قضايا

جذب موضوع تأثير اللغات الافريقية على اللغة البرتغالية المستخدمة في البرازيل اهتمام العلماء منذ بداية القرن التاسع عشر على الأقل. ففي البداية تم افتراض وجود ذلك التأثير، ثم تم تأكيده او نفيه من قبل البعض، واعتمده بعض النحويين البرازيليين في وضعهم للقواميس اللغوية، اذ اشاروا الى كمية المفردات التي دخلت للغة البرتغالية في البرازيل من اصل افريقي. واستمرت اثارة هذا الموضوع ووضعه للنقاش بشكل اكبر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

يشير بعض الدارسين الى ان كتاب "الافارقة في البرازيل" لمؤلفه نينا رودريغز، الذي نُشر العام 1932 قد ازاح الكثير من الشكوك عن هذا التأثير بسبب كونه دراسة علمية حملت في داخلها دلائل عديدة على واقعية وجود التأثير الافريقي في المفردات البرتغالية لاهل البرازيل، وهذا لايعني ان الدراسات التي سبقت هذا الكتاب لم تكن علمية بل انها كانت الطريق الممهد لظهور دراسات اكثر واقعية ودقة في هذا المجال.

ان وجود الجذر الافريقي في البرازيل يعود إلى فترة العبودية التي بدأت في النصف الأول من القرن السادس عشر، حينما تم استبدال العمالة الأصلية بالعمالة السوداء المستعبدة، وعندما وصل هؤلاء المُستعبدون، الذين كانوا من قبائل أفريقية مختلفة، إلى البرازيل، فرض عليهم العيش بشكل مختلط  لتجنب التنظيمات التي من شأنها أن تولد الانتفاضات في ذلك الحين. لذا كانت تجمعات الافارقة تعود بجذورها الى بلدان شتى، مثل مالي وغينيا وموزمبيق والكونغو وانغولا وغيرها.

استمرت فترة العبودية أكثر من 380 عامًا، وخلال تلك الفترة تم ارغام مايقرب من 4 ملايين شخص على ترك اراضيهم  وإرسالهم إلى البرازيل، اذ أجبروا على العمل القسري وتسليم حياتهم إلى أيدي السادة، وخاصة أصحاب المطاحن والمزارع.

في 13 ايار 1888، وبعد قيام عدة انتفاضات ترأسها هؤلاء المستعبدون وتحرك العديد من الساسة الرافضين للعبودية، تم التوقيع على اتفاقية انهاء العبودية من قبل أميرة الإمبراطورية البرازيلية ايزابيل.

وعلى الرغم من ان تأثير الاستعمار البرتغالي في البلدان الافريقية ادى الى ظهور ستة دول في القارة الأفريقية تتحدث اللغة البرتغالية (أنغولا، الرأس الأخضر، غينيا بيساو، موزمبيق، ساو تومي وبرينسيب، وغينيا الاستوائية)، إلا أن شعوب تلك المنطقة تمتلك لغة محلية الى جانب البرتغالية ، وقد نجحوا في ادخال مفرداتهم المحلية الى البرازيل اثناء فترة استعبادهم هناك. لذا، من الخطأ الاعتقاد أن المستعبدون الافارقة توقفوا عن التواصل بلغتهم الام وعن نشر ثقافتهم بعد احتلال البرتغاليين لبلدانهم.

لقد ساهم الأفارقة المستعبدون في الثقافة البرازيلية واثروا فيها في عدة جوانب، فقد اثروا في الموسيقى والرقص والدين والمطبخ واللغات. وهذا التأثير ملحوظ في جزء كبير من البلاد، خاصة في ولايات مثل باهيا ومارانهاو وبيرنامبوكو وألاغواس وميناس جيرايس وريو دي جانيرو وساو باولو وريو غراندي دو سول، واصبحت الثقافة الأفريقية متجذرة في عادات وحياة الشعب البرازيلي، ولا توجد طريقة للقول إنه لم يكن هناك اي اثر افريقي في البرازيل، بل هو موجود عمليًا في كل جانب من جوانب الروتين اليومي.

***

د. وسيم حميد صنكور

هل يتم تمثل الماضي، لأنه جزء خاص من معرفتنا بالتاريخ، أم أن ما يمنحه هذا التعلم، يحرض على امتلاك مقدرات جديدة وواعية بالحاضر، وفقا لما يثيره إدراكنا بداهة من خيارات وبدائل راهنية تستقرئ الوضعيات والدوافع والمحطات القادمة. هو تماما ما يستحضره مفهوم "فلسفة التاريخ"، كفكر وحاضنة للمعنى وقيم العيش.

أعترف مسبقا، أني وجدت صعوبة فائقة في فهم السياقات العامة التي تقوم عليها فجوات "الماضي". وسبب ذلك، يرجع إلى التصنيفات المعيبة التي أضحى العديد ممن ينسبون خطأ للسوسيولوجيا النقدية، كفضاء استدلالي دقيق يفرض آليات دقيقة للإدراك المعرفي والاتزان المنطقي، يغطون بها تهيجاتهم وأسئلتهم حول فضاء الماضي، وتوازياته في الصيرورة ومنطق التداعي وفجوات التحول وجاذبيته، وتقسيماته وانتظاراته الآنية والمستقبلية..

يستدعي هذا الطرح، ما يعكسه المؤمنون بنظرية تدعيم "هيستريا الماضي"، وتأبين معتنقيه، وتحنيطهم، ومن ثمة إبعادهم عن الحياة الدنيا.

هؤلاء يرون أن الاقتداء بالماضي، هو موت زؤام ومنطق أعرج، لا يماثل العقل المفكر، ولا يستدعي نقد الآفاق والمعيش اليومي والسرعة الزمنية المتدفقة. يشبهون "القدوة" على أنها تتأسس على مبدا امتلاء الذات وتحجيم الجماعة والاستبراء من قيم المكتسبات، لا لشيء إلا لأنها منحوتة من جدار الماضي، ومبثوثة بثقافة مسلكية تقليدية، دون ماكياج أو تصريفات حديثة.

لكن الخطر السافر في هذا التوجه، أن أغلبهم يقتحمون هذه النقدية السوسيولوجية من باب الماضي الفلسفي الغربي، يؤولونه بمزاجية غريبة، ويجتزئون القراءة من منطق محصور وغير منصف. وأكثر ما يستهلك في تينك الرؤية، أن يستعسر أحدهم نظر المتصوفة الجدد، واجتهاداتهم في مضمار تفكيك جدلية الزمن والإنسان، فلا يبرؤون ذلك، إلا بما يحقر طريقتهم في التعبير عن دلائلهم وأصواتهم، باعتبارهم "يخضعون للآباء" وتيمنطقون "بالفردية والهيمنة على الجماهير"؟.

لا أحد يمكنه استهداف الماضي وتخوينه، ولا يمكن تحييد ثقافته وذاكرته، دون استنتاج مدارية التجريب فيه واستيعابه وإعادة التحقق فيه. إنه ماض متجدد وأثر على عين في الحاضر المنظور والغد المستبصر. كما أن هذا الماضي، تاريخ مواكب لما ننظر إليه باسم القابلية على التحول واسترداد السيطرة على الزمان. فكيف يمكن فهم "تنميط الماضي" خارج هذه العملية القرائية المجحفة ؟ وما الذي يجعل من قوارب الماضي، مهاجر داعرة للهروب والانفكاك والتواري؟ أهو الخوف من زمنيته القيمية، ذات المنسوج الحضاري والتراثي المتمكن من الجذور والإحفازات الملهمة؟ أم التكشف على ثقافات مغايرة، تروم إلى انتهاج سبل الالتفاف والتحجج بالعصرنة والتجديف خارج التيار؟.

بين هذا وذاك، تسكن الأمراض النفسية في ذوات بعض الناسجين على أخيلة آخر الأسئلة المقدمة آنفا. لكنهم، هذه المرة، يحاولون إسكات تبعات الماضي، حتى في أجلى استحقاقاته القطعية. فيسمون من يؤانس الماضي ويلتفت إليه، مصابون باضطرابات القلق العصابي (الهيستيريا). وما أقساه من نعث، يخالف أبسط قياسات العقل ومنطقه. وعلى حد علمي، فالهيستيريا ليست أفقا للتفكير، كما هو الحال بالنسبة، لتقدير قيمة وأخلاق الماضي، بل ما أبعدها أن تكون قيمة مثالية للأخلاق والعفة والتشبث بالقدوة. وكأني بمحاربي الماضي، يفاقمون نوع الصراع الذي يفصلونه بالملمتر على مقاس نظرية فرويد، بل إنهم يقعرون جزءا من مسلماته الأساسية الأصيلة، ليوهمونا أنهم يحاولون تمثل مشمولات ذلك الصراع، وتأهيله ليصير قوة دافعة في بناءات الشخصية الفرويدية داخل شبكة ثلاثية (الهوى والأنا والأنا العليا)، ما يسهم في تمزيق الشعرة الرابطة بين الواقع والمجتمع، أو بين الجنس والعدوان. 

إنهم لا يكادون يقرأون هنا، غير الوازع الشعوري في مقاربة عناصر الاستيهام والتذكر وإرواء الذاكرة، أما ما عدا ذلك، فوهم والتباس و"هيستيريا"؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان - إعلامي وأكاديمي مغربي

 

تجدر الإشارة إلى أهمية فعل القراءة وهى تجرى تحت مظلة القيم العليا؛ فالقراءة فى حدّ ذاتها قيمة معرفيّة، وستظل قيمة معرفيّة كائنةً ما كانت تلك المعرفة، سواء تمثلت فى ثقافة العقيدة والدين أو ثقافة العقل والفلسفة. ولم يكن الأمر الإلهى بكلمة (اقرأ) بالأمر الهين البسيط الذى يُستغنى عنه مع الغفلة والتردى وسقوط القيم، ولكنه كان أمراً، ولا يزال، ذا دلالة تندرج فى ذاتها فى وعى معرفى تام؛ لتشكل نظام القيم، ثم لتصبح هذه القيم فاعلة فينا أولاً، ثم تكون أفعل فى حياتنا تباعاً، ذات أثر بيّن ظاهر فى السلوك وفى الحركة وفى الحياة، لا لتنعزل بالتجاهل أو بالإهمال عن حاضراتنا الواقعيّة.

لم يكن الأمر الإلهى «اقرأ» مُجرد كلمة عابرة وكفى، ولكنه نظام معرفى موثوق بمعطيات القيم العليا، متصل شديد الاتصال بنظمها العلوية الباقية.

قد لا نتجاوز الصواب إذا نحن قلنا إنّ مردّ جرثومة التخلف فى بلادنا إلى إهمال الأمر الإلهى «اقرأ»، فكأنما الأمر يقول: اقرأ كيما تعرف؛ لأنه لو أطيع الأمر الإلهى بالقراءة، لكانت المعرفة على اختلاف مطالبها وفروعها مُحققة لدى القارئ، وتحقيقها هو العرفان (أن تعرف)، ولا مناصّ منه مع فعل القراءة على اختلاف توجهاتها وميادين النظر فيها، وتسخيرها للعقل، وتسخير العقل لها، ولكل ما يعلوها، ويعلو بالإنسان مع المعرفة، ومع القراءة، ومع العلم فى كل حال.

إمّا أن نقرأ فنعرف، وإمّا أن لا نقرأ، فتنطمس أبصارنا وبصائرنا؛ فنتخلف ويقودنا التخلف إلى أدنى درجات التّسفل والانحطاط، وليس من وسط بين طرفين.

هذه واحدة.

أمّا الثانية؛ فإنّ القراءة تأتى بمعنى التحليل النقدى أو النقد التحليلي، وكلاهما قراءة على قراءة، لكن الفارق فيما يبدو أن الأول يشمل تحليل النّص المكتوب ونقد متونه وفحص إشاراته ورموزه.

والثانى: تصحيحُ لمسارات العقل فى أعماله من جهة كاتب النّص نفسه، ولذلك يتقدّم النقد فى هذه الحالة على التحليل، والمُرادُ به نقد الأدوات المعرفيّة، وأهمها وأولاها: تلافى القصور فى عملية القراءة نفسها وتصحيح مسار الذهن عن انحرافه بإزائها، ووضع الأطر التى تقوّمه فى طريقه بغير اعوجاج أو انحراف، الأمر الذى يترتب على هذا كله، أهمية التفسير من جهة وقدرة العقل على التأويل ثم التنوع فيهما بمقدار الكفاءة العقلية وتذوق المقروء والمكتوب.

وعليه؛ تصبح القراءة هى القاعدة التى يقوم عليها أساس البناء المعرفى بكل ما يصدر عنه من تفسيرات وتأويلات وتخريجات، تنصب فى النهاية فى خدمة ضروب المعرفة، وخدمة النصوص المُراد تصريفها وفق قدرات العقل فى التفسير والتأويل والتخريج. وليس بالإمكان أن يقوم النقد فى مجال من المجالات بغير قراءة واعية. فكما لا تقوم المعرفة العقلية الحصيفة بغير قراءة دائمة ينشط فيها العقل؛ فكذلك النقد الفاعل المؤثر لا يقوم إلا على شعلة القراءة ووهج العناء فيها. والناقد الجيد قارئ جيد بامتياز. والقراءة الناقدة بديهة حاضرة لا تخفى على أحد: هى ألزم سمات المنهج بإطلاق.

***

د. مجدي إبراهيم

في كتابه "هؤلاء علموني" يخبرنا سلامة موسى كيف أنَّه انخدع سنواتٍ كثيرة بالفيلسوف الألماني نيتشه الذي افتتن به في سنوات شبابه قبل أنْ يتخلصَ منه، لكنَّه أحبه ولم يبغضه؛ لأنَّ كتاباته كانت نثراً ساحراً كأنها أبياتٌ من الشعر، وخيالاً يرتفع إلى آفاق المستقبل، وجرأة تكاد تُجَّمد ذهن الناشئ رهبة وجزعاً، أو تنفضه حماسة وطرباً. ولعلَّ موسى كان يقصد أنَّه خُدع وصدق في مطلع شبابه فكرة الإنسان السوبرمان، أو الإنسان الأعلى، فقد كان نيتشه يقول ما هو القرد إزاء الإنسان؟ أضحوكة أو خزي، كذلك يجب أنْ يكون الإنسان إزاء السوبرمان، أضحوكة أو خزياً؟ إنما الإنسان، وفق وصفه، هو معبرٌ أو جسرٌ يصل بين القرد والسوبرمان، ولسوف يكون السوبرمان ازدهاراً وخيراً وتعبيراً نهائياً للأرض: أستحلفكم أنْ تكونوا أمناءً للأرض، وأنْ تكفوا عن التطلع إلى النجوم تنشدون منها آلاماً ومكافآت. عليكم أنْ تضحوا بأنفسكم للأرض حتى يتاح لها أنْ تنجبَ يوماً ما السوبرمان، الإنسان شيء يُعلى عليه، فماذا فعلتم كي تَعلوا عليه؟.

وقعت هذه الكلمات الغريبة في نفس سلامة موسى كأنها الوحي أو الكشف، وهو في حوالي العشرين من عمره، فتعلق بها إلى الحد الذي دفعه لكتابة مقالٍ في مجلة المقتطف عام 1909 تحت عنوان " نيتشه وابن الإنسان" وهو تحت وقع الدهشة بروعة أفكار هذا الفيلسوف الألماني، ومن ذلك مقولاته التي كانت تبدو كأنها توصيات لعالم جديد، وإنسان جديد: لا يجب أنْ نتناسل إنما يجب أنْ نتناسل إلى أعلى، الزواج هو اجتماع إرادتين لإيجاد شخصٍ ثالثٍ أعلى من الزوجين، الغريزة هي أسمى أنواع الذكاء التي اكتشفت إلى الآن. وكانت هذه الأفكار ومثيلاتها تحمل سحراً في التعبير وفي التفكير، غير أنَّ سلامة لم يكن مقتنعاً بمنطق نيتشه الذي قد يؤدي بقارئه للانزلاق إلى الهاوية، وبالأخص الشباب منهم الذين يحذرهم من قراءته إلا إذا قرأوا معه دوستويفسكي وغاندي وبرنارد شو، فهؤلاء هم الترياق الذي يحتاجه الشباب إذا قرأوا نيتشه، لأنَّ أقواله تؤدي بهم إلى الوهم، أو الجنون!.

الحق يقال فإنَّ بعض الكتب والروايات التي نقرأها تترك أثراً عميقاً في نفوسنا، ويترك بعض الكتاب والفلاسفة والأدباء أثراً مماثلاً في عقولنا، وتوجهاتنا، وطريقة فهمنا للأمور، وفلسفتنا في الحياة، ولطالما تواجه الإنسان مواقف ولحظات صعبة يحتار في خيارات التعامل معها، غير أنَّه سرعان ما يتخذ القرار متأثراً بوعي، أو من دون وعي، بثقافةٍ اكتسبها من قراءاته، ومن مواقف عاش معها أوقاتاً من التأمل والمتعة وهو يتابع تصرفات وعلاقات شخوص رواية مثيرة، أو يتصفح كتاباً يضمُّ خلاصة فكر وتجربة وحياة، وهناك من نقرأ لهم فنحبهم، وهناك من نقرأ لهم فنشعر بالأسف والندم والخداع لأننا أضعنا وقتنا معهم.

بعض الأفكار تؤدي بنا إلى الوهم، أو الجنون، لكننا نحبها، مثلما أحبّ سلامة موسى ذلك العبقري المجنون الذي توهم أنَّ الإنسان يرتقي إلى الأعلى، فإذا به ينحَّط خُلقياً وإنسانياً إلى مستوى أدنى المخلوقات.

***

د. طه جزاع

قدمت الأسبوع الماضي لمحة عن رؤية البروفسور غونار ميردال المتعلقة باقتصادات البلدان النامية. والتي يدعو فيها للنظر إلى العدالة الاجتماعية كمحفز للاقتصاد، لا كغاية أخلاقية أو أيديولوجية فحسب.

أهمية هذه الرؤية تكمن في عنصرين، أولهما أن الرأي الغالب بين السياسيين يعتبر برامج العدالة الاجتماعية كلفة كبيرة على الخزينة العامة. ويدعو للتخفف منها بقدر ما نستطيع. من هذا المنطلق فإن معظم الحكومات التي تتبنى هذا النوع من السياسات المكلفة تقيمها على اعتبارات أيديولوجية أو أخلاقية. كما أن بعضها يسعى لتضييق قنوات الإنفاق، وتحميل جانب منها على المواطنين بشكل مباشر، مثل فرض رسوم على التعليم الجامعي أو الأدوية أو المستشفيات العالية التخصص... إلخ.

أما العنصر الثاني الذي يبرز أهمية تلك الرؤية، فهو يكمن في حقيقة أنها تصدر عن خبير اقتصادي معروف في الأوساط العلمية شرقاً وغرباً. من المعروف إجمالاً أن خبراء الاقتصاد العاملين في الإدارات الحكومية يصنفون ضمن طبقة التكنوقراط، ويلحق بهم – تجاوزاً – زملاؤهم أعضاء الأكاديميات. ونعلم أن البروفسور ميردال عمل أستاذاً في الجامعة، وباحثاً في مراكز أبحاث، وناشطاً حزبياً ونائباً ووزيراً، أي إنه جمع المجد من طرفيه كما يقال. لكنه مع ذلك حافظ على رؤيته القائلة إن سياسات العدالة الاجتماعية ليست مسألة أيديولوجية أو أخلاقية، بل هي في المقام الأول ضرورة لتنشيط الاقتصاد وحفز الطاقات الكامنة والمعطلة فيه، أي إنه لم ينظر إلى جانب الكُلف المباشرة، كما فعل نظراؤه التكنوقراط، بل نظر إليها على ضوء تقديره الخاص لمكانة الإنسان في العملية الاقتصادية.

يعاتب ميردال خبراء الاقتصاد لكثرة كلامهم عن تحسين نظم التعليم كي تتحسن الكفاءة الإنتاجية للخريجين. كما يلاحظ أن قادة النظام التعليمي ربما انزلقوا أحياناً إلى نفس هذا التقدير، فبات الأمر المهم عندهم هو أن يكون الشباب الذين تخرجوا من المدارس والجامعات موظفين جيدين، الأمر الذي يساعد على زيادة الإنتاج وكفاءة المشروع الاقتصادي بشكل عام.

هذا التفكير يشبه ذلك الوزير الذي سئل يوماً عن برنامجه لمعالجة البطالة في الأرياف، فاقترح على الباحثين عن وظائف الانتقال إلى المدن الكبرى التي تعج بالفرص الوظيفية من مختلف الأنواع والمستويات. هذا النوع من التفكير، سواء تم التعبير عنه صراحة أو ألقي الحبل على الغارب، حتى يتوصل إليه الناس بأنفسهم، هو الذي أدى إلى تفريغ الأرياف من قوة العمل، ونشوء المناطق العشوائية حول المدن الكبرى.

كان ميردال قد لاحظ أن العائلات التي أرسلت أطفالها إلى المدارس في الريف الهندي وضعت في اعتبارها أن المدرسة ستكون طريقهم للخلاص من العمل اليدوي في المزرعة، والالتحاق بوظيفة مكتبية في المدينة. ومن هنا فإن التعليم لم يخدم المجتمعات الريفية، بل ساعد في تفريغها من قوة العمل وإبقائها فقيرة، أو ربما جعلها أكثر فقراً. أي إن التعليم قد عمل ضد أغراض التنمية الاقتصادية.

نعلم أن هذا المثال تكرر في العديد من المجتمعات، وكان سببه دائماً هو أن تلاميذ المدارس يوجهون كي يكونوا موظفين في دائرة ما أو شركة ما، ولا يدربون كي يصبحوا رواد أعمال، ينشئون أعمالهم الخاصة، التي تفتح الباب لتوظيف آخرين وزيادة حجم المال الذي يدور في السوق المحلية.

يعتقد ميردال أن دور التعليم هو خلق القابلية للإبداع الفكري والعملي، والاستعداد للمغامرة الفردية، وأن يكون هدف التلميذ هو صناعة عمله الخاص، وليس تأجير يديه ووقته.

نعلم طبعاً أن غالبية خريجي المدارس ستفضل الوظيفة المريحة. لكن الفارق كبير بين أن نحصل على 10 رواد أعمال ومبدعين في كل 100 خريج، أو نحصل على 100 باحث عن وظيفة بين كل 100 خريج.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

 

إنَّ نقد المؤلفين والكُتاب، مِن قِبل الآخرين، عادة جارية منذ القِدم، وقد وقف عليها أصحاب الكُتب، فتوصلوا إلى حقيقة، أنه ليس مِن كتابٍ قط خرج مِن تحت يد مؤلفه مكتملاً، خالياً مِن الخطأ أو التَّصحيف، أو مِن زلةٍ في نقل المعلومة، وأعني هنا بالكتب التي تتطلب البحث والرفد بالرّوايات والأقوال، فالمؤلف الذي أنجز سبعمائة صفحة، وكتاباً بثمانين جزءاً، في طباعة اليوم، أو أقل أو أكثر، حتّى لو راجع كتابه سبعين مرة لغفل عن الخطأ، لأن النّص نصه، فيمر عليه، وفي ذهنه صورة، وقد كتب صورة أخرى، كالذي يتهجى حروف اسم ما، لكن ذهنه صورة معينة، تحتشد في ذهنه المترادفات، ولتقريب الصّورة، وهي مثال لا حصر، قد يقرأ الحروف (ب-ح-ر) «بحراً».

أمّا عن مراجعة الكتاب لـ70 مرة، ولا يخلو الكتاب مِن الخطأ، فهي مقالة إسماعيل بن يحيى المُزنيّ صاحب الإمام الشَّافعي (تـ: 364هـ): «لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتاباً صحيحاً غير كتابه» (الخطيب البغداديّ، موضح أوهام الجمع والتّفريق). فيا ترى مَنْ يقدر على التَّمام، وعلى ردّ نقد الجميع!

أقول: مع تكرار التَّصويب أو التَّصحيح، حتَّى أكثر مِن سبعين مراجعة، سيعثر القارئ على خطأ فيه، هكذا صرح بها الأولون مِن تجربةٍ. قال الأديب والكاتب إبراهيم بن العباس الصُّوليّ (تـ:243هـ): «المتصفح للكتاب أبصرُ بمواقع الخلل فيه مِن منشئه» (أبو منصور الثّعالبيّ، الإعجاز والإيجاز). ورويت بما لا يختلف: «والمتصفح للكتاب أبصرُ بمواضع الخلل مِن مبتدي تأليفه» (ياقوت الحَمويّ، معجم الأدباء/إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب).

لأنّ المتصفح قد أتاه الكتاب جاهزاً، لم يشغل ذهنه ما فيه مِن كلمات وحروف، وروايات وأسانيد، وعمل سنة أو سنتين، أو أكثر بكثير، فالمؤرخ العراقيّ جواد عليّ (تـ: 1987) شغله تأليف «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» أربعين عاماً متواصلة، ولم يعينه فيه أحد، مِن جمع مواده إلى كتابته إلى مراجعته ثم الإشراف على طبعه (كتب معاناته في مقدمة مفصلة). لكنّ المتصفح أو النّاقد يأخذ الخطأ الوارد فيه ويجعله فتحاً مبيناً له. وإذا توهم مصطفى جواد (تـ: 1969) ونسب كتاب الحوادث الجامعة لابن الفوطيّ الحنبليّ (تـ: 723هـ)، وهو لمؤلف مجهول، لم يلتفت النّقاد أو المتصفحون إلى اعتذاره، بعد حين، فظلوا متمسكين بالخطأ، لكن اكتشافاً اكتشفه جعله يتراجع ويعترف بتوهمه.

أكثرَ الكُتاب الأقدمون بشرح معاناتهم، حتّى صاغها عمرو بن بحر الجاحظ (تـ: 250 هـ) وصايا للمؤلفين، قائلاً: «ينبغي لمن يكتب كتاباً، ألا يكتبه إلا على أنَّ النَّاس كلّهم له أعداء، وكلُّهم عالم بالأمور، وكلُّهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتَّى يدع كتابه غُفلاً، ولا يرضى بالرَّأي الفطير، فإن لابتداء الكتاب فتنةً وعجباً، فإذا سكنت الطَّبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النَّفس وافرة، أعاد النَّظر فيه، فيتوقف عند فصوله، توقف من يكون وزن طمعه في السَّلامة، أنقص مِن وزن خوفه مِن العيب» (الجاحظ، كتاب الحيوان). بأشد منها أوصى إبراهيم بن سيار النَّظام المعتزليّ (تـ: 231-231هـ) لمَنْ يُصنف الكتب ويشتغل بعلمٍ ما: «العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، فأنت مِن عطائه لك البعض على خطر» (البغداديّ، تاريخ بغداد)، بمعنى أن يُكرس المؤلف كل حياته لتأليفه في العلم الذي يفقهه، فهي حرفة ليست ككل الحِرف.

