قضايا

المقاطِع لأهل السلطان والمتحصن بالعلم!

"إذا لم تكُنْ هذه الطَّائِفةُ - من أهلَ العِلْمِ- أولياءَ لله فليس للهِ وَليٌّ/ الخليل"

نواصل استعراض الإنجازات العلمية التي أبدعها الخليل بن أحمد في هذا الجزء من المقالة ثم نتعرض لبعض ما لحق به من ظلم وإجحاف من بعض علماء عصره:

الخليل والموسيقى المقيسة "Mensurabili Musica": عن هذه الموسيقى المقيسة نقرأ في الموسوعة الحرة باللغة الفرنسية / ترجمة شخصية: " الموسيقى المقيسة "أو التوقيعية" هي أطروحة موسيقية من أوائل القرن الثالث عشر (فترة العصور الوسطى الأوروبية) وهي الأولى من رسالتين منسوبتين تقليدياً إلى مُنظِّر الموسيقى الفرنسي يوهانس دي جارلانديا؛ والأخرى هي دي بلانا ميوزيكا، وكان أول من شرح النظام الإيقاعي المشروط الذي كان مستخدماً بالفعل في ذلك الوقت: الأوضاع الإيقاعية. الأنماط الإيقاعية الستة حددتها الأطروحة، ومؤلفة من مجموعات من قيم النوتة الطويلة والقصيرة. تعتمد الكثير من الموسيقى المتبقية من مدرسة نوتردام من القرن الثالث عشر على الأنماط الإيقاعية الموضحة في هذه الموسيقى المقيسة. معنى ذلك أن الخليل الفراهيدي قد سبق الأوروبيين بأكثر من خمسة قرون في تأسيسه لهذه الموسيقى وللعلم الذي عُني بها.

إنَّ التلازم الوثيق بين دراسات الخليل اللغوية والموسيقى دفع الباحثين القدماء والمحدثين إلى التساؤل؛ من أين للخليل بهذه المعرفة بالموسيقى؟ فالقفطي يكتب مثلا "وله عِلْم بالأنغام، وله كتاب فيها. ومعرفته بالنغم ومواقعتها أحدثت له علم العروض"، وينكر المخزومي الحكاية التي شاعت لاحقاً والتي تقول إنَّ الخليل أخذ أُسس علم العروض مصادفة حين مرَّ بسوق للصفارين وسمع أصوات مطارقهم تطرق المعادن. يعلل المخزومي نكرانه لهذه الحكاية على اعتبار "أن المعرفة بالموسيقى كانت شائعة في البيئة العراقية والعربية عموما في القرن الميلادي الثامن. فكانت هناك تآليف فيها، وقد عُرف العديد من المغنين والعازفين في العصر الأموي منهم الوليد بن يزيد الذي قيل إنه أول من لحَّنَ الأشعار ودوَّنَ ألحانه. وكان الحجاز مقصدا للهاوين يتعلمون بمدارسه الموسيقية أحدث الألحان والأنغام. وفي العراق عُرِفَ مغنيان مشهوران قبل زمن الخليل؛ أولهما هو أبو كعب حنين النصراني وكان يبيع الأزهار والفاكهة، متنقلاً بين منازل المطربين وعِلْية القوم، فيسمع الغناء، أما ثانيهما فهو إبراهيم الكوفي الموصلي الذي ذهب ليتعلم الغناء في الموصل ثم سافر إلى بلاد فارس وأصبح في الصف الأول من رجال الغناء والموسيقى.

ويقول المستشرق ج ب ترند إنَّ مخترع الموسيقى المقيسة أو الإيقاعية هو فرانكو الكولوني (عالم موسيقى ومُنظر موسيقى ألماني من أهل القرن الثالث عشر الميلادي)، ولكن فرانكو هذا يتحدث عن موسيقى مقيسة كشيء معروف، وقد عرفه الخليل بن أحمد في القرن الثامن الميلادي أي قبل خمسة قرون من زمن كولوني (ولد الخليل سنة 718م).

مظلومية الخليل:

في العصر الحديث، صدر كتاب العين للخليل بن أحمد، سنة 1980وهو أول معجم لغوي عربي في التاريخ، وقد حققه أستاذان عراقيان قديران متخصصان في اللغة العربية وآدابها هما د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي.

وقد طُبع الكتاب من قبل وزارة الثقافة والإعلام العراقية، دار الحرية، عدة طبعات؛ 1980م، 1982م، 1985م، إلا الجزء الأول منه، فقد تولت طبعه دار الرسالة في الكويت عام 1980م.

لم يعتمد الخليل في تصنيف معجمه "كتاب العين" على ترتيب الحروف العربية التي تبدأ بها الكلمات ترتيباً ألفبائيا "هجائيا"، ولا على الترتيب الألفبائي لجذور الكلمات بعد تجريدها بل على مخارج الحروف التي تبدأ بها الكلمات فكل صوت "له مخرج وله صفة، فالمخرج هو مكان توقف الهواء توقفاً كاملاً أو محدودا، لذلك وجدت الأصوات الرخوة والممتدة والشديدة". وهكذا اعتمد الخليل على التقسيم الصوتي للحروف، فوجد أن حرف العين ثالث أبعد هذه الحروف مخرجاً بعد الهمزة والحاء داخل الحلق، فاختاره لاسم معجمه "العين" ثم تلا العين حرفُ الحاء، حتى وصل إلى الميم الذي مخرجه الشفة، أي إنه بدأ من أبعد وأعمق مخرج في الحلق وانتهى بأقربها الى الخارج وهي الشفة، فوضع لكل حرف باباً، ورتب الكلمات التي تندرج في هذا الإطار والحقيقة فإن هذا النظام الخليلي ليس سهلاً وهذه حقيقة معروفة ولكنه نظام دقيق ومضبوط صوتياً "فونولوجيا" لا شك في ذلك. أما ترتيبات المعاجم التي تلت الخليل فقد انطلقت من الخارج إلى داخل الحلق أي من الشفة حتى أعمق نقطة في الحلق.

لقد قدَّم محققا الكتاب، المخزومي والسامرائي، له بدراسة مسهبة ومهمة هي بالأحرى مادة بحثية منهجية مستقلة وتخصصية حول شخصية الخليل وأعماله، وعلى وجه الخصوص كتابه العين. في هذا الكتاب دافع المحققان - وسأنسب المقدمة لكليهما لأنها غير موقعة باسم أحدهما - عن الخليل وعن نسبة كتاب العين إليه. وموضوع نسبة العين إلى الخليل قديم كثر فيه الكلام وتفرع ولكن الأستاذين المخزومي والسامرائي أفلحا في أن يحسما هذا الجدل وينصفا صاحب العين ويعليا من شأنه ويكشفا عن حقيقة ما أحاق به من ظلم وإجحاف.

وبخصوص عائدية كتاب العين للخليل، نقرأ في مقدمة المحققين المخزومي والسامرائي: "كان وهماً أيضاً ما جعله الزبيدي أساسا لنفي نسبة "العين" إلى الخليل. وكان قد استند إلى أمرين كلاهما ضعيف لا يصح الاستناد إليه.

الأول: ما لاحظه من خلاف في الظاهر بين ترتيب الأصوات في العين وترتيبها في الكتاب، ولو كان كتاب العين له "لم يكن ليختلف قوله، ولا ليتناقض مذهبه".  والثاني: ما لاحظه من إدخال الفعل الرباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف، وهو مذهب الكوفيين خاصة، فيما زعم. أما الاول فالجواب عنه هو ما قدمناه من بيان، ومن نقل عن ابن كيسان ومفاده أن الخليل لم يبدأ معجمه بالعين لأن مخرجها أقصى الحلق بل لسبب آخر ينقله لنا ابن كيسان عن السيوطي: "قال، سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة، لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة، لا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف"؛ وبهذا تسقط هذه الدعوى التي قال بها الزبيدي لأنها تستند إلى وهم لم يقله الخليل. وأما الثاني فالجواب عنه أن الزبيدي لم يقع له مذهب الخليل على حقيقته، فالثلاثي المضاعف عند الخليل، أنما هو من الثنائيات، وأن الرباعي المضاعف إنما ينشأ من تكرار الثنائي فهو منه وليس من باب أخر، وإذا أخذ الكوفيون بهذا الرأي فيما بعد فهذا لا يعني أنه من مذهبهم وأنه خاص بهم".

حملة الأزهري والسجستاني ضد الخليل

ويبدو أنَّ الإجحاف التي أحاق بالخليل والبخس والإنكار اللذين جوبهت بهما أعماله وأهمها كتاب العين من قبل بعض المحافظين "حملة الرواية السلفيين" من أمثال السجستاني والأزهري قديم قِدَم هذا العلم. فهذا الأخير مثلا - الأزهري - زعم أن كتاب العين ليس للخليل بل لتلميذه الليث بن المظفر وقد نحله الخليل. وهذا قول يعاكس المنطق والمعهود حيث التلميذ هو الذي ينتحل عادة كتاب أستاذه وليس العكس، ومثلما كان الإجحاف بحق الخليل قديماً، كان إنصافه قديما أيضا، فقد تفطن ابن دريد البصري صاحب معجم "الجمهرة" إلى علة وجوهر هذا الإجحاف حين قال: "وقد ألفَّ أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي رضوان الله عليه كتاب العين، فأتعب من تصدى لغايته، وعنى من سما إلى نهايته، فالمنصف له بالغلبِ معترف، والمعاندُ متكلف، وكل من بعده له تبع، أقرَّ بذلك أم جحد، ولكنه رحمه الله ألف كتاباً مُشاكلاً لثقوب فهمه، وذكاء فطنته/ كتاب المزهر في العلوم للسيوطي. ج1/ ص84".

لم يكن الأزهري منصفاً ولا عادلا حين "عقد في مقدمته باباً ذكر فيه الأئمة الذين اعتمد عليهم فيما جمع في كتابه "تهذيب اللغة "، فذكر أكثر الدارسين الذين صنفوا الكتب في اللغات، وفي علوم القرآن وفي القراءات، بدأهم بأبي عمرو بن العلاء، وختمهم بأبي عبد الله نفطويه، ولم يكن الخليل بن أحمد واحداً من هؤلاء الاثبات فقد تجاهل الأزهري مكانته في الدراسات اللغوية، ولم يذكره إلا على أنه أستاذ سيبويه، وأنه "رجل من الأزد من فراهيد" أي أن سيبويه أشهرُ وأهمُّ من أستاذه الفراهيدي في زعم الأزهري!

الأزهري يسطو على محتوى العين:

والعجيب - كما يخبرنا المحققان المخزومي والسامرائي - أن الأزهري اقتبس مقدمة كتاب العين بكل تفصيلاتها، وجعلها مقدمة لمعجمه هو، فقد نقل منها رأي الخليل في عدة حروف العربية، وأحيازها ومخارجها وصفاتها، وتأثير بعضها في بعض، حين تتألف وتتجاور في كلمات، وأخذ عنه تصنيف الكَلِمِ من حيث عدة أصولها، وأخذ عنه ما يأتلف من الأصوات وما لا يأتلف.

ويضيف المحققان في مقدمتهما لكتاب العين: "ولكننا حين نتصفح كتاب الأزهري "تهذيب اللغة " ونقابله بما في كتاب العين نعجب من أمر الرجل الذي حاول في غير ذكاء أن يجمع بين تحامله على الليث وغضه من شأنه، ونهب ما في كتابه، على حد زعمه، ليبني كتابه عليه، لقد كان "العين" بكل ما فيه من ترجمات وبيانات وتفسيرات أساس كتاب الأزهري الذي لم يزد عليه إلا روايات ونقولا عن غير الخليل، ولم يضف شيئاً على ما فعله الخليل الذي يسميه بالليث أو بابن المظفر إلا مفردات أهملها الخليل". أي أن الأزهري يلجأ أحياناً الى اقتباس جزء مما قاله الليث بن المظفر التميمي - وهو تلميذ الخليل وصاحبه - ويحجب جزءاً آخر ليصور لقارئه أن هذا الجزء هو رأي الليث وبالتالي رأي الخليل وهذا مسلك خاطئ لا يليق بباحث رصين وصادق.

ويضرب المحققان مثالاً على عبث الأزهري هذا فيكتبان: "وأعجب من هذا كله ما فعله -الأزهري- في ترجمة كلمة (سمع) فقد زعم أن الليث قال: "تقول العرب: سمعت أذني زيداً يفعل كذا، أي: أبصرته بعيني يفعل ذاك"، فعقب عليه بقوله: "قلت: لا أدري من أين جاء الليث بهذا الحرف، ليس من مذاهب العرب أن يقول الرجل: سمعت أذني ويعني أبصرت عيني، وهو عندي كلام فاسد، ولا آمن أن يكون مما ولَّدَهُ أهل البدع والأهواء، وكأنه من كلام الجهمية ". وجاء ابن منظور - صاحب لسان العرب - على عادته فنقل ذلك عنه من دون تحفظ". ولنلحظ عرضاً هنا التشكيك ومحاولة الدس وتشويه سمعة الليث - وبالتالي الخليل - بإشاراته إلى "أهل البدع والأهواء والجهمية"، لعلمه بأن الخليل كان ذا ماض خارجي إباضي وعلى شيء من التشييع لاحقا!

ويكشف المحققان عما فعله الأزهري في هذا المثال حين يذكران النص الذي ورد في كتاب العين كاملا غير مثلوم فيكتبان: "قال الخليل في ترجمة (سمع): " وتقول: سَمِعتْ أذني زيداً يقول كذا وكذا، أي: سَمِعتُه، كما تقول: أَبَصَرْت عيني زيداً يفعل كذا وكذا، أي: أَبْصَرْتُ بعيني زيدا"، فأين هذا مما خلط فيه الازهري وحرَّف وصحَّف، وهو كلام سليم لا غبار عليه، غير أن ما فعله الازهري هنا لقليل من كثير مما تعرض له العين من الازهري ومن حذا حذوه، وهو قليل من كثير مما ورط الازهري نفسه فيه من تحامل على الخليل، والغض من شأن عمله اللغوي الكبير من وراء حجاب سماه الليث أو ابن المظفر".

إنصاف الخليل وكتابه العين في الأندلس:

ونستمر في الاقتباس عن مقدمة المحققان العراقيان لكتاب العين المخزومي والسامرائي، فيقولان: "في الأندلس تولى أبو علي القالي إشاعة نفي نسبة العين إلى الخليل ولكن الدارسين والعلماء في الأندلس "أنكروا عليه حملته على كتاب العين ونفي نسبته إلى الخليل والطعن عليه بالتخليط والخلل والفساد، فأخذ يداري حملات الدارسين عليه بالثناء على الخليل ويصفه بـ "أوحد العصر وقريع الدهر، وجهبذ الامة، وأستاذ أهل الفطنة، الذي لم ير نظيره، ولا عرف في الدنيا عديله"، ولكنه ما زال ينفي أن يكون العين كتاب الخليل مرددا مزاعم أبي حاتم الجستاني في نفيه نسبته إلى الخليل، محتجا بحجته، زاعما أن فيه من الخطأ "ما لا يذهب على من شدا شيئا من النحو، أو طالع بابا من الاشتقاق والتصريف ولكنه لم يعزز زعمه بذكر أمثله التخليط والخلل والفساد. حتى إن السيوطي بعد أن اقتبس من كتابه المسمى باستدراك الغلط الواقع في كتاب العين قال منصفا كتاب العين وصاحبه: "وقد طالعته إلى آخره فرأيت وجه التخطئة فما خطئ فيه غالبه من جهة التصريف والاشتقاق كذكر حرف مزيد في مادة أصلية، أو مادة ثلاثية في مادة رباعية، ونحو ذلك. وبعضه أدعى فيه التصحيف، وأما أنه يخطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذب، أولا تعرف فمعاذ الله لم يقع ذلك". وإذا كان الأمر كما قال السيوطي لم يكن يقتضي كل تلك الضجة ولا كل ذلك التشهير، وكان من الانصاف لكتاب العين أن يحمل ما زعموا من تخليط وخلل وفساد على أنه من عبث الوراقين وجهل النساخ، كان يسيرا لو حسنت النية، أن يقوَّم الكتاب، ويصحح ما فيه من خطأ، وينبه على ما فيه من تصحيف لم يسلم منه كتاب في ذلك الزمان".

ونختم بما كتبه المحققان في هذا الصدد: "أما أبو بكر الزبيدي تلميذ أبي علي القالي، وعنه تلقى الدعوة إلى التشهير بكتاب العين ورميه بالتخليط، والخلل والفساد، فقد ارتحل القالي إلى ربوع الاندلس وحمل معه (تحامل) السجستاني، وأشاعه في تلك الربوع، وألف معجماً بناه على كتاب العين، لكنه سماه بالبارع غمزاً لكتاب العين، وإيهاماً بفضله عليه. على أن أبا علي القالي بتأثير شيخه أبي بكر بن دريد، وبالتزامه مقابلة نسخ العين بأمر من الحاكم المستنصر بالله لم ير مناصاً من الاعتراف بواقع الأمر، وبتصحيح نسبة الكتاب إلى الخليل، ولذلك حين صنف (البارع) نسب كل ما فيه إلى الخليل، ولم ينسب شيئا فيه إلى الليث، كما دأب الازهري على ذلك. وقد أتيح لدارس محدث (د. هاشم الطعان محقق كتاب البارع) عُنِيَ بتحقيق نص من البارع أن يوازن بين ما رواه عن الخليل في هذا الجزء وهو معظمه وما جاء في نسختي (كتاب العين) اللتين وقف عليهما "فإذا بالكتابين [يعني البارع والعين] متطابقان حذو القذة بالقذة"، وينتهي هذا الدارس إلى ان يقول: "بهذا يكون البارع أقدم نسخة وصلت إلينا من كتاب العين"!

الخليل الزاهد المشاعي الحر

عاش الفراهيدي طَوال عمره في كوخ صغير من القصب. وكان يكسب مصدر دخله وقوته من حديقة وصقّارة لتربية وتدريب الصقور ورثهما عن أبيه. قام بتدريس اللغويات، وأصبح بعض طلابه أساتذةً أثرياء، أما هو فقد لازم الفقر والزهد منصرفاً إلى العلوم. عُرف الخليل بتواضعه الجم وكرهه للشهرة ونفوره من العلاقات العامة فلم يعرف عنه أنه وقف على باب أمير أو وزير أو غيرهما، وهو القائل كما نقل تلميذه النضر بن شميل "إنّي لأغلقُ علَيّ باب كوخي فما يجاوزه همّي". كما كان بعيداً عن الزهو والخيلاء والكِبَر ولم يكن يتحدث عن نفسه إلا نادراً واضطرارا، غير أنه كان شديد الاعتداد بنفسه وصاحب كبرياء وعزَّة نفس لم يدفعه فقره وخصاصته إلى المساومة أو مدِّ اليد وطلب العون المادي.

نقل ابن خلكان عن النضر بن شميل، تلميذ الخليل، قوله: "أقام الخليل في خصٍّ له بالبصرة، لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال". كما نقل عن سفيان بن عيينة قوله الذي نسبه د. مهدي المخزومي إلى سفيان الثوري:

"من أحب أن ينظر إلى رجلٍ خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد".

وحينما أرسل إليه والى فارس والأحواز سليمان بن حبيب بن أبي صفرة رسولاً يدعوه إليه ليقيم في قصره ويتولى تعليم وتربية أبنائه، رفض الخليل القدوم إليه وقدم لرسول الوالي خبزاً يابساً مما عنده قائلاً ما دمتُ أجدُ هذا فلا حاجة بي إلى سليمان وقال:

أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ

وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ

*

الرِزقُ عَن قَدَرٍ لا الضَعفُ يَنقُصُهُ

وَلا يَزيدُكَ فيهِ حَولُ مُحتالِ

*

وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ

وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ

وقد تجلت لامبالاة الفراهيدي بالثروة المادية في سلوكه طوال حياته حتى يوم وفاته وهو منشغل ومستغرق في عمله وأبحاثه. ومما يؤثر عن الخليل قوله: (إذا لم تكُنْ هذه الطَّائِفةُ - من أهلَ العِلْمِ- أولياءَ لله فليس للهِ وَليٌّ).

#لهجة_عراقية_اللامي

***

علاء اللامي

.....................

* حُذفت الهوامش والمصادر في هذه النسخة لنشرها في الصحافة والتواصليات.

*فيديو لفيلم وثائقي عن الخليل: الخليل بن أحمد الفراهيدي.. آثار العبقري الذي أسس علوم اللغة العربية.

https://doc.aljazeera.net/portrait/2022/4/17/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D9%86-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D8%AF%D9%8A-%D8%A2%D8%AB%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D9%82%D8%B1%D9%8A

لمفهوم الديمقراطية أوجه عدة وجوانب متنوعة كما لبقية المفاهيم الأخرى ذات الطابع السياسي والاجتماعي، الأمر الذي يجعل منها محل خلاف واختلاف بين الجماعات التي تؤمن بها وتتبناها من جهة، وبين تلك التي تدينها ترفضها من جهة أخرى . وعلى الرغم من حجم الخلافات وطبيعة الاختلافات التي يكون مفهوم الديمقراطية سببا"لها ومصدرا" أساسيا"من مصادرها، إلاّ أن الغالبية العظمى من الكتاب والباحثين المعنيين بهذا الشأن دأبوا على تركيز اهتمامهم على تناول أحد تلك الأوجه أو الجوانب دون بقية الأوجه والجوانب الأخرى، التي ربما لا تقل أهمية - ان لم تكن أشدّ ضرورة وأكثر أهمية  في بعض الأحيان – من سواها لاعتبارات شتى لا يسع المجال هنا التفصيل بشأنها . 

ولعل من أبرز تلك الجوانب التي تم التركيز عليها والإشارة إليها في الدراسات والخطابات هي القضايا المتعلقة بكون الديمقراطية تهتم أساسا"؛  أما بالصيغة التي يحكم من خلالها الشعب نفسه بنفسه، أو بالمبدأ الأساسي المتضمن الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، أو بالآلية التي يتم عن طريقها جعل مصادر السلطة السياسية خاضعة لعملية التداول السلمي بين القوى الفاعلة في المجتمع . والحال ان كل هذه الشروط المواصفات المذكورة صحيحة، بقدر ما هي أساسية وضرورية – من وجهة نظر الفكرة الديمقراطية - لتحقيق التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي في تجارب حكم المجتمعات التي لا تزال تتعثر داخل أطوار شرانقها البدائية، بحيث يستحيل دون تحقيق أيا"منها الإيفاء بمطالب الديمقراطية المؤسسة . ولكن، هل يا ترى ان الرهان على تلك الصيغ المؤسسية كاف لوحده لضمان نجاح مشروع الديمقراطية العتيد، وبالتالي الاطمئنان الى حصاد مخرجاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي قلما تحققت على أرض الواقع، بحيث يتمكن الإنسان من بلوغ مآربه في الانتقال من عالم الضرورة الى عالم الحرية ؟! .

فعلى الرغم من أهمية وضرورة بلوغ، ولو الحد الأدنى، من النتائج المرجوة والحصائل المتوخاة من تبني النظام الديمقراطي في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، إلاّ أنه من الأكثر أهمية والأشد ضرورة – لجني ثمار الديمقراطية حقا"وفعلا"، ومن ثم الاستفادة من عوائدها المادية والمعنوية - هو التركيز على ميادين ومجالات غالبا"ما أهملت عن قصد، أو جرى التقليل من شأنها والحط من قيمتها لاعتبارات شتى من مثل ؛ أنماط الوعي الاجتماعي، وتمثلات الذاكرة التاريخية، وأنساق الثقافة الفولكلورية، التي يصعب على مثل هذا النمط من المجتمعات التخلي عن إيحاءاتها السيكولوجية والرمزية بسهولة . خصوصا"وأن غياب سلطة (الدولة) وانعدام هيبة (القانون) غالبا"ما تحفز الأفراد وتشجع الجماعات على التمسك بأنماط علاقات ما قبل تكوين الدولة، والرهان على روابط ثقافات ما قبل صيرورة القانون، حيث علاقات التغالب والتكالب في الحالة الأولى من جهة، والتزامات التقاطب الاقوامي والتمذهب الطوائفي في الحالة الثانية من جهة أخرى .

وفي إطار الحديث عن الفكرة الديمقراطية ومدى أهميتها في مجالات شرعنة العلاقات والصلاحيات بين الدولة والمجتمع من جهة، وعلقنة التصورات والتمثلات بين الأفراد والجماعات من جهة أخرى، يغدو من الضرورة بمكان الإشارة الى أن نجاح المشروع الديمقراطي في مسائل البناء الاجتماعي والإصلاح الاقتصادي والنهوض الحضاري، مرهون (حصرا") بأولوية توفر (الجمهور) المنوط به تحقيق مضمون تلك الفكرة على أرض الواقع، على قسط لا بأس به من عناصر الوعي (السياسي) تحديدا" . ذلك لأن هذا النمط من الوعي يعد من أكثر أنماط الوعي نضوجا"واكتمالا"في منظومات الوعي الاجتماعي، حيث لا يستطيع الإنسان - عبره ومن خلاله – من تخطي عوائق خلفياته ومرجعياته وتواضعاته البدائية فحسب، وإنما يمكنه كذلك من حيازة القدرة على التمييز بين حقوقه الشخصية والاجتماعية وبين واجباته الوطنية والإنسانية، التي طالما كان التداخل والتخالط بينهما سببا"أساسيا"من أسباب فشل المجتمعات المتصدعة والمتشظية في التغلب على عوامل تخلفها الاجتماعي المزمن وعدم استقرارها السياسي المتوطن . 

***

ثامر عباس

كانا شاعرين رفيقين، ابن رشيق وابن شرف، هربا من القيروان نتيجة حربٍ فوصلا الأندلس في عهد ملوك الطوائف وذلك قبل ألف عام تقريباً، فلم يدخلها ابن رشيق بالرغم من إلحاح ابن شرف عليه بدخولها، فتردد ابن رشيق وأنشد:

مما يُـزهِّـدني في أرض أندلس

أسمــاء مُعتمدٍ فيهـــا ومُعــتضدِ

*

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهـرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ

حيث كان ملوك الطوائف في الأندلس حينذاك يتّخذون ألقابَ وأسماءَ الخلفاء العباسيين زهواً واعتداداً بالنفس. فأجابه ابن شرف على الفور:

إنْ تَرمـِكَ الغربةُ في معشر

قد جُبلَ الطبعُ على بعضِهـمْ

*

فدارِهِمْ ما دمتَ في دارهمْ

وأرضِهِمْ ما دمتِ في أرضِهمْ

وهذا هو الزيف والتقية والمحاباة!

والتاريخ يعيد نفسه، كما يقال، بعد ألف عام ولكن بصورة ثانية. ذلك أنّ فضل الإنترنت على الفرد العربيّ في التواصل والمعرفة والثقافة كبير جدّاً، ولكنّه في الوقت ذاته ذو تأثير سيّء مضادّ على البعض. فالإنسان يرغب في الشهرة وحبّ الذات، وهي طبيعة بشريّة لا خلاص له منها، وإن كان الأفراد يتفاوتون في درجتها. والمواقع الثقافية لعبت دوراً كبيراً في التغيير، إذ أتاحت الفرص في إبداء الرأي بحريّة كاملة دون المرور برقيب أو محاسبة الذات، وإن كان بعضها رقيباً على ما يُكتب، فيمنع ما لا ينسجم مع خطّه الأساسي ويُطلق العنان لمن يسير في ركابه. وانقسم من يكتب إلى درجات ذاتِ تفاوت كبير جدّاً ، فهنا الذي يعرف ما يكتب لتمكّنه من المعرفة في ذلك الموضوع، وهناك الذي لا يعرف حتّى كتابة جملة واحدة صحيحة! ولكنّ بعض المواقع ينشر له.

ثمّ إنّ من العارفين في موضوع معيّن يتدخّل في موضوع لا يعرف ألفه من يائه فيمزج بينهما ليرِيَ القارئ المسكين إلمامَه بكلّ شيء كذلك (البروفيسور) الذي كتب عن مرض نفسيّ نفى أن يكون له جين وعلمي أنّه لا يعرف ما هو الجين وما هي الدي. أن. أي. ولا أيّ حرفٍ منها ، ولما كتبتُ مقالاً بيّنتُ فيه أنّ لهذا المرض جيناً اكتُشف سنة كذا واسمه كذا وتركيبه كذا، لم يعتذر أو يشكرني بل أغمض عينيه ومضى! وهذا لا يحدث في العالم الغربي الذي نمنّي أنفسنا أن نكون مثله بحسناته ولا شغل لنا بسيّئاته. ما يميّز الإنسان العربي المتعلّم (المثقّف!) وبخاصّة العراقيّ عن الإنسان الغربي هو التباهي والافتخار بنفسه أو بالآخرين وهو ليس بكفء. وهذا يذكّرني ببساطة العلماء الغربيّين كالبروفيسور هاوثورن مثلاً، نائب عميد كلية الطب ورئيس قسم الكيمياء الحيوية في جامعة نوتنغهام البريطانية في السبعينات من القرن العشرين، حيث نشر أكثر من 300 بحث في المجلات العلمية وهو يقول : إنّه لم يعمل شيئاً يُذكرْ! وكذا قال لي الدكتور جون ماير في القسم المذكور (الذي رُقّيَ بعد ذلك إلى بروفيسور وصار رئيس القسم) عند البدء في عملي على الدكتوراه (ولم يكنْ المشرفَ) إنّ الكيمياء الحيوية بحر عظيم ونحن نسبح في بقعة صغيرة منه بالرغم من نشره حينذاك عشرات الأبحاث والدراسات التي تتطلّب (تفكيراً) عميقاً وإنْ قال أحدهم له إنّه (مفكّر) فسيسخر منه! وكذا الحال أيضاً مع الشعراء الأوروبيين الذين لمْ يُنعَـتـوا بصفات العظمة والتبجيل والتفخيم وإضافة ألقابٍ غريبة عجيبة جنب أسمائهم ، مثل: الشاعر الشاعر ، النخلة السامقة أو الشجرة الباسقة ، أسطون الشعر، صنّاجة العرب والجبل الذي لا يصل إلى سفحه أحد والأيقونة التي لا مثيلَ لها ! وغير ذلك من أسماء مضحكة جوفاء! وأعجبها أنْ يُنعَت شخص بكلمة (مفكّر) أو (مؤرخ) وهو ليس سوى مقـتـطفٍ جملاً من كتب المؤلفين وآرائهم وتجميعها في مقال قد يسفّ فيه أحياناً. أذكر أنْ طبيباً ذا (تخصّص) كتب مقالاً عن مرض السكّر في أحد المواقع، وأكثر المواقع تنشر دون تمحيص أو تدقيق، وتبيّن أنّ المقال مسروق بأكمله من مركز أبحاث خليجي ومنشور في موقع ذلك المركز! وقد نبّهتُ صاحب الموقع إلى ذلك وأرسلت له نصَّ المقال المسروق!

فلماذا نُطلق على أنفسنا أو مَنْ نحبّ صفات العظمة!؟ أهو الفشل في الحياة! والتعويض عن هذا الفشل بصفات لنقنع أنفسنا بأننا جديرون بها فيحترمنا الآخرون! أم هي النرجسيّة البغيضة الناتجة عن (عجز) ذلك الفرد عن الوصول إلى هدفه الأصلي فيفتخر بما ليس فيه. والأعجب من هذا أنّ ذلك النرجسيّ يكره أيّ ناجح في الحياة ويحاول جاهداً أنّ يُلحِقَ به الأذى أو يُلغيه من الوجود إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهذا هو سرّ انحطاط هذه المجتمعات وتخلفها عن اللحاق بالمجتمعات الغربية التي لا تأبه لهذه الألقاب الزائفة بل غايتها النجاح في الحياة ونيل المراد وتشجّع الآخرين إنْ رأتْ فيهم مواهب خاصّة ولا تثبّط عزائمهم كما نفعل نحن غيرة وحسداً. ثمّ هل من حقّ أحدهم أن يُطلق هذه الصفات والألقاب على الآخرين، وما هي (كفاءته) الثقافية ليحقّ له إطلاق مثل هذه الصفات؟ هذه الألقاب أو الصّفات التي تتطلّب هيئة أو لجاناً متخصّصة لهذا الشأن لينال المعنيُّ بها شرف حصولها بحقّ وجدارة . أم أنّه النفاق والمحاباة طبقاً لجدّنا الشاعر ابن شرف القيرواني الذي قالها قبل ألف عام كما ذكرنا أنفاً:

فدارِهمْ ما دمتَ في دارهمْ

وأرضِهِمْ ما دمتَ في أرضِهِمْ

وبعد ذلك نقلب لهم ظهر المِجَنّ ونولغُ في ظهورهم المُدى إن تطلّب الأمر!

***

د. بهجت عباس

25 مايس 2017

قبل ما يقارب الثلاثين عاما إلا بضعة شهور وقع بيدي كتاب "بنية الثورات العلمية" المؤلف لم اسمع باسمه من قبل "توماس كون" والمترجم قرأت له في نهاية السبعينيات ترجمته الرائعة لرواية كازنتزاكيس" المسيح يصلب من جديد "، وكانت هذه الرواية قد قدمها على خشبة المسرح الصديق الراحل عوني كرومي . كنت اتابع مقالات شوقي جلال في مجلة الفكر المعاصر، واتذكر انني دخلت عالم البراغماتية وفلاسفتها من خلال سلسلة مقالات كان ينتقد فيها هذه الفلسفة التي وصفها بانها فكرة طبقية وفلسفة نفعية وتسعى لانكار الواقع الموضوعي، بعد ذلك سيعرفني شوقي جلال على عالم النفس الروسي الشهير إيفان بافلوف الحاصل على نوبل عام 1904، من خلال ترجمته لكتاب " بافلوف وفرويد " لهاري ويلز وقد صدر بجزئين .واذا تفحصنا الترجمات التي اصدرتها سلسة عالم المعرفة لشوقي جلال سنجد العلم هو المؤشر الاول فيها حيث تنوعت بين " تشكيل العقل الحديث " و" فكرة الزمن عبر التاريخ " و" لماذا العلم ؟" و"الالة قوة وسلطة " وسلسلة " تاريخ العلم "، فيما كانت ترجماته الاخرى يطغي عليها جانب الليبرالية والتنوير حيث ترجم: " افريقيا في عصر التحول الاجتماعي " و" العالم بعد مائتي عام " و" لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ " و" التنين الاكبر " و" مستقبل السياسة الراديكالية " و" التنمية حرية " لامارتيا سن، و" كامي وسارتر " و" التنوير الاتي من الشرق " و" صعود الهند والصين " و" فكرة حقوق الانسان " . فيما اصدر له المركز القومي للترجمة العديد من الكتب ابرزها " الانسان اللغة الرمز " و" جغرافية الفكر " وحياة فيثاغورس وتعاليمه " و" موجات جديدة في فلسفات التكنولوجيا " و" فكرة الثقافة " و" الثقافات وقيم التقدم " و"السفر بين الكواكب " و" الثقافة منظور دارويني " و" تطور الثقافة " .في كل ترجماته وكتاباته ظل شوقي جلال يطرح سؤال: تُرى ما هو دور العلم في حياتنا؟، وهل يمثل العلم سلطة، أو طرفا في سلطةٍ مرجعية يمكن ان تكون سندنا في حياتنا وأحكامنا الفكرية؟ بل بلغت بعض اسئلته " حد النزق " كما يقول، فاخذ يطرح اسئلة من عينة: " وماذا عسانا أن نبدع في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية إبداعا على مستوى العصر "، والسؤال الاهم: هل يستقيم لنا في بيئتنا الثقافية أن نتحدث عن العلم دون أن يكون في ذلك تجاوز للتطور التاريخي وتطاولا على إنجاز هو ابن بيئةٍ أخرى؟ .في كتابه حوار مع السلف يكتب شوقي جلال: " والعلم أداة تحقيق الذات عن وعي ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، وإدارة الدفاع عن النفس وكفالة الأمن والانتصار في صراع الوجود .. هي أداتنا للتعبير عن الهويَّة وتأكيد أصالتها بعيدا عن تهويمات أيديولوجية، لأن الهوية في جوهرها فعل الذات الواعية .. فعل إنجاز (النحن) المجتمعية في الاستجابة للتحديات بلغة وقدرات حضارة العصر، وبذا تدعم الانتماء وترسخ عوامل تلاحم بنية المجتمع"، ويكرر شوقي جلال السؤال الذي يطرحه في مقدمات بعض كتبه المترجمة: لماذا تخلَّفنا وتقدم غيرنا؟، والإجابة تكمن في غربة العلم في حياتنا وغربة المستقبل أو غيابه عن إرادتنا. والاهم غياب قيمة مغامرة المعرفة واكتشاف المجهول وحرية السؤال والبحث وحق الاختلاف، وأن التنوع إثراءٌ للفكر وازدهار حضاري .

يرى شوقي جلال، المولود في القاهرة في الثلاثين من تشرين الاول عام 1931، ان العلم هو بيئة وتاريخ وثقافة مجتمع تُحدد طبيعة رؤية الفرد والمجتمع إلى الحياة وأسلوب ممارستها .

ولد وعاش طفولته في منطقة الإمام الشافعي بالقاهرة، وكان تسلسله العاشر من بين 17 شقيقا وشقيقة، الاب صاحب ورشة صناعية، شغوف بقراءة الكتب واقتناء الاسطوانات الموسيقية، وجد الصبي في مكتبة والده الصغيرة ضالته، كتب مصورة وقصص وكتب تاريخ، كان الاب اول من نبه ابنه لضرورة قراءة العلم، ويتذكر انه سمع باسم داروين للمرة الاولى في احد مجالس والده التي كان يعقدها في صالون بيته ، تتعرض العائلة لمحنة مالية بضطر خلالها الاب ان يدخل ابنه احدى المدارس الثانوية الخيرية، أي مدارس الفقراء، في المدرسة يستمع للمرة الاولى الى موسيقى فاغنر الذي تعلق به فيما بعد، ومن بسطيات الكتب حصل على مؤلفات محمد عبده، وقرأ طاغور وروسو، ورغم ايمانه بالعلم والتطور جذبته فرق الجوالة التي شكلها الإخوان المسلمون، وانضم اليها في بداية الاربعينيات، لكنه تركها بعد فترة، لكنه فوجئ باعتقاله عام 1948 ضمن الحملة التي شنتها الدولة ىنذاك على تنظيم الاخوان . ولا حقته تهمه الانضمام الى الاخوان فتم اعتقاله ثانية عام 1954 بعد الازمة بين عبد الناصر وتنظيم الاخوان

التحق بالجامعه طالبا في قسم الفلسفة وعلم النفس كلية الاداب وكان ابرز اساتذته يوسف كرم وعالم النفس مصطفى زيور ، عام 1935 نشر اول كتبه بعنوان " مذكرات تشارلز داروين " صدر ضمن سلسلة " كتابي" التي يصدرها حلمي مراد، في السجن عام 1954 تعرف على الشيوعي البارز صلاح حسين ووجد فيه نموذجا للمثقف المصري الصلب. عام 1956 يعمل معيدا للفلسفة وعلم النفس في معهد المعلمين، بعدها يبدأ رحلته للدراسات العليا تحت اشراف زكي نجيب محمود ويوسف مراد. بسبب مواقفه السياسية يحرم لسنوات من التعيين فيلجأ الى الترجمة حيث تنشر اولى ترجماته عام 1957 وكانت كتاب " السفر بين الكواكب " والثاني كتاب بعنوان " بافلوف حياته وأعماله"، وكان جلال مهتما بافكار بافلوف واعتبر ان عالم النفس الروسي ظلم بالعربية بسبب اهتمام المترجمين العرب بكتب سيعموند فرويد، ولهذا قرر ان تكون اطروحته عن بافلوف . تعرض شوقي جلال الى الاعتقال السياسي اكثر من مرة وقضى في السجون سنوات دون محاكمة، وبلغت سنوات سجنه اكثر من 12 عاما متقطعة بدأت منذ عام 1948 وانتهت فترة ملاحقته عام 1965 يكتب انه اصر ان ينتصر " على قسوة وآلام التعذيب في السجون والمعتقلات من السجن الحربي إلى ليمان أبي زعبل حيث كنا نعيش حفاة الأقدام، شبه عراة الأبدان، نشقى في عمل تكسير الزلط تحت وطأة الشمس الحارقة، والسياط اللاهبة، والسباب المقذعة والشتائم المهينة الجارحة، ولما أتخل عن طموحي وجهدي من أجل مصر، مصر العقل الجديد " .

نشر العديد من المؤلفات ابرزها " نهاية الماركسية " وكتاب " المجتمع المدني وثقافة الإصلاح " و" الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل " و" الشك الخلاق: في حوار مع السلف " وكتاب " العولمة: الهوية والمسار" و" العقل الامريكي يفكر " و" أركيولوجيا العقل العربي " و" ثقافتنا والابداع " و" التراث والتاريخ " وفي معظم هذه الكتابات سعى شوقي جلال الى الى التحول من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير، من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة: " وهذا هو ما سينقلنا طبيعيًّا إلى ثقافة التناقض والحركة كشرط وجودي، الحركة مع التناقض، الفعالية بين النحن والآخر، الانتقال من ثقافة الإقصاء المفضية إلى الانشقاق والانقسام، داؤنا التاريخي؟ إلى ثقافة التناقض أو تلازم النقيضَين، إذ إن ثقافة الحركة الفكرية والمادية في جدلٍ مشترك مطرد لا تنشأ ولا تكون إلا بين نقيضَين (نحن والآخر)، ووجود كل طرف رهن وجود الآخر" .

يطرح شوقي جلال ازمة التفكير العربي، ويناقش مسألة هل مرجعيتنا في التفكير: عقل علمي، أم عقيدة موروثة؟ بعدها يتطرق الى هوية تراثنا الثقافي في التفكير،هل هي هوية تتنافس مع الاخر، أم قناعة بميزة نسبية تتمثَّل في موجودات طبيعية؟ تواكلية في السلوك، أم إبداع وتحدّ؟ صراع على السلطة، أم صراع على برامج ومناهج عمل؟ التركيز على رأس المال المادي أم رأس المال البشري المعرفي؟ هل نحن غبي مجتمعاتنا: رعايا أم مواطنون، هل نهجنا في الحياة والإصلاح إعادة توزيع الثروة أم خلق الثروة؟ هل نلتزم نظام حكم قائم على نزعة أبوية أم الابتكار والمشاركة الديمقراطية بين مواطنين أحرار متساوين؟ هل رأس الدولة غايته الاستقرار والمحافظة أم التطوير والتغيير والتحدي.هذه الاسئلة وغيرها شغلت شوقي جلال الذي ظل مصرا على ان قضيتنا تطوير وتحوُّل حضاري وليست إصلاحا أو تنمية، فليس في واقع البنية الاجتماعية والثقافية بحالتها الراهنة ما يستحق أن ننميه، وأزمتنا هي: " أزمة فعل التطوير الاجتماعي الحضاري في إطارٍ من ثقافة الفعل الإنتاجي، لا ثقافة الكلمة والسكون، وثقافة الانتماء لا الاغتراب التاريخي، وليس الهدف البقاء لمجرد البقاء عيالا على الآخَر المتقدِّم المُنتِج حتى وإن زينا هذا اللغو بقولنا، كما قال فقيه شعبي: (لقد سخَّر الله لنا الغرب)، وإنما الهدف هو الوجود، والفارق بين الاثنين أن البقاء اطراد عشوائي شأن بقية الحيوانات والقناعة بالميسور، ولكن الوجود مشروع إنجازي إرادي يحقِّقه المجتمع بجهد الفكر والعمل، ويحقِّق من خلاله ذاتيته أو هُويته في تكامل متطوِّر" .

في عام 1997 اصدر شوقي جلال كتابه " على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم "، وهو الكتاب الذي فتح لي الباب لدخول عالم توماس كون المثير والعجيب .

اعود لكتاب توماس كون " بنية الثورات العلمية " الذي صدر عام 1992 ضمن سلسلة عالم المعرفة، صدرت له فيما بعد اكثر من طبعة، فيما صدرت ترجمة اخرى للكتاب عام 2007 صدرت عن المنظمة العربية للترجمة قام بها حيدر حاج اسماعيل .

يخبرنا شوقي جلال ان اختياره لترجمة كتاب " بنية الثورات العلمية " كان نابعا من نظرته الى توماس كون الذي يتميز " بمَيزة خاصةٍ قليلًا ما تتوافر عند من يضطلعون بمهمة التفلسف في إطار فلسفة العلم؛ ذلك أن العلاقة بين فلسفة وتاريخ العلم من ناحية وبين العلم من ناحيةٍ أخرى علاقةٌ يتعذَّر النظر إليها نظرةً إجماليةً شاملة لأسبابٍ عديدة، منها أن موضوع الدراسة في تحولٍ سريعٍ وعام، فضلًا عن أنه يقتضي باحثًا عامًّا موسوعيًّا يحيط بكلٍّ من العلم المُعاش والتراث الفلسفي معًا، وكذا تاريخ العلم حتى يتسنَّى له معالجته والنظر إليه تلك النظرة الكلية الشاملة لاكتشافِ ما يراه قانونًا أساسيًّا لحركة تطوُّر المعرفة العلمية " .

كان توماس كون طالب دراسات عليا في الفيزياء عندما طُلب منه أن يقدم محاضرات في دورة تدريبية حول تاريخ العلم لجمهور لا ينتمي إلى فصيلة العلماء، ويخبرنا في مقالة له أن هذه الدورة التدريبية غيرت وجهة نظره حول العلم، فاضطر إلى أن يترك أطروحته في الفيزياء ليقرّر كتابة أطروحة عن تاريخ العلم ثم إلى دراسة فلسفة العلم. في الخامسة والثلاثين من عمره يصدر كتاباً عن كوبرنيكوس بعنوان (الثورة الكوبرنيكية). بعد خمس سنوات من صدور كتاب توماس كون (الثورة الكوبرنيكية) الذي لم يحقق مبيعات،. أصدر كتابه الثاني توما (بُنية الثورات العلمية)، عام 1962 وهو كتاب متوسط الحجم كان الغرض منه كتابة بحث بعنوان (موسوعة العلوم الموحدة)، لكنه اكتشف وهو يراجع العديد من المؤلفات أن الكتب التقليدية التي يقرؤها الطلبة في الجامعات، والتي تناقش تطور العلوم ما هي إلّا عبارة عن "كتب سياحية" كما يقول، فهي تصف نظريات نشأت من تجارب علمية ناجحة أدّت إلى زيادة المعرفة. ويتساءل كون: هل يتقدم العلم بهذه الطريقة؟ والسؤال الآخر: هل أن تاريخ العلم هو سلسلة من التطور التراكمي الذي تنتج فيه النظريات العلمية انطلاقاً من النقطة التي توقفت عندها النظريات السابقة لها؟

يرى كون أن الأمور لا تسير كما يرى أصحاب "الكتب السياحية"، لأن البحث العلمي يقول كلاماً آخر، وهو إن هذه النظرة المثالية صالحة فقط في الكتب المدرسية، لأن تاريخ العلم يحتوي العديد من الانقطاعات أو ما يسميه توماس كون "الثورات العلمية" التي تنتج عن فهم مغاير للسابق وتثمر عن توجه جديد في العلم ونظرة مختلفة. هذه الثورات تعني تحولاً في النموذج المتعارف عليه من القوانين والتقنيات والأدوات المرتبطة بنظرية علمية والمسترشدة بها، والتي بها يمارس الباحثون عملهم ويديرون نشاطاتهم، والتي حالما تتأسس تتخذ اسم "العلم العادي"، ولذا فإن تاريخ العلم حسب نظرية كون يتطور بشكل مغاير، وعلى هذا النحو: تصدر نظرية علمية ما ثم تحظى بقبول المختصين، حتى تتحول إلى مجموعة متكاملة من النظريات والتطبيقات والأدوات التي تتمكن من إعطاء الجواب الحاسم في مجالها، ويصبح الغالبية من العلماء يفكرون من خلالها وينشغلون فيها. في هذه الحالة تصبح هذه النظرية نموذجاً لا بد من الاحتذاء به داخل العلم. تستمر الأمور على هذه الحال حتى يبدأ هذا النموذج بعد سنوات أو عقود أو حتى قرون بالعجز عن الإجابة على أسئلة معينة، في البداية يقول كون يتم الالتفاف على هذه الأسئلة من أجل الإبقاء على النموذج، ولكن مع تزايد الأسئلة تحين الثورة العلمية التي تبدأ بتصورات ونظريات خارج إطار النموذج السابق، بل ومعارضة له وتحمل تصوراً مختلفاً عن السابق للكون والنظريات العلمية، وبهذا يتكون نموذج علمي جديد، فنظرية نيوتن عن الجاذبية أصبحت نموذجا حتى جاء اينشتاين فطرح أسئلة من خلال هذه النظرية، ومن خلال هذه الأسئلة انبثقت النظرية النسبية والتي أحدثت ثورة علمية.

كان صدور كتاب (بُنية الثورات العلمية) صادماً للقراء، حين يفترض أن العلم لا يأخذ الإنسانية على مسار مستقيم نحو حقيقة موضوعية لكنه ينتج من خلال تراكمات ومراقبات تجريبية. يكتب توماس كون: "إن كان العلم محاولة لجعل نظرياتنا تتوافق مع الطبيعة، فإن طبيعة الإنسان حينها هي ما علينا أن نناضل من أجلها أولاً". ويضرب لنا توماس كون أمثلة كيف أن ما يسميه "العلم العادي" استمر في التواجد معظم الوقت، حيث يشتغل العلماء داخل إطار أو نموذج فكري - باراديغم - يشترك فيه كل علماء عصر معين، ويضرب مثلاً أن الناس قبل أن تدرك أن الأرض تدور حول الشمس، كان النموذج هو أن الشمس تدور حول الأرض. كان علماء الفلك ينجزون بحوثهم داخل هذا الإطار وكانوا يقدمون تفاسير لأي دليل يتعارض مع هذا النموذج. كان الاعتقاد بأن كوبرنيكوس الذي كان يشتغل داخل هذا الإطار والذي اكتشف أن الأرض تدور حول الشمس، قد ارتكب خطأ في حساباته، إلّا أن الأشياء تصبح أكثر أهمية عندما يحدث ما يسميه كون "تحول في النموذج العادي"، يحدث هذا التحول عندما تتغير كل طرق الفهم جذرياً، عندها يكتشف العلماء أشياء لا تتماشى مع النموذج القائم. إن تخلي الناس عن الطرق القديمة للتفكير يتطلب وقتاً طويلاً، لكنهم عندما يتحولون إلى النموذج الجديد، تبدأ مرحلة جديدة من "العلم العادي" يشتغل فيها العلماء في إطار النموذج الجديد، وهكذا يستمر العلم في التطور. هذا ما حدث عندما تم قلب الرؤية القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، وحالما بدأ الناس في التفكير في النظام الشمسي بهذه الطريقة، كان هناك علم عادي أكثر بإمكانهم تطويره لفهم مدارات الكواكب حول الشمس.

إذن من وجهة نظر توماس كون فإن الثورات العلمية ليست حقائق جديدة، بل هي تغييرات بالجملة في الطريقة التي نرى فيها هذه الحقائق، وهذا بدوره يقودنا إلى إعادة بناء نظريات تشكل "عملية ثورية نادراً ما يكملها شخص واحد ولا تتمّ بين عشية وضحاها".

ولد توماس صمويل كون في الثامن عشر من تموز عام 1922 حصل على درجة الدكتوراه عام 1949. بعد حصوله على الدكتوراه قرر كون أن يصبح فيلسوفاً للعلم من خلال كتابته لتاريخ العلوم. تذكر محاضرات سارتون التي كان يسخر منها فأعاد قراءة كتبه عن تاريخ العلم، لكنه لم يجد أن اهتمامه الأول هو تاريخ العلم وإنما فلسفة العلوم، لأنّه شعر أن الفلسفة هي الطريق إلى الحقيقة وأن الحقيقة هي ما يسعى إليه. لتحقيق هذا الهدف، استفاد كون من قراءة كتب الفلسفة والعلوم على نطاق واسع، إضافة إلى اهتمامه بالتحليل النفسي الذي كان يأخذ دروسا فيه، حيث سمح له التحليل النفسي أن يرى جيداً وجهات نظر الآخرين، وادرك من خلاله خطأ أفكاره عن معلمه سارتون. يفشل في الحصول على كرسي الأستاذية في هارفارد، فينتقل للعمل في جامعة كاليفورنيا، وبعد صدور كتابه (بُنية الثورات العلمية) عرضت عليه هارفارد منصب بروفيسور، لكنه فضل جامعة برينستون، فالجامعة والبلدة تذكّره بالعبقري أينشتاين. صدر أول كتبه عام 1957 بعنوان (الثورة الكوبرنيكية)، بعدها أصدر عام 1961 كتاب (وظيفة البحث العلمي)، وصدر في عام 1962 كتاب (بنية الثورات العلمية) ثم كتاب (مصادر تاريخ فيزياء الكم) عام 1967، وكتاب (دراسات مختارة) عام 1977. توفي توماس كون في السابع عشر من يونيو - حزيران عام 1996، متأثراً بمرض السرطان الذي لم يمهله طويلاً.

في مقدمة كتاب (بُنية الثورات العلمية) يضع توماس كون مدخلاً بعنوان (دور التاريخ) يؤكّد فيه أن نظريات التطور العلمي التي لخصها في كتابه (بُنية الثورات العلمية) تأتي في مقابل نظريات "رئيسنا سير كارل بوبر الأكثر شهرة"، ويخبرنا كون أنّه ظل معجباً لسنوات طويلة تجعله لا يستطيع أن يتحول بسهولة إلى ناقد لـ "الأستاذ" بوبر، وأنهما قد أكّدا أن تقدم العلم ثوريّ، وكلاهما استبعد أن العلم يتقدم بالنمو. عندما صدر كتاب توماس كون (بُنية الثورات العلمية) بيع منه أكثر من مليون نسخة وتُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، وظل لثلاثة عقود الكتاب العلمي الأكثر شعبية .

في عامه الاخير اصيب شوقي جلال بمرض الفشل الكلوي، يكتب في واحدة من مقالاته الاخيرة: " تجاوزتُ التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظره مودِّع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحوٍ غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعُد مجتمعًا بل تجمعًا سكنيًّا، وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك وهو أنها باتت تجمعًا سكنيا لغرائزَ منفلتة. أفتقد مصر الحلم الحافز، مصر الوعي الموحَّد تاريخيًّا، مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية، مصر المستقبل. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب. ولكن تحت الرماد جذوة نارٍ قد تتأجَّج ويشتد لهيبها، ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل. هكذا علَّمَنا التاريخ، ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء.

رحل شوقي جلال في السابع عشر من ايلول 2023 بعد ان قدم للمكتبة العربية ما يقارب الثمانين كتابا، تاليفا وترجمة .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

احتقار المرأة في معظم الأحيان يكون من النساء أنفسهن ولكنني لا أبرأ الرجال من هذه الفعلة مطلقاً. فما زلنا وحتى هذه اللحظة نعاني من سيطرة الفكر الذكوري والأفضلية الخلقية وتشيء المرأة وتسليعها بتصرفات وعادات لاتتناسب مع التطور والإنفتاح الفكري والمعرفي الهائل والتي على رأسها "الزواج".

هذه المرحلة من الحياة التي قلما نجد من فهم مايريده منها، كل شيء فيه يحدث بمنتهى العشوائية والعبثية  ولا أحد يعلم ماذا له وماذا عليه وكيف ستكون الحياة ومع من أصلاً؟

هو "النصيب"!!

ذلك النصيب يشبه الموت كلاهما يجيئان فجأة كعاصفة تقلب حياتك رأساً على عقب ، تتوقف مشاريعك وخططك وأهدافك ومستقبلك الدراسي والمهني، تركض خلف ذلك النصيب وبدون أن تشعر تجد نفسك وبقوى "النصيب" كذلك في المحاكم لدعاوى الخلع والطلاق والتفريق والحضانة والنفقة ..

وطبعاً هذا النصيب يعصف بحياة المرأة بأعتى وأقسى من حياة الرجل بآلالاف المرات..

وتحت مظلة النصيب يتم تصنيف البنات إلى عدة أصناف:

الأول: من جاء نصيبها مبكراً وأخذها القطار، تتراوح أعمارهن من بعد سن البلوغ وحتى الخمسة وعشرين عاماً

الثاني: من سن الخامسة والعشرين الى الثلاثين وفي هذه المرحلة يدق ناقوس الخطر وعلى الجميع تكثيف الجهود في البحث والتقصي والإصطياد.

الثالث: اليائسات والعوانس.

أما عني شخصياً صنفت من ضمن اللواتي داس عليهن القطار في طريقه للمحطة التالية.

ما ان تتجاوز الفتاة سن الثلاثين حتى تنهال عليها الدعوات في كل مناسبة دينية "بفتح نصيبها" وإقصائها بالمناسبات الرسمية التي تقام للصنف الأول خوفاً من عينها وحسدها وإيقاف "نصيب" الأخريات..

ثم تدخل تباعاً للمستوى الآخر وهو ضرورة اصطحابها لراقي خوفاً من أن عيناً قد أصابتها أو جني عشقها.

تعرضت لموقف في إحدى المرات في مجلس نسائي ،سألتني إحداهن السؤال المشؤوم وعلى غير العادة أردت توضيح وجهة نظري الحقيقية بهذا الموضوع بمحاولة مني بخلق آفاق جديدة فقلت أنا أرى أن هذا الموضوع إختيار وبشكل كامل وليس علينا إرغام البنات على الإرتباط أو زرع وجوبه في رؤوسهن يجب ان تشعر البنت بقيمتها وانه لاينقص منها شيء في حالة عدم زواجها..

قاطعتني قائلة: تعرفي مشكلتك فين بالضبط؟

قلت: فين؟

فقالت: انتي معشوقة !!

قلت: من مين؟

قالت: يعني بسم الله جني اللهم احفظنا

أصابتني حالة ذهول وضحك هستيري وأدركت حينها أني أضعت وقتي بالشرح

فتابعت: فعلاً لاتستهزئي أعرف قريبة لي مثل حالتك بالضبط وحتى نفس الكلام والافكار "سبحان الله كأني أشوفها الان"

أصريت عليها وأخذتها عند شيخ والان هي متزوجة وعندها ولدين هو الشيطان يزين لك الحرام بهذه الأفكار تعالي معي ليقرأ عليك ومن الممكن بعدها أن توافقي على الخاطب الذي رفضتيه

قلت: عني شخصياً أفضل الجني..

كل ما سبق هو نوع من أنواع الإهانه وإنعدام تقدير الذات الذي تمارسه البعض على بنات جنسهن فلا يوجد أسوأ من هذا التحجيم وإعتبار"العانس" هذه أنها عباره عن نصف مهما تقدمت بالعلم وبالثقافه وبالانجاز وبالجمال

دائما ماينظر لها بعين الشفقه والتهميش بل ان هناك أشخاص يمنعونها حرفياً من حضور حفل خطوبه أو زواج لبناتهن لأن رغباتها المدفونة تتحول إلى طاقة شريرة تحطم كل ماهو جميل والتي وان حضرت سوف تتحمل مسؤولية انهيار هذا الزواج "بسبب عينها" ويبدأ البحث عن أثرها وقطع من ملابسها ، شعرها ، لعابها في عصير شربته لفك هذه العين والنحس..

قناعات غريبة ومؤذية ومدمرة للعلاقات الإنسانية الجميلة والنفوس النقية والظنون الحسنة

عدا عن التدمير النفسي الذي يلاحق تلك الفتيات حتى يتحول الزواج من "اختيار" الى "هاجس"

***

لمى أبوالنجا

كان اوغسطين (354-430) قديسا، ليس لأن الكنيسة الكاثوليكية منحته ذلك اللقب(وهو ما حصل فعلا) وانما بسبب انه كان في الغالب رجلا جيدا. وهكذا قيل ان اسقف مدينة هيبون "استعمل سجلات المدينة لتحرير العبيد المضطهدين ضمن العوائل السيئة" (اوغسطين، Henry chadwick، ص11، 2001). لا أحد لم يتأثر بالحنان الرقيق لنثره الذي يكاد ان يكون شعراً في رسائله؟ القليل يكتبون عاطفيا حول كيف اننا "نتحرك تجاه الله ليس بالمشي وانما بالحب". كونه في صحبة اناس غير متعلمين، هو امتلك التواضع حتى انه قال ان "السمة الاخلاقية تُقيّم ليس بما نعرف وانما بما نحب" (الرسائل Epistolae، ص155). في ضوء هذا، ليس من الصعب فهم لماذا الفيلسوفة هانا ارندت كتبت رسالتها الدكتوراه حول "مفهوم الحب لدى اوغسطين: محاولة تفسير فلسفي". ايضا في نفس الوقت، هو كان بروفيسور البلاغة في ميلانو، هو أرسل زوجته غير الرسمية، ام ابنه الى مكانه الأصلي في افريقيا لكي يعزز مستقبل حياته المهنية.

بذور الفكر

اوغستين ابن الأب الوثني والأم المسيحية، وُلد في هيبون (حاليا مدينة عنابة في الجزائر) في 13 نوفمبر عام 354 ميلادية. اوغسطين الشاب كان طالبا نموذجيا، كان قد تلقّى تعليما بمساعدة فاعل خير، استمر في الدراسة في روما واُعطي كرسيا في مؤسسة تعليمية في ميلانو. الموهوب استفاد من دراسة البلاغة، وكتب بلغة لاتينية جذابة وبعبارات تجذب القرّاء بدون تدريب فلسفي.

