح الحرية لعامة الناس – أن نضع القوانين والسياسات التي تعالج ما سوف يترتب عليها من مشكلات. والمقصود بالقوانين هنا هو تحديد المجالات التي يسمح او لا يسمح بممارسة الحرية ضمن حدودها.

بعبارة أخرى فان الخائفين من الحرية، وهم في العادة الفريق التقليدي في المجتمع، يتفقون مع دعاتها في ان حرية التعبير خصوصا، يجب ان لا تقود الى الاضرار بشخص آخر او أشخاص آخرين. بعبارة أخرى فانهم يعطونك الحق في ممارسة حريتك في التعبير، لكن ليس الى حد الاضرار بغيرك، كما ان لغيرك نفس الحق مشروطا بأن لا يضرك.

كنت قد اشرت في كتابة سابقة الى ان هذي المسألة تحديدا كانت محل جدل في اوربا في منتصف القرن التاسع عشر. وعلى خلفية هذا الجدل نشر الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل رسالته الشهيرة "حول الحرية =  On Liberty" في 1859. وقد أدى نشرها الى توسيع الجدل وتعميقه، لكنها في نهاية المطاف ساهمت في إرساء نقاط استناد او محددات للنقاش في الموضوع. ومن أبرز تلك النقاط أولوية الحرية على غيرها من القيم، واعتبارها حقا شخصيا لكل فرد، لا يجوز للمجتمع تقييده الا إذا أدت ممارستها للاضرار بالآخرين، ضررا موصوفا ومعرفا في اطار القانون.

وقد أثارت هذه القاعدة نقاشا كثيرا. وأطلق عليها اسم "مبدأ ميل" او "مبدأ الضرر  Harm Principle". في اطار هذا المبدأ، صنف ميل الأفعال/التعبيرات المضرة الى قسمين: فعل تقتصر أضراره على نفس الفاعل، مثل التدين او الالحاد، العمل او البطالة، التدخين او عدمه.  فهذه التعبيرات/الافعال وامثالها، قد تزعج الناس، لكن ضررها المادي لا يطال أحدا سوى فاعلها. اما القسم الثاني فهو ضار بالآخرين ضررا ملحوظا، مثل الكلام المؤدي لاثارة الكراهية ضد الملونين او اتباع الاديان الأخرى، او مثل الإشارات النابية التي تنطوي على إيذاء نفسي او اقصاء اجتماعي، مما يصنف تحت عنوان التنمر او التحرش. وقد قرر ميل ان القسم الأول من الأفعال لا يبرر للمجتمع ردع الفاعل أو تقييد حريته، حتى لو كان فعله متعارضا مع اعراف الجماعة او تقاليدها. أما النوع الثاني فينبغي تحديده في قواعد قانونية، تسمح بتقييده، لكن دون ان يصل التقييد الى حد التضحية بحق الفرد في أن يفكر بحرية او يختار نمط العيش الذي يناسبه.

يخشى ميل بشكل جدي، من ان يؤدي التوسع في تقييد حرية التعبير الى إشاعة النفاق والتملق، والقضاء على التلقائية التي هي سمة المجتمعات النشطة والناهضة. كلما كثرت القيود في المجتمع تقلصت سوق الأفكار، وتباطأت الحركة، وضعفت – تبعا لذلك – الرغبة في التقدم. الحرية ليست قيمة بسيطة كي نتساهل في تقييدها لأي سبب، فهي أول القيم واعلاها وهي اكثرها ضرورة لحياة الانسان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

خارطة لغوية لأطفال الأهواز

تتسائل الكثير من الأسر الأهوازية عن كيفية مجابهة الحالة اللغوية عند الأطفال ولاسيما الأطفال المقبلين على دخول المدارس الحكومية التي تدار على أساس اللغة الفارسية أي اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد. فماذا ينبغي أن يفعل الأبوان في هذه الفترة، قبلها، وبعدها؟ في هذا المقال وفي السطور القادمة المحكّمة بنتائج البحوث العلمية نرسم خارطة نأمل أن تفي بالغرض وتهدي الأسر الأهوازية سبيلا، حتى لا تخسر الأسرة طفلها المرتبط ارتباطاً نفسياً بلغته الأم ولا تخسر مستقبله المرتبط-إلى حد كبير- باللغة الفارسية.