عبر ما نُسب للقاضي الفاضل عبد الرّحيم بن عليّ اللَّخْميّ (تـ: 596هـ)، قاضي وأديب دولة صلاح الدّين بمصر، أو لصاحبه الكاتب العماد محمَّد بن محمَّد الأصفهانيّ (تـ: 597هـ) مِن عبارة، تعكس قلق المؤلف، بعد خروج كتابه إلى القراء، ويأخذون بتداوله، فتنهال النّقود تباعاً عليه، مِن أتراب الحِرفة، ومِن غيرهم مِن ناقدين ومتصفحين، فليس هناك ما يؤكد أيهما كتب إلى الآخر، القاضي أم الكاتب: «إنَّه قد وقع لي شيء وما أدْرِي أوقعَ لك أم لا، وها أنا أُخبركَ به، وذلك أني رأيتُ أَنَّهُ لا يَكْتُب إنسانٌ كتاباً في يومه إلّا قال في غَدِه: لو غُيِّرَ هذا لكانَ أحْسَن ولو زِيْدَ لكانَ يُسْتَحْسَن ولو قُدِّم هذا لكانَ أفْضَل، ولو ترك هذا لكانَ أجْمَل وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليلٌ على استيلاء النَّقص على جُملة البَشَر» (حاجي خليفة، كشف الظُّنون، مقدمة المؤلف).

مَن كتب مقالاً ولم يتحمل ردود الفعل ولم يوافق على سماع نصيحة محرر جريدة أو مجلة أو رأي مغاير فيه يبقى ذلك المقال يتيماً لا يكتب غيره.

يبدو أول مَن ذكرها حاجي خليفة (تـ: 1609م) بأنها للقاضي الفاضل، وخليفة متأخر كثيراً، ولا يذكر أين وجدها، لكنّها قد شاعت للكاتب العماد، مع العلم أنَّ لا كتب القاضي ولا العماد قد حوت هذه العبارة، بينما نادراً ما تجد كتاباً لم يعتذر صاحبه بها، من احتمال الخطأ، ويجعلها الغالب منهم للعماد. أمَّا مَن اعتقد أنّ أول الناقلين له هو النّهرواني (تـ: 988هـ) في «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام»، فلا وجود لها في هذا الكتاب.

غير أنَّ للجاحظ قولاً مشابهاً سابقاً، على الفاضل والعماد، كتبه إلى أحد الوجهاء: «وهل فيك شيءٌ يفوق شيئاً، أو يفوقه شيء؟ أو يُقال: لو لم يكن كذا لكان أحسن، أو لو كان كذا لكان أتم» (الجاحظ، رسالة التّربيع والتَّدوير). فهل يكون هذا القول هو الأساس في ما سارت به الرّكبان مِن عبارة؟!

أقول: مَن كتب مقالاً، ولم يتحمل ردود الفعل، ولم يوافق على سماع نصيحة محرر جريدة أو مجلة، أو رأي مغاير فيه، يبقى ذلك المقال يتيماً لا يكتب غيره، أو ما يكتبه لا قيمة له، فإذا خير الكاتب أو الباحث بين القدح والمدح، عليه قبول الأول، فهو إمَّا أن يصدر مِن محبٍ حريصٍ لا يُجامل، أو مِن حسود حقود، والاثنان يبذلان الجهد لإظهار الخلل، لكن ما لا نغفله أنّ مجال النّقد مليءٌ بالمُحَبطِين، وعلى وجه الخصوص في عالم الأدب، فعلى الكاتب أو المؤلف أن يكون صبوراً إيجابياً مع ما يسمعه مِن تشجيع وخذلان، فعليه أن يُصدق ما ذهب إليه الأقدمون، وقالوها مِن تجربة وخبرة «المتصفح أبصر بمواضع الخلل» مِن مؤلف الكتاب وكاتب المقال. فما يخرج مِن يد المؤلف لا يبقى ملكه، إنما للمتصفحين حقٌ في قول كلمة وإعطاء رأيٍّ.

لكن ذلك لا يعني كلّ مَن سود يده بالحبر كاتباً، إنما مَن كانت الكتابة عنده مأساة لا ملهاة، مِن أنماط مَن تقدم ذِكرهم، واعترفوا بنقصهم، ولو راجعوا الكتاب سبعين مرة، واعترفوا للقارئ المتصفح بفضله في كشف الخلل، وهم يعانون بالكتابة معاناة الفرزدق (تـ: 110هـ) بالشّعر، يُنقل أنه اعترف، وهو المعدود مِن متقدمي الفحول: «أنا عند النَّاس أشعر النَّاس، وربَّما مرت عليَّ ساعة، ونزع ضرس أهون عليّ مِن أنْ أقولَ بيتاً واحداً» (الجاحظ، البيان والتّبيين).

***

د. رشيد الخيّون

ضد التنوع:

أي مجتمع يتطلع للسلم والتنمية والرقي والتقدم يتسم أفراده بما يلي:

- تعزيز ثقافة الحوار، وترسيخ الاحترام المتبادل بين الاديان والطوائف والمذاهب والاثنيات.

- ترسيخ إحترام حقوق الانسان وحرياته العامة والانفتاح والتعارف والتسامح والتعايش بين الثقافات والحضارات.

- تحقيق التعاون والتكافل اجتماعيا وتحقيق المكاسب المشتركة للمجتمع.

- تعزيز العيش المشرك والحوار العقلاني البعيد عن التعصب والكراهية،من خلال تقبل النقد من الآخرين والاعتراف بالخطأ،وتنمية مفاهيم تقويم الذات.

- إفساح المجال أمام أفراد المجتمع للتوجه نحو تحقيق غاياتهم المشركة، والتوجه نحو بناء الوطن من خلال التعاون مع الشركاء الآخرين، والاستفادة مما عندهم من معارف وخبرات ومميزات.

- الاستفادة من المقدرات الفردية ومقدرات الوطن لما يخدم الصالح العام.

بينما لما يكون مجتمع أفراده يعانون من ظاهرة التطرف بشتى أشكاله وخاصة التعصب في جل صوره، لا يمكن أن تنال قيمة التنوع في هذا المجتمع حقها من العناية والرعاية والاستثمار الأمثل، دون أن يتخلص هذا المجتمع من أسباب التعصب وما ينتجه من أزمات وتلفيقات وأكاذيب تعمل على تغطية نور الوعي الثقافي لأهمية التعايش والتسامح والتعارف والتعاون بين أفراده وتكويناته وماهية المصير الواحد.

أولا: ماهية التعصب:

إن كلمة التعصب أصلها عربي، فقد وجدت في معجم لسان العرب لابن منظور وأشار بأن التعصب ‎‎من العصبية والعصبية أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو‎‎مظلومين. وقد تعصبوا عليهم إذا تجمعوا فإذا تجمعوا على فريق آخر قيل: تعصبوا والعصبة الأقارب من جهة ‎‎الأب، لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم، أي يحيطون به ويشتد بهم. والعصبي هو الذي يغضب لعصبته ويحاميعنهم. والعصبية والتعصب المحاماة والمدافعة. وتعصبنا له ومعه نصرناه ..(ابن منظور:1980، ص296)

أما تعريفها في اللغة الفرنسية فسنجد أن كلمة تعصب " Prejudice " منحوتة أساساً من‎‎ كلمتين لاتينيتين هما " Pre " بمعنى قبل أو سابق، والثانية " jugement " وتعني حكم أو ‎‎رأي، وبالتالي تعني إجمالاً حكماً مسبقاً أو قبلياً غير مبني على أدلة موضوعية، ‎‎وإنما على تصورات مسبقة. وتدرج تعريف هذا المفهوم من خلال مراحل ثلاث: بدايته بالمعنى القديم الذي ‎‎يشير إلى الحكم المبني على قرارات وخبرات سابقة، اكتسب المفهوم في الفرنسية ‎‎معنى الحكم المتشكل بدون اختيار أو فحص الحقائق المتاحة حوله، مما يجعله حكما غير ناضج أو‎‎سريع Jugement prématuré ou hâtif. وأخيراً اكتسب خاصية انفعالية بالتفضيل، أو‎‎عدم التفضيل التي تترافق مع حكم مسبق ومجرد من أي دليل يدعمه.Stanford 2000،p70.

وقد عرف تعريفات عدة منها:

‎‎تعريف تايلور وراين Taylor&Ryan: حالة خاصة من التصلب الفكري أو الجمود ‎‎العقائدي، إذ يجسد اتجاهات الفرد والجماعة نحو جماعات وطوائف أخرى، ويكشف المتعصب ‎‎عن خضوع كبير لسلطة الجماعة التي ينتمي إليها مع نبذ الجماعات الأخرى، ويرتبط بذلك ميل إلى رؤية العلم في إطار جامد من الأبيض والأسود، مع ميل إلى استخدام العنف في التعامل معالآخرين. (وطفة، 2002، ص 29)

تعريف قاموس العلوم الاجتماعية (1978): غلو في التعلق الشخصي بفكرة أو‎‎مبدأ أو عقيدة، بحيث لا يدع مكانا للتسامح، وقد يؤدي إلى العنف‎‎ والاستماتة (بدوي، 1978،‎‎ص 154).

تعريف فؤاد زكريا (1971): التعصب اتجاه يتضمن عنصرين ‎‎احدهما ايجابي والآخر سلبي، العنصر الايجابي هو اعتقاد المرء إن الفئة التي ينتمي إليها ‎‎سواء كانت قبيلة أو وطنا أو مذهبا فكريا أو دينيا هي أسمى وارفع من بقية الفئات، والعنصر ‎‎السلبي هو اعتقاده إن تلك الفئات الأخرى أحط من‎‎ تلك التي ينتمي إليها.

تعريف جيرجين: ويرى كل من كينس جيرجين وماري جيرجين هو استعداد للاستجابة بسلوك تفضيل أو‎‎عدم تفضيل تجاه فرد معين ‎‎أو مجموعة من الأفراد. (Gergen&Gergen.1981.p.230)

أي يتجسد في حالة من المبالغة ‎‎في التمسك والانغلاق الفكري بعقيدة ومذهب معين في مقابل رفض أفكار ومعتقدات جماعات ‎‎أخرى وإطلاق الأحكام السلبية تجاهها واعتبارها أحط من تلك التي ينتمون إليها.

ثانيا: مكونات مفهوم التعصب

والتعصب اتجاه له‎‎ ثلاثة مكونات هي:

أ-المكون المعرفي: والذي هو عبارة عن الإدراكات والمعتقدات والتوقعات الخاصة بأحد الأشخاص في جماعة ‎‎عرقية أو دينية معينة، وهو ما يأخذ صورة (قوالب نمطية stéréotypes)،أي أن البعد المعرفي ‎‎للتعصب يصنف غالباً تحت عنوان (القوالب النمطية)، وما نقصده بالقوالب النمطية يتمثل في المعتقد الذي يستند إلى حجج غير مناسبة، فهو تصور ‎‎يتسم بالتصلب المفرط عن جماعة معينة، يتم في ضوئه وصف وتصنيف الأشخاص الذين ينتمون إليها.

ب-المكون الانفعالي أو الوجداني: وهو الذي يتعلق بمتصل (المودة - العداء)،فالطرف الايجابي لهذا ‎‎المتصل يشتمل على الإعجاب والعلاقات الوثيقة الحميمة والاتحاد ... الخ، أما الطرف السلبي فيشتمل ‎‎على الخوف والحسد والمسافة الاجتماعية والكره والاحتراب (معتو سيد عبدالله، 1989، ص50).‎‎

ج-المكون السلوكي: فيشتمل على المعتقدات الخاصة بما ينبغي عمله بالنسبة للجماعة موضوع ‎‎التعصب (التمييز)، وقد وضعت درجات للسلوك التمييزي وهي على النحو الآتي:

* الامتناع عن التعبير اللفظي خارج حدود الجماعة الداخلية: وهي درجة قليلة من التعصب ‎‎لا يوجد خلالها أذى للجماعات الخارجية بشكل صريح، حيث يميل الأشخاص الذين يوجد لديهم بعض ‎‎أشكال التعصب إلى الحديث عنها ويتم ذلك غالبا مع بعض الأشخاص المقربين وأحيانا مع بعض ‎‎الأشخاص الآخرين ممن ينتمون إلى جماعتهم نفسها حيث يتيح لهم ذلك التنفيس عن بعض مشاعر البغض والكراهية.

* التجنب Évitement: وهنا يكون السلوك التعصبي أكثر شدة، فهو يؤدي بصاحبه ‎‎إلى اتخاذ بعض الخطوات لتجنب أعضاء الجماعة الخارجية موضوع الكراهية، في هذه الحالة نجد ‎‎إن الشخص المتعصب لا يوجه أي أذى مباشر للجماعة موضوع الكراهية لكنه يأخذ على عاتقه الانسحاب تماما من مواقف التعامل مع أعضاء هذه ‎‎الجماعات.

* التمييز La discrimination: هو السعي إلى منع أعضاء ‎‎الجماعات الخارجية من الحصول على التسهيلات والامتيازات التي يتمتع ‎‎بها الآخرون،كالحصول على الوظائف والإقامة في أماكن معينة كذلك فرص التعليم ‎‎والترقي والعلاج.. .إلخ.

* الهجوم الجسماني Attaque physique: تؤدي الكراهية بين الجماعات في ظل‎‎حالات الانفعال العميق إلى مرحلة أخرى من سلوك العنف الذي يتمثل في العدوان الجسماني على أعضاء الجماعة موضوع التعصب والكراهية.

* الإبادة Extermination: وهي أ‎‎اشد حالات العداوة والكراهية بين الجماعات وتشمل الإبادة الجماعية ‎‎أو الإعدام دون محاكمة قانونية أو أي شكل من أشكال العنف الجماعي. (معتز سيد عبدالله، 1989،ص57-59)..

على ضوء ما تقدم علماء النفس الاجتماعي وعلماء نفس الشخصية اختلفوا في تناولهم لمفهوم التعصب، وقد تمخض عن ذلك مساران لتفسير هذا المفهوم هما:

المسار الأول: وهو المسار الذي عد التعصب اتجاهاﹰ يكتسبه الأفراد من خلال عملية التنشئة الاجتماعية بمؤسساتها المختلفة والمتعددة، وفي هذا المسار توجد هناك ثلاثة نماذج:

الأنموذج الثلاثي: يرى هذا الأنموذج أن التعصب كاتجاه له ثلاثة مكونات هي المكون المعرفي، والذي يتمثل في الصور النمطية التي يحملها الفرد عن الآخرين، والمكون الوجداني والذي يتمثل في مشاعر الكراهية التي يحملها الفرد عن الأفراد الآخرين، والمكون السلوكي ويتمثل هذا المكون في المسافة الاجتماعية التي يضعها الفرد بينه وبين الآخرين .

الأنموذج الثنائي: على وفق هذا الأنموذج هناك مكونين للتعصب الأفكار النمطية السالبة والمشاعر السالبة التي يحملها الفرد نحو الآخرين.

الأنموذج الأحادي: وفي هذا الأنموذج تشكل المعتقدات الجامدة مصدر التعصب، إذ تظهر محتوياته السلوكية على شكل سلوك تمييزي ضد الآخرين،

النماذج الثلاثة المفسرة للاتجاه التعصبي:

أ- أنموذج المكونات الثلاثة:

المكون المعرفي (الأفكار النمطية)

المكون الوجداني (مشاعر الكراهية)

المكون السلوكي (المسافة الاجتماعية)

ب- أنموذج المكونين:

الأفكار النمطية/ المشاعر السالبة: الاتجاه التعصبي، النوايا السلوكية، السلوك التدميري

ج- الأنموذج الأحادي:

المعتقدات الجامدة: الاتجاه التعصبي، النوايا السلوكية، السلوك التدميري

المسار الثاني:

والذي عد التعصب صفة سيئة، ذلك انه يقوم على تعميمات خاطئة أو غير صحيحة أو مبالغ بها، وهو في ذلك يقترب في كثير من محتواه من مفهوم القوالب النمطية stéréotype، وهي تلك الافكار التي تتسم بالجمود والتصلب والتي تكون في الغالب غير صحيحة وغير عادلة فيما تنسبه الى فرد ما من الأفراد أو الى جماعة ما من الجماعات.(fantino p578،1975)

وعلى وفق هذين المسارين، برزت هناك العديد من الأطر النظرية لتفسير مفهوم التعصب لعل من أبرزها:

أولاﹰ: المنظور الثقافي-الاجتماعي:

نظريات الصراع بين الجماعات Group conflict theories والتي تركز في تفسيرها لمفهوم التعصب على معرفة وفحص متى وكيف تنشأ الاتجاهات التعصبية في مجتمع معين أو في ثقافة معينة، وهي في ذلك تكون أقرب ما يكون الى المنحى الثقافي – الاجتماعي Socio- cultural Approach الذي ينصب الاهتمام الأساسي فيه على الجماعات ككل وعلى الأفراد بوصفهم أعضاء في جماعات لها كيان خاص ومتميز . (معتز سيد عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١٠٢) .

ومن ابرز النظريات التي تنطلق من هذه الفكرة في تفسيرها للتعصب:

نظرية الصراع الواقعي بين الجماعات:

تقوم هذه النظرية على افتراض انه حينما يحدث صراع وتنافس بين جماعتين من الجماعات نتيجة أي عوامل خارجية، فان هاتين الجماعتين تهدد كل منها الأخرى الى أن تتكون مشاعر عدائية بينهما، وهو يؤدي إلى حدوث تقويمات سلبية متبادلة (معتز سيد عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١٠٣-١٠٤) .

وترى هذه النظرية أن التنافس بين الجماعات حينما يحتد، لابد من أن يؤدي الى خلق مشاكل متباينة من مشاعر العدائية، وهناك أمثلة عديدة للتنافس الواقعي بين الجماعات الذي يصل الى مرحلة الصراع سواء بالنسبة للوظائف المهنية المختلفة او بالنسبة للأجور وغيرها، وقد تقترب حالة التنافس هذه الى حد كبير من الصراع على المكانة وعلى القوة وعلى المستوى الاجتماعي والتي أكدها عالم النفس الاجتماعي (مظفر شريف) الذي صاغ فروض هذه النظرية المرتبطة باسمه. (خمائل خليل اسماعيل العبيدي، ٢٠٠٥،ص٤٠) .

نظرية الصراع بين الريف والحضر: Rural-urban conflict

تعد هذه النظرية إحدى نظريات الصراع بين الجماعات، وهي تفترض أن أشكال التعصب المختلفة تنشأ من الخوف والعدائية المتبادلة بين سكان الريف والمدينة، وذلك بسبب التوقعات التي يحملها كل منهما نحو الأخر (635.Merill&Elliot، 1961، p)، وهي تؤكد على أن انتقال الأشخاص من الحياة الريفية الى الحياة الحضرية يرافقه كثير من الخوف والقلق، فحياة الحضر أكثر تعقيداﹰ من حياة الريف، وفيها خوف من أن لا يستطيع الأشخاص الوصول إلى المستوى الذي تتطلبه الحياة الحضارية، وعلى الرغم من محاولات النجاح المبذولة، إلا أن ذلك يتطلب جهداﹰ نفسياﹰ وجسمياﹰ شاقاﹰ مما يجعل الأمر أكثر تعقيداﹰ فهو السبيل الى المنافسات والمشاحنات وأنواع الصراع القيمي ومواقف الإحباط المؤلمة وأشكال التعصب المختلفة (أحمد عبد العزيز عبد الغفار سلامة، ص١٨٦، 1975) .

نظرية الحرمان النسبي: Relativeness Deprivation

للحرمان النسبي مكونين:

مكون "بارد" (معرفي) أي إدراك الحرمان، ومكون "ساخن" (انفعالي – دافعي) يتضمن انفعالات الاستياء التي تحفز لظهور اتجاهات وسلوكيات معينة. كما أن له نوعين، الحرمان الجماعي (شعور الفرد بأن جماعته محرومة نسبة الى الجماعات الأخرى)، والحرمان الفردي (شعور الفرد بأنه محروم نسبة الى بقية الناس).

(85.Olsen &Hafer، 1996، p).

ولتفسير التعصب، تؤكد هذه النظرية أن الاستياء وعدم الرضا المميزين للاتجاهات التعصبية لا ينشآن نتيجة الحرمان الموضوعي، ولكن ينشآن من الشعور الذاتي للشخص بأنه محروم نسبياﹰ أكثر من بعض الأشخاص الآخرين في الجماعات الأخرى، أي انه حينما يشعر الأشخاص بحرمان نسبي بالمقارنة بأعضاء جماعة أخرى فإنهم يعبرون عن امتعاضهم أو استيائهم في شكل خصومة جماعية (معتز سيد عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص ١٠٦)، ففي المجتمعات الاقتصادية نجد أن الجماعات تتباين في مستوى ثرائها وما حققته من كسب، وهو ما يخلق مشاعر الحرمان النسبي بين أعضاء الجماعات الاقل ثراء، أو ذات المستوى الاقتصادي الاقل (عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١٠٧) .

ثانياﹰ: المنظور المعرفي: Cognitive Approach

نظريات السلوك بين المجموعات:

تمثل هذه الفئة من النظريات احد الاتجاهات الحديثة للاهتمام بأشكال السلوك المختلفة بين الجماعات، وتؤكد هذه النظريات على الدور الذي تؤديه العمليات المعرفية في تحديد أفكار الإفراد بين الجماعات الداخلية التي ينتمون إليها والجماعات الخارجية (الجماعات الأخرى التي لا ينتمون إليها)، كما أنها تؤكد على الكيفية التي تسهم بها العمليات المعرفية العديدة في نشأة الاتجاهات التعصبية بأشكالها المختلفة بين الجماعات، فهي تمتد بعملية التصنيف إلى فئات، وبالإدراك الاجتماعي الى دراسة القوالب النمطية التي يكونها أفراد الجماعات بعضهم عن البعض الآخر، وأشكال التحيزات التي توجد بين هذه الجماعات، وما يترتب على ذلك من تمييز، كما أنها تهتم بدور التمثيلات الاجتماعية والمخططات العقلية في توجيه ومعالجة المعلومات عن الأشخاص والأحداث الاجتماعية (معتز سيد عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١١٢) .

إن نظريات السلوك بين الجماعات تضم نظريتين مترابطتين في تفسيرها لمفهوم القوالب النمطية الذي تعده الأساس لتشكيل التعصب هما:

أ‌. نظرية التصنيف الاجتماعي Social classification Theory:

ركز تاجفل (1978 Tajfel Differentiation Between Groups،) صاحب هذه النظرية على عملية التصنيف الاجتماعي كونها الآلية المعرفية الأساسية للتعصب، ويعني ذلك التصنيف الإدراكي للأفراد الى فئات أو جماعات، وهو ينطلق من الافكار المركزية الآتية لتفسير التعصب:

إن الناس ينزعون الى تصنيف عالمهم الاجتماعي الى صنفين: "نحن" (أو الجماعة الخاصة بالفرد) و"هم" (أو الجماعة الأخرى) .

إن التمييز لا يحدث إلا إذا تم هذا التقسيم (مما يجعل التصنيف شرطاﹰ ضرورياﹰ للتمييز)، وعندما يتم هذا التقسيم يتولد الصراع والتمييز (مما يجعل التصنيف شرطاﹰ كافياﹰ أيضاﹰ وليس شرطاﹰ ضرورياﹰ فحسب) .

إن من أهم المعايير التي تعتمد في عملية التصنيف هي العرف، والقومية، والدين، والجنس (مكفلين وغروس، المدخل الى علم النفس الاجتماعي، 2002 ص264) .

وفي ذلك يرى تاجفل (Tajfel) أن هناك مجموعة من المسائل التي تتصل بعملية التصنيف الاجتماعي: .

ان فعل التصنيف الاجتماعي يؤدي الى أن يكون ما هو داخل الجماعة مفضلاﹰ، وان ما هو خارج الجماعة غير مفضل ومواجهاﹰ بالتحيز والتعصب .

إذا كان التصنيف الاجتماعي هو الأداة المعرفية التي يتم بها ترتيب البنية الاجتماعية وتنظيمها، فإن هذه الأداة من الممكن أن تباشر أشكالا متنوعة من الفعل الاجتماعي، فهي لا تنظم العالم الاجتماعي فقط ولكنها توفر أيضاﹰ نظاماﹰ توجيهياﹰ لمرجعية الذات فتعمل على التعريف بمكانة الفرد في المجتمع (112.Tajfel، 1982، p) و(195-193.Linville، 1982، p).

وفي سياق ذلك تؤدي القولبة النمطية كعملية معرفية وإدراكية خالصة إلى تجسيد وإبراز الفروق الفعلية بين الفئات الاجتماعية، وهذه الفروق الفعلية تحددها الظروف الاجتماعية، وحينما تؤدي مثل هذه العمليات المعرفية الى قوالب نمطية سلبية عن فئات اجتماعية معينة، فان ذلك سوف يسهم في تشكيل الاتجاهات التعصبية ضد أصحاب هذه الفئات.

ب‌. نظرية الهوية الاجتماعية: Social Identity theory

تكمل نظرية الهوية الاجتماعية تفسير نظرية التصنيف الاجتماعي للتعصب بالرؤية الآتية:

إن نظرية الهوية الاجتماعية ترى أن تكوين الصورة النمطية يعود الى أن التحيز للجماعة هو سمة عامة في علاقات الجماعة المتبادلة، وان الهوية الاجتماعية تستمد من العضوية في هذه الجماعات ويحسب الجنس، والعرق، والطائفة الدينية.. الخ . ولان للأفراد حاجة نفسية للتقدير الذاتي والايجابي –ولأن الذات تعرف في إطار عضوية الجماعة، فان الأفراد بحاجة الى المحافظة على هوية اجتماعية ايجابية . وعليه فانه كلما زاد الوعي بما هو خارج الجماعة كلما زاد التحيز لما هو داخل الجماعة وأدى الى ظهور الصور النمطية (البداينة. ذ، ١٩٩٩، ص٨٩) (72-64.Schlenker، 1984، p)، فالهوية الاجتماعية تعطي الشكل للصورة النمطية، وكما هو متعلق بالجنس، والعرق، والدين، والمهنة، ...الخ، بينما يساعد تمثل القيم الاجتماعية والمعايير السائدة على إعطائها المضمون (معتز عبد اﷲ، ١٩٨٩، ص١١٨) .