اكاديمي ناجح جدا ورجل العالم، عُرف عنه من إعترافاته الشهيرة (397 ميلادية) بانه كان يقوم بأعمال متهورة في شبابه. في الحقيقة، كان اوغسطين واعيا بانه كان ولدا باحثا عن المتعة، وكتب بان الحقيقة "لا توجد في أعمال العنف وحفلات الخمر، ولا في الإثارة الجنسية والبذاءات" (الاعترافات، ص 202). ولكن حتى بعد ان تحوّل للمسيحية، هو كافح للاستمرار في ارتداء لباسه القديم . هو اعترف بسهولة انه كان بعيدا عن الكمال، وان لا أحد بلا عيوب سوى المسيح وحده (De Nature et Gratia,p42,415).

عدم كمال الانسان هو ايضا عنصرا هاما لفهم فلسفته السياسية. اولئك الذين يكتبون حول السياسة بعيون فلسفية هم عادة اما طوباويون (مثل افلاطون الذي كتب الجمهورية) او واقعيون (كما هو افلاطون ايضا في القوانين). اوغسطين، طرح يوتوبيا لكنها كانت يستحيل تحقيقها، مثل مدينة الله (413) التي ستتأسس في نهاية الزمن، عندما كما يقول العهد الجديد "الله سيمسح كل الدموع من عيونهم، وسوف لن يكون هناك موت ولا حزن ولا بكاء ولا أي نوع من الألم" (Revelation21:4). هذه المدينة ستكون مثالية. لكن حتى المجيء الثاني للمسيح ، نحن يجب ان نكون راضين بحالة ليست مثالية ربما نسميها "مدينة الانسان"، مع ان اوغسطسن ذاته لم يستعمل هذه المفردة.

كونه كاتب دنيوي وكأسقف واداري محلي، هو امتلك رؤية واضحة حول ما يجب ان يكون عليه المجتمع الأرضي. بعض رؤاه كانت ليبرالية، انت ربما تندهش لو علمت انه مثلا، في مدينة الله عارض عقوبة الإعدام وتحدّث مفضلا الضرائب التصاعدية. في وقت عندما كانت السياسة تتحرك بعيدا عن الديمقراطية، هو كان يرغب في افتراض دورا للناس: في كتابه (حول الاختيار الحر، 388) هو سأل بلغة بلاغية، "اذا كان الناس معتدلين وجادين وحرّاس حريصون على المنفعة العامة، واذا كان كل شخص يفكر قليلا في المصلحة الخاصة بدلا من العامة، أليس من الصواب سن قانون يجيز للناس اختيار القضاة لأنفسهم يديرون شؤونهم بواسطتهم ...؟" (1.6). لم يكن ذلك بالضبط قبولا واضحا بالحكومة الشعبية لكن بالتأكيد هو اكثر تقدما من الكتّاب الآخرين في ذلك الزمن.

لاحقا وبعد عدة سنوات ألهمت هذه الافكار السياسيين بمن فيهم الرئيس الحالي للولايات المتحدة: "قبل عدة قرون، كتب القس اوغستين في كنيستي، بان الناس كانوا جماعة تحددهم اشياء مشتركة في حبهم". هذا ما قاله جو بايدن في خطابه الافتتاحي. الفلاسفة نادرا ما يتم الاستشهاد بهم من جانب رؤساء الولايات المتحدة. في الحقيقة، كانت هذه اول مرة يُمنح فيها التكريم لواحد من الكتاب الكلاسيكيين منذ جورج واشنطن. وبالتأكيد، اوغستين كتب بالفعل بشكل موسّع حتى وان لم تكن بالضبط نفس الكلمات التي اقتبسها بايدن، بل، هو قال في مدينة الله ان "الناس هم مجموعة من الكائنات العقلانية المرتبطة باتفاق عام على تلك الاشياء التي يحترمونها"، واستمر بالقول بان "كلما كانت مصالحهم العليا أفضل، كلما كان ذلك أفضل لأنفسهم" (ص264).

القديم والحديث

ربما يبدو مثيرا بشكل خاص ان الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة اختار الإقتباس من اوغسطين في خطابه الافتتاحي لأن الفيلسوف كان مهتماً بأشياء يجدها العديد من الحديثين غريبة. فمثلا، القس صرف جهدا لا بأس به متأملا في الوقود الذي سيُبقي محارق الجحيم متقدة الى الأبد، وتسائل كيف ان تلك الأجسام المعذبة لا تتلاشى نتيجة لذلك (مدينة الله، ص322). بالتأكيد، اوغستين لم يكن كاتبا في القرن الواحد والعشرين. دائما من السهل العثور على أدلّة تشير الى التحيّز البايولوجي والجنس لدى كتّاب قبل وقت طويل، واوغستين ليس استثناءً. خذ هذه الجملة على سبيل المثال، "لو ان أدم كان بحاجة الى منْ يساعده في محادثة ذكية حقا ... لكان الله بالتأكيد جهّز له رجلا آخر" (De Genesi,p.9,408). ربما مثل هذه التعابير لا تُغتفر بصرف النظر عن الظروف التاريخية التي ادّت لها.

ونظرا لأن اوغسطين كان منشغلا في مسائل غريبة بالنسبة لنا، يمكن قبول تبرير المرء بأن فلسفته هي مجرد اهتمام تاريخي. هذه كانت وجهة نظر مألوفة بين المؤرخين خاصة اولئك مما سمي مدرسة كامبردج الذين يعتقدون ان الأقوال من جانب كتاب كلاسيكيين وُجّهت لـ "حل مشكلة معينة لها ظروفها الخاصة و بطريقة سيكون من السذاجة تجاوزها" (المعنى والفهم في تاريخ الافكار، كونتن سكنر، 1969، ص50) . لكن ذلك لا يعني ان " لا أمل هناك" باننا نستطيع ان "نتعلم مباشرة من الكتّاب الكلاسيكيين" (ص50). بالتأكيد، اوغستين كان منهمكا بقضايا معاصرة . تحطيم ونهب روما عام 410 من جانب القوط الغربيين حفز بعض الوثنيين الرومان ليعزوا ذلك التدمير المذل للمدينة الأبدية للرومان بسبب التحول نحو المسيحية. الخلاف الذي أنتجته هذه الكارثة حفز اوغستين لكتابة عمله العظيم مدينة الله، لطرح نظرية في التاريخ، عقيدة في الثيولوجي، وفلسفة سياسية دافعت عن المسيحية. ولكن من غير الصواب ان نرفض اوغستين وجميع أعماله على خلفية انه كان مهتما فقط بالشؤون السياسية .

عندما نستبعد المفكرين القدماء بسبب تحيزاتهم ذات الصبغة الثقافية ، ذلك معناه اننا ننكر على انفسنا الفرصة لتقدير قمحهم الفلسفي بين قشور شوفينية. اوغستين ذاته كان مطلعا على هذا. مثل القليل من المفكرين الآخرين الذي سبقوه، هو كان مطلعا على ان رؤانا هي دائما ملونة بالسياق التاريخي. لكنه اعتقد اننا قادرين على السمو فوق تحيّزاتنا من خلال قوة التجريد: في كتابه الاول بعد تحوّله "لنرى"، كتب، "نحن يجب ان ننسحب من التعددية ليس فقط من الناس وانما من التصورات الحسية التي نسعى، كما كانت، لتكون مركز الدائرة التي تشد المجتمع ككل" (De ordineKp.3,386). عبر اتباع هذا الإجراء هو كان قادرا على تجاوز زمانه وحتى ايمانه العميق الخاص به والوصول الى صوت ما بعد حداثي متناقض مثل على سبيل المثال، "من الأفضل ان نجد الله من خلال ان لا نجده" (الاعترافات، ص10).

اوغستين الفيلسوف القديس

اعتبر اوغستين نفسه كثيولوجي، لكنه لا يؤكد كونه فيلسوفا. برتراند رسل، الفيلسوف البريطاني الذي لخص رؤاه عن المسيحية بكتابه لماذا انا لست مسيحيا، 1927، مع ذلك أبدى اعتبارا كبيرا للقديس الكاثوليكي، ملاحظا انه عندما شغل اوغستين نفسه بالفلسفة الخالصة "هو يبيّن مقدرة كبيرة"(تاريخ الفلسفة الغربية، ص351). ولكن حتى هذا القبول الظاهر هو تقريبا شيء غير مهم. اوغستين كان ايضا مخترع كلمة "مناجاة" solioquia او الحديث مع الذات. في المناجاة (387)، كان اوغستين وليس ديكارت هو الذي جاء اولا بحجة "انا افكر اذا انا موجود". ليس فقط هذا، بالاضافة لكون الاعترافات اول سيرة ذاتية عالمية، انها ايضا احتوت استطرادا حول مفهوم الزمن الذي كان اشارة مسبقة للعديد من الافكار التي جرى التعبير عنها لاحقا بمزيد من التفصيل وبلغة اكثر كثافة من جانب كانط في نقد العقل الخالص (1781). في القسم الاخير من الاعترافات، اوغستين يعتبر الزمن كنوع من "التصفية" filter من خلاله نتصور الاشياء. بهذا المعنى، كان اوغستين اول "مثالي متجاوز" – مع انه كفيلسوف اراد ان يخاطب جمهورا واسعا، هو بقي بعيدا عن العبارات الثقيلة والرطانة التي استعملها كانط بعد الف وخمسمائة سنة للتعبير عن مثاليته المتجاوزة.

"في البداية كانت الكلمة"، جاءت في الأناجيل (يوحنا 1:1). لذا لا عجب ان اوغستين ايضا فكّر في طبيعة اللغة. في الحقيقة، بعدة طرق هو تنبأ بما سمي "المنعطف اللغوي" لفلسفة اواسط القرن العشرين، ومثل الفلاسفة البريطانيين الذين ارتبطوا بها، اوغستين فكّر بعمق حول العلاقة بين الكلمات والاشياء. اوغسطين كان واحدا من القلة الذين اقتبس منهم لودفيج فيتجنشتاين. كتب النمساوي المولد فيلسوف اللغة "اوغستين، في وصف تعلّمه اللغة، يقول انه عُلّم ليتكلم عبر تعلّم اسماء الاشياء" (الكتابان الازرق والبني، ص77، 1935).

كتب فيتجنشتاين "ان حدود لغتي تعني حدود عالمي" (رسالة منطقية فلسفية، ص149، 1921)، ومن ثم غيّر آرائه. في الحقيقة، اوغستين وصل الى نفس الاستنتاج ولاحظ بان "الانسان لايستطيع قول اي شيء حول ما لا يقدر ان يشعر به" – لكنه اضاف "هو يستطيع ان يشعر بما لا يقدر وضعه في كلمات" (sermons.p.117). الرؤية الاساسية لاوغستين تلخصت في كلمات "إعتقد لكي تفهم". لكنه لم يكن مهتما فقط بالايمان: يبدو ان – جزء الفهم – اللاحق كان الهدف الحقيقي. ما اذا كان صائبا حقا بان "الرؤية ستُمنح لمن يعيش جيدا ويصلي جيدا ويدرس جيدا" (De ordine,ii,51)، يمكن نقاشها – مع ان مثال اوغستين كان بالتأكيد رائعا. ربما وبدون قصد، بيّن القس اوغستين نفسه فيلسوفا اكثر مما هو ثيولوجي. كفيلسوف حقيقي، محب للحكمة، هو اعترف بشكل صحيح بان هذا "عنصر مهم في الاكتشاف لطرح السؤال الصحيح ولتعرف ما ترغب انت اكتشافه" (سبعة اسئلة تتعلق بالكتاب الاول من الاناجيل السبعة).

توفي اوغستين في مدينة هبون او عنابة في الجزائر في 28 اوغسطس عام 430 عندما كان الغوغائيون يحاصرون المدينة.

***

حاتم حميد محسن

"مَن أحبَّ أن ينظر إلى رجلٍ خُلِقَ من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد/ سفيان بن عُيينة ونسبها د. مهدي المخزومي إلى سفيان الثوري (ابن سعيد بن مسروق"

لا يحتاج الخليل إلى التعريف به مني أو من سواي بين المتخصصين في المعجميات وعلوم اللغة، فهو علم من أعلام التراث والسردية الثقافية العراقية والعربية الإسلامية في عصرها الذهبي، ولكنها محاولة لاغتنام مناسبة إهدائي معجمي هذا "معجم اللهجة العراقية" إلى ذكراه الجليلة للإضاءة على بعض الجوانب التي قد تكون مجهولة أو معتم عليها من سيرته وشخصيته وإنجازاته العلمية من خلال هذا العرض الذي يستلهم ويعتمد عدة دراسات وتقارير علمية:

هو أَبُو عَبْدِ اَلرَّحْمَنْ اَلْخَلِيلْ بْنْ أَحْمَدْ اَلْفَرَاهِيدِي اَلْأَزْدِيّ اَلْبَصَرِيَّ المعروف بَالْفَرَاهِيدِي، نسبة إلى جده فرهيد أو فرهود (وتعني الشبل) بن شبابة بن مالك، عربي من قبيلة الأُزْد اليمانية. ولد وفق أقوى الروايات سنة (100 هـ -  718م) وتُوفي سنة (170 هـ -   786م)، وهناك من يقول إنه ولِدَ في عُمان ثم انتقلت أسرته وهو طفل صغير إلى البصرة، كحاتم الضامن وضياء الحيدري، دون أن يذكرا مرجعاً أو إسناداً قديماً لقولهما. وكان الخليل يحب أن يتلقب بالبصري دون سواه من ألقاب كما ورد في مقدمة كتابه الأشهر والتأسيسي "العين".

كان والد الخليل خارجياً يأخذ بالمذهب الإباضي، ولكن ابنه الخليل حين شبَّ وكبر صاحبَ الفقيه والصوفي على مذهب السنة والجماعة أيوب السختياني البصري، ويقال إنَّ الخليل تأثر به دينياً وفقهياً ومسلكيا، وأن السختياني زين له الاهتداء إلى مذهبه والتخلي عن المذهب الإباضي. أما د. مهدي المخزومي، أحد محققيْ كتاب العين، فيقول إنَّ الخليل نشأ خارجياً إباضياً ثم أصبح سُنيا وانتهى شيعيا. وماتزال هذه القضية موضع أخذ ورد بين الكتاب المعاصرين، ولكنني لا أعتقد بأنها ذات أهمية في ما يتعلق بالتراث العلمي الغزير لهذا العالم العبقري الجليل إذا كان هو نفسه لم يشر ولا مرة واحدة إلى هذه الأمور العقدية والمذهبية في كتبه وتصاريحه.

تلقى الخليل العلم على يد علماء بصريين كبار منهم أبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. وأخذ العلم على يديه العديد من العلماء الذين أصبح لهم شأن عظيم في اللغة العربية وآدابها ونحوها ومنهم سيبويه واضع أول كتاب في النحو العربي سماه "الكتاب" في القرن الثاني الهجري الموافق للثامن الميلادي، ويقال إن هذا ليس اسمه ولكن الناس سمَّته به لأن سيبويه تركه دون اسم أو عنوان، والليث بن المظفر الكناني الذي نسب خصوم الخليل كتاب العين إليه وسنفصل الكلام في الموضوع بعد قليل، والأصمعي، والكسائي، والنضر بن شميل، وهارون بن موسى النحوي، ووهب بن جرير، وعلي بن نصر الجهضمي، بمعنى أن غالبية أئمة ومعلمي مدارس اللغة والنحو والمعجمية العربية المؤسسين خرجوا من عباءة الفاهيري!

إنجازات الخليل العلمية:

اتخذ الخليل الاستقراء العلمي طريقة ومنهجاً في البحث والتنظير، وشفعه بالمنهج التجريبي التطبيقي في صيغته البسيطة والأولية، مستعملا البوق والمطرقة والجرة الفخارية في تجاربه لدراسة الأصوات ومكوناتها وصفاتها. ويعتبر الخليل من مبتكري ومؤسسي عدة علوم تطورت في عصور لاحقة واستقرت على هيئتها وتعاريفها، ولكنه أسسها ووضع ركائزها في عصره ومنها؛

- علم التأثيل المفرداتي إيتمولوجي (Etymology). ،

- وعلم فقه اللغة المقارن فيلولوجي (Philology) ،

- وعلم الصوتيات الوظيفي فونولوجي (Phonology)، الذي يعنى بدراسة الكلمات، وكيفية تكوينها، وعلاقتها بكلمات أخرى في اللغة نفسها. إنه يحلل بُنية الكلمات وأجزاء من الكلمات، مثل التفرعات والكلمات الجذرية والبادئات واللاحقات،

وعلم الأصوات الصرفية مورفولوجي (Morphonology).

* كتاب العين: إنه أول معجم مفرداتي أُلِّفَ في اللغة العربية، يعكس عنوانه هدف مؤلفه في اشتقاق الأصول الاشتقاقية للمفردات والمعاني العربية. قبل هذا الكتاب ألفَّ العرب كتباً موسوعية تخصصية قليلة قد لا ترقى إلى نوع المعاجم اللغوية ومن هذا القبيل الموسوعي كتاب الأصمعي عن الخيل، كما ألفت كتب أخرى عن أنواع الأسلحة وكانت هذه الكتب تسمى دواوين المعاني.

لكنَّ الفراهيدي في كتاب العين أسس نظاماً تأثيليا للغة العربية جمع فيه كل مفرداتها بطريقة رياضية حاصرة، فقد تمتع بعقلية حسابية رياضية، "فأنتج معجم العين معتمدا على ظاهرة التباديل والتوافيق ورد الكلمات إلى جذورها وهو من وضع فكرة الجذر، فمثلا الفعل "كتب" يضع له صيغا افتراضية هي بكت وتكب وبتك، ثم يقوم بعرض الصيغ على اللغة العربية المتمثلة بالقرآن والشعر العربي الجاهلي حتى العصر الأموي، ويقرر على هذا الأساس إن كانت الصيغة مستعملة أم مهملة، فما كان مهملا أهمله، وما كان مستعملا أثبته"، كما يقول د. محمود حمزة.

وبهذه الطريقة الحسابية الميسرة استطاع استحضار جميع كلمات اللغة العربية متدرجة من الأصول الثلاثية والرباعية، ومن ثم الخماسية.

كان سيبويه والأصمعي من بين تلاميذ الخليل، وكان الأول مديناً للفراهيدي أكثر من أي معلم آخر تعلم لديه. يقول ابن النديم المعتزلي البغدادي وكاتب السير المتوفى في القرن الرابع الهجري -  العاشر الميلادي، أن كتاب سيبويه "الكتاب" هو في الواقع عمل تعاوني ساهم فيه اثنان وأربعون من الكتاب، وأكد ابن النديم أن المواضيع والمبادئ في كتاب "الكتاب" استندت إلى نظائرها عند الخليل. فقد نقل سيبويه، واقتبس عن الخليل في كتابه "الكتاب"، أكثر من ستمائة مرة أي أكثر من أي مصدر آخر، فيما قدرها د. محمد حماسة عبد اللطيف بخمسمائة وسبعين اقتباساً وذكراً وفق إحصائيات معاصرة. والملاحظ أن سيبويه يكرر قوله «سألته» أو «قال»، دون تسمية الشخص المشار إليه بالضمير، ولكن المتفق عليه بين التراثيين القدماء والمحدثين أنه يقصد الخليل الفراهيدي.

* علم العروض: كان الفراهيدي أول عالِم أخضع عَروض الشعر العربي الكلاسيكي لتحليل صوتي معمق. كانت البيانات الأولية التي أدرجها وصنفها دقيقة ولكنها معقدة للغاية وصعبة الإتقان والاستخدام، وفي وقت لاحق طوَّر المنظرون اللاحقون صيغاً أبسط مع قدر أكبر من التماسك والمنفعة العامة.

عرف الخليل بذائقته العالية للشعر وبأذنه الموسيقية، فقد كان هو نفسه شاعراً معروفاً وكان يستمع في بعض الأحيان لشعر لا يتوافق مع الإيقاع الشعري العربي المألوف والذي تعود عليه، فيأخذه العجب والتساؤل كيف تمكنَ من معرفة هذا الخلل، وهذا ما جعله يفكر بوضع علم وقواعد محددة لضبط الأوزان الشعرية العربية لمعرفة الصحيح من الفاسد من الشعر.

وحين بدأ الخليل تأسيساته العلمية فقد استمد مصطلحاته من بيئته العربية الصحراوية فأخذ كلمة العروض اسما للعلم. والعروض هي العارضة التي تعترض الخيمة فتقام عليها وترفعها، كما استخدم الوتد والسبب وهما أيضاً من مكونات الخيمة وبيت الشَّعر العربي الصحراوي.

وقد أوجد الفراهيدي، مستعينا بحاسته الموسيقية دون معلّم، ما يسمى بالوحدة التي تتبادل فيها الحركة والسكون، هذه العلاقة أوجدها من خلال التقليب، ولازمته وعاشت معه وأنتج بها معجم العين وعلمي العروض والقافية.

استخرج الخليل خمسة عشر بحراً من بحور عروض الشعر العربي وأتمها تلميذه الأخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة) ببحر أخير هو السادس عشر وسماه بحر المتدارك، أو المستدرك، أي البحر الذي استدرك به الأخفش على بحور معلمه، وكان الخليل يعرف هذا البحر ولكنه أهمله لانعدام أمثلة شائعة من الشعر عليه.

* علم القافية: أحدث الخليل طفرة لغوية بوضعه معجم العين، كما كان تحديده لعلمي القافية والعروض طفرة موسيقية للعلماء والنقاد والشعراء. وعلم القافية مكمل لعلم العروض، وقد اتحدا كلاهما ليكمل أحدهما الآخر، فالقافية اصطلاحا تشير إلى آخر كل شيء (وجذرها؛ قفا يقفو؛ بمعنى يتبع. ويقول صاحب الصحاح: ومنه سمِّيت قوافي الشعر لأنَّ بعضها يتبع أثر بعض) والجذر اللغوي للقافية يشير لمؤخر الأشياء، يقتفي أو يقفو، والذي يقفو أثر فلان لا بد أن يكون سائراً خلفه، أما في الشعر فالقافية هي آخر حرف في البيت الشعري.

* علم التعمية "التشفير": كان كتاب "علم التعمية" للفراهيدي أول كتاب في علم التشفير وتحليل الشفرات السرية كتبه عالم لغوي في عصره. يحتوي هذا الكتاب - المفقود في عصرنا للأسف -  على العديد من القواعد الأولية بما في ذلك أول استخدام للتباديل والتركيبات لسرد جميع الكلمات العربية الممكنة مع وبدون حروف العلة. لاحقاً لجأ علماء التعمية العرب وغيرهم إلى التحليل الصوتي للفراهيدي لحساب تكرار الحروف في أعمالهم. وقد أثر عمل الخليل في علم التعمية على الفيلسوف الكندي (801- 873م)، الذي اكتشف طريقة تحليل الشفرات عن طريق تحليل التكرار.

* نظام التشكيل: يُنسب إلى الفراهيدي أيضا المعيار الحالي لعلامات التشكيل العربية؛ فبدلاً من سلسلة من النقاط التي لا يمكن تمييزها، كان الفراهيدي هو الذي قدم أشكالاً مختلفة لعلامات التشكيل بالعربية، مما سهل نظام الكتابة لدرجة أنها لم تتغير منذ ذلك الحين. كما بدأ في استخدام حرف شين صغير ( ّ) للدلالة على علامة الشدة. كان أسلوب الفراهيدي في كتابة الأبجدية العربية أقل غموضاً بكثير من نظام التنقيط السابق له، حيث كان يتعين على النقاط في ذلك الأخير أداء وظائف متنوعة. وبينما كان الفراهيدي ينوي استخدام ذلك التشكيل للشعر فقط، فقد تم استخدامه بعد ذلك للقرآن أيضا.

* إضافة إلى ما تقدم، كان الفراهيدي ضليعاً في علم الفلك والرياضيات والشريعة الإسلامية ونظرية الموسيقى والعلوم الدينية.

الخليل وحُنين بن أسحق:

أما ما قيل عن تأثر الخليل بغيره من علوم وعلماء عصره نتوقف عند ما ذكره د. مصطفى نظيف من أنه تأثر بالنحو السرياني عن طريق الطبيب العباسي حُنين بن أسحق وانه كان على اتصال به وأن حنين كان قد تعلم العربية على يديه. ويفند د. مهدي المخزومي هذه الفكرة تفنيدا تاماً، دون أن يعني ذلك أن الخليل لم يتأثر قط بأحد سواه من  علماء عصره، ولكن الخليل كان قد توفيَ وفق أقوى الترجيحات في سنة لا تتعدى 180 هـ في حين أن حُنيناً ولد سنة 190 هـ فكيف تسنى لهما أن يلتقيا ويتواصلا؟

وقد كرر أحمد أمين -  كما يخبرنا د. المخزومي -  هذا الغلط في كتابه "ضحى الإسلام" رغم أنه ذكر أن حنيناً ولد سنة 194، وهناك روايات أخرى تجعل سنة ولادته أبعد من هذه. ولكنه في الجزء الثاني من كتابه، وحين ترجم للخليل ذكر -  أمين -  أنه عاش بين (100 و175هـ). ومن القدماء لم يقل بخبر هذا التأثر إلا ابن أبي أصيبعة والقفطي، وكلاهما ولد بعد أكثر من أربعة قرون على ولادة الخليل!

ومن المستشرقين الأوروبيين ذهب الباحث الألماني ليتمان إلى أن النحو السرياني مأخوذ من العربي لا العكس، أما زميله المستشرق البريطاني هاملتون جِب فذهب إلى أن النحوَين العربي والسرياني نشآ معاً وفي وقت واحد. وفي شرحه لموضوعة التزامن بين النحوين العربي والسرياني يكتب د. المخزومي "نعم، أخد السريان يفكرون في وضع قواعد للغتهم حين شعروا بالخطر يتهدد لغتهم بالفناء بعد انتشار اللغة العربية في ربوع العراق وبلاد الشام واستعان الشرقيون منهم وهم سكان العراق بالنُّقط في إعراب بعض الكلمات كما كانت الحال عند العرب، وكان ذلك حوالي سنة 700 ميلادي، وكان العرب إذ ذاك قد فرغوا من نقط المصحف القرآني على يد أبي الأسود الدوئلي بين سنتي 49 و53 هـ أو على وجه التقريب بين سنتي 670 و674 م". يتبع في الجزء الثاني والأخير.

#لهجة_عراقية_اللامي

***

علاء اللامي

............................

* حُذفت الهوامش والمصادر في هذه النسخة لنشرها في الصحافة والتواصليات.

اللهُ تعالى هوَ مَصدَرُ الرَّحمةِ في هذا الوجود. كل الرَّحمةِ التي نراها في عالَمِنا هي تجليات لرحمة الله المتجليَّة في اسم الرحمن (الرَّحمة الرَّحمانيّة) واسم الرَّحيم (الرَّحمة الرَّحيميَّة) .

 هناكَ ثلاثَةُ تَجَلِّياتٌ لِلرَّحمَةِ في هذا الوُجُودِ:

1- الرَّحمةُ الطَّبيعِيَّةُ: وهي الرَّحمةُ المَوجودةُ في طبيعةِ الاشياءِ في هذا الكون المترامي الأطراف، فذراتُ الطبيعةِ ينجذبُ بعضُها الى البعض الآخر بطبيعةٍ أَودعها الله فيها، وبدون هذهِ الرَّحمةِ ينفرطُ عِقدُ الكونِ وتتصادَمُ الاشياء ويُدَمِرُ بعضُها البعض. انما اتساقُ الكونِ وحركتُهُ وجمالُهُ بهذهِ الرَّحمة التي التي جعلها الرحمنُ في بنيةِ الاشياء وتراكيبها.

2- الرَّحمةُ الحَيَوانِيَّةُ: وهي الرَّحمةُ الموجودةِ عندَ كُلِّ الكائناتِ الحَيَّةِ  والتي من خلالِها ترحمُ الكائناتُ الحيَّةُ صغارَها.وتدافعُ الأُمُّ الحَيَوانِيَّةُ عن صغارِها وان عَرَّضَها دفاعُها الى الموتِ.

 هذهِ الرَّحمَةُ مصدرُها الغريزةُ، هذه الرَّحمةُ مشروطةٌ ومقيَّدَةٌ بقيودٍ ، فالأُمُ الحَيَوانِيَّةُ تُدافعُ عن صغارها هي، ولايمكنُها بهذهِ الرَّحمةُ الغريزيَّةُ أنْ تدافعَ عن صغارِ خصمها. الأُمُ الحَيَوانِيَّةُ تدافعُ عن بيتِها وعن صغارِها وعن حُدودِها وعن كلِّ مايتعلقُ بها. لايمكنُها أَنْ تتجاوزَ الغريزةَ وتدافعُ عن صغارِ عدوها ؛لان صغار العدوِّ يستحقونَ الحياة. الرَّحمةُ الحَيَوانِيَّةُ لايمكنُ أَنْ تتجاوزَ هذا الافق المحدودَ ؛ لانَّها رحمةٌ مشروطةٌ وَمُقَيَّدَةٌ بقُيودٍ.

3-الرَّحمةُ الانسانِيَّةُ:وهي الرَّحمةُ التي تتجاوزُ حُدودَ الرَّحمةِ الحيوانِيَّةِ ،وتتجاوز الغريزة لتدافعَ عن العدو اللدود ؛ لأنَّهُ كائنٌ يستحق الحياة ؛ فهي ليست رحمةً مسجونَةً بحدود الغريزةِ.هي رحمةٌ تقوم على الصفح والتسامح والايثار ولاتقوم على ردودِ الافعال كما هو الحال في الرَّحمةِ الغريزيَّةِ . وهذه الرَّحمةُ الانسانيَّةُ المتجاوزةُ للغريزة الى الآفاق العليا تتجلى في قول السيد المسيح حسب انجيل متى "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،" (مت 5: 44).

 وكما جاء في القُرآنِ الكريم :

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ). فصلت: الآية:(34).

وهذه الرَّحمةُ الانسانِيَّةُ الواسعةُ الآفاق المتجاوزةُ لحدود الغريزة بلغت غايتَها الكاملة في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بلغَ أعلى درجات الكمال، والذي وصفه ربُّهُ بقوله تعالى:

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ). الانبياء: الآية:(107).

 فرسولُ الله هو الانسانُ الكامل والذي تجلّت فيه الرَّحمةُ في انصعِ صورها ، صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مولده وفي كلِّ يوم عَلَّنا نتخذ من رحمتهِ دروساً في عالَمٍ يفترِسُهُ التَّوحش وتدمرُهُ الحروب وتقتل فيه كل معاني الخير والحب والرَّحمة.

***

زعيم الخيرالله

جوهر المسألة التي حاولت إيضاحها في الأسبوعين الماضيين، هو دور الثقافة العامة في تحفيز التقدم؛ لا سيما على الجانب الاقتصادي.

نقصد بالثقافة هنا ما نسميه العقل الجمعي. ولكيلا نقع في خطأ التصور السلبي للعقل الجمعي، تهمني الإشارة إلى أنه ليس صفة سيئة. إنه أقرب إلى معنى العرف العام، أي مجموع القناعات والقيم والمفاهيم التي تحكم سلوك عامة الناس في مجتمع ما، وتشكل الصورة العامة للمجتمع. فنقول إن هذا المجتمع بسيط أو متحفظ، وإن المجتمع الثاني كريم أو بخيل، والثالث نشط وسريع الاستجابة... إلخ. هذه ليست صفات دقيقة لكل فرد في هذا المجتمع أو ذاك؛ لكنها المتوسط العام الناتج عن مجموعة صفات يتصف بها كل مجتمع.

أما المراد بالاقتصاد فهو دائرة المعيشة، أي مصادر الإنتاج ووسائله، وقابليتها للتجدد والتطوير، ومدى العدالة في توزيع ثمرات النشاط الاقتصادي القومي على أفراد المجتمع. نعلم أن غالب المجتمعات العربية في وضع أقل من المطلوب؛ لأن المسافة بيننا وبين الدول الصناعية شاسعة جداً، في مختلف المجالات، في إنتاج العلم والتقنية، وفي مستوى المعيشة وجودة الحياة، إلى المساواة والعدالة والمشاركة في صناعة المستقبل.

هذا يقودنا إلى العنصر الأول من عناصر الثقافة الداعمة للتقدم، أعني به الحاجة لمثال نحتذي به كمعيار للتقدم المنشود. إن النموذج والمثال الواضح أمامنا اليوم هو المجتمعات الصناعية الغربية، ومن سار على أثرها في الثقافة والتنظيم الاجتماعي. أريد التأكيد على هذا؛ لأننا في أمسِّ الحاجة إلى علاج ما أعده عقدة تفسد نفوسنا، وهي العقدة المتمثلة في إعلان الكراهية للغرب، وادعاء العداوة له، رغم ميلنا الصريح -أو الضمني- لاحتذاء نموذج الحياة الغربية.

هذه العقدة لم تقم على أرضية الدين كما يتخيل كثيرون؛ بل «استعملت» عباءة دينية لتبرير الانكماش على الذات، والتفاخر بالذات في الوقت نفسه. إن الشتيمة الآيديولوجية والشتيمة السياسية للغرب، ليست سوى محاولة للموازنة بين الانكسار الذاتي الذي يحث على الانكماش، وضغط الحاجات الملحة الذي يتطلب التواصل مع الغرب. وهذا هو مسلك «النفس المبتورة»، حسب تعبير المفكر المعروف داريوش شايغان.

لن نستطيع الانضمام إلى ركب منتجي العلم، ولن نقيم اقتصاداً قادراً على الصمود في وجه الأزمات، إلا إذا اجتهدنا في تنسيج أصول العلم والإدارة الحديثة في ثقافتنا. وهذه الأصول عند الغرب وليست عندنا. وهي محملة بفلسفة تتعارض جدياً مع كثير من قناعاتنا وأعرافنا الموروثة. فإذا بقينا على «وهم» أن تبنِّي فلسفة الحياة الجديدة مشروط بتوافقها مع موروثنا الثقافي، فلن نخرج أبداً من أسر التقاليد العتيقة التي عطلتنا ما يزيد على 1000 عام. الحل الوحيد والضروري هو التخلي عن تلك الأوهام، مهما كان الثمن.

أما العنصر الثاني، فهو إعادة الاعتبار للعلم كقائد لقطار الحياة. أقول هذا مع علمي بأن بعض الناس سيعترض قائلاً: كيف نزيح الدين عن دفة القيادة ونسلمها للعلم؟ وجوابي لهم: إن الدين الذي يُفهم كمزاحم للعلم أو معارض له، لا يصلح لقيادة الحياة، ولا يمكن أن يكون دين الله؛ بل هو نسخة أخرى من التقاليد الاجتماعية التي لبست عباءة الدين.

لا يتعارض الدين مع العلم، ولا يحتل مكانه في إدارة الحياة وتسييرها.

للدين مكان رفيع وللعلم مكان آخر، ولا يمكن لأحدهما أن يحتل مكان الثاني. فإن أردت أن تعرف من يقود الحياة، فانظر في حياتك اليومية: كم نسبة الأعمال والسلوكيات والقرارات التي تتخذ بناء على معطيات العلم أو في سياقه، وكم يتخذ خارج هذا السياق.

الاقتصاد الحديث قائم على معطيات العلم الحديث، فإن أردنا النهوض ومسابقة الآخرين في هذا المجال، فليس ثمة طريق سوى تمكين العلم من مقعد القيادة، أي الاعتماد على معطياته في كل جانب من حياتنا دون استثناء. وأعني هنا الحياة العامة، لا الشخصية.

ولنا عودة للموضوع في القريب إن شاء الله.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

(سؤال العقل الحائر)

يقف العقل حائرا أمام إشكاليات عقائدية، يؤازره الفؤاد تسائلا ليطمئن، (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[1]، والاطمئنان يتطلب الدليل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ )[2]، والدليل حجة قاطعة تزيح في طريقها إلى العقل والفؤاد كل الرماديات الغبشة والشوائب؛ التي تحول دون صفاء القلب، ونقاء العقل، ووضوح الفهم، وجلاء البصيرة، وصدق الإيمان. وهو مسلك الأنبياء إلى أقوامهم للدعوة والإيمان بمن أسلكم هذا المسلك؛ ما يعبد طريق العقل والقلب إلى طلب الدليل والحجة بسلاسة من مزاعم كثر، تفشت فينا دون أن تقدم بين يديها دلائل وحججا دامغة واضحة بائنة، تثبت من جهة صدقها وصحة قولها ومترتباته العملية أو العقلية، وتفند من جهة أخرى نواقضها وتبرهن بطلانها. تخلق وتولد في العقل والفؤاد سلسلة طويلة من علامات الاستفهام، التي تقيد الفهم وتلبسه، وتزيد الغموض في طريقه، والشك في منهجه ونتائجه، وتعقد مهام الوعي وقبول الأمر والتصديق به. ما يجعل طلب الحجة والدليل أمرا طبيعيا في سبيل المعرفة والإيمان والعمل.

ومن الإشكاليات العقدية المعقدة، التي تصعب على العقل فهمها، وعلى الفؤاد التسليم بها وتصديقها، هو التناقض الذي يحصل بكل وضوح وجلاء بين المتن المقدس، القرآن الكريم وبين ما يزعم أنه من " السنة " حديث شريف منسوب إليه صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما سأطرحه في هذه الورقة من أجل الفهم والتصويب، وطلب إجلاء الأمر عندي الذي حيرني، ومازال يؤرقني بطرح الأسئلة علي دون انقطاع. وما السبيل إلى جلاء الأمر إلا بطرح الإشكال على أهل الاختصاص. بعد أبجديات تعلمتها في الدين حين كنت طالبا بكلية الشريعة بجامعة القرويين، بفاس. فقد تعلمت عن أساتذتي الكرام في المدخل إلى الحديث، ومادة الحديث الشريف والسنة النبوية الشريفة حينئذ ـ رحم الله رحمة واسعة من حل ضيفا على رب العالمين، ورزق الحي منهم الصحة والعافية والجزاء الأوفى عنا ـ أن السنة قاضية على القرآن، وفي نفس الوقت تعلمت عنهم في المدخل إلى التفسير، ومادة التفسير، أن القرآن الكريم هو الأصل الذي يرجع إليه، وإذا تعارض الحديث الشريف مع القرآن الكريم تعارضا بائنا غير قابل لصيغة من صيغ التوفيق والتوافق القولي؛ فإن الراجح هنا القرآن الكريم.

وعليه؛ تلح نازلتي علي بالسؤال بعد سردها. في بلادي المغرب الحبيب، زلزلت الأرض تحت أقدام أهلي المغاربة بمنطقة الحوز، المتربعة الأطلس الكبير، وهي جبال شامخة شموخ أهلها الكرام، من لقنونا الدروس في الصبر والإيمان والاحتساب لله عز وجل، من تفديهم لقيمهم ونبلهم الأرواح، وتعانقهم السماء وتحتضنهم الملائكة. من شكروا الله على مصابهم الجلل، وزادوا في حمده، وزانوا أنفسهم بالعطاء والسخاء وهم في أمس الحاجة إليه. من أكرموا ضيوفهم من المتضامنين والمتعاطفين والمسعفين والمنقذين والزائرين المواسين، بما أبقاه لهم الزلزال من المؤن. من تعففوا عن أخذ أكثر من حاجتهم، وصرفوا الباقي لمن ليس بكاف حاجته من المؤن، ومتطلبات الحياة المؤقتة والظرفية التي وضعتهم الكارثة فيها وتحت رحمتها. هم مشهد من مشاهد شعب أبي أصيل، هرع إلى نجدة نفسه بنفسه قبل غيره، لأنه اشتكى منه عضو بالسهر والحمى نتيجة زلزال مدمر عات، ما أبقى خلفه سوى الخراب والدمار ورائحة الموت والجثث المدفونة والدواب النافقة والأنقاض والهدم والردم. لابأس فالإيمان بقضاء الله وقدره أقوى وأكبر من كل فاجعة موجعة، تهون وتصغر إلى حد التلاشي أمام إيمان عقدي يستصغر كل كبيرة مهما كان حجمها أو أثرها. فالله كفيل بالخلف والعوض والمدد مهما كان المصاب جلل. هنا؛ أهلي غارقون في النسيان والتهميش ساستهم إليه سياسة سياسوية بليدة جهلة نتنة فارقت الفكر الاستراتيجي، ونأت بنفسها عن رجال الدولة العظام، من خدموا البلاد والعباد تحريرا وبناء. سياسوية لا تنظر بعيدا ببصيرة العقل والفؤاد، وإنما تنظر إلى قدميها بمنظار المصلحة الخاصة والمنافع الفئوية، دون استحضار الهوامش والمنسيين، ودون طموح نحو مستقبل أفضل إلا لأهلها وأزلامها وحاشيتها وماشيتها؛ فهامت هذه الهوامش والمنسيون في طلب المعيش اليومي لسد حاجتهم في جغرافية جبلية وعرة تكاد تخلو من الطرق المعبدة المزفتة إلا تلك الترابية التي ما صمدت أمام هزات الزلزال، فانشقت وتشققت أو تساقطت عليها الأحجار والصخور الكبيرة والعظيمة التي قطعتها وسدت المنافذ إلى القرى والدواوير والأرياف، فعظم الخطب وكبرت المأساة وصعبت مهام الإنقاذ والإغاثة، سامحة فقط باستعمال الوسائل التقليدية من المشي على الأقدام لمسافات طويلة أو التنقل بالدواب أو استعمال الدرجات النارية أو الهوائية؛ حتى تفتح الآليات الضخمة والعملاقة الطرق، وتزيح عنها أثقال الصخور والأحجار والأتربة وحملها العظيم من المآسي. فهؤلاء هم أهلي الغارقون في الإيمان بالله الواحد القهار، والمنغمسون في عذابات تفاصيل ومفردات يومياتهم قبل الزلزال، الذي زادهم ـ والحمد لله على كل حال ـ ألما على ألم التهميش بمنطوق المغرب المنسي أو المهمش عند السياسوية المريضة العفنة أو بمنطوق الأرقام المهملة في صناديق الانتخابات الموسمية بعد الانتخاب. تلك التي يمقتها المغاربة ويمجونها، ويكرهونها كرههم لأكل الحرام. المتشبثون بأصالتهم وعراقتهم العرقية والدينية والتاريخية. وهم في لجة أمواج الزلزال وارتداداته المتعاقبة وهول النازلة، انبرى لفيف من فقهاء وشيوخ العقيدة الإسلامية، وتحت ما حفظوه تلقينا وتوارثوه أجيالا بعد أجيال، أو ما سكنوا فيه منذ زمن طويل من تراث ديني وشروح للمطولات والقاصرات المقصرات والهوامش وهوامش الهوامش، داعين الناس إلى الثوبة والرجوع إلى الله لإثمهم العظيم الذي يحيون فيه ويعيشون في رحابه، وما هم به من خبث كبير، ومن الكبائر والصغائر، وما أعظمها من دعوة حين تكون في سياقها، وتحت أسبابها ومتطلباتها وشروطها. وأتوا في دعوتهم الناس إلى تقوى الله العديد من الآيات الكريمات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[3]، و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[4]، و(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[5]؛ مستنكرين عليهم ما اقترفوا من المعاصي الظاهرة والباطنة، والخفية والجلية، وكافة آفاتهم وأمراضهم وسلبياتهم الاجتماعية والنفسية والأخلاقية والتربوية والسلوكية والاقتصادية والسياسية التي لا ننكر وجودها عند البعض لا الكل، ومذكرين إياهم بأن زلزالهم علامة واضحة على فحشهم وخبثهم ومنكراتهم، وعصيانهم لله تعالى وعقابا لهم. ومخبريهم؛ أنهم ما زلزلوا إلا لتفشي الموبقات بينهم، التي ما استنكروها ولا نهوا عنها، وأمروا بالمعروف بينهم، وما علموا أن حناجر المغاربة بحت تجاه واقعهم المر بأعلى الأصوات وأشدها شجبا واحتجاجا، وشوارعهم ملئت بمنهوك الأمة اليتامى في موائد اللئام، من سرقوا البلاد والعباد وزادوا الفساد حد فبركة الملفات والقضايا والحكم على الأبرياء بالسنوات الطوال، وما قرأوا لافتات الاحتجاج والوقفات أمام الأبواب والنواب. وأتوا على قولهم ذاك بما رفع إليه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث (زينب بنت جحش رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب، فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)[6]، و(عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل)[7]. وعضدوا ذلك بآيات قرآنية كريمة في العقاب والأخذ بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة؛ (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)[8]،و(تِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)[9]. ومنهم من أغلظ القول وكأنه أمام قوم لوط أو نوح عليهما السلام!

ولما سمعت مواعظهم ورأيت شرائطهم ووثائقهم الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي، وردت على ذهني وعقلي وتفكيري جملة من علامات الاستفهام والتعجب؛ فتساءلت أولا: عن مناسبة المواعظ مع سياق الفاجعة، وهل أهل النكبة في أمس الحاجة إلى الموعظة أم إلى المواساة والتضامن والعون والمساعدة والإغاثة؟ وهل هؤلاء الوعاظ أكثر إيمانا ممن نكبوا؟ ... ثم تجلت لدي أسئلة عقلية تحرق وعي، وتلبس علي الفهم، وتكدر صفاء فؤادي ... وتقودني إلى شيوخي وفقهائي طلبا لإنارة الطريق أمامي توضيحا للقول وتنقية للفهم وتصفية للوعي؛ حين ألح علي السؤال بالظهور إلى العلن في صيغة: ألا يوجد هناك تناقض في هذه الحجج والدلائل والأقوال والبراهين الواردة في نازلة الزلزال وهلاك قومي الكرام ـ رحم الله الشهداء منهم، وشفى الجرحى، وواسى المكلومين المهمومين ـ بما اقترفوا من معاصي وذنوب وأنا بمعيتهم في تقدير هؤلاء الفقهاء والشيوخ؟ كيف تقف أحاديث مرفوعة إليه صلى الله عليه وآله وسلم ظنية الثبوت والدلالة قاضية على آيات قرآنية قطعية الثبوت والدلالة؟ كيف يصير تحميل وازرة وزر أخرى نفيا لقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْء)[10]؟، وكيف الجزاء يتعلق بالفرد وحده دون غيره (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[11]؟ ولا تسأل الأنفس عما فعلت غيرها؟، وكيف توفى كل نفس ما عملت وقد أتاها العذاب بما عمله الآخر (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[12]؟، وكيف يكون جزاء الاكتساب عدلا ونفيا للظلم وقد ظلم المؤمنون بما عمله السفاء من منكرات (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[13]؟، ألا تتضمن هذه الآيات الكريمات عدل الله الذي هو صفة من صفات ذاته السنية العلية؟ كيف نوفق بين عدالة الله جل وعلا وهلاك الصالحين بذنوب الفاجرين والطغاة؟ ألم يكن في عقاب الله سبحانه وتعالى الأقوام البائدة استثناء للمؤمنين بموجب عدالة الرحمان الرحيم (ثُمَّ صَدَقْنَٰهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَٰهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرِفِينَ)[14]، و(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ)[15]، و(حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[16]، و(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)[17] ...

أمام صفاء عدل الله تعالى، كيف يقبل العقل بقضاء تلك الأحاديث المرفوعة على آيات العلي القدير؟ من يغفر الذنوب كلها إلا الشرك (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[18]، (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)[19]، (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[20]. كيف لرب رحيم غفور عادل أن يقبل حمل عبده المؤمن وزر عبد عاص فاجر تحت ظل وجوده الأبدي السرمدي؟ وكل نفس في ملكوته مسؤولة عن نفسها لا غيرها؟ ... من هنا؛ يريد العقل والفؤاد الخروج بما يناسب عدل الله تعالى في سياق نازلة زلزال بلادي بعد استحضار سؤال جوهري يصيغ نفسه على ضربي الحقيقة والواقع من جهة أولى، ومن جهة مقابلة افتراضية مفارقة للحقيقة والواقع؛ هل عم الفساد والمنكر والخبث والرذيلة منكوبي الزلزال ببلادي الجميلة العزيزة حقيقة وواقعا أم افتراضا مفارقا للحقيقة والواقع؟ وتنبثق عنه سلالة من الاستفهامات: ما رأي فقهاء وشيوخ هذا القول فيمن حملن الطوب على ظهورهن وأكتافهن مشرئبات لبناء مسجد القرية في أعالي الجبال؟ ألا يوجد مؤمنون ومؤمنات من منكوبي الزلزال يستثنيهم الله من الكارثة، أم كلهم هالكون؟ ألا توجد دعوة مؤمن صادق في عقيدته تشفع لهؤلاء الذين عم فيهم الفساد، وتقيهم عند الله الكارثة؟ أولئك الذين نجوا من الكارثة أهم مؤمنون أم برقابهم الموبقات؟ ... وبقي لدي سؤال علمي محض: أيتعلق الزلزال بمسببات فيزيقية أم ميتافيزيقية؟ أيتعلق الزلزال بقوانين كونية وضعها الله في كونه، الذي يسير وفقها أم يتعلق بعلية تقلبات مزاجية عاطفية، ومشاعر ورغبات إنسانية؟ وماذا عن الزلازل في الكواكب الأخرى والمجموعات الكونية التي لا يوجد فيها الإنسان والفساد؟ ... سادتي الفقهاء والشيوخ الكرام والأفاضل؛ ما أنا إلا تائه بين زعمكم وزعم العلماء؛ بين قول ديني تراثي وقول ديني مقدس وقول علمي، لا أدري فيه الارتباط الموضوعي والحقيقي والواقعي بين الزلزال وسببه. في كنفه لم أستوعب كيف تزر وازرة وزر أخرى أمام عدل الله المطلق (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)[21]؛ فهل أنرتم لي من فضلكم وجودكم وكرمكم الطريق إلى الحقيقة الموضوعية والواقعية في لبسي هذا بعلمكم ومعرفتكم بحقائق الأمور، حتى يستقيم فهمي ويطمئن قلبي، وما ذلك عليكم بعزيز، فأنتم منارة التائهين مثلي إلى طريق الحق، والحق عز وجل كفيل بجزائكم. فمع كامل احترامي وتقديري، فأنا في حضرتكم سوى تلميذ مستفت ... وشكرا جزيلا على تفهمكم.

***

عبد العزيز قريش

..................................

[1]  سورة البقرة، الآية: 260.

[2]  نفسه، الآية:260.

[3] سورة آل عمران، الآية:102.

[4] سورة البقرة، الآية:278.

[5] نفسه، الآية:281.

[6] أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما.

[7] أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح.

[8] سورة الإسراء، الآية:16.

[9] سورة الكهف، الآية: 59.

[10] سورة فاطر، الآية: 18.

[11] سورة البقرة، الآية: 281.

[12] سورة النحل، الآية: 111.

[13] سورة غافر، الآية: 17.

[14] سورة الأنبياء، الآية: 9.

[15]  سورة يونس، الآية: 103.

[16] سورة يوسف، الآية:110.

[17] سورة هود، الآية: 40.

[18] سورة الزمر، الآية: 53.

[19] سورة الفرقان، من الآية: 68 إلى الآية: 70.

[20] سورة آل عمران، الآية: 133.

[21] سورة ق، الآية: 29.

لقد اشتهرت الإيزيدية بهذا الاسم كونها أتت من تسمية يزدان، وهي تطلق عندهم على الله تعالى، وتفسيرها هو الخالق الرزاق، حيث لا يزال الإيزيديون يفتحون صلواتهم وادعيتهم بعبارة (بناظىَ يةزدانىَ ودلوَظان)، أي بأسم الله العلي الكريم. وذكرهم المؤرخ الكردي شرفخان البدليسي في كتابه (الشرفنامة) بـ(الإيزيدية واليزدانية)، وكشفت لنا مقولاته بأن هذه التسمية يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام إلى كردستان، وإلى كونهم يعبدون (أيزدان) وينتسبون إليه.

والديانة الإيزيدية ديانة قديمة، وهي من بين أقدم الديانات الشرقية، وبالرغم من غموض تاريخها وزمن ظهورها، إلا أننا نستطيع القول أنها من الديانات التي ظهرت قبل الميلاد بمئات من السنين. كما ذكر المؤرخ اليوناني زينفون في كتابه (رحلة عشرة الآلاف- اناباسيس)، أنه كان هناك في حدود عام 401 ق.م ثمة طائفة تستقر قرب مدينة نينوى تدعى (بيزيدي) وكان لهم شهرة بارزة في القتال، وكذلك جرت الإشارة إلى تسمية بارتاسى كتعريف بالإيزيدية الذين اعتبرهم هيرودوت إحدى الجماعات الميدية القوية التي شاركت مع بقية القبائل الميدية في السيطرة على نينوى عام 612 ق.م، والواضح أن المقصود بـ(بارتاسى) هو الداسانية أي الإيزيدية، حيث يطلق عليهم أيضاً تسمية الداسنية وخاصة في المصادر السريانية.

فقد وردت كلمة (يزدان) بمعنى الخالق العظيم في نصوص الإيزيدية المقدسة، وقد جاءت في إحدى النصوص (خودانىَ ئاخرةتىَ حاسلىَ مرازا منىَ، يزدانىَ منويىَ بتنىَ)، أي بمعنى (أن يزدان هو صاحب الدنيا والآخرة، وهو يلبي رغباتي وامنياتي، وهو إلهي الوحيد). والديانة الإيزيدية ديانة غير تبشيرية، وديانتهم على الأتفاق حول المبادئ الدينية الأولية محفوظة في صدور رجال الدين، واعتمدوا ولقرون طويلة على توارث الطقوس والتقاليد من جيل إلى جيل من دون أن يتم تدوينها، كما أنها تمتلك أجوبة كاملة حول مفهوم الحياة والخير والشر، وأجوبة حول معاناة الفرد، والموت وتناسخ الأرواح، وبمقارنتها مع الأديان الأخرى فأن الديانة الإيزيدية لا تسعى إلى السلطة أو شن الحروب على الآخرين باسم الدين، وكل ذلك نابع من صلب عقيدتهم الدينية.

وحقيقة التوحيد في الديانة الإيزيدية واضحة من خلال نصوصهم وأدعيتهم الدينية، حيث يتقربون إلى الله مباشرة، وهم يعتقدون بأن الله موجود في كل شيء وفي كل مكان. وأثناء الفتوحات الإسلامية، بدأت ايديولوجيات الديانة القديمة بالاضمحلال، فاضطر معتنقي تلك الديانات ومنهم الإيزيدية إلى خوض الكفاح المرير، ومقاومة ظهور بعض العقائد، ولولا ظهور بعض القادة والمصلحين أمثال الشيخ عدي بن مسافر الهكاري الذي قام بتنظيم الإيزيدية وفق أسس حديثة، وبمجيئه إلى معبد لا لش، ومكوثه بين الإيزيديين، دخلت الإيزيدية منعطفاً تاريخياً حاسماً، ومرحلة جديدة من مراحل تطورها، وتعتبر الحد الفاصل بين الإيزيدية القديمة والإيزيدية الجديدة.

ومن عقائد الديانة الإيزيدية نظرتهم إلى نشوء الكون والطبيعة والملائكة وآدم وحواء والبشرية جمعاء، وتقر الديانة بأن الله قد خلق في البداية درة نورانية من ذاته، وشاء الله أن يدخل الروح من ذاته إلى هذه الدرة الجامدة، إلا أنها لم تتمكن من تحمل هذه الروح الإلهية فأرتعشت من هيبة الله وانفجرت وتكونت منه سبع طبقات من السماء مزينة بالسدائم والمجرات والأجرام السماوية، ومن ثم زين الأرض بالنباتات والأشجار، وتم كل ذلك بدءاً من الجمعة ومنتهياً في الأربعاء، ولهذا فأن يوم الأربعاء له قدسية خاصة عند الإيزيديين، ويقع فيه عيد رأس السنة الإيزيدية، وهي من أكبر أعيادهم المرتبطة بالطبيعة وتكوين الخليقة، ومن مراسيمه الرئيسية احضار وسلق البيض (تشبيهاً بالدرة الإلهية)، وتلوينها بمختلف الألوان عن طريق الأعشاب الطبيعية "كدليل على دخول الروح إلى الدرة ومن ثم أنفجارها ونشوء الحياة على الأرض". وبحسب النصوص الدينية الإيزيدية خلق الله بعد تسعين ألف سنة سبعة ملائكة من نوره خلال سبعة أيام، حيث خلق في كل يوم ملاك واحد، وهم أزليون ومتواجدون دائماً في حضرة الله، ويعملون تحت أمرته، وهم المسؤولون عن تبليغ الرسائل الإلهية إلى البشر، كما أن الله قد أوصاهم بأن لا يسجدوا إلا لهُ، لأنهم من ذاته، لكن عندما خلق آدم قال للملائكة: أسجدوا لجسد آدم حتى تأتيه الروح، سجدوا ستة ملائكة إلا عزازيل (طاووس ملك) لم يسجد، وقال: ألم توصينا بعد السجود لغيرك يا رب؟؟ فقال له الله سبحانه وتعالى: أنكَ طاووس الملائكة يا عزازيل، وتكريماً له جعله رئيساً للملائكة لفوزه في أختباره المصيري تجاه واجبه المطلق في الطاعة والتقديس والتوحيد، ولهذا يعتبر الإيزيديون بأن طاووس ملك هو أول من جسد وحدانية الله ولم ينسى وصية ربه.. وبعد تركه لآدم دون روح سبعمائة سنة اجتمع الملائكة مع ربهم حول هيئته في إحدى أيام الأربعاء، فجلب الله تعالى كأساً من ماء الحياة لآدم، فشرب منه وأصبح بشراً، ثم قام الملائكة ورئيسهم طاووس ملك بأدخال آدم إلى الجنة بأمر من الله الذي أباح له أن يأكل من كل الثمار الموجود فيها عدا الحنطة، ومكث آدم فيها مدة طويلة، ثم جاء طاووس ملك إلى ربه سائلاً: كيف يكثر النسل البشري وآدم في الجنة لا يأكل من الحنطة؟ فقال له الرب: لك التدبير، فذهب إلى آدم وأرشده بأن يأكل من الحنطة، فأكل ثم أخرجه من الجنة لكي لا يدنسها، وبعد ذلك خلق الله حواء من أبط آدم وأمرها بالتزاوج، وتم ذلك وتكاثر البشر من نسلهما.

أما ما يخص الخير والشر في فلسفة الديانة الإيزيدية، فلا ترسم خطاً فاصلاً بين النقائض في الطبيعة والحياة والموت والخير والشر والليل والنهار، كل واحد مكمل للآخر، وأية ظاهرة من هذه الظواهر لا تستطيع العيش بمعزل عن نقيضها، فهي تستمد ضرورة بقائها من هذا النقيض، لذلك فكل ظاهرة طبيعية وكل طرف من هذه الثنائة إله، وهذه الآلهة كلها جزء من الإله الكبر وهو الله. لذا فأن الخير والشر في الديانة الإيزيدية مصدرهما واحد وكليهما في ذات الله، وما على الإنسان إلا الاستجابة لنداء الضمير والأخلاق والنفس باعتبارهم المسؤولون عن الأفعال، أما الجانب الآخر من ذلك فهو العقل البشري الذي يميز بين الخير والشر ويختار الصالح أو الطالح. وهنا يبرز دور الإنسان وعقله في الديانة الإيزيدية، حيث اعطته الحرية الكاملة في الاختيار بين الخير والشر وبين النور والظلام وبين الصالح والطالح. والإنسان في الديانة الإيزيدية دائماً في حالة الصيرورة والحركة، فالموت والحياة مكملان البعض بتعاقبهما الدائري المستمر، ومحرك الروح هو الرغبة الكامنة في كل اعمالها وفعالياتها، وهي تسيطر على الخواص الأخرى.

والديانة الإيزيدية لها اتصال مباشر مع الله لعدم وجود نبي أو رسول من الله ليهديه إلى الطريق الصحيح، فأن مسؤولية الفرد الإيزيدي في الحياة كبيرة وهذه سببت له هموماً وأعباء إضافية، فالروح البشرية تنبع من بذرة إلهية، لكنها تدخل جسداً بشرياً، وأن هذا الجسد البشري هو أساس الإنحراف إلى السوء إن لم يتحكم بها العقل المنير، ويجب على الإنسان أن يكون صبوراً كي يصل إلى شعاع الحقيقية، فالفرد الإيزيدي مخير في اعماله الخيرة أو الشريرة. ويعتقد الإيزيديون بأن الله في كثير من الحالات يعاقب الإنسان على أفعاله الشريرة في حياته وترتبط حالة الأمراض عند الإيزيدية بفلسفة ديانتهم على اعتبار المرض نتيجة عقاب الإنسان بسبب سوء أعماله وعلاقته الرديئة مع الله.

ويعتقد الإيزيدية بأن الموت هي حالة لا بد منها، وهي التجربة الأولى من الحياة، وأمراً طبيعياً محتوماً، ولا اعتراض على حكم الله. وقد شغل الموت فكر الإنسان الإيزيدي منذُ القِدم، ويحدثنا الأدب الشفاهي الإيزيدي عن اسطورة (مير مح)، ذلك الأمير الذي حاول بجهود مضنية البحث عن الخلود أو الوصول إلى مكان لا يلاحقه شبح الموت، إلا أنها تشبه ملحمة كلكامش البابلية، وتبين من خلالها الصراع بين الموت والحياة ومحاولة الإنسان للتعرف على ماهية الموت. إلا أنه في النهاية بأن الموت حقيقة وهو المصير المحتوم للإنسان.