بالنظر إلى تشكيلة المدارس في إيران فإنها تقتصر على منهجية أحادية فارسية لا تعترف باللغات  الأم للأطفال وليس هنالك خيارات. تُكتب وتؤلف الكتب الدراسية ويُدرّب المدرسون على أساس متلقين يتقنون الفارسية، عكس ماهو متداول في أغلب الدول المتحضرة ككندا وسويسرا والنرويج (الإيرانيون في ولاية بريتيش كلمبيا في كندا مثلا يمكنهم الدراسة بلغتهم الأم) وحتى في دول غير متحضرة كالدول المجاورة لإيران مثل أفغانستان التي تعترف بالباشتو والداري كلغتين رسميتين بهما يتم التعليم في جميع المدارس الحكومية؛ وفي العراق أيضاً الأكراد يدرسون بلغتهم الأم إلى جانب العربية. يحاول واضعو سياسة التعليم في إيران أن يوحّدوا كل الشعوب المتواجدة في هذه الجغرافية لغوياً وثقافياً تحت غطاء واحد-الدولة الأمة-  ولامراءَ أنّه أمر محال لكنه وفي مشروع احتواء شامل يؤثر على عقول البسطاء من الناس. تأتي المنهجية التعليمیة لتبدأ من التمهيدية أي روضة الأطفال باللغة الفارسية مما تسبب حالة نفور عند الطلبة العرب الأهوازيين الذين لم يمارسوا اللغة الفارسية في طفولتهم فهم من بيئة عربية يتحدث أفرادها باللغة العربية في حياتهم اليومية. وحالة النقل المفاجئ هذه تؤثر نفسياً على نمو شخصيته وتسبب له الاضطرابات لا محال (عازار، ۲۰۱۳).

ومن هذا المنطلق هنالك الكثير من الأسر الأهوازية  -بناءً على الإعلام الخاطئ والهادف لشطب اللغات الأم-تحاول محاولة غير دقيقة وغير علمية لمجابهة هذا الدخول المفاجئ للمدرسة فيبدأ كل من الأب والأم  أولاً باختيار اسم فارسي للطفل أو الطفلة ومن ثم التحدث معه بالفارسية دون العربية. يؤكد علماء النفس على أنّ ليس للأهل الحق أن يشطبوا اللغة الأم للطفل فهذه العملية ستدخل الطفل في نوبة نفسية قد تحبطه في الكثير من المهارات الإدراكية في المستقبل (هودال، ٢٠٠٥؛ ٢٨٦). نرى في أغلب الأحيان أنّ الأهل يتحدثون العربية مع بعضهم  البعض والفارسية مع أطفالهم وهنا يبقى الطفل يردد في نفسه لماذا الأب والأم والأقارب يتكلمون العربية ويمنعونها منّي؟ ومن هنا تبدأ عملية الانفصام من الأسرة والأهل. ينبغي أن يعرف الأبوان أن فطم الطفل من لغته الأم هو في الحقيقة فطمه من مجتمعه الذي يريد أن يربى فيه. إنّ اللغة الأم توحد الأسرة وتصلها بأمتها وهويتها وتأريخها وعملية فصل الأطفال عن لغتهم الأم -لا شك-سوف تفصلهم عن ثقافتهم ليتقمصوا ثقافة أخرى ويصبحوا غرباء في وطنهم.  يحث الباحثون الأهلَ أن يساعدوا الطفل في تنمية شعوره بهويته من خلال اللغة الأم لتقليل الآثار النفسية كالازدواجية والانفصام. تأسيساً على ذلك نؤكد على حلٍ درسه كاتب هذا المقال على أطفال في أسرته وقدمه لآخرين مما حقق الغاية المطلوبة في الظرف الذي يعيشه الأهوازيون. ولا غرو أن هذه النتيجة حالها حال أغلب الأبحاث والدراسات الميدانية ليست دقيقة مئة في المئة لكنها نفعت العينة أي أطفال الأسر القريبة من الكاتب.