ثالثا:‎‎ أشكال الاتجاهات التعصبية:

تناولت المدارس السيكولوجية التعصب على انه اتجاه عدائي نحو الأقليات العنصرية، ‎‎وهو ما يعرف بالاتجاهات التعصبية العنصرية، وهو أكثر أشكال التعصب التي نالت اهتماما نظريا‎‎ وواقعيا، فقد حظيت دراسات التعصب ضد السود سواء في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بأكبر ‎‎قدر من الاهتمام، حيث يمثل السود كجماعة عنصرية موضوع كراهية وعدم تحمل من قبل جماعات‎‎الأغلبية البيضاء، وبتوسيع مفهوم الاتجاهات التعصبية نجد أن التعصب القومي قد حظي باهتمام‎‎كبير، فعلى الرغم من أن هذا النوع من الاتجاهات التعصبية كان يضمن غالبا في إطار التعصب ‎‎العنصري إلا انه يمثل شكلا متميزا من أشكال التعصب، فقد أجريت العديد من الدراسات باستخدام مقياس بوجادرس (bogardes) للمسافات الاجتماعية للاتجاه نحو القوميات المختلفة، أبرزها الدراسات التي تتعلق باتجاه الأمريكان نحو القوميات الأخرى مثل الألمان ‎‎و اليابانيين والروس .. الخ) وقد اتضح أن أكثر القوميات التي ينفر منها الأمريكان هي القوميات ‎‎الشرقية على وجه الخصوص الصينيين واليابانيين) بينما أكثر القوميات التي‎‎ يفضلونها هي القوميات الأوروبية الغربية. وعلى الساحة‎‎ العربية بعد التعصب الصهيوني ضد الفلسطينيين والعرب عموما أكثر أشكال التعصب القومي التي يعاني منها العرب.

كذلك حظيت الاتجاهات التعصبية الدينية باهتمام واضح، حيث أن اليهود أكثر الجماعات ‎‎الدينية التي كانت هدف تعصب المسيحيين سواء في الولايات المتحدة وأوروبا وإن كانت الحدة اقل‎‎ في أوروبا، كذلك ينتشر التعصب الديني في بعض البلدان العربية التي يسكنها المسلمون ‎‎والمسيحيون مثل مصر ولبنان، كما أوضحت بعض الدراسات وجود أشكال مختلفة من التعصب الديني بين المسلمين والهندوس في المجتمع‎‎الهندي. كذلك في المجتمعات ذات التعدد المذهبي والتنوع الإثني وما هنالك من تعددية ثقافية...

و هناك الاتجاهات التعصبية ضد المرأة anti-femme، فقد شمل التمييز بين الجنسين جوانب اجتماعية عديدة مثل التعليم ‎‎والعمل وغيرها، وربما يكون التعصب ضد المرأة أكثر حدة في المجتمعات الشرقية‎‎ وخصوصا مجتمعنا العربي،حيث مازال العديد من أبناء أقطاره ينظرون إلى المرأة نظرة‎‎ اقل قيمة على الرغم من تقلدها العديد من المناصب..

وتأتي الاتجاهات التعصبية الاجتماعية سواء‎‎الطبقية Casteأو ‎‎الطائفية Class في مرتبة اقل من حيث الاهتمام مقارنة بأشكال التعصب الأخرى، ففي الولايات‎‎المتحدة أشارت الدراسات إلى وجود بعض التحيزات بين سكان المناطق الشمالية ‎‎والجنوبية،أو بين المناطق الريفية والحضرية،وأشارت دراسات أخرى إلى وجود تعصب‎‎ شديد (معتز سيد عبد الله 1989،ص 14-17) أما المقالة‎‎ هذه فهي تركز على مجال الاتجاهات التعصبية الاجتماعية الدينية الطائفية خصوصا في المجال العربي.

رابعا: مناشئ التعصب

إن التعصب ينمو في ظل ظروف نفسية واجتماعية محددة يعيشها الأفراد تعمل على انتشاره في ‎‎بعض المجتمعات دون الأخرى، فقد أشارت نتائج الدراسات إلى أن التعصب يزداد خطورة، كلما عرف ‎‎المجتمع ظروف محددة منها:

تضخم الذات: وهذه الذات المتضخمة قد تكون ذات الشخص، أو ذات الجماعة، أو ذات الدولة، بمعنى أنها الذات التي يرجع إليها الشخص وينتمي لها.

الشعور بالنقص الذاتي: كذلك الشعور بالنقص أو الدونية عادة ما يجعل الشخص يتعصب إلى شيء قد يجد فيه ما يكمل نقصه،كالجاهل الذي يتعصب لرجل دين ما مثلا (مصطفى زيور، في النفس، دار النهضة 1986 ص196)،

الاختلاف الثقافي السلبي: فكلما كان هناك اختلاف أو تباين بين الجماعات التي تكون المجتمع، فوجود جماعات ‎‎تنتمي إلى أعراق مختلفة داخل المجتمع الواحد أو أديان مختلفة أو ثقافات مختلفة يعتبر أرضا خصبة‎‎ لنمو التعصب وتشكله.

التغير الاجتماعي الفجائي: كما تدل الدراسات على انه كلما كان التغير الاجتماعي سريعا وراديكاليا ازداد التعصب، إذ كثيرا ما يصاحب هذه السرعة اختلال ملموس في النظم والمؤسسات والقيم التي يؤمن بها الأفراد. كما يصاحب هذه السرعة نوع من عدم الاتزان والقلق عند الأفراد، لذا يلجأون إلى التعصب كوسيلة ‎‎لتغطية هذا القلق واختلال القيم.

الظروف الاجتماعية القاهرة: كالعوز والفقر والبطالة، فأحيانا يتجه الإنسان نحو التعصب والتطرف والعنف بسبب الفقر والحاجة إلى المال لسد حاجياته خصوصا فئات التفكك الأسري والتسرب المدرسي والانحرافات الأخلاقية والاجتماعية عامة.

الجهل ونقص ا لمعرفة: فالجهل بالآخر وعدم توسيع المدارك بمعرفته والاطلاع على ما يؤمن به من المصادر الموثوقة يدعوه إلى التعصب ضده ورفضه. كذلك عدم وجود فرص الاتصال بين الجماعات المختلفة من المجتمع الواحد عامل‎‎مهم في ازدياد التعصب.. فقد أثبتت الدراسات انه كلما ازدادت معرفة الفرد بالحقائق والمعلومات عن‎‎الجماعات التي يتعصب ضدها قل التعصب. كالجهل بإدارة العلاقات ووعي الأولويات.، فالجاهل بإدارة العلاقات يسد على نفسه وعلى غيره كثيرًا من أبواب السعة والرحمة، ويتخذ فلسفة الرفض أساسًا لعلاقاته فرارا من مواجهة المشكلات، وبذلك يتعصب لرأيه وضد غيره.

تضخيم القداسات مع الغلو: إذ يصل هذا التقديس والغلو إلى حد إضفاء صفة القداسة على غير المقدس، مما يؤدي إلى التعصب لهذا الشخص أو لهذه الجماعة مثلا: التقليد الأعمى لكل من هب ودب، دون النظر في أهليته وعلميته، فبعض الناس يقلدون كل من يخرج على الفضائيات، فيستمع إلى محاضراته، ويأخذ أمور دينه منه، من غير أن يعرف أنه إنسان متطرف أم معتدل. أو يتثقف دينيا عن طريق الأنترنت، فيجد الفتاوى والدروس والمحاضرات والخطب، فيتأثر بها، لاسيما الفتاوى الشاذة، والخطب التحريضية على العنف والتطرف العنيف، والمحاضرات المسمومة الهادفة لتأجيج الصراعات وبث الفتن في المجتمعات، ناهيك عن التيارات الدينية المنحرفة والتي تصطاد الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتعمل عبر توظيف الشحن الاصطلاحي الشرعي، ولاسيما المصطلحات الحساسة، كمسائل التكفير والتبديع والتفسيق والتضليل، والجهاد والولاء والبراء، لتجنيدهم وإغرائهم لتنفيذ مخططاتهم الفتنوية والإرهابية ونشر أفكارهم المتطرفة وترسيخ اتجاهها التعصبي عبر هؤولاء الضحايا.

الخلل في التوازن النفسي: والذي غالبا يبدأ من الشعور بالفشل في مواجهة التحديات وصعوبات الحياة ومشاكلها. واليأس والقنوط وخيبة الأمل في حصول مبتغاه، كل هذا يدفع الإنسان إلى التصرف تصرفا عدوانيا، ويجنح إلى الانحراف، وتظهر عليه حالات التعصب والتطرف والتشدد والكراهية والعنف.

الشعور بالتمييز (العنصري والطائفي والديني والمذهبي): شعور الناس بالتمييز الذي يمارس ضدهم من قبل السلطة أو الأكثرية الغالبة أو الجماعات المضادة، يدفع بهم إلى التعصب كردة الفعل، وهذا ما يبرز في حالات البلدان التي تقبع في سجن الاستبداد السياسي والديني والطائفي، وانحصار الحريات وفق شروط محددة وحسب ما يعطل التفاعل الاجتماعي والتعارف الثقافي والتعاون الوطني، كل هذا يسهم في رفع منسوب التعصب، وبث الكراهيات في نفوس المظلومين المهمشين، مما يحرك لديهم اتجاهات التطرف والتشدد والعنف والإرهاب.

وهناك حب التملك والتسلط والشهرة والسمعة لدى الجماعات المتطرفة، بحيث يستخدمون كل وسيلة ولو كانت غير مشروعة للصراع على تسلم السلطة ونيل المناصب القيادية والسيطرة على الأموال العامة، متسترين غالبا بعباءة التدين المغشوش وهذا شكل من أشكال الاستبداد الديني .

العامل الخارجي المتدخل في شؤون الدول والمجتمعات والأمم: ففي كثير الأحيان تقوم الدول العظمى بتشكيل الجماعات المتطرفة وتجنيدهم للعمل في الدول الصغيرة - لاسيما الإسلامية منها – لزرع الفتن والنزاعات في تلك المجتمعات لصالح الدول الراعية للتطرف والإرهاب.

التعصب المعاكس في رفض قيم المجتمع ومقدساته، والهجوم العلني والتآمر الخفي على الأمن الثقافي للمجتمع، مما يؤجج نار الفتنة،كالانحلال الخلقي تحت غطاء الحرية .

غياب دور المثقفين وعلماء الدين: عدم تثقيف وترشيد الناس – لاسيما الشباب- في كثير من البلدان الإسلامية، خصوصا تلك التي تتميز بتعدد المذاهب والفرق والجماعات، وكثرة الاختلافات بينهم، مما ينتج المغالاة في التنافس، وتبديع بعضهم البعض أو التفسيق أو التكفير.

الانغلاق وضيق الأفق: نجد كثيرًا من الطوائف والجماعات منغلقة على ذاتها لا تسمع إلا لنفسها، وتمنع أتباعها من الاستماع لغيرها، وتنشأ كثير من الافكار المتطرفة والتعصبية في أجواء مغلقة ومعتمة، تعلِّم رفض الآخر والعنف الموجه ومهاجمة أي شخص مخالف.

حجم الأقلية موضع التعصب: هذا عامل آخر ومنشأ واقعي يؤثر في شدة الاتجاه، فيرى (وليامز R.Williams) إن ‎‎التعصب يزداد كلما زاد حجم الأقلية وزاد معدل نموها زاد من حدة الصراع بين الأغلبية والأقليات‎‎الأخرى.

الإستغلال المصلحي والمنافسة بين الجماعات: ويعتبر الاستغلال عاملا آخر يؤدي إلى التعصب، فقد تتعصب جماعة ضد جماعة‎‎ أخرى وتصفها بصفات تبرر استغلالها، وقد يكون الاستغلال اقتصاديا أو سياسيا وغيرها، كذلك تلعب المنافسة في ميدان العمل والخوف من الفشل الذي يصاحب تلك المنافسات (زايد 2006، ص 81-83)

الأفكار النمطية الجامدة Stéréotypes: والتي تمثل المكون المعرفي للاتجاه التعصبي، والتي تعني تحديدا تعميمات غير دقيقة يحملها الفرد بخصوص جماعة معينة، وقد تكون هذه التعميمات ايجابية وقد تكون سلبية، والتعميم الايجابي يتضمن صفة جيدة أو مفضلة يضيفها الفرد إلى جماعته التي ينتمي إليها، ولنفرض أنها (س) فيقول إن جميع المنتمين إلى (س) أذكياء أو طيبون مثلا، فيما يتضمن التقييم السلبي صفة سلبية أو غير مفضلة يضفيها على الجماعة الأخرى التي تختلف عن جماعته بالعرق أو الدين أو المذهب، ولنفرض أنها (ص) فيقول إن جميع المنتمين إلى (ص) هم أغبياء وأشرار مثلا، لذا فالصورة النمطية تقود إلى عزو خاطئ، لذا ما يحصل للفرد المتعصب انه يعزو كل الصفات الايجابية إلى شخصه والى جماعته التي ينتمي إليها، ويعزو كل الصفات السلبية إلى الجماعة الأخرى التي يختلف عنها في القومية أو المذهب أو الدين ..إلخ (سليمان صالح 2007، ص190-192).

كما إن هناك عوامل أخرى لا نستطيع إغفالها مثل العوامل الثقافية كوسائل الإعلام المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، كلها تساعد في تشكيل التعصب عند الأطفال والمراهقين. التنشئة الاجتماعية المبكرة وأساليب المكافئة والعقاب التي يتلقاها المراهق في حياته فالقدوة السيئة، والتربية غير السليمة، والتنشئة في بيئة غير صالحة، الإنسان يتأثر ببيئته وبالظروف المحيطة به، وبمن يحيطون به من الأفراد والجماعات، سلبا وإيجابا. فإذا تربى في بيئة مشحونة بالعنف والتشدد والكراهية، فهو يحمل تلك الصفات في نفسه ويحكيها بتصرفاته.وهذا من خلال محورين هما:

أ – الاتصال بأفراد متعصبين حيث يجري تعلم معظم أشكال التعصب من الأفراد الذين هم بالفعل متعصبين بدءاً من الوالدين، فهناك ارتباط بين تعصب الآباء وتعصب الأبناء، ذلك لأن الآباء يدربون أطفالهم في الغالب على التعصب سواء كان ذلك بشكل شعوري أو بشكل لاشعوري، هذا فضلا عن المدرسين والأصدقاء، وأفضل مثال على ذلك ما هو متعارف لدى الجماعات الطائفية والتكوينات المذهبية.

ب – الاتصال بموضوعات التعصب وهنا من النادر أن يكتسب التعصب من خلال الاتصال ‎‎بموضوع التعصب، لكن من حين لآخر قد يتعرض الفرد لخبرة سيئة من جماعة عرقية ثم ينمو اتجاه الفرد التعصبي من خلال الاحتكاك (زايد 2006، ص 81-83).

مستخلص:

وعليه الإنسان الذي يتصور أن أفكاره وانتماؤه هما عين الحق والحقيقة، فإنه سيتعصب لها ويحارب من أجلها، ويحدد موقفه من الآخرين انطلاقا من موقف هؤلاء من أفكاره وقناعاته وبالتالي يتطرف بتعصبه هذا ..

وهذا ضد الالتزام الاجتماعي والاعتدال في ممارسة المواطنة والانتماء للمشترك الجامع للتنوع في أي مجتمع.. من حق كل إنسان أن يلتزم بأي فكرة أو نظرية أو دين أو جماعة، ولكن ليس من حقه أن يتطرف ضد الآخرين المختلفين عنه وعن إنتمائه بوصفه مالك الحقيقة الوجودية النهائية الأوحد، هذا الاحتكار للحقيقة هو الحد الفاصل بين الاعتدال الاجتماعي والتطرف الثقافي، لأن التعبير الحقيقي عن الذات لا يكون على حساب الآخرين ولا يمارس بالفرض والعنف والاعتداء والتمييز والتهميش والتسقيط لتعميم الأفكار والقناعات .. فممارسة العنف بكل أشكاله من اللفظي والفكري إلى الجسدي والمادي، هي تجاوز لحقوق وتخلف عن واجبات الحفاظ على السلم والأمن والاستقرار، لأن التطرف ضد اعتزاز الشخص بأفكاره والتعبير عن خصوصيته بوسائل سلمية – طبيعية، والتطرف يهدف لمطلق الساحة والمجتمع والأمة والوطن ولا يقبل التعبير عن الخصوصيات بوصفها حقائق نسبية...

من هنا فإننا أحوج ما نكون اليوم، إلى خطاب إنساني حول الدين والثقافة والاجتماع منفتح على التنوعات الثقافية والحضارية وينبذ العنف ويلاحق التعصب بكل أشكاله.. لأن هكذا خطاب هو المدخل الأساسي في تنمية العلاقات وفتح المساحات المشتركة بين جميع الفرقاء في المجتمع الواحد عبر التعارف والتسامح والحوار، مع حماية المجتمعات من الانجرار إلى تيارات العنف وممارسته.. لذلك فإننا نعتقد أن إحياء الوعي الثقافي المنفتح والمتسامح هو أحد ضرورات ومتطلبات انجاز وتعزيز الأمن الثقافي للمجتمعات العربية الراهنة..

***

أ. مراد غريبي

الكتابة عن المعتزلة منتشرة في أرجاء الدنيا منذ نشأتهم وحتى اليوم، والمقال معني بتوجههم العقلي السبّاق، فهم أصل تفعيل العقل ورواد منهج الشك، وسيكون مكثفا ومختصرا جهد الإمكان، وفيه بعض التكرار المقصود، والإشارات لتصوراتهم قد لا تكون ذات إنسيابية متلازمة.

التوحيد والعدل، أو المعتزلة، حركة سياسية دينية  فكرية فعّلت العقل وإتحذته منهجا للفهم.

نشأت في البصرة أواخر العصر الأموي وإزدهرت في العصر العباسي حتى سنة (234) هجرية،  ومؤسسها واصل بن عطاء (80 - 131) هجرية .

إنطلقت من البصرة الحاضرة الثقافية للدولة العربية، ومن ثم بغداد، وإنفردوا عن إجماع الأمة، وغيرها من الأسباب، وكان الحسن البصري  إمام جامع البصرة الذي تحول إلى جامعة للعلم والمعارف كافة، يجتمع ويتحاور مع الناس في مجلسه،  وجاء إليها واصل بن عطاء من المدينة المنورة، وهو ذكي ولديه قدرة عجيبة على الحفظ، وجرأة كبيرة على طرح أفكاره، وفصاحة غير عادية، ويمتاز بصعوبة نطق حرف الراء.

وأجاب الحسن البصري على سؤال مرتكب الكبيرة، فقال مؤمن وعاصي، وإعترض واصل بن عطاء وقال:  ليس بمؤمن ولا عاصي، بل في منزلة بين منزلتين.

واعتزل المجلس هو وعمرو بن عبيد (699 - 761) ميلادية، في زاوية المسجد، وقال الحسن البصري لقد إعتزلنا واصل، والإسم يحمل الإستصغار أو المنفصل، وهم يرون أنهم إعتزلوا الأفكار الخاطئة.

وبرزوا في زمن المأمون والمعتصم والواثق، حتى أوقفهم المتوكل وأبعد (إبن أبي دؤاد) الذي كان مسيطرا على الخلفاء قبله.

توفى واصل بن عطاء (39) قبل ولادة المأمون (170 - 218)، فالمأمون من أثقف الخلفاء وأشدهم إيمانا بالعقل، فوجد غايته في المعتزلة، وجعل فكرهم المنهج الرسمي للدولة.

ويقال أن أهم أسباب تطورهم وإزدهار نشاطاتهم، الأحداث والصراعات الفكرية والسياسية، والأسئلة الكبرى التي أثيرت في حينها، وتحزبات للرؤى والفرق، وتوسع دولة المسلمين ولابد من التفاعل بالعقل، وتحديد الموقف من الجماعات غير المسلمة في المجتمع ، ومناقشة الأفكار الأخرى للديانات العديدة، والنظرة المتميزة للتوحيد، وضد التثليث المسيحي ورفضوا الصفات للذات الإلهية.

أخضعوا كل شيئ للعقل، وعندما أتخذ المأمون مذهب المعتزلة نهجا للدولة، فرضوا رأيهم بالقوة على الآخرين، وكان سيفا ذو حدين، ووبالا عليهم حيث إنتهوا في القرن الرابع الهجري.

وأصبحوا عشرين فرقة أو أكثر ومنها،  الواصلية، العمرية، الهذيلية، الجاحظية، وغيرها، ويتميزون بالقدرة الخطابية، والتحليل العقلي، وبجادلون وينافشون، وبحماسهم لنشر الفكر، وعندهم أخلاقية عالية، ولباسهم جيد وموحد، ويتصرفون بوقار.

وقالوا بتقديم العقل على النقل، فالعقل هو الحاكم على الشرع، وقادر على معرفة الله، ومعرفة الصواب من الخطأ والحلال والحرام، فالحكم للعقل، وهو أداة نقدية، وأخضعوا للعقل النصوص الدينية، فما يقبله العقل مقبول، وما لا يتفق معه والنص للعقل الأولوية، فيجنحوا للتأويل للتعقيل.

ومبادؤهم الخمسة التي يسمونها الأصول الخمسة، هي: الله التوحيد العدل المنزلة بين المنزلتين الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف . وبتفصيل أكثر:

الأزلية والألوهية: صفات الله هي عين ذاته، والقدرة والعلم والحياة صفات الذات وهي وذات الله أمر واحد، والمعنى المجازي يد الله القدرة، يكشف عن الساق  أهوال يوم القيامة، فالله واحد ليس كمثله شيئ، ينزهون الله، الذات الإلهية شيئ واحد، صفة وموصوف  وينكرون تعدد الذات الإلهية.

العدل: حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله لكي يكون الحساب واقعا، فالإنسان يملك الحرية في أفعاله ولا يجبره الله على الفعل  لأنه صاحب عقل.

المنزلة بين منزلتين: ليس بمؤمن وليس بكافر (الفاسق)، الصغائر والكبائر، كبيرة الشرك، المعتزلة لا يكفرون مسلم.

الوعد والوعيد: حق لا تبديل له، يوفي بالوعد والوعيد، لا شفيع ولا توسط

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من الواجب التدخل لمنع المنكر ولا يستثني أحدا، رئيس ومرؤوس، نصح وموعظة، والقوة جائزة في حالة توفر الظروف.

التعرض للحاكم يجب أن يكون مقرونا بالقوة اللازمة لذلك وإلا فأن العمل عبثي.

خلق القرآن (212 - 234) هجرية: القرآن مخلوق، أوجده الله كغيره من المخلوقات، لم يكن موجودا فأوجده الله، فهو ليس أزلي، فهمهم للصفات الإلهية وذاتية الله.

الله تكلم به وخلقه وأنزله، وهو مرتبط بأحداث في زمن محدد، مستحدث وليس أزليا، وهو لمصلحة العباد وهم مخلوقين ومصالحهم متغيرة.

آيات تنسخ آيات، تخاطب الأنبياء بأساليب مختلفة، إنا جعلناه قرآنا عربيا، وما هو مجعول مخلوق، والنصوص ترتبط بأحداث زمانية ومكانية، ولهذا يتهمون بقولهم ببشرية القرآن.

ومن سماتهم، إعادة إنتاج الماضي، الإجتهاد والقراءة العقلية للنصوص والتأويل، أوّلوا كل ما يجسم الله، نفي رؤية الله بالبصر فهو لا تدركه الأبصار، نفي أي شفاعة، نفي الغيبيات، نقد الروايات المخالفة للعقل، الغيب من علم الله ولا أحد يدري بالغيب، الصراط غير مادي في عرفهم، الميزان الحسي وعلامات قيام الساعة ، إنها سوف تأتي فجأة، الجنة والنار ليستا أزليتان بل مخلوقات، نفي الخوارق والأمور الغير معقولة ، ونفي السحر والتواصل مع الجن، الكرامات والمعجزات أنكروها.

وأعلامهم رواد الفكر الحر والعقل ومنهم  الزمخشري، الحاحز.

ولابد من القول بأنهم فرقة عقلية رائدة، أكثر شهرة وقدرة على إنتاج الأفكار والرؤى الفلسفية الراقية، سبقوا دخول الفلسفة اليونانية إلى العرب، فهم الرواد ولهم الأسبقية الفكرية والعقلية، وهم ليسوا صدى للقادم من اليونان.

أدوات الجدل ومناهج العقل:

العقل له منزلة مقدسة، الرسول الباطني في داخل النفس الإنسانية لقيادتها نحو الحقائق، وهو حجة على الإنسان، ومظهر من عدل الله وحكمته، وله القدرة على الفصل والتمييز  بين الخير والشر، فالعقل لوحدة قادر على الوصول إلى الصلاح، أ فلا تعقلون، تتدبرون.

ومنهجهم تقديم العقل على النقل، فأدلة العقل هي الأصل، وأدلة النقل مؤيدة للعقل.

العقل قادر للوصول إلى حقيقة الله، وأول الأدلة للفهم، ولديهم منهجية تأويل الآيات، ومناهج تختص بأمور الدنيا، والمحكم والمتشابه من الآيات.

لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وجوه يوم إذن ناظرة إلى ربها ناظرة

النقد والشك

الشك المنهجي القائم على الدليل العقلي، إن الشك أول الواجبات \ الشك يوصل إلى اليقين عن طريق العقل \ سباقيين في تأسيس الشك المنهجي \ رائدين على مستوى عالمي سبقوا ديكارت والغزالي الذي ربما أخذ أفكاره ديكارت.

النظرية النقدية الفحص النظر والإستدلال العقلي وهو ذو قوة إبداعية، ونقد الأخبار والحديث ويقيسونه عقليا. وتقد الجاحظ الحجرالأسود كان أبيضا وجعله المشركون أسودا، بيان ضعف الخبر عقليا، والصحبة للنبي لم تكن رادعا لهم، فكانت أخطاؤهم كثيرة بعد وفاة النبي، إبراهيم النظام ينقد حتى الخلفاء الراشدين وناقم على إبن هريرة.