أما فكرة الحلول في الميثولوجيا الإيزيدية فتقوم على أساس أن كل إنسان يحمل جزءاً من ذات رئيس الملائكة (طاووس ملك)، الذي خلق الله من نوره أو من ذاته، وهذه الفكرة مبنية على اساس ما كان كله مقدساً تصبح اجزاءهُ الصغيرة مقدسة أيضاً في حالة التقسيم، ولعظمة هذا الملاك في المعتقد الإيزيدي ترى الديانة الإيزيدية بأن الإنسان يولد وكيانه يحوي شيء من قدسية طاووس ملك، وبالتالي جزءاً من الله، ولكن ليس بدرجة طاووس ملك، لأنهُ هو المنبع الذي يستمد منهُ قوتهُ الإضافية بسبب ارتباطه المباشر معهُ، وهذه المعرفة تجري بوعي، فالمصدر واحد لكن شريان الامتداد ودرجة الأخذ والعطاء تختلف من فرد إلى آخر، وهنا يتحكم العقل.

أما بالنسبة للروح وفق فلسفة الديانة الإيزيدية، فالجسد يتضمن في كينونته المادة والحياة والروح والعقل حال وجوده على وجه الأرض، وبواسطة تواجد الجزء الإلهي فيه يحاول الجسد تطوير الروح إلى الأحسن، وهكذا تنتقل الروح ثانية بعد موت الجسد إلى جسد ثاني وثالث إلى أن تتنقى وتعود إلى مصدرها الأول أو الروح الأزلية، كما أن الحلقة الدائرية لفكرة طاووس ملك هي نفس الحلقة الدائرية لحياة الإنسان بموجب فكرة تناسخ الأرواح، فالروح تتعاقب بالعودة إلى الأرض مرة وأخرى إلى أن تستكمل صفائها بالتجربة الذاتية لتواجه الله بنقاء تام في يوم القيامة.

واليوم الآخر والقيامة بالنسبة للديانة الإيزيدية تختلف عن الأديان الأخرى في تفسيرها، إذ يؤمن الإيزيديون بأن اليوم الآخر يسبق يوم القيامة، وتجري فيه محاسبة الروح بعد خروجها من الجسد بغية أختيار جسد آخر مناسب لها، ويتوقف هذا الأختيار على الأفعال الحسنة والسيئة للروح، فإذا كانت الحسنات منها أكبر تدخل الروح إلى الأجسام الطاهرة والطيبة، أما إذا كان العكس فتدخل الروح إلى اجسام مكروهه لتتعذب، وهكذا تنتقل الروح بين الأجساد إلى يوم المحاسبة النهائية للروح، وهو الذي يسمى في الإيزيدية بيوم القيامة، إذ لا تعود الروح إلى الأرض ثانية، حيث نهاية الكون وعالمنا هذا. والعلاقة بين الروح والجسد بسبب حسناتها وخطاياها تخضع لقانون الفعل ورد الفعل، الثواب والعقاب. فالروح ضيف مؤقت على وجه الأرض وهي أرقى وأقدس شيء في الجسد، والروح عندما تفارق الجسد ستدخل جسداً آخراً وهكذا تتكرر العملية إلى أن تصل مرحلة السمو.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

...................

المصادر:

1- شرفخان البدليسي، الشرفنامة في تاريخ الدول والإمارات الكردية، ترجمة: ملا جميل بندي روزبياني، بغداد، 1953، ص147.

2- خليل جندي، نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية، اينبيك، 1992.

3- عدنان زيان فرحان، الكرد الإيزيديون في أقليم كوردستان العراق، السليمانية، 2004، ص15.

4-  أرشد حمد محو، الإنسان في فلسفة الديانة الإيزيدية، دراسة مشاركة في أعمال المؤتمر الفلسفي الحادي عشر المنعقد بتاريخ 6/7 تشرين الأول 2012 لقسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة، بغداد، ط1، 2013، ص117.

5- أرشد حمد محو، الإيزيديون في كتب الرحالة البريطانيين من مطلع القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، دهوك، 2012، ص94/97.

6- زينفون، الصعود، ترجمة، يعقوب افرام منصور، مجلة المورد، المجلد الرابع، العدد: 2، بغداد، 1975، ص91.

7- عز الدين سليم باقسري، مه ركه الإيزيدية الأصل المفاهيم التسمية الطقوس والمراسيم والنصوص الدينية، من منشورات مركز لالش الثقافي والاجتماعي، دهوك سلسلة (1)، 2003، ص22.

8- هوشنك بروكا، دراسات في ميثيولوجيا الديانة الإيزيدية، المانيا، 1995، ص38/39.

10- شكري رشيد خيرافاي، فلفسة الموت في بعض المعتقدات والديان، مجلة لالش، العدد: 28، دهوك، 2008، ص112.

وعند السيكولوجيا.. الخبر اليقين!

تــوطئــة: الشعر العراقي له تاريخ يمتد لقرون، وتذكر في مصادر إنخيدوانا أو إنهدوانا (2285-2250 ق م) وهي أميرة أكدية من أهل القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، والكاهنة الأعلى للإله نانا إلهة القمر عند السومريين في مدينة أور، وأنها أقدم شاعرة معروفة تم تسجيل اسمها!.وقد عرف العراق بـ«بلد الشعر والشعراء» أو «بلد الشعراء» عند الأدباء العرب.

واستمر الشعر في صعود لاسيما في العهد العباسي حيث دعمه الخلفاء والأمراء واجزلوا العطاء والهبات للشعراء، ليصبح هو الهوية للثقافة العربية وصورة ذلك العصر. ومع تعرض العراق عبر تاريخه لمحن، أقساها ما حدث لبغداد على يد هولاكو(1258)، ورمى الكتب وبينها دواوين الشعر في دجلة، فأن العراق بقي موطن الشعر والشعراء.

هذه المقالة تهدف الى الأجابة عن هذا السؤال:

لماذا.. العراق موطن الشعر والشعراء؟

سيفاجأ الشعراء ونقاد الشعر أن الأسباب سيكولوجية خالصة.. ولكن قبلها، دعونا نستطلع آراء عدد من المثقفين عن اسباب تفرّد العراق بهذه الظاهرة.

ما الشعر؟

اطلعت على الكثير من تعاريف الشعر، فوجدت أنهم يصفونه فنيا ويغفلونه نفسيا. اليكم اشهر ما قيل عنه:

ابن منظور: "الشّعر مَنظومُ القول غلب عليه؛ لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كلّ عَلَم شعراً".

الجرجاني: "إن الشعر علم من علوم العرب ويشترك فيه الطبع والرواية والذكاء".

بن طباطبا: " هو الكلام المنظوم البائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم ونظمه معلوم محدود".

أما ابن خلدون فيقول عن الشعر بأنه: "الكلام المبني على الاستعارة والوصف المفصّل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده".

ما يعني ان معظم من عرفوا الشعر من القدماء والمحدثين، ركزوا على الجانب الفني (القافية، الوزن،.... ) واغفلوا الجانب السيكولوجي فيه.

الشعر.. سيكولوجيا

الشعر، برأينا، حقيقة سيكولوجة مطلقة، لأنه انفعالات، والانفعالات لها فص موجود في الدماغ مسؤول عن الفرح، الحزن، الغضب، الحب، وأن كل انفعال له هرمون خاص يزداد حين يستثار. فالشعور بالفرح، مثالا، مرتبط بهرمون "الدوبامين" الذي يُنشط المخ ليفرز "السيروتين والأندورفين والاندوكانابى المضادة للضجر". وحين تقع في الحب يفرز "الأدرينالين والدوبامين" اللذين يزيدان شعورك بالسعادة. وعند الغضب تزداد ضربات القلب ويرتفع التنفس وتنقبض العضلات، لترسل إشارات لإفراز "الأدرنالين والكورتيزول والتيستوستيرون".

ولأن الشاعر لا يقول شعرا مؤثرا الا حين يستثار انفعاليا، فأن مقولتنا.. (الشعر حقيقة سيكولوجية مطلقة).. تكون هي الأصدق في وصف حقيقة الشعر.

شعراء ومثقفون.. يؤيدون

اول الشعراء الذي يؤيد مقولتنا هي نازك الملائكة باصدارها كتاب (سيكولوجية الشعر ومقالات اخرى 1979). ومن ابرز الأكاديميين، الدكتور حاتم الجواهري الذي يرى ان للشعر عملية سيكولوجية محددة، فهو لا يكتب الا عند حالة من التوحّد والتشّبع بروح ما (يقصد انفعال ما ).فيما يرى الدكتور فالح نصيف الكيلاني ان الشاعر يتخذ موقفا واحدا من الحياة، اما ان يكون منطلقا في رحابها او منطويا على نفسه.. اما متفائل فرح يملأ قلبه السرور والانشراح، او متشائم مفعم قلبه بالالم والحسرة والحزن.

وترى الدكتورة لطفية الاعكل أن الغموض خاصية الشعر العربي قديما وحديثا.. وتقصد ان الغموض يثير في المتلقي دافعا سيكولوجيا لكشف حقيقته. يشاركها الرأي الكاتب عز الدين اسماعيل في كتابه (الشعر العربي المعاصر...) الذي يرى ان جمالية القصيدة المعاصرة مرتبطة بالغموض، وأن (الرمز) في القصيدة يفعل ذات الفعل السيكولوجي الذي يحدثه في المتلقي. وتعدّ قصيدة (انشودة المطر) لبدر شاكر السياب من اجمل القصائد التي وظّف فيها الرمز بشكل مكثف من صور شعرية فنية مليئة بغموض فني سيكولوجي، ما يثير لدى المتلقي أمنية اشراقة الحرية على الوطن.. لنخلص الى ان الغموض والرمز يعبران عن معاناة الشاعر واغترابه الذي يعيش في وطن مشحون بضغوط نفسية وأزمات وتوالي خيبات.

استطلاع رأي

في (7 ايلول 2023) توجهنا باستطلاع كان نصه:

(العراق موطن الشعر والشعراء.

شو السبب :

جينات، وراثة، احداث مفجعة، قساوة انظمة حكم، حب جنون...؟)

اليكم نماذج من الأجابات:

سيد وحيد البوهلاله

تعاقب انطمة الحكم واغلبها ذات طابع حرمان وظلم وسلب حق المواطن جعلت الفرد العراقي بحاجة الي اهتمام لم يجده ابدا، فنتج عن هذه المعاناة عظماء في الادب والشعر والسياسه وكذلك طبقه مميزه من الفنانيين جسدوا مراحل للشعب العراقي عبر تحدي الصعاب والحرمان.

د.عقيل مهدي يوسف

الشعر يحقق.. التطهير.. في كل لغات العالم.. ولكل ماتفضلت به دكتورنا من اسباب.. تتعلق بالبيئة الاجتماعية والسلطة والسايكولوجية الذاتية والعامة.

عبد العزيز ججو

العراق من الشعوب العاطفية قياساً لخمسين شعبا عايشتها. شعب مر بمراحل جعلته يحلم كثيراً ويحصل على القليل من الحكام القساة، وبالتالي عندما تتوفر له فرصة فانه يفرغ ما عنده من غضب على من هو ادنى منه وبقساوة، لانه يعتقد بان ذلك من حقه وهو الاسلوب الصحيح.. واحد اشكال التعبير عن ذلك وجدانياً هو الشعر والغناء.

علي نعمة

ربما طبيعة العراق تنوع أرضه وانهاره َوالمروج الخضراء وتقلب المناخ إضافة إلى كثرة الحروب الفواجع، جعلت من العراقي إنسانا رقيقا شفافا مرهف الحس عميق الحب شديد الحزن.

مهدي نعيم الحلفي

الظروف الي يعيشها المواطن العراقي تجعل منه شاعرا وفيلسوفًا.

د. الكفائي

لكل الاسباب التي ذكرتها دكتور ويضاف اليها.. انظمة حكم فاشلة جعلته يعاني من القهر والظلم والعوز المادي.

فاضل عبود

العراق ومنذ فجر التاريخ مطمع للجيران فارتبط تاريخه بالاحتلالات والغزوات وهذا يتطلب من اهله مقاومة الغزاة فكان الشعر احد وسائل رفع المعنويات وصولا الى استخدام الهوسات (الطوب احسن لو مكواري ) مثالا.

بهاء التميمي

الشعر غالبا مواهب وليس مكاسب.

هادي علي

تعدد حالات ألمجتمع من ألرفاهية ألمفرطة إلى ألحرمان ألشديد وألشعور بالظلم وألتذمر وألأنتقاد للسلطة في كل ألعصور.

د. صالح الطائي

للبيئة اثر كبيرعلى انماط السلوك البشري، لاسيما ما يتحصل عليه من خلال المثاقفة مع الاخرين.ولان مجمل حياتنا تحيط بها الفجائع والالم فان الغناء يعد مصدرا للتنفيس، والشعر هو الغذاء الروحي للغناء، فكثر عندنا شعر التفجع وغناء الآه والحسرة، فضلا عن موروثنا القديم يوم كانت بغداد قبلة شعراء الدنيا.

نوري خرخاش

ليس العراق وحده يتميز بذلك فان موريتانيا مليئة بالشعراء، ولكن لكل بلد بصمته الشعرية التي تميزه عن غيره بسبب البيئة المعاشة.والعراق بلد المعاناة وصدق المشاعر التي لا يمكنه البوح بها مباشرة الا من خلال درع الشعر فهو المساحة الوحيدة التي ترتاح بها النفوس المتعبة.

حسين راشد الجبوري

الظروف القاهرة تؤدي الى جعل الانسان في موضع دفاعي تجاهها وبأقل الخسائر عن طريق الشعر.هذا من جهة، وطريقة سهلة لجني الرزق من جهة أخرى.

احسان الفرج

الابداع يولد من رحم المعاناة.. ما يعني أن كل عناصر الظلم والإيلام و القهر و التعذيب عبر التاريخ، تشترك في صقل الشخصية العراقية وجعلها مبدعة في الشعر بشكل خاص.

د. عزيز مزعل

اعتقد كل ماذكرت، فضلاً عن ظلم وحرمان طويل وطويل جداً، حتى انطبع بمنجزاته وبات يشكل علامه فارقه، ناهيك عن توفر خصب الخيال، الميزه التي لابد من حضورها لغرض الابداع.

احمد الخياط

الشعر يحتاج لخيال واسع جدا للحياة والكون والوجود.وكان من ناتج هذا الخيال.. اختراع الكتابة من خلال تصور نوع الحرف بالتعامل الإنساني، فكانت الكتابة الصورية اول اختراع للانسان العراقي، فالرمزية فاللهجات المستعملة على صعيد الواقع.وهذا الخيال الواسع انتج ليس الشعر وحده وانما المدنية والزراعة والعمارة والحقوق والعلاقات بين الناس والدول.وأول قصيدة مكتشفه قبل ٤٠٠٠ عاما نقشت على ١٢ عشر لوح هي.ملحمة كلكامش التي بينت عظمة وقوة الخيال والفكر وجسدت البحث عن سر الوجود واكسير الحياة فيها والحب وفلسفة الوجود، والذي لايزال العالم يبحث عن سر الوجود واكسير الحياة فيها والحب رغم تقدم كل العلوم والتكنولوجيا والمعرفة.

عباس

Log into Facebook

Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.

موسى

ياسيدي: حينما ينكمش الدماغ يطول اللسان!

استنتاجات

اوضحت نتائج الأستطلاع ان كل الأسباب المذكورة فيه كانت وراء ان يكون العراق موطن الشعر والشاعر، واختلفوا في حجم دور كل سبب، وأضافوا اسبابا اخرى مهمة، لكن معظمهم اتفقوا على أن طبيعة الأحداث التي عاشها العراقيون عبر تاريخهم هي السبب الرئيس: (شعور بالظلم، بالقهر، بالحرمان، بالعوز، بالتذمر.كثرة الحروب وما نجم عنها من فواجع وفقدان أحبة.انظمة حكم فاشلة سلبت حق المواطن..).

الأغتراب.. السبب الرئيس

ما تفضل به المستجيبون.. صحيح. ومع ان جميع الأسباب.. سيكولوجية، الا اننا نرى أن السبب السيكولوجي الرئيس هو الأغتراب.. الذي شغل اهتمام فلاسفة (هيجل، ماركس، روسو، سارتر..) وعلماء نفس بدءا من فرويد الى المعاصرين.

ومع تعدد نظريات الأغتراب (نعم نظريات!) فأننا نرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل عدد من الاسباب نوجز اهمها بالآتي:

1. العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجيةاهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.

2. فقدان المعنى: ويعني الاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.

3. فقدان المعايير: ويعني نقص الاسهام في العوامل الاجتماعية المحددة للسلوك المشترك.

4. التنافر الحضاري: ويعني الاحساس بالانسلاخ عن القيم الاساسية للمجتمع.

5. العزلة الاجتماعية: وتعني الاحساس بالوحدة والشعور بالنبذ.

6. الاغتراب النفسي: ويعدّ اصعب حالات الاغتراب تعريفا ويمكن وصفه بانه ادراك الفرد بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته(أنا منو؟!).

ونضيف لها (الفقر).. في مقولة سبق بها الامام علي علماء النفس: (الفقر في الوطن غربة).. لاسيما اذا كنت تعيش فقيرا في اغنى بلد في العالم!

غير ان هنالك نوعا آخر من الاغتراب هو الاغتراب السياسي، ويعني: الشعور بخيبة الأمل والعجز والنفور من العمل السياسي، واعتقاده بأن العملية السياسية بكاملها صارت لا معنى لها في وطنه.. فيغادره في حالة صراع سيكولوجي، بين أن يكون طاردا للوطن او مطرودا منه، وبين من يعدّ الرحيل عن الوطن مسألة مشروعة وبين من يعدّه قيمة لا اخلاقية لأنه اناني.. يهرب بنفسه ويترك الأهل والأحبة للعذابات التي هرب منها، وبين من راح يمنّي النفس بشمّ هواء الحرية في الغربة وبين من اختنق بهواء المنفى.

استنتاج ختامي

ان السر الذي يكشف صدق مقولة (العراق.. موطن الشعر والشاعر) يكمن في ان قراءتنا لتاريخ الشعر في العراق اوصلتنا الى مقولة جديدة هي ان (الشعر.. حقيقة سيكولوجية مطلقة) وانها تتمتع بالمصداقية وتشكل اضافة عراقية في نقد الشعر.. أم أن للشعراء رأيا آخر؟

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسيية العراقية

تتميز الحياة خلال هذه الحقبة بأنها الأكثر تواصلًا في تاريخ البشرية، وبالعديد من الإيجابيات حيث يتمكن أفراد الأسرة الواحدة البعيدون عن بعضهم من الالتقاء عبر جلسة FaceTime والاستمتاع بوقت عائلي ممتع سوياً.

لكن الكثير من التكنولوجيا - سواء أكان ذلك الوقت الذي نقضيه على الهواتف الذكية، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو أمام الشاشات الرقمية الأخرى - يمكن أن يكون له عواقب غير محمودة. وقد يشير ذلك إلى الحاجة إلى التخلص من السموم الرقمية.

إن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا يمكن أن يكون على حساب الأنشطة الأخرى مثل النوم، وممارسة الرياضة، والتواصل الاجتماعي الوقعي، والتي تعتبر كلها مهمة لتحقيق الصحة العامة.

تقول العالمة الأمريكية " كارول فيدال" Carol Vidal أستاذة الطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة جونز: "أن الاستخدام المتكرر للتكنولوجيا يرتبط بزيادة أعراض نقص الانتباه، وضعف الذكاء العاطفي والاجتماعي، وإدمان التكنولوجيا، والعزلة الاجتماعية، وضعف نمو الدماغ، واضطراب النوم في بعض الحالات".

الاستخدام المرضي للتكنولوجيا

النوموفوبيا هو الإدمان على استخدام هاتفك المحمول والأجهزة الرقمية الأخرى. وهو مصطلح جديد يعني نوع من الرهاب والخوف المرضي، والذعر من الانفصال عن الأجهزة الرقمية وخاصة الهاتف المحمول. فما هي العلامات والاختبارات للتعرف عليه؟ ما هي العواقب على الحياة الاجتماعية أو المهنية؟ وهل يؤثر فقط على الشباب؟ كيفية التخلص من ذلك؟

وجدت دراسة استقصائية أجرتها شركة "ديلويت" Deloitte عام 2020 أن حوالي 69% من مستخدمي الهواتف الذكية يقومون بفحص منصة التواصل الاجتماعي في الدقائق الخمس التي تسبق الذهاب إلى السرير، وفي غضون 30 دقيقة بعد الاستيقاظ صباحا.

إن الاتصال الرقمي أمر بسيط وسهل وجذاب، وقبل كل شيء عمل تجاري. وسرعان ما يصبح عادة تملأ الفراغ. الشاشات، وخاصة الهاتف، هي نوع من السلع الاستهلاكية: نحن ننطلق، وننتقل من شبكة اجتماعية إلى الأخبار، من صورة أزياء إلى فيديو ترفيهي. دماغنا يسير في كل الاتجاهات وليس لديه سوى القليل من الوقت للجلوس والتفكير بشكل بناء، فهو ليس في رحلة حسية يمكن أن تغذيه، بل في شكل التجول دون هدف كبير. في النهاية، يؤدي الإفراط في استخدام التكنولوجيا الرقمية إلى الإرهاق بصرياً وعقلياً وعاطفياً، مصحوبًا بنوع من الملل. ويؤدي ـ وهو الأخطر ـ إلى الإدمان. لذلك من المثير للاهتمام التخلص من السموم من وقت لآخر.

ما هي فوائد التخلص من السموم الرقمية؟

 إذا كنت مثل معظم الناس، فإن منبه هاتفك الذكي يوقظك في الصباح. أثناء الاستعداد للذهاب إلى العمل مع تستمع إلى بعض الأخبار التلفزيونية، ثم تتفقد وتمسح رسائلك النصية ضوئياً. على مدار اليوم، تكرر عملية التحقق من البريد الإلكتروني، وإجراء بعض الدردشة مع الأصدقاء. ثم المرور على Facebook وInstagram  ومنصة X، وكتابة بعض التعليقات، أو نقرات الإعجاب. في المساء، يمكنك مشاهدة برامجك التلفزيونية المفضلة أثناء التسوق عبر الإنترنت، وتسجيل الدخول على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي وقت النوم، تستخدم تطبيقات الهاتف الذكي للتأمل أو للاستماع إلى بعض الضوضاء البيضاء، أو تصفح TikTok.

هذا مجرد يوم نموذجي لكثير من الناس. في الواقع، يقضي الأمريكيين ـ على سبيل المثال ـ ما معدله أربع ساعات في مشاهدة التلفزيون ونحو سبع ساعات ونصف الساعة على الأجهزة الرقمية. ليس من المستغرب أن الكثير من الوقت الذي نقضيه أمام الشاشات يشكل ضغطاً على الكثير منا.

قد يكون الحل هو التخلص من السموم الرقمية، والتي يمكن أن توفر الراحة من ضغط الاتصال المستمر بالأجهزة الإلكترونية. لقد وجدت الأبحاث أن القيام بالتخلص من السموم الرقمية قد يساعد أيضاً في تحسين نومك وعلاقاتك ومزاجك.

التخلص من السموم الرقمية

التخلص من السموم الرقمية هو الوقت الذي يقضيه الأفراد بدون الأجهزة الرقمية، مثل الهواتف الذكية، وأجهزة الحاسوب، ومنصات التواصل الاجتماعي. دخل المصطلح لأول مرة إلى قاموس أكسفورد في عام 2014، ومنذ ذلك الوقت يُستخدم بشكل متزايد في الدراسات.

برزت الحاجة إلى فترة من الوقت يمتنع فيها الأشخاص طوعاً عن استخدام الأجهزة التي تحيط بحياتنا، بازدياد الوقت الذي يستهلكه الأفراد على الأجهزة الرقمية والإنترنت، وزيادة نسبتهم بصورة مرعبة.

يتم استخدام التخلص من السموم الرقمية للابتعاد عن الشاشات والهواتف لمدة أسبوع أو شهر أو أكثر. كيف نفعل؟ ما المزايا؟ تعليمات للابتعاد عن التوتر المزمن والتمتع بالهدوء أكثر.

بعيداً عن كونه تحدياً سهلاً، فإن التخلص من السموم الرقمية يتكون من التخلص من الشاشات لفترة معينة من الوقت للتخلص من الاتصال المفرط. يوم واحد، أسبوع واحد، شهر واحد أو أكثر. إذا أصبح اتجاه التخلص من السموم الرقمية أكثر شيوعاً، فذلك لأن التكنولوجيا الرقمية تشغل مساحة متزايدة في حياة الشعوب، الذين يقضي بعض منها ما معدله أربع ساعات واثنان وعشرون ساعة يومياً أمام الشاشات (باستثناء العمل)، وفقاً لأحد التقارير الذي يتناول نتائج دراسة أجرتها مجموعة BVAوقام بها خبراء السلوك. اعترف ما يقرب من ثلثي الفرنسيين أنهم يعتمدون على أدواتهم المتصلة بالأجهزة الرقمية، والثلث يعتمدون عليها بشكل كامل، مما يسبب لهم الشعور بالحرمان. ومع ذلك، لا ينبغي شيطنة هذه الأجهزة، بل يجب استخدامها بطريقة أكثر مسؤولية ورعاية. لذا، في الوقت الذي تنتشر فيه الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وأجهزة التلفاز وأجهزة الحاسوب والساعات المتصلة في كل مكان في حياتنا اليومية، يبرز السؤال الهام: كيف يمكنك التخلص من السموم الرقمية؟ وماذا نستفيد من تركهم لفترة من الزمن؟

ما هو التخلص من السموم الرقمية؟

تعريف التخلص من السموم الرقمية هو أخذ استراحة من استخدام الأجهزة الإلكترونية أو وسائط معينة لفترة من الوقت، من بضعة أيام إلى عدة أشهر. لكن التفاصيل تختلف من شخص لآخر. الأشياء التي يتجنبها الأشخاص أثناء التخلص من السموم الرقمية قد تشمل ما يلي:

ـ التحقق من البريد الإلكتروني. ـ ألعاب الفيديو. ـ تصفح وسائل التواصل الاجتماعي. ـ الرسائل النصية. ـ استخدام الهواتف الذكية أو الأجهزة اللوحية. ـ مشاهدة الأخبار أو البرامج التلفزيونية الأخرى.

التخلص من سموم وسائل التواصل الاجتماعي

يعد أخذ استراحة من مشاهدة وسائل التواصل الاجتماعي أو المشاركة فيها، هو الشكل الأكثر شيوعًا للتخلص من السموم الرقمية. إن وسائل التواصل الاجتماعي تربطنا بالآخرين بعدة طرق مفيدة، ولكن في الوقت نفسه، يمكن أن يكون لها أيضاً تأثير غير صحي على الناس. تجارب وسائل التواصل الاجتماعي السلبية يمكن أن تثير القلق والاكتئاب وتؤثر على احترام الذات. هذا يتضمن:

ـ الغضب أو الانزعاج من المحتوى المنشور. ـ التنمر الإلكتروني (التسلط اللفظي عبر الإنترنت). ـ الخوف من الضياع. ـ مشاعر العزلة. ـ المقارنات الاجتماعية.

فوائد أخذ استراحة من التكنولوجيا

يعد التخلص من السموم الرقمية طريقة رائعة لمعرفة ما إذا كانت التكنولوجيا تمنعك من عيش حياتك الأفضل. يمكن أن تكون نتائج الانفصال بعيدة المدى، بدءًا من زيادة الإنتاجية في العمل وحتى تعميق علاقاتك مع العائلة والأصدقاء. تشمل فوائد أخذ مهلة للتكنولوجيا ما يلي:

ـ تركيز أكثر حدة:

من خلال أصوات التنبيه المتكررة والإشعارات المنبثقة على الأجهزة الإلكترونية، من السهل تشتيت انتباهك عما يدور حولك. أثناء عملية التخلص من السموم الرقمية، قد تجد أنك تلاحظ المزيد في محيطك المباشر. يمكن لعقلك التركيز بشكل أفضل على مهامك.

ـ ضغط اقل:

بالنسبة لبعض الناس، يمكن أن يكون الكثير من المعلومات مرهقاً. نلاحظ ـ على سبيل المثال، العديد من الأشخاص الذين يشعرون بالانزعاج الشديد من مشاهدة الأخبار لفترات طويلة، وبمجرد أن يقللوا من استهلاكهم للأخبار ويبدأون في القيام بشيء آخر، يشعرون بالهدوء.

ـ تفاعلات اجتماعية أفضل:

يؤدي القضاء على عوامل التشتيت الرقمية إلى خلق المزيد من الفرص للانتباه إلى من حولك. على سبيل المثال، بدون الأجهزة الموجودة على العشاء، يمكنك التفاعل بشكل طبيعي والتواصل بشكل أكبر مع عائلتك. أو إذا لم يكن أنفك مدفوناً في هاتفك الذكي، فلديك فرصة مقابلة شخص جديد في مكان ما تتواجد فيه. وإذا كانت الرسائل النصية محظورة، فمن المرجح أن تلتقط الهاتف للدردشة مع صديق.

ـ المزيد من السيطرة على وقتك:

هل شعرت يوماً برغبة عارمة في التحقق من هاتفك الذكي أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي؟ انت لست وحدك. في المتوسط، يتفقد الغربيين هواتفهم الذكية 96 مرة يومياً ويقضون أكثر من ساعتين على وسائل التواصل الاجتماعي. بالنسبة للعديد من الأشخاص، يعد التحقق من هواتفهم أو وسائل التواصل الاجتماعي كلما كانت هناك بضع دقائق مجانية بمثابة إجراء لا يستند إلى أي حاجة حقيقية. يساعدك أخذ استراحة من الأجهزة أو الوسائط الرقمية على مكافحة الاستخدام القهري.

يقول أحد الذين خضعوا لتجربة التخلص من السموم الرقمية في الولايات المتحدة: "لقد انقطعت عن الفيسبوك لفترة من الوقت عندما كنت أدرس لامتحان الترخيص الخاص بي. لقد كان الأمر ممتعاً جداً، لأنني لم أرد على التنبيهات. على الرغم من أنني بدأت في استخدام الفيسبوك مرة أخرى، إلا أنني لا أستخدمه كثيراً. ما زلت أقوم بتسجيل الخروج كل يوم حتى لا تزعجني التنبيهات. أنا أقوم بالتحقق عندما أريد التحقق من ذلك. إنه أمر مريح لأنني لم أعد مستهلكاً لما يحدث".

علامات تحتاج إلى اخماد الأجهزة

هل تتساءل عما إذا كنت بحاجة إلى التخلص من السموم الرقمية؟ إذا تسبب استخدام الوسائط الإلكترونية في تعرضك لأي من التجارب التالية، فهذه علامة على أنك قد تحتاج إلى قطع الاتصال:

ـ مكتئب المزاج. ـ زيادة التهيج والإحباط أو الغضب. ـ الشعور بعدم الأمان. ـ فقدان النوم أو النوم المتقطع. ـ الشعور بالالتزام بالاستهلاك، أو الاستجابة، أو التفاعل، أو التحقق.

كيفية القيام بالتخلص من السموم الرقمية

1ـ  اتخاذ قرار بشأن السلوك الذي تريد تغييره: تحديد المشكلة. هل أنت متصل دائماً بهاتفك الذكي؟ هل الأخبار تضغط عليك؟ هل تقضي الكثير من الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي؟ اكتشف الأنشطة التي تريد تقليلها أو التخلص منها.

2ـ إنشاء الأهداف: حدد هدفاً لنفسك بناءً على ما إذا كنت ترغب في تقليل استخدام جهاز معين أو نوع معين من الوسائط أو التخلص منه. اجعل الاستخدام محدد. وهل سيكون طوال اليوم أم في أوقات معينة فقط؟ على سبيل المثال، قد تقرر قضاء 15 دقيقة فقط يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي، أو وضع هاتفك في غرفة مختلفة ليلاً، أو جعل يوم الأحد يوماً خالياً من التكنولوجيا.

3ـ الالتزام بالوقت: يستغرق الأمر وقتاً لكسر العادات الرقمية القوية. خطط للالتزام بأسبوعين على الأقل. تريد الوصول إلى النقطة التي تشعر فيها وكأنك قد كسرت هذه العادة.

4ـ جمع الدعم: من الجيد أن يكون لديك شريك أو أحد أفراد العائلة أو صديق مقرب لتشجيعك وتوفير المساءلة. شارك أهدافك مع الأشخاص الداعمين. يمكنك أيضاً أن تطلب منهم أفكاراً حول كيفية إيقاف سلوكك المستهدف.

5ـ تقييم التقدم المحرز الخاص بك: بعد أيام قليلة من بدء التخلص من السموم الرقمية، تحقق بنفسك من كيفية سير الأمور. احذر من استبدال عادة رقمية بأخرى. على سبيل المثال، إذا كنت تقضي المزيد من الوقت على Instagram  الآن بعد أن أصبحت خارج فيسبوك، فقد تحتاج إلى التفكير في إزالة الوسائط الاجتماعية بالكامل.

6ـ فكر في التغييرات طويلة المدى: لاحظ الفوائد والعوائق التي واجهتها أثناء التخلص من السموم الرقمية. ماذا حدث عندما توقفت عن مشاهدة الأخبار لمدة ثلاث ساعات متواصلة؟ ما هو شعورك عندما لا تستخدم Facebook أو Instagram؟ هل كان الأمر أسهل مما كنت تعتقد أم كان من الصعب القيام به؟ ثم قرر ما إذا كنت ترغب في استمرار أي جانب من جوانب التغيير للأمام. على سبيل المثال، جعل القاعدة المنزلية هي عدم استخدام أي شخص للوسائط الرقمية أثناء العشاء العائلي. أو قم بمعالجة تغيير المزيد من العادات الرقمية الآن بعد أن أكملت بنجاح عملية التخلص من السموم الرقمية الأولى.

إن القيام بالتخلص من السموم الرقمية يتعلق بالتحكم في كيفية قضاء وقتك وطاقتك وما توليه اهتمامك. فهو يساعدك على إدراك ما تريده أكثر فأقل حتى تتمكن من التخلص من العادات غير المفيدة وإنشاء عادات جديدة ذات معنى أكبر.

الآثار والمخاطر

تبين الدراسات أن الإفراط في استخدام التكنولوجيا يؤدي إلى تقليل جودة النوم، ويسبب إجهاد العين ومشاكل في الرؤية، كما يؤدي إلى زيادة حدوث الصداع النصفي. وجدت دراسة بحثية سابقة أجريت على أكثر من 7000 مشارك في الدنمرك عام 2021 أن ما يقرب من 70% من أولئك الذين يستخدمون التكنولوجيا مع الشاشات قد عانوا من "إجهاد العين الرقمي نتيجة الاستخدام المتزايد.

أشارت الأبحاث حول تأثيرات الأجهزة التكنولوجية الشائعة مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الحاسوب على النوم إلى أن الضوء المنبعث من الشاشات قد يثبط إنتاج هرمون الميلاتونين، وهو مادة كيميائية حيوية تنظيمية مهمة تتحكم في مدة وطبيعة دورات النوم للإنسان.

وفقًا للإحصاءات، يقوم العديد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بزيارة منصاتهم عدة مرات يومياً، حيث يقوم بذلك 68% من مستخدمي سناب شات، و50% من مستخدمي فيسبوك. استنادًا إلى دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث عام 2019، يستخدم 73% من البالغين في الولايات المتحدة موقع YouTube، و37% يستخدمون  Instagram، و69% يستخدمون  Facebook. ويبذل حوالي 60% من مستخدمي Facebook جهداً للخضوع لعملية إزالة السموم من وسائل التواصل الاجتماعي.

من الناحية العملية، يحتاج الجميع تقريباً إلى القيام بالتخلص من السموم الرقمية. بعض الناس أكثر من غيرهم بالطبع. ليس من الممكن ألا ندرك في لحظة معينة أن استهلاك الفرد الرقمي يمثل مشكلة. تشعر بالتعب، أو الشبع، أو الملل العميق، والذي غالباً ما يبدو وكأنه محفز، الزناد الذي يجب عليك إيقافه. حتى أن المتخصصين يصفون مرضاً يسمى نوموفوبيا (الخوف من البقاء بدون هاتفك). ومن الناحية النظرية، هناك اختبارات لمعرفة ما إذا كنت مدمناً أم لا.

الهاتف ليس له قيمة تشخيصية، لكنه يسمح لك بوضع نفسك على مقياس الاستهلاك الرقمي. على سبيل المثال، هناك واحد تم تطويره بواسطة العالم الأمريكي "ديفيد جرينفيلد" David Greenfield مؤسس مركز إدمان الإنترنت والتكنولوجيا. هذه سلسلة من 12 سؤالًا يجب الإجابة عليها بنعم أو لا. كل نعم تقابل نقطة واحدة. يقدر أنه من 4 نقاط أو أكثر من المحتمل أن يكون لدى الشخص نمط استخدام إشكالي أو قهري. ومن بين الأسئلة:

ـ هل تنام بانتظام وهاتفك الذكي تحت وسادتك أو بجوار سريرك؟

ـ هل تجد نفسك تتحقق من الرسائل النصية والتغريدات ورسائل البريد الإلكتروني وترد عليها طوال ساعات اليوم، حتى لو كان ذلك يعني مقاطعة الأشياء الأخرى التي تفعلها؟

ـ هل تشعر بعدم الارتياح عندما تترك هاتفك أو أي جهاز رقمي آخر عن طريق الخطأ في السيارة أو في المنزل، أو عندما لا تكون لديك شبكة أو يكون معطلاً؟

ـ هل يظل هاتفك الذكي جزءًا من إعداد الطاولة عندما تأكل؟

ـ هل تجد نفسك تقضي وقتاً بانتظام في التحديق في هاتفك الذكي أو جهازك اللوحي أو جهاز الحاسوب، على الرغم من أنه قد تكون هناك أشياء أفضل أو أكثر إنتاجية يمكنك القيام بها؟

إنه الوقت المناسب

التخلص من السموم الرقمية بدون سحب القابس بالكامل هي الطريقة الأمثل. بالنسبة لمعظم الناس، لن يتوقفوا عن استخدام التكنولوجيا. ولكن يبدو أن التخفيض هو النهج الأكثر واقعية.

حدد وقتاً في اليوم للابتعاد عن الشاشات.  خذ فترات راحة دورية من التكنولوجيا. خفض مستوى هاتفك واستبدل الهاتف الذكي بآخر بسيط لا يمكنه دعم التطبيقات. قم بإيقاف تشغيل هاتفك في وقت محدد، مثلاً حاول إيقاف تشغيل الطاقة قبل العشاء وحتى صباح اليوم التالي. اضبط إعدادات هاتفك للحد من تطبيقات معينة. يمكن لمستخدمي Apple iPhone تعيين حدود باستخدام Screen Time وجدولة وقت التوقف. إنشاء مناطق ممنوع فيها استخدام الهاتف في المنزل، مثل غرف النوم.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

بحسب الدليل الاحفوري، ونظرية التطور، وكل النظريات التي بحثت في الجنس البشري، فان جميع الانواع البشرية الاخرى في جنسنا انقرضت ماعدا نوعنا الانسان المعاصر او العاقل، كيف انقرضت هذه الانواع البشرية مع انها اكثر تطورا من الثديات الأخرى في طائفتنا، بل حتى من اكثر القردة تطورا في فصليتنا. بل ان نوع الهومو نياندرتال كان نوعا يشابه نوعنا الحالي من حيث التطور البايلوجي والمجتمعي ويملك نفس ذكاء اجدادنا، فما هو السبب وراء انقراض هذه الانواع البشرية واندحارها؟

التطور لايفرض ابدا انقراض الانواع السابقة او السلف عند ظهور نوع جديد فقد عاشت مجاميع الهومو هابليس النوع الاول في جنسنا لالاف السنين وعاصرت كثيرا من الانواع الجديدة اللاحقة التي تفرعت منها .وكذلك الانسان المنتصب وهو نوع سلف لنوعنا ولانواع اخرى ظهرت بعده وعاصرها حتى انقرض قبل ٥٠ الف عام فقط!

النياندرتال تعاصر مع الانسان العاقل - مع انهما ليسا سلفا لبعضهما- لعشرات الالف من السنين. فما السبب الحقيقي وراء الانقراضات الجماعية لمجاميع البشر الاوائل من الانواع الاخرى وماسبب صمود نوعنا فقط!!؟؟

يطرح المختصين بهذا الجانب نظريات وفرضيات عديدة هي اقرب للتكهنات او الاراء فقط حسب رأيي الشخصي .اغلب الاراء او النظريات تتعلق باسباب لها علاقة بظروف الطبيعة السيئة واسباب تتعلق بالطعام او التنافس بل بعضها يلقي اللوم على نوعنا في ان يكون وراء انقراض الهومو نياندرتال. لانعرف الحقيقة الكاملة مهما كانت النظريات او الاراء حصيفة وتعتمد اقحام الادلة المعتبرة المادية والعقلية في اسناد وجهة نظرها. قد يكون فعلا توحش البشر هو وراء احداث الانقراض البشري.قد يكون اجدادنا من نوعنا الهومو سابيان (الانسان العاقل) كانوا على قدر كبير من الوحشية والانانية والعنف واعتبروا ربما الانواع الاخرى البشرية اقل بشرية او عاملوها مجرد حيوانات اخرى فقاموا بأبادة المجاميع البشرية التي عاصرتهم والتي شاء سوء حظها ان تتواجد معنا في نفس الجغرافية او المحيط البيئي ربما قام البشر باكل بعضهم البعض كما ياكلون الطرائد الاخرى؟

علما ان هنالك اراءا كثيرة عن وجود اكلي لحوم البشر في التاريخ وهنالك ادلة اكثر عن قتل البشر طقوسيا كنوع من تقديم القرابين للالهة، بل في وقت قريب للتأريخ قد حدث ذلك، فقد وجدت جماجم كثيرة في المدن الفينيقة في قرطاج، جماجم للاطفال اعتقد المختصون انها تعود لاطفال كان يضحى بهم في طقوس قربانية. المصريين ايضا فعلوا ذلك، كانت الهياكل العظمية لحاشية الفرعون المتوفى دليل على دفن هولاء البشر بعد انتحارهم الاختياري مع الفرعون لغرض خدمته في العالم الاخر.ويقال ان السومريين ايضا فعلوا ذلك الدفن الجنائزي القرباني. ان قصة النبي ابراهيم في الديانات الابراهيمية في تقديم اضحية بشرية كقربان للالهة -اي ابنه اسماعيل في الديانة الاسلامية او اسحاق في اليهودية و المسيحية- هو اشارة لوجود القربان البشري الى عهد قريب من الحضارة البشرية.

يورد (كولن ويلسون) في كتابه (التاريخ الاجرامي للجنس البشري) بحوثا قام بها مختصين في التاريخ البشري والحفريات البشرية تروي قصة مروعة عن وجود جماجم بشرية في كهوف ومساكن الانسان المنتصب كانت هذه الجماجم محطمة من خلف واستدل الدارسين ان هذه الجماجم لبشر اخرين تم افتراسهم من قبل الانسان المنتصب وان كسر الجماجم هذه يدل على استخراج الانسان المنتصب للادمغة والتهامها وكذلك وجود كسور في عظام بشرية كدلالة لاستخراج نخاعها الغني بالبروتين والمفضل لدى الانواع البشرية القديمة كطعام. لكن مع ذلك يورد المختصين رايا اخرا ايضا ينفي الوحشية هذه بان كسور الجماجم تلك قد يكون سببها الصخور او الطمر السيء. لكن اذا كانت جميع الكسور من نقطة معينه في الجمجمة فهل تصح هذا الصدفة العجيبة بان تكون الصخور او الطبيعة هي سبب تلك الكسور!!؟

ويورد ايضا كولن ويلسون- في كتابه السالف الذكر- قصصا عن تجارب علمية لحيوانات من القوارض والثديات تعرضت للموت الذاتي لاسباب تتعلق بافرازات الادرينالين بغزارة في الدم بسبب التوتر ادئ الى وفاتها ذاتيا، فيذكر ان هنالك مجاميع من نوعٍ من الفئران لما تتعرض للضغط بسبب انعدام او انحسار المساحات بسبب جمعها للتجربة في اقفاص وباعداد كبيرة لاتناسب وضعها الطبيعي في بيئاتها الطبيعة وبسب هذا الاكتظاظ تقوم هذه الفئران وفق نظريته في فقدان السيطرة وغلبة التوتر عليها بافراز الأدرينالين من الغذة الكظرية بكثرة مما يؤدي إلى موتها جماعيا! وكذلك تفعل الغزلان هذا التدمير الذاتي، وثديات اخرى.

وايضا يورد تجربة عن نوع من الفئران توضع في اقفاص متداخلة تقوم الفئران ذات السيادة العالية-وهو مصطلح يُنظّر له الكاتب في كتابه السالف الذكر - بالسيطرةعلى طرفي الأقفاص على الجانبين والدفاع عن اماكنها مع اناثها اما بقية الفئران منخفضة السيادة فستضطر الى استخدام الاقفاص الوسطية المزدحمة والتي سيكون وضعها سيئا والدفاع عن المساحة فيها شبة مستحيل. لكن ايضا هنالك فئران لديها سيادة عالية اصبحت تعيش في هذه الاقفاص الوسطية بيد انها لاتستطيع فرض قيادتها في هذه المساحة، ولكن لاحقا وحسب التجربة تقوم هذه الفئران بسلوك فضيع حتمه عليها الوضع الجديد حيث قامت آخرا باغتصاب الاناث الاخريات جميعا بل حتى الذكور وظهور المثلية بين فئران هذه المساحات واكثر من ذلك مارست هذه الفئرات العنيفة المسيطرة القتل على الفئران الاخرى الاضعف والتهمتها. يستدل الكاتب من ذلك ان ماحدث لنا نحن البشر بعد انشاء الحضارات والمجتمعات والمدن اننا حُشِرنا ايضا في الاقفاص، والاقفاص هنا هي المدن والمجتمعات، وان عنفنا وشراستنا غير المبررة هي بسبب تلك الاقفاص والحبوسات المدنية.

فهل ياترى قد فُعِلَ بالانواع البشرية المنقرضة مافُعِلَ بالفئران ؟ اي ان سبب انقراضها هو التوتر العالي كالذي حدث للقوارض بسبب ضغط المساحة وبالتالي افراز الادرينالين المبالغ به الذي ادى الى وفيات ذاتية جماعية؟

او حتى ان الانواع البشرية قامت بقتل بعضها والتهام البعض الاخر وفق فرضية السيادة العالية لبعض الانواع وضغط المساحة وفرض الوجود والسيطرة على البيئة المختلطة بالانواع البشرية والمواردالطبيعية، بل حتى اعتبار المجاميع البشرية الاخرى موردا للبروتين!!؟

ان تاريخ البشرية مليء بالعنف والشر منذ البدايات القديمة لجنسنا، لكن في الحقيقة ان العنف الذي مورس بعد بزوغ الحضارات هو التاريخ الاكثر عنفا والاشد وضوحا، بل وان العنف الحديث والمعاصر يفوق ذلك العنف باضعاف الاضعاف .علما ان هذا العنف الذي تلا التاريخ وانشاء الحضارات هو عنفنا نحن المنتمين لنوع الهومو سابيان (الانسان العاقل او المعاصر) فقط، انه عنف اجدادنا وعنفنا نحن الابناء، وهو العنف الاسوء والاكثر شراسة والاكثر احصاءا منذ التأريخ، منذ تدوين ذلك التأريخ والى اليوم.

***

بقلم: محمد اسماعيل السراي

تُعتبر البوذية رابع الديانات الشعبية المعروفة في العالم يدين بها ما يقارب 507 مليون تابع في كل انحاء العالم. عند التجوال في الهند والصين وغيرها من الدول التي تشهد انتشارا للبوذية تتجلى المعابد الانيقة وأضرحة بوذا والأتباع المتدينين (اشبه كثيرا بالأديان الكبرى الاخرى).

لكن البوذية هي ايضا يُشار لها دائما كفلسفة، خاصة من جانب الناس في الغرب. هي تشترك في العديد من تعاليمها مع المدارس الفكرية الشهيرة الاخرى مثل الرواقية. وبوذا ذاته أكّد على الطبيعة الخاصة لأفكاره مفضلا التحقيق الفلسفي على الدوغما الدينية.

كل هذا يثير سؤالا: هل البوذية فلسفة ام دين؟ هذا المقال يستكشف لماذا وكيف تعني البوذية مختلف الاشياء لمختلف الناس، وما اذا كانت حقا صُنفت كشيء واحد بعينه ام لا .

هل البوذية دين ام فلسفة ام الاثنين معا؟

اول ما نشأت البوذية في الهند في القرن السادس قبل الميلاد. انها دين غير ايماني. بمعنى لاتؤمن بوجود خالق كالله، على خلاف الاديان الايمانية كالمسيحية. تاسست البوذية بواسطة سيدهارتا غوتاما(ويُعرف ايضا ببوذا) الذي طبقا للقصة القديمة كان في وقت ما اميرا هنديا. لكن سيدهارتا قرر بالنهاية التخلي عن ثروته واصبح بدلا من ذلك حكيما. هو اتخذ هذا القرار بعد حصوله على وعي واطّلاع بمعاناة الانسان وما تسبّبهُ من ألم للناس. وبالنتيجة سلك سيدهارتا اسلوب حياة زهيدة. هو كرس نفسه لتطوير نظام عقيدة يمكن ان يعلّم الاخرين كيفية تجنب الـ سانسارا وهي كلمة في اللغة الهندية القديمة تصف" دورة الحياة والموت واعادة الميلاد المحكومة بالمعاناة، بدون بداية او نهاية"(Wilson 2010).

ورغم شعبيتها اليوم، كانت البوذية في البدء بطيئة في اكتساب الأتباع. اثناء القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، كانت الهند تباشر فترة من الاصلاحات الدينية الهامة. البوذية تطورت استجابة لفشل الهندوسية المفترض للتعامل الكافي مع الحاجات اليومية للناس. ولكن فقط في القرن الثالث قبل الميلاد اكتسبت الديانة جاذبيتها. الامبراطور الهندي اشوكا العظيم تبنّى البوذية وبالنتيجة انتشرت بسرعة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق اسيا.

بعض التعاليم الأساسية

كما ذكرنا اعلاه، بدأ بوذا بتطوير تعاليمه بعد ادراكه الحجم الحقيقي للمعاناة في العالم. وخصيصا،هو ادرك انه بسبب موت الانسان، فان كل شيء أحبه سوف يموت بالنهاية (بما فيه ذاته). لكن الموت ليس هو المعاناة الوحيدة في حياة الانسان. اعتقد بوذا ان الناس يعانون في الولادة (كل من الأم والرضيع)، وطوال حياتهم نتيجة للرغبات والحسد والخوف وما شابه. هو ايضا اعتقد ان كل شخص تناسخ في السامسارا(دورة الحياة والموت اللامتناهية) وحُكم عليه لإعادة هذا العملية الى الأبد. لذلك فان التعاليم البوذية تهدف الى كسر هذه الحلقة. "الحقائق النبيلة الأربع" توضح اتجاه بوذا بتفصيل اكثر:

1- الحياة معاناة

2- سبب المعاناة هو الاشتهاء او الرغبة الشديدة

3- نهاية المعاناة تأتي مع نهاية الاشتهاء

4- هناك مسار يقود المرء بعيدا عن الاشتهاء والمعاناة

هذه الحقائق تعطي الأساس لكامل هدف البوذية والذي هو لإيجاد مسار بعيد عن الإشتهاء والمعاناة من خلال التنوير.

المظهر "الفلسفي" للبوذية

لاحظنا سلفا ان بعض المظاهر الفلسفية للبوذية بدأت بالظهور. الحقائق النبيلة الاربع أعلاه تبدو مشابهة لتفكير منطقي عادي يستلزم مقدمات وعلاقات بين المقدمات. لكن ربما العناصر الفلسفية الاكثر وضوحا في هذا الدين تأتي من بوذا ذاته. بدلا من ان يتوسل أتباعه ليتّبعوا تعاليمه حرفيا، شجع بوذا الناس على التحقيق فيها. التعاليم البوذية والتي تُعرف بـ Dharma (كلمة هندية قديمة: "حقيقة حول الواقع")، تحتوي على ست خصائص متميزة، احداها هي ايباسيكو. هذه الكلمة استعملها بوذا دائما وتعني حرفيا "تعالوا وانظروا بانفسكم".

شجع بوذا الناس بقوة على الانخراط في التفكير النقدي وطرح خبراتهم الشخصية لإختبار ما يقوله. هذا النوع من الموقف يختلف جدا عن الاديان كالمسيحية والاسلام، حيث الأتباع عموما يتم تشجيعهم لقراءة واستيعاب وقبول الكتب المقدسة بلا سؤال. انه ايضا من المهم ملاحظة ان التعاليم البوذية رفضت تقاليد فلسفية متميزة. عندما بدأ الناس يكتبون دروسهم بعد موت بوذا بقرون، برزت مختلف التفسيرات بين مختلف الجماعات الفلسفية. في البدء، استخدم الناس الذين يناقشون التعاليم البوذية وسائل واساليب لتوضيح وجهة نظرهم. لكن منطقهم كان مدعوما بايمان كامل بان بوذا كان صائبا مهما قال. بالنهاية، بدأ الناس من اديان اسيوية معينة لكنها ذات صلة يحللون التعاليم البوذية وهو ما أجبر البوذيين على التفرع الى مجالات تقليدية للفلسفة (مثل الميتافيزيقا والابيستيمولوجي) لإثبات قيمة البوذية للناس الآخرين الذين لا يعتبرون تعاليم البوذية موثوقة.

المظاهر الدينية للبوذية

بالطبع، هناك الكثير من المظاهر الدينية لهذا الدين ايضا، نحن رأينا سلفا ان بوذا يعتقد في التناسخ مثلا. هو يصف كيف عندما يموت شخص ما، فانه يولد من جديد كشيء آخر. إعادة ولادة الفرد تعتمد على افعاله وكيفية تصرفه في حياته السابقة (كارما). اذا اراد البوذي ان يولد من جديد في عالم من الناس، وهو ما يراه بوذا أحسن شيء لتحقيق التنوير، عندئذ هو يجب ان يستلم كارما جيدة ويتبع التعاليم البوذية. لذا حتى عندما يشجع بوذا على التحقيق النقدي، هو ايضا يعطي حافزا ممتازا لإتباع ما يقوله.

العديد من الديانات العالمية ايضا تقدّم نوعا من المكافأة النهائية لأتباعها لكي يسعون ويهدفون لها طوال حياتهم. بالنسبة للمسيحيين المكافأة هي الوصول الى السماء بعد الموت. اما البوذيون فالمكافأة هي حالة من التنوير تُعرف بالنيرفانا. غير ان النيرفانا ليست مكانا وانما حالة من الذهن المتحرر. النيرفانا تعني ان احدا ما ادرك الحقيقة النهائية حول الحياة. عندما يحقق الفرد هذه الحالة فهو عندئذ يكون قد هرب من دورة المعاناة وإعادة الميلاد الى الأبد، لأنه في ذهنه المتنورستزول جميع أسباب هذه الدورة .

هناك ايضا العديد من الطقوس البوذية والمراسيم التي تشكل جزءا هاما من العبادة عند معظم الناس حول العالم. PuJa هو احتفال يقدم فيه الاتباع الطقوس الى بوذا. هم يقومون بهذا لكي يعبّرون عن تقديرهم لتعاليم بوذا. اثناء مراسم البوجا يمارس الأتباع فعاليات اخرى يتأملون، يصلّون، يرددون، يكررون التعاويذ.

هذه الممارسة التعبدية تُنفّذ لكي يفتح الأتباع انفسهم بعمق لتعاليم بوذا وليرعى تفانيهم الديني. خلافا لبعض الاديان، التي يجب ان تتم فيها الاحتفالات تحت تعليمات من قائد ديني، البوذيون يستطيعون الصلاة والتأمل اما في المعابد او في بيوتهم الخاصة.

لماذا نحتاج لتصنيف البوذية الى دين ام فلسفة؟

كما نرى، البوذية تحتوي على عدة خصائص تطمس الخطوط الفاصلة بين الفلسفة والدين. لكن الحاجة لهذا التصنيف تبرز بشكل واضح في المجتمعات الغربية بالذات دون غيرها.  في الغرب، الفلسفة والدين مفردتان متميزتان جدا. العديد من الفلسفات (والفلاسفة) ضمن التقليد الغربي لا يعتبرون انفسهم افرادا متفانين دينيا. واذا قاموا بذلك، فان الأتباع المعاصرين كانوا قد تمكّنوا بنجاح من عزل المظاهر الفلسفية عن الدينية لمدرسة معينة من الفكر.

العديد من الناس الذين يعتبرون انفسهم ملحدين او لا ادريين يميلون لتجاهل المظاهر الدينية للبوذية . في النهاية، تعاليم البوذية تتناسب بسهولة مع تركيز كامل للذهن والتأمل وحركات اليوغا التي اكتسبت شعبية في الغرب في العقود الأخيرة. احيانا هذه التعاليم يتم اتّباعها بدون فهم مناسب لإصولها، كما نرى الناس ما بعد بوذا يقتبسون من بوذا في الميديا الاجتماعية او يدّعون انهم مهتمون بالبوذية بدون ان يدرسوا أي من مناهجها الاساسية.

الحقيقة هي ان البوذية دين وفلسفة في آن واحد، وكلا المظهرين لتعاليمها يمكن ان يتعايشا جنبا الى جنب في سلام نسبي. الناس المهتمون في الفلسفة البوذية يمكنهم بسهولة دراستها كمدرسة للفكر طالما هم لايحاولون إنكار ان هناك الكثير من العناصر الخارقة للطبيعة محتواة ضمن التعاليم البوذية. الرهبان البوذيون والمعابد والاحتفالات الدينية توجد لسبب. المراسيم والطقوس هي مظهر هام جدا للبوذية لملايين الناس حول العالم. ولكن بنفس المقدار، من الممكن ايضا للملحد اتّباع الكثير من تعاليم بوذا بدون الشعور انه ملزم بتنفيذ أفعال عبادة.  

***

حاتم حميد محسن

* وهم أم افتراض غير مستحيل:

يثير عنوان الورقة إشكالية جدلية أو سجالية ما بين مؤيدي الذكاء الاصطناعي ومعارضيه، حيث يراه مؤيدوه إضافة نوعية، تحسن التربية والتعليم نوعا وكما ونهجا وتقنيا وأداء وممارسة تعليما وتعلما. في حين يراه معارضوه معطلا للتعليم والتربية بخلق الاتكالية عليه في إنجاز المهام التعليمة التعلمية، بما فيها مهمة بناء كفايات ومهارات وقدرات التفكير عند المتعلم، ويذكي فيه سمة الانهزام أمام الآلة فضلا عن إحلاله محل الإنسان في كثير من المواقع، والاستحواذ على مناصب أعماله، ووضعه رهن إشارة البطالة.

ومنه؛ يمكن التساؤل عن حقيقة إشكالية الذكاء الاصطناعي وموت المدرسة، أهي وهم في واقع متغير متقدم ومتطور أم افتراض محتمل غير مستحيل الوقوع في ظل معطيات هشة للمنظومة التربوية والتكوينية؟ وهل يستطيع الذكاء الاصطناعي قتل المؤسسة التعليمية فعلا؟ وإلى أي مدى يمكنه قتلها أو إحياءها؟ وفي حالة صدق موت المدرسة تحت ضربات الذكاء الاصطناعي؛ فما السبل المتاحة للتصدي لهذا التحدي والخطر القادم؟ وكيف يمكن تحويل التحدي إلى فرصة نجاح الفعل التربوي والتعليمي والتكويني؟.. في مقابل أسئلة إحياء الذكاء الاصطناعي المؤسسة التعليمية من قبيل: كيف يطور الذكاء الاصطناعي المدرسة؟ ما الفرص التعلمية التي يمنحها للمتعلم؟ وما الخدمات التي يقدمها للمارس البيداغوجي؟.. أيمكن حقيقة للذكاء الاصطناعي قتل المؤسسة التعليمية؟..

* مشروعية التساؤل:

هذه الأسئلة مشروعة الطرح من حيث المؤشرات التالية:

ـ في ظل الطاقة الكبيرة للذكاء الاصطناعي تعليما وإنجازا وأداء؛ فهو يتسم بسمات عديدة، قد تفوق سمات الإنسان في بعض المناحي، مثل إنجاز مهام وأعمال مكروية غاية في الصغر والدقة، تبلغ في الصغر حد مكونات الخلية ومكونات الذرة ومركبات المواد، وأعمال موضعية مجهرية، وحسابات معقدة دقيقة آنية يتخذ فيها قرارات ذاتية، كما فعل ذلك في توجيه الصواريخ والمركبات ذاتية السياقة إلى أهدافها ونهايات مسيرها.. وغيرها من مشهديات يومية واقعية. فانطلاقا من هذه الإمكانيات والإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي، ومقارنة بمعطى المدرسة المتواضع؛ يجد معارضو هذا الذكاء مؤشرات موت المدرسة بموت خدماتها ومنتجها البشري، الذي سيلقى به خارج الفعل التعليمي التعلمي؛ لالتماسه في أداء مهامه الذكاء الاصطناعي، والتشبع بثقافة الاعتماد عليه، لتسهيله المهام وتسريع النتيجة بأقل جهد وأقصر زمن وأقل تكلفة. ويرون فيما يقع الآن من الاتكال عليه في إنجاز الواجبات التربوية المنزلية أو ما يسمى الدعم الخارجي للفعل التعليمي التعلمي مؤشرا دالا عن البطالة العقلية.