ينطلق مشوار التعليم من البيت وهنا يأتي دور الأبوين ولاسيما الأم لأنّها تتعامل مع الطفل بنسبة أكبر. تقسم العشر سنوات الأولى من حياة الطفل إلى ثلاثة حقب تعليمية لغوية(ولا يفوتنا أن ننوه أنّ هذه العملية لا تطلب وقتاً وتنسيقا وبرمجة بل تأتي من تلقاء نفسها وبشكل عشوائي واعتيادي). الحقبة الاولى تبدأ من الأشهر الأولى من حياة الطفل حتى سنّ الخامسة. في هذه الفترة لا يمكن إدراج أية لغة غير اللغة الأم فمن الضروري أن يتشبع الطفل بلغته العربية في سنواته الخمس الأولى. هذه هي الفترة الحرجة التي سبق وتكلمنا عنها في مقالات عدة. (سيغلر،٢٠٠٦ و بوسامر ٢٠١٩). فاستناداً إلى ما سبق، على الأبوين أن يجعلا الطفل عرضة للغة العربية السليمة-الغير مشوهة- مما يضمن لهم أن الطفل يتلقى الصوتيات السليمة للغة العربية ويبدأ يفكر ويتحدث بلغته الأصلية بطلاقة .(رحاب البلد، ٢٠٠٥)  تأتي سلامة اللغة المعروضة على الطفل من خلال أساليب عدة منها قراءة القرآن الكريم، القنوات الفضائية الكرتونية العربية، قراءة القصص العربية عند النوم وحفظ الاشعار العربية .

أمّا الحقبة الثانية التي شرعنا بتجربتها تبدأ من عمر خمس إلى سبع سنوات. هذه الفترة تسمى فترة "التعليم الثنائي" حيث أدخلنا في عالم الطفل اللغة الفارسية كلغة ثانية إلى جانب لغته الأم كي نعدّه إلى الدخول إلى المدرسة وكي لا يصاب بصدمة عاطفية في المدرسة مع أقران ومدرسين يتحدثون الفارسية. هذه الحقبة الثنائية حقبة زمنية مهمة جدا بالنسبة لمستقبل الطفل وحياته المعيشية في إيران حيث لا مجال لدخول الجامعات ولا للتوظيف والعمل الحكومي والحر إلا باتقان اللغة الفارسية الرسمية.  ومن اللافت أن الحكومات دائما تحث أبناء القوميات على اتقان اللغة الفارسية(الخالية من اللكنة) من أجل التعليم والحصول على عمل أو الحصول على حياة كريمة.  لا مناص من القول هنا أننا دائما نكتب ونؤكد ضرورة التعليم باللغة الأم في المدارس الحكومية والمؤسسات التعليمية وتطبيق المواد الدستورية ١٥ و١٩ لكن، في الوقت الراهن لا يمكن إعمال ذلك ولا توجد أي بادرة أمل من قبل واضعي السياسات لهذا الامر رغم المطالبة الحقة والمستمرة من قبل الباحثين والناشطين من مختلف القوميات المتواجدة في جغرافية إيران؛ ويرى الودغيري أن الحكومات المهيمنة تمارس إزدواجية في الخطاب فإنها من جانب تدعوا إلى التعددية وتحسبها قوة لبلادها  ومن جهة أخرى تبذل المليارات لنشر لغاتها وفرضها على الشعوب الضعيفة (الودغيري، ٢٠١٣). في ضوء ما سبق تأتي وظيفة الأب والأم في فترة التعليم الثنائي بعرض اللغة الفارسية لساعتين -أقل أو أكثر- في اليوم (من خلال مشاهدة أفلام وكرتونات بالفارسية، المحادثة مع الطفل، قراءة القصص الفارسية، وترجمتهن للعربية). وتجدر الإشارة هنا أنّ الأبوين بهذه العملية قد يهيئان الطفل لغوياً وثقافياً للانخراط في المجتمع الأصغر-المدرسة- وثم إلى المجتمع الأكبر. إذن، هنا تعلّمَ الطفل وأتقن لغته الأم وتعلم لغة ثانية وأصبح ثنائي اللغة وهذه ميزة لكلّ طفل فالطفل الثنائي اللغة أقوى وأحكم دماغيا وعاطفيا من الطفل ذوي اللغة الواحدة. (باك وآخرون، ٢٠١٤).