المعرفة الحسية : قدرة الحواس على إكتساب المعرفة مدركات حسية وهي خادعة، التجربة الحسية، المعرفة العقلية أو المدركات العقلية البديهيات، ولكل منها قيمة لإدراكه الأشياء، العقل قيمته الإدراكية أعلى وأقوى وأطلق، فالعقل فوق المدارك الأخرى.

المعرفة مدراكات عقلية ومحسوسات، الحيوانات لها مدركات حسية، ويرون أنها لا تملك العقل فلا تميز بين المحسوسات، فتكون بلا فكر ورأي، فالعقل يميز ويصحح خداع الحواس.

علم الكلام : علم الدفاع عن التوحيد، منهج معرفي يهدف لإقامة الإيمان الديني على أسس عقلية، إيمان عقلي، سيكون وسيلة للدفاع عن الدين، المتكلمون وظيفتهم الرد بالحجج العقلية والبراهين المنطقية الواضحة.

علم الكلام أساس لوضع الفلسفة كما فعل الكندي، فالمعتزلة أثروا في النشاطات العلمية.

ومنهم أبن الراوندي، الفارابي، الكندي، الجاحظ، سيبويه، إبن الهيثم وغيرهم، قدموا الفكر والعلم والعصر الذهبي للأمة، ودافعوا عن الإسلام بالحجة والدليل والجدل الفكري، وعقلنوا الدين والنص الديني

فالدين العقلاني مذهبهم وديدن نشاطهم، والحرية الإنسانية من ركائز منهج المعتزلة.

وكما تقدم ظهروا في القرن الثاني للهجرة كفرقة دينية إصلاحية تجديدية، وربما ثورية، موقفهم نقدي ضد النظريات والأراء، حرية التفكير والتطوير، إيمان بقدرة العقل البشري فأعلوا من سلطانه، وجعلوه حكما على كل شيئ فلا حدود أمام العقل، ولا يستعصي عليه شيئ من الإدراك، ويمكنه الوصول إلى المعارف وأغوار الحقائق، فالعقل يستطيع إدراك ما موجود في الكون.

إنهم فرقة عقلية، العقل أداة المعرفة الأساسية، فألحقوا المعرفة الحسية بالمعرفة العقلية، لأنها ستكون من صلاحيات العقل، فالمحسوسات موضوعات المعرفة العقلية، والعقل يحولها إلى مدركات عقلية وترتيبها وتحليلها، ليصل إلى معرفة محددة.

وسعوا من دائرة نفوذ العقل فجعلوه حكما على الإيمان الديني والنص الديني، فإلإيمان الديني لا يستقيم دون الإرتكاز العقلي، والنص الديني إذا إتفق مع العقل يؤخذ به وإلا لا يؤخذ به، فالعقل قادر على تحديد الحسن والقبيح من الأفعال، حسن وقبيح بذاته.

يرفضون العديد من الأحاديث والمرويات لأنها تستخف بمنطق العقل ، فروات الحديث في عرفهم  يتقولون الكذب على الله ورسوله.

قاموا بالتأويل العقلي، نفوا رؤية الله في الدنيا والآخرة.

خلق القرآن أي القرآن مخلوق، بينما الرأي الآخر يرى أنه أزلي وفي اللوح المحفوظ، وخلق القرآن أقرب إلى العقل مخلوق في زمن خلق من أجل معطيات وأحداث تمت في زمنها.

المسار الإصلاحي المرتكز على العقل، رفضوا الخوارق والكرامات، إيمانهم بقدرة العقل على معرفة الخير والشر والتشريع وغصدار القرارات والأحكام والتمييز بين القيم كالحق والصدق والمساواة وحرية الإرادة.

وجود قانون طبيعي يعلو على أي مصدر آخر للتشريع .

الإنسان يمتلك حرية إرادة وإختيار وهو الخالق لأفعاله، ويستحق عليها الثواب أو العقاب.

ما قيمة وجود العقل إذا كان الإنسان مجبرا على أفعاله، لماذا يعطي الله العقل للإنسان إذا يجبره على الأفعال، بينما أعطاه حرية العقل والإرادة والإختيار، وهذا يبرهن العدالة الإلهية التي تستوجب العقاب لأنه حر ومسؤول.

العلاقة الجدلية بين حرية الإنسان والطبيعة ، العالم الطبيعي محكوم بقوانين ثابتة ويعمل بمبدأ السببية، وفي الإنسان مربوطة بالإرادة البشرية.

وهم نخبة من العلماء الأفذاذ، أطلقوا الفلسفة، وعلم الكلام، إخوان الصفا والفكر العقلاني، أمثال واصل بن العطاء، عمر بن عبيد، أبو الهذيل العلاف، الزمخسري، إبراهيم النظام (مارس الشك المنهجي، ومارس المنهج التجريبي )، الجاحظ، يعلم العقل والأدب، أثروا في الفكر الإنساني، وركزوا على مقتضيات العقل والحكمة العقلية، ورفضوا العقل المغيب المعطّل، والأحداث يرونها بنت زمانها ومكانها، والتغيير منهجهم الواضح المبين.

***

د. صادق السامرائي

كان محمد عبده أحد حركة الإحياء الديني في نهاية القرن التاسع عشر والتي ظهرت في وقت نكوص وانحدار الخلافة العثمانية وكشفت عن الفجوة الحضارية الهائلة التي تفصل العالم الإسلامي عن الغرب، وقد دعا محمد عبده في مجمل فكره إلى معادلة تجمع ما بين التمسك بالتراث بعد تحريره من الخرافة والتقليد والاتباع الحرفي وبين تبني قيم الحداثة الغربية دون تقليد نمط حياته واستنساخ أسلوب ثقافته .

إن قراءة محمد عبده خارج سياق التاريخ قد تضعه في منزلة أقرب للمحافظة أو التقييدية وفق معاييرنا المعاصرة، لكنه بمعايير زمنه كان ثوريا إلى حد ما، وحركت أفكاره المياه الراكدة حينذاك، وبنى عليها كثيرو من مفكرو الحداثة العرب المعاصرين أشياء وأشياء وأفكارا وأفكار .

والإمام محمد عبده قد ولد في عام 1849 في زمنا كانت مصر لا زالت تعيش ارتدادت الصدمة الحضارية التي تعرضت لها عقب الحملة الفرنسية التي أتاحت لها الاحتكاك بالثقافة الغربية واكتشاف حجم الفجوة الحضارية التي تفصل الغرب عن الشرق .

تلقى محمد عبده علومه عن الأزهر الشريف حتى تخرج منه 1877 حيث تكونت لدى محمد عبده أثناء الدارسة حاجة الأزهر للإصلاح المؤسسي والمنهجي وتنامت هذه القناعة بعدما طالته الثقافة وتعرف على الثقافة الغربية عن قرب وتمكن من إحداث بعض الإصلاح في الأزهر عندما عينه الخديوي عباس حلمي مفتيا للديار المصرية عام 1899 وكذلك عضوا في مجلس إدارة الأزهر .

وكان محمد عبده قد وهبه الله سبحانه وتعالي فكر الإصلاحي وفكر التجديد، ودائما ما نفرق بين الإصلاحي والتجديد، وذلك لأن الإصلاحي يفترض أن ما سبق كان خطأ، والتجديد يرى أن ما سبق كان خيرا ولكن لكل زمانا واجب أي يجب علينا أن نعيشه وندركه ولا نقصر في فعله، والإمام محمد عبده كان يجمع بين الأثنين فهو مصلح ومجدد ومن هنا نراه في مشروعه التجديدي أراد أن يتعامل مع الواقع من خلال إدراكه لهذا الواقع وأن يتفاعل معه وأن يؤثر فيه وأن يغيره إذا كان يحتاج إلى تغيير فهذا هو مشروعه التجديدي الذي يبدأ من التعامل مع الواقع، وقد رأيناه هذا وهو في الوقائع المصرية ورأيناه هذا وهو منضم للثورة العرابية وكذلك وهو منضم لمدرسة الأفغاني ثم يختلف معه من أجل قضية التعامل مع الواقع.

وأود هنا أن أتساءل: ماذا تفيد قراءة محمد عبده اليوم في إعادة بناء علم التوحيد؟، وهل قدمت القراءة حركة الإحياء عند محمد عبده التي كان من أركانها فكرا نهضويا؟، أم أسست للفكر الأصولي الماضوي المعاصر؟

وهنا يجيئنا الأستاذ الدكتور محمد صالح محمد سيد أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب – جامعة المنيا بجمهورية مصر العربية، والذي كان قد كتب عن بعض جوانب مشروعه الفلسفي من ذي قبل على صفحات المثقف، والآن أستأنف حديثي عنه مرة أخري، حيث أكد في كتابه "إعادة بناء علم التوحيد عند الأستاذ الإمام محمد عبده "، أن علم التوحيد قد عانى في طوره المتأخر من التدهور والانحلال، ولم يقو أصحابه على إبداع فكر جديد يواجه العصر ومستجداته، بل ظلوا في إطار البحوث التقليدية، وبنفس النمط الذي أثيرت به في كتب الأسلاف، وظلوا يدورون في هذا الفلك، فأصيب علم التوحيد بالجفاف، ولم يبدع فكرا جديدا له أثره في مواجهة تحديات الحضارة الحديثة، وما تفرزه من فلسفات وأيديولوجيات تهاجم الإسلام وتحاول جاهدة أن توقف مسيرته الحضارية.

على أن هذا العلم في نظر محمد صالح  منذ القرن الثامن عشر، قد بدأ نهضة جديدة بدأت تظهر بصورة أكثر وضوحا على يد الأستاذ الإمام الذي حاول أن يصوغ لعلم التوحيد وظائف جديدة انطلاقا من ان الإسلام دين وثقافة وحضارة فيجب أن يكون لهذا العلم دور فعال في توجيه اليحاة الاجتماعية والثقافية والسياسية للفرد في أي مجمتع إسلامي، وللأمة الإسلامية كأحد التجمعات البشرية.

ومن هنا كما يقول محمد صالح بدا يتساءل الإمام عن الدور الذي يمكن أن تلعبه عقيدة التوحيد في حياة المسلم الروحية والمادية، وفي حياة المجتمع الإسلامي، وكيف يمكن لعقيدة التوحيد أن تنفذ إلى جوهر الوجود الإنساني؟، وكيف يمكن أن تكون هذه العقيدة أيضا محررة للطاقات الإنسانية لكي تفعل وتؤثر، فتحول هذه الذوات الخاملة البليدة إلى ذوات فعالة نشيطة مبدعة؟.

لهذا كان من أهم الوظائف في نظر محمد صالح التي وضعها الأستاذ الإمام لهذا العلم – وهو بصدد إعادة بنائه – أن يتحول الإيمان من مجرد الإيمان النظري إلى إيمان عملي يرسخ مبدأ العمل كشرط ضروري من شروط الإيمان، ذلك العمل الصالح في مجال الفرد والمجتمع، وهنا تبرز فعالية الإسلام الحقيقية، فالعمل يرتبط بالعلم ارتباطا وثيقا، فلا عمل بدون علم، ولا قيمة لعلم أو اعتقاد بدون عمل، ولهذا تتسع دائرة الإيمان لتشمل مع الاعتقاد والعبادة، شئون الدنيا، وتنظيم المجتمع، والعمل على ريه وازدهاره، وقضايا الإنسان وتحرره ... إلى آخر تلك القضايا التي تشمل الدين والدنيا معا.

وهنا أدرك الأستاذ الإمام – وهو الشيخ المجدد – أن الصورة التقليدية لعلم التوحيد لا تسعفه في إنجاز هذه المهام، فلابد إذن من إعادة هذا العلم، ومن ثم يقول " ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين كما ذكر محمد صالح  وذلك في المسائل التالية:

أولا: أولا دور العقل في تأسيس الاعتقاد: حيث يؤكد الإمام توكيدا تاما على أهمية العقل في تأسيس الاعتقاد الديني، ولذلك لا يكف عن الإلحاج على ضرورة اطلاق سراح العقل، ليمارس حريته في التأمل، والتفكر، والاستنباط، والاستدلال.. لكي يؤسس المسلم اعتقاده الديني على أساس منه .

ثانيا: نبذ التقليد والدعوة إلى الاجتهاد: وهو أمر مرتب على الأمر الأول كما يقول محمد صالح – وهو وجوب النظر العقلي في تأسيس الإيمان – فهذا العقل يجب أن يتحرر من التقليد، منطلقا إلى الاجتهاد القائم على الفهم، والاستنتاج، والاستنباط، واتباع المنهج العلمي الحديث في البحث، ذلك الاجتهاد الذي يحاول صياغة فقه جديد يتلاءم مع تطور الحياة الإسلامية، وما يجد فيها من جديد لا يعرفه أمس هذه الحياه، اجتهاد يخضع الحوادث للتكييف الإسلامي، واجتهاد يبرهن براهين قطعية على أن الإسلام هو الدين النهائي للبشرية، اجتهاد لا يقتصر فقط على استخراج الأدلة من الكتاب والسنة، وإنما يتعد ذلك إلى مراعاة قواعد من وحي النص القرآني، من شأنها تشيع روح الإسلام في كل ما نعانيه من مشكلات، درءا للبحث عن مصادر أخرى لحل هذه المشكلات.

ثالثا: التأويل العقلي للنصوص الدينية: وهو أحد فعاليات العقل في فهم النص الديني، واستخراج معانيه الكامنة، وقد نبه الأستاذ الإمام كما يقول محمد صالح إلى أمرين مهمين: الأمر الأول: ألا يكون طريقا لتأييد مذهب عقدي أو فقهي بعينه، مما يضطر المؤول إلى التعسف في التأويل موجها من خلال فكر مسبق . والأمر الثاني: لا يلجأ إلى التأويل إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كدفع معاند، أو إقناع جاحد، أو إبراز قيم من الإسلام تعين الناس على تحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، أو لتطهير الشعور الديني مما يكون علق به من تصورات خاطئة، أو التقريب بين الإسلام وروح العصر ....، وفي كل الأحوال لابد وأن يكون التأويل مستوفيا لشروطه، ولا يصدر إلا من قادر عليه .

رابعا: تحطيم المذهبية في علم التوحيد: فالأستاذ الإمام كما يقول محمد صالح يرفض التعصب لمذهب بعينه، انطلاقا من أن تعدد اجتهادات الأمة، يدل على نضجها الديني، ولكن الخطأ كل الخطأ في محالوة فرقة ما، أو مفكر ما، أن يفرض آراءه على الآخرين، معتبرا اجتهاده الاجتهاد الوحيد الصحيح، وباقي الاجتهادات فاسدة وضالة، على نحو ما ساد في تاريخ علم التوحيد حيث ساد في هذا التاريخ منطق الفرقة الواحدة الناجية والباقي هلكى ..، لقد دافع الأستاذ الإمام كما يقول محمد صالح عن دور جميع العقول في الاجتهاد وحقها في الاختلاف، انطلاقا من الأخذ بمبدأ التعددية، ودحضا لأحادية الفكر والرأي .

خامسا: تحليل الأصول الإسلامية تحليلا عقليا يربطها بالعمل: ومن فعاليات العقل، تحليل الأصول الإسلامية تحليلا لا يقف بها عند اطرها النظرية، بل يتعدى ذلك إلى مجال العمل، فمثلا يرى الإمام أن الإيمان بالقضاء والقدر إذا تخلص من شناعة الجبر صار أصلا يدفع إلى العمل ويحفز الإنسان على الجرأة والإقدام ويخلق فيه الشجاعة والبسالة .

سادسا: المؤائمة بين الإسلام ومتطلبات العصر: حيث يعرض الأستاذ الإمام كما يذكر محمد صالح عرضا يتلاءم ومتطلبات العصر، فيوضج أصوله من: وجوب النظر العقلي، وتقديم العقل على الشرع عند التعارض، والبعد عن التكفير، وقلب السلطة الدينية، والاعتبار بسنن الله في الخلق، ومودة المخالفين في العقيدة، والجمع بين مصالح الحياة والاخرة، ... كل هذه الأصول تؤكد توكيدا تاما على أن الإسلام دين العلم والمدنية، فهو دين العلم، لأنه يشجع عليه، ويهيئ له مناخه الصحيح، ويزكي العلم، بل يعتبره شعبة من شعب الإيمان، وكذلك الإسلام دين المدنية فأصوله تؤكد ذلك... ونكتفي بهذا القدر وللحديث بقية...

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

تأليف: مات هيوستن

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تشير الأبحاث إلى أن الناس يجدون الأعمال الفنية أكثر إمتاعًا من الناحية الجمالية عندما تكون ذات صلة بهم شخصيًا بطريقة ما.

ما الذي يجعل العمل الفني البصري جميلاً؟ لقد حدد الباحثون في علم الجمال العديد من الخصائص الفيزيائية - مثل التماثل والتعقيد البصري - التي يبدو أنها تؤثر على تفضيلات الناس، لكنها لا تفسر كل شيء. وفي حين أن بعض الأعمال الفنية تحظى بإعجاب أكثر من غيرها، فإن ذوق الناس في الأعمال الفنية متغير بشكل كبير (على ما يبدو أكثر من تفضيلاتهم للمشاهد الطبيعية أو الوجوه البشرية المحددة). نظرًا لخصوصيات الذوق الفني، كان الباحثون يبحثون عن أشياء أخرى قد تفسر مدى الجمال الذي ندركه أنت أو أنا في العمل الفني.

تشير مجموعة حديثة من الدراسات في مجلة العلوم النفسية إلى أن العامل الشخصي - على وجه التحديد، مدى ارتباط القطعة الفنية بك، بطريقة أو بأخرى - يمكن أن يساهم بشكل كبير في قوتها الجمالية. وسط الألوان الزاهية للمناظر الطبيعية الانطباعية المفضلة لديك، أو الضربات الجريئة للرسومات بالحبر الياباني المحبوب، أو الأشكال الملتوية لقطعة مجردة آسرة، قد تكون هناك صفات فنية تعجبك بشكل خاص لأنها تتحدث بطريقة ما عن ذكرياتك أو هويتك أو عناصر أخرى من حياتك.

أظهر إدوارد فيسيل، عالم الأعصاب المعرفي الحسابي في كلية مدينة نيويورك، وزملاؤه للناس (مجموعة صغيرة من المشاركين الألمان في إحدى الدراسات، ومئات من المتحدثين باللغة الإنجليزية في دراسة أخرى) صورًا للوحات تغطي أنماطًا مختلفة. والأنواع والعصور. نظر المشاركون إلى كل صورة للحظة ثم قاموا بتقييمها. على سبيل المثال، في إحدى الدراسات، قاموا بتقييم كل لوحة بناءً على مدى "جمالها أو إقناعها أو قوتها" ومدى تأثيرها فيهم. ثم قام المشاركون بتقييم مدى ملاءمة كل عمل فني، "استنادًا إلى مدى اعتقادك بأن العمل الفني المصور يرتبط بك، أو باهتماماتك وهواياتك، أو شخصيتك، أو الأماكن أو الأشخاص الذين تعرفهم، أو الأحداث في حياتك الشخصية." .

واختلف المشاركون بشكل كبير في كيفية تقييمهم للوحات المختلفة. لكن بشكل عام، كلما صنفوا العمل الفني على أنه ذو صلة شخصية بهم، زاد ميلهم إلى تقييم تأثيره الجمالي. والأكثر من ذلك، يبدو أن الملاءمة الذاتية تفسر الاختلافات في كيفية استجابة المشاركين للصور أكثر من قائمة طويلة من خصائص الصورة المختلفة، مثل التعقيد و"الطبيعية". وبشكل عام، تشير النتائج إلى أن الأهمية الشخصية تؤثر على كيفية استجابة الناس للفن البصري.

هل كان من الممكن للمتطوعين أن يقوموا ببساطة بتقييم الأعمال الفنية التي أعجبتهم أكثر على أنها الأكثر صلة بهم أيضًا؟ أجرى الفريق دراسة ثالثة تناولت هذا القلق، والتي تضمنت استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء عمل فني مصمم خصيصًا ليكون ذا صلة بكل مشارك.

شارك المشاركون أولاً تفاصيل شخصية عن أنفسهم، مثل المكان الذي نشأوا فيه، والأماكن التي سافروا إليها، والفئات الاجتماعية، والأشياء المفضلة (مثل الكتب، والطعام، والحيوانات) وأسلوب اللباس. قام الفريق بتغذية هذه المعلومات في خوارزمية التعلم الآلي لإنشاء صور مصممة بشكل فردي تبدو وكأنها أعمال فنية من صنع الإنسان، ولكنها تعكس أيضًا جوانب من حياة كل مشارك، مثل لوحة على طراز المناظر الطبيعية لمدينة قام المشارك بزيارتها .

صنف المشاركون الأعمال الفنية التي تم إنشاؤها لتكون ذات صلة بهم على أنها أكثر جاذبية من الناحية الجمالية، في المتوسط، من القطع الفنية الاصطناعية الأخرى، بما في ذلك تلك التي تستند إلى تفاصيل من حياة أشخاص آخرين والتي كانت قابلة للمقارنة من حيث خصائصها الجسدية. لذلك، ارتبطت الملاءمة الذاتية مرة أخرى باستجابة جمالية أكبر - وأظهرت هذه النتائج باستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أكثر إقناعًا من الدراسات الأولية أن الأولى هي التي قادت الثانية، وليس العكس.

لماذا قد يبدو الفن المرتبط بتجربتك الحياتية أو إحساسك بالهوية أقوى أو أجمل من القطعة المعلقة بجوارها؟ يعتقد الباحثون أن الأمر قد يكون له علاقة بميل الإنسان إلى الاستمتاع بفهم العالم. يقول فيسيل: "غالبًا ما أفكر في علم الجمال كعملية أسميها "متعة الفهم".ويوضح أن الفكرة الأساسية هي أنه "يمكنك استخلاص متعة المتعة من الانخراط في صنع الإحساس والاستمتاع بلحظات "آها" واكتساب فهم أفضل للعالم من حولك".

يعطي فيسيل هذا المثال: إذا علمت أن مقبض الباب في منزلك يتحول إلى اليسار بدلاً من اليمين، فهذا أقل أهمية بكثير لفهمك للعالم من معرفة أن شقيقك قد تم تبنيه بالفعل. هذا الأخير أكثر صلة بإحساسك بالهوية وأكثر إقناعًا. يمكن أن يكون شيء مماثل صحيحًا بالنسبة للفن: كلما زاد ارتباطه بك وزادت قدرته على إعلام الأجزاء المركزية من رؤيتك للعالم، زاد احتمال تأثيره فيك.

بالطبع، إحدى سمات العديد من الأعمال الفنية الرائعة هي قدرتها على جعلك على اتصال بشخص أو شيء بعيد عنك. قد تقدم لك اللوحة لمحة عن وقت أو مكان بعيد، أو تعرفك على شخص لا يمكنك مقابلته في الحياة الواقعية، أو تتيح لك رؤية الطبيعة من خلال عدسة مختلفة جذريًا. إن فكرة أن الكثير منا يفضل الفن الذي يتحدث عن إحساسنا بالذات قد تبدو متعارضة مع تلك الخاصية ذات المظهر الخارجي. ولكن هل هو كذلك؟

ولعل الاهتمام بالذات يساعد - على الأقل في بعض الأحيان - في تشكيل جسر إلى ذلك العالم الآخر الذي يسعى عاشق الفن للوصول إليه. في حين أن التسامح مع ما هو غير مألوف يمكن أن يختلف من شخص لآخر، "بالنسبة لمعظمنا، إذا تم تقديم شيء ما بطريقة يمكننا من خلالها ربطه على الفور ببعض جوانب تجربتنا الخاصة، فيمكننا التعمق بشكل أسرع بكثير". يقترح فيسيل ، على الرغم من كل ما قد يبدو غريبًا في مشهد عصر النهضة الكئيب أو الصورة التكعيبية، فقد يكون هناك شيء ما فيه يتردد صداه مع تجربتك، وبذلك يوفر لك موطئ قدم. يقول فيسيل: قد يعني ذلك أنه "يمكنك الانتباه إلى ميزة يمكنك فهمها". "وإلا، قد لا تولي اهتماما لذلك. يمكنك فقط المشي بجوارها.

***

...........................

* مات هيوستن /Matt Huston محرر وكاتب مهتم بعلم النفس والصحة العقلية والثقافة. قبل انضمامه إلى Aeon+Psyche، كان عضوًا في هيئة التحرير في مجلة Psychology Today لما يقرب من عقد من الزمان. لقد كتب عن مجموعة متنوعة من المواضيع في مجال السلوك البشري، بدءًا من العلاج عن بعد إلى الإدراك الاجتماعي إلى التكاثر في العلوم النفسية.رابط المقال: https://psyche.co/users/matt-huston

الأيديولوجيا من "علم اللغة الفرنسية، إلى اللغة اليونانية القديمة"، مفهوم مركب من كلمتي " إيديا "، بمعنى "فكرة" وكلمة " لوجوس " التي تعني "علوم التدريس"، الدارج بالعربية "علم المنطق". ووفقا للرؤية العالمية المعروفة بـ "نظرية الأفكار"، فان مفهوم الأيديولوجيا كمصطلح حديث في علوم السياسة المعاصرة كما يبدو، قد استقى تعريفات عديدة، ألا أنه، الشكل الأكثر تكاملا للأفكار والمعتقدات والاتجاهات السياسية الكامنة في أنماط سلوكية معينة، بالإشارة إلى "الوعي الساذج" للمجتمع. ومن ناحية أخرى، يشير علم الاجتماع إلى أن التعريف الدارج في الولايات المتحدة، يطلق على كل نظام معايير أيديولوجية تستخدمها مجموعات أصحاب القرار لتبرير وتقييم أفعالهم وأفعال الآخرين على النحو الذي يتطابق مع أفكارهم. ألا إن هذه الأيديولوجيا، تعكس: الأفكار ووجهات النظر العالمية التي لا تستند إلى أدلة وحجج جيدة، إنما تجسد العنف للهيمنة على الحكم.. إذن الأيديولوجية، لها مجموعة غير ثابتة من المفاهيم والمعاني، بعضها حصرية، يمكن للمرء أن يصفها على أنها نص منسوج من مفاهيم مختلفة، ومختلفة بخطوط تقليدية متباينة، طالما يتم ضخها بقوة في مفهوم نظري.