ـ في إطار معطيات وواقعيات المجتمعات المتخلفة ومنظوماتها التربوية والتكوينية الهشة والضعيفة، التي مازالت تبحث عن نفسها وذاتها فعلا عملياتيا ناضجا، مساهما في تنمية المتعلم/ة على مختلف مستويات كينونته، وعلى تنوع حضوره في المشهد المجتمعي. يظهر لمعارضي الذكاء الاصطناعي أنه سيميت المؤسسة التعليمية وهي مازالت لم تتقو، ولم تبلغ الحلم بعد. وذلك خطر على تربية وتعليم وتكوين وتنشئة المتعلم/ة. خاصة في عصر الرقميات ومنتجاتها وتقنياتها وعاداتها التي حطمت العديد من المجالات والقطاعات والقناعات والمسلمات، كالعلاقات الاجتماعية في الأسرة وغيرها، وطرق التفكير، وفعل القراءة، والكتاب الورقي والصحف.. ونشرت فكر القطيع وثقافة التفاهة، فأصبح التافهون يتصدرون المشهد الاجتماعي والثقافي والفكري والسياسي.. وحاصرت الحقيقة ونبذتها، وضيقت نطاق وجود النخبة الفكرية التي تصنع الحضارة والتاريخ بالوعي الإنساني وبالعلم والمعرفة، ووسعت إطار انتشار ثقافة الاستهلاك وثقافة السوق، وضربت منظومة القيم والأخلاق في المجتمعات البشرية، عاكسة المفاهيم والقيم، مخربة للمؤسسات الاجتماعية الأساسية كالأسرة والشارع والمدرسة.. كل ذلك يؤدي إلى التخوف من الذكاء الاصطناعي في هدم المدرسة.

ـ تحت سقف ضعف المنظومة التربوية والتكوينية الحالية التي مازالت لم توضع على السكة المنشودة بعد، التي تلحقها بالمنظومات التربوية والتكوينية الرائدة والجيدة في العالم. فمازالت ذات مردودية داخلية وخارجية ضعيفة؛ على مستوى كفاية التفكير بما يعني من قدرات ومهارات ومعرفة، وعلى مستوى كفاية الوجود بما يعني كينونة ذاتية مستقلة حرة فاعلة متفاعلة مع نفسها وغيرها إيجابيا، تمتلك من السمات الإنسانية ما يعطيها الوجود الحقيقي في المجتمع الإنساني ويميزها عن الآخر، وعلى مستوى كفاية الفعل بما يعني من مهارات وقدرات ومعرفة تطبيقية إجرائية أدائية تتساوق مع كفاية التفكير وتترجمها عمليا في الميدان، ما يصنع التغيير في الفرد والمجتمع معا.

ومازال المتعلم/ة فيها يطلب طريقه نحو امتلاك أبجديات وأساسيات المواد الدراسية، ومازال يتحسس سبيل التحكم في التعلمات الأساسية، وهي معضلة رئيسة وكبيرة في مساره الدراسي، لأن تجاوزها يدخله إلى استكمال دراسته، وإلى التكوين الذاتي، القاعدة الأساسية واللبنة الأولى في صرح توظيف الذكاء الاصطناعي والتعامل معه من منطلق الوعي، وكفاية التحكم والاستثمار عن دراية وبصيرة بالمزايا والإمكانيات التي يتيحها، وبالتحديات التي يطرحها. فمنظومتنا التربوية والتكوينية لم تتجاوز بعد تحدياتها، فهي قائمة تحت ظل الخرائط المتسلسلة وبرامج الإصلاحات المتتالية والمتواصل صبيبها؛ لم يجف نبعها بعد دون أن تعرف الاستقرار والاستكمال. فآخر صيحة في هذا المجال " مدارس الريادة " بسلك التعليم الابتدائي العمومي خلال السنة الدراسية الجديدة الحالية: 2024/2022، والتي تستهدف تصحيح الثغرات والتعثرات والسلبيات والتحديات والإكراهات الأساسية للمتعلم/ة في مادتي القراءة والحساب عبر إجراء وتنفيذ أنشطة الدعم التربوي بالتعليم الابتدائي بتوظيف مقاربة التدريس وفق المستوى المناسب "TaRL ". وهنا؛ أسجل إشارتين:

1 ـ السلبيات والتعثرات والتحديات والإكراهات أمر عاد وجوده وحصوله؛ انطلاقا من كون الفعل التربوي والتكويني والتعليمي فعل إنساني معرض للخطإ والصواب. وهو يأتي بعد الفعل، ويتطلب التدخل تصحيحا ومعالجة لانتفاء أثره وعائده السلبي.

2 ـ قبل الدعم التربوي يكون البناء الجيد والدقيق للفعل التعليمي والتربوي والتكويني، الذي إن ترك بعض التعثرات والثغرات، تكون خفيفة في الكم والنوع، ويصحح على إثرها لكيلا تتكرر وتتراكم. والفعل التعليمي والتربوي والتكويني لا يتحمل الأخطاء الاستراتيجية، لأن عائدها سلبي جدا وقاتل، وطويل الأمد في مفعوله وتصحيحه. لذا؛ قبل التفكير في الدعم التربوي يكون التفكير أولا في هندسة وتخطيط جيد ودقيق للعملية التعليمية التعلمية. وإلا؛ سنبقى ندور في دائرة مفرغة ومميتة.

فالمؤسسة التعليمية التي يعاني متعلمها/تها من التعثرات الدراسية المتعلقة بالتعلمات الأساسية؛ لن تستطيع التعامل مع الذكاء الاصطناعي فهما وتوظيفا واستثمارا. فهي مازالت قاصرة في هذا الشأن، وغير مؤهلة لذلك. وعندما تتأهل لن تلحق بالقطار الذي يكون فاتها بسنوات وعقود وربما قرون. ومدخل بناء فعل تعليمي وتربوي والتكويني صلب وقوي وفعال وناجع يتطلب تقدير الكفاءة وإحلالها مناصب المسؤولية بمنطق المساءلة والمحاسبة معا، والقطع مع فكر وسلوك الزبائنية بالمطلق في هذه المسألة. وتأهيل الإطار التعليمي والتربوي والتكويني علميا ومهنيا تأهيلا جيدا، يراكم الكفاءة والتجربة والخبرة، ويفعلها في الميدان، ويقطع مع التأهيل الموسمي الهش بالمرة. وتوفير شروط ومطالب ومستلزمات الفعل التعليمي والتربوي والتكويني كيفما كان نوعها وكمها وشكلها، فهذا شرط أساس في أي نظام تربوي وتعليمي وتكويني. وكذلك يتطلب مدخل البناء منح الحقوق للإطار التعليمي والتربوي والتكويني وزيادة حتى يستغني عن الاسترزاق خارج المنظومة؛ مقابل استيفاء الواجبات والمحاسبة عليها بصرامة ومسؤولية، والقطع النهائي مع ثقافة غض البصر وتركيم وترصيد الأخطاء المهنية بمصوغات شتى. فلا يصح هذا في الفعل المتعلق ببناء الإنسان والمستقبل. والعمل على تجسير الأسرة بالمؤسسة، وتظفير العلاقة بينهما؛ وكل هذه المتطلبات والشروط وغيرها تفصيلي كثير، تتوقف على الإرادة السياسية القادرة على إحداث التغيير والطفرة النوعية والنقلة المطلوبة لمنظومتنا التربوية والتكوينية.

والمنظومة التربوية والتكوينية التي مازالت تتطلع إلى تفعيل الممارسات الصفية الناجعة في المؤسسة التعليمية، التي أثبتت عائدها الإيجابي على التعلمات عند المتعلم، والتي تحضر في المدرسة المغربية منذ زمن طويل. والتي ترنو إلى تكوين وتأهيل الإطار التعليمي والتربوي والتكويني فيها، وتوفير الموارد والوسائل البيداغوجية اللازمة لها. لا تستطيع حاليا توظيف الذكاء الاصطناعي لغياب التكوين المهني الأساس في الرقميات وتكنولوجيتها ومنتوجاتها خاصة أننا دخلنا إلى الموجة الرابعة منها. وهي عالية المفعول والأثر. والمدرسة التي ستستدعي التدريس بالتخصص ـ بعد زمن طويل جدا تمت المطالبة به ـ وتستهدف الاستفادة القصوى من اهتمامات الإطار التربوي والتعليمي والتكويني وكفاءته. والمنظومة التربوية والتكوينية التي ستوفر في مدارسها الرائدة الظروف المادية كالفضاء الداخلي من أقسام ومرافق صحية، والأمن، والنظافة، والتجهيزات وجودتها وتنوعها وكمها، وستوفر العتاد الديداكتيكي وغيره؛ لن يجديها حالا التعاطي مع الذكاء الاصطناعي كنظام ونسق، وإنما قد يجديها ذلك كأفراد أو مجموعات مستقلة عن النظام والنسق. وبالتالي؛ فالمؤسسة التعليمية المغربية وهي في العقد الثالث من القرن 21 مازالت تبحث عن نفسها وعن سكتها ووجهتها وأدواتها وغاياتها، ومازالت تتخبط في المشاكل وتعيش الأزمة، لن تتساوق مع الذكاء الاصطناعي وجيله الأخير، نتمنى لها أن تجد نفسها وموقعها ودورها المسؤول والمقدر من الكل.

ـ في إطار غياب التكوين الأكاديمي والمهني الأساس في التكنولوجيا والرقميات وعلوم الحاسوب وتقنيات الذكاء الاصطناعي للممارس البيداغوجي وزملائه الأطر الأخرى التربوية والإدارية، وضعفه إن وجد؛ لن تستطيع المؤسسة التعليمية مسايرة موجة الذكاء الاصطناعي كفعل معرفي أولا، ثم كفعل وظيفي ثانيا، وكفعل استثمار ثالثا، ثم كفعل تثقيفي رابعا؛ بما يشبع تربة المجتمع بما فيها تربة المدرسة الفكرية والعقلية بالمواد الأساسية لاستنبات واحتضان شتلة هذا المعطى الجديد المتطور بسرعة، والذي إن لم تكن ملما بلغته ولغة التواصل معه لا يفيدك في شيء سوى الانحصار والانكسار. وبناء عليه يرى معارضو الذكاء الاصطناعي موت المدرسة البطيء، لاعتقادهم بأن الوسيلة مكون من مكونات تحصيل النتائج. فهم يلحون على إدراج حصص رسمية قانونية للتكنولوجيا والرقميات وعلوم الحاسوب وتقنيات الذكاء الاصطناعي في برامج التكوين المهني الأساس لأطر التربية والتكوين، بما يساهم في رفع كفاءة الممارس البيداغوجي بالأساس في توظيف الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية التعلمية، وتعليم وتدريس المتعلم/ة مداخل هذا الذكاء، وكيفية استخدامه في التعلم، وإنجاز المهام البحثية والتدريبية والإنتاجية، وكيفية الاستفادة منه في امتلاك الكفايات المتنوعة التي يتطلبها البناء الشخصي للمتعلم على اختلاف أشكالها ودرجات أهميتها.

فبمجرد ما يحتك المتعلم/ة مع هذا الذكاء؛ يتبادر إلى ذهنه نسق من علامات الاستفهام تستدعي البحث للإجابة عنها؛ يمكن اختزالها بسؤال عام مركزي جوهري يفيد: كيف يعمل الذكاء الاصطناعي؟ وهو السؤال نفسه الذي طرحته عليه، فأجاب بالتالي:

(الذكاء الاصطناعي (AI) هو مجال من علوم الكمبيوتر يهدف إلى إنشاء أنظمة كمبيوتر قادرة على أداء المهام التي تتطلب عادة الذكاء البشري. هناك العديد من الأساليب والتقنيات لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، ولكن فيما يلي نظرة عامة على المفاهيم والأساليب الرئيسية وراء كيفية عملها:

1. التعلم الآلي: أحد الأساليب الأكثر شيوعًا في الذكاء الاصطناعي هو استخدام خوارزميات التعلم الآلي. تسمح هذه الخوارزميات لأجهزة الكمبيوتر بالتعلم من البيانات واتخاذ القرارات بناءً على تلك البيانات. تشمل تقنيات التعلم الآلي الرئيسية الشبكات العصبية وأشجار القرار وآلات ناقل الدعم وما إلى ذلك.

2. البيانات: البيانات ضرورية للتعلم الآلي. يتم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على كميات كبيرة من البيانات، سواء كانت نصية أو صور أو مقاطع فيديو أو أنواع أخرى من المعلومات. كلما كانت البيانات أكثر تنوعًا وجودة، كان أداء النموذج أفضل.

3. التدريب: خلال مرحلة التدريب، يتعرض نموذج الذكاء الاصطناعي للبيانات ويضبط معلماته الداخلية لإجراء تنبؤات أو قرارات. الهدف هو تحسين هذه المعلمات لتقليل الأخطاء أو زيادة أداء النموذج إلى الحد الأقصى.

4. الاستدلال: بمجرد تدريب النموذج، يمكن استخدامه للتنبؤ أو اتخاذ قرارات بشأن البيانات الجديدة باستخدام ما تعلمه أثناء التدريب. وهذا ما يسمى الاستدلال.

5. الشبكات العصبية: الشبكات العصبية الاصطناعية هي نماذج للتعلم العميق مستوحاة من عمل الدماغ البشري. وهي جيدة بشكل خاص في معالجة البيانات المعقدة، مثل الصور والنصوص.

6. معالجة اللغات الطبيعية (NLP): البرمجة اللغوية العصبية هي فرع من فروع الذكاء الاصطناعي الذي يركز على فهم وتوليد اللغة البشرية. لقد أحدثت نماذج البرمجة اللغوية العصبية، مثل المحولات، ثورة في الطريقة التي تعالج بها أجهزة الكمبيوتر النص والكلام.

7. رؤية الكمبيوتر: يركز نظام الذكاء الاصطناعي هذا على فهم وتفسير الصور والفيديو. تشمل التطبيقات التعرف على الكائنات، واكتشاف الوجه، وتجزئة الصور، وما إلى ذلك.

8. التعزيز: التعلم المعزز هو أسلوب يتعلم فيه الوكيل اتخاذ إجراءات في بيئة لتحقيق أقصى قدر من المكافأة. يُستخدم هذا بشكل شائع في ألعاب الفيديو والروبوتات وأنظمة التوصية.

9. التعلم الخاضع للإشراف وغير الخاضع للإشراف والتعزيز: هذه هي الفئات الرئيسية للتعلم الآلي. يتضمن التعلم الخاضع للإشراف استخدام البيانات المصنفة لتدريب النموذج، بينما يهدف التعلم غير الخاضع للإشراف إلى اكتشاف الأنماط في البيانات بدون تسميات. يركز التعلم المعزز على اتخاذ قرارات متسلسلة في البيئة.

باختصار، يعمل الذكاء الاصطناعي باستخدام تقنيات التعلم الآلي لتحليل البيانات وتعلم الأنماط من تلك البيانات واستخدام تلك الأنماط لأداء مهام محددة. الذكاء الاصطناعي هو مجال دائم التطور، مع العديد من التطبيقات المحتملة في مختلف المجالات، من الطب إلى التمويل إلى السيارات وغيرها الكثير)1.

مما يبين مدى إمكانية الاستفادة منه في كثير من المواضيع؛ فهذا الجواب يدخل المتعلم إلى عالم البحث الإشرافي أو عالم البحث الذاتي، بما يمكنه من المعرفة بجانب كفايات متنوعة، تساعده على بناء شخصية مستقلة وحرة، ذات توجهات ورؤى وآراء ذاتية، قد تتقاطع مع الآخرين أو تنفصل عنهم في إطار القبول بالاختلاف والتكامل لا الانصهار والاندماج والذوبان والتبعية. فالذكاء الاصطناعي إذن يمنح المتعلم الكثير من فرص التعلم والتكوين.

ـ في ظل عقلية عربية وإسلامية مأزومة بواقع مأزوم بئيس هو الآخر، لا تستثني بلدنا منها؛ تبحث من صباحها إلى مساءها عن المعيش اليومي للبقاء على قيد الحياة وضمان استمرار النسل المأزوم، أو البحث عن الترف والبذخ والرفاهية في بؤس الوجود العربي والإسلامي. لا يمكنها حسب معارضي الذكاء الاصطناعي أن تستنبت في بيئتها وعقليتها ومدرستها مداخله، معرفة وإنتاجا وأداء واستثمارا. فالهم الأكبر لهذه العقلية الحزينة المحزنة، المسكينة الساكنة المسكونة بهاجس المعيش اليومي الذي ما عاد حقا مكتسبا وإنما حاجة ممنوحة، وبهم الترف ووهم البرجوازية، هو كيف تحافظ على وضعها الحياتي بكل أطياف ألوانه ودرجاتها ونوعياتها وطبقاتها، كثافة وكما. والتي تبقيها في هذا الهاجس للاستغلال والاستعباد العقلية المأزومة السياسية والتدبيرية مآزرة بالعقليات الأخرى " الإيديولوجية، الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية، التربوية، التراثية، العقائدية، الشعبوية.. " ذات البعد الواحد نحو الذات ومصلحتها الخاصة، والطوفان كفيل بالباقي أو ما تبقيه هذه الذات المتعالية الأنانية النرجسية، القيصرية الكسروية، القارونية الفرعونية، من شبه إنسان في بلد غارق في لجة الجهل المركب. لا يمكن لهذه العقلية ـ دائما حسب معارضي هذا الذكاء ـ أن تربط مع الذكاء الاصطناعي روابط التنمية البشرية والحجرية، ولا يمكنها التعامل معه، لأنها عاجزة بفكرها ومنطق تكوينها التربوي والتعليمي والتراثي والتقليدي عن فهم أساسياته ومقدماته، بله توطينه في المنظومة التربوية والتكوينية. وهي مازالت لم تستقر بعد من تدفق مسلسل الإصلاحات وتوارد الأفكار والفتاوي والرؤى.

هذه العقلية المأزومة ترى الذكاء الاصطناعي وافدا جديدا غير مرغوب فيه، لأنه سيعري عنها ما يدثره ادعاء التفكير والذكاء البشري، وعن اشتغاله في المنظومة التربوية والتكوينية تأسيسا وتوظيفا من خلال تعليم وبناء مهارات وقدرات وكفايات التفكير عند المتعلم/ة بكل أنواعه وأنماطه. فهو يسائلها عما رشحته عند المتعلم من تفكير منطقي وآخر نقدي وثالث إبداعي ورابع علمي.. وكيف يوظفها في مقاربة تعلماته وموارده، وفي إنتاجه المعرفي والعملي، وفي تواصله وعلاقاته بنفسه وبالآخرين، وفي حل مشكلاته ومشاكله ويعالجها. وكيف يحلل المعطيات والواردات إليه من كل جهة، ويتخذ القرارات المناسبة التي تحل المشاكل والقضايا، وتدفع بالتطور إلى الأمام. فهذه المساءلة من خلال إطار الذكاء الاصطناعي هي التي يهابها ويخافها العقل التربوي والتكويني المأزوم، الذي يستكبر عن خوض معركة التكوين وإعادة التكوين من جديد في مستجدات العلوم وحقولها المعرفية والاعتراف بضعفه وفقره المهني والأكاديمي. فهو عقل اكتسب امتيازات من وضعيته الحالية ولا يريد التخلي عنها أو عن بعضها لمن سيخلقه ويبدعه الذكاء الاصطناعي من أجيال متعلمة متميزة، تسائل واقعها وتحاسب صانعيه وتعالج مسبباته. أجيال ستغير الواقع الذي ورثته من الآباء والأجداد، خاصة منهم ساسة الارتزاق على حساب معاناة وعذابات الآخرين، وسرقات الأموال العامة بمسوغات خدمة الصالح العام.

انطلاقا من هذه الحيثية ورديفاتها السابقة، يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي مسوغا لتبنيه واحتضانه في المؤسسة التعليمية، والعمل عليه وبه تعليما وتعلما، ما ينتشل وضعية المنظومة التربوية والتكوينية من أزماتها، ويطور الفعل المدرسي على عدة مستويات منها:

1 ـ المناهج الدراسية: حيث نجد المناهج الدراسية الحالية تبني الهندسة التعليمية على نظريات تربوية ونفسية واجتماعية وديداكتيكية ومعرفية ترتكز على المتعلم/ة المتوسط، غالب الحضور في حجرات الدرس، دون استحضار الفروق الفردية والسمات الخاصة والشخصية لكل متعلم/ة على حدة إلا في نطاق الدعم التربوي. فهي تتعاطى مع المتعلم/ة المطلق كأنه المعيار والمقياس للتعليم والتعلم؛ وتبقيه في المركز. ما ينتج تباعدات في النتائج يمينا ويسارا، بالمعنى إحصائي؛ العمل بالمتوسط الحسابي يستجلب البعد عنه البسيط بالموجب والسالب. والذكاء الاصطناعي يكسر هذه القاعدة من حيث يمكنه إحداث تكيف في المناهج الدراسية متنا ومنهجا وأداء وفق حاجات واحتياجات المتعلم/ة، وسيرورة الأداء عنده نوعا وكما. ما يغطي تلك الفروق الفردية؛ ويذهب به إلى التقارب في المستوى التحصيلي والأدائي تحت سقف سد فجوات التعليم والتعلم معا. وضمن هذا الإطار يعمل الذكاء الاصطناعي على تسهيل وتسريع ولوج المتعلم/ة إلى الموارد التعليمية بتقنياته المتعددة والمتنوعة؛ فيوسع بذلك دائرة المعرفة عنده فضلا عن إكسابه الكفايات والمهارات والقدرات في أبعاد شخصيته المعروفة، والمهارات التكنولوجية والتقنية. ويعزز في نفس الوقت التعلم الذاتي المستقل والحر، الذي يرسب لديه كفاية البحث والتعلم والثقة بالنفسة، ويورثه الحافزية والمغامرة التعلمية وجرأة اقتحام المجهول.

وفي هذا النطاق يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعمل على أتمتة المهام التربوية والإدارية للمدبر التربوي والإداري، موفرا له الوقت لإجراء مهام أخرى وممارسة الفعل التدريسي بأريحية معرفية وزمنية وإجرائية وبفعالية وجودة؛ فمثلا: منظومة التدبير المدرسي "مسار" تشتغل على عدة مهام تربوية وإدارية، وتسمح بتتبع مسار المتعلم/ة التعليمي. وبذلك تخفف الكثير عن المدبر التربوي والإداري عبء ملء الأوراق والبيانات والجداول. وهو الذكاء الاصطناعي يمكنه تصحيح الاختبارات والواجبات المنزلية وتجميع النقط والترتيب والتصنيف.. ما يمنح للمتعلم/ة والممارس البيداغوجي المزيد من الوقت لتخصيصه للدراسة والتدريس والبحث والإعداد القبلي والتفاعل الصفي، والتواصل الخارجي بين المدرس ومتعلماته ومتعلميه، وبين أفراد جماعة القسم أو مجموعاتها. وقد بدأت الأنظمة الرائدة في العالم تستند عليه في أتمتة مجالات اشتغالها وخدماتها.

2 ـ الممارسة الصفية: ويمكنها أن تعتمد على الذكاء الاصطناعي في التدريس بتوفير الموارد المتنوعة للحقول المعرفية المدرسة، وتوفير فرص تطبيق الكفايات والمهارات والقدرات المكتسبة إما افتراضيا أو ضمن مشاريع فردية عملانية أو ضمن سياقات تفاعلية داخل الحجرة الدراسية. فهو يطلع الممارس البيداغوجي على مجموعة من التجارب والخبرات الناجحة في ميدان التدريس ويتيح فرصة التقاسم والاقتداء والتنفيذ باستحضار مناطق التقاطع والاختلاف، وإدخال التعديلات والتطورات عليها. وهنا يستحضر الذكاء الاصطناعي معرفة التجربة بشكل واسع وكبير لتضمنه عددا هائلا منها، يمنحه روح الحياة في العالم بأكمله. فهو كفيل بتغيير الطريقة والأسلوب الذي يدرس به الممارسون البيداغوجيون، وبتغيير كذلك طرائق وأساليب تعلم المتعلمات والمتعلمين، إلى مزيد إلى الاحتكاك مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، بما يساعدهم على اكتساب الجديد من استراتيجيات التفكير وأنواعه.

فالممارسة الصفية يمكنها عرض معطياتها على الذكاء الاصطناعي لتحليلها واقتراح الحلول لمشاكلها وسبل استثمار إيجابياتها، بل يذهب أبعد من ذلك؛ إلى اتخاذ قرارات في شأن موضوعها وطرق أدائها وإجرائها. فهو يستطيع أن يخطط للعملية التعليمية التعلمية ويميز أنشطتها ويتعرف على أصنافها، ويناسبها مع معلومات المتعلم/ة ويحل المشكلات العملية والتطبيقية الطارئة، ويخلق وضعيات تعليمية افتراضية أو شبه افتراضية للمتعلم/ة. فيها يتعلم كيف يقوم بالتجارب أو يحل وضعيات ديداكتيكية مشكلة أو بنائية أو تقويمية؛ وبالتالي، فإن الذكاء الاصطناعي فضلا عن قيامه بالعمليات الحسابية والبرمجية، يستطيع إتمام مهام متنوعة ومختلفة بشكل مرن مثالا حيا يقدمه للمتعلم/ة ويمرنه على ذلك ويدربه على فعله. إذ يمكنه أن يبين للمتعلم/ة تعديل وتكيف المعطيات مع الخبرة والتجربة والمهمة المطلوبة لإنتاج حاصل تعليمي مبتكر ومبدع. كما يمكن للممارسة الصفية في إطار الذكاء الاصطناعي أن تستخدم روبوتات Robots المحادثة التي تفهم مشكلات المتعلم/ة بشكل أسرع، وتقدم إجابات أكثر كفاءة من خلال معالجة اللغة الطبيعية التي يستعملها، ويمكن استخدام برامج التعلم الآلي كذلك.. وإلى غير ذلك؛ حيث يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي في إطار الممارسة الصفية أن تساعد الممارس البيداغوجي كهيئة تدريس افتراضية، تقدم له المساعدة في تدريس المتعلم/ة داخل حجرة الدراسة أو خارجها. ما يضفي على الممارسة الصفية التفاعل والتفاعلية والحافزية.

3 ـ مستوى علاقة الذكاء الاصطناعي بالتعليم: والتي تتضمن ثلاث مجالات: فأولا؛ التعلم والدراسة عن الذكاء الاصطناعي. وثانيا؛ الاشتغال على التحضير للذكاء الاصطناعي، وتفريج التربة المدرسية لاستنباته؛ بمعنى تمكين جميع المتعلمات والمتعلمين والمجتمع برمته من فهم تأثيره على الحياة، والتي لا تنفك تغادر الذكاء الاصطناعي إلا إليه، في الأسرة، في المدرسة، في المعمل، في الشارع.. وثالثا؛ التعليم والتعلم بتوظيف الذكاء الاصطناعي المتضمن الأدوات التي تعمل به في الحجرات الدراسية والمؤسسات التعليمية بصفة عامة، حيث يساهم حاليا وبشكل إيجابي في سد الاحتياجات، ومواجهة أوجه القصور في التعليم عبر تخصيص وتفريد التجربة التعليمية، وتبسيط وتسهيل المساطر والقوانين والمهام الإدارية والتربوية، وتعزيز ممارسات الكفاءة والفاعلية وتركيمها وترصيدها. ما يسمح للمتعلم/ة بتعلم ودراسة أوسع وأجدى وأنفع وأنجح، وللمدرسين بإتاحة فرص أوقات أوسع للقيام بمهام معرفية تعجز عنها الآلات والتقنية ومتفرغة لها، فلا يمكن للآلات والتقنية أن تحل محل الإطار التربوي والإداري بالمطلق، فهي مهما كانت ذكية لن تكون كالإنسان.

وفي نطاقه؛ يمكن للذكاء الاصطناعي كشف مناطق الغش السرقة الأدبية والاحتيال الأكاديمي من قبيل ما يجري في بحوث الشهادات الجامعية والمهنية، ومن قبل ما جرى في الاستحواذ على جهود الآخرين في التأليف الأدبي دون ذكر المصادر والمراجع من خلال التناص ولصها. وكذلك كشف نسخ الواجبات المنزلية أو الغش في الامتحانات عبر الإنترنت وغره من التقنيات الرقمية. كما يمكنه تشييد مجتمع التعلم الاجتماعي والتعاوني المدرسي، وتغيير موروثنا الثقافي ونظرتنا السلبية للتعاون المدرسي والاشتغال بالفريق ومجموعات القسم في الدراسة والتعلم والتعليم. فذلك يسهل الشراكة والتعاون بين المتعلمات والمتعلمين وأفراد جماعة القسم الواحد، وخارجه، بما ينشئ روابط اجتماعية وأكاديمية بينهم في الاهتمامات والمهارات المماثلة والمترادفة والمتكاملة؛ مما تؤدي هذه الروابط إلى خلق ثقافة البحث الجماعي والتعاون والشراكة في صنع المستقبل بثقافة "نحن" كما في اليابان، لا بثقافة " أنا" كما في وطننا العربي بما فيه المغرب. وتحت سقف هذه الروابط يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بالاتجاهات التعليمية والتربوية والتوجهات البيداغوجية، فضلا عن التوقعات المستقبلية عبر تحليل معطيات هذه العلاقات والروابط واهتمامات الجماعات والمجموعات، وبخلق تكيف سياسي تعليمي وبيداغوجي معها، ومع متطلباتها وشروطها، وتسييل استيعابها في المجتمع المدرسي. ويبقى   تبني الذكاء الاصطناعي في المنظومة التربوية والتكوينية محط إدارة معقلنة وموضوعية ومتفهمة وفطنة ومسؤولة، ترعى خصوصية المتعلم/ة وضمان معطياتها ومعلوماتها وبياناتها، وتكريس البعد الإنساني للفعل التعليمي دون الهروب به إلى متاهات الأتمتة الصرفة والآلية الجامدة، التي ليس لها المشاعر والقيم الإنسانية، والحفاظ على موقع الممارس البيداغوجي في العملية التعليمية التعلمية دون موقعته هامشها وتجريده من لعب أدواره المختلفة في الأداء المدرسي، من منطلق الذكاء الاصطناعي عامل مساعد لا عامل حال محل.

* احتمالية الكارثة:

مما سبق، ومن غيره من المعطيات والحقائق والوقائع التي تحفل بها الحياة التربوية والتكونية يوميا، وما يستجد عليها من محدثات ومستقبليات، وما يرد عليها من تقنيات وفنيات تحجم دورها في بعض المناطق العملية، وتطورها في أخرى؛ يمكن طرح وبكل جدية احتمالية موت المدرسة بسكين أو برصاصة رحمة الذكاء الاصطناعي. هذا الوافد الوحش الذي لا يمكن التعاطي معه إلا بالذكاء والدهاء والفطنة، وبقراءة طبيعته ودلالاتها السيميولوجية والحقيقية معا وفي نفس الآن. وإلا سيحاصرنا في وجودنا ودورنا؛ فكم من معمل أو مشغل سرح عماله بمختلف وظائفهم، ولم يبق إلا على نخبة النخبة، من لهم ذكاء وكفاءة تفوق جودة ذكائه وكفاءته. فهو حاليا يقتل الكتاب الورقي الذي انحصرت ثقافته مع فئة مثقفة معينة، خاصة في عالمنا العربي والإسلامي، الذي مازال يحارب من أجل قوته، والذي يزاحمه فيه الذكاء الاصطناعي. فويل لأمة تقتل عقل شعبها الجمعي ولا تحييه بالتربية والتكوين والتعليم والدراية والبحث الحقيقي، وتملأ دماغه الجمعي بالخزعبلات والخرافات والأساطير والميثولوجيا القاتلة للتفكير. فويل لأمة لا تستعمل عقلها الجمعي في قراءة واقعها بموضوعية ومسؤولية وأخلاقية. فهي إلى زوال واندثار واندحار، إن لم تكن ذاهبة إلى الانتحار أو الاستعمار. فالفارق بين مجتمع ومجتمع، يكمن فقط في درجة ونوع وكم المعرفة والتفكير، وقبله التكوين والتشكيل العقلي والفكري. فالفارق في المستقبل هو فارق الذكاء بين مجتمع ومجتمع آخر.

ففي ظل ما سبق؛ نجد أسباب إحياء المؤسسة التعليمية وأسباب إماتتها في نفس الآن، ولنا الاختيار بينهما بكل حرية ومسؤولية.. ومنه يبثق السؤال الحتمي علي وعليك وعلى السياسي والمثقف والعامل والأب والأم والدولة.. على المجتمع برمته؛ مؤسسات رسمية وغير رسمية وأفراد وجماعات وطبقات اجتماعية: ماذا نختار ونقرر؟.. إذن: فما قرارك واختيارك؟ فلك حرية الاختيار إما إلى الحياة أو إلى الفناء..

*للسؤال جواب وللورقة تتمة:

هذه الورقة مفتوحة على جوابك من أي موقع كنتَ أو كنتِ، فعليك إتمام فصولها.. فاكتب من فضلك للتاريخ والتاريخ؛ فإننا في عالمنا العربي في مفترق الطرق.

***

عبد العزيز قريش

...........

(GPT-3.5) ، نص مترجم آليا عن جواب سؤال: Comment fonctionne l'intelligence artificielle ?

في السنوات الأخيرة أصبح رقص العروسة ليلة زفافها شيء طبيعي، أمام جمهور المدعوين إلى حفلة الزفاف، دون حياء كما كان معتادا من قبل وأصبحت عادة منتشرة.

يقول المفكر والفيلسوف المصري والمثير للجدل في الأوساط الثقافية، والتاريخية، والدينية عن هذه الظاهرة...

(العروس) تعكس بهز أردافها علانية وسط الجمع، التردي الذي لحق بمفهوم الأنوثة.

ليس من قبيل الصدفة، أن فجر الحضارات الإنسانية على اختلاف، أماكنها، شهد اشتراكا بين البشر في عبادة آلهة مؤنثة وارتباط بين النساء والقداسة والكهانة. فكانت "الربة هي المعبودة في مصر القديمة" باسم إيزيس، وفي العراق القديم باسم "عشتار وإنانا"، وفي سهول الشام والأناضول باسم "الأم العظيمة"، وفي اليونان باسم "أرتميس" وأثينا.

وفي هذه الفترة المبكرة \"التأسيسية\" للحضارة، كانت النساء صورة أرضية للمعبودة العلوية، والفارق بين المرأة والربة الإلهة هو أن الأولى تحتاج رجلا كي تنجب، أما الإلهة فيمكنها ذلك من دون التماس مع الذكر على النحو الذي رأيناه في قصة إنجاب إيزيس (است) لحورس (حور) بعد موت زوجها أوزيريس (أوزير) وفقدان عضوه الذكرى.

وفي إنجاب الإلهة السومرية القديمة ننخر ساجيا \"لابسو ونمو (الماء العذب والماء المالح وتعامت (الأرض) حسبما ورد في الإنوما إيليش أسطورة الخلق السومرية البابلية... وكلمة أسطورة لا تعنى الأوهام والخرافات وإنما المسطور المكتوب.

وأدت هذه التصورات الأولى، إلى النظر نحو المرأة بشيء من التبجيل الذي ظهر أثره فيما لا له من أمثلة، أشهرها ليلة زفاف الرجل.. حصر الزوج إلى المرأة، حيث ترتدى العروس الثوب الأبيض وتضع على رأسها التاج وتجلس بوقار مقدس باعتبارها في تلك الليلة، هي الصورة الأقرب للمعبودة العليا...،

ولهذا فإنه من الخزي الجهول المعاصر، أن العرائس اليوم في بلادنا صرن يرقصن بأردافهن أمام الحاضرين في حفل الزفاف، بعد ألوف السنين من جلسة الوقار المرتبطة بمفهوم الأنوثة المقدسة الواهبة المؤلهة...،

فإذا بالأنثى العروس) في أيامنا الحالية تعكس بهز أردافها علانية وسط الجمع، التردي الذي لحق بمفهوم الأنوثة. إذ صارت قرينة الإثارة الغريزية فقط، فإذا بالعروس تعبر عن فرحها بالرقص، جهلا منها وعمى عن رؤية طبيعتها البهية ليلة العرس...،،

ويستعرض الدكتور /زيدان في رؤيتة التاريخية ..عن

"الأنوثة الواهبة"

حيث يقول:

ظهر مفهوم "الأنوثة الواهبة" وتشكل فى أذهان البشر منذ زمن مبكر، وانعكس في رسوم الكهوف، ويعود تاريخ هذه الرسوم إلى خمسين ألف سنة، وقد استمرت هذه الرسومات الأولى قرابة عشرة آلاف سنة، وهي الفترة التي سكن فيها الإنسان الكهوف قبل تجواله فى مواضع الخضرة والكلأ للرعى وقبل استقراره على ضفاف الأنهار للزراعة....،

حيث رسم إنسان الكهوف صور الحيوانات التي كان يسعى لاصطيادها، ورسم ايضا صورًا متقاربة الشكل، على الرغم من تباعد أماكنها، لامرأة بدينة عظيمة الصدر والأرداف. وهو ما يعكس رؤيته للأنوثة، ليس بوصفها موضعا لإطفاء شهوته الجسدية، وإنما باعتبارها الفياضة بحليب الرضاعة، والواهبة للأطفال. وقال :-

لن نجد في رسوم الكهوف صورًا لامرأة" لعوب" يتناوب عليها الرجال، ولا صورًا تمثل العملية الجنسية. بل لا نجد في رسوم الكهوف المبكرة أصلا، صورًا للرجال ."

وبعد صورة الأنثى الواهبة المرسومة على جدران الكهوف المتباعدة جغرافيا، بالمواصفات ذاتها، ظهرت فى أزمنة الاستقرار الأولى تماثيل بدائية الصنع لامرأة بالغة البدانة، ولم تصلنا من هذه الفترة المبكرة تماثيل للرجال. فما السر في ذلك...؟

حين تعقل الإنسان الأول ما حوله، وحين اجتمع البشر وتعاونوا على الصيد وعلى الزراعة، أدرك الرجل أن المرأة كائن فيه" سحرية وغموض." فهى تريحه من شدة الاشتهاء والإلحاح الحسي، كمكافأة، وتتولى بالفطرة تربية الأطفال، ويتبدل شكل الجسم مع الحبل فيتخذ هيئة الدائرة أكمل الأشكال الهندسية ومع الإرضاع. ثم يعود سيرته الأولى، فيسيل من باطنه كل شهر السائل المقدس الذى هو سر الحياة "الدم"

لماذا تجنب يوسف زيدان طرح الموضوع من الناحية الدينية.. رغم انة من أسرة صوفية...؟!

وهنأ أطرح سؤالا على الدكتور يوسف زيدان

من وجهة نظر هيجل...؟؟

هل يتفق الدكتور يوسف مع رؤية هيجل...؟

يعد الدين في نظر هيجل جانبا أساسيا من الثقافة الإنسانية وعاملا حاسما في تطور المجتمعات والدول الإنسانية...!! ويرى أن الدين ليس مجرد شأن خاص للفرد، بل هو ظاهرة عامة واجتماعية تلعب دورا هاما في حياة المجتمع والدولة...، الدين، بالنسبة لهيجل، هو شكل من أشكال الوعي يكتسب الناس من خلاله فهم للروح المطلقة أو الإلهية...،

ومن المعروف ترتبط فلسفة هيجل الدينية ارتباطا وثيقا بفلسفته في التاريخ. كان يعتقد أن تقدم التاريخ البشري هو مظهر من مظاهر مشيئة الله وانكشاف الروح المطلق في العالم، وينظر إلى الدين، في هذا السياق، على أنه مرحلة محددة في تطور الروح المطلق. ومن خلال الدين تصبح الروح واعية بذاتها. لكن هذا الوعي يتطور مع مرور الوقت...!!

هل أصبح رقص العروس ليلة زفافها تطور مع مرور الوقت...؟!

***

محمد سعد عبد اللطيف

 كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

طوال رحلتنا عبر الزمن، لاحظنا القانون الثاني للديناميكا الحرارية أثناء عمله. منذ الانفجار الكبير، أثناء تشكل النجوم، وظهور الحياة، وتشتت المجرات ثم تبخر الثقوب السوداء، زادت الإنتروبيا بشكل لا يمكن علاجه. وهذا النمو المستمر يمكن أن يجعلنا ننسى أنه في الواقع إن حكم المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية هو أمر احتمالي فقط. وكما أشرنا من قبل، يمكن للإنتروبيا أن تنخفض محليًا. يمكن لجزيئات الهواء المنتشرة حاليًا في جميع أنحاء غرفة المعيشة الخاصة بك أن تتجمع في كرة معلقة بالقرب من السقف، مما يجعلك تشعر بالاختناق في كرسيك. هذا الحدث ببساطة غير محتمل. إن النطاق الزمني المطلوب للحصول على فرصة لمراقبته ضخم جدًا لدرجة أننا، مع إدراكنا أنه ممكن من الناحية النظرية، فإننا نستمر في عيش حياتنا دون أخذ ذلك في الاعتبار. ومع ذلك، بما أننا الآن نتبنى وجهة نظر طويلة المدى، فنحن بحاجة إلى تجاوز شوفينيتنا الزمنية والنظر في بعض الحالات المذهلة للغاية لاضمحلال الإنتروبيا.

لنتخيل أنك تقرأ هذا النص، وتجلس على أفضل كرسي لديك، بينما تحتسي أحيانًا القليل من الشاي من كوبك المفضل. إذا سألتك كيف وجدت نفسك في هذا الوضع المريح، ستخبرني أنك اشتريت هذا الكوب من أحد الحرفيين المحليين، وأنك ورثت هذا الكرسي من عمتك، وأنك كنت دائمًا مهتمًا بكيفية عمل الآلة. ومن هنا جاء الكتاب الذي كنت تحمله بين يديك لعدة دقائق. إذا ضغطت عليك لتقديم المزيد من التفاصيل، كنت ستخبرني عن طفولتك، وإخوتك، والديك، وما إلى ذلك. إذا أصررت مرارًا وتكرارًا على العودة بالزمن، فربما تعطيني كل ما تحدثنا عنه في الفصول الأولى.

المعرفة هي انعكاس للأفكار والذكريات والأحاسيس الموجودة حاليًا في دماغك. لقد كان شراء الكوب شيئًا من الماضي منذ فترة طويلة؛ ما تبقى هو تكوين معين من الجزيئات التي تتتبعها في دماغك. الأمر نفسه ينطبق على ذكرى تراث عمتك، أو فضولك حول الكون، أو حتى ما تقرأه في هذا الكتاب. من وجهة نظر فيزيائية، كل هذا موجود في رأسك الآن، مدمجًا في الترتيب المحدد للجسيمات. مما يعني - تمسك جيدًا - أنه إذا كان في كون لا يحتوي على بنية إنتروبيا قريبة من الحد الأقصى، فإن سربًا عشوائيًا من الجسيمات تطفو عبر الفراغ سينتهي تلقائيًا في تكوين إنتروبيا منخفضة جدًا والذي، بالصدفة، يتوافق تمامًا مع ذلك مع الجزيئات التي تشكل دماغك حاليًا، فإن هذه المجموعة من الجزيئات سيكون لها نفس الذكريات ونفس الأفكار ونفس الأحاسيس التي لديك في هذه اللحظة. لا أعرف إذا كان ذلك تكريمًا لبولتزمان أم توبيخًا له، لكن هذه العقول الافتراضية الحرة التي تشكلت من الالتحام العشوائي النادر ولكن المحتمل للجسيمات تحمل الآن اسمه: إنها أدمغة بولتزمان.

وحيدًا في ظلام الفضاء الجليدي، هناك عقل بلا جسد إنه عقل بولتزمان. لن تتاح لبولتزمان فرصة تكوين العديد من الأفكار قبل وفاته. ومع ذلك، إذا كنا نأمل في مثل هذا الالتقاء التلقائي بين الجسيمات، فلا شيء يمنعنا من إضافة بعض الملحقات: مأوى الرأس والجسد، واحتياطي الطعام والماء، ونجم وكوكب مناسب، على سبيل المثال. في الواقع، يمكن أن يؤدي الالتحام التلقائي للجسيمات (والمجالات) إلى ظهور كوننا الحالي بأكمله، أو على الأقل إعادة خلق الظروف اللازمة لإحداث انفجار كبير، والذي سينشأ منه كون مشابه لكوننا مرة أخرى. ومع ذلك، يجب الاعتراف بأنه فيما يتعلق بالهبوط التلقائي في الإنتروبيا، فإن الاحتمالات تفضل إلى حد كبير التخفيضات الأكثر تواضعًا: تلك التي تجمع عددًا قليلاً من الجسيمات، في تكوينات ليست حساسة للغاية لعدم دقة الترتيب. وعندما أقول إنهم يفضلونهم إلى حد كبير، فإنني أعني ذلك إلى حد كبير. من مكان بعيد جداً. وبما أننا نفكر هنا في مستقبل الفكر، فإن دماغ بولتزمان المنعزل هو الحد الأدنى، وبالتالي الأكثر احتمالا، على الأرجح، للتكوين العشوائي القادر على التفكير لفترة وجيزة في الجمال في وسط الكون والتساؤل عن كيفية وصوله إلى هناك.

ما يجعل هذا السيناريو أكثر بقليل من مجرد مقدمة لفيلم خيال علمي من السلسلة B هو أنه بالنظر إلى المستقبل البعيد جدًا، يبدو أن الظروف ستكون مثالية لمثل هذه الأحداث لتظهر حدوث أشياء غريبة. تسريع توسيع الفضاء هو العنصر الرئيسي. أعلاه بقليل، لاحظنا أن هذا التوسع ينتج أفقًا كونيًا - وهو مجال بعيد يحيط بنا، وبعده يهرب أي جسم منا بسرعة أكبر من سرعة الضوء، مما يقطعنا عن كل إمكانية للاتصال به. ومع ذلك، فكما أثبت ستيفن هوكينغ أن الثقوب السوداء لها درجة حرارة وتشع من خلال تطبيق قوانين ميكانيكا الكم في محيط آفاقها، أظهر هوكينغ وزميله غاري جيبونز، من خلال نهج مماثل، أن الأفق الكوني أو أفق الحدث حول مدخل الثقب الأسود له أيضًا درجة حرارة، ويشع أيضًا. كان تفكيرنا بشأن مستقبل الفكر يعتمد تحديدًا على هذه النتيجة: لقد توصلنا إلى استنتاج مفاده أن درجة الحرارة المنخفضة جدًا لأفقنا الكوني، تقريبًا 1o-30 كلفن، سيكون كافيًا لاستهلاك مفكرو المستقبل الذين سيحاولون التفكير إلى أجل غير مسمى. وسنرى الآن أنه على نطاقات زمنية أطول بكثير، فإن اعتبارات مماثلة تقدم للفكر إمكانية غريبة للانبعاث. في المستقبل البعيد، سيشكل الإشعاع المنبعث من الأفق الكوني مصدرًا هشًا ولكنه دائمًا للجسيمات (جسيمات عديمة الكتلة بشكل أساسي، مثل الفوتونات والغرافيتونات) والتي ستتقاطع مع منطقة الفضاء المحاطة بالأفق. ومن وقت لآخر، تصطدم بعض هذه الجسيمات لتنتج عددًا أقل من الجسيمات الضخمة مثل الإلكترونات والكواركات والبروتونات والنيوترونات وجسيماتها المضادة. تقلل هذه العمليات من عدد الجسيمات، علاوة على ذلك تكون سرعات هذه الجسيمات المولودة أقل عدداً؛ وبالتالي فإنها تقلل الإنتروبيا. ولكن، إذا انتظرت لفترة كافية، مثل هذه الأحداث  فإن أشياء غير محتملة ستحدث في نهاية المطاف. على نحو نادر، ولكن بانتظام. وفي حالات نادرة، تتحرك بعض البروتونات والنيوترونات والإلكترونات التي تم إنشاؤها بهذه الطريقة حسب الحاجة لتكوين الذرة. :إن المدة الهائلة المطلوبة لحدوث ذلك تفسر لماذا لا تحدث مثل هذه الأحداث أثناء تركيب النوى الذرية بعد الانفجار الكبير، ولا في أعماق النجوم. ولكن بما أن أمامنا الآن وقت غير محدود، فإن هذه الآليات مهمة. وعلى مدى فترات زمنية أكثر ضخامة، ستتجمع الذرات بشكل عشوائي في مجموعة كاملة من التكوينات المتزايدة التعقيد، ويمكننا أن نكون متأكدين من أنه على الطريق إلى الأبدية، من وقت لآخر، ستظهر جميع أنواع الهياكل المجهرية - الرؤوس المزركشة وسيارات البنتلي. - عن طريق الاندماج التلقائي للجزيئات. وفي غياب الكائنات المفكرة، سيظهر الجميع ويختفون دون شاهد. وفي حالات نادرة، سيكون أحد هذه الهياكل العيانية المتكونة عشوائيًا هو الدماغ. الفكر، الذي انقرض منذ زمن طويل، سوف يعود سريعًا.

ما هو المقياس الزمني اللازم؟ إن الحساب التقريبي (الذي سيجده هواة الرياضيات يسمح لنا بتقدير أن دماغ بولتزمان لديه فرصة معقولة للتشكل على مدى فترة عشرة أسا عشرة أس ثمانية وستين  101068 سنة. وهذا وقت طويل. يمكننا أن نكتب المدة التي يمثلها الجزء العلوي من مبنى إمباير ستيت، 10102 سنة، "1" متبوعًا بـ 102 صفر، أي حوالي سطر ونصف؛ ولكن لكتابة 101068 - أي "1" متبوعًا بـ 1068 صفرًا -، يجب علينا استبدال كل "شخصية في كل كتاب يُطبع على الإطلاق. وحتى ذلك الحين، سنكون بعيدين جدًا. لحسن الحظ، ليس الأمر وكأن أي شخص ينتظر حدوث ذلك. انهيار الإنتروبيا اللازمة لإنتاج " الدماغ الكون" يمكن أن يستمر لمدة نصف الأبد في حالة اضطراب عادية ذات أقصى قدر من الإنتروبيا ولن يشتكي أحد!

الأمر الذي يثير سؤالاً مثيراً للاهتمام، ومؤكداً  هو سؤال شخصي من أين يأتي دماغك؟ يبدو هذا السؤال سخيفا، ولكن من فضلك اتبعني. للإجابة، سوف تشير بطبيعة الحال إلى ذكرياتك وذاكرتك ومعارفك ومعلوماتك للإجابة، وتشرح لي أنك ولدت بدماغك وأن تصورك هو ثمرة تاريخ طويل يمكن إرجاعه إلى الانفجار الكبير من خلال نسبك. والأسلاف التي تنتمي إليها، وتاريخ تطور الحياة، وتكوين الأرض والشمس، وما إلى ذلك. للوهلة الأولى، هذا معقول. ولكن، كما رأينا في مقاربات سابقة، فإن النافذة الزمنية التي تتشكل خلالها العقول بهذه الطريقة محدودة - ولنفترض أنها تقع بين الطابق العاشر والرابع عشر من مبنى إمباير ستيت. إن النافذة الزمنية التي يمكن للأدمغة أن تتدرب خلالها بطريقة بولتزمان هي أكبر بما لا يقاس - إن لم تكن غير محدودة تمامًا  . مع مرور الزمن، سوف تستمر أدمغة بولتزمان في الظهور، ولو نادرًا ولكن على نحو مؤكد، وبالتالي فإن عدد هذه الأدمغة سوف ينمو بشكل لا يمكن علاجه. إذا نظرنا إلى فترة زمنية طويلة إلى حد ما، فسنرى أن إجمالي عدد أدمغة بولتزمان يتجاوز بكثير عدد الأدمغة التقليدية. ويظل هذا صحيحًا إذا أحصينا ببساطة أدمغة بولتزمان الأكثر ندرة، والتي يقنعها ترتيب جسيماتها بشكل خاطئ بأنها ظهرت بالطريقة البيولوجية التقليدية. مرة أخرى، على الرغم من أن العملية قد تكون نادرة جدًا، إلا أنها ستحدث عددًا كبيرًا من المرات على مدى فترات زمنية طويلة بشكل تعسفي.

لذلك، من وجهة نظر احتمالية بحتة، كيف اكتسبت معتقداتك وذكرياتك ومعارفك الحالية؟ إن الإجابة الباردة والهادئة، المستندة إلى حجم السكان البسيط، واضحة: لقد تشكل دماغك للتو تلقائيًا من جزيئات تنجرف في الفراغ، مع كل ذكرياته وخصوصياته العصبية والنفسية المطبوعة على رأسك من خلال التكوين المحدد للجسيمات المذكورة. قصة ظهورك كما أخبرتني بها للتو كانت مؤثرة، لكنها كاذبة. إن ذكرياتك وسلاسل التفكير المختلفة التي أنتجت معرفتك ومعتقداتك كلها وهمية. ليس لديك ماضي. لقد وصلت للتو لقد وصلت للتو إلى العالم كعقل بلا جسد، ولكن مع ذكرى أشياء لم تحدث أبدًا.

إلى جانب كونه غريبًا تمامًا، فإن هذا السيناريو يتضمن استنتاجًا مدمرًا آخر، وهو بالتحديد سبب تركيزي على الظهور التلقائي للأدمغة بدلاً من عدد لا يحصى من الأشياء غير الحية الأخرى غير التجمعات العشوائية من الجسيمات التي يمكن أن تنتج أيضًا. إذا كان الدماغ، سواء كان دماغك أو دماغي أو أي شخص آخر، لا يستطيع أن يثق في أن ذكرياته ومعتقداته تعكس أحداث الماضي بشكل صحيح، فلن يستطيع أي عقل أن يثق في نفسه. ويكون فخور بالقياسات والملاحظات والحسابات التي يعتقد أنها تشكل أساس حياتنا وفق الفهم العلمي. أتذكر دراسة النسبية العامة وميكانيكا الكم. يمكنني تلخيص سلسلة التفكير التي تبرر هذه النظريات. أتذكر أنني نظرت إلى البيانات التي تشرحها هذه النظريات بشكل مثير للإعجاب، وما إلى ذلك. ولكن إذا كنت لا أستطيع الاعتماد على فكرة أن هذه الأفكار قد طبعت في ذهني من خلال الأحداث الفعلية التي أنسبها إليها، فلا أستطيع أن أكون على يقين من أن هذه النظريات ليست سوى خيالات عقلية، ولا أستطيع أن أثق في أي من هذه النظريات. الاستنتاجات التي توصلوا إليها. ومما يزيد من روعة هذا التصور، أن من بين هذه الاستنتاجات المشكوك فيها الآن هو احتمال أن أكون دماغًا يطفو في الفراغ. لذا فإن احتمالية تشكل الأدمغة بشكل عفوي تدمر المنطق الذي دفعنا إلى النظر في هذا الاحتمال. كل التفكير غارق في الشكوك العميقة.

باختصار، من المحتمل أن تؤدي الانهيارات النادرة والعفوية للإنتروبيا، والتي هي نتيجة لقوانين الفيزياء، إلى تقويض ثقتنا في قوانين الفيزياء نفسها وفي جميع عواقبها المفترضة. ومن خلال النظر في عمل هذه القوانين على مدى فترات زمنية طويلة بشكل تعسفي، نجد أنفسنا منغمسين في كابوس حيث تصبح الثقة في أي شيء ملموس مستحيلة. نحن هنا في ورطة كبيرة. كيف يمكننا أن نستعيد ثقتنا في التفكير العقلاني، ذلك النوع من التفكير الذي جعل من الممكن تسلقنا المذهل إلى مبنى إمباير ستيت وما بعده؟ لقد توصل الفيزيائيون إلى استراتيجيات مختلفة.

ويخلص البعض إلى أن هناك الكثير من اللغط حول أدمغة بولتزمان. ومن المؤكد أنهم يدركون أنه من الممكن أن تتشكل أدمغة بولتزمان. لكن كن مطمئنًا، فمن الواضح أنك لست واحدًا منهم. وإليك كيفية إثبات ذلك. انظر إلى العالم من حولك، ولاحظ كل ما تراه. إذا كنت مثل عقل بولتزمان، فمن المحتمل جدًا أنك لن تكون موجودًا في اللحظة التالية. إن دماغ بولتزمان طويل الأمد هو جزء من نظام أكبر وأكثر تنظيمًا وقادر على الحفاظ عليه، وبالتالي يتطلب انخفاضًا عشوائيًا أكبر وأكثر ندرة في الإنتروبيا، مما يجعل تكوينه غير محتمل. وبالتالي، إذا وجدت، عند إعادة فتح عينيك على العالم، أنه يشبه إلى حد كبير ما رأيته قبل لحظة، فسوف تطمئن نفسك أنك ربما لست عقل بولتزمان. وفي الواقع، وبحسب هذا الرأي، فإن كل لحظة تمر تقوي التظاهر وتزيد من ثقتك بنفسك.

ومع ذلك، لاحظ أن الإثبات المعني يفترض أن كل لحظة من هذه اللحظات المتعاقبة حقيقية بالمعنى التقليدي. إذا كنت تتذكر الآن مراقبة العالم خلال الاثنتي عشرة دقيقة الأخيرة وإخبار نفسك مرارًا وتكرارًا أنك لست دماغ بولتزمان، فإن تلك الذكريات تعكس فقط الحالة الفيزيائية لدماغك في هذه اللحظة، وبالتالي فهي متوافقة مع فكرة أنه ظهر للتو، مزودًا بهذه الذكريات على وجه التحديد. إذا أخذنا هذا السيناريو حرفيًا، فإنك تدرك أن الملاحظات التجريبية التي استخدمتها للقول بأنك لست عقلًا مدبرًا لبولتزمان قد تكون في حد ذاتها جزءًا من الخيال. ربما أتذكر أنني قلت لنفسي كما قال ديكارت يوماً  "أنا أفكر، إذن أنا موجود")، ولكن في أي لحظة ما يجب أن أقوله بدلاً من ذلك هو: "أعتقد أنني فكرت، لذلك أعتقد أنني كنت كذلك. )) في الواقع، تذكر هذه الأفكار لا يضمن أن هذه الأفكار قد تمت صياغتها بالفعل.

النهج الأكثر إقناعا هو التشكيك في السيناريو نفسه، بما في ذلك إن وجود أفق كوني بعيد يشع باستمرار الجسيمات - المادة الخام التي تتشكل منها الهياكل المعقدة، بما في ذلك العقول - هو الحجة الرئيسية لصالح أدمغة بولتزمان. وعلى المدى الطويل جدًا، إذا تبددت الطاقة المظلمة التي تملأ الفضاء، فإن تسارع التوسع سيتوقف، وسيختفي الأفق. وبمجرد أن لا يصبح محاطًا بسطح يشع الجسيمات، يبرد الفضاء تدريجيًا إلى الصفر المطلق؛ وفي ظل هذه الظروف، فإن احتمالية تشكل الهياكل العيانية المعقدة تلقائيًا تميل أيضًا إلى الصفر. لا يوجد حاليًا أي دليل على إضعاف (أو تقوية) الطاقة المظلمة، لكن بعثات المراقبة المستقبلية ستحقق في هذا الاحتمال بمزيد من التفصيل. ولذلك فمن الآمن أن نقول أنه في الوقت الحالي، لم يتم تحديد أي شيء.

تقترح المقاربات الأكثر تطرفًا أن الكون المرئي، أو على الأقل الكون كما نعرفه، لن يكون موجودًا بشكل اعتباطي في المستقبل البعيد. وبدون القدرة على النظر في فترات طويلة اعتباطية، فإن احتمال تكوين أدمغة بولتزمان يصبح ضئيلًا للغاية لدرجة أنه يمكننا تجاهلها بأمان. إذا كان للكون أن ينتهي قبل وقت طويل من الجداول الزمنية التي تجعل تكوين أدمغة بولتزمان محتملا، فيمكننا أن نتخلى عن شكوكنا ونتبنى موقفا أكثر راحة: القصة القديمة عن أصل دماغنا تصبح صالحة مرة أخرى، وتصبح ذكرياته ومعرفته ومعلوماته صحيحة. المعتقدات تعكس الأحداث الماضية  . والسؤال هو: ما الذي يمكن أن يجعل الكون ينتهي بهذه السرعة؟

هل النهاية قريبة؟

أعلاه بقليل، اعتبرنا أن مجال هيغز يمكن أن يحدث قفزة كمية إلى قيمة جديدة، وبالتالي يغير خصائص الجسيمات الأساسية بشكل مفاجئ من خلال إعادة كتابة معظم عمليات الفيزياء والكيمياء والأحياء بشكل كامل. ومن المؤكد أن الكون سيستمر في الوجود بعد ذلك، ولكن بدوننا. إذا حدث هذا الكسر قبل وقت طويل من المقاييس الزمنية اللازمة فلن نكون موجودين لندرسه .