تجربة الطفل للغة ثانية تعطيه المزيد من الإدراك في المفاهيم التي حوله ومرونة في نظامه العصبي وكفاءة أكثر في تعامله الاجتماعي قياسا مع الأطفال الذين لم يتقنوا سوى لغة واحدة أو الأطفال الذين يضحي أولياء أمرهم باللغة العربية للغة الفارسية فيشطبوها شطباً تامّا. لا ننسى أن نذكر أن للطفل القدرة على تعلم لغات عدة قبل سن السابعة فيمكن للأبوين أن يعرضوا الطفل للغة ثالثة (الإنجليزية مثلا) وبالممارسة والإصرار على التحدث بكل لغة على حدها وعدم الاختلاط بين اللغات ستأخذ كل لغة مكانها الخاص في دماغ الطفل.

الحقبة الثالثة والأخيرة تسمّی "الاستمرارية في الإشراف" وهي فترة تتحلى باستمرار العرض اللغوي المفيد والكافي حتى يتشبع الطفل بكل اللغات التي تعلمها من شهره الاول حتى سن السابعة. تبدأ هذه الحقبة من السابعة حتى العاشرة ويشرف الأب والأم على توفير الأدوات اللازمة من كتب وقصص وأفلام وبرامج تحكّم وتعزّز اللغات التي عُرضت على الطفل من عربية وفارسية وإنجليزية. تكتمل هذه الحقب الثلاث، والحصيلة ستكون طفلا متوازناً ادراکیاً وعاطفیاً يتحدث ويفهم ويفكر بلغتين أو ثلاث وهذا الطفل بالطبع سيعتز بلغته الأولى لأنّه أدرك أنها هويته الحقيقية ودونها سيفقد أهله أولاً وتاريخه ثانياً وأدرك أيضا أنّ الثقافة المهيمنة(الفارسية في المجتمع الإيراني) لا تقبل الهويات الضعيفة مهما حاولت الأخرى أن تتقرب إليها أو تنصهر فيها.

نافلة القول أمّا یؤكد الباحث على الالتزام والاهتمام بهذه المراحل الثلاث وعدم إهمال أيٍّ منها لأنها مراحل حساسة بالنسبة لمستقبل الأطفال العرب في الأهواز الذين لطالما أصبحوا ضحية اللامساواة في عملية التعليم. بهذا يستطيع الأبوان أن يتقدما خطوات إلى الأمام فإنهما رسخا اللغة الأم في حياة الطفل إضافةً إلى تعليمه لغات أخرى، وجعلاه متعدد اللغات وشخصية ذات ثقة عالية ودماغ مرن يستطيع أن يجابه الوظائف والفروض المتعددة بسهولة.

***

سعيد بوسامر

 كاتب وباحث أهوازي تخصص في علوم اللغة و نشر كتاب أنا لغتي وعدة مقالات في هذا الشأن.

........................

المصادر:

- رحاب، سعدة البلد. مفهوم اللغة في حياة الطفل الكاتب. Www.maganin.com, 2005

- عازار کالین. بین اللغة الأم واللغة العلمية واللغة الموضة. ماذا يدور في رأس الطفل. مجبة لاها. ٢٠١٣.

-الودغیري، عبدالعلي. لغة الأمة ولغة الأم. بيروت دار الكتب العلمية، ٢٠١٣.

Hodal, T. (2005). Using language . Cambridge university press.

Siegler, Robert. (2006). How children develop, exploring child development. Newyork: worth publishers.

-Thomas, H. Bak, Jack. Nissan, Michael M. Allerhand, lan, j. Deary (2014). Does bilingualism influence cognitive aging .

سال كثير من الحبر حول مسألة الإختلاف وأسبابه وكيف ادى الإختلاف الى الانقسامية وحدوث الصراعات وفقدان عامل التسامح بين الأطراف، وهذا واقع مر به المسلمون في زمن له سماته، في ظل ثورات الإتصال والتقنيات، أصبحت الحرب فيها رقمية، ووجب على الجميع أن يراجع أفكاره وسلوكاته وهذا يحتاج إلى التعامل مع المسائل والقضايا والمشكلات برؤية فكرية منفتحة على الآخر حتى لا يكون هناك اختلاف في الجوهر، وأن يدرك كل واحد واقعه الذي يعيش فيه، إن الخلاف الواقع بين الضدّان هو محاولة تحويل المتغير إلى ثابت والعكس، هو الصراع المستمر بين الأصالة والحداثة، وما ظهر من فتاوى حولهما ومن يدلي بها؟ وما هي النتائج المترتب عنها؟ خاصة وأن بعض المسائل أخذت لها بعدا خطيرا، إذ تجاوزت المنطق الاستهلاكي.