أدى تباين تلك الأفكار والعقائد والثقافات السياسية، بشكل أساسي، من خلال انعدام حرية التعبير واستقلالية المعتقد أو عدم التجانس الديني والعرقي، كما هو الحال في العراق، إلى العنف الأيديولوجي، وبالتالي إفراغ الفكر السياسي من محتواه المجتمعي باتجاه التوجيه نحو الصراع بين "اليسار واليمين" بين "علماني" و"أصولي"، اللذان أديا إلى محدودية أسس السيادة ومفهوم الدولة الوطنية وصيانة مصالح الدولة والمجتمع.

السؤال إذن، ما هو شأن خطاب الأيديولوجيا فيما يتعلق الأمر بمفهوم الدولة؟ ومركزيتها؟. في بلد كالعراق مثلا، تفتقر، أي "الأيديولوجيا الشعبوية" إلى الواقع العملي والقيمي لمعنى الحياة الاجتماعية وعلامات ظواهرها من الناحية السوسيولوجية والانسانية والفلسفية، ايضا إلى العديد من الأفكار ذات الدوافع الوطنية. وتقف حائلا أمام صعود قوى أو طبقات اجتماعية مستنيرة معينة، تستطيع من ناحية العقيدة الإدارية ـ السياسية، الفرز بين مسألتي السلطة وطبيعة نظام الحكم مؤسساتيا، لا وفق عقيدة ايديولوجية تعرض مصالح الدولة للخطر. الأمر الذي يعرض المجتمع إلى الجمود واللاأبالية إزاء ما يحدث على المستوى الوطني والمؤسساتي. وبالوسط الذي يحتكر السلطة وفق مبدأ "عقائدي"، ممارسة اختبار الأفراد وتحويل علاقاتهم به إلى واقع طبيعي يتصرف فيه الأشخاص وفقا لارادته بوسائل هي أقرب إلى ما يعرف بـ "الأمر الواقع" يتميّز بطابع توجيهي لا طوعي، داخل أو مع الدولة.

شهد علماء اللاهوت في العصور القديمة استخدام الدين من قبل السياسة لأغراض خاصة. في ذلك الوقت كان لها أشكال مختلفة: التغيرات اللاهوتية للقوى والظواهر الأكثر علمانية، "تعبير". التأليه الذاتي، الاثني - اثني، "رموز"، دنيوية مقلوبة ومتشابكة. وبدلا من جعل اللاهوت "الدين"، قابلا للاستخدام من قبل السياسة، أصبحت عملية الدين سياسية.

في هذا الشق فيما يتعلق بمسألة الحكم في العراق على مدى ستين عاما، منذ انقلاب البعث 1963 مرورا فيما بعد الاحتلال عام 2003، بكل تفاصيله كـ "تجربة" سياسية متأثرة بالعنصر الطائفي ـ الديني العرقي وفقا للظواهر والدراسات، باختصار: فإن ناتج المقارنة بين "الأيديولوجية والدين"، قولا واحدا مخيبا. إذ افرز تصنيفات على غير الشكل التقليدي من عدم الرضا تجاه سلوك الأحزاب الطائفية والإسلام السياسي التي أساءت استخدام السلطة وفي الغالب تمادت في اضطهاد الآخرين والتجاوز على الحياة المدنية والقانون. بيد أن طبقة أولياء الدين "الفقهاء" لم تتردد من دعم سلطة الإسلام السياسي "شيعي سني" على الرغم من مآثرها العقيمة، اسوأها: التفريط بأمن الدولة وسيادتها وانتهاك دول إسلامية جارة مثل تركيا وإيران والكويت حرمة العراق مما تسبب سقوط العديد من الضحايا الأبرياء بالإضافة إلى نهب موارده واحتلال اراضيه ومياهه وحدوث دمار بيئي واسع. يدلل ذلك، من وجهة نظر سياسية لا أيديولوجية، بأن الدين السياسي ومفهوم الديمقراطية على أساس الدولة الدستورية، أمران متعارضان بالشكل والمضمون.

مع هاجس كل هذه التحديات الخطيرة وتفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية وتسويف أحزاب السلطة ومحاولاتها تجيير الدستور لصالحها. فإن واحدة من أهم الموضوعات التي تخيف الكتل السياسية الماسكة بسلطة الدولة العميقة مسألة تحقيق الانتخابات بالشروط التي يطالب بها المجتمع العراقي وحراكه الشعبي في أغلب المدن العراقية. ورغم تأكيد المرجعية الدينية لمطالب المتظاهرين، إلا أن الطبقة السياسية التي تتشدق بالتزامها بآراء المرجعية، لا تزال تتصرف بمنطق: "المصالح الشخصية والفئوية بالضد من رأي الشعب الجمعي كمصدر للسلطات الاعتبارية التي لا يجوز التفريط بها بأي حال من الأحوال". وعلى قدر أهمية القضايا التي يتطلع الشعب العراقي لها، هناك مسألتان لا بد من معالجتمها على كل المستويات للخروج من المسارات الفاشلة للدولة العميقة (تركيبة الأحزاب ومفهوم الانتخابات). الأمران في العراق من الناحية الواقعية، لم يقتربا مما هو متبع في الدولة المدنية للمجتمعات الديمقراطية.

لكن إذا ما استمرت التجاذبات السياسية في ظل الظروف المحيطة بالعراق. تمرد الميليشيات وتوجيه نيرانها على القواعد الأمريكية بسبب الحرب العدوانية الاسرائلية الأمريكية على غزة، بالاتجاه المعاكس لما هو منشود، فلن تعد الانتخابات، مطلبا حكيما، للذين يهمهم بالأساس، تبيان مصداقية مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتحقيق مطالب القوى المعارضة للنظام الطائفي وأهمها: تعديل الدستور وسن قانونا الانتخابات والأحزاب بأيادي أصحاب الاختصاص على أن يعرضا للاستفتاء الشعبي، أيضا إعادة تشكيل مفوضية انتخابات مستقلة. وإذا لم تتحقق هذه المطالب الأساسية أولا، فليس أمام القوى المدنية التي تسعى إلى التغيير، من الناحية المنطقية والموضوعية، إلا مقاطعة الانتخابات والذهاب إلى المؤسسات الدولية لقطع الطريق أمام الأحزاب الطائفية ووضعها أمام الأمر الواقع.

***

عصام الياسري

أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي أدوات قوية وفائقة السرعة للتواصل والتعبير عن الذات، وريادة الأعمال. من بين عدد لا يحصى من منشئي المحتوى، يبرز المؤثرون كأفراد يتمتعون بتأثير كبير على جماهيرهم ومتابعيهم. ومع ذلك، فإن الديناميكيات بين المؤثرين الأذكياء والمشاهدين السذج في بعض الأحيان تثير أسئلة مهمة حول الأخلاقيات والمسؤوليات، وحتى الجوانب المالية لهذه المهنة الناشئة.

في عصر الهيمنة الرقمية، يعمل ظهور المؤثرين الأذكياء على إعادة تشكيل مشهد استهلاك المحتوى عبر الإنترنت. على عكس المؤثرين التقليديين الذين يركزون فقط على الجماليات أو الكاريزما الخاصة بهم، يجمع المؤثرون الأذكياء بين شخصياتهم الجذابة والفكر والخبرة. إن هذا الجيل الجديد يستفيد من المؤثرين من المعرفة والأصالة للتواصل مع الجماهير على مستوى أعمق.

يغطي المؤثرون الأذكياء مجموعة واسعة من المواضيع، بدءًا من العلوم والتكنولوجيا وحتى التنمية الشخصية والقضايا الاجتماعية. محتواهم لا يتعلق فقط بالترفيه؛ بل قد تكون رحلة تعليمية تلقى صدى لدى المشاهدين الذين يبحثون عن مادة في بحر المعلومات الواسع عبر الإنترنت. إن هذا التحول يمثل خروجًا عن السطحية المرتبطة غالبًا بثقافة المؤثرين، مما يعزز جمهورًا أكثر استنارة وانتقادًا.

إن التأثير على المشاهدين عميق جدا. عندما يتعب الجمهور من المحتوى المثير للبحت، فإنهم يلجأون إلى المؤثرين الأذكياء للحصول على وجهات نظر ثاقبة ومناقشات هادفة. المشاهدون لا يستمتعون فقط؛ بل يتم تحفيزهم فكريًا، وتحديهم للتفكير، وتشجيعهم على المشاركة في النقاشات المهمة. يشير هذا التحول نحو استهلاك المحتوى الذكي إلى نضوج الجماهير عبر الإنترنت والطلب على الجوهر بدلاً من الأسلوب.

يؤدي صعود دور المؤثرين الأذكياء إلى تغيير مشهد المؤثرين عامة ، مما يوفر للمشاهدين خروجًا منعشًا عن المحتوى التقليدي. ويدل هذا التطور على تحول إيجابي نحو مجتمع إلكتروني أكثر استنارة وتمييزا، حيث يحتل الذكاء والأصالة مركز الصدارة في عالم التأثير.

في العصر الرقمي، غالبًا ما يلجأ منشئو المحتوى إلى أداة غوغل أدسنس كمصدر أساسي للدخل. في وإذا كانت هذه المنصة توفر طريقة مباشرة لتوليد الدخل، إلا أنها تأتي مع مجموعة من التحديات والاعتبارات الخاصة بها.

على الجانب الإيجابي، توفر أداة غوغل أدسنس طريقة بسيطة نسبيًا لأصحاب مواقع الويب والمدونين لكسب المال من خلال عرض الإعلانات المستهدفة على منصاتهم. يستخدم النظام الخوارزميات لتحليل المحتوى وتقديم الإعلانات ذات الصلة بالجمهور، مما يزيد من احتمالية النقرات والإيرادات. يتيح هذا التكامل السلس لمنشئي المحتوى التركيز على إنتاج محتوى عالي الجودة بينما يتولى أدسنس عملية تحقيق الدخل.

ومع ذلك، فإن سهولة تحقيق الدخل تشكل أيضًا بعض المخاطر. قد يجد منشئو المحتوى أنفسهم يؤيدون عن غير قصد منتجات أو خدمات لا تتوافق مع قيمهم أو علامتهم التجارية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان الثقة بين جمهورهم وتشويه سمعتهم.

علاوة على ذلك، فإن الاعتماد على غوغل أدسنس باعتباره المصدر الوحيد للإيرادات يمكن أن يجعل منشئي المحتوى عرضة للتقلبات في اتجاهات وسياسات الإعلان. يمكن أن تؤثر تغييرات الخوارزميات أو التحولات في سوق الإعلانات على الأرباح بشكل غير متوقع، مما يجعل من الضروري لمنشئي المحتوى تنويع مصادر دخلهم.

وعلى الرغم من أن غوغل أدسنس يقدم طريقة ملائمة لاستثمار المحتوى، إلا أنه يجب على منشئي المحتوى التعامل معه بحذر. يعد تحقيق التوازن بين توليد الإيرادات والحفاظ على الأصالة أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق النجاح على المدى الطويل في المشهد الديناميكي لتحقيق الدخل الرقمي.

لقد تحول التدوين إلى مهنة قابلة للحياة ومجزية للوقت ، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي. نظرًا لأن وسائل الإعلام التقليدية تفسح المجال أمام المحتوى الفوري عبر الإنترنت، يجد الأفراد فرصًا مربحة من خلال مشاركة أفكارهم وخبراتهم عبر مختلف القنوات الاجتماعية.

توفر منصات الوسائط الاجتماعية مثل أنسغرام وX (تويتر سابقا) وتيك توك أرضًا خصبة للمدونين لتنمية جمهور مخصص ومعلوم. مع قيام الملايين من المستخدمين بالتمرير عبر الخلاصات يوميًا، يمكن للمدونين الاستفادة من هذه المنصات للوصول إلى مجموعات متنوعة وبناء علامة تجارية مذرة للربح. تلبي طبيعة أنستغرام المتمركزة حول العناصر المرئية احتياجات مدوني أسلوب الحياة والموضة، في حين أن تنسيق  X المختصر يناسب أولئك الذين لديهم ميل للتعليقات الذكية. لقد أدى تطبيق تيك توك، بمقاطع الفيديو القصيرة، إلى ظهور جيل جديد من منشئي المحتوى.

لقد حولت طرق تحقيق الدخل، مثل المحتوى المدعوم والتسويق التابع وعائدات الإعلانات، التدوين إلى مصدر مشروع للدخل. تدرك العلامات التجارية قوة المؤثرين في التواصل مع المستهلكين، مما يؤدي إلى شراكات مربحة مع المدونين الناجحين.

تعتبر مرونة هذه المهنة عامل جذب كبير. يمكن للمدونين إنشاء محتوى وفقًا لشروطهم، وتخصيصه وفقًا لاهتماماتهم وجدولهم الزمني. ومع استمرار سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على تفاعلاتنا الرقمية، فإن التدوين كمهنة لا يقدم مكافآت مالية فحسب، بل يقدم أيضًا منصة للتعبير الشخصي والتأثير في العالم الافتراضي.

لقد أصبح التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة مربحة للعديد من الأفراد، لكن آثاره المالية تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد الإعجابات والمتابعين.

يحتاج المدونون إلى إدراك أن الدخل الناتج عن أنشطة وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن يخضع للضريبة. سواء كان ذلك من خلال شراكات العلامات التجارية، أو المحتوى المدعوم، أو التسويق بالعمولة، يجب الإبلاغ عن الأموال المكتسبة إلى السلطات الضريبية. قد يؤدي عدم القيام بذلك إلى عقوبات وعواقب قانونية.

بالإضافة إلى ذلك، قد يكون المدونون مؤهلين للحصول على خصومات معينة. من المحتمل أن يتم خصم النفقات المتعلقة بالمعدات والبرمجيات والأنشطة الترويجية وحتى جزء من تكاليف المكاتب المنزلية لخفض إجمالي الدخل الخاضع للضريبة. من الأهمية بمكان أن يحتفظ المدونون بسجلات دقيقة لنفقاتهم لإثبات هذه الاستقطاعات.

يعد فهم التصنيف الضريبي جانبًا حيويًا آخر. يجب على المدونين تحديد ما إذا كانوا يعملون كمالكين ذاتيين أو شركات ذات مسؤولية محدودة  أو أي هيكل قانوني آخر. ولكل هيكل آثار ضريبية مختلفة، واختيار الهيكل المناسب يمكن أن يؤثر على الالتزام الضريبي الإجمالي.

إن التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي يقدم مكافآت مالية، ولكن يجب على المدونين أن يتنقلوا في المشهد المعقد للآثار الضريبية. إن طلب المشورة المهنية والبقاء على اطلاع باللوائح الضريبية يضمن الامتثال ويزيد الكفاءة المالية إلى أقصى حد في هذا الفضاء الرقمي سريع التطور.

في الختام، إن عالم المؤثرين الأذكياء، والمتابعين السذج، والمدونين على وسائل التواصل الاجتماعي، هو مشهد متعدد الأوجه له أبعاد أخلاقية ومالية وقانونية. لقد أدى ظهور المؤثرين إلى إعادة تشكيل الطريقة التي يستهلك بها الأفراد المعلومات ويتخذون قرارات الشراء. ومع ذلك، فإن المسؤولية لا تقع على عاتق المؤثرين فحسب، بل تقع أيضًا على عاتق المشاهدين، الذين يجب عليهم إجراء تقييم نقدي للمحتوى الذي يتلقونه. علاوة على ذلك، مع استمرار تطور التدوين عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى مهنة مشروعة، يجب على المؤثرين التغلب على تعقيدات الضرائب لضمان مهنة مستدامة وقانونية. يعد تحقيق التوازن بين مصالح المؤثرين والمشاهدين والسلطات التنظيمية أمرًا ضروريًا لتعزيز نظام بيئي رقمي شفاف وأخلاقي.

***

عبده حقي

 

القطاع الأكاديمى فى أوروبا شديد التعلق بلغة يعرف أنها ماتت واندثرت، لكنه حريص على إعادة إحيائها، وهى اللغة اللاتينية.. تلك التى انبثقت منها كافة اللغات الحديثة كالإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية والأسبانية.. هذا نوع من التشبث بالجذور والوفاء للأصول وإعادة إحياء للتاريخ..

وعندما استقر اليهود فى أرض فلسطين المحتلة بحثوا عن لغة مشتركة يتحدث بها كافة اليهود المهاجرين من شتى أنحاء العالم إلى فلسطين، فكان حرصهم الأكبر هو إعادة إحياء اللغة العبرية التى كادت تندثر لولا الجامعة التى بنوها كأول ما بنوا لتعليم وتعميم اللغة العبرية..

لقد انشطرت اللغات واللهجات وتعددت حتى وصل عددها اليوم إلى نحو سبعة آلاف لغة، بعضها قديم باقى وبعضها جديد.. والذى يحدث فى الحقيقة هو التطور المستمر للغات العالم والتحديث يتم فى صورة لهجات تتجدد وألفاظ تتحور خاصةً فيما يتداوله العامة من كلام يختلف شكلاً ومضموناً عن اللغة الأم الفصيحة.. يحدث هذا فى اللغة العربية والإنجليزية وكل اللغات.. فلماذا تندثر لغات بعينها؟ وكيف بقيت اللغات القديمة آلاف السنين؟ وهل نحن فى حاجة لإحياء لغات ماتت؟

المسموع يفنى.. والمكتوب يبقى

التاريخ يذكر أن الكتابة المسمارية هى أقدم اللغات المسجلة فى العالم، رغم أن لغات عديدة سبقتها منذ آدم عليه السلام.. ما يعنى أن التدوين هو الأساس لبقاء اللغة وحياتها وتطورها.. يحدث هذا حتى فى النصوص المقدسة والمخطوطات الدينية.. ففى حين توجد بعض نصوص اللغة السنسكريتية التى كتبت بها الفيدا فى العقائد الهندوسية.. فإن نصوصاً أخرى ذهبت واندثرت، مثل صحف إبراهيم وزبور داود..

على الناحية الأخرى نجد كتاباً كالإنجيل موجود فى أقدم مخطوطاته "المخطوطة السيناوية" مكتوباً باللغة اليونانية رغم أن المسيح عيسي عليه السلام تحدث شفاهةً باللغة الآرامية! فالمسموع يختلف عن المكتوب.. وفى حين بقى المكتوب، بات المسموع رهناً بمن يسجله!

إن أفضل ما فعله قدماء المصريين أنهم سجلوا تاريخهم كله باللغة المكتوبة، ولعلهم الأقوى فى هذا المضمار.. والبرديات المصرية وما تم تسجيله علىى جدران المعابد والمسلات كان كافياً لنعرف تاريخاً سجلناه اليوم فى مئات وآلاف المجلدات فيما يُعرف بعلم المصريات.. هكذا أعيد إحياء اللغة الهيروغليفية المكتوبة رغم موتها منذ آلاف السنين! بل إن بعض المحاولات أجريت لتحويل الهيروغليفية إلى لغة مقروءة ومسموعة بنفس الطريقة التى نطق بها أجدادنا المصريين!

أميرة اللغات

الإحصائيات العالمية تهتم بذكر أقدم اللغات وأوسعها انتشاراً اليوم.. وفيما جاءت اللغتان العربية والصينية فى القائمتين معاً.. فدعونا نبحث عن مزايا أخرى يجب أن تؤخذ فى عين الاعتبار..

إن من بين السبعة آلاف لغة المنطوقة على لسان 8 مليار إنسان، ثمة 40% منها مهددة بالانقراض والتحول إلى تراث شفاهى مندثر، لدرجة أن بعض تلك اللغات لا يتحدث بها إلا ألف شخص فقط!

اللغات الأكثر تداولاً بين الناس لا يزيد عددها عن 23 لغة.. لكنها أثبتت جدارتها واستمراريتها لا لأنها قديمة أو مكتوبة أو سهلة النطق، لكن لأسباب أخرى أشد عمقاً.. مثل أن تكون مرنة قابلة للتطور ومواكبة للعصر بشكل دائم، وأن تظل لغة مطلوبة جغرافياً ودراسياً وواقعياً .. وأن تظل الأجيال التالية حريصة على تعلمها والتقيد بها..

هناك لغات واسعة الانتشار اليوم لكن نطاقها الجغرافى يتقلص، والناطقون بها يقلون.. إما لأنها أصعب فى النطق أو التعلم، أو أنها لغة لم تعد تتماشى مع متطلبات العصر ، أو أن لغات أخرى كالإنجليزية حلت محلها بسبب أهميتها العالمية فى الحياة العملية والعلمية معاً ..

وإذا عدنا لعصر الجاهلية وما حظيت به اللغة العربية من اهتمام العرب، وباتت الأشعار تقال فى معارض وأسواق جامعة لأهل الجزيرة العربية كافة.. فإننا سنكتشف أن كل ما قالوه من أشعار وقصائد كان مهدداً بالاندثار لولا مجئ النبي محمد عليه الصلاة والسلام ونزول القرآن.. والتطور المذهل والسريع والشامل الذى لحق بتلك اللغة البارعة يعود مرجعه إلى القرآن الكريم.. فمن خلال أسراره وآياته ولغته المعجزة خرجت علوم بأكملها كالبلاغة والنحو والصرف والاشتقاق، وبسبب سهولة حفظه ونطقه واحتوائه على سر ربانى مكنون بات الملايين يحفظونه عن ظهر قلب وإن لم يجيدوا اللغة العربية ذاتها!

اللغة العربية لغة متكاملة عريقة قابلة للتطور باستمرار، تنصهر فيها كافة اللغات بسهولة ويسر، ويسهل على الجميع تعلم أساسياتها بسرعة.. وهى فوق هذا متنوعة فى مخارجها اللفظية حتى سموها لغة الضاد؛ إذ يوجد بحروفها كافة الحروف المنطوقة فى كل لغات العالم وأكثر.. وهناك عشرات اللهجات الحديثة المنبثقة من رحمها، ومازالت العامية العربية تتطور باستمرار دون أن يشكل هذا خطراً على اللغة الأصلية الفصيحة التى بقيت منطوقة ومكتوبة ومحفوظة فى ملايين القواميس والمصادر والمراجع فى كل أنحاء العالم.. وإذا بحثت عن لغة تحوى كافة المزايا التى تجعلها تتربع على عرش لغات العالم فإن من الإنصاف أن تكون العربية هى تلك اللغة.

اللغة كمصدر للثروة والقوة

من بين صحابة الرسول الكريم، جاء زيد بن ثابت كأحد أهم الشخصيات المؤثرة فى تاريخ الإسلام.. ومن بين أسباب ذلك أنه كان مترجماً للرسول فى دعوته لكل من حوله من بلدان تتحدث لغات مختلفة كالعبرية والسريانية والرومانية وغيرها.. معنى هذا أن تعلم اللغات موهبة يمتاز بها البعض عن الآخرين.. وكان زيد بن ثابت يتعلم اللغة ويجيدها كأهلها فى زمن لا يزيد عن أسبوعين فحسب!!

وفى مقاطع اليوتيوب المنتشرة مقطع لشاب قيل إنه يجيد التحدث بما يزيد عن عشرين لغة! وهذا أمر متاح الآن أكثر من أى وقت مضى.. وثمة مهن ووظائف عالية الأجور تعتمد على إجادة الشخص لعدد من اللغات نطقاً وكتابة.. هكذا أصبح تعلم اللغات أمراً أساسياً لا غنى عنه فى أغلب مناهج العالم.. لكن هناك سر آخر من أسرار اللغة يجعلها مصدراً للقوة والهيمنة..

هذا السر نكتشفه من آخر إحصائيات ذكرت سرعة انتشار تدريس اللغة الصينية خارج الصين، فيما بدأ تدريس اللغة الفرنسية والألمانية يقل بشكل ملفت لأسباب أكثرها سياسي.. ولعل النبأ الذى يقول إن الجزائر قد منعت تدريس اللغة الفرنسية فى مدارسها يعطينا تصوراً عن تأثير السياسة العالمية على انتشار أو اندثار أو تقلص دور إحدى اللغات الرسمية العالمية.. هذا معناه أن اللغة ذاتها قد تُستغل كمصدر للقوة أو تُستخدم لجلب المال والثروة .

اللغات الموازية

ينفى الباحثون أن تكون ثمة لغة أصلية قديمة جامعة.. ويقولون إن تعدد اللغات أمر موجود منذ البداية، كما وجد الإنسان الأصفر والأسود والأبيض والقوقازى مختلفين منذ نشأتهم الأولى! وإذا كان التطور المستمر للغات لضرورة التفاهم بين البشر انقسمت وتكاثرت حتى بلغت سبعة آلاف لغة.. فقد نشأت لغات أخرى للتفاهم النوعى الخاص بين فئات بعينها.. إنها اللغات الكودية أو الرمزية أو المطلسمة..

مثلاً عالم السحر يعج بألفاظ ورموز لا يفهمها إلا مقتحموه.. وعالم المخابرات يعتمد فى أساسه على لغة التشفير والأكواد غير القابلة للحل والفك.. وأهم لغة باتت مطلوبة عملياً اليوم هى لغة الكمبيوتر فيما يسمى بلغات البرمجة.. تلك أنواع من اللغات الموازية المستخدمة فى أوساط خاصة، لكنها تحظى بنفس الاهتمام وبنفس القدرة على التحور والتطور من أجل مزيد من الاستفادة العامة..

إن اللغة فى حقيقتها ليست إلا جسر للعبور بين العقول والأفكار المختلفة، ولاشك أن حركات الترجمة عبر التاريخ أسهمت فى تطور البشرية.. وقد قيل فى الحكمة القديمة إن من عرف لغة قومٍ أمن شرهم.. وإذا كان ثمة رسالة أخيرة لهذا المقال فهى أن نفتخر أيما فخر باللغة العربية، وأن نحرص أيما حرص على تعلم كل ما نستطيعه من لغات العالم الرسمية أو الموازية..

***

د. عبد السلام فاروق

قال (ذو القروح) وهو يحاول الخروج من عباءة جدليَّاته المعتادة حول المرأة والنِّسويَّة:

ـ هل تعلم أنَّه قد زُعِم في تراثنا أنَّ لـ(أبي الوفاء علي بن عقيل بن محمَّد بن عقيل الحنبلي، 431- 513هـ= 1119- 1040م)، كتابًا بعنوان "الفنون"، جاء في 800 مجلد، وقيل إنَّه أكبر كتاب في الدنيا! غير أنَّ ما بقي منه وطُبع في العصر الحديث هو في نحو 800 صفحة فقط! ويبدو ذلك المطبوع هو الكتاب كاملًا، وإنْ زُعِم أنَّ بقيته إنَّما ضاعت.