***

د. جواد بشارة

لطالما ظلت الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية في الجامعات العراقية – رغم تنوع مواضيعها وتكاثر مصادرها - تتهيب الخوض في غمار بحث وتحليل الطبيعة الفسيفسائية للجماعات والمكونات العراقية المتشظية والمتصارعة ؛ من حيث خصائص البنى التكوينية، وأنماط الثقافات الفرعية، ومضامين السرديات التاريخية، ومحتوى التمثلات المخيالية . ومن ثم الكشف عن أدوار تلك البنى والأنساق والأنماط التي كانت – ولا تزال – من أبرز الأسباب المعيقة للسيرورات والديناميات من جهة، وإماطة اللثام عن التأثيرات والتداعيات والتبعات المحفزة لعوامل التخلف الاجتماعي – الاقتصادي، والتطرف الديني – المذهبي، والتعصب القومي – الاثني، والتخندق الثقافي – اللغوي، والتمترس الإيديولوجي – الحزبي من جهة أخرى . لا بل ان هناك من الباحثين والمؤرخين من يستهجن استخدام عبارة (الفسيفساء) لتوصيف طبيعة المجتمع العراقي، من منطلق حرصه (العاطفي) على استبعاد كل ما يوحي ب (تعدد) الجماعات و(تنوع) المكونات التي يتشكل منها النسيج الاجتماعي العراقي (الموحد) ! .

وإذا كانت الممنوعات السياسية والمحرمات الإيديولوجية في السابق قد حالت دون ظهور وتطور مثل هذه الدراسة، بدعاوى الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي والحيلولة دون تفكك روابطه وتشظي أواصره، ومن ثم الزعم بأن مكونات المجتمع العراقي تعيش في أفضل حالات التجانس الثقافي والتناغم الوطني . فان تغير الظروف السياسية وتبدل الأوضاع الاجتماعية وتحول الأنساق الثقافية وانزياح السياقات التاريخية في الوقت الحاضر، لم تعد تبيح أو تسمح للمتخصصين (باحثين وأكاديميين) بالتعكز على مبررات ومسوغات باطلة لم يعد لها وجود، بقدر ما تحفّز المعنيين والمهتمين للخوض في غمار تلك المواضيع ذات الطبيعة (الحساسة) المؤمثلة في المخيال . بحيث يكون بمقدور كل من أتيح له امتلاك العدة المعرفية والمنهجية الغوص في أعماق تلك الممانعات الشخصية والممنوعات الاجتماعية، ليس فقط لكسر حواجز الخوف وتحطيم قيود الردع التي طالما كبلت العقل وغلت الإرادة فحسب، وإنما لامتلاك القدرة على التحرر من كوابيسها النفسية والتخلص من عواقبها السلوكية، وبالتالي الخروج بدراسات وتوصيات ذات جدوى على مختلف الصعد الإنسانية .

ولعل سؤال يطرح نفسه؛ ما الذي يجعل علم الانثروبولوجيا ضروري الى هذا الحدّ بالنسبة للمجتمعات التي لا تزال تعاني عواقب ماضيها السياسي والاجتماعي والثقافي الشائك والملتبس، لاسيما وان هناك علوم اجتماعية وإنسانية أخرى تشاطر هذا العلم اهتماماته وانشغالاته كعلوم (علم الاجتماع والتاريخ والحضارة والدين والاقتصاد) على سبيل المثال لا الحصر ؟! . وللإجابة على ذلك نقول ؛ ان الانثروبولوجيا هي العلم الذي يسعى للنبش في السيرورات التقليدية والتواضعات الاستاتيكية التي طالما شكلت سمة بارزة من سمات تلك المجتمعات . أي بمعنى أنه (الانثروبولوجيا) يسعى الى تفكيك البنى العميقة لتلك المجتمعات، والحفر عميقا"في طبقات وعيها الباطن، والتنقيب في طمى سيكولوجيتها المضمرة، وهو الأمر الذي دفع بالفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) - ضمن بحثه عن (اركيولوجيا العلوم الإنسانية) – الى وصف الانثروبولوجيا بأنها (علم مضاد) للمألوف والمعيش، من منطلق كونها (ليست أقل عقلانية، بل لأنها تسير في الاتجاه المعاكس، وتحاول دائما"(تفكيك) طبقات الإنسان التي تصر العلوم الإنسانية، كالاقتصاد، على صنعها) . 

وعلى هذا الأساس تتكشف أمامنا ليس فقط أهمية هذا العلم وضرورته بالنسبة لهذا النمط من المجتمعات الإنسانية المتصدعة والمتشظية (الفسيفسائية) على صعيد نتائج التحليل والتأويل التي يقدمها للباحث فحسب، وإنما تتوضح لنا خطورته على صعيد المقاربات المعرفية والمداخل المنهجية التي يستلزمها لسبر أغوار المسكوت عنه في ميادين التاريخ المؤمثلة، والمحذور الاقتراب منه في مجالات الدين المؤسطرة، والممنوع القول فيه في مضامير السياسة المؤدلجة . بحيث ان التقليل من شأن هذا العلم والحيلولة دون تطوير مجالاته وتفعيل ميادينه – تحت شتى المزاعم السياسية والإيديولوجية – أفضيا الى أعاقة العديد من الحقول المعرفية لجهة اجتراح التنظيرات النقدية واقتراح المنهجيات التفكيكية، التي من شأنها إيجاد الحلول واستنباط المعالجات لأغلب مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والثقافية والتاريخية والدينية، التي لم تبرح ضغوط تراكماتها وتفاقم تداعاتها تضاعف من عوامل تهديد كيان دولتنا المتخلع وأمن مجتمعنا المتضعضع . 

***

ثامر عباس

(إن المطر ينهمر دائماً بعد الرعد)

هل ينهزم الإنسان بيولوجيا؟. من يرسخ هذه النظرية، ويحتمي بتأويلاتها؟ وهل تمة ما يؤكد هذا التفكير علميا أو حتى فلسفيا؟.

كل العلوم الطبيعية، بما فيها البيولوجيا، التي تقع في صلب علاقة الكائن الإنساني بالعالم، وتحولاته، وأنساقه المتقاطعة مع عوالم البيئة والمحيط الكينوني المترامي، هي جزء صغير من رواسي اندغام هذه المنظومات البيولوجية المتفاعلة ووظائف الإنسان، ومحددات عمله، وصرائف مدده وائتمانه.

ولا تجد شعبة من شعب هذه البيولوجيا، مهما تفاوتت درجات حضورها في بنية الحياة والفاعلية، من التشريح إلى علم النبات إلى البيوكيميا، إلى التطور وعلم البيئة والبيوفيزيا إلى الأنثرويولوجيا ..، إلا ونسجت خيوطا رفيعة تتحاور من داخلها علامات الارتباط ومفارق التوسع، معلنة أن حقيقة امتلائها بالاستسلام للعقل الإنساني، أكبر من أي تخمين أو حدس مشفر.

إن الفهم السطحي لهذه العلاقة الغامضة والمستحيلة، تفرض اعتباريا إعادة قراءة مآلاتنا بإزاء "نظام تسخير الأرض للإنسان"، وما يشكله من مؤسسات عظيمة، وارتقاءات تعلي من قيمة البشر وأثره في سيرورة الكون والخلق.

ولهذا، ينتفي، أحيانا، هذا الاحتواء، وتلك العنق النجود، عند استيعابنا لميسم التقاء القوة بالعقل، والقيمة البشرية بالوجود الحتمي، والهوية بالنظام العام للعيش، والتشارك الإنساني بالمطالب والاستحقاقات.

إننا نظل تلك الطريق، التي ترفض الاقتراب من بعض تآويل الغيب ووحي السماء، ونحاول الزيغ بأفكار مهزومة، تجافي استدرارنا لكل ما هو ملتبس، أو نافذ بالاحتماء خلف "الغائية"، تاريخا ونظرا متجاوزا لمفهوم "التقدم البشري".

وبعد ذلك، نقرع جرس السؤال، في الجدوى من إعمال العقل، تحت إكراه "النظر العلمي التجريبي"، وتغليفه بالأبعاد الأيديولوجية المنتقاة؟ وما موثق الإيمان والعقيدة من ذلك كله؟ وكيف نحول الافتراقات الفلسفية والفكرية، إلى مناطق لإثارة مشكلات، سبق ومضغت وأكلت وهضمت، منذ مئات السنين، قبل أن يعاد تدويرها ونفتها وتعويمها؟.

في كل مناسبة، وتحت القصف الفوضوي المتهاطل، يعود السؤال نفسه، وتبلغ القلوب الحناجر، دونما محاولة لاسترداد القراءات السابقة، أو تحيينها معرفيا على الأقل. فالحقيقة التي تنهض عليها المعلومات الجديدة في مجال ربط انهزام الإنسان بالبيولوجيا، وانكماشه الفاغر تحت وقع الأخطاء والشرودات المجافية للناموس والطبيعة، وتأثيرات ذلك على مشمولات الأرض والعمران والحيوان، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن صيرورة ربط الأفعال والأعمال الإنسانية بمنتوج الطبيعة، وفق قواعد دقيقة ومتناهية، هي نظرية لا تحتاج لتبيان أو فرقان. بينما نجتاز هذه الحتمية المصيرية، إلى أبعد من ذلك، عندما نمارس "إعادة تطويع جدل الوجود والمادة" وعلاقته ب"قدرة الإنسان وسلطته العلمية"، وما يوازي هذا الاعتبار من "اقتدارية فكرية" و"توجه علمي" و"ارتباط بالنتائج المدروسة المحسوبة"؟.

إن حدوث الكوارث الطبيعية، من زلازل وبراكين وفيضانات وحرائق وزوابع وجفاف، هي منتوج طبيعي بشري، نعم، لكنها أيضا، حوادث غير متوقعة وضبابية، قد تكون ناجمة عن أفعال بشرية أو بيئية، ولكنها أيضا، تدخل في دائرة الغيبيات. وهو ما يؤسس لذاك الغموض المكتنف لأسباب الحدوث والتداعيات .

 فهؤلاء إخوان الصفا، يفسرونها في رسائلهم المعلومة، على أنها تأتي نتيجة احتباس البخارات في جوف الأرض والجبال والكهوف والمغارات، وبعد انقطاعها زمنا طويلا تحم في باطن الأرض وتنخسف مفاجأة بالخروج فيسمع لها دوي وهدة وزلزلة. بينما يرى القاضي الجغرافي القزويني، أن ذات الأبخرة المجتمعية تحت الأرض تنحبس وتتصلب، فتصير ماء مضطربا"، ونفس الشيء بالنسبة لابن سينا والرازي وغيرهما.

 وكلها مقاربات، قريبة من فهومات تطبيق العلوم المذابة بنظم الكون وأبنيتها وقياساتها، حيث تلتقي عند تناول النظرية التكتونية للحياة الجيولوجية، ومستتبعاتها من غرابات التقاء الكواكب واقتراب بعضها ببعض، غير ذلك مما لا يفهمه عقل أو يدركه؟.

هل كان حد ذلك، أن يقف العقل البشري إزاء هذه الخروجات، والاقتباسات، والتفسيرات، مشدوها ومتحيرا، أمام عظمة وجلال هذا السر الرباني السديمي المرعب؟ أم أن الاحتواء الداعر لكل قراءات المتحيرين بإزائه، يفاقم من هزالة الإدراك البشري لعظمة الله الخالق، الذي (قدر فهدى)، حيث الشقوة والسعادة، والإخبار بعين الحجة، على أن الطرق المنذورة للوصول، تكون إما شرا أو خيرا .

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

وهل وجب أدلجة الإسلام لمواكبة التطور؟

لقد جعلت بعض التيارات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي الإسلام إيديولوجيا وليس دين وعقيدة فقط، بحيث اهتمت بشكل مبالغ فيه بالجانب السياسي ودخلت في صراعات مع الأحزاب العلمانية من أجل الحكم، وإن كان من حق التيارات الإسلامية أن تطالب بأن يكون الحكم في بلادها حكما إسلاميا طالما الدساتير العربية أقرت بأن الإسلام هو دستور البلاد، لكن الخطأ التي وقعت في الأحزاب الإسلامية هي أنها لم تعتمد على المنهج النبوي والرسالة المحمدية في مخاطبة الآخر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قضى زمنا طويلا (23 سنة) وهو يصحح العقيدة ويدعو الناس إلى الإسلام والتوحيد، ولم يستعمل خطاب العنف والتهديد، كما قسم النبي الدعوة الإسلامية إلى مراتب ودرجات، فركز على الجانب العقائدي لنشر دين التوحيد دون أن يهمل الجانب الذي يعتبر الأساس في دعوته كتهذيب الأخلاق والمعاملات من أجل تحقيق الفضيلة، وأمام التغيرات التي يشهدها العالم وظهور منظومات فكرية وعقائدية وتيارات سياسية معادية للإسلام باسم الحداثة والعصرنة، بات من الضروري أن تؤخذ الأمور بطريقة عقلانية وأن تتكيف هذه الأحزاب مع الواقع، وتتبنى الحوار العقلاني، لأنه لكل عصر خصوصياته، وهذا من خلال معالجتها للمسائل والقضايا الحساسة بعقلانية ووعي سياسي كمسألة الديمقراطية والحريات كخروج المرأة إلى العمل، وكل الظواهر الإجتماعية التي أدت إلى تفسخ الأسرة، أمام ما يعرضه الغرب الكافر من مغريات تجعل الشباب ينجرف وراءها، ذلك عن طريق الغزو الثقافي مستعملا الإعلام كوسيلة للتأثير فيه.

فالتظاهرات التي ينظمها الغرب كاتفاقيات التوأمة بين الغرب والعرب من أجل التبادل الثقافي، هي من أجل التغريب والفرنجة، وهو مشروع استعماري، لدليل على مستوى الانحطاط الفكري والسياسي الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية، لأنها لم تعمل على وضع الآليات الكفيلة لاستقطاب الشباب وإعادته الى الطريق الصحيح، وعلى سبيل المثال من الصعب على أي حزب سياسي إسلامي وفي أي بلد اليوم، أن يغير ذهنية الشباب المغترب خاصة جيل ما بعد الجيل الثالث لأنه متأثر بالحياة الغربية، لأن الفكر الغربي عشّش في ذهنه، ومن الصعوبة بمكان إصلاحه، ففي الضفة الأخرى يجد المسلم المغترب الحرية التي طالما حلم بها في بلاده ولم يعثر عليها، وقد ذهب المفكر الإسلامي شكيب أرسلان إلى تسليط الضوء على الصراع بين ما أطلق عليه اسم الجامد والجاحد، وقال أن الأول هي الفئة التي لا تريد أن تغير شيئا مهما كان مستوى التطور والتقدم الذي بلغه العالم، ولا ترضى بإدخال تعديلات على أصول التعليم الإسلامي والثانية وهم دعاة "الفرنجة" حيث تطالب هذه الفئة (الجاحدة) بترك الماضي والعيش في الحاضر، لأن مجتمع النبوّة في نظرها مجتمع رجعيٌّ منغلق على ذاته، وهو يختلف عن المجتمع العصري أمام ظهور الرقمنة والتكنولوجيات الحديثة، لكن الواقع يعكس ما تفكر به هذه الفئة، لأن هناك مجتمعات رغم تطورها وتقدمها علميا حافظت على قوميتها (الصين واليابان).

لقد حاولت العديد من الأقلام الإجابة على سؤال إن كان الإسلام عقيدة أم إيديولوجيا؟ في ظل الصراع القائم بين الأصوليين والحداثيين، إذ يرى التنويرون أنه من الضروري إعادة قراءة النص الديني وتفكيكه، وأمام الفتاوى التي تطلق هنا وهناك واختلاف الخطاب الديني بين العلماء والفقهاء ظهر ما يسمى بالإسلام السعودي والإسلام الإيراني والإسلام الإخواني المصري، والإسلام الأفغاني، هذا الأخير الذي تمكن من خلق قوة إسلامية وبسك جذوره في عديد من البلاد العربية وبخاصة في الجزائر، كما أصبحنا نقرأ عن إسلام ابن تيمية وإسلام الألباني وإسلام الشيعة وإسلام السُنّة، حول هذه المسألة بالذات يلاحظ أن القاسم المشترك بين الشيعة والسنّة هو أن كلاهما يعتبران الإمام البخاري مرجعية، وهنا نتساءل اين الإختلاف بينهم، فهل هناك بخاري سُنِّي وبخاري شيعي؟ طبعا هناك بخاري واحد، فلماذا الإختلاف والانقسامية إذًا؟، هذه الإشكالية أعطيت لها أبعادا فكرية عبر القنوات الفضائية (قناة صفا مثلا) التي تستعمل الخطاب الهجومي الغير معتدل.

والإيديولوجية كما عرفها المفكرون هي علم الآراء والأفكار، التي تُبنى منها النظريات والفرضيات، كما هو الشأن في مفهوم الاشتراكية والشيوعية، حيث يعتبر البعض الأولى أي الاشتراكية نظام اقتصادي في حين يرون أن الشيوعية إيديولوجية، ويرى آخرون أن الإيديولوجيا ارتبطت بالإسلام بعد ظهور الإسلام السياسي، وتحاول اطراف أن تربط الديمقراطية بالإسلام على أساس أن الديمقراطي تعني الشورى والإسلام دين شورى، ولذا يرى محللون أن الفصل في إشكالية الإسلام دين أو إيديولوجية، وجب معرف ماهية النظام الإسلامي هل هو نظام سياسي كباقي الأنظمة السياسية في العالم العربي والغربي، أم هو نظام ديني يعني لا يخرج دوره عن دُورِ العبادة (المسجد)، أي ان يكون خطابه خطاب نصح وتهذيب وإرشاد ولا شأن له بالسياسة ولذا قال هؤلاء أن أدلجة الإسلام هو تقزيمٌ له.

***

علجية عيش

زيادة بالأعداد..نقصان بالخدمات

لا توجد إحصائية دقيقة لأعداد الأطفال المصابين بمرض التوحد في العراق، بسبب عدم وجود البيانات وعدم تسجيل جميع الحالات في مراكز التوحد الحكومية والأهلية. يؤكد ذلك تحقيقان صحفيان اجرتهما مؤخرا السيدتان (عواطف مدلول و بدور العامري) فيهما تصريحات لمسؤولين في مؤسسات صحية. يعزز ذلك تقرير طبي نشره موقع (ذي ناشونال) تحدث فيه مدير مركز التوحد التابع لوزارة الصحة العراقية الدكتور حسين الكعبي "أن أعداد الأطفال المصابين في تزايد ويتوقع وجود أكثر من 200 ألف طفل يعاني من اضطراب طيف التوحد، وسط تراجع الخدمات لهذه الفئة من المرضى، إذ يعاني المركز الحكومي الوحيد في بغداد من نقص الملاكات الطبية والمستلزمات الضرورية لتشخيص وتأهيل الأطفال المصابين بالتوحد، ما حدا بذوي المرضى للتوجه إلى مراكز العلاج  والتأهيل الأهلية، بالرغم من ارتفاع التكاليف المالية مقارنة بالنتائج المتواضعة التي يمكن أن يقدمها عدد قليل من تلك المراكز".

ما هو التوحّد؟. تحديد مفهوم

سنبدأ بما تقوله المؤسسات العلمية المتخصصة بالتوحد، ثم نبسّطه لحضراتكم.

تعريف المعهد الوطني للصحة العقلية في الولايات المتحدة:

اضطراب دماغي (Brain Disorder) يؤثر في قدرة الشخص على الاتصال بالآخرين، واقامة علاقات معهم، والاستجابة للبيئة على نحو ملائم .

تعريف الجمعية الوطنية للأطفال التوحديين (National Society For Autistic Children)

هو مظاهر مرضية أساسية تظهر قبل أن يصل عمر الطفل ثلاثين شهراً،يتضمن الآتي:

1. اضطراب في سرعة أو تتابع النمو.

2. اضطراب في الاستجابات الحسية للتنبيهات.

3. اضطراب في الكلام واللغة والمعرفة.

4. اضطراب في التعلق او الانتماء للناس والأحداث والموضوعات.

تعريف الدليل الاحصائي الرابع DSM –IV

حالة من القصور المزمن في النمو الارتقائي للطفل يتصف بانحراف وتأخر في نمو الوظائف الأساسية المرتبطة بنمو المهارات الاجتماعية واللغوية، وتشمل الانتباه، الادراك الحسي، والنمو الحركي.

تعريف الجمعية الأمريكية للتوحد:

هو إعاقة في النمو،تتصف بكونها مزمنة وشديدة،تظهر في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، وهو محصلة لاضطراب عصبي يؤثر سلباً في وظائف الدماغ.

تنويه:

ينبغي التعامل بحذر مع هذه التعريفات، فالتوحّد لا ينطبق على الطفل الذي يكون سلوكه الشاذ ناجماً عن تلف في الدماغ،ولا يمكن وصف جميع الحالات التي يرفض فيها الطفل التعاون لاسباب تعود إلى خوفه  من بيئة أو مصدر غير مألوف بأنها " توحّد " . فضلاً عن أن التوحّد يصيب الأطفال بغض النظر عن مستوى ذكائهم..فقد يكونون طبيعيين أو أذكياء جداً أو متخلفين عقلياً.

وننبه الى انه لا يمكن حصر اضطراب التوحد بعدد محدد من الأعراض والأسباب،ولهذا سمي (طيف التوحد) لأن الأعراض فيه تتداخل وتتنوع. وللوالدين نقول:

ان اعراض ظهور التوحد على الطفل تكون في ثلاثة: تبدأ في ضعف التواصل البصري وعدم قدرته على فهم مشاعر الآخرين ورغبته في اللعب معهم،و صعوبة في فهم الايماءات والتوجيهات باليدين، وصولاً إلى عدم تطور النطق.

ونزيدكم ليسهل عليكم التشخيص ان من اعراضه: انزعاج الطفل من صوت معين بطريقة مبالغ فيها، او: تمسكه بلعبة  أو قميص،أو تعلقه بطعام معين،أ تكرار حركات او كلمات.. بشكل مبالغ فيها.

ما العمل،واطفال التوحد في ازدياد  والخدمات في نقصان؟

الأجابة الممكنة والمفيدة تكون بالتوعية في ثلاثة مجالات..اعلامية و أسرية و مجتمعية،بأن تكون هنالك برامج تلفزيونية واذاعية يقدمها او يشرف عليها متخصصون باضطراب التوحد.وتوعية الأسرة العراقية الكريمه بتبسيط اعراض التوحد(كما فعلنا الآن) وكيفية التعامل مع الطفل المصاب به،وان تمتد التوعية الى المجتمع بتنظيف افكاره من المعتقدات الخاطئة بخصوص المرض ومنها الوصم الاجتماعي،وتسمية من يعانون من طيف التوحد (بالمتخلفين عقلياً).

عباقرة ..مصابون بالتوحد!

ستندهش  ان عرفت ان احدهم هو المخرج السينمائي الشهير (سبيلبيرغ)  الذي اخرج اربعة من بين اعظم عشرة افلام حققت اعلى الايرادات ومنها (اي تي ) او كائن من الفضاء الخارجي.

وستعجب اكثر ان قلت لك ان مؤسس شركة مايكروسوفت وامبراطور الكومبيوتر (بيل جيتس)، ما يزال حتى الآن يعاني من عارض اسبيرجر وهو احد اعراض مرض التوحد!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)

الشريعة والمنهاج مصطلحان متمايزان في دلالاتهما وطريقة عملهما، فـ (الشريعة) في سياقها القيمي ذات نزعة أخلاقيّة شاملة تعمل على ضبط مجمل ما يطالب به الدين ذاك المتبع لعقيد هذا الدين أو ذاك، من سلوكيات تتعلق بحياة الإنسان. أما (المنهاج ) فهو طريقة أو أسلوب في التفكير والممارسة بشكل عام، أو في تطبيق الشريعة بشكل خاص، وفقاً لمعطيات الواقع وتغير الظروف في الزمان والمكان. أي هو تاريخي قابل للتطور والتبدل.

إن متابعة أوليّة لما تناوله مؤسسو الخطاب الفقهي الإسلامي على سبيل المثال في القرون الهجريّة الأولى عند السنة والشيعة، سنجد مبالغة واضحة في مسألة اعتبار الشريعة الإسلاميّة القائمة على النص المقدس القرآن والحديث الشريف، مسألة شموليّة صالحة لكل زمان ومكان، ضُبطت ويجب أن تُضبط دائماً وفقاً لمواقف منهجيّة حددها أصحاب تلك المذاهب، إن كان باعتماد القرآن والحديث والاجماع والقياس عند السنة، أو اعتماد القرآن والعقل والحديث الذي يتعلق منه بآل البيت، أي ما قاله أو حدث به آل البيت من الأئمة المعصومين عند الشيع، وخاصة ما يتعلق بالأحكام (القانونيّة). أي ما أمر به الله من تطبيق للجزاءات على المعاملات والأحوال الشخصية، على من التزم بحقوق الله أو أساء إليها. وهذه المسألة إذا ما قرأنا النص المقدس قراءة متبصرة، نجدها تتناقض أو لا تتفق وروح الشريعة الإسلاميّة في جوهرها العام، الداعي إلى المحبة والعدالة والمساواة والعدل بين الناس ومراعاة ظروف حياتهم، انطلاقاً من  أن هذه الشريعة في سماحتها تدعوا إلى ضرورة مراعاة روح العصر الذي نزل فيه النص المقدس من جهة، والروح العامة لهذا النص القابل لفتح دلالاته تفسيراً وتأويلاً بما يتفق وتطور حياة الإنسان نفس. وقد كان عمر بن الخطاب رائداً في مسألة هذا التطبيق للنص المقدس بعد فتح دلالاته التاريخيّة على الواقع المعيوش بعد وفاة الرسول، وخاصة موقفه من السرقة في عام الرمادة، ثم موقفه من المؤلفة قلوبهم وتوزيع الغنائم وغير ذلك.

نقول: إذا أخذنا كتاب الله بآياته الـ (6000) لوجدنا أن هناك (80) آية فقط هي ما يتعلق بالأحكام الشرعيّة بالنسبة للمعاملات أو الأحوال الشخصيّة بما فيها الجزاءات والإرث والزواج والطلاق والعدة.. الخ. وما تبقي من آياته كلها تصب في قضايا الإيمان والأخلاق. فالدين الإسلامي في عمومه دين إيمان وأخلاق.

أما المنهاج في هذا السياق فهو يستخدم في تطبيق هذه الشريعة. أي هو الأسلوب الذي يستخدمه الفقيه في قراءات النص الديني وتفسيره وتأويله وفتح دلالاته، بما يخدم مصالح الناس المتغيرة والمتطورة دائماً وفقاً لمقاصد الدين في خطوطها الإنسانيّة المراعية لمصالح الناس في الزمان والمكان المحددين.

إن القرآن دعوة دينيّة عقيديّة وأخلاقيّة في أساسه، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)،  وليس قوانين فقهية وحقوقيّة أو علميّاً، وإذا اعتقد بعضهم أنه كتاباً علميّاً وحقوقيّاً، يشرع لمجمل الحياة الاجتماعيّة بدءاً من كيفيّة خلق الكون والإنسان وصولاً إلى تنظيم الحياة الأسريّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة  والسياسيّة... إلخ. فهذا يتنافى مع جوهر الدين الأساس.

إن الإسلام في خطوطه العامة كما أشرنا، يقدم جوهراً أخلاقيّاً لحياة الناس في كل عصر بما يلبي حاجاتهم ومصالحهم، حيث نجد أن الكثير من الجزاءات للمخطئ والمصيب، لا تطبق في الحياة الدنيا، فعقابها مؤجل إلى يوم العودة، عدا بعض حالات القصاص كالسرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها من القضايا التي ورد فيها نص ديني ثابت مثلاً. فالقرآن يشدّد كثيراً على الأخلاق ويعتبرها فوق القانون، وأن المحبة والعفو عنده يجبان القانون إذا ما جاء لفرض العقوبة المستحقة. فلننظر في نص الآية القرآنيّة التالية ونرى كيف أن القيم الأخلاقيّة في الإسلام تتقدم على قانون العقوبات: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (المائدة - 45). أو قوله تعلى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( الشورى - 40).

إن حالة القصاص بموجب النص الديني المقدس تعتبر ضرورة قانونيّة/ حقوقيّة تمثل روح العدالة والمساواة بالنسبة للدين، وهي ضرورة اجتماعيّة أيضاً، ولكن العفو بموجب المحبة والبعد الإنساني المطلق لمقاصد النص المقدس، تظل في المقابل واجباً أخلاقيّاً ومعنويّاً في العلاقات الشخصيّة أو الاجتماعيّة. فالمسألة الأخلاقيّة ممثلة في العفو، تعادل الحق على المستوى القانوني وهو القصاص هنا.

أما بالنسبة للمسألة (السياسيّة) كما حددها النص المقدم في الإسلام، فهناك آيتان بينتا موقف الدين من السياسة وهما : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). (الشورى - 38). (وشاورهم في الأمر) (آل عمران – 159). دون تحديد لآليّة عمل أو تطبيق مضمون هاتين الآيتين، حيث ترك منهاج ممارستهما للإنسان نفسه ووفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيوشة. وهذا الأمر المتعلق في ترك طرق تقدير  الإنسان لمصالحه، نجدها أيضاً في النصوص التي تناولت مسائل الزكاة والصدقات والربا، وهذه كلها تحتاج في الحقيقة لتعريف قانوني لها وهي ذات توجه أخلاقي.

انطلاقاً من هذا المنهج أو الأسلوب الذي يتعامل مع النص الديني حقوقيّاً، يأتي دور الفقه كصياغة حقوقيّة بشريّة محض، وهو وفقاً لذلك تاريخي، أي عليه أن يعمل على البحث الدائم في مقاصد النص الديني، من داخله، أو من خارجه عن حلول لمشاكل الإنسان بكل مستجداتها، أي البحث عن حلول لقضايا الواقع المتطور والمتبدل أو المتحول وفقاً لروح الشريعة أولاً، ووفقاً لمصالح الإنسان التي لا تخرج أصلا في بعدها الأخلاقي والقانوني عن مقاصد هذا النص الديني المقدس أو روحه، وفقاً للحالة التاريخيّة المعيوشة. ومن هنا جاء في أصول الفقه الإسلامي الفرعيّة ما سمي بالمصالح المرسلة، وتغير الأحكام بتغير لأحوال، والاستحسان، والعادة والعرف، وسد الذرائع، واعتبار المصلحة وتقديمها.. الخ.

إن مشكلتنا مع فهم وتطبيق النص الديني فيما يتعلق بـ (الشريعة)، تكمن في تلك العقليّة الجموديّة التي تتعامل مع النص المقدس فقهيّاً من قبل مشايخ الدين والسياسة والسلطان، فهم من ساهم كثيراً في جمود حركة المجتمع وتقديس التراث، الأمر الذي أدى إلى تقديس الفقه ذاته وما تناوله فقهاء العصر الوسيط من شروح وتأويل وتفسير لهذا النص، حيث تحولت شروحاتهم وتأويلاتهم وتفسيراتهم ذاتها إلى نصوص مقدسة أخرى يعتبر الخروج عنها كفراً وزندقةً، بل وخروج عن الدين الصحيح.

ملاك القول: أمام كل هذه الإشكاليات التي نعيشها في مسائل الخطاب الديني الإسلامي، وما تركته هذه الإشكاليات من مواقف عمليّة متطرفة لمتبني الإسلام السياسي الجهادي بشكل خاص التي أساءت للدين والإنسان معاً، لا بد لنا من التأكيد هنا على بعض المعطيات التي يمكن لها أن تساهم في إخراجنا من ذاك الفهم الجمودي الوثوقي الاستسلامي للنص المقدس وهي:

1- لا بد من إعادة النظر في مسألة شموليّة النص الديني المقدس بما تمثله هذه الشموليّة من فهم لروح الشريعة وأخلاقياتها وإمكانيّة تطبيق هذه الروح على قضايا العصر، وذلك يتأتى من خلال اعتمادنا على القرآن كمرجع أساس للنظر في مقاصده.

2- ضرورة التأكيد دائماً على تاريخيّة النص من خلال فهمنا لجوهر وأهداف مسألة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه في النص الديني نفسه. وهذا يدفعنا للنظر في قضايا الواقع عند قراءتنا للنص الديني بمنظار الحاضر وليس الماضي، وبذلك نفتح باب الاجتهاد بعد أن أغلق مئات السنين.

3- لا بد من إعادة النص الديني تفسيراً وتأويلاً إلى حوامله الاجتماعيين الحقيقين المعبرين عن مصالح (المجتمع)، انطلاقاً من النص المقدس الذي يقر بأن كلكم راعِ وكلكم مسؤول عن رعيته. وبذلك نكون قد خلصنا النص الديني تفسيراً وتأويلا وتوظيفاً من قبضة المرجعيات التقليديّة من رجال الدين الذين ملأ الزيغ قلوبهم، ومن رجال السياسية المستبدين الذين يعملون على توظيف هذا النص لمصالحهم. أو بتعبير آخر تخليص الدين من العمامة والعمرة معاً.

***

د.عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

أحتمل أن بعض القراء قد سمع عبارة «فيتامين واو» التي يتداولها الناس أحياناً في العراق والخليج. وهم يعرفون بالتأكيد أن «الواو» هنا تشير للواسطة. وقد سمعتها للمرة الأولى في الكويت نحو عام 1997. حين تحدث زميل لي مع أحد الوجهاء، طالباً شفاعته كي ينجح في اختبار قيادة السيارة، وكان يومها شديد العسر. وحين سمع الزميل موافقة الطرف الثاني، قال ضاحكاً: «فيتامين واو حلال المشكلات». وعلمت فيما بعد أن معظم الناجحين جاءوا مع ذلك الفيتامين القوي.

وتعرفت في بداية القرن الجديد على رئيس بلدية مشهور عندنا، كان يتباهى بعبارة «اشفع تُشفَّع» التي تدعو –من دون مداورة- إلى اعتماد الواسطة إذا أغلقت الأبواب. ورأى صمويل هنتنغتون في مقالة مثيرة للجدل أن الواسطة (الرشوة بين قوسين) قد تكون علاجاً محتملاً إذا تخشبت القوانين، فباتت سداً يعيق الاستثمار الضروري لتوليد الوظائف وتحسين مستوى المعيشة.

لكننا جميعاً نعلم أن الواسطة ليست بالخيار الأمثل حتى لو لجأنا إليه أحياناً. ذلك أنها تؤدي لاستئثار فئة من الناس بما هو حق للجميع. أي تقريب جماعة وإقصاء بقية الخلق.

حسناً، دعنا من هذا الكلام الخطابي، فكل الناس يعرفونه. ولنذهب إلى مسألة مفيدة، تندرج في سؤالين، أولهما: ما جوهر «الواسطة»، ولماذا هي مفيدة أكثر من غيرها؟ والآخر: إذا كانت فعّالة ومفيدة، فهل يمكن تعميمها، أي تحويلها من امتياز لفئة خاصة إلى امتياز لجميع الناس؟

«الواسطة» هي الثمرة الرئيسية للاشتراك مع جمع محدد من الناس، في منظومة قيم أو معايير، تولد خيطاً من التعاطف والثقة المتبادلة فيما بينهم، بحيث يشعر كل منهم أن بوسعه الاعتماد على دعم الآخر وإسناده.

ربما تنشأ هذه العلاقة عن الانتماء المشترك إلى قبيلة واحدة، أو قرية أو مذهب أو حزب، أو حتى الصداقة التي تولدت خلال سنوات المدرسة أو العمل. لكن هذا القدر من الثقة المتبادلة يفيد أقلية من الناس فحسب وقد يؤدي –كما أسلفت– لاستئثار جماعة صغيرة بما هو حق للجميع.

السؤال الذي لطالما راود الباحثين في علم الاجتماع، هو: هل يمكن تحويل منظومة القيم والمعايير تلك إلى أساس للعلاقة بين جميع أهل البلد؟ بعبارة أخرى: هل يمكن تصميم منظومة قيم، أو تطوير المنظومة القائمة، بحيث تستوعب الناس كافة...؟ وتبعاً لهذا، هل يمكن لجميع الناس في بلد معين أن يتمتعوا بما يشبه الواسطة في علاقاتهم وأعمالهم، بحيث يعاملهم موظف البنك والشركة والدائرة الحكومية، كما يعامل أهله وأصدقاءه؟

وجّهت هذا السؤال لأصدقاء عدة هذا الأسبوع. فوجدتهم متشككين في إمكانية توسيع «دائرة الثقة» خارج حدود التعارف الشخصي. وقال أحدهم إن قلة الشركات الكبرى في بلدنا سببها ضيق دائرة الثقة واقتصارها على المعارف. لكني تذكرت على الفور مثالاً جيداً، هو الشركات المساهمة، التي شارك فيها آلاف الأشخاص مع أنهم لا يعرف بعضهم بعضاً ولا يعرفون مؤسسي الشركة ولا مديريها. بعبارة أخرى، فقد توافرت لديهم الثقة الكافية ليضعوا أموالهم بيد أشخاص لا يعرفونهم. أليس هذا مثال جيد؟

هنا يظهر دور الثقافة. أي القناعة التي تولدت في أذهان هؤلاء الناس، بأن القانون يمكن أن يضمن أموالهم، وأنهم لا يعطون أموالهم لشخص بعينه، بل لنظام عمل، إذا نجح فالكل رابح وإذا فشل فالكل خسران، بمن فيهم المدير والمؤسس. هذه الثقافة تقود الإنسان من الثقة بالأشخاص إلى الثقة بالنظام الذي يخضع له الجميع.

«دائرة الثقة Radius of Trust» تتناول في المقام الأول التعويل على القيم الموضوعية (مثل القانون) بدل الشخصية، والاقتناع بأن عامة الناس حريصون بعضهم على حقوق بعضاً، ولذلك يمكن أن تأتمنهم وتطمئنّ إلى عقلانيتهم. هذه كلها عناصر ثقافية يمكن غرسها في أذهان الناس كما يمكن انتزاعها منهم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

عندما نشرَ عالم الاجتماع العِراقي عليّ الورديّ كتابه «خوارق اللاشّعور»(1952)؛ ردّ عليه الفقيه مرتضى العسكريّ(تـ: 2007) في «أخبار المساء»(رمضان 1953)؛ وما إنّ أردفه بـ«وعاظ السَّلاطين»(1954)، حتَّى جمع العسكريّ الرّدود، وأضاف إليها نقده للكتاب الأخير، صدر ببغداد(منشورات الإمام الكاظم 1955)، بعنوان: «مع الدّكتور الورديّ في كتابه وعاظ السَّلاطين»، مع أنّ متن الكتاب ركزَ على «خوارق اللاشُّعور».

كان واضحاً، مِن الرّد، لم يكن العسكريّ رجلَ دين تقليديّ، وهو أحد أقطاب حزب الدّعوة الإسلاميَّ(تأسس 1959)، أراه قارئاً للفلسفة اليونانيَّة وهاضماً لها، وبهذا يُعد مِن المثقفين الدّينيين، في مجمل كتبه «عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى»، و«خمسون ومائة صحابيّ مختلق» وغيرها.

اتفقنا معه أو اختلفنا، فلا بد مِن الاعتراف أنه صاحب باعٍ ثقافيّ وفق عقيدته. لكن يبدو أنَّ ما كتبه كان تعبيراً عن غضب المؤسسة مِن أفكار الورديّ، لأنها نالت مِن الفكر التّقليديّ المحافظ، المنسجم مع رجال الدّين.

لم تصدر فتوى تكفير ضد الوردي، ولم يتعرض لاعتداء، على الرّغم مِن كثرة الأتباع الذي ينفذون ولا يناقشون، وما سمعته مِن المعمار محمد مكية(تـ: 2015)، وما أثبته في مذكراته «خواطر السِّنين»، أنّه زار المرجع الخوئي(تـ: 1992)، في السِّتينيات، مع الورديّ، فأخذ الخوئيّ يحاوره في أفكاره، وتمنى تكرار الزّيارة. أقول هذا للتذكير بزمن آخر، ليس التَّكفير والاغتيال عنوانه، إلا ما ندر، ولا عمائم متحكمة بالضَّمائر، وميليشيا تتوسلها الدَّولة، لإطلاق المخطوفين مِن قِبلها.

كتب العسكري: «إنّ الدّكتور الورديّ، وأساتذته، يحاولون هدم كلّ قديم مِن أخلاق وآدابٍ، ونظم اجتماعيَّة». لم يتطرف العسكريّ ويقول: «يحاولون هدم الدّين»؛ فهذا تكفير صريح. لكنّه أراد قول ذلك، فالأخلاق في عقيدته دينيّة أولاً. كذلك أتهم الوردي أنه طالبٌ للشّهرة وفق «خالف تعرف». بعدها ردّ الوردي التُّهمة، واعتبرها باطلة، ففي تصوره: ليس كلّ من خالف عُرف واشتهر، إذا لم يكن صاحب عِلم(المطبعيّ، عليّ الوردي يدافع عن نفسه).

كانت الأخلاق والآداب، التي أُتهم الوردي بهدمها، تخص الحِجاب، والتّشدد ضد الانفتاح الاجتماعيّ، الذي اعتبره -الورديّ- سبباً جوهرياً في التّخلف، وإشاعة «الاغتصاب»، ودفع المجتمع إلى ثقافة النِّفاق، فالأخلاق لا تقومها المواعظ والخُطب، إنما الحلول العمليّة، كازدهار التَّعليم، والتَحول إلى الحضارة.

أقول: وهل أكثر مِن مجتمعاتنا تستمع للمواعظ والخُطب، وها هو الطَّابع الدّينيّ سائداً، ثقافة وسُلطة، فما هي النَّتائج التي حُصدت، ألم يكن هذا دليلاً على صحة ما قاله الورديّ قبل سبعين عاماً؟ كان الورديّ يتحدث مِن بنات أفكاره، غير المقدسة، أمّا صاحب الرّد، فبين صفحة وأخرى يُذكر الوردي بحديث وآية، وهذا ما قصده الورديّ بقوله: «كسب الجدل بأن تتجنبه»(الورديّ يدافع عن نفسه).

كان أكثر ردّ العسكري دفاعاً عن المنطق الأرسطي ومثالية أفلاطون؛ والسَّببّ لأنَّ هذا المنطق بمثابة المقدس، فالمسائل الفقهية تعتمد عليه في الوصول إلى النّتائج، المنطق الذي ثار عليه «السفسطائيون»، وكان الورديّ ناصراً لهم. كتب العسكري ثالباً السَّفطائيين، ومريدهم الورديّ: أفكارهم «تجعل الحقَّ باطلاً والباطل حقَّاً»، وبالتَّالي فالوردي في ذهن المؤسسة الدّينيّة: يستبدل الباطل بالحقّ. ذهب العسكري في رده أن وجود الانحراف الخلقيّ له تاريخ، ربطه بالعباسيين والأديرة، ضمن عدم وده، كغيره مِن أبناء المؤسسة الدّينيّة الشّيعيّة، للعباسيين.

طرح الورديّ في مؤلفاته كافة أفكار التّحرر، وأسلوبه مقبول لدى طبقات القراء كافة، بشهادة المحقق كوركيس عواد(تـ: 1992): «يكتب بأسلوب ميسر جذاب، مفهوم لدى مختلف صنوف القراء. ثم وهو العالِم في الاجتماع يعرف كيف يُطعم كتبه في المطيبات والتّوابل»(نفسه). أقول: ممَن يخشى رجال الدّين إذا لم يخشوا الورديّ، الذي يصل للقراء كافة؟!

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

في عالمنا الحديث الممتلئ بالتكنولوجيا، نتعرض لوابل من الخيارات - شاهد هذا، أو اقرأ هذا، أو استمع إلى هذا. مجتمعنا مليء بوسائل الإعلام والإخبار والترفيه، وتأثيرها على معتقداتنا وأفكارنا وأفعالنا بليغ. إن الأشياء التي نسمح لها بملء أذهاننا تؤدي في نهاية المطاف إلى تشكيل كياننا - فنحن نصبح ما نفكر فيه. إن وسائل الإعلام التي نختار استخدامها تؤثر علينا حتماً - سواء بشكل إيجابي أو سلبي. في ظل هذا التدفق الغزير للمعلومات من قبل وسائل الإعلام التي تحاصرنا بطريقة لا يمكننا تجنبها، فإن مسؤوليتنا لا تقتصر على تجنب وسائل الإعلام السلبية، بل في اختيار وسائل الإعلام المفيدة.

التكنولوجيا في حد ذاتها يمكن توظيفها في سياقات الخير والشر. في المحصلة إن الأهداف التي يتم تحقيقها باستخدام التقنيات/ ومن خلالها هي في نهاية المطاف مؤشرات على مستوى التطور والتحديث. لذلك ليس علينا رفضها، بل أن نستخدمها بطرق يمكن أن تثري حياتنا.

يمكننا استخدام قوة وسائل الإعلام لصالحنا لتحسين تفكيرنا وسلوكنا من خلال إدراك قابليتنا للتأثير الإعلامي وإدراك مدى تأثيره علينا، وعبر تحديد واختيار الفرص الإعلامية الإيجابية.

كيف يؤثر الإعلام علينا؟

لا أحد محصن ضد تأثير وسائل الإعلام. لا يمكننا أن نتوقع الاستمتاع بالوسائط المصممة للتأثير علينا عقلياً وعاطفياً دون أن تستمر في التأثير على عقلنا الباطن لفترة طويلة بعد انتهاء الفيلم، أو إغلاق الكتاب، أو بعد الاستماع للأغاني. أولئك الذين يعتقدون أنهم لا يتأثرون بوسائل الإعلام هم في الغالب الأشخاص الأكثر تأثراً، وذلك على وجه التحديد لأنهم ينكرون تأثير وسائل الإعلام وبالتالي فإنهم ليسوا على دراية بما يجري. وكما سيستمر الماء في التسرب إلى القارب المثقوب، حتى لو لم ندرك أنه متسرب، كذلك ستستمر وسائل الإعلام في التأثير على أفكارنا سواء انتبهنا لتأثيرها أم لا.

يمكن لوسائل الترفيه أن تؤثر على أفكارنا، لذلك نلجأ إليها لتجنب التوتر والضغط اليومي. غالباً ما نسعى إلى الترفيه باعتباره عزاءًا مؤقتاً من المشاكل اليومية، سواء أكان ذلك في الأفلام، أو الكتب، أو التلفزيون، أو المجلات، أو الموسيقى. على الرغم من أننا نستخدم وسائل الترفيه للاسترخاء، إلا أنه يجب ألا نسمح أبداً لمعاييرنا بالاسترخاء. في ذلك الوقت بالتحديد يجب أن نكون حذرين فيما نتركه في أذهاننا.

ومن أجل الاستمتاع الكامل بتجربة الترفيه، يقبل بعض الأشخاص غريزياً الرسالة المقدمة في وسائل الإعلام، وبالتالي يسمحون للمنظور الضمني بالتأثير على إدراكهم.

حين نشاهد بعض الأفلام فإن الحقيقة تعتمد على تأسيس مبكر ومقنع تماماً لعالم غريب، أو خيالي، أو تصور لزمن مختلف، أو لشخصيات غير عادية، بحيث تأسرنا الروح العامة والمزاج والجو الخاص بالفيلم. إذا كان المخرج ماهراً في خلق هذا المظهر من الحقيقة، فنحن على استعداد لتعليق عدم تصديقنا وترك شكوكنا وتفكيرنا العقلاني وراءنا عندما ندخل العالم الخيالي للفيلم.

إذا أوقفنا عدم تصديقنا، فإننا نميل إلى الانفتاح على القيم والتوقعات والمعتقدات التي تصورها وسائل الإعلام. وهكذا، يمكن لوسائل الإعلام أن تؤثر بشكل خفي على أفكارنا. ولكن في هذا التأثير هناك خطر قبول وجهات النظر التي لا تتفق مع معتقداتنا.

إن الكلمة اللاتينية  entertainment التي تعني ترفيه هي في الأصل كانت تعني تحويل العقل بغرض الخداع. في الأوقات التي نسعى فيها للتحويل، نحن نستخدم وسائل الإعلام لإلهاء أنفسنا عن مشاكلنا الحقيقية، ونراهن على أنها يمكن أن تجعلنا نؤمن بما تقدمه لنا الآن. كلما كانت الوسيلة أكثر مصداقية، كلما استمتعنا بها أكثر - بغض النظر عن مدى صحتها أو خطأها.

تقول عالمة النفس الاجتماعي "كارين ديل" Karen E. Dill "عندما نسمح لأنفسنا بالانجراف إلى العالم الخيالي، فإننا نغير مواقفنا ومعتقداتنا بحيث تكون أكثر اتساقاً مع الأفكار والادعاءات التي نجدها في القصة أو الرواية أو الفيلم". نحن نستبعد عدم الثقة لدينا، ومن خلال القيام بذلك، نفتح أنفسنا بشكل عشوائي ونستوعب نظام الاعتقاد الذي يتم تمثيله في العالم الخيالي ونتصرف بناءً على تلك التصورات والأفكار. في كثير من الأحيان، ما نراه على الشاشة يثير تغييراً أو رد فعل لا ندركه. هذه هي الطريقة التي يشكل بها العالم الخيالي لوسائل الإعلام تصورنا للواقع

من خلال السماح لوسائل الإعلام بتحقيق هدفها المتمثل في الترفيه عنا، يمكننا استبدال تفكيرنا العقلاني الطبيعي بالأفكار التي تعرضها وسائل الإعلام، مما يؤدي في النهاية إلى تغيير معتقداتنا وسلوكياتنا.

من أجل السيطرة على تأثير وسائل الإعلام على حياتنا، من الأهمية بمكان أن نختار وسائل الإعلام البناءة، وأن ندرك مدى قابليتنا لتأثير وسائل الإعلام. حيث تؤثر وسائل الإعلام على أفكارنا، وبالتالي يمكن أن تؤثر على أفعالنا.

كيف يمكننا اختيار الخيارات الإعلامية الإيجابية؟

من خلال فهم تأثير وسائل الإعلام على حياتنا، يمكننا أن نتعامل بوعي مع الفرص المتاحة لنا. إن اختياراتنا سوف تصنع عالماً من الاختلاف، لأنها ستحدد مدى استجابتنا لما يدور من حولنا.

إن مسؤوليتنا لا تقتصر ببساطة على تجنب/ أو رفض وسائل الإعلام السلبية، بل أن نحيط أنفسنا بنشاط بوسائل إعلام مفيدة. ولحسن الحظ، هناك مخزون إعلامي كبير جداً، وهناك الكثير مما هو جيد ومفيد، حيث يتم الحفاظ على القيم واحترامها. هناك عدد لا يحصى من الكتب والأفلام والأغاني وغيرها من الأشياء التي تحتوي على رسائل عن الأمل، والسعادة، والحب، واللطف، والفرح، والتسامح.

بسبب حجمها المذهل، فإن وسائل الإعلام في عصرنا تعبر عن مجموعة لا حصر لها من المواقف التي تتناقض بشكل صارخ مع بعضها البعض. وعلى النقيض من الجانب الضار والمتساهل للغاية، فإن بعض وسائل الإعلام تقدم الكثير مما هو إيجابي وجيد، ولذلك فإن التحدي الأكبر الذي يواجهنا هو اتخاذ خيارات حكيمة بشأن ما نستمع إليه وما نشاهده.

قد يكون هناك برنامج تلفزيوني أو سلسلة كتب استمتعنا بها ذات يوم وتسببت في ترجيح كفة المقياس الأخلاقي، ولكننا نجد أنه من الصعب تركها، أو ربما يكون الفيلم الجديد يحظى بشعبية كبيرة أو مغرياً ولا نعتقد أنه يمكن أن يسبب أي ضرر لمشاهدته. ومع ذلك، إذا استسلمنا قليلاً، يصبح من الأسهل أن نستسلم أكثر لاحقاً، حتى نستسلم تماماً ونستمتع به، وهو الأمر الذي قد نجد صعوبة في العودة منه. ولكن من خلال وضع معايير لأنفسنا حيث نسمح لأنفسنا فقط باستخدام الوسائط المفيدة التي تُغني عقولنا وتُثري أفكارنا.

مع الفوائد العظيمة لتكنولوجيا الإعلام تأتي مسؤولية اختيار الطريقة التي سنستخدم بها هذه التكنولوجيا.

كيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي علينا؟

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الأفراد هام جداً. يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تؤدي إلى تآكل احترامنا لذاتنا عندما ننخرط في المقارنة المستمرة.

غالباً ما تظهر وسائل التواصل الاجتماعي في قائمة الأسباب حول تدني احترام الذات، وخاصة مع النساء. يصفون كيف يشعرون بعدم الارتياح بعد قضاء الوقت على Instagram أو Facebook كما لو أنهم وحياتهم ليست جيدة بما فيه الكفاية، كما لو أن كل شخص آخر لديه حياة رائعة وهم مخطئون تماماً. وهم ليسوا وحدهم الذين يشعرون بهذه الطريقة

فكيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي علينا؟

لا تزال وسائل التواصل الاجتماعي ظاهرة جديدة نسبياً. ولذلك، بدأ الباحثون للتو في فهم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. اتضح أنه هناك علاقة ارتباطية بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وحدوث الاكتئاب، والقلق، وتدني احترام الذات، والشعور بالوحدة. يزداد الأمر سوءًا كلما زاد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

تم في العام الماضي سؤال 5000 طفل وشاب في المملكة المتحدة عن استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي. توصل الباحثون إلى أن أكثر من نصف المشاركين في الاستطلاع يعانون من انخفاض احترام الذات بعد القيام بجولة على وسائل التواصل الاجتماعي. حيث يبدأون في التساؤل عما إذا كان مظهرهم وحياتهم بشكل عام جيدة بما فيه الكفاية.

وأشار 63% من الأطفال والشباب الذين شملهم الاستطلاع أيضاً إلى أنهم لن يمانعوا إذا لم يتم اختراع وسائل التواصل الاجتماعي مطلقاً. ولذلك يشعر الأطفال والشباب بالتأثير السلبي لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي ويفضلون الابتعاد عنها.

وفي عام 2016، تم إجراء دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية حول استخدام الشباب لوسائل التواصل الاجتماعي وارتباطها بالاكتئاب. سُئل 1787 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 19 و32 عاماً عن استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي: ما هو مقدار الوقت الذي يقضونه على وسائل التواصل الاجتماعي يومياً؟ كم مرة يتواجدون خلال الأسبوع؟

وتمت ملاحظة أن أكثر حالات الاكتئاب تحدث بين أولئك الذين كانوا في أغلب الأحيان يقضون وقتاً أكثر من سواهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

لاحظ أن هذه الدراسة أجريت بين البالغين. يُكتب الكثير في وسائل الإعلام عن التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال والشباب. لكن وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر علينا جميعاً.

لاحظ أيضاً أنه حتى لو كان هناك ارتباط بين حدوث شيئين (الوقت الذي نقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي والاكتئاب)، فإن ذلك لا يخبرنا ما إذا كانت هناك علاقة سببية. وهذا هو نقطة الضعف في كثير من الدراسات التي تجري حاليا حول استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي: لماذا هو سلبي؟

تشير العديد من الأبحاث إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤثر سلباً على صحتنا العقلية. كيف يمكن للمرء أن يفهم ذلك؟

إحدى الطرق لفهم ذلك هي النظر إلى ما تدعوك وسائل التواصل الاجتماعي إلى القيام به من مقارنة نفسك بالآخرين. يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تؤدي إلى تآكل احترامنا لذاتنا عندما ننخرط في المقارنة المستمرة.

فمن ناحية، كنا دائماً نقارن أنفسنا ببعضنا البعض. نحن البشر ننظر إلى بعضنا البعض ونقيم تطورنا ونجاحنا ـ وإخفاقنا أيضاً ـ بناءً على كيفية سير حياة الآخرين. لكن على وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت هذه المقارنة جنونية لسببين:

أولاً: عدد المقارنات المحتملة. لقد زاد عدد الأشخاص الذين يمكنك مقارنة نفسك بهم بشكل كبير مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي. في السابق، كان بإمكانك مقارنة نفسك بجيرانك وأصدقائك وزملائك. الآن يمكنك مقارنة نفسك بعدد كبير من الأشخاص طوال الوقت. زملاء الدراسة القدامى، وزملائك الطلاب، والأشخاص في أجزاء أخرى من العالم، والأشخاص المشهورين.

أشخاص لم تكن تعرف عنهم شيئاً قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي. الناس الذين قد انزلقوا إلى النسيان. الأشخاص الذين تختلف ظروف حياتهم تماماً عن ظروفك.

ثانياً: ما تقارن نفسك به. عندما تقارن نفسك بالآخرين على فيسبوك، فهي صورة معكوسة تقارن نفسك بها، لكنها ليست صورة حقيقية. معظم الأفراد يعيشون حياة طبيعية عادية مليئة بالصعود والهبوط، وقهوة الصباح، وجبة الطعام مع زميل العمل، وركوب الدراجة للمدرسة تحت المطر، والصديق الذي يتركك، نصائح الأهل والأسرة، متطلبات الزوجة والأطفال، وأي شيء آخر يمثل الحياة العادية تماماً.

لكن على فيسبوك وإنستغرام، نعرض فقط ما يسير على ما يرام – النجاحات وظروف الحياة الكبيرة والإيجابية مثل: "مرحباً، انظر إلي، لقد حصلت على هذه الوظيفة الرائعة". أو: "مهلا، انظر إلي، أنا حامل". "لقد تزوجت. انظروا إلى زوجي الوسيم". "مرحباً، شاهدني هنا مع جميع أصدقائي الرائعين". "لقد اشتريت منزلاً/ سيارة جديدة، انظروا كم هي مذهلة". "ها أنا والعائلة أثناء قضاء العطلة في هذه المدينة الساحرة".

المقارنة هنا تؤدي إلى تآكل احترام الذات. عندما نقارن أنفسنا باستمرار بالآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن ذلك يسبب لنا التوتر. يصبح حال بعض الناس: "لماذا لم أتمكن من الوصول إلى هذا الحد في حياتي مثل...؟". "لماذا لم يعد لدي أصدقاء من المدرسة الابتدائية/المدرسة الثانوية/الكلية/المدرسة الثانوية/الجامعة مثل...؟". "لماذا لا أملك منزلاً جميلاً/ جسماً جميلاً/ صديقاً/ طفلاً/ الكثير من المال/ فرصة الذهاب في رحلات جميلة...؟"

"لماذا لم أفعل...؟"". لماذا لم أحصل على...؟"... الخ.

يتم الرد على جميع الأسئلة بالاستنتاج: يجب أن يكون هناك خطأ ما معي. انا لست جيد/ة بما فيه الكفاية. أنا لا أقدر مثل الآخرين. أنا إنسان/ة فاشل.

عالم بلا جدران

جعلت وسائل التواصل الاجتماعي، العالم ـ بطريقة ما ـ صغير جداً.

أتاحت للأفراد التفكير بجميع المجالات الممكنة الآداء في حياتنا - والتي ربما لم نفكر في القيام بها في غياب تلك الوسائل.

وعندما يكون ما نقارن أنفسنا به، علاوة على ذلك، صورة مشرقة، فإن الأمور تسوء تماماً بالنسبة لاحترامنا لذاتنا. عندما نرى نجاحات الحياة واللحظات الإيجابية في العمل، وأطباق الطعام، والغذاء الوفير، فإن مفهومنا عن الحياة الطبيعية يتلاشى.

على الرغم من أننا نعلم بشكل عقلاني أن حياة الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي يتم تحريرها في الاتجاه الإيجابي، إلا أن الصورة اللامعة تؤثر علينا. وصلنا إلى الاعتقاد أنه من الطبيعي أن تكون الحياة عبارة عن نجاحات الواحد تلو الآخر، فيما يشبه طبقات الكعكة. سوف نؤمن بأننا نستطيع الحصول عليه. ونحن نضغط على أنفسنا إلى أقصى الحدود عندما لا نحصل عليها - وهو ما يحدث غالباً.

لكن أليس هناك آثار إيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي أيضاً؟

 ماذا عن الاتصال والمجتمع عبر الحدود الوطنية وتبادل المعلومات وما إلى ذلك؟

نعم، بالطبع هناك جوانب إيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي. إنه لأمر رائع أن تكون قادراً على البقاء على الاتصال/ وتحديث أخبار الأشخاص الذين يعيشون بعيداً بسهولة، أو الذين لا تتواصل معهم يومياً، والذين ترغب في البقاء على اتصال معهم. ومن الرائع أيضاً أن يتم الاتصال بأشخاص جدد تماماً عبر وسائل التواصل الاجتماعي - من خلال الاهتمامات المشتركة أو ما شابه.

لكن متى يكون الأمر جيداً جداً؟ ومتى يتوقف استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ويصبح سيئاً بالنسبة لنا؟

الجواب عند طلاب الجامعات الألمانية، حيث يعتمد التأثير على كيفية استخدامك لوسائل التواصل الاجتماعي. فقبل بضع سنوات، تم التحقيق في استخدام طلاب الجامعات الألمانية لوسائل التواصل الاجتماعي. وأظهرت الدراسة - مثل الآخرين - أن ما يقرب من ثلث الطلاب شعروا بقدر أكبر من عدم الرضا عن حياتهم بعد زيارة الفيسبوك.

الأمر المثير للاهتمام هو وجود علاقة بين عدم الرضا المتصور وكيفية استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي.

كان عدم الرضا أكبر بين المستخدمين السلبيين. المستخدمون السلبيون هم أولئك الذين لا يفعلون شيئاً على فيسبوك. إنهم يقومون فقط بالمرور وتصفح الصفحات، وبالتالي يصبحون مجرد متفرجين على حياة الآخرين.

من ناحية أخرى، المستخدمون النشطون هم أولئك الذين يعجبون ويعلقون ويحصلون على محادثات حقيقية تجري على وسائل التواصل الاجتماعي. ولذلك فإنهم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بما يتماشى مع الأنشطة الاجتماعية الحية - فهم يبحثون عن الآخرين ويتواصلون معهم.