لقد تحول الصراع من صراع أفكار إلى صراع هويات، ليس من منطق هذا عربي وذلك أمازيغي، بل من منطق هذا مسلم وذلك كافر، حتى لو كان هذا الأخير ينطق بالشهادتين، يكشف لنا التراث الإسلامي أن أمما سبقتنا كان بينها اختلاف في الرؤى والمنهج، وكمثال، فقد اختلف الصحابة في مسألة الحروف السبعة التي تكتب بها القرآن وهذا راجع لتعدد اللهجات العربية وقت نزول القرآن الكريم،  واختلفوا حتى في طريقة النطق وفقا لاختلاف لغات القبائل واختلفوا في من تؤول له القيادة بعد وفاة الرسول فيما عرف بيوم السقيفة، واختلفوا في توجيه القِبلة وتغييرها وإن كانت القبلة في بيت المقدس حقيقة أم أكذوبة؟ وغيرها من الأمثلة التي رسمت صورة للاختلاف، حتى في الزيّ (إمّا إطلاق اللحية وتقصير السروال وإمّا العُرْيُ المفضوح) وطريقة العيش وما شابه ذلك، وقد نجد الإختلاف حتى بين العلماء والإصلاحيين فقد كان هناك اختلاف بين الطهطاوي والأفغاني في قضيَّة التسامح مثلا.

ما يمكن قوله هو أن هذا الإختلاف نابع من التعصب للرأي وصلت الأمور الى حد السبّ والشتم والقذف والطعن في عرض الآخر، بل الاعتداء عليه وربما اغتياله للتخلص منه، إن هذه التجزئة والإنقسامية  التي نعيشها اليوم وفي كل البلاد العربية ليست جديدة، ففي وقت مضى كانت الدولة العباسية في المشرق والدولة الأموية في الأندلس على اختلاف وخلاف وعدم  توافق، فعندما يدرس الباحث عادات الشعوب يجد أنها مختلفة في كل شيئ وهذا الإختلاف راجع إلى خصوصية المكان والزمان، كما أن  ثقافة منطقة تختلف عن ثقافة المنطقة الأخرى، فحياة الغرب تختلف عن حياة الشرق وبالتالي هم مختلفون في الدين وفي الفكر وفي اللغة وطريقة العيش.

إن الإختلاف سببه التعصب للرأي والفكر، وهذا ما وقع بين الأنظمة العربية  والتيارات الإسلامية  في مصر وتونس والعراق وسوريا والجزائر، حيث أدخلت شعوبها في حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس، لابد إذن أن تكون لنا ثقافة إنسانية نفهم بها الآخر، قد نختلف معه في الشكل لكن لا نختلف معه في الجوهر، وأذكر هنا مقولة أحد المفكرين حيث قال: " كنت أتمنى أن يكون ديننا متعقلا، أي يؤخذ بالعقل لكي يكون مقبولا لدى الآخر"، السؤال الذي طرحه المفكرون هو كيف يمكن إحداث الموازنة بين الثوابت والمتغيرات في ثقافتنا؟ وتكييفها مع المفاهيم الجديدة الوافدة إلينا كالعولمة؟، من الصعب إذًا أن يغير طرفٌ  المتغير إلى ثابت وهذا يحتاج إلى صبر وجهاد.