ـ بل هو أكبر مؤلَّفٍ فرديٍّ في التاريخ، إنْ صحَّ ما وردَ عنه! كيف تفسِّر ذلك؟

ـ بداية لا بدَّ من إدراك مفهوم (مجلَّد) في التُّراث، أو (مجلَّدة). فهو مِثل مصطلح (كتاب)، الذي قد يشير قديمًا إلى رسالةٍ شخصيَّة، أو كُتيِّبٍ صغير، أو مؤلَّفٍ كبير. غير أنَّ مُقدِّسي السَّلَف تعجبهم مثل هذه المبالغات. وإلَّا فإنْ صحَّت الرواية، فهي إنَّما تعني 800 صحيفة. ولو أعمل هؤلاء عقولهم، لأدركوا أنَّ تأليف 800 مجلَّد، بما تعنيه كلمة مجلَّد من معنى في الأذهان اليوم، حديث خرافة، حتى لو أنَّ المؤلِّف إنَّما كان ينسخ تلك المجلَّدات نسخًا، ولا يؤلِّفها تأليفًا. لأنَّ ذلك بمنطقٍ حسابيٍّ يعني أنَّه كان يُنجِز سنويًّا تأليف أكثر من تسعة مجلَّدات، وأنَّه قد بدأ هذا منذ ولادته! أي إنَّه يؤلِّف في كلِّ شهرٍ من حياته مجلَّدًا تقريبًا، خلال عمره، 82 سنة، من 431- 513هـ. ولكَم في تراثنا من أحاديث خرافة، يا أُمَّ عمرو؟!

ـ أُمُّ عمرو غير موجودة! ولكن ما الجديد؟

ـ لا جديد سِوَى تقديس السَّلَف.

ـ كيف؟

ـ سأضرب لك مثلًا تاريخيًّا وعالميًّا مشهورًا.

ـ اضرب، يا عمِّي، ولا يهمك!

ـ الزَّعم بألوهيَّة البَشَر.

ـ أ إلى هذا الحدِّ يمكن أن يصل عقل الإنسان؟!

ـ أجل، فيتفوَّق على الحيوان في خبَله! وإذا طرحنا هذا السؤال حول أشهر إنسان مؤلَّه في التاريخ، وهو السيِّد المسيح، لزم أن نسأل: آليهود هم من اصطنعوا ألوهيَّته، ليُفسدوا دِيانة النَّصارى بأفكارٍ وثنيَّةٍ وخزعبلاتٍ أُسطوريَّةٍ تُناقض العقل والدِّين معًا؟

ـ أ وليست بداية هذا التصوُّر عن المسيح ومنطلَق العقيدة العجيبة فيه من قِبَل (بولس الرسول)؟

ـ بلى. ولكن مَن بولس هذا؟ لقد كان يهوديًّا، يضطهد المسيحيِّين ويلاحقهم. وربما كانوا يُسمُّونه (شاوُل)، ثمَّ، وبقدرة قادر، تاب الله عليه، فتحوَّل إلى مبشِّرٍ بـ(يسوع)، وذلك في عام 43م، بعد رؤيةٍ مناميَّةٍ رآها! وهو مؤسِّس عقيدة أنَّ "المسيح ابن الله"!

ـ وما زالت الرُّؤى والمنامات تُشكِّل بعض العقول والأحداث!

ـ أجل! ولقد وجدتُ (جلال الدِّين الرومي) يشير إلى ما يشبه هذه الفكرة، من خلال أُقصوصةٍ تحت عنوان "حكاية الملك الذي كان يقتل النصارى بسبب تعصُّبه". حيث جعل يُصوِّر كيف أنَّ وزير الملك استطاع إقناعه بأن يمكر بالنصارى؛ لتحريف دِينهم، من خلال هذا الوزير، بأن يلعب بينهم دورًا يُشبِه دور المسيح الدجَّال، وكأنه (بولس الرسول).(1) وتلك أُقصوصة اعتباريَّة تتكرَّر مع الأديان، والعقائد، أو الجماعات التي تربطها روابط أرضيَّة أو غيبيَّة.

ـ كلُّ مصائب البشريَّة ظلَّ يعزوها النموذج النمطي في التحليل والاستدلال إلى اليهود.

ـ لا تنس هنا أن مثل تلك المحاولة "البولسيَّة" قد وقع كذلك في الإسلام، في ما نُسِب إلى (عبدالله بن سبأ)، من ادعائه ألوهيَّة (عليِّ بن أبي طالب)، كما تروي الحكايات التاريخيَّة المشتهرة؟

ـ مهما يكن، وبغضِّ النظر عمَّا يُنسَب إلى (بولس) و(عبدالله بن سبأ)، فإنَّ تأليه الإنسان يبدو نزوعًا وثنيًّا قديمًا.

ـ هذا صحيح. وقد ظهر قبل هذا وذاك في وادي الملوك بـ(مِصْر)، أُمِّ الدُّنيا وأُمِّ الأديان القديمة.

ـ ونحن نعرف في هذا السياق أيضًا قِصَّة الإلٰهة (إيزيس) العذراء الأُسطوريَّة التي تلد (حورس)، بلا زوج، فيصبح إلٰـهًا، في اعتقاد المِصْريِّين القُدماء.

ـ وعلى ذِكر الفراعنة، ما زلنا نقرأ الآيتَين القرآنيَّتَين: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَا هَامَانُ، ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ،‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ؛ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا"‏(2)، ونقرأ الآية الأخرى: "وقَالَ فِرْعَوْنُ: يَا أَيُّهَا المَلَأُ، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي، فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَل لِـي صَرْحًا؛ لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَٰهِ مُوسَى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ"(3)، ولا نُدرِك المعنى.

ـ ماذا تقصد؟

ـ كيف سيبني (هامان) صرحًا لفرعون؟

ـ ثمَّ كيف سيبلغ ذلك الصرح درجة اطِّلاع فرعون إلى إلٰه (موسى)، مهما بلغ ارتفاع الصرح في السماء؟!

ـ التصوُّر السائد تصوُّرٌ طفولي، وكأنَّ فرعون إنسانٌ أحمق حين يطلب مثل ذلك الطلب! وأنت حين تعود إلى كُتب التفسير، لا تجد تفسيرًا معقولًا. ولقد ساق (الطبري)(4) تفسيرًا ينبني على ظاهر الآيات من جهة، وعلى بعض المرويَّات الإسرائيليَّة- كالعادة- من جهةٍ أخرى(5)، فتُظهِر فرعون في صورةٍ فكاهيَّةٍ لحاكمٍ معتوهٍ بالفعل. قال: "فذُكِر لنا أنَّ هامان بنَى له الصَّرح، فارتقَى فوقه... فأمرَ بِنُشَّابةٍ فرمَى بها نحو السماء، فرُدَّت إليه وهي مُتلطِّخةٌ دمًا، فقال: قد قتلتُ إلٰه موسى، تعالى الله عمَّا يقولون!" وهو ينقل هذه الأُقصوصة الفكاهيَّة لتفسير الآيات القرآنيَّة مطمئنًّا إليها، عن بعض يهود! وقد ظلَّ هذا التصوُّر الساذج، حتى جاء بعض علماء المِصْريَّات المعاصرين ليتوصَّلوا إلى أنَّ الأهرامات لم تكن مدافن موتَى أساسًا، وإنْ استُعمِلت لذلك أحيانًا، بل كانت بمثابة مراصد فلكيَّة.(6) ومن هنا قد نستطيع الآن فهم الآيات فهمًا جديدًا. فلعلَّ هذا ما كانت تشير إليه في طلب فرعون من هامان؛ إذ أراد أن يستكشف الكون، بحثًا عن علامات حِسيَّة على الإلٰه المزعوم من (موسى).

ـ ماذا عن غير المِصريِّين؟

 ـ ظهر تأليه الإنسان لدى غير المِصريِّين في مختلف أصقاع الأرض تقريبًا. ومن هذا تلك الأساطير الهنديَّة المتعلِّقة بالإلٰه (كريشنا).(7) على أنَّ هجرات الأديان في العالم، وتناسلاتها، ودوَّامات تشكُّلاتها، بلا حدود. وما أكثر ما تتشابه، أو يقتبس بعضها من بعض!

ـ غير أنَّه- وَفق معايير البحث المقارن- يغدو من التسرُّع غير العِلمي القطع بأصلٍ، ما لم تقم قرائن تاريخيَّة بينه وبين ما يُظَنُّ من تفرُّعاته، حسب المدرسة الفرنسيَّة التقليديَّة في الدرس المقارن.

ـ وإذا كانت القرائن التاريخيَّة شرطًا منهاجيًّا في مقارنات الآداب، على سبيل المثال- التي لا تعدو تجارب فرديَّة أو اجتماعيَّة أو قوميَّة محدودة، تظلُّ لها شخصيَّاتها المستقلَّة نِسبيًّا، ومكوِّناتها العائدة إلى تجارب زمكانية محدَّدة- فإنَّ ذلك آكَدُ في مجال مقارنة الأديان. هذا إنْ أجدَى نفعًا مثل ذلك الشرط المنهاجي في الخروج من تلك المتاهة الأزليَّة بنتائج شِبه عِلميَّة يمكن الركون إليها؛ وذلك للطبيعة الزئبقيَّة الموَّارة للموضوع، فضلًا عن غياب الوثائق المادِّيَّة، التي تستحق هذا الاسم.

***

.................................

(1) انظر: الرومي، جلال الدِّين، (1966)، كتاب المثنوي، تحقيق: محمَّد عبد السلام كفافي، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 103- 111.

(2) سُورة غافر: الآيتان 36- 37.

(3) سُورة القصص: الآية 38.

(4) (2001)، تفسير الطَّـبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 18: 256.

(5) ولقد غرسَ اليهودُ في العَرَب عُقدة النقص هذه منذ الجاهليَّة؛ بوصفهم إيَّاهم بأنَّهم أُمِّيُّون، وليسوا بأهل كتاب. ويبدو أنها بقيت هذه العُقدة بعد الإسلام، وبعد مجيء الكتاب المهيمن؛ إذ ظلَّ المسلمون ينظرون إلى اليهود نظرة إجلال؛ لتوهُّم عِلْمهم الكِتابيِّ القديم، الذي لا سبيل إليه إلَّا عن سبيلهم. بل لعلَّ تلك العُقدة قد تفاقمت بعد الإسلام لأسباب دِينيَّة أخرى. ولهذا لا غرابة أن يتكئ المؤرِّخون على الإسرائيليَّات، بل يتكئ المفسِّرون عليها لتفسير "القرآن"، وكثيرًا ما كان المؤرِّخ مفسِّرًا والمفسِّر مؤرِّخًا؛ لأن البضاعة الإسرائيليَّة تصلح لديه لهذا وذاك. ومن هنا، مثلًا، كان المرجع العُمدة لدَى ("الإمام" أبي جعفر محمَّد بن جرير الطبري)، في كثيرٍ ممَّا يرويه عن الغيبيَّات وبدء الخلق: (عبدالله بن سلام)، و(كعب الأحبار)، و(وهب بن منبِّه)، وأضرابهم؛ فهم، بحسب نعته إيَّاهم: "السَّلَف من أهل العِلْم"!

(6) يُنظر، مثلًا: صحيفة "الوطن" المِصْريَّة، الأحد 17 نوفمبر 2019:

https://www.elwatannews.com/news/details/4424356

(7) لمزيد تفصيلٍ يمكن للقارئ العودة إلى كتاب:

Doane, Thomas, (1882), Bible Myths and their Parallels in other Religions, (New York: The Commonwealth Company).

 وكذا كتاب: (التَّـنِّير البيروتي، محمَّد الطاهر بن عبد الوهاب بن سليم (-1352هـ= 1933م)، (1989)، العقائد الوثنيَّة في الدِّيانة النصرانيَّة، تحقيق ودراسة: محمَّد عبدالله الشرقاوي، (القاهرة: دار الصحوة). أمَّا الآلهة في "العهد القديم"، فحدِّث ولا حرج! (انظر: فريزر، جيمس، (1972)، الفولكلور في العهد القديم، ترجمة: نبيلة إبراهيم، مراجعة: حسن ظاظا، (القاهرة: الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب).

 

بحدود اطلاعي ومعرفتي المتواضعة، فإنَّ قراءة تحليليَّة لفكر علي الوردي، ومراجعة نقديَّة جادة لطروحاته، لم تتم حتى الآن، فالرجل دخل نادي المقدسات عند الكثير من القرَّاء والباحثين والطلبة الذين باتوا يرددون بعضَ مقولاته الاجتماعيَّة كما لو كانت نصوصاً مقدسة. والحقيقة أنَّ الرجل مثله مثل أي عالمٍ كبيرٍ متواضع، لم يكن ينظرُ إلى نفسه هكذا طيلة حياته، بل أنَّه كان كثيراً ما يعترف بالخطأ في بعض الاستنتاجات، ويعلنُ بشجاعة العلماء التراجعَ عنها.2036 مفارقات وأضداد

وبعد أكثر من نصف قرنٍ من تفتح عينيه وهو فتى بعمر 15 عاماً، على الجزء الأول من كتاب الوردي" لمحات اجتماعيَّة في تاريخ العراق الحديث"، يعود عبد الجبار الرفاعي لقراءة كاتبه المفضل الذي انجذب مبكراً إلى عقله النقدي، وطريقة تفكيره، وواقعيته، "واهتمامُه بالمهمَّش والمهمَل واليومي في المجتمع"، قراءة جديدة فاحصة ناقدة في الفصل الأول من كتابه الجديد: "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث". وكذلك كان الأمر مع علي شريعتي الذي اطلع على آثاره الصادرة بالفارسيَّة قبل أكثر من ثلاثين عاماً في كتابه الأسبق: "الدين والظمأ الأنطولوجي". بل أنَّ الرفاعي يعقد مقارنة بين الاثنين، موضحاً البونَ الشاسعَ بين الرجلين، بينما يتوهم الكثيرون، أنَّ الوردي قد سار على خطى شريعتي في بعض طروحاته الدينيَّة والسوسيولوجيَّة، وأنَّه قد أخذ منه بعض الآراء وتأثر بها. لكنَّ قراءة الرفاعي الجديدة لكلا المُفَكِرَين تبين بوضوحٍ تامٍ الفرقَ بينهما، ففي حين كان الوردي مثقفاً نقدياً خرج من المجتمع والأيديولوجيات السياسيَّة، فإنَّ شريعتي كان مثقفاً أيديولوجياً، فأعمال الوردي تسودُها "عقلانيَّة نقديَّة لا تخلو من انطباعات ذاتيَّة، وما يسود أعمالَ شريعتي التبشيرُ بأيديولوجيا الثورة".

"المثقَف النقدي غير المثقّف الأيديولوجي" وبذلك يضع الرفاعي كلاً من الوردي وشريعتي في ميزانه الفاحص، وهو لا يرغب بأنْ يقسو كثيراً على أول من قرأ له بدهشة القراءة الأولى، والإطلالة الأولى على عالم المدينة في الشطرة التي عاش فيها ثلاث سنوات طالباً، وفيها اكتشف عالم علي الوردي، لكنَّه يشيرُ إلى افتقار الوردي إلى تكوين في الفلسفة، وعلم الكلام، وأصول الفقه، والتفسير، والحديث، والتصوف، وغيرها من علوم الدين التراثيَّة، يماثل خبرته الواسعة "بثقافة المجتمع العراقي وتقاليده وأعرافه وفولكلوره، وتاريخه في القرنين الأخيرين"، لذلك فإنَّ بحثه في شخصيَّة الفرد والمجتمع العراقي "لم يتوغل في الحَفر ليصل إلى البنى الدينيَّة والأنساق الاعتقاديَّة المترسخة في اللاوعي الجمعي".

وإذا كان شريعتي "مثقفاً رسولياً، كرّس جهوده لترحيل الدّين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا"، فإنَّ علي الوردي كان يمثل بذرة "المثقّف الديني النقدي"، وكان أول مثقفٍ ديني عراقي تُجهض ولادته.

لم يدخل علي الوردي في معركة مع الله. هكذا يقرر الرفاعي في دراسته المقارنة المثيرة بين الوردي وعلي شريعتي.

***  

د. طه جزّاع - أستاذ فلسفة بجامعة بغداد

 

التاريخانية في مشروع الدكتور عبد الله العروي

عندما يطل الدكتور عبد الله العروي على القارئ تتولد لديه على التو فكرة الدقة في اختيار التوقيت الزمني وحساسية المرحلة ارتباطا بحاجة الواقع المغربي والعربي إلى تحليلات من طينة تحليلاته الحكيمة والرصينة. إنه من رواد المفكرين في مجال النهضة العربية. لقد شخص بكل تفصيل عوائق تسريع النماء الثقافي والمادي في المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط. لقد ركز بما فيه الكفاية على واقع الطبقة العربية السياسية والثقافية، وخصص لذلك حيزا كبيرا في كتاباته وتحليلاتها الرصينة. انصب اهتمامه أكثر على النخبة إبان الاستعمار وخلال الاستقلال ليضع آلة المكبر الإلكتروني الفاضح على مرحلة انتقالية فرضتها إخفاقات الماضي وانحرافات الحاضر.

العروي يعد من كبار رواد التاريخانية. تحدث عنها بإسهاب هادفا أن ينير عقول المتتبعين لفهم معنى التاريخ. لقد أضاف لهذا الأخير الفلسفة لفهم الدلالات والرموز واستنباط العبر النافعة للحاضر والمستقبل، معتبرا توجهه التوليفة المناسبة لفهم الفكر التاريخي. وبذلك، فهو يخالف التوجه الفكري الذي ينطلق من الفلسفة ويطعمها بالتاريخ. أبدع في تقنيات البحث التاريخي بدون الاقتصار على كونه كتابة فقط، بل توسع في برهنة كونه رواية أو قصة واقعية يراد استنباط العبر والحقيقة منها، وبالتالي تحويله إلى مدرسة سياسية تعتمد الكتابة الفنية وصناعة مبنية على المادة التاريخية كالوثائق المكتوبة والمخلفات الأثرية والمادية، والمصورات، والفنون، والنقوش على الجدار ...إلخ.

التاريخ بالنسبة للعروي علم يعتمد البحث المختبري، ويصبوا لإنتاج الفكرة الصائبة الحقيقية عن التطوير التاريخي، وبالتالي إنتاج المنفعة منها باعتمادها في كل التحليلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. مادته هي الرواية التاريخية التي تستدعي التمحيص والنقد العلمي من أجل تشريح علاقة الإنسان بالطبيعة وما نتج عنها من آثار في معيشته وحضارته، منبها أن ما يميز التطور التاريخي هو كونه مفهوما بعديا وليس قبليا. المراد من الدراسة التاريخية هو البحث في تطوير البنية المؤسساتية والسياسية والاقتصادية والمالية لمجتمع معين مع وضع المصلحة الراهنة للفرد والجماعة كأولوية الأولويات. المصلحة نقاش في زمانها ومخاطر الانفتاح عن المجهول تأتي في مرحلة تالية. في هذا السياق، تجربة الليبرالية حافلة بالدروس. انتصرت في مطلع التسعينات وتم إعلان بداية نظام عالمي جديد، وحققت المنافع والمصالح للأفراد والجماعات غربيا، ووصلت إلى مرحلة الإشباع، وانفتحت عن المجهول في سياق دولي تبحث قواه عن آفاق جديدة وتوازنات مرحلية (ما قبل الحداثة- الحداثة- ما بعد الحداثة والانفتاح عن المجهول).

إن النظرية التي يعتمدها عبد الله العروي في تحديد مفهوم التاريخ ما هي إلا تفسيرا تاليا لما آلت إليه التجارب التاريخية. إنه توجه فكري يعتمد نظرة معرفية عميقة عن المجتمع والدولة والحرية والعقل والإيديولوجيا. إنه يربط التاريخ بفهم النتائج المتولدة عن تحليل المادة التاريخية. التاريخانية، بتركيزها على السياسات الفعلية ومنطق ممارسة السلطة، لها نظرة شمولية وتحليلية تضع المنفعة أو المصلحة الآنية للإنسان في أعلى المراتب. إنها الفهم الكلي التفصيلي للحقائق التاريخية الذي يخدم الحاضر ويتكهن بمؤشرات علمية الآفاق المستقبلية. المتخصص في الحفريات مثلا له نظرة خاصة عن التاريخ. إنه ينظر له نظرة اثنوغرافية انتروبولوجية لا علاقة لها بالسياسة الفعلية. نفس الأمر ينطبق على المتخصص في مادة اللاوعي الذي له نظرة معينة للأزمنة التاريخية، بحيث يهتم بالخيال العربي، وحلم الفرد العربي، وتاريخ الفن والطرب.

***

الحسين بوخرطة

القراءة للدكتور عبد الجبار الرفاعي فيها من الغنى والرحابة الكثير. ميزة كل كتاباته تكمن في اقتران العقلانية النقدية مع حضور الوجدان الإنساني العميق. أنت دائماً ما تخرج بعد أن تقرأ له متصالحاً مع ذاتك، متحرراً من الانفعال بوصفه غريزة انحطاط، ومتبصّراً بحكمة ورويّة للواقع حولك. الواقع الذي يشكّلك بمقدار ونوعية تفاعلك معه.كيف نتفاعل مع هذا الواقع لنطوّر ذاتنا ونحسنها ضمنه، ولنطوّره بالتالي معنا. هذا الجهد الذي لا يتوانى الدكتور عبد الجبار عن الاشتغال به هو سعيٌ في سبيل العمران. فرقٌ بين ناقد يفكّك ليهدم وناقد يبني ويعمّر ويرمّم ويجمّل. فرقٌ بين فكرٍ يستثير فيك الغضب لأجل الرفض وحده، وبين فكرٍ يجعل من الرّفض حالة حُبّ على طريق الارتقاء الإنساني ككل. كما فرقٌ بين فكرٍ يجعل المعتقد به يعيش الإحساس بالدونية في ذاته، وبالخجل مما هو محاط به، وبين فكرٍ يذكّرك بألا تجرح ضمائر من هم حولك، وألا تتنكّر لما ومَن شكّلك في طفولتك وشبابك وعلى طوال الطريق، وشكّل شخصيتك وفكرك وما أنت عليه. اقتران حالة الرفض بحالة الرضا مفارقة، لكنها صنعةٌ جميلةٌ جداً، والأهم أنها ولّادة للارتقاء بالواقع لا للاغتراب عنه، وإن تباعدت أفكارك عن الأفكار التي يحملها من حولك.

لقد كتب الرفاعي في مرحلة مليئة وعاصفة بالتناقضات، وكان الإقبال على كتاباته كبيراً. لكني أعتقد، كل الاعتقاد، أن الحاجة لقراءته ستزداد أكثر مع تقادم الأيام والأحداث، وأن كتبه "ستمكث طويلاً في ذاكرة المكتبة". من خلال مراقبتي أقله لشبكة علاقاتي مع الشباب من حولي، بتّ ألحظ نوعاً من اليتم عند بعض الشباب الذي تغرّب عن مجتمعه وسعى للتمايز عنه (طبعاً ثمة فئة ما عادت تحمل هذا الهمّ أساساً وما عادت مسألة الإيمان ملحّةً عندهم). مع الوقت، جزء معتبرٌ من هؤلاء الشباب، خصوصاً من يسافر منهم، يتوازنون على إثر ما يرونه، وعلى إثر تفاعلهم مع الآخر/الأنا المستجد. حالة التوزان هذه أو الميل لها ستجد ضالّة لها في كتابات الرفاعي. وهنا ميزة جديدة، أنك تستطيع أن تقرأ له في كل حالاتك، وفي كل مرة ستسفيد، وستصلك خلاصات جديدة بعد قراءتك التالية وفقاً لتفاعلك الجديد مع المحيط، الذي سيهديك إلى تفاعل جديد مع النص.

هذا ليس نصاً من قبيل المديح الشخصي. هي كلمات أملاها الإحساس بالمسؤولية أمام جيل اليوم والغد، ممن يعيش او سيعيش مشاعر اعتراضية على الحالة الدينية، يتبعها تيهٌ وغضب. هذه الفئة لا بدّ وأنها ستزداد اتزاناً عندما تقرأ للدكتور عبد الجبار، وهي التي سترتاد نصوصه في ظلّ عالمٍ هو حتماً مقبلٌ على المزيد من المشاكل والخضّات والتساؤلات والأحداث السالبة للأمان واليقين... حينها، من الجيّد الانفتاح على أنّ الدين كما يقول الرفاعي: "ظاهرة حياتية تعبّر عن أعمق متطلبات الوجود والكينونة"، وأنه: "لن يتراجع عن أن يواصل حضوره المزمن المتنوّع في الاجتماع البشري"، كما أنه "الظاهرة البشرية الأشد غموضا في الحياة، وإن كانت تبدو فيه الأشد وضوحاً. ولولا غموضها لما بقت منذ فجر التاريخ حتى اليوم". وأنّ أغلب حالات "الاغتراب والعدمية هي احتجاج عالمي على قبح العالم". كما من الجيد الغوص مع الدكتور الرفاعي في رحلة الاحتجاج على اختزال الدين في المدونة الفقهية، ورحلة الحرص على"عدم ترحيله من حقله الروحي المعنوي القيمي الأخلاقي إلى حقل آخر يتفوّق فيه القانون على الروح، ويصبح الدين فيه ايديولوجيا سياسية صراعية، أيديولوجيا تهدر طاقاته الرمزية والجمالية والروحية والمعنوية"، واستدراك الرفاعي بأنّ: "ثقافةً لا تتشبّع بالفلسفة ولا تتذوق العرفانَ تظلّ فقيرة، تحاول أن تغطي فقرَها بفائض الألفاظ. مثلُ هذه الثقافةِ تجهل الحاجةَ للدين، وتعجز عن رؤية أعماق الحياة الروحية"... والتّنبّه إلى أنّ "كثرة الكلام في الدين وثرثرة معظم الجماعات الاسلامية ورجال الدين تتورط في نسيان الإيمان"، وقراءة أن" فشل الإسلاميين في بناء الدولة يعود إلى عجز معظمهم وقصورهم عن إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة. لأنهم يفكرون في مرحلة ما قبل الدولة لذلك يحرصون على استدعاء القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العميقة". ومعرفة أن" المأزق يكمن في الأسس ومناهج التفكير والنظر والأدوات المتوارثة المنتجة للتفكير الديني في الإسلام"، وأنّ "معقولات العقل كائنات تاريخية، لحظة يكرر العقل نفسه لم يعد عقلا"... وأن "الفلسفة الحديثة والمعاصرة وفلسفة العلم والفيزياء الاحتمالية جميعها أشادت المعرفة والعلم على الاحتمال. تاريخ العلم مقبرة نظريات علمية".