في مجموعة المستخدمين النشطين، كانت حالات عدم الرضا عن حياتهم أقل بعد زيارة الفيسبوك. مثير للاهتمام، أليس كذلك؟

ما يمكنك القيام به لوقف التآكل في احترامك لذاتك

يمكننا البدء بالنظر إلى استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي والإجابة على الأسئلة التالية:

هل نحن مستخدمين سلبيين، وبالتالي مجرد متفرجين على حياة الآخرين؟

هل نحن مستخدمين نشطين؟ هل نقوم بإنشاء اتصال حقيقي مع أشخاص آخرين؟

إذا كنت في المجموعة الأولى، فهناك سبب للقلق.

توقف عن السلبية. أوقف المقارنة مع صور الآخرين اللامعة. كن أكثر وعياً باستهلاك الوسائط الخاصة بك، واكتشف ما إذا كان بإمكانك بالفعل الانتقال إلى مجموعة المستخدمين النشطين حيث تقوم باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإنشاء اتصال حقيقي، فالاتصال الحقيقي مفيد لاحترامك لذاتك.

بالإضافة إلى ذلك، هناك شيئان يمكنك القيام بهما للحد من التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي عليك:

التخلص من إدمان التعلق، والتوقف عن متابعة كل أولئك الذين يقللون من احترامك لذاتك وصحتك العقلية العامة. ينطبق هذا على كل من Facebook وInstagram وTwitter.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

على هامش نكبة الزلزال:

"المدينة، ليست عقلا فحسب.. إنها عاطفة وفضيلة أيضا، لا هيمنة فيها، على أي شيء، حتى الذكاء" .

الأفكار المتينة الصامدة، هي التي تبني جمال المدن وحضارتها، قبل أن تنسجم آفاق التخطيط العمراني كله، وتتآلف أنساق العمارة والعيش المادي فيها. فهي بذلك تنطبق في مفهوميتها الجديدة مع ما ذهب إليه  لوكوربزيه، من أن المدينة "عبارة عن خلاصة تاريخ الحياة الحضرية مجتمعة"، قبل أن نصل إلى سيرورة تشميل المفهوم، ليصير محيطا بكل أدوات الحياة وإيقاعها، حيث النظر بقوة إلى كل ما يربط المدينة تلك ب " الناس والمواصلات وهي التجارة والاقتصاد، والفن والعمارة، والصلات والعواطف، والحكومة والسياسة، والثقافة والذوق".

وبعيدا عن الديماغوجية المنمطة، فإن استيعاب هذه الفلسفة راهنا، أضحى يشكل عائقا في تحديد أدوار تصورنا للعمارة والمدينة والحياة بداخلهما. حيث لم نتمكن بعد ، من ضبط "العيش في المدينة" و"ثقافتها" و"طرق تنظيمها" و"رصد أحوالها".

وعلى اعتبار أن أحد أهم ما يميز قراءة "المدينة الاجتماعية"، في مبنى هذا التصور التقليدي السطحي، هو ضعف تلقينا للمفهوم الطبيعي لهذا الكائن المعرفي المنسجم والمتناغم مع كينونة البشر وحاجياته، ومسؤولياته تجاهه، ومقصديات أعبائه تجاه التحولات والارتدادات، فإن استئثار الأنساق الحديثة، في ظل انبلاج عصر السرعة والأنترنيت والآثار التي تعكسه صروف الذكاء الاصطناعي واشتباكاته التقنية والمعلوماتية، أضحت تخيم على "مدينة برواداكر Broadacre City "، التي ينظر إليها رائد العمارة العضوية الأمريكي فرانك لويد رايت ، والذي يشكل كتابه العبقري "المدينة المختفية The Disappearing City" "، واحدا من أمثولات تغيير أفكارنا تجاه ما يستدعيه فهمنا "للمدينة المستقبلية" .

انشغل رايت بالعمارة العضوية، التي هي في العمق، "الشكل المعماري للمبنى، وبنائه تبعا للبيئة المحيطة". ما يفرض الالتزام بأوضاع المحيط الاجتماعي، وقياس ظرفية البناء، وتأطير جماليته، وتحديد خصائصه وفقا لطبيعة البيئة والناس والمستقبلات الأساسية للعيش.

وبينما تتفوق كل هذه الاعتبارات على دوافع إيجاد ما يحفزنا على تنظيم هذه القياسات المجالية والجغرافية والفنية، وفقا للقانون الذي يوظفه مجال التعمير والإسكان، لا نكاد نصل حتى، إلى فهم روح فلسفته، واستحضارها حسب الحاجة وتوافر الإمكانيات الرمزية والمادية. بل إننا نتيه قصديا في تحريف المأمول، وتوسيع المحذور، والإيغال في الحذف والتوظيف النشاز، والتقصير، في أحايين كثيرة، في الالتزام بأصول المعمار وضبط أركانه ومناحيه.

ما حدث في كارثة زلزال المغرب، بمدن مراكش وشيشاوة وأزيلال والحوز وتارودانت، من دمار شامل، وخسف عظيم، هَمَّ القرى النائية والمداشر الجبلية والأحياء العتيقة، هو ترجمة صريحة لهذه المصفوفات المترامية على أعقاب الميل الخاطئ إلى ما يشبه التكوين الإنشائي للمباني العشوائية التي تجعل من البلاطات الخرسانية المسلحة البارزة، ظهرا لا تستحمله القواعد الهشة للطين والقش. كما هو الشأن بالنسبة للأسطح المرفرفة على الواجهات لتظليلة وحماية للفرندات الخشبية من العوامل الطبيعية. وتنسحب هذه الوضعية المتهالكة، على جزء كبير مما يعرف بداهة، في الدرس الهندسي ب"التهيئة الحضرية" ، التي تعاني أزمة مدينة وحضارة ومعمار جمالي، ما يصعب حقيقة أشكال التدخلات ، وتمركز المدن بالساحل وبالمناطق الفلاحية والمنجمية، مما يسهم مباشرة تعميق التفاوتات المجالية داخل التراب الوطني، وظهور ظاهرة الاستقطاب الحضري من طرف المدن الكبرى، كمراكش والدار البيضاء والرباط وطنجة وغيرها. ويزيد من تفاقم المشكلة، ارتفاع الطلب على السكن وعلى التجهيزات الاجتماعية في المراكز الحضرية والشبه حضرية، وارتفاع نسبة البطالة، وتنامي ظاهرة الفقر الحضري، ونقص الخدمات الاجتماعية والثقافية والرياضية. وعلى ذلك، تبرز الأحياء الهامشية (مدن الصفيح) والأحياء العشوائية (بدونة المراكز)، وانتشار السكن العشوائي في الضواحي، وتزايد الضغط على المدن العتيقة مما تسبب في تدهورها. وهو ما حصل واقعا، ليتطور المنتوج العقاري والسكني، سابق الذكر، إلى ما يشبه القنبلة الموقوتة.

وإذا ما توقفنا مليا، في نتائج وانعكاسات تمدين المدن وإرهاقها، فلن نتوقف عند هذا الحد، حيث يمكن الحديث عن أزمة المدينة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسوسيواقتصادي، والبيئي، والتجهيز والخدمات العمومية المختلفة، وكلها أمور متداخلة، يختص بها مجال التهيئة وإعداد التراب الوطني، الذي لازال يئن تحت نزيف اللامبالاة وشح التنظير وعدم الكفاءة وآفة التسييس والإدارة.

إذا كان كل ما ذكر ذلك يحتاج، لمساحة واسعة من التحليل والتدليل والمقاربة العلمية والجمالية، فإن العودة إلى أصل المشكل، يوفر علينا متاهات التضليل والاستغفال والتمويه الفاشل، حيث تسكن الحقيقة في الشقوق، وينظر إليها كأنها عين إبرة.

والوجه المقنع لما يسميه عباقرة المدينة والجمال، ب"المدينة المغيبة أو الخفية"، هو ذاك البعد المتقاطع وأصل "الأشياء" وطبيعة تكوينها. إذ المادة تمنح "الوجود" فيها و"الاستسلام لها"، روح التناغم والاصطفاء، ككائنات الصحراء ونباتاتها وأعشابها وأحراشها.

ولهذا كان فرانك لويد رايت، واعيا بميسم "العلاقة بين الطبيعة والحياة العضوية"، وآلتي يراها تظهر لنا بوضوح في كيفية استعمال مواد البناء بكل بساطة.

نعم، استعمال مواد بناء على طبيعتها، هي "صديق مخلص مطيع"، كما يقول. ليس هذا فحسب، بل الاعتماد الكلي عليها، وعلى كيفية صقلها ونحتها ووضعها في المكان المناسب لها. يعتقد رايت أن احترام الطبيعة وموادها الطبيعية يستلزم أن لا يعتدي المهندس أو المعماري أو الفنان على طبيعتها، بأن لا يتلف الحبيبات أو التموجات الطبيعية في الخشب ولا يطمس معالمها ولا وصفاتها وعضويتها الطبيعية، التي هي من صنع الله، بالأصباغ والدهانات الصناعية، وآلتي هي من صنع الإنسان، بل يجب عليه أن يتركها لطبيعتها ليظهر جمالها وونوعها وطريقة تفريغها وتموجاتها ."

هذه آفة مدينتنا، وغير ذلك، مزيج من غفل أو إنكار أو تعمية؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

لأجل ان يحقق اي مجتمع تقدماً على صعيد حقوق الانسان، ويطرد فيه التقدم التقني لابد أن يكون مجتمعاً متماسكاً وهذا ما يحصل في المجتمعات الواحديه الثقافة، اما المجتمع الذي تتعدد مكوناته وتتنوع فانه سيواجه صعوبات في هذين المجالين (الاندماج، والتقدم) مالم يبذل جهداً استثنائياً لتحقيق هذا الشرط من شروط بناء الانسان الذي يحترم تنوعات مجتمعه وثقافاته التي تنصهر ضمن ثقافة وطنية واحدة، ومن المعلوم أن العلماء يفرقون بين المجتمع والجماعات فالجماعة مجموعة بشرية يربطها الدم أو العقيدة الواحدة، والمجتمع مجموعات بشرية متنوعة اتفقت اراداتها الحرة على صناعة ثقافة وطنية تضم كل ثقافات التعدد وقيم التنوع واعتمدت التواصل والانصهار على قيم جامعة مشتركة من أبرزها قيم قبول الآخر والحوار معه والعيش المشترك والتعاون الجاد .

وسؤال البحث: هل تحقق في العراق على مدى قرن من الزمان فكر تبنته الحركات السياسية والجمعيات والمنظمات المجتمعية يحقق هدف الاندماج ويطرح مشروعاً للنهضة والتقدم وللإجابة على هذا التساؤل يقتضي الحال مراجعة تاريخية تبدأ من النشأة أي نشأة الدولة العراقية عام 1921 لقد عاشت (ولايات العراق ضمن الامبراطورية العثمانية) وضعاً فكرياً ناتجاً عن امه منعت على نفسها الاجتهاد في مجالي القانون والعقائد فانشغلت بالانكفاء على ذاتها وطيفها الديني، العرقي والمذهبي، تبجل ذاتها، وتلتمس مثالب الآخر، وعملياً انشغلت في اصدار الحواشي والشروح على متون كتبت قبل عدة قرون، ولم ينتج عن هذه القرون متن جديد، وكان العقل قد توقف، وهذا العامل الظرفي انتج امرين الأول غياب التفكير المنظم في مشروع دمج المكونات في منظومة وطنية وغياب التفكير المنظم في اكتشاف المشروع الذي يجعل الانسان محققاً للنهضة والتقدم وقد أنشغل الوسط والجنوب في مواجهة السياسات التهميش للولاة العثمانيين على بغداد، واستصحاب النزاعات المذهبية وهذا يعطل (نظرية الاندماج)، كما يعطل (اكتساب القوة) بالعلم والمعرفة التطبيقية، ويميز الفترة من مطلع القرن العشرين الى الربع الأخير منه، الصدامات المتعددة مع السلطة العثمانية (النجف 1916) ومع الاحتلال الانكليزي (النجف 1918) وثورة العشرين، وانتشار روح المدافعة التي تعطل التفكير بالاندماج الى حد ما ثم أن الحراك المجتمعي في العراق من مطلع القرن العشرين الى سنوات قريبة كان يقوده رجال الدين، وهؤلاء مع بالغ احترامنا، وبسبب تاريخ التدوين المذهبي وسماته وخصائصه لا يفكرون في (الاندماج) أضافة الى إنهم ربما يكونون بعيدين عن (العلوم المدنية) وفلسفات ادارة التنوع * ولقد تشكل الاجتماع السياسي في العراق من قوى دينية وقوى مدنية (علمانية /ليبرالية)، وأن القوى الدينية تشكلت في البدء على شكل جماعات وجمعيات ومؤسسات خيرية بينما القوى المدنية تشكلت على نمط الاحزاب وكلا النمطين انشغلا بموضوعات ليست على صلة بالإشكاليتين محل البحث، بل أن أصحاب الاتجاه الاسلامي عتموا على مبادرة الشيخ النائيني في قيام الدولة الدستورية البرلمانية (تنبيه الامة وتنزيه الملة) ووقفت (حوزة النجف) بالضد امام أي ممارسة سياسية يقوم بها (رجل دين) مثل الشيخ الزنجاني أو الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء بل حافظت النجف على (موقف محدد) من السلطة تحت نظرية الولاية الحسبية (أي النطاق الضيق من صلاحيات تدخل المرجع الديني بالشأن العام لا سيما السياسي منه) . فالقوى الاسلامية المؤسسية مثل المرجعية العليا، أو الجمعيات الاسلامية مثل جمعية النهضة وجمعية الاستقلال، لم تطرح فكر يحقق دمج المكونات ضمن رؤية وطنية بعد انسلاخ العراق عن الدولة العثمانية واستقلاله عن بريطانيا كما انها لم تكتشف مشروعاً النهضة .على أن نشوء الاحزاب الاسلامية (التحرير، الشباب المسلم) لم تكن مرتبطة بالمرجعية فكانت محل ريبة وعدم تعاون مع المؤسسة المرجعية بينما كانت الدعوة جزءاً من أرادة المرجعية النجف وكانت حركة العمل من (مرجعية شيعية /كربلاء) الشيرازي وهنا: أشير الى الاهتمام الرئيس لهذه الاحزاب بالشأن الحزبي الخاص أكثر منه بالشأن الوطني أو استشراق المشكلات على صعيد المستقبل.أما بالنسبة للأحزاب (المدنية) فالحال فيها أنها أكثر اغفالاً للاندماج ومشروع التقدم فالحزب الوطني الديمقراطي كما يقول مفيد الزبيدي أنه كان منشغل بالاتساق مع التيارات القومية، بما في ذلك من تداعيات مذهبية

والحزب الشيوعي أممي النزعة الا انه وقع في الموالاة العميقة للاتحاد السوفيتي ولم يكن على قدر عال من الاهتمام بالشأن الوطني، بل ان الاحزاب التي شكلت جبهة الاتحاد الوطني (1965) كانت تهدف للوصول الى السلطة، وعلى مستوى وعي القادة السياسيين الكرد فأنهم انشغلوا تماماً بالمطالبة بتوحيد الكرد، والمطالبة بتقرير المصير (دولة كردية) والاحزاب الكردية وأن كان بعضها يساري الفكر الا انه اولاً واخراً دعوه قومية، على الضد تماماً من الانصهار الوطني، الى جانب أنها لم تفكر بمشروع للنهضة وعلى العموم فأن المنافسة والصراع احياناً بين قوى اليسار العراقي والقوى القومية لا سيما بعد 1958 كان صراعاً على متبنيات لا تمت بصلة الى برنامج وطني للاندماج والتقدم بل على حزبية (أيديولوجية/وقومية) .

المعوقات النظرية للاندماج الوطني عند الاسلاميين:

من يطلع على ادبيات الكتل الاسلامية بنوعيها الشيعي والسني يجد أن من اساسيات الايمان الديني تفضيل المسلم على غير المسلم في مقام الاثبات القضائي والميراث والجزاءات الجنائية وغيرها، ولا سبيل لدى الاسلاميين الى تعديل هذه الأسس، ولعله تأويلها لصالح الاندماج أمر في غاية الصعوبة وازاء المرأة فأن الفقه الاسلامي يفاضل بينها وبين الرجل مفاضلة بينه ايضاً في الاثبات القضائي والجنايات والاحوال الشخصية والميراث  .

فاذا اضفنا الى ذلك التمييز المذهبي (التاريخي) عند فقهاء المذاهب ودعوى المتعصبين منهم بأن لا يزوج أحد من مذهب ما، آخر من مذهب ثانٍ ولا تقبل شهادته ولا يوثق به، ويعامل بوسائل الاقصاء والتهميش القبح فأن تلك كلها معوقات انتقلت الى ذهنية اتباع الحركات الاسلامية، واستقرت في اللاوعي والوجدان الديني، بل الانكى والاشد الصاق (مفتريات) من كل الجهات على خصومهم المذهبيين، فما كنا نعرفه مثلاً عن الايزيديين شيء لا نظير له من القبح، وهكذا عن اليهود، وكل ذلك كان حاضراً في وعي الممارسة الاجتماعية .

أن تنامي الشعور المذهبي، وتمكنه حتى من القادة والمنظرين قد صار تراثاً تتلقاه الاجيال عن بعضها، وتمارسه الناس كانه أحدى حقائق الوجود .ومن الجدير ذكره أن عدداً من المؤسسات الدينية والاحزاب من الطرفين ينادي بالتقريب بين المذاهب علناً كشعارات، لكن السلوك يختلف عن ذلك فهو في اللاوعي وكأثر من آثار تراث الكراهية مستقر في الوجدان الديني، وادل دليل على ذلك، أن هذا التقارب والتقريب لم يحصل بل أن مجرد طرح التقارب اعتراف بالتفاصل، وطالما انتبهنا الى أشكالية بقاء المكونات العراقية في وضعها (قبل الاندماج) وضع الجماعة المنفصلة في وعيها وشعورها، وكيفية احتساب مصالحها ورسم اهدافها، وعرفنا قصور الفكر والثقافة اللتين لم تكتشف اهمية هذا الجانب سواء على مستوى الفكر المؤسسي أو في برامج الاحزاب، ثم اكتشفنا أن بقاء المكونات العراقية (منفصلة عن نظيراتها) مدعاه للتراجع في المستويات المدنية ومستوى التقدم، والتعاون بين أبناء الوطن الواحد فماذا يجب على المؤسسات الثقافية، ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بالشأن الوطني وثقافة المواطنة أدراكاً منا أن العقل النظري يحتاج الى مادة معرفية تشكل معايير قيمية ترسم مواقفه ازاء الاشياء والافكار والاشخاص، وتجلي من التراث عناصره الاحيائية والحية وتمنع عناصره الميتة أو المميتة من أن تكون هي الفاعلة وهذه المهمة ربما تحتاج الخطوات الآتية:

1- اعتماد مثلث البرهنة في الدراسات التراثية والدينية وهي (النزعة النقدية، والعرض والتحليل البرهاني ونزعة المقارنة) وبذلك تنفتح الآفاق تماماً على طلاب المعرفة، والمتطلعين لثقافة امتلاك الحقائق وتغلق الطريق على (مسلك تبجيل الذات واسقاط الآخر زوراً وافتراء).

2-  محاولة تقريب وتشويق الاطلاع على ثقافة المكونات الاخرى كمعرفة العرب تاريخ الكرد أو التركمان وتطلعاتهم وحاجاتهم واحوالهم وسبل تطوير مجتمعاتهم وكذلك اطلاعهم على حال العراق.

3- محاولة أن يمتلك العراقي عده لغات فالعربي أذا عرف اللغة الكردية والتركمانية صار التفاهم بالنسبة اليه أيسر وكذلك الكرد والتركمان .

4- الاطلاع على آداب المكونات العراقية ودراستها ونقدها، ومتابعة تطورها الفني والموضوعي.

5- الدعوة لتشجيع التزاوج بين ابناء المكونات الاخرى ودعم هذا البرنامج لما له من آثار ممتازة في تخفيف (التفاصل والانعزال) .

6- اعطاء سلف ودعم مالي على شكل الاقراض ودعم مالي على شكل الاقراض للشركات التي يتولاها (ابناء المكونات) والتي تجسد حالة الانسجام، وأن تشتغل في كافة انحاء العراق .

7- أن يتخلى النواب والوزراء عن التصريح بانهم يخدمون جمهورهم الانتخابي، ويقيّم كل واحد بما يبذله لمكونه وللمكونات الاخرى ولا بأس أن يتبرع النواب لمشروعات في غير جغرافيتهم الانتخابية.

8- حث السينما والمسرح، وكتاب القصة والروات أن يتناولوا موضوع الاندماج والتقدم كأهداف وطنية مهمة وعاجلة .

9- عقد عدة ندوات اجرائية وورش عمل وحلقات نقاشية واكتشاف السبل والوسائل لهذه الاشكالية

10- دعوة اتحاد الادباء، ونقابة الصحفيين، للمساهمة في انتاج نصوص أدبية وصحافية ممتازة تسهم في خلق ثقافة الاندماج الوطني .

11- وضع مادة الزامية في الجامعات لمعرفة تاريخ (الوطن) وتطلعاته والتعاطف معهمودوره المجتع الوطني

12- تشريع قوانين تجرم الدعوة الى (فكر قومي أو عرقي أو مذهبي متعصب أو ديني أو لغوي)، وتعاقب عليه وتمنع وسائل الاعلام من عرض ما يشجع التفاصل الوطني .

 ***

أ. متمرس. د. عبد الامير كاظم زاهد

لا يسع الإنسان ذي العقل البشري الطبيعي الفطري، الذي يتقاسمه ويشترك فيه جميع البشر؛ والدال على أن غيره من "العقول" المدعاة على فرض ثبوتها، إلا ان يجد نفسه، وهو يقرأ لطه عبد الرحمن، في مقام النقد والانتقاد حتما. لأن الرجل دخل وأقحم نفسه وقلمه في أكثر الحقول مدعاة للنقد والاعتراض والنقض أحيانا؛ وهو حقل الأيديولوجيا "التديينية"، والتي قلما يدخلها المرء وينجو من مصائدها؛ فما بالك بمن يدخلها مدعيا ومدافعا ومتحيزا، ومهاجما وحاكما كما هو شأن الأستاذ طه.

فقد دخلها طه منذ البداية من منطلق المنحاز والمدافع، الذي حسم نتائجه وخلاصاته، ولم يدخلها من موقع العالم الذي يبحث عن الحقيقة، ولا من موقع الفيلسوف المنتقد الذي يؤسس لفلسفة دين، ولا من موقع حتى العارف الذي يبني مذهبا جديدا في المعنى أو المعنويات، بما لا يتعدى بها الحدود الممكنة لها بم هي كذلك.

حسنا فعل طه عبد الرحمن عندما صرح، بما لا يقبل المزايدات، عن طبيعة عمله والخلفية المتحكمة فيه؛ فقد صرح في كتاب: "العمل الديني وتجديد العقل" أن مجال أعماله هو "الفكر الديني" (ص، 11)، وصرح في كتاب: "روح الدين" عن الخلفية التي يصدر عنها فيما يكتب وما يقرأ لغيره. يقول: "ترانا في هذا الكتاب الذي بين يديك لا نزعم ولا نفتعل الانسلاخ من معتقداتنا، ولا من مختاراتنا في تناول الصلة بين التعبد والتدبير، أو بالتعبير المألوف، العلاقة بين الدين والسياسة (...) بل لم نتردد في الكشف عن مسلماتنا الخاصة من أول سطر سطرناه". (ص، 16)

ونخصص هذه المقالة للبعد الأيديولوجي لهذه الخلفية التي اختص هذا الكتاب بالإفصاح عنها أكثر من غيره من كتبه.

اعتمد طه في مقاربة قضية "علاقة الدين والسياسة"، التي خصص لها الكتاب المذكور، مقاربة اعترف هو نفسه بأنها: "ليست تاريخية ولا سياسية ولا اجتماعية ولا قانونية، ولا فقهية ولا فكرانية؛ وإنما قصدنا أن تكون مقاربة روحية، أو قل مقاربة ذكرية غير نسانية، أو عمودية غير أفقية". (ص، 17) وحاول تأسيس "نظرية" بناها على مفهوم مركزي يسميه "بالتسيد" أو "السيادة" بمعنى "السلطة" والتسلط، التي يرى أن الحداثة السياسية "اختلستها" من مجالها الأصلي؛ وهو الدين، إذ هي "صفة" خاصة بالله، فنسبتها للسياسة وللدولة وللشعب.

ولهذا حدد مهمة ما يعتقد أنه بديل لما أخذت به الحداثة، وهو "العلمانية"، أي الفصل بين السياسة والدين، ولما يقول به الإسلام السياسي وهو الوصل، في رفع "التسيد" في عالم الانسان والرجوع به إلى صاحبه. يقول يقتضي التعبد المودع في الفطرة منذ لحظة الخلق: "الكف عن نسبة السيادة إلى الذات، والاقرار بنسبتها لله وتخصيصه بها". (ص271) وحدد مهمته في الكتاب في العمل على دفع: "هذه السيادة المنتحلة" والخروج منها: "بواسطة عمل أصله غيبي ثابت يكون منشؤه الروح، بحيث يحول الإنسان من داخله وبجمعيته، وما ذاك إلا عمل التزكية". (صن 25)

يقول إن تصوره للعلاقة يقوم على وجود: "وحدة أصلية" بين التعبد والتدبير سابقة على الفصل العلماني والوصل الدياني". (ص، 19) تصور: "لا فصل فيه ولا وصل". (ص، 322) وسنرى لاحقا أن هذا التصور انتهى إلى نقيض المدعى وهو تكريس تسيد السلطة الموروثة عن السلفية.

فالأصل في "التدبير" الذي سمي "سياسة" هو ذلك "الاختلاس" للسيادة/ التسيد الذي يمثل أساس "التدبير" الأصيل الذي يسميه "بالتدبير التعبدي" أو الروحي؛ وهو تدبير يرجع إلى إقرار "الروح" في عالم الغيب لله بالألوهية والوحدانية، والعهد بالتعبد له وحده (السيادة). ومنذ "حدث" الاختلاس المدعى نتج في الحياة البشرية الحديثة نوعان من "التدبير"؛ سمى الأول "بالتدبير السياسي"، والثاني "بالتدبير التعبدي".

حدد طه لكل من التدبيرين منشأ خاصا؛ فمنشأ الأول هو "لنفس"، وبشكل محدد فيما تنسبه إلى نفسها. فيكون منشأ "التدبير السياسي" إذن هو "النسبة"، أي نسبة الأشياء وملكيتها إلى النفس. ومنشأ "التدبير التعبدي" هو "الروح" وفاء منها بالإقرار والعهد الذي تعهدت به من إفراد الله بالتسيد والسيادة؛ ولهذا فهي، عكس النفس، بعيدة عن خلق "النسبة" و"التملك" فهو ليس من طبيعتها ولا ينبغي لها. إذ تقر بمالك وصاحب نسبة واحد ووحيد وهو الله.

ومن اختلاف المنشأين، نشأ التناقض والصراع والتنازع الذي امتد ويمتد إلى الحياة العامة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد (..)، فمنشؤه هو الصراع بين "الروح" و"النفس" داخل الفرد، الذي يتعين، والحالة هذه، أن يكون هو منطلق اصلاح مشكل "التسيد" المغتصب والمختلس. وهو ما لا تستطيع جميع المشاريع الفكرية والفلسفية معالجته، كما سنرى لاحقا، إلا التصوف الطرقي، أو بعبارته: "العمل التزكوي"، الذي يركز على تخليص "الروح" من سجن النفس والجسد وأغطيتهما، لتعود كما كانت في عالم الغيب قبل أن تتلبس بالبدن والنفس. يقول: "لقد وجد الإنسان في عالم الغيب روحا مجردة قبل أن يوجد في عالم الشهادة روحا مجسدة". ويقول: "لكن لما جاء أجل ظهورها في عالم الشهادة، واخرجها البارئ تعالى إلى الوجود ملتبسة ببدنها الذي يظهرها ويميزها، كادت أن تنسى الميثاق الغيبي الذي أخذه منها، كما لو أن تلبسها بالبدن يحجب عنها ذاكرتها، وما أن شرع صاحبها يلبي لازم حاجات بدنه، مقيما بنيته، حتى استدرج إلى قضاء زائد شهواته، خاضعا لراسخ عوائد مجتمعه". فتكالبت عليه الشهوات والعادات فأنسته "الميثاق"؛ بل محت آثار فطرته: "منشئة له بديلا منها ألا وهو نفسه"، فبعد أن كانت: “تنسب كل شيء إلى بارئها، صارت تغطيها نفس ناسبة تنسب كل شيء إلى ذاتها. لذلك هم العمل التزكوي الأول أن يعيد إلى الفرد ذاكرته الأصلية". (ص، 277)

لا شك أن القارئ يدرك بفطنته موقف طه تجاه النفس والجسد من النص، والذي يفصح عنه في مواضع أخرى فشهوة الجنس هي حط لأشواق الروح (ص، 262)، والنفس تتربص بالإنسان وتمكر به: "علما أن مكرها لا ينجلي وتلوناتها لا تنتهي"، وأنها "تلوت الروح بأهوائها، فضلا عن أدواء المحيط". (ص، 278)

يقيم طه "نظريته" على رؤية ثنائية الكون والوجود، والإنسان والحياة؛ فالكون أو العالم عالمان، مرئي وغير مرئي، أو محسوس وغيبي، والإنسان روح ونفس/ جسد، والحياة دنيا وآخرة. وبنى على هذه الثنائية أو الازدواج نتائج منها: أن الإنسان عمل على اقتباس معاني العالم اللامرئي ونسبها إلى العالم المرئي وأولها "التسيد" أو السيادة، التي ترجع في أصلها الغيبي إلى معنى "الجلالة"، فآل ذلك في رأيه إلى التسلط وتأليه الإنسان: "متعبدا لنفسه فضلا عن تعبيده لغيره". (ص، 31-32)

ومنها أن الإنسان يعيش في العالمين في آن واحد؛ إذ يمكن أن يعيش بروحه في عوالم الغيب المتعددة ويسميه "تواجدا"، كما يعيش بروحه وبدنه في العالم المادي والمرئي ويسميه "انوجادا"، فالإنسان كما يقول: "بمقدوره أن يحيا كلا الحياتين في ذات الوقت (...) منوجدا في العالم المرئي، ومتواجدا في العالم غير المرئي (...) يقيم في الأول بجسمه مزدوجا بروحه" و "يعرج إلى الثاني بروحه وحدها". (ص، 63)

ومنها أن "المنوجد" الذي يأخذ ب "التدبير السياسي"، نظرا لارتباطه التكويني بالغيب، يجد نفسه، بوعي أو بغير وعي، يمارس ما يسميه "التغييب" (ص، 46)؛ إذ يقتبس معاني عالم الغيب فيضفيها على أفعاله "السياسية"، وأحيانا على شخصه وذاته نفسها، فالسياسي، يقول طه، يستمد: "حبه للتسيد من نفسه التي تكونت في عالم الشهادة" ناقلا "معاني التعبد من مجالها الروحي إلى مجاله النفسي (...) مقيما نفسه مقام الذي يتعبد له". (ص، 94)

أخذته هذه الرؤية إلى التعقيب على أغلب المشارع الفكرية الحديثة، التي علمت على معالجة مشكلة السلطة/ التسلط، وهي جميعها تؤسس على فصل الدين عن السياسة، والتعقيب أيضا على جميع تيارات الإسلام السياسي المعاصرة التي تقول بالوصل بين الدين والسياسة. فبدا طه في هذا المقام كأنه يؤسس لرأي "جديد" في الموضوع، لكنه، وكما سيتضح، سيعيد انتاج ذات "السلطة" السلفية المسماة "بالخلافة".

مهد نقده مؤكدا أن العمل السياسي يتداخل فيه البرهان بالوجدان والسلطة؛ بمعنى أنه ذو طبيعة مزدوجة (ص، 133) والوجدانية (النفسية)، والسلطوية (القوة والنزاع) أرسخ فيه من البرهانية، ليصل إلى النتيجة التي يريد وهي فشل تلك المشاريع في معالجة المشكل في الحياة البشرية. ترجع أصول النزاع السياسي إلى ثلاثة وهي: التعادي والتخاصم والتناقش.

يقول بالأول الألماني كارل سميت؛ إذ يرى أن فعل السياسة يقوم على التقابل بين الصديق والعدو، وهو تقابل لا تحله قواعد مقررة سلفا، ولا ينفع معه تحكيم طرف ثالث نزيه. ووجد طه في هذا التقابل بغيته فهو يؤكد أن: "التغييب السياسي يتأسس على المقابلة بين الرب والعبد". (ص، 142) بينما ترى المنظرة البلجيكية شانتال موف أن الصراع السياسي يتأسس على التخاصم، وليس على التعادي. فكل واحد من الناس هو خصم مشروع يتعذر التوفيق بين مطالبهما، يشارك خصمه في العمل بمبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية. وما دام أن التخاصم خلاف لا يزول، فلا مفر من التسليم بالفروق والتعايش في ظل التنازع. (ص، 144-145)

وثمن رأي موف عندما حددت أصل النزاع في الطبيعة المزدوجة للاجتماع الإنساني، وانتباهها إلى العامل الوجداني المتمثل في الأهواء التي يتعين ترويضها وتوجيهها لكي تخدم المؤسسات. وانتقد رأيها بأنها لم تنتبه إلى أن: "الازدواج يتعلق بالتكوين النفسي للفرد، وليس بالتكوين البنيوي للمجتمع".(ص، 146) وأيضا في وضع الحدود بين القيم التي تقبل التنازع والتي لا تقبله، هل توضع بصورة تقريرية (الهوى)، أو تدليلية (القعل) أو تقليدية (الخبر)؟، حيث أخذت بالأولى التي تتيح اختيار قيم على أخرى وتفضيلها، ويرى أن وراء هذا التفضيل تدليل أو خبر، الذي يحكم الحداثيون ببطلانه (ص، 149) ويرى ان الخبر فيه حق "تقارنه شهادة لا توجد في الدليل"، و فيه خبر باطل مثله مثل الدليل الفاسد، وانتهى إلى أن القيم، وهي من باب الواجب، ليست وقائع فيكون مصدرها "الخبر" وليس الوجود: "فيكون الأصل في وضع هذه الحدود هو العمل بالخبر الصحيح". (ص، 150-151) فوضع الحدود لإدارة الصراع إما أنها مقتبسة من الدين، او بالقياس على حدوده(ص،151)

وعقب على المناقشة التي يقول بها يورغن هابرماس، الذي أسس نظريته في الديمقراطية التحاورية على "أخلاقيات الخطاب" أو ما سماه "العقل التواصلي"، تجاوزا منه لقعل الذات المفكرة عند ديكارت، وعقل الذات الباطنة لدى كانط، وتجاوزا أيضا للعقل التوسلي أو الأداتي، حيث استبدلها بذوات "متواصلة بواسطة اللغة"، واستبدال النجاح لدى الأداتي "بالتفاهم الذي يدعو إليه اختلاف أشكال الحياة لدى المواطنين". (ص، 153-154)

ونبه في بداية تعقيبه على رأي هابرماس، إلى أن "التعالق" الذي هو أصل العمل السياسي تعبر عنه في العربية صيغ المفاعلة مثل: التواصل، والتعاقل، والتوافق، والتذاوت(...) ويرى أنه هو أصل كذلك في تكوين الذوات، فالفرد لا يتعرف على تفرده إلا بواسطة "التعارف" وبالتواصل تتحدد هويته. وبالتالي فالعقل "ليس محله الذات المنفردة، وإنما محله في الحقيقة، هو علاقات التواصل بين الذوات المختلفة".

عقب بأن التعالق نفسي لا روحي قائم على التنافس على النسبة، هدفه "ليس تحصيل التفاهم عن طريق الخطاب، وإنما تحصيل التقاسم عن طريق الحساب". (ص، 159) وبالتالي فالتعالق السياسي تناسب لا تعاقل، فجعل "النسبة" محل "العقل" عند هابرماس لأنهما يفيدان معا معنى "الربط" ف: "النسبة ربط الأشياء بالذات، والعقل ربط الأشياء بعضها ببعض". (ص، 159) وبنى عليه أن تواصل النسبة تواصل سلطة وتواصل وجداني، لأن السلطة والوجدان أكثر تغلغلا في الفعل السياسي من العقل كما سبق أن قرر. (ص، 160)

وما دام أن النسبة "لا تسعى (...) إلى التفاهم المؤدي إلى الاجماع، وإنما إلى التقاسم المؤدي إلى الاشباع". (ص،161) وأن النفس لا تفتر من نسبة كل شيء لها فلا مفر من العمل على مجاهدة هذه النفس، وخلص إلى أن البرهان مهما تقيد "بأمثل الشروط الخطابية، فلا يستطيع أن ينزع ميل الأنا إلى تفضيل نفسها بالمنسوب" والذي يستطيع "نزع هذا الميل هو التحويل الوجداني لبنيتها". (ص، 162)

ويخلص إلى أن الشهادة" أفضل من الاستدلال الذي يقيم عليه هابرماس التواصل؛ إذ يشهد المتكلم بما علم وأن عليه واجب الصدق فيه، وأنها أوثق صلة بالمناقشة (...): "فإذا أشرب قلب المناقش بهذه القيم: احترام الغير بل واجب تقديمه على احترام الذات (..) لا محالة اتجه إلى قطع الأسباب التي تولد الطغيان في مؤسسات النظام الديمقراطي" مدعيا أن معنى الحرية ليس احترام القانون، ولا الحرية السياسية: "وإنما هي في تحقق الإنسان بأنه محدود بالطبع". (ص، 1710-171)

ولا يبدو أن الشهادة الطهوية تختلف عن الأساس "النفسي"، فقد يشهد الإنسان ظاهرا، وهو على يقين بأن الواقع خلاف ما يشهد به، فلا يعول عليها في المجال السياسي، والدليل على مثاليتها أو لنقل فردانيتها قوله: "والحق أنه لا يرقى إلى هذه الرتبة إلا من قطع أشواطا في رياضة نفسه على التجرد من أغراضه والإخلاص في نقاشه والالتحام بدعواه، ولا يبالي بالظهور على الخصم بقدر ما يبالي بظهور الحق". (ص، 172)

وكما ظهر أنه يمهد لشرعنة التصوف الطرقي بديلا، وقف عند مفهومين تتأسس عليهما الديمقراطية التواصلية؛ أولهما "إرادة الشعب"، والثاني "قاعدة الأغلبية"، مدعيا أن الديمقراطية ترفع الأول إلى "مقام إرادة الله"، والثاني “إلى مقام الحكم الإلهي"، لماذا؟ لأن الأول يفيد أن الشعب هو من "يضع قانونه بنفسه"، ولأن الثاني يورث المشروعية، مما يجعل الإنسان في غنى عن الآخر في التشريع لنفسه واكتساب المشروعية لعمله السياسي. (ص،176-177)

يرى طه أن الفاعل السياسي مهما تفانى في خدمة الصالح العام، لا يتخلص من الباعث على التسيد على الناس، وأن "التدبير الديني" هو وحده ما يستطيع ذلك. ولا تمكن من التخلص منه أرقى أشكال القول المعروفة كالحوار الديمقراطي، والحوار الذي يسود "مجال التحليل النفسي". يذهب إلى أن النظام الديمقراطي، رغم المبادئ التي يأخذ بها للحد من التسلط (فصل السلطات، الانتخابات، تعدد الأحزاب، حق الاعتراض)، فإنه لا يرقى بالحوار إلى مستوى النقاش حول بواعث السلطة لدى الفاعل السياسي، المتجذرة في النفس البشرية. (ص، 254-255)

ويرجع ذلك في نظره إلى فصل السياسة عن الأخلاق (ميكياقيلي)، وفصل العام عن الخاص، أي فصل الاجتماع والسياسة والاقتصاد عن الفرد والأخلاق والعقائد. وخلص إلى أن الآليات الموضوعة لمراقبة السلطة لا تجدي ما لم: "تعالج الأسباب الخفية التي تضرب بجذورها في النفس البشرية". (ص،256)

ولا يختلف وضع التحليل النفسي، فرغم منجزاته في مجال اكتشاف البنية النفسية، وخاصة في مجال اللاشعور، حيث ركز: "على علاقة التسيد في صورها الأولى" فيقابل الإنسان كل طور حياتي بصورة التسيد التي يواجهها (سلطة الأم، سلطة الأب) أي أنه بحث عن أسباب التسيد عامة في خفايا النفس وليس في المظاهر الخارجية. (ص،258) فإنه يرجعها إلى "كبت الدوافع"، بينما يرى طه أنها ترجع إلى "نسبة الأشياء" إلى الذات.

ووجد في تعقيب المحلل النفسي الفرنسي، على فرويد بأن النفس "في غاية التعقيد والخفاء"، وأن مفاهيم التحليل لا تكشف عن حقيقتها، ما يؤيد رأيه فاستخلص منه أن كورنيلوس: "استشعر وجود حياة باطنية أخرى متميزة عن تلك التي اصطلح عليها باسم "الحياة النفسية"" هي "التي أطلقنا عليها اسم "الروح"، وقابلنا بينها وبين النفس، وجعلنا قوامها الفطرة" عملا بأن الإنسان "مزدوج البنية" الداخلية، وليس متوحدها كما يرى التحليل النفسي. (ص، 260) ولا يتأتى الخروج من التسيد إلا بالخروج من النفس: "إلى حقيقة وجودية تعلو عليها وتسد مسدها في تحديد ماهية الإنسان" وهي الروح، وذلك عن طريق "فعل "مشخص"، ويقصد به التصوف الطرقي، الذي هو عمل يتعدى حصر علاقة الإنسان بالعالم المرئي إلى العالم الغيبي. (ص، 264)

تسليم طه عبد الرحمن بإمكانية اتصال الإنسان بالغيب بآلة الابصار الروحية التي يسميها "الاستبصار"، أوقعه في تفضيل الروح ومعارفها الغيبية، على آليات البصر (الرؤية) والعقل (الاستدلال) ومعارفهما، ورغم اقراره أنها تتبادل التأثير: "إلا أن تأثير الأعلى عبارة عن تزكية، وتأثير الأدنى عبارة عن تدسية"، و "التدسية" تعني اصطلاحا الإفساد في مقابل التزكية التي تتعني الإصلاح. (ص،282-277 على التوالي)

ويمهد بذلك لتمرير قضايا معرفية، يصنفها الفكر العرفاني القديم ضمن "معارف خاصة الخاصة" التي قد تخالف العقول البشرية الطبيعية؛ وقرر في هذا السياق أن "الشهود الروحي" بالنسبة للنظر العقلي، مثل "النظر العقلي بالنسبة للنظر الحسي، فقد يرى المرء بعقله ما لا يراه بصره، فيحكم بما قد يخالف ما يبصره؛ ولا يدعو ذلك إلى الاستغراب من حكمه أو الشك فيه، ولا بالأولى القدح في عقله (...) فكذلك إذا رأى المرء بروحه ما لا يراه عقله وأخبر بما قد يخالف ما يعقل، فلا ينبغي أن يكون ذلك إلى استهجان خبره أو الارتياب فيه ولا، بالأحرى الطعن في روحه، بل قد يدل على صدق خبره وقوة روحه". (ص، 282)

ما ينبغي الانتباه إليه هنا؛ هو أن المعرفة الصوفية في نظره تحمل "خبرا"، أي "وحيا"، لهذا صنفها العرفاء ضمن المعارف "الخاصة"، بينما يعمل طه على تعميمها، رغم اقراره بأنها محصلة بغير الطرق المشتركة وهي الحس والعقل. ثم كيف يصح وجود خلاف بين معرفة الروح ومعرفة العقل؟ أليس العقل أيضا فطري في الإنسان؟ لماذا لا يكون تفاعل قوى المعرفة الثلاث إيجابيا، أي في الاتجاهين معا، وليس في اتجاه واحد كما يدعي طه؟ وهو الذي تؤثر فيه الروح في العقل، والعقل في الحس، بينما يكون تأثير الاتجاه الآخر "إفسادا" كيف يكون "الاخبار بما قد يخالف ما يعقل" اصلاحا للعقل؟ أليس هو إلغاء للعقل؟ وفرض ما لا يعقله عليه؟ وليس هذا بغريب إذ يقر طه أن "حال الشهود": "تفارق العقل الشائع" لأن: "المتزكي أصبح يجمع بين النقيضين؛ إذ فعله غير فعله ووصفه غير وصفه، بل ذاته غير ذاته، بل صار هو غير هو". ويصل إلى أن بلوغ التناقض هو ثمرة عمل يجدد العقل، والعقل الذي يحكم به ليس: "إلا أدنى رتب العقل". (ص، 288)

ويعكس توجه طه إلى "تعميم" ما طبيعته التفريد، أيديولوجية أعماله، من شواهدها ما يسميه "المقاومة الوجدانية"، التي ليست مقاومة قوة(سلطة)، ولا مقاومة برهان(قول) لأن مسعاهما "التسيد على الخلق"، بينما هدف الأولى "التعبد"، ولهذا تختلف عن كل أشكال التغيير والاستيلاء على السلطة بالقوة (الثورة، والتمرد، والانقلاب)، فغايتها محاربة ظلم النفس المتجلي في: "تحدي حدود الله". (ص، 290-291)

تتخذ المقاومة الصوفية لدى طه صورة "الازعاج"، ويختلف عن الارباك؛ إذ "لا يثير اضطرابا مؤذيا، ولا يعكر أمنا حقا". هدفه رد المزعج إلى التعبد. (ص، 296-298) لا يستعمل العمل الازعاجي العنف المادي، ولا العنف القولي (الانتخاب)، فهو "يتبرأ من كلا العنفين"، ويستعمل طرقا مختلفة منها: الحال الوجداني، والسلوك الخلقي، والتذكير الحكمي. (ص، 299)

ذلك لأن الازعاج "لا يهمه الحكام ولا الدولة بقدر ما يهمه المحكومون أو المجتمع" (ص، 302) ولهذا فإن الزوايا، التي يدعو الدولة إلى أن تفسح لها المجال، لا تشكل خطرا على الدولة لأنها "لا تنشغل بأسباب التمكن والتسيد على الخلق، وإنما بأسباب التخلق والتعبد للحق (...) فلا يلحقها من هذه الفضاءات المستقلة إلا مزيد القوة". (ص، 306) والزوايا بالنسبة للدولة: "بمنزلة الرئة التي تزودها بنقي الهواء الذي يجدد دورتها التدبيرية". (ص، 311)

وأخذه التحليل الازعاجي إلى افراغ "الجهاد" المقدس من العنف المشبع به فقال إن ما يكابده المجاهد المضحي بحياته: "مرة واحدة يكابده الزاعج عدد مشهوداته؛ فإذا كان الأول لا يغيب عن العالم المرئي الا بسفك دمه، فإن الثاني يغيب عنه كل مرة يشهد فيها الحق بروحه". (ص، 313-314) ويلخص دور الزاوية في اعداد المجتمع: "حتى يستطيع أن يمد الدولة بالطاقات التي تجدد تدبيرها". (ص، 314)

فرضت الأيديولوجيا على طه عبد الرحمن نقد الإسلام السياسي، الذي صرح في بداية أعماله أنه اشتغل عليها لتكون سندا فكريا له، ويكشف نقده هذا التباسا لا يتسع المقام لابرازه، خاصة أنه يدخل في هذا النقد "تسييس الدين" الدي تمارسه الدولة نفسها، التي يوظف التصوف الطرقي لخدمتها وتقويتها.

ويبدو من الزاوية المنطقية، أن قوله بأسبقية "التدبير التعبدي"، على القول بالفصل الذي تأخذ به العلمانية، والوصل الذي يقول به الإسلام السياسي، يجعل نقده منسجما مع تلك المقدمة؛ إلا أن ما سبق (تقديم السند الفكري، خدمة الدولة وتقويتها، التسيد على المجتمع) يعترض هذا الاستنتاج، مما يبيح استخلاص أن غاية النقد، ربما هي محاولة افراغ العمل الأصولي من ايديولوجته السياسية في صورتيها: "تسييس الدين" الذي تمارسه الدولة، و"تديين السياسة" الذي تقوم به الحركات الأصولية. في اتجاه أن تفوض الدولة للزاوية "التدبير الروحي" للمجتمع، وتحويل العمل الحركي الأصولي إلى زوايا تتنافس ذلك التدبير.

صنف طه تيارات الإسلام السياسي تحت اسم "الديانيون"، لأنهم يتفقون جميعا في القول بوصل الدين بالسياسة، مع اختلافهم في التشخيص؛ فالدولة تشخص "الوصل" في "التسييس"؛ إذ تجعل الدين جزءا من سياستها للمجتمع. وتشخصه الأحزاب الأصولية في "التديين"؛ إذ تجعل السياسة جزءا من الدين، مع اختلافها حول الكيفية التي تصبح فيها السياسة جزءا من الدين. فبعضها أخذ آليات التدبير من العلمانية، لغيابها في "الدين" (اتفق معها في السبب وانتقدها في النتيجة). فرغم اعترافه بما تبرر به اقتباس الآليات؛ إذ لم يسطر الإسلام: "نظام تدبير بعينه، وجاء به أمرا جمليا غير مفصل" (ص،343) انتقدها بأنها تثير الشبهات في وجه الإسلام، باقتباسها الآليات التدبيرية العلمانية مخالفين: "إرادة تدبير أمور المعاش بما يخدم المصالح الأخروية على طريقة المتقدمين". (ص، 337)

وبعضها؛ وهم القائلون "بالحاكمية"، ينسبون التسيد لله بقولهم ذاك، لكنهم في الممارسة والتطبيق يقعون في "الانتحال"؛ انتحال التسيد أو التدبير الإلهي؛ إذ يمارسون بأنفسهم "التسيد" على الناس باسم الإله (ص، 373) (يتفق معهم في الشعار ويختلف معهم في الممارسة والتطبيق) يقول عن الصوفي هو: "التحكيمي الذي انتقل من رتبة الذي أخبر بالأوامر (...) إلى رتبة الذي أشهد حقائق من وراءها وأشهد عليها". (ص، 383-384)، و يقول: "لا يقول بالحاكمية لله إلا من يشاهد الحق في الخلق" مشاهدة لا تتأتى إلا "للتمزكي" ، وليس لأهل العقل المجرد ولا لأهل العقل المسدد. (ص، 396)

. وآخرهم؛ وهم القائلون "بولاية الفقيه" من الشيعة، ويسميهم "أهل التفقيه"، لأنهم أخذوا بالمعنى الاصطلاحي "للفقه"، وهو معنى متأخر ومختلف عما كانت تعنيه الكلمة قبل ذلك (اتفق معهم في شكل المفهوم واختلف معهم في المضمون والمحتوى). فبدل ذلك قال "بفقه القلب" و "فقيه القلب"، وقرر أن: "الفقيه الصناعي لا يستحق أن يكون نائبا حقيقيا عن الواحد من أئمة آل البيت الأطهار حتى ولو روى حديثهم وسننهم وعرف أحكامهم"، و: لأن "النيابة عن الإمام المهدي تقتضي النهوض بواجب التزكية" التي هي "فرض عين" وليس بالفقه الصناعي. (ص، 424-425) وينتهي إلى أن الفقيه الحي أحق بالولاية العامة من الفقيه الصناعي". (ص، 435) يبدو أن طه عمل على سحب بساط "الدين" أو التديين من الإسلام السياسي بجميع تياراته. مجاراة منه لطروحاته وهو ما يتجلى، فضلا عن كل ما سبق، في حديثه عن مقاومة خاصة بالصوفية للتسيد يسميها "بالمقاومة الوجدانية"، وهي بديل عن كل أشكال التغيير المعهودة من ثورة وتمرد وانقلاب وانتخابات، وتتخذ عنده صورة "الازعاج". وهو ازعاج: "لا يثير اضطرابا مؤذيا ولا يعكر أمنا حقا" هدفه رد المزعج إلى التعبد. (ص، 297)

يستعمل الازعاج، في مقابل العنف المادي، والعنف القولي (الانتخابات)، الحال الوجداني، والسلوك الخلقي، والتذكير الحكمي. (ص، 299) لا يهمه الحكام أو الدولة. وهمه المجتمع والفراد. ينتهي طه بعد طول تجواله في ايهام القارئ بأنه يقدم مشروعا في دفع التسيد والتسلط إلى إقرار "نظام الخلافة" نموذجا “للتدبير الإسلامي بامتياز". (ص، 361)، وذلك بعدما أكد أن تقسيمه التدبير إلى "تدبير تعبدي" و "تدبير سياسي" يتفق مع تعريف ابن خلدون "للخلافة" و "الملك". (ص، 323) لكنه استدرك على تعريف ابن خلدون والماوردي للخلافة بأنها: "حراسة الدين وسياسة الدنيا" فقال: "وعندنا أن هذا التقابل بين الدين والدنيا لا يصح" لأن تدبير الدنيا بقوانين منزلة هو: "عبارة عن تدبير تعبدي للدنيا". (ص، 344)

وغفل طه في استدراكه أن التعريف الموروث للخلافة مؤسس على وصف حقيقي للسلطة في الإسلام، حيث جمعت بين الوظيفة التي يسميها "التدبير التعبدي" (حراسة الدين)، وبين ما يسميه "التدبير السياسي" الذي اعتمدت فيه على نوعين من التدابير؛ أولاهما "القوانين" المقتبسة من التراث السياسي لدى الاغريق والفرس والرومان، ثانيها القرارات التي يتخذها الخليفة نفسه وبمساعدة حاشيته. ويعني هذا أنها سلطة لم تكن تعتمد "التدبير التعبدي" وحده كما يزعم. فهل استطاع المقترح "السياسي" الصوفي الطرقي لطه عبد الرحمن دفع التسيد فعلا؟ الإجابة في عهدة القارئ.

***

حسن العلوي – كاتب مغربي

لا يظنن كل من كتب مقالة في جريدة، أو شارك في حوار متلفز، أو حظي بعضوية حزب سياسي، أو تمتع بحضوة تنظيم ديني، أو تقلد منصب حكومي رفيع، أو حاز على شهادة جامعية، انه بات محسوبا"على رهط المثقفين وانه أضحى بذلك ينتمي لعالمهم الاعتباري الخاص . ذلك لأن المعايير والشروط المؤسسة التي يتحدد بموجبها استحقاق الفوز بهذا اللقب قد لا تنطبق على كل أو بعض ممن أتينا على إيراد ذكرهم، من منطلق إن الثقافة هي بالأساس جديلة أو سبيكة من المكابدات الوطنية والأخلاقية والمعرفية والحضارية والإنسانية، التي من دون حيازتها جميعا"لا يحق لأحد ادعاء تمثيلها والزعم بحمل رسالتها والتنطع للتحدث باسمها . ولعل هذا الأمر يفسّر لنا ليس فقط قلة / شحة وجود مثقفين حقيقيين يحتلون الواجهات الأمامية للساحة الثقافية العراقية ويشيعون خطاباتهم العقلانية في رحابها فحسب، وإنما يعكس تراجع مؤشرات حضورهم السياسي وتدني مستويات تأثيرهم الاجتماعي كذلك .

وبضوء ذلك قد يتساءل البعض؛ إذا كانت تلك المعايير والشروط هي ما يميّز المثقف عن سائر أقرانه من أعضاء المجتمع (الفاعلين الاجتماعيين)، فلماذا إذن يعاني – وهو المتسلح بكل تلك العدة النوعية - غياب الدور وتعطل الوظيفة وانعدام التأثير، في الوقت الذي ينخرط وينشط أشباه المثقفين ومدعي الثقافة على أكثر من صعيد وفي أكثر من جبهة؟! . في الواقع لو تمعنا جيدا"في هذا الأمر لأدركنا إن هذه الحالة / الوضعية لا يمكن أن تكون إلاّ على هذا النحو الشائه والمنحرف، طالما إن المجتمع الذي ينتمون اليه ويحملون وشم هويته يعاني لوثة الاستقطاب الأصولي بين جماعاته والاحتراب السياسي بين مكوناته على أسس من الانتماءات التحتية والولاءات الفرعية، لاسيما وان الخاصية الجوهرية لخطاب المثقف هي ما يجعله عابر لتلك الانتماءات ومتخطي لتلك الولاءات .

وعلى هذا الأساس يبدو إن خطاب المثقف العراقي الحقيقي عالق بين شقي رحى؛ (مؤسسات) قائمة على مظاهر الفساد والفوضى حيث النهب والسلب والتخريب من جهة، و(جماعات) لا تزال ممهور بدمغة القبيلة والطائفة والعرق والمنطقة . الأمر الذي يحول دون أن يكون له صدى في أروقة (دولة) فقدت شرعيتها الوطنية وتخلت عن سلطتها السيادية من جانب، وكيان مجتمع أضاع وحدة مشتركاته الوطنية والتاريخية والانسانية من جانب ثان . وهنا يبدو خطاب المثقف وكأنه يغرد خارج اسراب الحشود ويعوم ضد التيارات السائدة !، للحدّ الذي يجعل دوره الاجتماعي نافلا"ووظيفته التنويرية بلا معنى .

وإذا كان الحال – كما يبدو - سيبقى على ما هو عليه على المدى المنظور في الأقل ؛ فهل يبقى هناك أمل بالخروج من هذا الخانق التاريخي المعقد، والخلاص من هذا المأزق الحضاري المستعصي، خصوصا"وأن كل المعطيات والمؤشرات توحي بان لا جديد يلوح في أفق الثقافة العراقية، التي لا تفتأ مظاهر الجهل والعدمية تكبل عناصرها الحية وتعطل قدراتها الفاعلة؟ . ففي كل الأحوال، ليس هناك من خيار آخر أمام الفاعل الثقافي (المثقف) الحقيقي يمكنه التعويل عليه، سوى الرهان على مكتسبات الحفر العميق في طمى الوعي الراكدة للجماعات المستقطبة، والتنقيب بين أخاديد الذاكرة المجيشة للمكونات المتعصبة . حيث يستطيع الكشف عن خرافات أصولها المختلقة، وإماطة اللثام عن أساطير تاريخها الملفقة، على أمل حمل الكيانات والمكونات والجماعات المتكارهة والمتصارعة، لاعادة النظر في أساطير تاريخها وخرافات سردياتها التي كانت – وستكون السبب وراء كل مآسي هذا البلد المستباح ومعاناة أفراده وجماعاته المكبلين باصفاد العبودية السياسية والأمية الثقافية والايديولوجية الدينية .

***

ثامر عباس

الرسول (ص) ومبدأ الشفاعة:

أستَشفعَ: طلب الناصرَ، والشفاعة هي ألتماس العفو أو التخفيف من العقوبة عن الغير، وعندما نقول تشفع فلان بصديقه، يعني توسل به ووسطه لقضاء حاجته . يتبين من هذه المعاني، أن الشفاعة وسيلة يستعين بها الآنسان لقضاء حاجة أو دفع ضرر، أو جلب منفعة لايستطيع هو بنفسه قضاءها، الا بواسطة من غيره.

الانسان كائن يمكن أن ينتابه القصور في تحقيق ما يربو له، ويعجز أحياناً في دفع ضرر يعترضه في حياته، فيستنجد بوالديه أو أصدقائه، وأحياناً عندما يضيق به الوسع يسعى الى مناجات الغريب في قضاء حاجة ضرورية وملحة له . الشفاعة بكل مظاهرها التي ذكرناه أعلاه وارده جداً في حياتنا الدنيا، والتي تأخذ صفة المساعدة والمعاونة في الأمور ذات الطابع الأنساني، وهذا بالطبع ذو طابع أيجابي، ولكن هناك تشفع ذو طابع سلبي، والذي يُعرف بالمحسوبية والمنسوبية، والمتعارف عليه اليوم ب (الواسطة)، ولكن موضوعنا في هذه الحلقة يتناول جانب آخر لا علاقة له بالحياة الدنيا، بل جانب ما بعد الموت، وهو جانب يأخذ أهتمام الذين يؤمنون بحياة مابعد الموت، ومن هؤلاء قطعاً المسلمون، وهو جانب يلعب دوراً مهماً وحساساً في حياة الانسان، وله أنعكاسة على حياته في هذه الدنيا بأعتبار أن الدنيا مزرعة الآخرة كما يُقال، وأن طبيعة عملك بها يقرر مقدار منزلتك في الآخرة، وبما ان الأنسان خَطاء، فقد يتعثر في مسيرته الدنيوية بأخطاء متعمدة، وأخرى غير متعمدة، وبما أنه حريص على النجاح والفلاح في الآخرة، تراه يبحث عن الوسيلة التي ترفع عنه ما أقترفت يداه من خطايا وذنوب تزيد من وقوفه أمام خالقه يوم القيامة، وأن ثَقُلت كفة ميزان سيئاته يكون مصيره جهنم، والعكس ينتهي به الى جنة النعيم . بما أن الأسلام دين سماوي، فهو ممن يوعد أتباعة بالجنة مقابل مايقدمونه من خير في الحياة الدنيا، ويحذرهم من نار جهنم أن أساءوا عملاً، وهنا يكون المؤمن بهذا الدين حريص أن يكون من أصحاب النعيم، وتراه يسعى بكل الوسائل التي تحقق له مراده لهذه الغاية السعيدة، وأول هذه الوسائل لاشك هو العمل الصالح (..ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مُؤمن فُأُولئِك يدخلون الجنة يُرزقون فيها بغير حِساب)(غافر:40)، وكما قلنا فأن ولد آدم خطائون فهم لا يتوانون في البحث عن الوسيلة التي تقلل عنهم أخطائهم، التي تمنعهم من تحقيق مرادهم في جنة الخلد التي أُعدت للمؤمنين.