***

علجية عيش

قبل عقدين من الزمن تقريباً، كانت الدكتورة منى البليهد تعد أطروحتها للدكتوراه، حول «الهوية الثقافية لدى طلاب وطالبات المرحلة الثانوية في المملكة». وفي إطار الأبحاث الميدانية المتعلقة بالموضوع، سألت د. البليهد عينة من طلبة الثالث الثانوي عن رأيهم في القول السائر «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب»، فأجاب 70 في المائة منهم بالموافقة عليه، أي أنهم مقتنعون بأنه لا يمنع الناس من العدوان عليك إلا خوفهم منك. ثم تساءلت الباحثة: بعد بضع سنين سيلتحق هؤلاء بسوق العمل، وسيتعاملون مع الناس، فهل سيتمثلون دور الذئب حينذاك؟

تذكرت هذه القصة القديمة نوعاً ما، حين صادفت هذا الأسبوع أربعة كتاب، اتفقوا في مقالاتهم على أن الإنسان فاسد بطبعه، وهذا ما يبرر ظلم الناس لبعضهم البعض، لا سيما من لا يعرفونهم.

أعلم أن كثيراً من القراء الأعزاء يعدون هذا الأمر من قبيل المسلمات. وربما استغربوا اعتراضي على الفكرة وإنكارها جملة وتفصيلاً، فكيف تنكر ما أجمع عليه أهل العلم والشعراء جيلاً بعد جيل؟

والحق أن غالب الثقافات القديمة - ومن بينها العربية - تميل بقوة إلى هذا المنحى. ولذا احتفل أسلافنا ومعاصرونا بأمثال قول المتنبي:

الظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لا يظلم

وقول زهير بن أبي سلمى:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم.

ومن لا يظلم الناس يُظْلمِ

ورأيت عدداً من أجلّاء المفسرين يصرف الآية المباركة «وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً» إلى المعنى السابق نفسه، أي فساد الطبيعة البشرية.

ولعل القراء الأعزاء قد لاحظوا أن فهم الطبيعة البشرية على هذا النحو، قد اتصل بمفهوم الشجاعة، فتحول المفهوم المركب إلى تقديس للقوة المادية واحتفاء بالسيف، كما في شعر زهير السابق الذي يحتفي بظلم الغير حماية للأرض والعرض، وكأن هذا لا يسلم إلا بذاك، بل قيل هذا صراحة على لسان المتنبي: «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى... حتى يراق على جوانبه الدم»، ومثله قول أبي تمام: «السيف أصدق إنباء من الكتب». مع أن الكتاب يصون حياة خلق الله والسيف يهدرها، فلا أدري كيف يكون هذا أصدق من ذاك؟

لا بد من إيضاح أن تلك الأبيات، قيلت جميعاً لمناسبات بعينها. ولعل أصحابها لم يقصدوا أن تكون الفكرة بذاتها مطلقة. لكن واقع الحال يخبرنا أن الرسالة الداخلية لكل منها، قد تجردت عن ظرفها الخاص، وتحولت إلى مسلمة يتبادلها الناس في مختلف أزمانهم وأحوالهم، من دون أن يتوقفوا قليلاً لمساءلتها أو التأمل في معناها، وهو معنى ناقص ومجروح قطعاً، إن لم نقل إنه خطأ في الجملة والتفصيل.

من المفهوم أن الأمم والثقافات كافة تحتفي بالسيف والسلاح. لكن عصر النهضة الأوروبية شهد حدثاً مهماً، هو انكماش الفهم القديم للطبيعة البشرية، وبروز مفهوم نقيض ينظر للإنسان باعتباره عاقلاً وخيراً، بمعنى أنه لو وقف أمام خيارين، فسوف يختار ما هو أصلح له ولغيره: إنه يختار ما يصلح له لأنه عقلاني يحسب عواقب الأفعال، وهو يختار ما ينفع غيره إن لم يكن به ضرر على نفسه، لأنه كائن أخلاقي. وفقاً للفيلسوف المعاصر جون رولز، فإن ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات، هو قابليته لاكتشاف العدل والخير في الأشياء والأفعال، وتمييزه عن الشر، واختيار الخير في معناه العام.

الحقيقة أنه لولا عقلانية الإنسان وخيريته، لما تقدمت البشرية، ولبقيت مثلما كانت قبل آلاف السنين. إن فعل الخير لا ينحصر في مساعدة الفقير والمسكين، بل يشمل كل عمل يسهم في عمران الأرض وتحسين حياة البشر وتطورها في أي صورة من الصور. وكل ما نراه من حولنا شاهد على عقلانية الإنسان وخيريته.

***

توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

في المثقف اليوم