الخوف، كلّ الخوف، أن تهدر طاقات الحياة عند الجيل الذي ينفتح على الكثير من المشاكل والتساؤلات والتناقضات. الخوف أن يتحول الإنسان الناقد إلى كائنٍ رافضٍ منعزلٍ يتعاطى مع محيطه بفوقية وازدراء، لأنه" اهتدى" إلى ما يناقض أفكار هذا المحيط، أو لأنه أدرك ما فيه من ثغرات تحول دون النهوض والتطور والعيش الواقعي لا الميثولوجي. قد يقول قائل إن الرفض بكلّ أشكاله وبتعددها، ومع تظافر هذه التعددية، سيولّد تحولاً وتغيراً منشوداً في النهاية. وقد يكون هذا واقعاً، لكني أرى أنه مكلفٌ للغاية، إذا كان عنيفاً وذا صفة اغترابية انعزالية، وأول هذه الكلفة تكريس النزعة العنيفة في هذا العالم.كثيرون ممن ينتقدون التجليات العنيفة لبعض أشكال التدين ينتهي بهم المطاف إلى أنهم يكشفون الغطاء عن التجليات العنيفة للاتديّن أيضاً. تطرّفٌ وتطرّفٌ مضادّ، ينبغي ترشيده بمساعي إعادة التوازن، ومما لا شكّ فيه أن كتابات عبد الجبار الرفاعي تشكل مسعىً هاماً في هذا الإطار، بالشكل الذي يمكن أن يقرأ له كلّ من امتلك نزعة الانصاف والتوازن، وابتعد عن مصيدة التصنيفات والتعميمات.

***

ملاك عبد الله - كاتبة لبنانية

 

منذ بداية القرن العشرين، حصل 1000 من الشخصيات البارزة على «جائزة نوبل»، من بينها 4 حالات فقط، منحت الجائزة لزوج وزوجته بصورة مشتركة. لكنها منحت مرتين أخريين لكل من الزوج والزوجة على انفراد. وكان هذا في 1974 حين منح البروفسور غونار ميردال «جائزة نوبل التذكارية» في الاقتصاد، ثم منحت زوجته ألفا «جائزة نوبل» للسلام عام 1982.

غونار ميردال واحد من أعلام الدراسات الاقتصادية المعاصرة. لكنه كتب وتحدث أيضاً في علم الاجتماع، وطرق أحياناً أبواب الفلسفة والتاريخ. وأظن أن اهتمامه بعلم الاقتصاد على مستوى الدولة، قد كشف له عن نقاط التعارض بين ما يصنف نفقات عامة، وما يعد استثماراً في الجيل القادم، من أجل ضمان مستقبل البلاد.

كانت السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945) قد شهدت جدالات واسعة بين تيارين في السياسة الأوروبية، يدعو أحدهما إلى «دولة الرفاه» التي تضمن للمواطن الخدمات الأولية الضرورية كافة، بينما يدعو الثاني إلى «دولة الحارس الليلي» التي يقتصر دورها على حفظ الأمن الاجتماعي وتمثيل البلاد في الخارج. واختار ميردال النموذج الأول، لأنه - أولاً - يؤمن بأن العدالة الاجتماعية تتحقق من خلال التوزيع العادل للثروة، وأن هذا يعني تحديداً قيام الدولة بتوفير الحاجات الأساسية، التي لا يستطيع الناس توفيرها بمفردهم، مثل التعليم الأساسي والصحة وأمثالهما. لكن مجادلته الأساسية تكمن في المبرر الثاني، وهو اقتصادي بحت، خلاصته أن توفير الحاجات الأساسية للمواطنين، ولو من خلال زيادة الضرائب، أشبه بالمال الذي يستثمره التاجر أو الصانع، كي يربح لاحقاً. حين توفر الدولة الخدمات العامة الأساسية، فإن الكفاءة الإنتاجية للمجتمع سترتفع، ويرتفع تبعاً لها الدخلان القومي والفردي، لا سيما عند الأجيال الآتية.

يرجع اهتمامي بالأستاذ ميردال إلى دراساته القيمة عن اقتصاديات النمو، لا سيما الأرضية الاجتماعية للاقتصاد وملاحظاته على العلاقة بين الثقافة والاقتصاد، في كتابه الشهير «الدراما الآسيوية: تحقيق في أسباب فقر الأمم». وأريد الإشارة بالخصوص إلى رؤيته حول دور التعليم في صناعة السوق، وهي تخالف - من حيث المبدأ - الرأي القائل بأن على التعليم أن يعمل بحسب حاجات السوق. والذي يبرره أصحابه بأن الشباب يتعلم كي يضمن وظيفة، فلا بد له أن يكيف دراسته، على النحو الذي يريده أرباب الأعمال. هذه الرؤية جزء من منظور أوسع يركز على الإنتاج وكسب المال كغاية. لكن ماذا عن الغاية الأعلى، أي الإنسان نفسه؟.

يبدو لي أن الجدل في الفكرة سيقودنا إلى نوع من الدوران في حلقة مفرغة. فسواء أخذنا بهذا الرأي أو ذاك فسوف نصل إلى الثاني، إما كوسيلة أو كغاية. ومن هنا فإن المسألة مجرد جدل لفظي. لكن الجانب الذي يستحق الاهتمام هو حقيقة أن التعليم استثمار في العقول. وأن العقول الناضجة بذاتها مصانع للثروات، وليست مجرد خبرات تؤجر لرب عمل ما. تؤكد هذا المعنى تجربة بنغالور، المدينة الشهيرة بأنها وادي السليكون الهندي، فقد تجاوزت صادراتها من الخدمات التقنية في العام الماضي 38 مليار دولار. هذه الأموال جاءت بشكل رئيسي من عمل العقول. وهي مثال واقعي واحد على دور التعليم كصانع للسوق، وليس خادماً للسوق. سياسات التعليم التي اختارتها الهند، وفرت فرصة كي يتحول شبابها إلى قنوات تستقطب الأموال من أسواق العالم.

لمعرفة القيمة المقارنة لهذه الصادرات، أذكر أن مجموع العاملين في قطاع الخدمات التقنية بمدينة بنغالور يبلغ مليونين تقريباً. بالمقارنة فإن مجموع صادرات الهند الزراعية يبلغ 33.5 مليار دولار، ويعمل فيها 152 مليون شخص. أي إن كل عامل زراعي يوفر 220 دولاراً من الصادرات، بينما يوفر نظيره العامل في مجال التقنية نحو 19000 دولار.

أظن أن هذه مجادلة مقنعة بأن توجيه التعليم كي يخلق السوق وبالتالي الاقتصاد، خير من الاتجاه المعاكس ذي الطبيعة الانكماشية.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

إذا ما تكلمتُ عن الشهرة والأصداء التي تتركها نجاحاتنا في أذهان الناس، سأجد الكثيرين ممن يدّعون أنهم لا يعيرون بالاً لآراء الآخرين، وثنائهم ونقدهم، وهنا يقفز إلى رأسي فوراً إقتباس رائع لـ(سيوران): "باستثناء المجانين، لا يوجد أحدٌ غير مبالٍ بالثَّناء أو النّقد. ما دمنا طبيعيّين إلى حدِّ ما، فنحن حسّاسون لكلِّ كبيرةٍ وصغيرة، وإذا صرنا منيعين ضدّهما، فعن أيِّ شيء آخر نبحث بين بني جنسنا؟". لا أشكُ أبداً أننا نكتب لكي تكون كتاباتنا مقروءة وربما نحلم أن تكون مؤثرة وملهِمة وخالدة، أتكلم عنا نحن الشعراء والكتاب، حيث ننظر للذين سبقونا بانبهار، ونتوقع أن يُنظر لنا بذات الإنبهار بعد عدد من الأعوام، لكن الشهرة التي يتوقعها الكاتب لمؤلفاته التي سكب فيها من روحه الكثير ليست بالشيء اليسير في العراق، فالأدباء هنا يتبادلون الكتب فيما بينهم، فيقرأ بعضهم لبعض، ويكتب بعضهم عن بعض، وهكذا يتبادلون الثناء والذم، فيما يسمى العملية النقدية، كل هذا في منأى تماما عن القارىء العادي، الطالب في الجامعة والمعلم والمدرس والطيبب والمهندس، ولن أقول بعيدا عن العمال والكسبة لأني سأفترض أنهم غير معنيين إلى حد ما بالكتب، لكن حتى هؤلاء تجد في أذهانهم أسماء مثل نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وإحسان عبد القدوس، فيما لو سألت طالباً جامعياً متوسط الثقافة عن عبد الخالق الركابي، أو معلماً عن محمد خضير، أو مهندسا عن ميسلون هادي، فسوف تتأكد أن كتّابنا من ذوي الأسماء اللامعة لا يعرفهم أحد، فهذه إحدى طالباتي اللواتي كنت أدربهن على تطوير مهاراتهن في السرد، وقد جذبني إسمها (س الدليمي) فقلتُ لها: بالتأكيد إنك قرأتِ لـ(لطفية الدليمي) فصدمني قولها أنها لم تسمع يوماً بالكاتبة، فشرعتُ أعرّفها بها، وأذكر لها بعض عناوين كتبها. مع ملاحظة أن هذه الشابة هي من حملة الشهادات العليا ومن خيرة طالباتي، فماذا عن سائر الموظفين والطلبة والكسبة من متوسطي الثقافة.

ثمة خلل ينبغي معرفتهُ تحديدا يجعل الكاتب العراقي سواء كان شاعرا أو ساردا بعيدا عن الناس، ماعدا تلك الأسماء التي تحصد بعض الجوائز المهمة، شهد الراوي مثلاً، هذا يعني أن حصول الأديب على جائزة مهمة يسهّل من معرفة اسمه، لكنه ليس بالضرورة أن يكون قد قُرئ من الجمهور. هذا عامل من العوامل، فضلا عن الضخ الإعلامي، الذي أراه بات خجولاً فيما يخص الأدب، والتسويق الجيد لكتبنا.

الأديب العراقي غالبا يشق طريقه نحو الفضاء العربي والعالمي بصعوبة بالغة، مع إنه يملك مقومات النجاح والإنتشار بالمقارنة مع الأديب المصري والسوري مثلا، وهذه ظاهرة ينبغي دراستها والوقوف عندها، أظن من أسبابها ظاهرة الطباعة في الدور المحلية وبأعداد متواضعة، مما يدفع الأديب إلى توزيع كتبه بنفسه على الصديق الكاتب الفلاني والناقد العلاني، في ظاهرة ملفتة، ثم يتم الإتفاق على إقامة جلسة له، تُرضي بعضا من طموحه، وعند هذا الحد غالبا ينتهي كل شيء.

ما يحصل أن الأديب يبذل جهداً في الكتابة، لكنه لا يجيد إيصال ما يكتب، وهذا يجعل إسم الأديب محصوراً في الوسط الأدبي.

تتحمل المؤسسة الثقافية متمثلة بالوزارة والجمعيات  والإتحادات الأدبية مسؤولية العمل على تنمية الذوق العام لكي يصبح النوع الأدبي هو الخيار الأفضل لدى الفرد بالمقارنة مع الذوق الشعبي الذي يميل عموما إلى ترجيح كفة الشعراء الشعبيين والمراثي، هناك جهد واضح في إقامة معارض الكتب والأماسي الأدبية، وسواها، لكن هذه المحاولات لا تصل إلى عقل الفرد، وذوقه، لأن هناك تراكمات من إرث شعبي هائل سببه طبيعة هذا المجتمع القبلية العشائرية.

***

تماضر كريم – أديبة عراقية

ليس هناك أمة من أمم المعمورة مثل أمة العرب يمكن للأزمات أن تطلق عنان مخزونها العاطفي وتفجر كوامن مكبوتها النفسي، مع الحد الأدنى من الاحتكام إلى فضائل العقل وشمائل المنطق عند مواجهة تلك الأزمات، والركون إلى الواقع عند البحث عن حلول ومعالجات. ولعل هذا الأمر متأت من تراكم الصدمات وتعاظم الخيبات وتفاقم الخسارات، التي تسببت بها جملة من العوامل الداخلية والخارجية، بات الغالبية العظمى من الناس على اطلاع واف وكاف حيال الأطراف المساهمة بها والتداعيات الناجمة عنها.

والمفارقة أنه بقدر ما تتعامل أمم العالم الأخرى مع الأزمات على كونها باعث للتفكير العقلاني ومنشط للإرادة المستقلة، بحيث كلما كان وقع الأزمة أكبر ووطأتها أشدّ، كلما استدعت سيكولوجيتها استنفار قدرات العقل وطاقات الإرادة. بقدر ما تتعاطى معها امة العرب بمثابة طعنات مؤلمة وجروح غائرة تستلزم الصراخ والنواح من جهة، وتستوجب الإدانة والتنديد ومن ثم الخلود الى الانزواء بانتظار التعافي واستئناف الأفعال العبثية وكأن شيئا"لم يكن ! من جهة أخرى. وهو الأمر الذي شجع الخصوم وأغرى الأعداء بمختلف مشاربهم السياسية وتعدد مستوياتهم الحضارية، على افتعال كل ما من شأنه توريط العرب واستدراجهم للدخول بدوامة الأزمات الداخلية والانخراط بأتون الصراعات الخارجية، بحيث لن تفتأ هذه الأمة الجاهلة أن تتخطى أزمة معينة حتى تجد نفسها تصارع أزمات أخرى أكثر تعقيدا"واشد استعصاء على الحل، وهكذا دواليك !.

والغريب في الأمر ان شخصية الإنسان العربي – حاكما"ومحكوما"- مصممة وفقا"لنقيضين متقابلين؛ الأول وهو ما يمكن تسميته ب (التذاكي) و(التعالم) في الأوقات التي يشعر خلالها بوهم امتلاك القوة وحيازة التمكن، وأما الثاني فيمكن تسميته ب (التشكي) و(التباكي) وهو ما يمكن رصده وملاحظته عند الشعور بهزيمة الذات وخذلان الآخر. أي بمعنى أنه في الحالة الأولى يبدو كثير الإعجاب بنفسه وشديد الاعتداد بشخصيته، رغم حقيقة كونه يدرك انه مسلوب الإرادة ومعطوب الوعي ومعطل التفكير. أما في الحالة الثانية فانه يفرط في إظهار علائم الانكسار النفسي والخصاء الإرادي، حتى ولو تضمنت كينونته شيء من عناصر التحدي والمقاومة.  

والطامة الكبرى، انه بدلا"من أن تكون الأزمات التي غالبا"ما تعصف بمنطقة الشرق الأوسط عامة والمنطقة العربية خاصة، حافزا"ماديا"ودافعا"معنويا"للزعامات العربية المسؤولة عن كل ما من شأنه تخفيف – ولا نقول جفيف – سيول المعاناة عن شعوبها ودرء المخاطر عن أوطانها، عبر التمسك بالمواقف الإرادية الصلبة، والرهان على السبل العقلانية، فضلا"عن الاستعانة بالاستقصاءات الواقعية، للوقوف على البواعث والدوافع الكفيلة باجتناب التورط في اختلاق الأزمات الإقليمية والانخراط في الأحلاف والتكتلات الدولية، بحيث تتمكن من الإفلات من الوقوع في مصيدة تلك الأزمات وتتمكن من تخطي عواقبها بأقل التضحيات المعنوية وأدنى الخسائر المادية !.

وعلى هذا المنوال، فقد عرّت الأحداث الدامية في مدينة (غزة) الفلسطينية خلال الأيام الماضية، خصائص الشخصية العربية من حيث هشاشتها في المواقف الحاسمة وانهزاميتها في اللحظات المصيرية، فضلا"عن تعرية نمط سيكولوجيتها المهزوزة والمرتبكة إزاء المخاطر والتحديات المصيرية، التي أضحت بمثابة داء عضال لا شفاء له ولا خلاص منه. فعلى كثرة انعقاد المؤتمرات الباذخة، وإجراء الندوات الصاخبة، وتكثيف اللقاءات المكوكية بين قادة هذه الأمة المشلولة والمغلوبة، حيث الخطابات الرنانة والتحذيرات النارية الطافحة بالعبارات المتفذلة التي عادة ما تحتوي متونها على الكثير من (الخطوط الحمر) القومية والإسلامية على نحو حماسي مضحك، تارة لاستعراض (قوتهم) الدونكيشوتية، وتارة أخرى لاستنهاض (رعيتهم) المخصية.

وهكذا لم يتمكن سراة القوم – بعد أن أظهر الغرب الاستعماري مخالبه وكشر الغرب عن أنيابه - من تبني أية استراتيجيات فعالة واتخاذ أية قرارات حازمة لتفادي شراسة العدوان الغربي وهمجيته، سوى الركون الى لغة (التشكي) و(التباكي) الدبلوماسية بغية استدرار عطف المؤسسات والمنظمات الدولية، لإنصافها في محنتها المزمنة وحمايتها من مصيرها المحتوم !. وإذا ما حدث ونجحت هذه الأخيرة في انتزاع حق من حقوقهم المهضومة من براثن ضواري الغرب، فلك أن تتخيل كيف سينبري قادة الأمة (المجيدة) في التبجح عن (قدراتهم) السياسية العظيمة، والتباهي في (انتصاراتهم) الدبلوماسية المدوية !

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

شذرات من عشق عبد الله العروي لابن خلدون.

عاشق ابن خلدون (الدكتور عبد الله العروي) أصيب في مساره الفكري بنوع من الشغف لنيكولو مكيافيلي. سبر أغوار منتوجاته الفلسفية بالدرس والتمحيص. عند عودته محللا لكتابات ابن خلدون، اكتشف أن نظريات هذا الأخير لا تقل أهمية عن عمق كبار المحللين السياسيين في العالم، فانطلق مؤلفا كتابا قارن فيه بين مكيافيلي وابن خلدون، وبين هذا الأخير وأرسطو وعلاقته بالتحليل اليوناني القديم، ثم انكب بعد ذلك على قراءة "المقدمة" لابن خلدون قبل إنجازه لكتاب "العقل". لقد أبرز عبد الله العروي في حواراته الإعلامية أن كل عودة إلى كتابات ابن خلدون يجد فيها دائما تأويلات جديدة لمقولات السياسة والمجتمع وحتى الفلسفة، وكذا حلولا لأوضاعنا الحالية.

إن استنتاجات العروي توحي لنا أن المغرب يتوفر على ثروة فكرية استبقت الواقع منذ القرن السابع الهجري. حسب موقع ويكيبيديا، ابن خلدون هو عالم العرب والإسلام الذي لمع نجمه كونيا في علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والتخطيط العمراني والتاريخ. طبق المنهج العلمي في مساره الفكري واستطاع بمبرراته العقلانية تفنيد الخرافات. لعب دور الرسول بين الملوك في بلاد المغرب والأندلس قبل أن يهاجر إلى مصر ويقلد قضاء المالكية هناك، ليصبح بعد ذلك معلما في إحدى مدارسها بالقاهرة. اعتكف وهو بالمغرب على الدراسة وأنهى مقدمته الشهيرة ذات الصيت الكوني.

لقد أبرز العروي أن ما استهواه أكثر في فكر ابن خلدون هو ما قاله عن الفكر النظري والفكر العملي. وهو ما تعيشه اليوم الدول المتقدمة: "تطور علمي نظري - هندسة لربط النظرية بالواقع - ازدهار الحياة الاجتماعية". لقد برهن ابن خلدون في عصره عن مصدر الثروة والرفاه في الغرب، وعن ما تحاول الدول العربية والمغاربية تطبيقه اليوم في الاقتصاد والسياسات العمومية. لقد اكتشف بعد خروج العرب من الأندلس، وسفره إلى القسم القشتالي، أن هناك فرق اجتماعي كبير بين القسم الترابي المحافظ التقليداني والقسم الغربي الروماني. هذا الأخير يعتمد على الدرابة اليدوية وتَمَلُّك الفكر العملي (الفكر الصناعي) من خلال تطوير الآليات والمناهج لإنتاج المصلحة والمنفعة الدائمة من قوة الطبيعة. إنه نفس الفرق الذي لاحظه في شأن تساكن الفكر الفقهي وفكر المحدثين في الثقافة العربية الإسلامية. إن الفكر الأصولي العملي ينظر إلى النتائج العملية للأحكام الفقهية 100%. وهو نفس الاستنتاج الذي أقره الكاتب لاكوست في كتابه عن ابن خلدون. لقد برهن أن نظرية المادية التاريخية التي عرف بها كارل ماركس توجد عند ابن خلدون بشكل واضح.

اعتبارا لما سبق يقول عبد العروي أن المجتمعات العربية الحالية لم تطور بعد نفسها بالشكل المطلوب في مجال ربط الفكر النظري بالعملي. قسم منها بقي تقليديا، وقسم آخر حديث نسبيا، لكنه مبني على قطاع الخدمات والقطاع المالي فقط. وبذلك، فهو يستنتج أن المشكل المطروح عندنا في الماضي والحاضر يتجلى في تصلب العلاقة مع قوة الطبيعة أي الصناعة. إذا استثنينا نسبيا الخصوصية المغربية، يمكن نعت العلاقة بالصناعة بغير الودية وغير الحميمة. والحالة هاته، ففي حالة استمرار الاستسلام للاستكانة وضعف المبادرة في هذا المجال، فيمكن لهذه العلاقة أن تتوتر وتتعقد أكثر مع التطور التكنولوجي والرقمي الذي تعرفه شعوب الدول المتقدمة. العمل يجب أن ينكب باستعجال على ضرورة تقليص المسافة بين التصنيع والمادة وتحويل التعاطي مع الماديات إلى ثقافة مجتمعية. إن أصل الاقتصاد والرفاه والتطور هو توطيد العلاقة اليومية بين الفرد المجتمعي والماديات.

***

الحسين بوخرطة

في تقديمه لكتاب المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي " الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية " يقول محمد حسنين هيكل أنه ليس من المقبول انكار مأساة المحرقة اليهودية "الهولوكوست"، لأن إسرائيل تستغل ذلك للتعمية والتغطية على مأساة أخرى أكثر فداحة منها وقعت على عرب فلسطين" قتل ناس واغتصاب وطنهم"، لكنه يشير في ذات الوقت إلى المبالغات التي رافقت تلك المحرقة في عدد الضحايا أو اقتصارها على اليهود والتي كشفها مؤرخون ومفكرون وصحفيون غربيون، كان آخرهم غارودي نفسه.

يورد غارودي في كتابه الذي تعرض بسببه إلى حملة صهيونية شرسة أوصلته إلى المحاكم، مجموعة من الأساطير التي أُتخذت ذريعة لقيام إسرائيل، منها الأرض الموعودة لليهود في فلسطين، وشعب الله المختار، وأرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ثم الأسطورة الحديثة التي نشأت خلال الحرب العالمية الثانية القائمة على الادعاء بأن النازية قد أبادت وأحرقت في افرانها ستة ملايين يهودي، مما أدى إلى شعور بالذنب وتعاطف غير مسبوق من قبل الحكومات والشعوب الغربية، وقد وَضَفت الصهيونية ذلك التعاطف الواسع لتعزيز ودعم دعوتها إلى إنشاء وطن قومي لليهود، يجمعهم من الشتات، ويحميهم من تكرار حملات الإبادة الجماعية كشعب ضعيف مُشتَت ومنبوذ ومُلاحَق ومُضطَهَد.

"الهولوكوست" واقعة حقيقية ليس من المقبول انكارها على رأي هيكل، لكنها ضُخمت كثيراً، وتم توظيفها للدفع باتجاه إبادة شعب آخر لا ذنب له فيما حدث، واغتصاب أرضه بالقوة، وتحويله من مواطن إلى لاجئ. ولذلك فإن غارودي يشير إلى الصحفي والروائي دوغلاس ريد الذي أثار ضجة حين أصدر كتاباً  قارن فيه بين احصائيتين لعصبة الأمم المتحدة، والأمم المتحدة قبل الحرب وبعدها، وقدر بأن المحرقة لم يزد ضحاياها عن ما بين ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف شخص، كما أن المحرقة لم تقتصر على اليهود، انما نالت أكثر منهم الألمان أنفسهم، والروس والبولنديين وحتى الغجر " ثم الفلسطينيين". ولقد تعرض دوغلاس ريد كما يذكر هيكل لحملة جامحة واختفى كتابه من المكتبات، واختفى المؤلف نفسه من الحياة الصحفية والعامة كلها. ودَفَنه النسيان حياً!. كذلك يشير غارودي إلى المؤرخ البريطاني دافيد إيرفنج الذي راح يبحث ويتقصى عن حقيقة الإبادة في الوثائق التي حصل عليها الجيش السوفييتي اثناء زحفه على بولندا وطرد الجيش الألماني عام 1944، وكان ثمانون في المائة من اليهود يعيشون في بولندا، وفيها حدثت أهم المحارق النازية لليهود، لكنه تعرض للمضايقة والضرب بعد أن أشيع بأنه أوشك للوصول إلى حقيقة المحرقة.

"الهولوكوست" الفلسطينية في غزة لا تحتاج إلى شهود لكي يثبتوا حقيقتها، وأرقام ضحاياها، إنها "مقبرة أطفال" وفق تعبير الأمين العام للأمم المتحدة، ووقائعها تجري في كل ساعة تحت نظر العالم وسمعه، وعلى الهواء مباشرة!.