شفاعة الرسول:

من الأمور التي يستعين بها المسلمون للفلاح برضا الله هو شفاعة رسولهم لهم يوم الورود (القيامة)، وهذه الشفاعة لاشك لها قيود وشروط، وعندما تتوفر شروطها يشملهم عَطاءُها، والأيمان بحصول الشفاعة يعطيهم دفق جديد وقوي لأستأناف حياة جديدة قائمة على أساس تغير عميق في حياة الأنسان، يدخله في طور جديد مختلف عن الطور الأول الذي ألتمس الشفاعة من الرسول الأكرم أو من غيره من الصالحين ليكون فرداً صالحاً يبدأ حياته بمشوار جديد يرضى به الله.

في الأسلام قاعدة واضحة تقول ( كل نفس بما كسبت رهينة)(المدثر:38) أي أن عمل الأنسان هو الأساس في تقرير مصيره، ولكن رحمة الله، وكعامل مشجع له في عمل الخير، جعل له وسائل أخرى مساعدة تساهم في عملية التغير الأيجابي، والرسول (ص) كشخصية لها كرامتها عند الله، يمكنه، أو له الصلاحية المقيدة في ما يُسمى بالشفاعة، يقول الحديث النبوي (أنا أول شافع في الجنة).

هنا نأتي الى قضية شفاعة الرسول، وهل هي حره أم مُقيدة؟، هناك آيات في القرآن الكريم تتراوح فيها الشفاعة بين التقيد التام بيد الله، كما في الآية (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم)(ال عمران:128)، وحتى الله يخبر الرسول بأن ينبئ المسلمين بأنه هو نفسه لا يملك لها نفعاً ولا ضراً (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ألا ما شاء الله)(الأعراف:188)، وهناك نص يقول أن النبي صارح بنته فاطمة الزهراء (ع) وكل آقاربه من عبد مناف، بقوله لهم جميعاً (أشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يابني عبد مناف أشتروا أنفسكم من الله، لا أُغني عنكم من الله شيئاً، ياعباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ياصفية عَمَة رسول الله لا أَغني عنكِ من الله شيئاً، يافاطمة بنت محمد سليني من مالي ماشئتي لا أُغني عنك من الله شيئاً(صحيح الجامع) كما أخرجه مسلم والبخاري، وبين أطلاق للشفاعة مقيد كما جاء في بعض من الآيات القرآنية (يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أَذِنَ له الرحمن ورَضي له قولاً)(طه:109) و(لايشفعون الا لمن أرتضى) (الأنبياء:28) . يتضح من خلال ذلك أن الشفاعة يتردد ذكرها بين النفي المطلق والأثبات المقيد. وفيما يلي آيات من الذكر الحكيم تؤكد ذلك:

(وأتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يُقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولاهم يُبصرون)(البقرة:48)

(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون)(البقرة:254)

(فما تنفعهم شفاعة الشافعين)(المدثر:48)

(وأنذر به الذين يخافون أن يُحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)(الأنعام:51)

(ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)(السجدة:4)

(ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع) (:الأنعام:70) (الأنعام(،4)

(..ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) (:الأنعام:51)

(ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع)(يونس:18)

(سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (المنافقون:6)

( أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)(التوبة:80)

(فما لنا من شافعين)(الشعراء:100)

(الله الذي خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم أستوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)(السجدة:4)

(قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض ثم اليه ترجعون)(الزمر:44)

(وأنذرهم يوم الأزفة اذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع)(غافر:18)

( لا يملك الذين يَعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون)(الزخرف:86)

كما أن هنك آيات تظهر الشفاعة بها مقيدة، ومنها الآيات التالية:

(وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى)(النجم:26)

(يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون الا لمن أرتضى..)(الأنبياء:28)

(ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أَذن له حتى اذا فزع عن قلوبهم قالوا...)(سبأ:23)

(يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أذِن له الرحمن ورضَي له قَولاً)(طه:109)

(من يشفع شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعةً سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مُّقيتاً)(النساء:85)

(... من ذا الذي يشفع عنده اِلا بأذنه ...) (البقرة:255)

(ان ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش يدير الأمر ما من شفيع الا من بعد اذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون)(يونس:3)

(لايملكون الشفاعة الا من اذِنَ له الرحمن ورضي له قولا)(طه:109)

(لايملكون الشفاعة الا من أتخذ عند الرحمان عهدا)(مريم:87)

يتضح لنا وبشكل جلي بأن مسألة الشفاعة تكون حصراً بأرادة الله، ولكن وبفضل الله لعباده من الملائكة والأنبياء والأئمة عليهم السلام والصالحين من عباده شملهم بهذه الخصلة أكراماً ووجاهةً لهم لما قدموه من جهاد وعمل صالح، وما تحلوا به من أيمان الى درجة الأندكاك بالذات الألهية، ولكن هذه الصلاحية تبقى مقيدة برضى الله (لايشفعون الا لمن أرتضى)، فالمحصلة النهائية في مسألة الشفاعة تنتهي الى الله (قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض ثم اليه ترجعون (الزمر:44).

من المهم الأشارة الى بعض الآيات التي تنفي الشفاعة بشكل تام ومطلق، وهي تعني بمن يتشفع بالأوثان، وهذا ما كان يدعيه العرب في زمن الجاهلية (أم اتخذوا من دون الله شُفعاء قل أَولو كانوا لايملكون شيئاً ولايعقلون)(الزمر:43).

أن الفهم الغير صحيح لمبدأ الشفاعة يفتح الباب واسعاً لمن يسعى لأقتراف الموبقات من الأفعال، وترك الفرائض بدعوى الشفاعة، فالشفاعة بهذا المفهوم تكون مخدرة، وسبب مباشر لسد باب أصلاح المجتمع والفرد لأنها تخلق حالة من الأتكالية، والتمادي في السلوك السيء. بالحقيقة ليس هناك شفاعة بالمجان في الأسلام لأن من شروط الشفاعة فيه محكومة بالعزم على التغير والتحول من المسار الخاطيء الى المسار الصالح، والتصميم على عدم العودة لما تاب عنه من سلوكيات سيئة، فالشفاعة لا تتحقق بالأعمال المزيفة، والوسائل المعوجة، والطرق المشبوهة والملتوية، لسبب بسيط وهو أن الله سبحانه وتعالى هو المُقيم والناظر لهذه الأعمال، وفي الأسلام الغاية لا تبرر الوسيلة، ومن يُغري الناس بأتباع طرق عقيمة للشفاعة فهو مساهم بأنحراف المجتمع، ويدفع الى تدميره، ويضع العصى في دولاب أصلاحه، بل الشفاعة هدفها الأساسي عدم اليأس وأعطاء فرصة للفرد للمراجعة، وتقيم ما يصدر منه من أفعال، وأغراءه بالرجوع الى جادة الصواب، ودخول دائرة التقوى (وأنذر به الذين يخافون أن يُحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)(الأنعام:70).

***

أياد الزهيري

قَبْلَ هُبُوبِ الْعَاصِفَةِ يُطْلِقُ الْمُثَقَّفُ صَرَخَاتٍ عَنْ قُدُومِ الْعَاصِفَةِ وَرِيَاحٍ عَاتِيَةً سَوْفَ تَعْصِفُ بِالْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، بِدُوَلٍ هَشَّةٍ اقْتِصَادِيَّةٍ فِي الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ، نَتِيجَةَ تَدَاعِيَاتِ أَزَمَاتٍ اقْتِصَادِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ وَثَقَافِيَّةٍ، وَوَضْعٍ غَيْرِ مُسْتَقِرٍّ أَمْنِيًّا فِي الْعَالَمِ، وَهَذِهِ وَظِيفَتُهُ، وَإِذَا تَخَلِّيَ عَنْ الْمَشْهَدِ فَهَذِهِ خِيَانَةٌ ذَكَرَهَا الْكَاتِبُ الْإِنْجِلِيزِيُّ (جُولْيَانْ بِينْدَا) وَكَذَلِكَ "الدُّكْتُورُ إِدْوَارْدْ سَعِيدٍ "، فِي كِتَابَهِ خِيَانَةِ الْمُثَقَّفِيِّينَ وَشَرْحِهَا بِالنَّقْدِ الْفَيْلَسُوفِ الْفَرَنْسِيُّ "جُونْ بُولْ سَارْتَرْ "عَنْ خِيَانَةِ الْمُثَقَّفِيِّينَ، كَمَا تَعَلَّمَهَا بِالْفِطْرَةِ طَائِرُ الْبِطْرِيقِ

"الْأَوْهَامُ الْمُضِيئَةُ" \"إِطْلَاقُ صَرَخَاتٍ قَبْلَ هُبُوبِ الْعَاصِفَةِ، مُحَذِّرًا الصَّيَّادِينَ لِمُغَادَرَةِ السَّاحِلِ،

وَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْمُثَقَّفِ لَيْسَ وَصْفَ خَرَابٍ قَادِمٍ بِسَبَبِ الْعَاصِفَةِ بَلْ التَّنْبِيهُ مِنْ قُدُومِهَا وَأَثَرِهَا...،

لَكِنْ لَا أَحَدَ يَسْمَعُ فِي الْقُصُورِ وَالْأَسْوَارِ الْخَلْفِيَّةِ... صُرَاخُ الْبِطْرِيقِ وَهُوَ يُحَذِّرُ مِنْ قُدُومِ الْعَاصِفَةِ،

إِذَا كَانَ الصَّيَّادُونَ سُكَارَى وَالسَّاحِلُ سَاكِنًا وَالْبَحْرُ صَامِتًا.

الْعَمَى لَيْسَ الظَّلَامَ الزَّائِلَ بَلْ الثِّقَةُ بِالْأَوْهَامِ الْمُضِيئَةِ الْمُزْمِنَةِ. الَّتِي نَعِيشُهَا نَتِيجَةَ إِرْثٍ قَدِيمٍ رَاسِخٍ فِي الْعَقْلِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ..،، لِلْأَنَّنَا مُجْتَمَعُ الْأَسَاطِيرِ وَالْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ وَالْجَهْلِ الْمُدْقِعِ وَبَيْعُ الدَّمِ بِالْمَالِ: كَمَا يَحْدُثُ فِي "السُّودَانِ، وَالْيَمَنِ وَسُورْيَا وَلِيبِيا

وَالْعِرَاقُ وَلُبْنَانَ... إِلَخْ

تَذَكَّرْتُ قَوْلَ الْفَيْلَسُوفَةِ الْكَبِيرَةِ:- "آرَنْدِيتْ": الْعَالَمُ الثَّالِثُ لَيْسَ شُعُوبًا،

بَلْ أَسَاطِيرَ وَأَيْدِيُولُوجِيَّاتٌ\".

نَحْنُ لَا نَحْتَاجُ قِرَاءَةَ الْأَسَاطِيرِ بَلْ نَعِيشُهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْ الْمُحِيطِ إِلَى الْخَلِيجِ...!! نَعِيشُ مُنْعَطَفٌ تَارِيخِيٌّ خَطِيرٌ. تُرْفَعُ فِيهِ

السُّيُوفُ وَالْخُيُولُ وَالْمَعَارِكُ الْقَدِيمَةُ التَّارِيخِيَّةُ وَالْفُرْسَانِ وَالْخِطَابَاتِ وَالْقَتْلَى وَ... إِلَخْ

مَرْسُومَةٌ عَلَى جُدْرَانِ الْحِيطَانِ وَالْمَعَابِدِ كُتِبَ عَلَيْهَا \"فِي رِوَايَةِ الْعَبْقَرِيِّ الْكُولُومْبِيِّ مَارْكِيزْ\" أَعِيشُ أَنَا وَيَمُوتُ ضَحَايَايْ \"وَصَارَتْ هِيَ الْوَاقِعَ،

فِي حِينِ صَارَ الْوَاقِعُ الْحَقِيقِيُّ أُسْطُورَةً.

طَبَقَةٌ فَرَاغِيَّةٌ لَا تُنْتِجُ غَيْرَ الْعَطَبِ وَتَعِيشُ مُرَفَّهَةً عَلَى حِسَابِ الْآخَرِينَ .وَالتِّجَارَةِ بِالدَّمِ مَاذَا يَحْدُثُ فِي السُّودَانِ وَلِيبْيَا وَشَمَالِ سُورْيَا وَالْيَمَنِ أَلَيْسَتْ تِجَارَةً بِالدَّمِ الْعَرَبِيِّ...؟!

وَمَعَ كُلِّ الْأَحْدَاثِ تُطِلُّ عَلَيْنَا مِنْ شَاشَاتِ التَّلْفَزَةِ وُجُوهٌ شَاخَتْ\" مِنْ الشُّيُوخِ \ "الْمُتْرَفَةِ الْمُسْتَرْخِيَةِ الْمُتَرَهِّلَةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ خَارِجَةً مِنْ صَالُونَاتِ الْكَوَافِيرِ، تَخْتَلِفُ عَنْ وُجُوهِ غَالِبِيَّةِ النَّاسِ مِنْ الْبُؤْسِ وَالْفَقْرِ وَالْجُوعِ وَالْمَرَضِ وَجُثَثٌ تَطُفُّوا عَلَى شَوَاطِئِ الْبِحَارِ هَرَبًا مِنْ الْحُرُوبِ وَمِنْ جَحِيمِ السَّاسَةِ كُلُّ هَذَا الْوَاقِعِ الْوَهْمِيِّ الْأُسْطُورِيِّ وَيَأْتِي جَاهِلٌ وَمَرِيضٌ بِمَرَضِ السَّيْكُوبَاتِيَّةِ مَا زَالَ يَعِيشُ فِي كُهُوفِ الْعُصُورِ الْوَسَطِيِّ.. لِيَقُولَ بِثِقَةٍ:\" هُوَ يَعِيشُ الْوَاقِعَ وَيَرَاهُ \" فِي حِينِ هُوَ لَا يَرَى شَيْئًا سِوَى الْوَاقِعِ الْمُزَيَّفِ، الْوَاقِعُ الْحَقِيقِيُّ فِي مَكَانٍ آخَرَ لَا يَصِلُهُ الْعَقْلُ الْبَسِيطُ ضِيقَ الْأُفُقِ وَالْمَعْرِفَةِ.

إِنَّ الْوَاقِعَ الْحَقِيقِيَّ غَاطِسٌ فِي بَحْرٍ مِنْ جِبَالٍ مِنْ الثَّلْجِ وَدَهَالِيزَ وَمَكَاتِبَ سِرِّيَّةٍ وَفِي أَجْهِزَةٍ مُخَابَرَاتِيَّةٍ وَشَرِكَاتٍ مُتَعَدِّدَةِ الْجِنْسِيَّاتِ وَدُوَلٍ وَمَصَالِحَ وَمَافِيَاتٍ وَعِصَابَاتٍ وَبُنُوكٍ وَمُنَظَّمَاتٍ وَتَقَالِيدَ وَتُرَاثٍ وَتَارِيخِ وَثَقَافَةٍ وَكُلُّ هَذِهِ مُتَدَاخِلَةٌ تَدَاخُلَ أَنْيَابِ التَّمَاسِيحِ... شَبَكَةً عَنْكَبُوتِيَّةٌ...!

مِنْ أَيَّةِ زَاوِيَةٍ يُرَاقِبُ الْمُثَقَّفُ هَذَا الْوَضْعَ.؟

قَدَرْنَا أَنْ يَعِيشَ الْمُوَاطِنُ الْعَرَبِيُّ زَمَنَ الْعَهْدِ الْبَائِدِ مِنْ الْمِلْكِيَّةِ وَالِاحْتِلَالِ إِلَى التَّحَرُّرِ مِنْ الِاسْتِعْمَارِ إِلَى جُمْهُورِيَّاتِ الشَّوَارِبِ الثَّوْرِيَّةِ فِي الْخَمْسِينِيَّاتِ وَالسِّتِّينِيَّاتِ فَمَا فَوْقَ الَّتِي لَمْ تَعُدْ تَصْلُحُ إِلَّا لِمُسَابَقَاتِ الْقِطَطِ السَّمَّانِ فِي عُصُورِ النَّهْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْفَسَادِ وَالْحُرُوبِ الْأَهْلِيَّةِ الْآنَ أَذْكُرُكُمْ وَاذْكُرْ نَفْسِي بِهَذَا الشَّهْرِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَدَمٍ وَاعْتِقَالَاتٍ وَحُرُوبٍ كُلِّهِ ارْتَبَطَ بِالْمِنْطَقَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ شَهْرُ أَيْلُولَ الْأَسْوَدِ) الَّذِي أُطْلِقَ عَلَيْهِ نَتِيجَةَ الْمَذَابِحِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ الْفَصَائِلِ الْفِلَسْطِينِيَّةِ وَالْجَيْشِ الْأُرْدُنِّيِّ فِي عَمَّانَ، وَالرَّحِيلِ الْمُفَاجِئِ (لِجَمَالِ عَبْدِ النَّاصِرِ) فِي أَثْنَاءِ عَقْدِ قِمَّةٍ طَارِئَةٍ لِجَامِعَةِ الدُّوَلِ الْعَرَبِيَّةِ لِوَقْفِ "نَزِيفِ الدَّمِ الْعَرَبِيِّ الْعَرَبِيِّ" وَأَحْدَاثِ الِاعْتِقَالَاتِ الْكُبْرَى فِي/ 3 مِنْ سِبْتَمْبِرَ عَامَ /1981 وَهِيَ الْقَشَّةُ الَّتِي قَسَّمَتْ ظَهْرَ الْبَعِيرِ بِاغْتِيَالِ (أَنْوَرِ السَّادَاتِ) كَذَلِكَ أَحْدَاثُ /11مِنْ سِبْتَمْبِرَ عَامَ 2001م بِاقْتِحَامِ بَرْجَيْ التِّجَارَةِ الْعَالَمِيِّ. الَّذِي أَدَّى إِلَى اجْتِيَاحِ الْعِرَاقِ وَأَفْغَانِسْتَانَ. وَظُهُورِ مُصْطَلَحِ" صِرَاعِ الْحَضَارَاتِ.:

لِتَعِيشَ الْمِنْطَقَةُ حَرَاكًا ثَوْرِيًّا مِنْ ثَوْرَاتِ الرَّبِيعِ الْعَرَبِيِّ وَيَسْقُطُ نَظُمَ حُكْمٍ وَنَدْخُلُ فِي صِرَاعِ عَلِي السُّلْطَةِ مِنْ حُرُوبٍ أَهْلِيَّةٍ مَا زَالَتْ مُشْتَعِلَةً حَتَّى كِتَابَةِ هَذِهِ السُّطُورِ...   لِيَغِيبَ عَلَيَّ كُلُّ الْفَاعِلِينَ فِي الْمَيَادِينِ أَنَّ شَابَّتَهُمْ الرُّؤْيَةُ...

لِنَعِيشَ فَتْرَةَ مَتَاهَاتِ التَّدَيُّنِ وَالْمُوضَةِ الْجَدِيدَةِ مِنْ الْجِلْبَابِ الْقَصِيرِ. وَاللِّحْيَةِ الْمُزَيَّفَةِ بَيْنَ التَّدَيُّنِ وَالْمُوضَةِ، وَالْبَنْطَلُونُ الْمَثْقُوبُ مِنْ الْخَلْفِ أَوْ النَّازِلِ تَحْتَ الْحِزَامِ وَتَسْرِيحَةُ عُرْفِ الدِّيكِ الَّتِي أَوْشَكَتْ عَلَى الِاخْتِفَاءِ فِي أُورُوبَّا، لِنَعِيشَ فَوْضَى عَارِمَةً فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْ ضَوْضَاءَ وَصَخَبٍ بِاسْمِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ الْمُزَيَّفَةِ... فَمَتَى يُعْلِنُونَ وَفَاةَ الْعَرَبِ .؟!

***

مُحَمَّدُ سَعْدِ عَبْدِ اللَّطِيفِ

كَاتِبٌ مِصْرِيٌّ وَبَاحِثٌ فِي الْجُغْرَافِيَا السِّيَاسِيَّةِ

يقال في علم الدلالة والمعنى أنه ثمة إشكالية كبيرة تعنى بها فلسفة اللغة، وهى إشكالية مفهوم المعنى. كيف يمكن اقتناص المعنى المراد في الخطاب؟ هذا السؤال يجر إلى أسئلة عديدة: هل المعنى المقصود من أي خطاب هو ذات المعنى الذى يروم المتكلم إيصاله إلى القارئ أو السامع؟ أم أن المعنى هو ما تشى به مفردات الخطاب من دلالة بمعزل عما يقصده المتكلم على وجه الدقة واليقين في خطابه.

ولهذا عندما وصفَ الدكتور نصر حامد أبو زيد (رحمه الله) الحضارة العربية الإسلامية بأنها "حضارة نص"، كان يدرك أهمية الخطاب الإلهي في حياة المسلمين، وكان يعرف ما الذي تعنيه الكلمة؛ كلمة الله التي دخلت مجال البشر واستقرت فيه، فأصبحت المحور الذي تدور في فلكه حركيتهم، ونزوعهم-الذي لم ينقطع-من أجل كشف الغلالات الكثيفة عن تلك الكلمة / الكلام، بغية فهمه، والوقوف على معانيه، وتأمّل بيانه الذي لا يماثله أيُّ بيان لغوي آخر.

قصدت هذا القول لأقول كما ذكر مركز رواسخ في فيديو شهير بعنوان: إسلام واحد أم إسلامات متعددة .. كيف تضيع قدسية الوحيين في فوضى التأويل؟.. بأنه علي احدى الشاشات الإعلامية أو ضمن أسطر مقال على موقع شهير، ربما سمعت أو قرأت كلاما لم ترتاح له نفسك، ولكنه أثار في عقلك شكوك، يقول القائل من باحثينا المعاصرين:" نحن نقدس نصوص الوحي ولا نريد تركها .. لكن علينا أن نعيد قراءة النصوص وتأويلها بما لا يتوافق مع روح العصر، لا بما أقره فقهاء سابقون قبل قرون ".

والحجة الأساسية عندهم نحن نقدس النص لا الفهم، فلكل منا فهمه، وطالما أن الفقهاء اختلفوا في مذاهبهم، فلنا الحق أن تختلف عنهم، فهم رجال ونحن رجال، فهل تكون إشكالية بعض التأويليين في فهم النص بالفعل؟ .. أم إن مشكلتهم الحقيقية في عدم انقيادهم للنص؟.. وما موضوع الفهم إلا حجة للطعن في الشريعة كلها بزخرف من القول؟

تخيل أنك وريث شرعي لأحدى الشركات، وأن مجموعة من أقربائك يشاركونك هذا الإثم، وبينما أنتم تتناقشون حول تفسير أحد عقود المعاملات بالشركة، أتى أحدهم وأخبركم بأنه لا يمكن فهم هذا العقد، وأن إرثكم محكوم عليه بالضياع،  لأنكم لا يمكنكم تفسير العقل واستخراج الأحكام القانونية منه، وأنه لا سبيل لكم لمعرفة ذلك على الإطلاق، تُرى ماذا سيكون موقفك؟ .. من المؤكد أنك سترفض كلامه، وربما تسخر منه، فما العلاقة بين الاختلاف في فهم العقود وضياع معانيها والحقوق المترتبة عليها؟ .. ألا يوجد مرجعية ومختصون يمكن الرجوع إليهم؟ .. أم إن العالم ينتهي عند أفهامكم وحدكم؟ ..

الأمر نفسه ينطبق على من يقول:" نحن أمام إسلاماتِ متعددةِ، فأىّ إسلامِ نُطبق" زاعما أن الخلاف ووجود النصوص القابلة للتأويل معول يمكن هدم الشريعة وهدر نصوصها، وهذا أمر يخالف العقلي الذي يخبرنا أن الاختلاف في شيء لا يلغي وجوده ولا حجيته ولا مكانته، وما زال البشر يختلفون في كل مناحي الحياة ومذاهبها، لو صح ادعاء البعض الاختلاف ذريعة لهدم معيارية الشريعة لما يقي أي معنى في أيدينا لمفاهيم الحرية أو العدالة، أو حقوق الإنسان وغيرها، فإن حضور الخلاف لا يلغي حقيقتين قطعيتين بديهيتين وهما أن هناك قدرا مشاركا من المتفق عليه، وأن الحكم عند الخلاف يرجع إلى الحجة الدالة على الحق، وعند النظر إلى الشريعة سنجد النصوص على مرتبتين: المرتبة الأولى: مرتبة الأحكام القطعية، وهي التي دلت عليها الدلائل ظاهرة بينة لا يتطرق إليها الشك، وهي محل إجماع بين المسلمين، أي هي معلومة من الدين بالضرورة، كالاعتقاد في وجوب الصلاة والزكاة وتحريم الزنا والخمر . أما المرتبة الثانية: فهي الأحكام الظنية، وهذه الأحكام قد يصل اجتهاد العلماء فيها إلى الإجماع، أي الاتفاق بينهم في تأويلها بما يلغي مشروعية للخلاف، وقد تحتمل الخلاف في تأويلها بين العلماء، لكن هذا الخلاف قد يكون معتبرا سائغا تٌقبل الأقوال المختلفة فيه، وقد يكون شاذا غير سائغ ولا معتبر .

ومن هنا نتبين أن الخلاف المزعوم يقع في حالة واحدة من مرتبة واحدة من مرتبتي النصوص الشريعة، لا كما يوهم البعض ويزعم أن كل النصوص تحتمل الخلاف والتأويل، وإعادة القراءة من جديد بحجة أن الفهم غير مقدس.

ومن النظر بما سبق ربما تتبين منهجية هذا الخطاب التأويلي الذي يهاجم النصوص من باب مهاجمة التفسير، وليس هذا القول حقا يراد به باطل، بل هو قول باطل في نفسه، لأن الفهم في حالات كثيرة يكون مقدسا، وذلك حين يكون مصدره هو مصدر التشريع نفسه الله ورسوله .

إضافة إلى ذلك فإن التراث الإسلامي مرتكزا على منهجية موضوعية في التعامل مع الخلاف، بل وأهم من ذلك كله، هو أن الخلاف في مسائل الخلاف المعتبرة يعني أن العلماء كانوا يحاولون الوصول للمراد الإلهي من النص، فلم يكونوا يتبعون الهوى بحجة العصرية والتجديد، أو يهملون النصوص بحجة تعدد التأويلات، ولهذا كان للمجتهد أجرا إذا أخطأ مكافأة على نيته  وسعيه إلى تتبع الحق، وإعلاء شأن النصوص وتقديسها.

وقد تفطن ابن تيمية إلى حجج هؤلاء التأويلية تلك من أشباههم في عصره، وأدرك كيف يستخدم هؤلاء التأويليون تلك الخدعة معولا لهدم النصوص، وذلك لأنه لم يكن لهم قانون قويم وصراط مستقيم في فهم النصوص، ولأن التأويل من عدمه يرجع إلى نفس المتأول ورغبته لا أكثر، ولهذا فإنهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما .. أما الآيات التي تخالف رغباتهم فيشرعون في تأويلهم شروع من قصد ردها .

ولهذا يتعجب الإمام ابن حزم الأندلسي من أقول أسلاف هؤلاء فيقول:" إذا لم يكن الكلام مبنيا على معانيه، فبأي شيء يفهم هؤلاء المخذولون عن ربهم وعن نبيهم صلي الله عليه وسلم "، وهو ما يعني أن ثمة منهجية للفهم تكسب هذا الفهم قدسية ملاصقة لقدسية النصوص وتحافظ عليها من الإهدار والهدم.

وللوصول إلى معيار الفهم، نجد في القصة الكلاسيكية الشهيرة حكمت الكنيسة أوروبا بالحديد والنار، متحالفة في ذلك مع السلطة، وفرضت سلطان الخرفات والجهل والتحريف على عقول البشر، وحاربت العلم، واتهمت العلماء بالهرطقة، حتى قامت الثورة الفرنسية ضد هذا الإرث الغاشم، وتبعتها الثورة على الإرث الديني المليء بالتناقضات، المخالفة للعقل والمنطق السليم، وأمام عاصفة الثورة انحنت الكنيسة للفلاسفة والتنويرين، وسمحت بأفلامهم بإعادة النظر إلى الكتاب المقدس، والتعسف في تأويله، حسب ما تقتضيه الحداثة ويأمر به التنوير، وظهرت المدارس اللغوية التي تتعامل مع النصوص المقدسة باعتبار أن مؤلفها قد مات، وترك للبشرية مهمة التفسير والتأويل حسب ما يرون .

ومن أوروبا إلى عالمنا العربي أتي إلينا الحداثيون وزعموا ليستوردا هذه الثورة المسيحية على الكتاب المقدس، ويسقطوها على القرآن ونصوص الوحي، زاعمين أن الحق في التأويل مكفول للجميع، ومن هنا يظهر السؤال حول نصوص الوحي، وكيفية التعامل معها لنسأل: هل ثمة ضابط لفهم النصوص وتأويلها بصورة علمية وشرعية؟ .. أم إن النصوص متروكة لتأويل كل عابر، وكأن صاحبها سبحانه قد مات؟  .. لنجد أن أئمة الإسلام قد ذكروا قواعد أصولية هامة في التعامل مع النصوص الشرعية، وأول هذه القواعد، هو الجمع بين هذه النصوص، أو درء التعارض المتوهم عن الوحي، وتلك قاعدة منهجية يجب أن ينطلق منه الفقيه حين يتعامل مع النصوص .

ومن غابت عنه القاعدة يتيه في كل اتجاه فيحسب أن ثمة تعارضا بين آية وحديث نبوي، فينكر السنة أو يهدر فهم الآية القرآنية في سياقها الصحيح، ولهذا اكنت قواعد الترجيح بين الأدلة، فضلا عن علم الناس في الناسخ والمنسوخ، والمعرفة بالمطلق والمقيد، والتفرقة بين العام والخاص من النصوص، وهذه القواعد إنما هي أدوات عملية للتعامل المنهجي مع النصوص الشرعية، كما أن هناك ملمح آخر يتعلق بمنهج الفهم الصحيح للنص، والذي لابد له من مراعاة أمرين رئيسين: أولهما: هو العلم بأصول العربية ومكونات الخطاب العربي، والثاني، معرفة أقوال الصحابة وتابعيهم، إذ هم أقرب لزمن الوحي وفهم اللغة التي نزل بها، وهو ما يعني أن الإلمام التام باللغة العربية، شرط لا يمكن التخلي عنه لفهم الوحي مصداقا لقوله تعالي في سورة يوسف الآية 2:" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" .

ولهذا رأينا أنه من أمارات التأويل الفاسد، تأويل النص بما لا يحتمل كل وضع لغوي، أو بتفسير اللفظ بصورة تخالف السياق التاريخي الذي نزل له، أو بمعنى غير الذي أُصطلح عليه، ومثل ذلك من يحاول تأويل نص متشابه بتفسير يخالف نصا محكما من ثوابت الشريعة، فكل تلك أمارات للتأويل الفاسد الذي يهدر النصوص بدعوى اختلاف الأفهام، ولو أننا تركنا الشريعة إلى هذه الدعوى وتلك السيولة المفاهيمية، فكأننا نقر بأن الله أرسل إلينا مجموعة من الألغاز وحاشاه .

ولقد دفعت هذه المسائل الفقهاء إلى تأويل النص رغم صراحته وقطعيته، مستعينين في ذلك بالأحاديث النبوية ومحاولة استحضار سياقه وافترقوا كثيرا في تأويله. ومن ثم يثور التساؤل: ما هو المنهج المنطقي الذى ينبغي انتهاجه في تأويل معانى الخطاب، خاصة أن الخطاب هو أشبه بكائن حي تتعدد وتتنامى دلالاته عبر التاريخ؟.

وهنا يجيب عن ذلك ابن رشد في كتابه "فصل المقال" فيقول: "نحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن".

إن الشريعة المحكمة لا يأتيها الباطل، بل وأن الله قد كلف عباده بفهم هذه الألغاز بتفسيرات لم يمنحهم إشارات لفهمها، وتركها مبهمة سائلة، تلهوا بها الرغبات، كما أن هذا الفهم يحتوى مفارقة هزلية، حيث يفترض أصحابه أن صحابة النبي وتابعيهم عجزوا عن فهم هذه النصوص، وهم أهل اللغة، واًصحاب الرسول المبلغ صلي الله عليه وسلم، فإن كان معاصر التنزيل أعجز عن فهمه ونقله، فكيف يدعى من بعدهم قدرتهم على ذلك، وأكبر من هذا وأضل، فهذه المنهجية الحداثية تتعارض مع حقيقة مطلقة لا يستقيم بغيرها الإيمان، وهي أن علم الله تعالى سابق على جميع المخلوقات، وأنه سبحانه عندما أحكم بعض النصوص بمعان ثابتة، إنما فعل ذلك في الثوابت التي لا تتغير، كتحريم الزنا والخمر مثلا، بينما سكت عن المتغيرات التي يحتاج الناس فيها سعة بحسب زمانهم ومكانهم، أو أتى فيها بنصوص فيها من المرونة اللغوية ما يسع مختلف الأفهام، كبعض قضايا الطهارة وغيرها ليترك باب الاجتهاد مفتوحا،ولكنه مع ذلك قيد هذا الاجتهاد بآيات محكمات تأمرنا باستفتاء أهل الذكر وإنكال هذا الاجتهاد للعلماء فقال سبحانه: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً (الآية 83 من سورة النساء)، فهل هؤلاء أحكم من الله .. وللحديث بقية..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

...........................

المراجع

1- مركز رواسخ: إسلام واحد أم إسلامات متعددة .. كيف تضيع قدسية الوحيين في فوضى التأويل؟.. يوتيوب.

2- موسي برهومة: التأويل الديني والمواجهة المستمرة مع المعاني، مؤمنون بلا حدود، 22 يونيو 2-23.

3- د. عصام عبدالفتاح: إشكالية التأويل في الخطاب الديني، العربية، نشر في: 08 يونيو ,2023: 09:44 م GST

ونحن نتصفح  وسائل التواصل الاجتماعي، لابد أن يتبادر الى ذهن أحدنا  تساؤل مُلح حول الانتشار السريع للأخبار المتعلقة بالوفاة؟ أو تداول الأزمات الأجتماعية والأقتصادية؟ تسويق البؤس بقصد أو غير قصد؟ وغيرها من المظاهر المتداولة التي تخلق لنا على الأقل كأبة مؤقتة ، لذلك هل هذا مظهر من مظاهر التشاؤم، أم مظهر من مظاهر فراغ المعنى، أم أنه شكل من أشكال  فلسفة العدم؟ في كتاب "السقوط" لألبيركامو  يقول:

 "نادرًا ما يتبنى الناس أسبابك، أو أصالتك، أو خطورة معاناتك حتى تتجاوز عتبة الموت.. بينما أنت على قيد الحياة، يكتنف الشك قضيتك، ويتركك مع لا شيء سوى الشكوك".

وفي نفس دائرة العدم التي تختزل شكل الحياة الأنفصامية  "إن مشاهد حياتنا مثل صورٍ مصنوعة من فسيفساء خشنة، فإذا ما نظرنا إليها عن قرب لا يكون لها تأثير، ولا شيء جميل فيها، إلا إذا وقفت على بعد مسافة ما ولذلك، فإن حصولنا على أي شيء نتوق إليه ينتهي بإكتشافنا كم هو فارغ وبلا فائدة." (آرثر شوبنهاور : تهمة اليأس/ مقالة فراغ الوجود

إذن هل تسللت هذه النظرة الفلسفية العدمية إلى واقع حياتنا ،أم أنها شكلها بلأساس؟ أو إن مواقع التواصل الأجتماعي عززت مشاهد الحزن والموت التي تزهو بها حياتنا الأجتماعية؟ وباتت هذه المشاهد العدمية تتعزز بصور عدة حتى  أنعكست على أبرز أوجه الحياة الأجتماعية ومنها:

العدمية الأخلاقية: تتحدى العدمية المفاهيم التقليدية للقيم الأخلاقية والأخلاقية، فنتسائل عما إذا كانت المبادئ الأخلاقية الموضوعية موجودة وهناك من يؤمن  أن الأنظمة الأخلاقية هي بنيات بشرية ليس لها صلاحية متأصلة أو عالمية.

العدمية الوجودية: وهي مجموعة فرعية من الفكر العدمي، غالبًا ما تستكشف فكرة أن الحياة تفتقر إلى المعنى أو الهدف المتأصل ، عند تطبيق هذا المنظور على المجتمع، يمكن أن يقود الأفراد إلى التشكيك في غرض الهياكل والمؤسسات المجتمعية، وحتى حياتهم الخاصة، يمكن أن يعزز مشاعر اليأس الوجودي أو خيبة الأمل من التوقعات المجتمعية.

العدمية الثقافية: يمكن أن تكون العدمية بمثابة أداة حاسمة لتحليل وتفكيك الأعراف الثقافية والمجتمعية، بالتالي نرى التساؤلات تتكرر حول أهمية المعتقدات والقيم في المجتمع.

العدمية السياسية: العدمية قد تعزز الشك تجاه شخصيات السلطة والمؤسسات والتسلسلات الهرمية المجتمعية، ويشجع الأفراد على التشكيك في شرعية ودوافع من هم في السلطة، وهذا ساهم في تشتيت رغبتنا الحقيقية في تغيير الانظمة المتوالية.

العبثية والاغتراب: العدمية الوجودية غالبًا ما تستكشف موضوعات العبثية والاغتراب في الوجود الإنساني في سياق المجتمع، يمكن لهذا المنظور أن يعزز مشاعر الانفصال أو الاغتراب أو القطيعة التي قد يواجهها الأفراد في عالم يعتبرونه خاليًا من المعنى النهائي وهذا أيضاً يرتبط بالفردية من خلال ربط العدمية بالتركيز على الفردية والاستقلالية الشخصية، وقد يؤكد على أهمية تقرير المصير ورفض المعايير المجتمعية التي يعتبرها الأفراد تعسفية أو لا معنى لها.

وكل ماذكر يساهم في بناء شخصيات إنهزامية لا أجتماعية ،وهذا  ما تنبأ به نيتشه "ولكن بمجرَّد أن يكتشف الإنسان كيف أن هذا العالم مصنوع من أجل تلبية حاجاتٍ نفسيةٍ وحسب، وكيف أن ليس له فيه أي حق، تأتي آخر صورة من العدمية إلى حيِّز الوجود متضمنةً عدم الإيمان بأي عالم ميتافيزيقي، ومحرمةً على نفسها الإيمان بعالم حقيقي، وبعد الوصول إلى هذه الحالة يسلم الإنسان بأن حقيقة الصيرورة "الوجود" هي الحقيقة الوحيدة، وينكر كل السُّبل الملتوية التي تؤدي إلى عوالم ميتافيزيقية وآلهة مزيفة، لكن لا يُمكن أن يتحمَّل هذا العالم إن لم ينكره..."

لذلك علم الأجتماع لم يترك الموضوع للفلسفة لأن هذه السياقات أنسحبت على المجتمع وبدأت تشكل شخصية الأجيال القادمة التي أختزلتها أفلام الأنميشن والمواقع الألكترونية الأخرى ، حيث تطرح أسئلة وتجيب عنها مما عزز فوضى العدم والعبثية ، لقد مضى أكثر من قرن منذ أن استكشف نيتشه العدمية وآثارها على الحضارة، كما تنبأ انتشار تأثير العدمية على ثقافة وقيم القرن العشرين، وأثرها المدمر الذي يخلق مزاجاً من الكآبة، وقدراً كبيراً من القلق والغضب والرعب.

فظهرت محاولات سوسيولوجية عدة تفسر أرتباط العدم بالمعنى والسياقات الأجتماعية ومن هذه المحاولات ما قدمه عالم الاجتماع البارز أرفينج كوفمان المعروف بعمله في التفاعل الرمزي، والجوانب الوجودية للتفاعل الإنساني وعرض الذات، تتناول أبحاثه حول التفاعلات وجهًا لوجه وإدارة الانطباع الاهتمامات الوجودية المتعلقة بالهوية والأصالة وأداء الذات في السياقات الاجتماعية ، أضافة الى بيتر بيرغر: قام بيتر بيرغرو توماس لاكمان، بتأليف كتابهما المؤثر "البناء الاجتماعي للواقع حيث تعاملا مع العمليات الوجودية، وخاصة فكرة أن الأفراد يبنون المعنى في حياتهم من خلال التفاعلات والتفاعلات الاجتماعية، أضافة الى ألفريد شوتز صاحب الظاهراتية الذي ساهم في فهم كيفية فهم الأفراد لتجاربهم اليومية من خلال عمله حول "عالم الحياة" والبناء الاجتماعي للواقع مع الأفكار الوجودية المتعلقة بالتجربة الذاتية والبحث عن المعنى.

فضلاً عن هوارد س. بيكر الذي أكتشف في عمله حول نظرية التصنيف والانحراف، كيف يتنقل الأفراد مع التوقعات المجتمعية وكيف يمكن أن تؤثر التصنيفات المجتمعية على مفهوم الفرد الذاتي وإحساسه بالهوية. يتطرق عمله إلى الأبعاد الوجودية للتحكم الاجتماعي والوكالة الشخصية.

سوسيولوجيا الوجود تعزز فكرة فهم الأنسان لذاته وواقعه ، وكيف تُبنى تصوراتنا للحياة ، وفي الوقت نفسه لايمكن تجاوز دور مواقع التواصل الأجتماعي في بناء هذه الرؤية وتعزيزها في تمثل الأفراد لواقعهم سواء كانت بالسلب أو الأيجاب ، لذلك نحتاج الى فهم أوسع للمعنى والواقع الذي نعيشه أو الواقع الذي تسوقه الرقمنة.

***

فاطمة الثابت

تمثل الأخلاق نظاماً من القيم تهدي سلوك الفرد، وتسهم في رفعه إلى أعلى مستوياته الإنسانية، ولا يتمكن الفرد من تحقيق ذاته الإنسانية إلا من خلال تجسيده للقيم والمفاهيم الأخلاقية. الاخلاق مصطلح يطلق على الصفات الطبيعية للإنسان، او ان الاخلاق هي فطرة الانسان نفسها، والأخلاق هي جمع كلمة "خلق" والخُلق اسم للتكوين الباطني للإنسان، والخلق يعني أفعال الفرد التي يتم وصفها بالحسن والقبح، والأفعال الحميدة تسمى الخير والافعال السيئة تسمى الشر، والاخلاق ملكة نفسية يسهل على المتصف بها القيام بالأفعال الجميلة. وتأتي الاخلاق بعدة معاني منها بمعنى (السلوك Behavior، السيرة Manner، السلوك الأخلاقي Moral، الاخلاق حسب الدلالة الفلسفية Ethics، الاخلاق حسب المعنى الادبي Ethical).

تشير الاخلاق عموماً الى القيم والمعايير السلوكية في مجتمع ما، وتتضمن فضائل الخير والجمال والحق، وتسعى الى توجيه افراد المجتمع الى ما ينبغي عليهم القيام به، وتنهاهم عما يجب تجنبه في مختلف شؤون الحياة، وبعبارة أخرى تتجلى وظيفة الاخلاق في توجيه الفرد نحو التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الصواب والخطأ، وبين المحمود والمذموم، وهي تمثل منهجاً وجدانياً ينير طريق الانسان في مجتمعه الى الحق والخير والجمال، ومن الجدير بالذكر ان الاخلاق  تختلف عن القانون من حيث أن القانون لا يهتم بقيمة الأفعال سواء كانت جيدة ام سيئة، بل يحدد القانون ما تسمح به السلطة وما تحرمه في مجتمع معين.

تشكل مسألة الخير والشر محوراً أساسياً في علم الأخلاق، ويتنوع الخير الى مادي واجتماعي ونفسي، فالخير المادي مثلاً ما تهبه الطبيعة للإنسان لكي يستمر في الحياة مثل الماء والزرع، اما الشر فيشمل الأشياء التي تضر الانسان تؤذيه مثل الجفاف وقتل النفس والكراهية والبخل والخداع والغش، عموماً الخير يشمل الفعاليات والقيم الإيجابية التي تعزز حياة الفرد وترتقي به الى مستوى الحق والجمال والمحبة والتعاون والإخلاص وغيرها من القيم الإنسانية الإيجابية.

الإشكالية ليست في فعل الخير، بل بالمعيار الذي يعتمده الافراد في التمييز بين الخير والشر، على سبيل المثال يعتقد سقراط بتوءمة الخير والمعرفة من جانب، وتوأمة الشر والجهل من جانب اخر، فالمعرفة تؤدي بالفرد الى فعل الخير، والجهل يدفع الفرد الى فعل الشر. بينما اعتقد افلاطون ان العلم وحده لا يكفي ليصبح الانسان فاضلاً وخلوقاً، ربما الفرد يعرف الخير ولكن لا يفعله ويعرف الشر ويقوم به، لذلك لابد من توفر قوة الاقناع والايمان بأهمية فعل الخير بالإضافة الى معرفة وعلم الشخص بالفعل الأخلاقي.

فضلا عن ذلك اعتقد المعتزلة بأن معيار الخير والشر يكمن فيما يستحسنه او يستهجنه العقل من الافعال، ولكن الاشاعرة اختلفوا مع ذلك المنظور واعتقدوا أن الحسن والقبيح شرعيان وليسا عقليان، بمعنى أن الخير تحدده الشرائع والأديان وليس عقل الإنسان.

يرى اخرون ان اللذة هي معيار الفعل الأخلاقي، بينما نظرية المنفعة تعتقد ان تعظيم السعادة هي اعلى مبادئ الاخلاق، وتكون الأفعال مبررة عندما ينتج منها أكبر قدر من الخير الى أكبر عدد من الافراد (مثلا يعد التعذيب وسيلة مقبولة عندما يمنع الإرهاب) ولكن الفيلسوف "إيمانويل كانط" يناقض فكرتي اللذة والمنفعة معاً، إذ يرى وجوب تنزيه مبدأ الخير عن الأغراض الذاتية واللذة، ويشير ذلك الى أن الخير يكمن فيما يجب وليس فيما يحققه من سعادة.

بالإضافة الى ما تقدم ينظر البعض للأخلاق بأنها مسألة نسبية، فهي تفضيلات اجتماعية معينة تستند الى ما يجله افراد المجتمع وما يستهجنونه من سلوك وتصرفات في فترة وظروف معينة، وان التمييز بين الصواب والخطأ يفسر تفسيراً فردياً بالاعتماد على اتجاه الفرد الذي يصدر الحكم الأخلاقي، فالشيء الذي نحبه فهو صواب والذي نكرهه يعّد خطأ.

ومن جهة نظر اقتصادية التي يمكن ارجاعها الى كتاب ثروة الأمم  الذي الفه ادم سميث  والمتضمن  ان خلق الثروة هي مسؤولية الفرد والدولة، وان هدف المنظمة الرئيس هو خلق الثروة من خلال انتاج السلع  والخدمات وتقديمها للسوق، ومن ثم تحقق حماية لرأس المال وتعظم الربح، بمعنى ان الجوانب  الأخلاقية والمسؤولية الاجتماعية  وفقاً لذلك المنظور لا تحظى بنفس أهمية الربح  ، ولكن مع تزايد الفضائح الأخلاقية (مثل التضليل الاحصائي والمعلومات غير الصحيحة والإهمال وسوء الممارسة لدى بعض المنظمات) واتساع الانتقادات لمنظمات الأعمال ومعاييرها المتمثلة بالربح والكفاءة  الى حد اهمالها لمسؤوليتها الاجتماعية والأخلاقية أصبحت القضايا الاجتماعية والبيئية موضع اهتمام للكثير من المنظمات.

تنشأ الاخلاق في منظمات الاعمال من عدة مصادر منها الدين والمجتمع الاخلاق الشخصية للعاملين والثقافة التنظيمية وأصحاب المصلحة الخارجيين ، فالأخلاق مسألة فردية وتنظيمية في ان واحد، حيث تتجسد معايير السلوك الأخلاقي او المسؤول اجتماعياً في سلوك الموظفين وممارسات المنظمة ، وان لقادة منظمات الاعمال دور كبير في تشكيل السلوك الأخلاقي في المنظمات، ويجب ان يلتزم كبار المديرين بقيم أخلاقية معينة وإظهار الدعم لها وتجديدها، ويمكن للقادة توصيل القيم الأخلاقية للعاملين بعدة طرق مثل الخطابات و إعلانات الشركة و بيانات السياسة و الإجراءات الشخصية.

ويمكن القول ان سلوك القائد يعد مؤشراً ومعياراً للعاملين للتمييز بين الأفعال الصحيحة والخاطئة في المنظمة، حيث يمكن ان يتأثر التزام العاملين في المنظمة بالقيم الأخلاقية التي يتبنها ويمارسها القائد، لكون ممارسات القائد تشكل تاريخ وثقافة المنظمة التي يمكن ان يتعلم منها العاملين في المنظمة.

أيضا كبار القادة مسؤولون عن الحفاظ على ثقافة تعزز السلوك الأخلاقي للموظفين، فعندما ينخرط القائد في ممارسات غير أخلاقية، او يفشل في اتخاذ إجراءات حاسمة رداً على ممارسات غير اخلاقية للموظفين فان هذا الموقف يسهم بتراجع الاخلاق، ومن ثم تكون البرامج التدريبة الخاصة بالتوعية الأخلاقية التي تنفذها المنظمة بلا جدوى.

***

الباحث: اكرم سامي فايز

ماجستير إدارة اعمال

من منا لم يشعر يوما من الأيام بأنه عاهر أو عاهرة؟..هل هناك امراة لم تشعر في لحظة بأنها عاهر وتغتصب من قبل زوجها لأن مشاعرها ماتت نحوه وهو يشتمها ويضربها في الصباح ويطلب جسدها وروحها في الليل؟..هل هناك امراة لم تشعر في لحظة بأنها عاهر وتغتصب من قبل زوجها بعد أن ماتت مشاعرها نحوه ولا تستطيع الانفصال عنه بسبب الدين أو الاطفال أو الأهل أو المصالح المادية بينهم من شركات أو للحصول على الإقامة الأوروبية أو الجنسية الامريكية؟.. هل هناك امراة لم تشعر في لحظة بانها عاهر وتغتصب من قبل زوجها بعد أن هددها بالقتل إذا انفصلت عنه وحين يحل المساء يطلب جسدها وروحها؟.. وهل هناك رجل لم يشعر في لحظة بانه عاهر ويُغتصب من قبل زوجته بعد أن ماتت مشاعره نحوها لأن روحه مع حبيبته البعيدة عنه؟..هل هناك رجل لم يشعر في لحظة بانه عاهر ويُغتصب من قبل زوجته لأنه يقدم لها جسدا بلا روح ولا مشاعر حيث قُتلت في الحروب والاعتقال والتعذيب؟.. هل هناك رجل لم يشعر في لحظة بأنه عاهر لأنه يخون زوجته أو حبيبته أو ينام مع نساء أُخريات؟..

جميعنا يتجاهل بأن العهر ليس فقط بالجسد بل أيضا بالفكر. من منا لم يشعر في لحظة بأنه عاهر فكرياً؟.. يقول أشياء لا يؤمن بها لأنه يريد الحصول على نفوذ ومنصب مهم في الدولة أو عند الرئيس والمدير؟ وأول العاهرون فكرياً هو ذلك المثقف الذي يدافع في كتاباته عن حرية المرأة ومساواتها مع الرجل وفي نفس الوقت يتهم أي امراة متحررة بانها عاهرة عندما لا تعجبه ملابسها أو طرحها لقضية هي تؤمن بها.. فالعاهرة كلمة خلقها العاهرون لكي يدافعوا عن عهرهم.

هل تتفقون معي أننا في زمن طغت عليه المصالح الشخصية على العلاقات الاجتماعية يعني مصلحتك عند فلان أو علان فلا مانع ان تنافق وأن تكذب وأن تتملق لهذا الشخص. مع أن رأيك كان مختلف بشكل كبير البارحة، وعلى قول المثل " إمبارح كنت تقطع فروته واليوم تقبل دعوته " في حياتنا التي نحيا العديد من الأشخاص يلبسون ثوب الصداقة المطرز بالمجاملات للاستفادة من غيرهم في قضاء أمورهم، يتفننون بلعب دور المحب المحافظ على المودة، لكن وبمجرد انتهاء المصلحة تنتهي الصداقة المزيفة التي باتت متعلقة بالمصالح الشخصية لا غير.

تقول سلام خباط في كتابها " البغاء عبر العصور" عن تعريف مهنة البغاء بإمتاع الباغي الرجل جنسيا، موضحة أن تلك مهنة قديمة ومنذ الأزل قدم الإنسان نفسه، وفي سياق آخر كُشفت كثير من الآثار والرسومات الجنسية لكل من مصر القديمة وروما وحتى اليونان في عهد الإغريق ولعل الإغريق كانوا الأشهر في إشاعة الدعارة وتنظيمها، ففي عهد سولون العظيم الشاعر الإغريقي الشهير قننت الدعارة وأُبيحت من كلا الجنسين وفق قوانين محددة.

وعليه إن العهر بإسقاطه الجنسي يعد من أقدم الممارسات الجنسية التي شاعت منذ تلك العصور.. ولكن ماذا عن اسقاطاته الأخرى؟

في الحديث عن العهر لابد لنا أن نستحدث الحوادث التي هزت التاريخ القديم، حيث أحرق إمبراطور عظيم، لقب بالمجنون مدينته بشعبها وقتل كبار ضباطه، متجاوزا قرار مجلس الشيوخ، بهدف إعادة بناء روما على طريقته الخاصة مثل باب الدوق كما تقول بعض الروايات، في حين تسود أخرى أن نيرون معروف منذ توليه سدة الحكم بالتهور والاستبداد، فقد قتل أمه بناءا على طلب عشيقته، ثم عزل مستشاره وأمره بالانتحار، ولاحقا أمر مدينته بغية بناء قصر ذهبي له ليغطي ثلث مساحة روما.

وبغض النظر عن نية نيرون سواء أكان هدفه إعادة بناء روما أم قصره.. في الحالتين، الغالب لا تبرر الوسيلة هنا، فهل يُبرر العهر كوسيلة لبلوغ تصورات نبيلة يمكن أن يكون ضحاياها آلاف الأرواح؟.. قس على ذلك الكثير من العهر المبطن، بالنبل الذي يُمارس ضدنا في منابر مسؤولينا وقاداتنا وفي شعارتهم وحياتنا على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. عهر بلبوسه القيمي، والأخلاق والأهداف السامية التي ـأتينا من كل حب وصوب، فأين المومياسات من هذا العهر.

إن وصفنا العهر على أنه بيع القيم العليا للفرد، مقابل قيمة مادية دنيا، فهذا ما يمكن اسقاطه على الأخلاق أيضا، فمن يبيع أخلاقه مقابل المال، فهو عاهر ايضا، ولكن من منظور أخلاقي، فمثلا نجد على مواقع الشوسيل ميديا هذه الأيام، هناك من يظهر أمه على الإنترنت، ويقوم بصفعها وإهانتها وذلك لجمع الليكات والمشاهدات التي يدعي أنه يجلب لها المال لإطعام أمه التي صفعها، وما من وسيلة لغير ذلك سواء بالاتفاق مع الأم أم لا؟.. الفيديو حقيقي أو تمثيل للحصول على المال المسمى " لقمة العيش ".. أليس ذلك في الحالتين يسمى عهر بامتياز سواء بالوسيلة أو بالمبدأ.

كذلك أنظر معي مع من تروج لمحتواها عبر تعريها وتمايعها بشكل مقيت وثقيل تحت مسمى " الحرية الشخصية"، وكل إنسانا حر بجسده وحياته، ضاربة عرض الحائط ، حرمة المجتمع وتكوينه النفسي والاجتماعي والأخلاقي.. هذا عهر أم لا؟... قس على ذلك من يقوم بجذب تابعيه عبر عرض أخته باللباس الفاضح ويعمل على مقارعتها بالألفاظ النابية المنحطة هو عهر أم لا؟... ومن تخرج أمام الكاميرات تروي القصص الجنسية أمام الناس مستترة بغطاء العلم أو الدين بهدف لملمة المشاهدات أليست من ذات الصنف؟

ولهذا فحريتك تبدأ عندما تبدأ حرية الآخرين، وكلنا يعرف هذه المقولة، وهذا هو حديث الأخلاق ومنطقها بعيدا عن الدين.. أليس عهرا أن تخدش حياء البشر الذين تتقاسم معهم الأرض التي تعيش بحرمتها الأخلاقية والقيمية، بخطوطها الحمر التي شكلت هويتها وثقافتها وتمييزها عبر تاريخها.. أليس في نشر تلك الفيديوهات والتسويق لها هدم لصورة المجتمع التي تحيا فيه بالحجة تصورك الشخصي للحرية، وما تسميه تمردا وتميزا واختلافا أو حتى سبيلا للعيش، أليس هذا البيع الرخيص للقيم والأخلاق نوع من أنواع العهر؟.. أين المؤميسات من ذلك؟.

من منا لم يصادف موظفا أو مسئولا حكوميا لا يمرر معاملة حكومية إلا بذلك بمبلغ من المال، هذا عهر وظيفي أم لا؟.. من يستغل منصبه الوظيفي أيا كان دوره مقابل مصلحته وبغية إشباع شهواته ورغباته هو عاهر أيضا؟.. والدكتور الجامعي الذي يمص دماء طلابه لشراء محاضراته وكتيباته وهو على يقين بعدم فائدتها أو الذي يبيع أسئلة امتحاناته ويقبص ثمن محصلات طلابه وشهاداتهم، لا يعدوا كونه عاهرا.. وكذلك الطبيب عندما يتاجر بمرضاه ويستغلهم بوصفات دوائية وتحايل مخبرية غير نافعة لإتمام الصفقات مع الصيدليات والمخابر... وأيضا المعلم الذي ينأى عن تعليم طلابه في المدارس ويضطرهم للاشتراك في دوراته ومعاهده.. حتى الإعلامي الذي يبيع قلمه ويقلب الحقائق وينطق بالباطل ويشهد بالزور ويرتهن للمال دون المبدأ، فيميل حيث الكفة تميل هو عاهر ولص.. والممرض والقاضي والمحامي والأمثلة كثيرة فأين عهر المؤميسات من ذلك.

في البحث عن أسباب العهر آيا كان شكله وماهيته، نرى أنه وليد اضطرابات نفسية حياة عند الشخص المصاب وغالبا ما تعود إلى آثارا صدمات عاطفية حادة أثناء الطفولة وهذا ما يجعل لديه نوعا من اضطراب خاص في منظومة القيم وتشوه في بنية العلاقات القائمة مع محيطه.

وغالبا ما ينشأ العهر من الانفصال العاطفي الذي يعيشه الفرد مع نفسه، والانفصال العاطفي هو حالة من الخدر النفسي والروحي التي تصيب الفرد، فتجعله غير قادر على تمييز سلوكياته وأفعاله ما بين الصحيح والخاطئ، والصواب والخطأ مفهومان نسبيان يختلفان باختلاف المجتمعات وبنائها النفسي والاجتماعي والأخلاقي، فالسائد الأخلاقي في مجتمع ما قد لا يكون كذلك في غيره، وعليه فالعهر يتبعه حالة من الانفصال عن الواقع تجعله يعاني مشاعر الذنب والعار والخجل والتي عادة ما تضبط الفرد السوي عن الانجراف خلف السلوكيات الباطلة وتحده بشيء من الأدب والأخلاق.

في كثير من الأحيان قد تكون تلك الطباع الخبيثة والسلوكيات المريضة وليدة التربية أحيط بها الفدر في طفولته، فمعظم بنات الموميسات هم القريبون للمومسة، وكذلك الفساد وانعدام الأخلاق ينتقل بالتربية والتعليم، فمن كان محاطا بعائلة مريضة، وجب عليه أن يسلك سلوكهم، وهل انعدام الأخلاق تورث؟.. في كثير من الأحيان نعم، كما أن المجتمع يلعب دورا مهما في تفشى هكذا أنماط من السلوكيات، فالمجتمع بمختلف ضوابطه هو الذي يحد بشكل أو بآخر من انتشار السلوكيات والأفكار الشاذة، وعند انهيار المجتمعات وضعف سطوتها غالبا ما تنتشر هذه الأنواع وتطغى على المشاريع.

وتعود في الغالب أسباب الفساد الأخلاقي والسلوكي لدى الأفراد إلى البيئة التي ينشأ منها، كما أن هناك عوامل نفسية وشخصية أخرى، فالضعف هو السبب الأساس لهذه الطبائع الخبيثة، ضعف المرء أمام شهواته ورغباته ونزعاته الشخصية دوان مراعاة الصالح العام وتقدير حدودهم واحترامهم، كما أنها تصاحب غالبا الشخصية الانتهازية المتسلقة والتي تسعى إليه مصالحها وإن كانت في معرض مصالح الآخرين، وعلى العموم فإن ممارس هذه السلوكيات والمتطبع بطبائع الفساد لا يملك أيا مفهوم وجداني أو أخلاقي لأن يراجع أفعاله، بل هو كالدواب لا فرق بينهما.

إن العهر في نهاية الحال ليس مقتصر على دور البغاء والعربدة ولا يعد حكرا على البغايا الموميسات وبائعات الهوى وفتيات الليل، بل هو في أساس الحال لطبع أصيل من طبائع النفس الدنية وصفة من أوصاف الشخص الوضيعة، كما أن العهر وإن تباينت لمحاته واختلفت أشكاله يظل واحدا في تركيبته، وواضحا في سماته، وينضوي على بيع المبادئ العليا مقابل الغايات الدنيا، وعلى المرء أن يتفكر في أن العهر ليس منفردا في مجالا واحدا، بل هو ذو أنياب ضاربة في كل مضمار، وأنه وإن غابت مفاهيم الخلق السامية، استشرف واستوحش في كل مجالات الميادين وإن الحل يكمل في نزوع الفرد عن أرضيته البحتة وانتفاءه عن شرورها وعبثها والتوجه بقلبه وروحه نحو السماء بوصاياها السامية لينجوا من شرائر النفس وشياطينها، وغن لكل داء دواء، ودواء النفس كامنا فيها، فاعدلوا في نفوسكم يصلحكم الله، فيرزقكم من بركاته ويرسل السماء عليكم مدرارا ويمدكم بأموالا وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- العهر بأشكاله المختلفة - خبايا السقوط الإنساني / د. مأمون علواني - برنامج إينغما.

2- سامح سليمان: سؤال وإجابه حول مفهوم العهر، الحوار المتمدن-العدد: 4737 - 2015 / 3 / 3 - 14:27

3- فؤاده العراقية: دعارة الجسد هي نتاج لدعارة الفكر، مقال منشور.

4- كرار حيدر الموسوي: فمن يستحق ان يرجم بالحجارة؟ العاهرة أم السياسي بائع الوطن والدين؟.. الحوار المتمدن-العدد: 4959 - 2015 / 10 / 18 - 11:58.

5- سلام خباط في كتابها : البغاء عبر العصور، رياض الريس للكتب والنشر،1992.

تتفرع المعرفة الدينية في إطار الاسلام على الفكر والعقائد من جهة، وعلى التشريع والفقه والاحكام من جهة أخرى، وهذا التفريع يمثل –إلى حدما- ثنائية تحكم الفكر الديني المعاصر، بالأخص في البيئات العلمية الخاصة والمؤسسة لعناصر الفكر الديني، وأقصد بها –في عموم العالم الاسلامي- الحوزات العلمية والجوامع والمدارس والأكادميات المتخصصة، والمثقف الاسلامي لا تحكمه تلك الثنائية كما تحكم العالم المتخصص الذي يمكن أن نطلق عليه (عالم الدين أو طالب العلوم الدينية)، لأن الثقافة تتسم بالشمول والتداخل بنحو عابر للمناهج والتخصصات، لكنها تمتلك رؤية نقدية من شأنها أن تكشف عن بعض مواضع الخلل التي تحصل في بعض مجالات البحث العلمي.

اذن يمكن عد العلوم الدينية على أنها ذات صنفين إما علم بما هو كائن (علوم نظرية: عقائد، تاريخ، فكر، فلسفة اسلامية..)، أو علم بما يجب أو ينبغي أن يكون (علوم عملية علم الفقه والأخلاق..).

ومن بديهيات المعرفة الدينية أن أن الفقه الاسلامي علم تكون عبر مراحل ومستويات وذو خصوصيات تجعل منه علما دقيقا يستند إلى منهج معرفي دقيق في الاستدلال نجد معالمه واضحة في علم الاستنباط أو الاجتهاد الذي يستند بنحو أساس على علم أصول الفقه..

وجدير أن نلحظ أن أول مصادر بناء المعرفة الفقهية واستنباط الأحكام هو القرآن الكريم، كما يجدر أن نلحظ أن عدد آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتجاوز الخمسمائة آية مع المتكرر منها، وهذا العدد الى اليوم يثير تساؤلات عدة، وثمة إجابات عدة أيضا، لامجال للخوض في تفاصيل هذا الجانب.

يكاد يتفق فقهاء الاسلام على أن الأحكام الناتجة عن الاجتهاد والاستنباط هي أحكام ظنية مع كونها حجة بالظن المعتبر، وعلم الأصول تكفل بضمان صحة ذلك الظن –بالأخص عند أصوليي فقهاء الإمامية- في حين يكاد يتفق علماء الإسلام –أو أغلبهم-  على أن العقائد لا تؤخذ بالظنون، ولا يمكن الاجتهاد في العقائد، بل لا يمكن اعتبار الظن في اثبات العقائد، رغم امكانية اعتباره في إثبات أدلة الأحكام الفقهية، ومن هنا يمكن تصور أن مساحة العقائد لا يمكن الاجتهاد فيها على اساس الظنون، ومساحة الفقه والأحكام يمكن لتوقف نظام الناس وأعمالهم ومجمل تصرفاتهم..

واليوم نحن أمام ظاهرة مفادها: يمكن لأي شخص أن يسأل في مجال العقائد، اذا ما وردت في ذهنه شبهة، أو تساؤل، ولو بنحو غالب، بحسب البيئات العلمية ومدى توفر الحرية الكافية لذلك، في حين لا يمكن لأحد أن يتساءل أو يشكك في أي من الأحكام المستنبطة، وبالأخص في حدود الفقه الامامي، لوجود عنصر (التقليد) الذي يوجب على الفرد المكلف اتباع أحد الفقهاء في تنظيم شؤونه واعماله الدينية والدنيوية مما للفقه علاقة ودخل فيها، وتبرير ذلك أن المكلف سوف يلقي مسؤولية عمله على عاتق الفقيه الذي استنبط له الحكم الشرعي، ولكون المكلف غير متخصص في الفقه فليس من شأنه ولا يجب عليه البحث والنظر في أدلة الاحكام التي ترتب شأن أعماله وعباداته..، في حين يذهب بعض العلماء إلى وجوب تحصيل العلم على كل فرد في مجال العقائد دون الفقه والأحكام، وفي هذا المنحي نحو من التخفيف على الفرد المكلف بحيث لا يتم زجه في أمور الفقه لأنها مسائل دقيقة ومعقدة تعتمد على معرفة وإحاطة بقواعد علم أصول الفقه وهو مما يعجز عليه غير المتخصص والمحيط بتلك العلوم، في حين تعد مسائل العقائد متاحة ولو بمستويات متدرجة يُسمح فيها لأي فرد أن يسأل أو يبحث، رغم ارتباطها بالعلوم العقلية..

أعود إلى سؤال المقال في العنوان.. هل في الفقه خطوط حمراء؟؟

بصراحة لا يحبذ رجال الفقه أن يتم الالحاح من الفرد غير المتخصص في السؤال أو التشكيك في حكم شرعي، لأنه غير مكلف بالاجتهاد، وأن الحكم الذي يشكك فيه جاء عن طريق نظر واجتهاد جل من العلماء الفقهاء الذين أفنوا عمرهم في تحصيل أحكام الدين، ولهم الحق في ذلك طبعا، وواقعا، لأن البحث في الأدلة الظنية أعسر وأصعب من البحث في أدلة قطعية التي يستند عليها علم العقيدة..

لكن ذلك ليس مطردا في كل زمان ومكان، ونحن نعيش في عالم تثور فيه المعلومات، وتتحرك فيه مختلف مجالات البحث، والناس تسأل في كل أمر، وفي كل تخصص، وفي كل اتجاه، فلا علماء الفلك بمنأى عن التساؤلات، ولا علماء الاقتصاد ولا علماء الجيلوجيا، ولا الأطباء.. الكل يسأل، والكل مطال بالإجابة..

الانسان المعاصر غير انسان الأمس، فهو في وسط من الأفكار المختلفة والمتعددة والمتجددة، بفضل تطور وتضخم وسائل التواصل وشبكات النت، ورغم سيادة الجهل والتفاهة في فضاءات الميديا والاعلام، تبقى هناك تساؤلات ملحة قطعت شوطا كبيرا من المعرفة بسبب تقنية المعرفة الجاهزة (الحاسوب وشبكات الانترنت)، وهذا يشكل تحديا جديدا لعلم الفقه، لأن وظيفة علم الفقه هي استخراج الحكم من الدليل بعد البحث في الأدلة، وهذه الوظيفة تقدم جوابا لسؤال (ما الحكم الشرعي للمسألة الفلانية)، لكنها لا تجيب عن سؤال (لماذا شرّع هذا الحكم؟)، إذ ليس من وظيفة الفقه أن يحدد علل الأحكام.. في حين السؤال ينقدح ويتجدد في مجال (لماذا هذا الحكم؟) لذا فعلم الفقه مطالب بتهيأة مجال معرفي ساند وظيفته تقديم الإجابات لسؤال (لماذا) بدلا من (ما)..

 وأقولها بصراحة وبدافع الحرص على تلك الجهود التي بذلها ويبذلها الفقهاء في مسارات البحث والتنقيب في أدلة الأحكام الشرعية، ومع ما يشهده الواقع المعاصر من مسائل مستحدثة، جعلت مهمة الفقهيه أصعب من ذي قبل، أقول: لابد من الاهتمام بمجال (فلسفة الفقه)، والاشتغال على الحكم والغايات التي تنتج عن تشريع الأحكام الشرعية، وبرغم الجهود التي بذلت طيلة تاريخ علم الفقه، فإن الحاجة ملحة اليوم إلى تأطير الفقه بإطار قيمي عقدي أخلاقي غير منفصل عن منظومة المعارف الدينية، فإذا كان الفقه في مساره الاستدلالي منفصلا عن علم الكلام والعقيدة فإنه متداخل من ناحية المآل والغاية والنتيجة، والأحكام الفقهية تخلق أنموذجا من المجتمع ذا خصوصيات متعددة تتبع عامل العقيدة من جهة وعامل الفقه من جهة أخرى.

ومع اجتياح العقل المعاصر لكل موانع الفكر، ومع تمرده على مختلف الايديولوجيات، وفي كل الديانات والمذاهب المشكلة ذاتها، مع كل ذلك لابد من إعادة تنظيم إنتاج المعرفة الفقهية بما يناسب حجم الوعي أو التمرد –لنحسبه ما نشاء- وذلك يتاتى عن طريق وسيط معرفي يأخذ على عاتقه ايصال الحكم الشرعي من (المجتهد) إلى (الفرد المكلف)، والإيصال لا يتم بنحو مجرد، بل بنحو يغذي الفرد بما يحيط بالحكم الشرعي من فلسفة ورؤية ونتيجة ينبغي أن تكون في صالح الفرد المكلف في دينيه ودنياه.

إن الذي طرحته ليس جديدا، بل امتداد لما تم طرحه في عقود ماضية من ضرورة مراعاة ما ينتج من معرفة فقهية ومدى مواكبتها للعصر ومتطلباته، وفي حدود تتبعي القاصر شخصت مشكلات عدة في هذا المجال وبعض المحاولات للحل والتصحيح، في كتاب مستقل أسأل الله تعالى أن أوفق في إنجازه.    

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

استعرت عنوان هذه الكتابة من المفكر الأميركي المعروف فرنسيس فوكوياما، وهو مساهمته في الكتاب المعنون «الثقافات وقيم التقدم» الذي حرره صمويل هنتنغتون ولورنس هاريزون. ويدور حول العلاقة الجدلية بين الثقافة والاقتصاد.

من المسلمات الشائعة في نظرية التحديث (وكذا في نظرية التنمية الكلاسيكية) أن الحراك الاقتصادي يؤدي – قطعاً - إلى تحولات ثقافية. أقول إنها مسلّمة شائعة؛ لأنني أقبلها من جهة، وأتحفظ على تفاصيلها من جهة أخرى. وقد شرحت هذا بقدر من التفصيل في دراسة سابقة. لكن هذا التحفظ لا يقلل أبداً من قيمة الحجج التي بنيت عليها تلك النظرية.

على أن هذا ليس موضوعنا اليوم. فغرضي هو الإشارة إلى الاتجاه المعاكس، أي تفصيح السؤال المهم: هل يمكن للثقافة أن تغير الاقتصاد، كما أن الاقتصاد يغير الثقافة؟

حسن.

لماذا نعدّ هذا السؤال مهماً؟

من البديهيات أن الأمم تبجل ثقافاتها، وتعدّها جزءاً اساسياً من عناصر تمايزها وافتخارها على الأمم الأخرى. لو قرأت أياً من أعمال المفكر الهندي أمارتيا سن، فقد تلاحظ أنه يعدّ الثقافة الهندية موطن الحكمة في تاريخ العالم. ويعدّ العرب أنفسهم أعلى الأمم كعباً، ولغتهم أوسع اللغات وأغناها. وهكذا يفعل المنتمون إلى سائر الثقافات.

لكن هذه الثقافة التي نفخر بها، قد تكون هي بالذات معيقة للتقدم أو مثبطة، أو تكون - على العكس من ذلك - محركاً للتقدم، إذا عززت حس المغامرة والاكتشاف والمسؤولية والتعاون.

وقد تحدث الكثير من الكتاب عن هذا الموضوع. ونشير مثلاً إلى مقدمة ابن خلدون الذي كتب عن العرب والأقوام التي عرف بها أو سمع عنها. لكن أبرز من طرح هذا الموضوع للتحليل العلمي، هو - على حد علمي - ماكس فيبر في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية». قدم فيبر مقاربة تجريبية - تفسيرية، تقارن بين الحراك الاقتصادي في مجتمعين، حيث توصل إلى أن العقيدة البروتستانتية، ولا سيما في نسختها التي تنسب للراهب الإصلاحي جون كالفن، وفرت منظومة مؤثرة من القيم والمعايير المحفزة للنشاط الاقتصادي الإبداعي، في مقابل الكاثوليكية التي مالت لاحتقار العمل الدنيوي، وتمجيد العمل الذي يعيد الإنسان لحياته في العالم الآخر، بعد أن يموت.

واجهت طروحات فيبر معارضات شديدة، لا سيما بسبب ما قيل عن انطلاقها من الإيمان بالمركزية الأوروبية. لكنها - رغم ذلك - شكلت بداية قوية لدراسة العلاقة بين قوة الاقتصاد في بلد ما وبين تكوين العقل الجمعي لسكانه.

- حسن... ماذا عنا؟

- هل نستطيع الجزم بأن الثقافة السائدة في مجتمعنا محفزة للتقدم أو العكس؟

أعتقد أن هذا من نوع الأسئلة الخاطئة التي ربما تفتح الباب أمام نقاشات غير مفيدة. ذلك أن كل ثقافة تحوي عناصر من هذا النوع، وعناصر مضادة. وإذا قلت - مثلاً - إن الثقافة الفلانية مثبطة أو معيقة، فربما تبعد الأنظار عن الأجزاء الإيجابية فيها، وتستثير شعوراً دفاعياً أو تبريرياً بين أتباعها، بدل النقاش الواقعي الذي يستهدف تحليل المشكلة وكشف أطرافها.

هنا نأتي إلى أخينا فوكوياما الذي اهتم بتلك الأجزاء فحسب، وهو ما أطلق عليه «رأس المال الاجتماعي» وهو مجموع القيم والمفاهيم والمعايير التي تشكل ثوابت في الثقافة العامة لبلد ما، أي نواظم ومحددات ما أسميناه «العقل الجمعي». هذه ثوابت يشترك فيها أهل البلد كافة، وتمثل أساساً للتفاهم والتشارك في ما بينهم، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار، ومن هنا فهي تخلق نوعاً من الفعل الجمعي المنسجم، الذي يمكّن النظام الاجتماعي من العمل بكفاءة اكبر.

كل واحدة من القيم والمعايير والمفاهيم المؤثرة في تكوين الكتلة الاقتصادية، أو التعاون في الأعمال، تشكل موضوعاً للنقاش، وتحديد دورها، سلبياً كان أم إيجابياً، هو الذي يعيننا على تحديد موقع ثقافتنا العامة، ضمن جبهة التقدم أو العكس. ولنا عودة للموضوع في قادم الأيام.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

تستعمل هذه المقالة مفهوم "الاستراتيجية"، الذي يُوظف في مجموعة من الحقول المعرفية، بما يحمل من حمولة غنية بالدلالات، كالتنظيم والتخطيط، وحشد الموارد، وتحديد الغايات (...) أما الخطاب فنقصد به مجموع ما قاله ويقوله طه خطابيا، وما يكتبه من نصوص أو متون، تحمل مضونا أو رسالة تقترح على المتلقي نمطا في الحياة؛ اجتماعيا وسياسيا اقتصاديا.

تتعلق الاستراتيجية بالمعنى السالف بالمشاريع ذات الطابع المادي، كم تتعلق أيضا بالمشاريع ذات الطابع الثقافي، وإلى هذا الصنف ينتمي خطاب طه؛ لذا اختارت المقالة موضوع:"الاستراتيجية الخطابية" التي يعتمدها طه عبد الرحمن لخدمة غايات هي سقف خطابه.

يوظف طه عبد الرحمن ترتيبات، ويعتمد خططا، كما يحشد موارد تأخذ القارئ إلى الغايات التي يريدها تتقوم باعتماد أساليب انشائية محكمة، وتوليد بنية مفهومية كثيفة، وهندسة خطابية صورية محسوبة؛ فقد تحول الخطاب الانشائي عنده، بوصفه منجزا لغويا، إلى سلطة فوق العادة؛ إذ تكاد سلطته اللغوية، والصورية المنطقية، تختزل، إن لم نقل تلغي جميع المكونات التي يتوسلها الخطاب في التبليغ والارسال، مثل البرهان، والانطلاق من الواقع والتأسيس عليه، والاعتماد على التاريخ (...)

وتتعضد هذا الموارد الخطابية، التي تبني "السلطة"، والتي تتحول في النهاية إلى "حجة" لتقرير غايات الخطاب، مثل كثرة التأليف، وتوليد المفاهيم والمصطلحات بشكل مبالغ فيه، وكثرة الكلام عن الفلسفة وتقنيات التفلسف والاقدار عليه (...)؛ وفي المقابل نقد التبعية والتقليد في مجال الفلسفة. لكن القارئ إذا استطاع تجاوز هذا الخطاب الكثيف وطبقاته الانشائية والمفهومية والصورية، واخترقها باتجاه الرسالة؛ أو لنقل المحتوى والمضمون، فسيكتشف شيئا آخر؛ وهو أن الأستاذ طه يكرس عكس ونقيض مضمون الخطاب؛ فهو يستعمل الخطاب ويكرس نقيض مضمونه؛ يتحدث مثلا عن الابداع ويكرس عدم الاقتدار، ويتحدث عن التجديد ويخدم بنفس الخطاب التقليد، ويتحدث عن الحرية ويكرس التبعية والوصاية، ويتحدث عن التأهيل المعرفي للثقافة ويكرس الاخصاء الفكري (الاختلاف الفكري: 90)، يكثر الكلام عن الفلسفة والتفلسف ويكرس سلطة التصوف الطرقي بوصفه؛ ليس مجرد فلسفة، بل باعتباره متفوقا على الفلسفة إلى درجة يتخذها موضوعا لنقده وتقويمه والكشف عن أسراره، وهو الذي يسميه: "فقه الفلسفة" (فقه الفلسفة 1: 26-29- إذ "يعلو" هذا "الفقه" على الفلسفة. (نفسه: 31).

وفي مجال التراث يلجأ إلى خطاب التعظيم والتبجيل وادعاء التفوق القيمي والفكري والمعرفي (تجديد المنهج: 9)، ولكنه في المقابل يغيب المحتوى والمضمون، فلا يشتغل على قضايا أو موضوعات محددة تعكس العظمة والتفوق والكمال، يقول معترفا منهجيته في تقويم التراث: "آلية لا مضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعا" (: تجديد المنهج: 421). أما إذا وقع ضحية "سحر" الخطاب وكثافته، فإنه لن يتأت له ذلك، لأن سلطة الخطاب تتحول إلى حاجز مانع بينه وبين الرسالة والمضمون الذي يحمله.

وسنخصص هذه المقالة لخطاب طه عن الفلسفة؛ إذ يدعي أن ما يكتبه يتأطر ضمن حقل الفلسفة والتفلسف، وتقوم "استراتيجيته" في هذا السياق على مجموعة من الخطوات نجملها في الآتي: 1-نقد واتهام المشتغلين بالفلسفة في الثقافة الإسلامية قدماء ومحدثين. 2-القول بخصوصية الفلسفة اليونانية، وبأنها مجرد امكان واحد من إمكانات فلسفية كثيرة. 3-اتهام الفلسفة الحديثة بالاقتباس المتنكر من الدين، وبالفشل في تحقيق ما وعدت به الإنسان بسبب انفصالها عن الدين. (فقه الفلسفة 1: 184).

ويتبع في هذه الاستراتيجية طريقة "النقض و الهدم"؛ يمهد به لطرح ما يعتبره بديلا؛ والبديل الطهائي الجاهز هو "التصوف الطرقي"؛ فهو يتهم المنتسبين إلى الفلسفة في العالم العربي الإسلامي اليوم بالتقليد، وبنقص التحصيل وبعدم التمكن من الفلسفة وآلياتها المنطقية، وبالعجز عن الإنتاج والابداع، وينتهي إلى ادعاء أنه يعمل هو على ملء الفراغ بالتنظير للإبداع وتعليم هؤلاء تقنيات انتاج الفلسفة (فقه الفلسفة 1: 507)، ليصل بعد ذلك إلى تمرير إمكانية تعايش الفلسفة مع التقليد، في المرحلة الأولى، وبعدها يمرر فكرة اخضاع الفلسفة للتقليد تحت عنوان "فقه الفلسفة" في المرحلة الثانية. (تجديد المنهج: 290-291). يقول في سياق الرد على الاعتراض على فعل إخضاع الفلسفة، واتخاذها موضوعا لغيرها من المعارف: "فقد وضحنا كيف يكون النظر في الفلسفة أشرف من الفلسفة، وكيف تكون المعرفة الطبيعية، أوسع من المعرفة الفلسفية"، ولهذا يمكن أن تتحول إلى موضوع لعلم "ينزل رتبة فوقها ويتسع لما لا تتسع هي له". (فقه 1: 18-19)

يقوم بذلك من موقع الأستاذية، أو لنقل "الشيخ" الذي أصبح يحمل في سياق كلامه عن الفلسفة والتفلسف، اسم "فقيه الفلسفة"، فيكون هو "شيخ الفلسفة"، والمشتغلون بالفلسفة هم مريدوه؛ "ففقيه" الفلسفة يدرك ما لا يدركه الفيلسوف من أسرار فلسفته، والأسباب التي يتوسلها في إنشائها، ويتهمه بسبب ذلك بـ"العمى الفلسفي". (فقه الفلسفة 1: 19-20)

وفرضت عليه إيديولوجيا "التقليد" التي يخدمها في العمق تحت عنوان مقولة "مجال التداول"، مواقف ملتبسة، أو لنقل غير صريحة من الفلسفة؛ ففي السياق الإسلامي يعترف تارة بأن الفلسفة منقولة إلى الثقافة العربية الإسلامية، إذ لم تعرفها هذه الثقافة، أو بعبارة أستاذه الشاطبي "ليست من معهود العرب" الفكري والمعرفي (فقه الفلسفة 1: 83- 348)، وتارة يقول بوجود "فلسفة" تحملها العلوم الإسلامية، ويحمل الترجمة مسؤولية تعثر الفلسفة في الثقافة (فقه الفلسفة 1: 84)، وفي سياقه يعمل على "التنظير" للترجمة، وفي العمل تتضح غاية من غايات خطابه وهي "اخضاع" المنجز الفلسفي للآخر لما يسميه "مقتضيات مجال التداول"؛ أي للتقليد.

وسيلاحظ القارئ اضطراب موقف طه ذاك، وتحديدا بين القول بجود فلسفة في المعارف الدينية، وبين كون الفلسفة منقولة إلى الثقافة، وأن المنقول طغت عليه التبعية والتقليد، في المفاهيم والمضامين؛ ومن هنا الحاجة إلى إعادة النظر في الترجمة، التي ينبغي أن تكون "ترجمة تأصيلية"؛ يخضع فيها المنقول الفلسفي لأيديولوجيا "مجال التداول"، فيصبح المنقول الخاضع، أو بعبارته "المأصول"، "جزءا" فاقدا لهويته الفلسفية الأصلية، فنصل في الحصيلة إلى نتيجة أن العلوم الإسلامية: "فلسفة" يمكن الاستغناء بها عن أي منقول فلسفي، وهنا لا نستغرب أن طه عبد الرحمن صرح بهذا في أكثر من كتاب؛ منها قوله، في سياق الدفاع وتبرير رفض الفقهاء للفلسفة وتحريمها، مخاطبا المتلقي العربي المسلم: "كما أن هذا المتلقي يعرف أن من أهل مجاله التداولي، سواء من تقدموه أو عاصروه، من لم يكونوا يجدون  حاجة إلى هذا المنقول ولا توقفوا في نظرهم ولا عملهم عليه، بل كان بين أيديهم من العلوم ما كان فيه غناء عن هذا المنقول الفلسفي، هذا، إذا لم يتعاطوا إلى إظهار فضل العلوم الإسلامية على ما سواها من المعارف، ويصيروا إلى القدح في علم من يلتفت إلى هذه المعارف المنقولة". (فقه 1: 224)

كما أخذته الحساسية من النقد الذي تعرضت له ترجمته "للكوجيطو"، إلى الإفصاح عن موقفه، تحت ضغط الانفعال يقول مخاطبا منتقديه: "أما نحن وأنتم فلسنا من هؤلاء المتخمين والمغرقين، ولا هذه الفلسفة المتخمة المغرقة تصلح لنا ولكم؛ فزمانهم ليس زماننا ولا دنياهم دنيانا(...) فنحن بضد فلسفتهم أولى منا بعين فلسفتهم، ألسنا إلى فلسفة الجياع أحوج منا إلى فلسفة الشباع". (فقه الفلسفة 2: 25)

ويقول في سياق هذا الموقف أيضا: "لا يمتنع من حيث المبدأ أن تقرر أمة ما الخروج من عن العقلانية المجردة المألوفة، وتصطنع مناهج وأدوات تتسم هي الأخرى بالعقلانية، ولكنها لا تتوسل بالمقولات المجردة، إذ يكفي أن تكون هذه المناهج والأدوات قادرة على تحصيل المعرفة وتبليغها". (العمل الديني: 49)، ويقصد هنا مناهج العلوم الدينية ذلك: "أن التصنيع الفلسفي ليس موقوفا على الآلات اليونانية، وإنما يشمل غيرها (...) جاز أن يوجد هذا التصنيع في أمة العرب بغير الطرق التي وضعها الإغريق وفي غير الميادين التي خاضوا فيها (...) ولا يبعد أن نجد آثار هذه الصنعة حيث وجدت مظاهر النظر العقلي عندهم، ومعلوم أن هذه المظاهر لم تستقل بها المعارف المنقولة التي اشتهرت (...) تحت اسم واحد هو: "الفلسفة"؛ وإنما شاركتها فيها المعارف المأصولة التي اختص المسلمون بوضعها من علوم فقه وعلوم عقيدة وعلوم لغة". (فقه الفلسفة :2 113-114)

ويقول مؤكدا: "والتفلسف، على الحقيقة، إنما هو القدرة على التوسل في الأمور بالأسباب الاستشكالية والاستدلالية، فإذن وجود هذه القدرة في علوم الفقه والحديث والتفسير يوجد فيها فلسفة كما أن وجودها في التصوف وعلم الكلام وأصول الفقه وعلوم النحو واللغة والبلاغة يوجد فيها هي الأخرى فلسفة". (نفسه: 114)

أسس هذا كله، بعد أن مهد له بالقول أن الفلسفة إمكانات متعددة، وليس إمكانا واحدا هو الإمكان الإغريقي قديما، والإمكان الغربي حديثا؛ وهذا الإخراج هو الوجه الآخر لما قرره بشأن الحداثة بأنها ليس واحدة، وإنما حداثات، إذ لكل ثقافة حداثتها(روح الحداثة: 16 ) يقول: "التحقيق أن باب التفلسف ليس واحدا لا يدخل فيه إلا من احتذى حذو اليونان حذو النعل بالنعل، وإنما التفلسف إمكانات متعددة ليس النموذج اليوناني إلا إمكانا واحدا منها، غير أن الإمكانات الأخرى أصاب بعضها ابتلاء الزمان، فاندرس اندراسا، وغلب على بعضها النموذج اليوناني، فقضى عليه في مهده قضاء، أما بعضها فقد وقعت نسبة نمطه في التفكير إلى غير التفلسف (...)".(فقه الفلسفة 1: 23)

لم يشتغل طه على إثبات الدعوى وتحقيقها، كما يقتضي منطق الاقناع، ففضل الهروب من الدعوى الكبرى بقوله: "لا يعنيننا هنا تقصي مداخل النظر الفلسفي في العلوم الإسلامية العربية". (فقه 2: 114) واكتفى بعرضها بصيغة الاحتمال، بعدما حكم بشكل حاسم بوجود الفلسفة في المعارف الدينية يقول: "يجوز أن تتضمن الصنعة الفلسفية في المعارف المأصولة آليات وقوانين لتصنيع الفكر الفلسفي لم يتوصل إليها اليونان". (نفسه: 115)

إن لعبة الإخضاع، التي يسميها "التأصيل" تصل بنا، بعد كثرة الإنشاء عن الفلسفة والتفلسف، إلى حيث نحن ههنا، وإلى حيث كنا في زمن مضى؛ إذ نكتشف أن ما بين أيدينا من معارف إسلامية: "فلسفة"، استغنى بها "أسلافنا" عن الفلسفة الإغريقية، ونحن كذلك، واقتداء بمن يمثلهم في زماننا وعصرنا؛ أي طه عبد الرحمن "بضد فلسفة عصرنا أولى"، كما نص عليه سابقا.

يعود بنا طه، من جديد، إلى حيث نحن، بعد مسار إنشائي آخر في سياق الكلام عن الفلسفة والتفلسف، عبر الترجمة التي حسم خياره بتقدم ما يسميه "الترجمة التأصيلية" على غيرها من الترجمات، التي تقوم على حق المترجم في إخضاع المتن المترجم لأيديولوجية "مجال التداول"، وتوظيف كل ما هو متاح له من آليات الإخضاع؛ من تغيير وحذف وتحوير، إلى الدرجة التي يمحى فيها أي أثر يدل على أصله ومصدره (تجديد المنهج: 291-298 ويصرح بفعل الخضوع في، ص: 313).

يحصر طه "الابداع" الفلسفي في فعل الإخضاع هذا، وبجعله هذا القسم من الترجمة في الرتبة الأولى التي يتعين على المترجم العربي المسلم الاشتغال عليها، يخرق المبدأ التربوي والبيداغوجي، الذي يقتضي مراعاة وضع المترجم والمترجم له في السياق العربي الاسلامي، والذي يعترف هو نفسه، أن هذا المترجم والمتلقي سوية، هم في طور تعلم الفلسفة (فقه الفلسفة 1: 376)؛ فكيف يتأتي له فعل التأصيل-" الإخضاع" وهو في هذا الطور؟ لا علينا لنرى الآن المنتوج الذي ولد من رحم "الترجمة التأصيلية" لطه، وهو ترجمة "الكوجيطو" وهي "انظر تجد"، أليس هذا المنتوج عود بنا إلى حيث كنا وههنا؟ حيث كشف لنا طه أن "الكوجيطو" هو "نحن-التصوف"؛ فنكون من جديد، في غنى عن معرفة كوجيطو ديكارت فهو قاصر (روح الحداثة: 63)، حيث المطلوب منا ولنا، ليس إثبات الذات واقتدارها، وإنما هدرها وسحقها لأنها أنانية ومنازعة.

وتثرى كشوفات "العود" الطهائي، من مسار خطابي مواز للإنشاء حول الفلسفة، يتصل بنظرة طه إلى الإنسان وإلى الآلية التي بها ينتج الإنسان الفكر والفلسفة وهي" العقل"، وفي سياق هذه النظرة تفرض أسئلة نفسها منها هل الإنسان مسلوب الإرادة والحظوظ (الحقوق) (العمل الديني: 135) والفاعلية يقدر على الفعل، بله فعل الإبداع؟ إنسان طه لا إرادة له ولا فاعلية ولا حظوظ له (العمل الديني: 136-144)؛ وتبعا لذلك، فعقله قاصر وغير مستقل بالإدراك (العمل الديني: 43+ الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري: 23-24) لذا لابد من تجاوزه إلى "طور إدراكي يفوقه"، ويمهد، بهذا الموقف، الطريق للقول بوجود "عقل" متعالي عن العقل الطبيعي الذي يشترك فيه ويمتلكه جميع الناس، والذي يسميه ب "العقل المؤيد"، ويجعله في الرتبة الأولى في تقسيمه الثلاثي، الذي تظهر عليه علامات رد الفعل على التقسيم الثلاثي للمرحوم الجابري.

ما يهمنا في سياق هذه المقالة، هو أن طه عبد الرحمن يعود بنا من جديد إلى "نحن" حيث هي؛ أي إلى "نحن- عقل الصوفي"، الذي يجعلنا في غنى عن "العقل"؛ إلى حيث نحن مجرد "أتباع" لـ"عقل"؛ هو قطعا ليس هو عقلنا الذي لنا بوصف كل واحد منا إنسانا كامل الإنسانية.

يقوم مشروع طه إذن على العودة بنا إلى حيث كنا؛ فأخطاء ما كنا عليه أقوم وأنفع من صوابنا (تجديد: 82)، ولا نقبل من العلم إلا ما كان موافقا "للنحن" الماضية؛ أي لأصول مجال التداول (نفسه: 85) واقتضى منه ذلك تحديد مهمته في العمل على إخراجنا من العقل إلى "طور إدراكي متفوق عليه" (فقه الفلسفة 1: 180-185)، وإخراجنا من عصرنا الروحي الذي لا ينبغي لنا غيره (سؤال الأخلاق: 80-110-112)؛ كل هذا يتم تمريره أثناء إنشاء خطاب وكلام كثير حول الفلسفة وباسمها.

فرضت مهمة "إظهار ما عظم من التراث المتفرد" على طه (تجديد المنهج: 9)، والدفاع عنه (تجديد المنهج:12+العمل الديني: 18)، في المقابل مهمة أخرى تتعلق بالعقل وبالبرهان وبالمنطق وبالفلسفة، وهي مهمة العمل على نقضها والتشكيك في قدرتها، وادعاء قصورها، إذ هي شرط لتمرير المهمة الأولى التي أخرجها تحت عنوان ادعى له الصفة الفلسفية وهو "الإئتمانية"؛ وهكذا سنكتشف مع الأستاذ طه أن العقل قاصر (العمل الديني: 43، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري: 24)، وأن منحه الحرية في البحث والتفكير يؤدي إلى الفوضى والتسيب (فقه الفلسفة 1: 183)، وأن مقدمات البرهان غير يقينية، وبالتالي نتائجه كذلك غير يقينية (فقه الفلسفة 1: 189)، وأن أقوال الفلاسفة مجرد ظنون، وأدلتهم صروح واهية (فقه الفلسفة 1: 217)، وبعد عملية الهدم هذه؛ يسميها "استئصالا" (فقه الفلسفة 2: 12)، يبني على أنقاض المهدوم؛ فيصبح "العقل المؤيد" الذي هو: "عقل أعلى من العقل المعلوم قادر على إدراك الحقائق التي لا يدركها هذا العقل المألوف" (روح الحداثة:51)، بديلا عن العقل، والجدل الكلامي بديلا عن البرهان؛ فالأول أغنى وأوسع، والثاني فقير وغير مقنع (أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 40-60)، والمنطق الطبيعي بديلا عن المنطق الصناعي لأن: "أصول الفلسفة طبيعية وليست صناعية" (أصول الحوار وتجديد علم الكلام: 60)، و"الإئتمانية" الصوفية الطرقية بديلا عن الفلسفة؛ فيتحقق لنا العود إلى الذات الغنية المكتفية والمستغنية فـ: "الإئتمانية تستغني بثراء رصيدها الديني عن تقليد المفاهيم العلمانية" (المفاهيم الأخلاقية 1: 184)، ففيها غناء عن العقل والبرهان والمنطق والفلسفة، التي لا يمكن أن تكون جميعها، في هذا السياق، إلا نتاج "مجال تداولي" آخر يقول في كتاب: "روح الحداثة": "نذكر القارئ بأن المدخل الثاني هو إعادة اكتشاف الذات". هامش، ص: 148.

ونود في ختام هذه المقالة الإشارة إلى أمرين؛ أولهما يتصل بحصولي، من صديق عزيز، على ملف كامل يحتوي على مقالات نقدية، وتقارير وندوات حول كتاب: "ثغور المرابطة" للأستاذ طه، تتقاطع نتائجها وخلاصاتها مع نتائج عملي النقدي الذي أشتغل عليه؛ فقد كان الكتاب بالنسبة لكثير من أنصار الرجل سببا لفك الارتباط معه ومع فكره؛ إذ كشف الكتاب، في رأيهم، حقيقة مشروحه الخطابي الذي هو أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى أي شيء آخر علمي أو فكري أو فلسفي.

وتعززت أيضا بصدور عمل نقدي قائم بذاته، في الأيام الأخيرة بمدينة أكادير، يحمل عنوان: "الدين والسياسة من السائلية إلى المسؤولية: نقد الأطروحة الإئتمانية لطه عبد الرحمن" لمؤلفه عبد السلام أقلمون؛ وما يهم في العملين في سياق هذه المقالة، هو تأكيد وتعضيد أطروحتها المتعلقة "بتوظيف سلطة الإنشاء والخطاب" لخدمة ما يسميه مؤلف الكتاب المشار إليه بـ "العتاقة" (ص:6).

ثانيهما ننوه فيه إلى أن قلم الأستاذ طه لم يتأت له الكثير مما رقنه، لولا شروط أربعة، هي بمثابة مبادئ لأشغاله وخطابه وهي:

1-تجاهل التاريخ وتغييبه؛ تاريخ التراث، وتاريخ الثقافات، وتاريخ الدين أو الأديان، ويكفي أن نمثل له بطريقة مقاربته لحدث تراثي كبير يتعلق بحدث "جمع القرآن". (المفاهيم الأخلاقية: 239)

2- تجاهل وتغييب الواقع العربي الإسلامي؛ فرغم ما يعرفه واقع المسلمين من تخلف وانحطاط وضعف (...) ينيط بهم مسؤولية "تخليق" العالم، بدعوى أن الزمن الاسلامي هو زمنهم الأخلاقي والروحي الذي ظهرت فيه الحداثة.

3-موقفه من العقل، كما سبقت الإشارة إليه، ويبقى ما اوردناه بخصوصه مجرد أمثلة، ونضيف هنا نصا يكشف سبب هذا الموقف ومن المنطق عامة يقول في كتاب: "تجديد المنهج": "وإذا نحن تبينا الآفات العقدية الثلاثاء التي يقع فيها المنطقي (...) ووضعنا في الاعتبار إمكان تعرضه لأكثر من آفة واحدة، بل إمكان دخول أعظم آفة عقدية عليه، وهي آفة الجحود، أدركنا كيف أنه يخشى على الأصل التداولي العقدي من الممارسة المنطقية: أليست هذه الممارسة تفقده قوة الاشتغال التي تكون جانب التسديد العملي من العقيدة. ولا بدع حينئذ أن توجه إلى المنطق انتقادات تنسبه إلى القرمطة وأن يتعرض صاحبه إلى التهمة بالزندقة". (ص: 324)

4-الإشتراط على العلم بضرورة الموافقة لأيديولوجية مجال التداول؛ وهو بهذا الموقف، يعيد نفس الشرط الذي وضعته السلفية القديمة في وجه "الرأي" و"العلم" والذي صاغه أبو اسحق الشاطبي بشكل صريح، وهو أن أي "علم لا يقبل إلا أذا كان جزءا من "معهود العرب" يقول: "فكل العلوم، نقلية كانت أم عقلية، يجب أن تكون خادمة للحقيقة الغيبية، وكل مشتغل بهذا العلم أو ذاك، لابد أن يصل إلى إدراك جانب منها، وأن يستزيد التقرب منها، وإلا كان علمه غير خادم للمقصود الأصلي منه، وكان لا يستحق أن يوصف بوصف العلم النافع، حتى إن الباحث المسلم يكون مطلوبا أن يخرج معارفه والنتائج العلمية التي يتوصل إليها على مقتضى دلالة هذه الحقيقة الإلهية". (العمل الديني: 149، سؤال الأخلاق: 189).

جعلت هذه المبادئ طه عبد الرحمن في حل من القواعد التي يقتضيها الاشتغال العلمي، فأخذ يؤسس الدعاوى، ويصدر الأحكام، واعتبار ما يريد هو "مسلمات".

***

حسن العلوي، كاتب مغربي

كان يقال ان إيمانويل كانط لم يقرأ أي كتاب مرتين، باستثناء كتاب " بحث في الفهم الإنساني " لديفيد هيوم - ترجم الكتاب الى العربية باكثر من ترجمة ابرزها ترجمة موسى وهبه بعنوان بحث في الفاهمة البشرية - ، وقد قال عنه انه ايقظه من غفوته.عندما صدر كتاب هيوم عام 1748 كان كانط يبلغ من العمر اربعة وعشرين عاما.عاش حياة منظمة وشديدة الصرامة، كان يحتفظ بالكتب في مكانين اثنين، غرفة الطعام، حيث خصص بها مساحة لتخزين بعض الكتب التي يقرأها اثناء تناوله قدح الشاي في الخامسة صباحا، أما المكان الثاني فكان خزانة خشبية كبيرة، تحتل جدارا كبيرا في غرفة المكتب، في اوقات الظهيرة يتمدد على كرسي ليقرأ، وكان مهتما بقراءة الصحف كل يوم، مع قراءة كتب في الرحلات والعلوم الطبيعية والطب. الخزانة مليئة بالكتب الفلسفية والعلمية ونسخة من رواية دون كيخوته مترجمة الى الالمانية، ونسخة قديمة من كتاب " المبادئ " لاسحاق نيوتن. وفي غرفة النوم يضع كتب روسو ودبفيد هيوم قرسريره، حيث يقرأ ساعة قبل النوم، وفي الاثناء يسجل في اوراق بعض الملاحظات.

في العشرين من عمري بدأت اتلمس الطريق الى فلسفة إيمانويل كانط، عندما حصلت على نسخة من كتاب زكريا ابراهيم " كانت أو الفلسفة النقدية "، وهو الكتاب الاول من سلسة عبقريات فلسفية، وكنت اجد كتب زكريا ابراهيم مؤثرة جدا، لم تكن لي فكرة مسبقة عن كانط، سوى انني تعرفت على اسمه للمرة الاولى من خلال مقال نشرته مجلة العربي بعنوان " امانويل كانط " كتبه محمد فتحي الشنيطي، ربما ذكرت سابقا ولعي بكتب الفلسغة، إلا ان السيد كانط لم يجد له مكانا ضمن اهتمامي، رغم ان كتبه موجودة في المكتبة، التي اعمل فيها ونادرا ما يتجرأ احد الزبائن ويطلب نسخة منها. مجلدات ضخمة الحجم بعناوين غريبة " نقد العقل المجرد "، " نقد العقل العملي "، احيانا اقول لنفسي كلما انظر الى هذه المجلدات،هل ساتمكن يوما من قراءتها، وهل ساستمتع بكتابات كانط ؟، وبالطبع فانني وضعت هذا الافتراض قبل ان اقرأ كلمة لهذا الفيلسوف. ذات يوم سأمد يدي الى الرف لاتناول نسخة من كناب " نقد العقل المجرد "، جلست في زاوية من المكتبة اتلصص على الزبائن وأنا اقلب صفحات المجلد، اقرأ في المقدمة التي كتبها المترجم احمد الشيباني عسى أن اعرف سر من اسرار هذا الفيلسوف، وجدت المترجم يخبرني ان كانط استخدم كلمة مجرد لأنه:" يرى في كتابه هذا ان العقل هو، في نشاطه الرئيسي ونزوعه الجوهري، مجرد من الحس، ومتحرر من الحساسية " – نقد العقل المجرد طبعة دار اليقظة العربية 1965 – وقبل أن أتيه في دوامة الحس والحساسية انتهبت على صوت صاحب المكتبة يطلب مني أن البي طلب احد الزبائن. كنت امني النفس ان افهم ما ذا يريد السيد كانط من كتابه الضخم هذا، والآن ربما زكريا ابراهيم يأخذ بيدي، ويطمأنني أن لاشيء يدعو للخوف، من هذا الفيلسوف الذي يصفه مقال مجلة العربي بأنه رجل غريب الاطوار.

في المكتبة كنت ارى بعض الزبائن يطلقون اوصافا على بعض الكتب، منها صفة عظيمة والبعض الآخر يراها ممتعة، فيما البعض يقع في حب مؤلف إلى حد البحث عن جميع كتبه، وقارئ يحاول ان يجمع طبعات نادرة من مؤلفات كاتبه المفضل. وكنت أسال ما الذي يجعل هذا المؤلف عظيما ؟، فقد كانت كتب " كانط " برغم قلة مبيعاتها إلا انها كتب مبجلة عند الزبائن الذين يهتمون بالفلسفة والادب، ايقنت حينها ان الجميع بالتاكيد قد اطلعوا عليها، إلا ان اخبرني ذات الروائي الراحل فؤاد التكرلي وكان من زبائن المكتبة، من ان بعض الكتب تحتل مكانتها المتميزة ليس لأن الجميع قرأها وفهمها، أو انها كتب ممتعة، بل لأنها مارست تاثيرا على مسيرة الفكر البشري، فالكاتب العظيم ليس مهما أن يكون ممتعا.وسيؤكد زكريا ابراهيم ان كتب " كانط " رغم صعوبتها هي الفلسفة ذاتها لانها تحمل في صفحاتها " تساؤلات واستفهامات "، اما عن كتابه الذي تورطت به يوما " نقد العقل المجرد او المحض " فها هو زكريا ابراهيم يؤكد شكوكي حيث يقول انه جاء:" حافلا بالاصطلاحات، وشتى ضروب التكرار، حتى وقع في ظن الكثيرين انه أعسر كتاب فلسفي ظهر في العصور الحديثة " – زكريا ابراهيم كانط الفلسفة النقدية -  

كان صاحب الكتاب الشهير " قصة الفلسفة " وول ديورانت يحذر قراء إيمانويل كانط من السير اليه بشكل مباشر، فهو كما يصفه " عقل لا يمكن حلّ ألغازه، ولهذا فان الطريق اليه يجب أن يمر اولاً عبر الكتب التي كتبت عنه:"، وأن يكون آخر ما نقرأه هو ما كتبه كانط نفسه " – قصة الحضارة ترجمة احمد الشيباني –. يُذكر ان شوبنهاور كان يردد ان فلسفته " استلهمت استلهاماً ثميناً كتابات كانط "، وظل طوال حياته مغرما بكتاب " نقد العقل المجرد "، وصفه بأنه اعظم كتاب في الفكر الالماني، فيما بعد سيعتبر نفسه الوريث الشرعي لفلسفة كانط، وانه وحده الذي يملك الحق بتصحيحها وتقديمها وتكملتها – نقد الفلسفة الكانطية ترجمة عبد الحميد لشهب –

كان الابن الرابع لعائلة تتكون من تسعة اطفال، مات ثلاثة منهم وهم صغار، عاشت العائلة في جو ديني متشدد.ولد إيمانويل كانط في الساعة الخامسة صباحا من يوم الثاني والعشرين من نيسان عام 1724، في مدينة كونيغسبرغ والتي كانت جزءً من المانيا، تأسست في نفس السنة التي ولد فيها كانط من تجمع ثلاث مناطق سكنية، عاش في مدينته كونيغسبرغ حياة هادئة، ولم يكن يتوقع يوما ان هذه المدينة الصغيرة ستهب عليها ويلات الحروب التي كان يحذر منها، وانها بعد ان كانت تخضع للسيادة الألمانية، تصبح بعد نهلية الحرب العالمية الثانية تحت السيطرة الروسية، ويتغير اسمها من كونيغسبرغ الى كالينينغراد حيث قامت روسيا باخلاء المدينة من السكان الالمان، ورغم تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور دويلات في البلطيق، بقيت كالينينغراد روسية وقدمت المانيا عرضا مغريا عام 2001 بشراء مسقط راس اعظم فلاسفتها، مقابل، إعفاء روسيا من الديون المستحقة وقتها، والتي تجاوزت 25 مليار يورو، جوبه العرض برفض روسي. كان والد كانط " يوهان جورج " يعمل سراجا، وطالما استخدم الاحزمة في تأديب اطفاله، مات عندما كان كانط في الثانية والعشرين من عمره، اما امه " حنا ريجينا " فقد توفيت وهو في الثالثة عشر من عمره، كانت امراة شديدة التدين تمنت ان يصبح ابنها كاهنا، ولم تكن تدري ان هذا الطفل الخجول سيوجه فيما بعد اشرس نقد للكنيسة، ويطلق عبارته الشهيرة " إنّ ديناً يعلن الحرب على العقل سوف يُصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه " – كانط الدين في حدود العقل ترجمة فتحي المسكيني -.

عاش طفولة بسيطة، كان الاب والام يتبعان الطائفة التقوية، وهي جماعة بروتستانية رفضت تعاليم لوثر، ما ان بلغ الثامنة من عمره حتى قررت الام ان يتزود ابنها بثقافة دينية، فادخلته مدرسة " الفردريكية "، التي كانت تنشيء الاطفال على المبادئ " التقوية "، في المدرسة تعلم اللغة اللاتينية واتقنها، بسبب الفقر عملت اخواته في وظائف منزلية، اما شقيقه الاكبر فقد تمرد على " تقوية " العائلة واصبح قسيسا من جماعة لوثر، وصف بأنه كان طالبا هادئا، اشتكى بعض المعلمين من عدم قدرته على الحفظ، مما دفع امه ان تكلف احد اقاربها لمساعدته في التعلم، في المقابل كان مهتما بقراءة الكتب العلمية، وسعى للحصول على كتب نيوتن وغاليلو. في الجامعة التي دخلها عام 1746 قرر ان يتخصص بدراسة اللاهوت ليحقق امنية عائلته، لكنه سيترك اللاهوت ويتجه لدراسة الرياضيات والفلسفة، تعلق بفلسفة ليبنتز المتوفي عام 1716، الذي كان يرى ان العالم يتكون من عقول اولية تسمى " موندات " أي الوحدات المتناهية في الصغر، وكان كتابه " المونادولوجيا " – ترجمة عبد الغفار مكاوي - والذي صدر عام 1714 أشهر أعماله وأكثرها دلالة على مذهبه. كذلك اهتم كانط بدراسة مؤلفات نيوتن، عام ١٧٤٦ تقدمَ برسالة جامعية حاول فيها التوفيق بين فلسفة ديكارت وليبنتز، وهي نفس السنة التي توفى بها والده فاضطر ان يعمل مدرسا في الريف عند الاسر الغنية ليعيل شقيقاته، امضى تسع سنوات في مهنة المعلم، قال فيما بعد انه ربما كان أسوأ معلم عرفه العالم.في هذه الفترة كان منشغلا في كتابه الاول " التاريخ العام للطبية ونظرية السماء " الذي استطاع ان ينشره عام 1755 على نفقة احد الاغنياء، والمثير ان كانط رفض ان يضع اسمه على الكتاب خوفا من تعرضه لهجوم الكنيسة. يعود الى مدينته كونيغسبرغ ليكمل دراسته ينال شهادة الدكتوراة عن رسالته التي كانت بعنوان:" المبادئ الأولى للمعرفة الميتافيزيقية" يحصل على وظيفة محاضر في الجامعة من دون راتب، حيث يتعين عليه ان يكسب مالاً مما يدفعه الطلبة لقاء سماعهم لمحاضراته، وبعد فترة وجدت الكلية ان قاعة المحاضرات التي يلقي فيها كانط دروسه تمتلأ بالطلبة، حتى ان البعض ينتظر واقفا في الخارج، وهو الأمر الذي حسن من وضعه المالي. استمر في مهنة المحاضر خمسة عشر عاما، عين عام 1770 استاذا للمنطق والميتافيزيقيا في جامعة كونيغسبرغ، وفي عام 1780 اصبح عضوا في مجلس الشيوخ الاكاديمي، وبعد اعوام يتم اختياره لعضوية الاكاديمية الملكية للعلوم في برلين. يتم تعينه عميدا لكلية الاداب، وفي عام 1786 يتولى منصب مدير الجامعة، يبقى في المنصب عشر سنوات وبسبب مشاغله وبحوثه يقدم في شباط من عام 1796 طلبا باعفاءه من المنصب يقول فيه:" إن ضعفي بسبب شيخوختي يضطرني الى أن اعلن عجزي عن القيام بهذه المهمة. في الثالث والعشرين من تموز عام 1796 يلقي آخر محاضرة له في الجامعة وكانت عن المنطق. يقيم الطلبة احتفالا بمناسبة تقاعده، حيث نظموا موكبا كبيرا تتقدمه فرقة موسيقبة وعدد من الاساتذة، سار الموكب من الجامعة الى بيت كانط.

عاش الفيلسوف الماني الشهير حياة بسيطة ، يستيقظ كل يوم في الخامسة صباحا، ينام لمدة سبع ساعات، بقضي ثلاث ساعات من الخامسة الى الثامنة صباحا في القراءة والكتابة. يذهب الى الجامعة في الوقت المحدد، يعود الظهر الى البيت، في الخامسة عصرا يمارس رياضته المفضلة المشي، ومن الطريف انه اثناء المشي لا يتكلم مع احد ويرد السلام باشارة من يده، فقد كان يعتقد ان الفم يجب ان يبقى مغلقا اثناء المشي وان التنفس يكون من الانف فقط.. يكتب فريدريك غرو في كتابه " فلسفة المشي" – ترجمة سيعيد بوكرامي - ان كانط لم يغير مساره اليومي إلا مرتين في حياته، مرة للحصول على نسخة مبكرة من كتاب إميل لجان جاك روسو، ومرة عندما ذهب لمتابعة اخبار الاعلان عن الثورة الفرنسية. يفلسف اهمية الرياضة في حياة الانسان، ويرى أن المشي لمسافات طويله يجب ان يتحول إلى قانون يومي يرافق الانسان، بشرط أن تسير لوحدك دون ان يجهدك صديق او تلميذ في حديث غير مجدي.

ظهرت ثلاثية كانط النقدية في وقت متاخر من حياته: نقد العقل الخالص او المجرد عام 1781، نقد العقل العملي عام 1788، نقد ملكة الحكم عام 1790. فيما صدرت كتبه الآخرى في نفس الفترة، كتاب تأسيس ميتافيزيقيا الاخلاق عام 1785، الدين في حدود العقل المجرد عام 1793، وعلى الرغم من تدهور صحته في سنواته الاخيرة إلا انه لم يتوقف عن التاأيف، حيث اصدر عام 1795 كتاب مشروع للسلام الدائم وكتاب ميتافيزيقيا الاخلاق عام 1797، وكان آخر كتاب ظهر له " تأملات في التربية " عام 1803، قبل وفاته بعام حيث توفي في الثاني عشر من شباط عام 1804، واجريت له مراسيم دفن شارك فيها كبار مسؤولي المدينة مع اساتذة الجامعة والمئات من الطلبة. كان كانط قد كتب وصية سلمها لشقيقته عن اسلوب الجنازة التي يرغب فيها، فقد اراد ان تكون في الخامسة صباحا، وهو الوقت الذي كان يستيقظ فيه كل يوم، وان يحضرها عدد قليل من الاصدقاء، وان تسير في نفس الشارع الذي كان يتنزه به مساء، إلا ان المسؤولين في المدينة قرروا ان تقام له جنازة مهيبة وان تسير جنازته الى الكاتدرائية حيث تجمع الآلاف من طلبته ومن سكان مدينته ، بعد ذلك تم دفنه في رواق الجامعة التي قضاى فها فيها معظم حياته.

في معظم كتاباته كان ايمانويل كانط يعبر عن ايمانه بالاستخدام الحر للعقل لفحص كل شيء، مهما كان تقليديا أو مقدسا، كانت الفكرة التي تشغل تفكيره هي التوفيق بين الاخلاق والدين من جهة والمعرفة العلمية من جهة اخرى، وكان يسعى لرسم صورة موحدة. يكتب في مقدمة نقد العقل الخالص:" إن معرفتنا تنبع من مصدرين عقليين أساسيين: الأول هو القدرة على تقبل الانطباعات، والثاني هو القدرة على معرفة الشيء يهذه الانطباعات او التمثلات. وبالأول يُعطى لنا الشيء، وبالثاني يُفكَّر في الشيء.. لا يجوز تفضيل قدرة منهما على الأخرى، فبدون الإحساس لن يُقدم أي شيء لنا، وبدون فهم لن يُفكَّر بأي شيء. إن الأفكار التي بلا محتوى فارغة، والحدوس التي بلا مفاهيم عمياء ".

يلخص لنا كانط في كتاب " نقد العقل الخالص " جميع اهتمامات العقل التاملية والعملية من خلال ثلاثة اسئلة:

1- ما الذي يمكنني معرفته

2- ما الذي يجب عليّ القيام به

3- ما الذي قد آمله

قد يتساءل البعض بعد كل هذه السنوات هل تمكنت من حل الغاز هذا الفيلسوف الذي توصف كتاباته بالغامضة والمعقدة؟ في الحقيقة خلال تجوالي في كتب الفلسفة ايقنت ان بعض الفلاسفة ومنهم كانط جعلوني أتنصل من كثير من المفاهيم التي كنت مقتنعا بها، لأبدلها بافكار ومفاهيم اوسع. في اوائل العشرين من عمري كنت تائها بين مفاهيم كثيرة، لكن بعض الكتب استطاعت ان توسع مداركي، وان تحررني من الافكار المستهلكة.

ليس نقد العقل المجرد الذي تصفحته للمرة الاولى قبل اكثر من اربعين عاما مجرد كتاب فلسفي ضخم، انه عمل صعب بالنسبة للمختصين وغير المختصين.انه كتاب يتطلب تركيزا فكريا قويا،وقدرة على التحمل والصبر،لكن لا يمكن لأي مهتم بالفلسفة ان يعفي نفسه من الاطلاع عليه، انه يلاحقنا عندما يطرح السؤال الازلي:" ما الذي بوسع الانسان معرفته ؟ ".

توصف فلسفة كانط بانها شبيهة بثورة كوبرنيكوس في الفيزياء عندما اخبرنا ان الارض لم تعد مركز الكون، وإنما الشمس،، جاء كانط ليطلب منا ان نغير نظرتنا فيما يتعلق بالمعرفة " إذا اردنا معرفة حدود عالمنا، يجب علينا ان نتحقق من حدود قدرتنا الذاتية على المعرفة "، فهو بدلا من ان يحاول تفسير المفاهيم العقلية على اساس التجربة، قام بتفسير التجربة على اساس المفاهيم العقلية، وهكذا ووفقا للثورة " الكانطية، اصبح من واجب الاشياء والحقائق الموضوعية ان تدور حول العقل لكي تتحول الى معرفة، بدلا من أن يدور العقل حول الاشياء والحقائق الموضوعية لكي يحصل على المعرفة. وقد تصور كانط انه بهذا الكتاب انما يصحح خطأ تاريخيا في ميدان المعرفة، اشبه بالخطأ الذي قام كوبرنيكوس بتصحيحه في علم الفلك. قام كانط بتثوير كل المفاهيم المعروفة حول الزمان والمكان والمادة وحرية الإرادة ووجود الخالق.مؤكداً: " إن الجزم بالمفاهيم السائدة، بكلمة نعم أو لا، يعتبر مصيدة عقلية، وسعى الى انقاذ القوانين العلمية للطبيعة، وعلى الأخص علم الفيزياء من الشك، وذلك عن طريق اثبات ان الارتباطات الضرورية لقوانين الفيزياء تقوم على التصور السببي الضروري للعقل البشري. لقد اضطر كانط لإنقاذ الحقيقة والمصداقية العلمية ، الى جعل القوانين العلمية تعتمد على العقل وتصوراته، والى القول بأن النظام الذي تبرهن عليه قوانين الفيزياء ليس في الطبيعة  بل هو آتٍ من التصورات الكلية والضرورية للعقل الانساني. حيث اكتشف ان الطبيعة لا تعطي العقل البشري قوانينها، لكن العكس هو الصحيح، فالعقل هو الذي يعطي الطبيعة قوانينه الخاصة، من خلال تصوراته الضرورية التي تنظم جميع المواد الحسية، وهذه هي التصورات التي تشكل وتنظم وتنشئ جميع تجاربنا ومعرفتنا بالطبيعة، ونذكر عبارة كانط الشهيرة "العقل مشروع الطبيعة"، وهكذا يتضح ان قوانين الطبيعة تعتمد على تصورات العقل البشري. ومع ظهور كانط اصبح النظام العالمي تابعاً للعقل كما قال برتراند رسل.، وان المعرفة هي نتاج نشاط العقل البشري.

عند قراءتنا المتأنية والمتعبة لكتب كانط سنكون قد وضعنا ايدينا على اهم مغزى للتحول الذي احدثه صاحب ثلاثية العقل، فهو تحول عن العالم الخارجي للطبيعة المستقلة الى العالم الداخلي لنشاط وقدرات العقل كمفتاح لما نجربه ونختبره، وما نعرفه، وان أي شيء نختبره او نعرفه يرجع الى العقل نفسه والى التصورات التي يستخدمها العقل في فهم الاشياء، وهذا التحول الكانطي فتح افاقا جديدة للفلسفة والعلوم والدراسات الانسانية.

في الثانية والعشرين من عمره سيكتب هذا الرجل الذي ظل عازبا طوال حياته:" لقد رسمت لنفسي الطريق الذي ساسير عليه في حياتي، ولن يمنعني شيء من متابعة السير والمضي قدما ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية.

في المثقف اليوم