***

د. طه جزاع – كاتب وأكاديمي

فتاوي الدكتور الترابي مراميها وأبعادها

الفتوى حقيقة تعد في  حدودها وأطرها، فكرا لأن فيها م فيها من اعمال العقل، وكد الذهن، وليست هي قياسا مطلقا، والترابي شئنا أم أبينا، أغرق الناس في الاستماع إليه، والاعجاب به، ليس لفتاويه التي يرفض أن يصورها للناس من معيار أنها فتاوي يطلقها، ولكن لصور أخرى، أستطيع أنا وغيري أن نعجب بها، ونصفق لها، وبين أيدينا منها صورا مختلفة، استطاع الترابي أن يخلقها خلقا، ويبتكرها ابتكارا، أنا لا أريد أن تأخذني في سفسطة لا تنتهي، عن أشخاص نسبهم التاريخ أئمة للفكر، وقادة للاستنارة، وكيف لا يزال هذا النفر يؤثر في الحياة الإنسانية على اختلافها، وتباين فنونها ومنازعها، لقد عنيت هذه الناجمة بأن تضيف لهذه الأمم الممتدة، وأنا اعتقد أن من الحيف أن نهمل جهد هذه الطائفة، وأن نقصر عنايتنا بأنهم لم يبتدعوا شيئاً جديداً، فالفكر والابداع الذي يحبه الناس، ويكلفون به، موجود منذا أن خلق الله عباده وفطرهم وأورثهم سهول هذه البسيطة ومتعرجاتها، كل من أضاف شيئا ما في نظمنا الاجتماعية والسياسية وغيرها، ينبغي أن نقصر عليه اهتمامنا، لأنه لولا هذه الجهود، لكنا نحتاج إلى أشياء كثيرة لا تحصى، وقادة الفكر الذين يبتدعون الفكر ويديروه، هم من يدركوا الحقائق، ويحكموا على الأشياء، والحقائق هذه كما تعلم، تتصورها هذه الجماعة أولا، ثم تحكم عليها، أولا بعقلها لا بخيالها ولا دفق شعورها، وحتى ينتقل الانسان من الحياة الخشنة التي كان يحياها، إلى حياتنا الرغدة هذه، خضع لتأثير المفكرين والمجتهدين، فكل مبدع مجتهد، لأنه لم يرضى أن يمضي كما مضت عترته أعصبته، هو لجأ إلى شيء رائع خلاب يحمله في أعلى أكتافه كما يقول عميد الأدب العربي، واستخدم عناصره، التي كفلت له أن يحيا حياة مرتبة، يجد فيها ضروباً من الدعة، وألوانا من النعيم، وبعبارة مجملة أن الفئات التي استخدمت حصاتها، هي التي أوصلتنا إلى هذه الحقائق الثابتة التي لا تقبل شكا ولا جدالا. أما التعاقب، وتوارث العلوم، فهو أمر بديهي ومحتوم، لا منصرف عنه، ولا مفر منه، حتى الرسائل السماوية، تستأنف أهدافها الصالحة من رصيفاتها، ولكن لكل رسالة ما يميزها، وهي التي تحقق مثل عليا، ليس إلى تحقيقها من سبيل.

***

د. الطيب النقر

(في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

إنَّ النصوص لا قيمة لها بلا قراءة، والقراءة مَضِلَّةٌ قُصوى، ما لم تأتِ في ضوء العقل والتدبُّر واصطحاب السياقات والمقارنات، مع التسامي بالنصِّ عن حرفيَّته إلى مقاصديَّته. أمَّا القفز على ذلك كلِّه من أجل توظيف النصوص، سلبًا أو إيجابًا، فذلك هو الإفك المبين.

هكذا افتتح (ذو القُروح) مجلسنا لهذا اليوم، وهو ما يزال يشدُّ شعر رأسه، كما يفعل عادةً عندما يحاورني:

- بالمثال يتَّضح المقال!

- صدقت! مثلًا حينما يَرِد الحديث النبويُّ الصحيح، ويشار فيه إلى عقل المرأة ودِينها...

- ابتدأنا في المناكفة حول المرأة، أيُّها الذُّكوري المعتَّق؟!

- قل ما شئت! بَيْدَ أنَّه كان ينبغي لكلمتي "العقل" و"النقص" هاهنا أن تُفهما على وجهيهما، لا أن يُرفَض النصُّ، أو يثير التشنُّج؛ فهذا هو التعصُّب والتطرُّف الذي يُعمي ويُصِمُّ لدَى كلِّ الأطراف. 

- لِـمَ لَـم تُفهَما؟

- لدينا، عادةً في مثل هذا السياق، قراءاتٌ رديئةٌ للنصوص، مع سوء فهم، أو إغراضٍ أحيانًا في التأويل. مثال ذلك أيضًا ما رواه ( مُسْلِم) في "صحيحه"، عن (أبي ذر)، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا قام أحدُكم يُصَلِّي،  فإنَّه يَسْتُرُهُ إذا كان بين يدَيه مثل آخِرة الرَّحْل، فإذا لم يكُن بين يديه مثل آخِرة الرَّحْل، فإنَّه يَقطع صَلاتَه الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسود".(1)  فيضجُّ الضاجُّون من هذا النصِّ! 

- لماذا؟

- الآن- وبقطع النظر عن تأويل الحديث- وبقراءةٍ محايدة، لدينا: "الحمار، والمرأة، والكلب الأسود"، هل قال: إنَّ هذه الثلاثة بمنزلةٍ واحدةٍ في المعنى، أو القيمة، أو الشَّرَف، أو الطهارة؟

- حاشا وكلَّا!

- لكن القراءة المحمومة بذِكر المرأة بين الحمار والكلب تثور، لمجرد ورودها بينهما.  ولو قيل: "الغزال، والمرأة، والأسد"، لما وقع ذلك.

- تثور لتصوُّر أنَّ الثلاثة تقطع الصَّلاة للعلَّة عينها.

- وهذا ما لم يَرِد في الحديث أيضًا، وإنَّما هو تحميلٌ للنصِّ بمعانٍ في بال المتلقِّي، ليست بصحيحة بالضرورة. 

- ماذا عن الحمار والكلب الأسود؟

- لا يعنينا هنا التعليل وراء القول بقطعهما الصَّلاة.  لكن من المؤكَّد أنْ ليست في النصِّ مساواةٌ للمرأة بالحمار والكلب، في أي صفةٍ من صفاتهما، كما قد يحلو تصوير ذلك أحيانًا، ولمآرب أخرى. 

- طيِّب، لماذا رُوِي عن (السيِّدة عائشة)، أنها كانت تستنكر الحديث، وتقول: "قد شبَّهتمونا بالحمير والكلاب! والله، لقد رأيتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يُصلِّي وإنِّي على السرير، بينه وبين القِبلة مضطجعة"(2)؟  وقعتَ، يا شاطر، يا ذا القُروح!

- كم تعجبني شخصيَّة عائشة القويَّة!  وها هو ذا صوت المرأة الحقيقي والمستقل، قبل دعاوَى النِّسويَّة المعاصرة.  لكن ألا ترى أنها إنَّما كانت تستنكر (التشبيه)، غير الوارد في الحديث، لا الحديث نفسه.  ولعلَّ هذا الفهم التشبيهي كان قد طرق بعض العقول منذ وقتٍ مبكر، وهو محلُّ اعتراضها. 

- ما الفرق؟

- ما يُستنبط من قولها هو أنَّها تفهم أنَّ المرأة التي تقطع الصَّلاة: المرأة الأجنبيَّة فقط، لما في ذلك من إشغال للرجل عن الصَّلاة، وعن الخشوع؛ فالصَّلاة ليست حركات وهمهمات، بل انصراف كلِّي عن كلِّ شاغل.

- لكن ماذا عن مرور الرَّجُل الأجنبي أمام المرأة وهي تُصلِّي؟

- هنا السؤال!  إنْ صحَّت العِلَّة في المرأة، صحَّت في الرَّجُل، سواءً بسواء؛ ليدور الحُكم مع العِلَّة وجودًا وعدمًا. 

- أم هل يقال إنَّ المرأة تقطع صلاة المرأة أيضًا؟! 

- بل كيف يُلتزَم ذلك كلُّه في مكانٍ كالحَرَمَ، أو في الحَج، بحيث يُشترَط أن لا تَـمُرَّ امرأةٌ أمام رَجُلٍ يُصلِّي، إلَّا إنْ كان مِثل آخِرة الرَّحْل بينهما؟!

- عليك نور!

-  كان علينا فهم النصوص، إذن، بشموليَّتها، لا بمجتذَّاتها من هنا وهناك، إنْ كُنَّا باحثين عن الحق، لا آخذين بمغالطة (رجُل القَش).

- أتفق معك في هذا.  لكني أرجو أن أفهم ما يدور في رأسك بشموليَّته، لا بمجتذَّاته من هنا وهناك؛ لأنِّي أزعُم أنِّي من الباحثين عن الحق!

- اختلاف الجنسَين حقيقةٌ لا تُنكَر، ولا مفرَّ منها، وهي ظاهرةٌ واقعيةٌ وعِلميَّةٌ، لا تنفيها المكابرات، ولولا ذلك الاختلاف ما كانت حياة.  وإلى جانب ذلك اختلاف بيئة المرأة عن بيئة الرَّجُل، وتفاوت القدرات والخبرات بينهما تبعًا لذلك.  ولذا فإنَّ "نقص العقل" المشار إليه لا يعدو وصفًا لما يعتور المرأة من تغيُّرات فسيولوجيَّة وسيكولوجيَّة.

- ما دمتَ قد جئت بمصطلحَي (فسيولوجيَّة) و(سيكولوجيَّة)، فقد أقنعتني!

- عليك من الله ما تستحق فقط، يا ذنَب الخواجات! 

- المهم ما تلك التغيُّرات "الفِسيو" و"السيكو"، يا ترى؟

- نتيجة الاضطرابات الهرمونيَّة للحمل والولادة والدَّورة الشهريَّة.

- يا سلام!

- وهي ناقصة دِين؛ لأنها لا تؤدِّي الفرائض الدِّينيَّة كالرَّجُل، للأسباب المشار إليها. 

- تخريجاتٌ قديمة!

- فلتُنكِر، إذا شئت، أنَّ المرأة مرأة، وأنها تمرُّ بتلك الحالات! 

- لا نستطيع إنكار المقدِّمات، لكننا نستطيع إنكار النتائج! 

- هذا تناقض!  ومهما يكن من مِراء، فإنَّ ذلك النصَّ لا يعدو وصف واقع الحال.  وليس شتيمةً أو تنقُّصًا من قَدْر المرأة.  غير أنَّه تحميل النصوص ما لا تحتمل، ولأغراضٍ معروفة. ثم بعد هذا، لو أردنا التوسع في مناقشة مثل هذه المهزلة القرائيَّة المُغْرِضة للنصوص، لأمكن القول: إنَّ الطَّرَفَين، ذُكوريِّين ونِسويِّين، إنَّما يأخذان مفرداتٍ لُغويَّةً قيلت قبل أكثر من 1400 سنة بما دَرَج في شوارعهم وأذهانهم، حول معنى كلمات: "ناقص"، "عقل"، "دِين".  وإلَّا فكلمة "ناقص" قد تأتي صفة ذاتية تارةً، واسم فاعلٍ في غيره تارة؛ أي أنَّ المرأة ناقصةٌ لعقل الرَّجُل ودِينه! وليست تلك بسُبَّةٍ أو انتقاصٍ من شأنها، بل قد تكون بعكس ذلك. والعقل كذلك لا يعني في مواطآت اللِّسان العَرَبيِّ ما يتبادر إلى الذهن أوَّل وهلة، من: الذكاء، والقدرة على التمييز، ومهارات التعلُّم، فحسب، بل معناه أوسع من هذا، متصلٌ بالحكمة، والحِلم، والصبر، ورباطة الجأش، إلى غير ذلك. على أنَّ النقصان في هذا، إنْ صحَّ في المرأة، تقابله لديها بحورٌ من العواطف، لا يملك الرَّجُل إلَّا بعض بعضها. فالرَّجُل ناقص في هذا الجانب أشدَّ النقص، قياسًا إلى المرأة. وما ذلك بمعيبٍ فيه، كما أنَّ نقصانها قياسًا إليه ليس بمعيب؛ فذلك وهذا سبيلا التكامل في الخصائص والوظائف بين الجنسَين.  وأمَّا مفهوم "الدِّين"، فعالَم أوسع في معانيه من ذاك كلِّه. 

- وعليه؟

- وعليه فإنَّ التحليل اللُّغوي، والفهم الكُلِّيِّ للنصوص، والتحليل النفسي والبيولوجي...

- ما دمتَ قد قلتَ (البيولوجي)، فقد اقتنعتُ!

- ليس من هدفي أن أُقنعك، على كُلِّ حال!  غير أنَّ الوعي الموضوعيَّ بطبائع الأشياء ومعطيات الواقع، هي عناصر تنقص قراءاتنا وأحكامنا، غالبًا. فضلًا عن نوازع عاطفيَّة وفئويَّة تتأجَّج نحو المناكفة والمزايدة، وهو ما لا يُنتِج معرفةً ولا عدلًا، بل مزيدًا من الجهل والحَيف والتطرُّف.  والجهل جهلان: (جهل المعرفة)، و(جهل الإعراض، والعِناد، والنَّزَق، والخُلُق).  ولذلك فإنَّ العُذر بـ(الجهل المعرفي) في شؤون الدِّين والدُّنيا أمرٌ عقليٌّ وعدليٌّ، لولاه لما كان معنًى لبعث الرُّسل وتعليم الجاهل، على حين أنَّ (جهل الإعراض، والعِناد، والنَّزَق، والخُلُق) لا عذر به، لا في دُنيا ولا دِين.  بَيْدَ أنَّ من لا يُدرِك الفروق اللُّغويَّة يقع في حيص بيص.  ولأجل هذا ترى تخليط كثيرٍ من الخائضين في شؤون التُّراث بلا فِقهٍ بأسرار لغته، وعلى ذلك الفِقه مدار الفهم والحُكم. 

*

وتركتُ صاحبي اللَّدود ذا القُروح في حيص بيص، من احتدامه المعتاد، على أمل عدم اللقاء به، ولكن هيهات!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

....................

(1)  مُسلِم، (2006)، صحيح مُسلِم، عناية: أبو قتيبة نظر محمَّد الفاريابي، (الرِّياض: دار طيبة)، (الحديث 510)، 1: 232.

(2)  م.ن، (الحديث 512)، 1: 233.

(إن رجال السياسة يصنعون الزمن الجماعي على مرآة زمنهم الفردي، أما رجال الفكر فينحتون زمنهم الفردي على مقاس الزمن الجماعي)... عبد السلام المسدي  

عن حال الكتابة عندي أتحدث. فقد أجد نفسي موغلا في العزلة، وتصيبني كآبة تجاه العالم والمحيط. لا تثيرني شهية الكتابة كما اعتدت كل صباح، أو عند ارتشاف كأس شاي، في خلوتي الخاصة.

هاته الفواجع والمآسي المتراصة، تشاغب ظلي، وتتعب أفكاري المليئة بالثقوب والمرائي الثقيلة. تسحبني مشاهد البؤس والبكاء والدم، في مقامع الزلزال الأخير في مراكش وأحوازها، والحرب على أهلنا في غزة العزة، وقبلها الزمان الكوروني المقبور.

أي كتابة تلك، ستمسح نذوب النفس والجراحات الثكلى؟ وأي أمل سيعيد جذوة الحياة، بعد زحام الألم والقسوة والحزن؟

سيسألني سائل، عن جدوى الكتابة، بعد كل هذا الجنون والفوضى، وسأقول له، إنني أجزم بكون التفكير انعكاس حقيقي لتجربة الكتابة، بينما التفسير المضطرب لعدميتها هو نتاج السقوط الحتمي والغرق في اللاجدوى، والوصول إلى النهاية ..

الأرواح المغدورة في كل الأنحاء البشرية، تسائل ضمائرنا، وتقيد الأفكار المنذورة للخيال المسجى بأوثاق الزمن. نتلهى في الوطن المنتظر، في الدروب الطويلة، على أهبة كل حين، دون أن نيأس من تقعر العمر واندلاقاته.. نستعيد في الخلفيات التاريخية وجذورها الثقافية والحضارية، أورام الشرور الإنسانية وأحقادها، ومثبطاتها والصدوع المترامية عبر سيرورات الحروب الطاحنة والأطماع المستعصية وجنون الاستبداد والسيطرة، فلا يعكس استحضارها سوى التأبيد المروع الناقم على السلام الروحي والتواصل الإنساني والمثاقفاتي، غير الانغماس الطوعي والساكت في خرسانة النزيف الداخلي لأمشاجنا وندوبنا، في مسلكيتها وطريقها الغامضة والملتبسة؟

إن عواصف التغيير التي نشبت أظافرها فينا، وما عادت تترك لنا فرصة للتفكير والتروي وشيئا من التأمل، أناخت اللثام عن قهريتنا ومرضيتنا في مداواة يقيننا المعلول، ولاهويتنا المنخرمة، وتذبذبنا في الإبقاء على كوة ضوء في مفترق أدائنا لمهمة الأرض ورسالتها القيمية.

إنه لا سبيل لفضاء العيش المشترك بين بني الجلدة والعقل، سوى الأمان الأصيل، والوجود المؤتمن الأقدر على تمكين أخلاق الحرية والمساواة والعدالة، من إبعاد كل قذارات الخوف والإظلام وانتهاك الحقوق والإبادة.

ومن أبلغ انتقاء لهذه المبادئ السامية، والقيم المجيبة على أسئلة الراهن والوجود، يكسر ثنائيات التناقض والتأويل السياسوي والحربي، ويدرأ عن وشاح التفكير الحر واليقظ، مخالف كوابيس التصنيف الضدي القاتل والمنتهك لحقوق البشرية في العيش بكرامة والاستقلال المصيري الموقن بالائتمان والسلام والمحبة.

إنه في حدود الأنظمة الإطلاقية للتيه والجنوح نحو القوة والسيطرة، كان وسيظل هناك، متحالفون ضد رعاتها ومتنفذيها، يقاتلون بالأفكار والثقافات، ما شذ ونشز، ويبادرون إلى توسيع ثمرات الفضائل والمكارم وقيم الإخلاص للحوار والاصطبار والتحول الإيجابي والإيثار الوجداني والتمنطق بالعقلانية.

ولا يزال هذا الانتماء، في حدود هذه العلامات القيمية الواعية بأدوار ووظائف المثقفين، مندغما في إواليات ما أطلق عليه بيار بورديو ب"رأس المال الثقافي للشعوب .. حيث ينثني وجود القيمة بالإصغاء والاقتراب ومباشرة الإصلاح".

فهل تحول تقاطعات هذا الهم، وتجافيها بين الإدغام والإبهام، دون تحقيق مناط تكسير مواطن الخلل وانعدام الرؤية، في تدوير أنساق الثقافة وأدوارها لدى المثقفين وصناع الفكر، حيث تختفي مسؤولية الكتابة والإبداع، بالتعتيم على مناهجها ونهوجها، والإقصاء الجبري والتجهيلي لمراميها وآثارها في الحضارة والعمران؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

 

تنطوي أطروحة النائيني تنبيه الامة وتنزيه الملة على مجموعة معطيات لم تعبر فقط عن زمنها بل تخطت في حيويتها الازمان اللاحقة وهي اليوم لاتزال بلسما لمعضلات قائمة ومنها:

1- انفردت الاطروحة في اكتشاف نقطة الارتباط والتوازن بين الدين كمصدر أساس للمعرفة والعقل الحضاري وبين النزعة المدنية التي أصبحت ضرورة وليست خيارا وذلك لتطور الحياة والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والتواصل وتعقيد عملية الإنتاج وسبل الإفادة من الثروة الطبيعية والبشرية فلم تعد الثقافة الدينية بمكوناتها التاريخية حلا لمشاكل العصر كلها لاسيما مع توقف حركة التفكير والاجتهاد في الكلام والفقه وانحسار الجهد المعرفي بالشان الديني التاريخي وضمور الإنجازات التطبيقية وبسبب جمود التفكير الشرقي وعودة الغرب للهيمنة على بلاد الإسلام محملا بالانجازات التقنية التي وظفها لازاحة السائد الديني من واقع دنيا البلدان التي سلخت من الإمبراطورية العثمانية بعد خسارتها في الحرب الأولى 1914-1918 وتحول تلك الولايات الى دول صغيرة رسمت الدول المنتصرة حدودها ونظمها وقوانين مجتمعاتها فكانت مجاميع تلك الشعوب التي كانت مكبلة ومقهورة بنظام امبراطوري كان المحتم عليها طاعة الخليفة وتطبيق احكامه الفقهية التي يرجحها والتي لم يجر عليها تحديث وفقا لمتطلبات الازمان اللاحقة لزمن وقف الاجتهاد واقصاء العقلانية والمنطق وفجاة تستفيق على الغرب قد اغتال نظام الخلافة فتبنت الطبقات المحافظة مبدأ استعادة الخلافة والرجوع الى قوانين الفقهاء و بناء الدولة الدينية والإصرار على اعتبار المدنية غربة ثقافية وعصيان للدين وخضوع لارادة الغرب.

وقبالتها جماعة ادركت خطر التخلف التقني والاقتصادي وطالبت بان تكون الدولة مدنية وعلى وفق المسار الأوربي للخلاص من شقاء الانسان والتخلف والخضوع الابدي لقوة الغرب. فكانت رؤية رسالة تنبيه الامة الا تتبنى الامة القطيعة الكلية او الأغلبية مع الدين وقوانينه ولا تغرق في نزعة مدنية منفصلة عن تراث ثقافي صاغ العقل السياسي والاجتماعي للامة منذ الف واربعمائة سنة لكنها أيضا قررت الا تهمل اكتساب الخبرة والفكر المنهجي الأوربي والعلوم الحديثة وإقامة الدولة على أساس مدني لكن يجب ان يكون مرتبطا بتراثه وموظفا الانتماء الديني لخدمة تطلعات الانسان التي تتفق مع مقاصد والشريعة وبذلك تخلصت نظرية النائيني من كونها في طرف العصا الذي يظل قلقا للخلل في التوازن من الطرف الاخر لذلك نجد انها قد انحازت الى هذه التوازنية وفيما بعد اثيتت تجربة اليابان وسنغافورة وماليزيا وربما البيرستريكا في الصين ان تلك التوازنية هي الحل الانجح مقابل مقاربتين عدة (العلمانية هي الحل) و(الإسلام هو الحل).

2- مقابل نظرية اننا جزء من الامة الإسلامية (التي تحتاج الى خليفة الهي او الى ولي فقيه مرشد الهي ايضا) فينازعها اتباع الأديان الأخرى كونهم من امة دينية أخرى او من مذاهب أخرى لاترى الولاية للفقهاء وكذلك مقابل اننا جزء من الامة القومية (العربية او الكردية او التركمانية ...الخ) اوجزء من امة الرابطة الفكرية مثل العالم اليساري المتضامن مع الدولة اليسارية الام كالاتحاد السوفياتي اختارت أطروحة النائيني مصطلح الامة الوطنيةational nation وجعلت الرابطة الإخلاص للوطن وحمايته مع المواطن والسعي لرفاهه وعزته ومستقبله.

3- تبنت الاطروحة ان الفلسفة السياسية التي يجب ان تعتمد في دولة ما بعد سقوط الانموذج الامبراطوري العثماني فلسفة دولة ترسم الجغرافية ملامحها وتكون حدودها الجغرافية ميدان تطبيق سيادتها اما امتداداتها دينيا او قوميا او أيديولوجيا فيجب ان يوظف لاعلاء شان الوطن وخدمة شعب الوطن فهي تؤسس للمواطنة التي تتبنى شعار الوطن أولا وثانيا وعاشرا وبذلك فهي لا تعادي الإسلام والمسلمين ولا تتبنى رؤية الإسلاميين في بناء الدولة والشان الاجتماعي على أساس تاريخي ولا تضحي بمصلحة للوطن لصالح المسلمين خارج الوطن وترى ان الاخوة الدينية والقومية عاطفة محترمة لكنها ينبغي الا تكون مؤثرة على مصالح الوطن والمواطن ورفاهيته وتمتعه بثروات بلده.

وهي كما لا تتقبل الأيديولوجية القومية والاسلاموية والارتباط العرقي والديني الا انها ترى ان القومية انتماء غريزي محترم كانتساب الى عرق بشري لكن الانسان حرا في اختياره ان يبني تجربته على أساس أولوية الوطن والمواطنة.

 وثالثا لاتتبنى الاطروحة الارتباط بدولة اجنبية كائنة ما كانت بسبب الأيديولوجيا كارتباط دول من العالم الثالث بالاتحاد السوفيتي بسبب الايمان بالعقيدة الماركسية فليست الاطروحة عرقية ولا ايدولوجية ولا دينية بالأساس لكنها لا ترى مانعا من توظيف هذه الامتدادات لصالح الوطن والمواطنة

4- لا تتبنى أطروحة النائيني فكرة دولة المكونات والطوائف كالانموذج اللبناني انما تنصهر فيها كل الأعراق والأديان والمذاهب والثقافات والتراث التاريخي في مركب المواطنة الممتازة والاطروحة تنقل النظام الاجتماعي من نظام الرعوية للسلطان او الخليفة الى مواطن كامل المواطنة الدستورية.

5- تعلن أطروحة النائيني – بعد ان عاش عالمنا المتعب نظام حكم استبدادي يتمتع الخليفة فيه بكل الصلاحيات وبقداسة مستقرة على انه النائب عن النبي ص الذي استمر الف وثلاثمائة عام ان النظام الاصلح هو نظام الدولة الوطنية الدستورية البرلمانية القائمة على أساس شورى فعلية وحقيقية ومجالس نيابية بدائرة واحدة وتقسيم العمل بين السلطات التشريعية والتنفيذية وان يكون القضاء مرتكزا على اجتهاد القضاة ونزاهتهم المثلى والفصل المرن بين السلطات وان يكون دور الدين ومهمات العلماء ترصين الايمان والأخلاق فمتى حصل خلل في هذه التوصيفات تقف الاطروحة صارمة وفورية باتجاه التغيير نحو مقتضى الاطروحة.

6- تقدم الاطروحة رؤيتها النقدية للديمقراطية الغربية بوصفها ترى ان المؤهل وغير المؤهل يشارك في صنع القرار للوطن والأمة الوطنية فهي ترى ان صناع القرار هم المتعلمون والعلماء والمثقفون والمهنيون وهؤلاء من حقهم الترشيح والانتخاب ويحق ان يتم اختيارهم للمهام التنفيذية لكن على أساس انجازاتهم ونزاهتهم ومهنيتهم الأفضل فالامثل فيكون المجلس النيابي مجلس يتقن التشريع ويتقن الرقابة بلا استغلال للموقع ويكون المجلس التنفيذي امهر من يحول الخطط الى حقائق على الأرض ويتطور القضاء بالاجتهاد والتعمق واحقاق الحق والعدل.

***

ا. د. عبد الامير كاظم زاهد

من البديهي أن التنمية الديمقراطية تتطلب ديمومة التوازن السياسي بحكومة ومعارضة قويتين، والوعي التام بالحاجة الدائمة لتنمية القدرة على الاستجابة الفعالة للتحديات والرهانات التكنولوجية والعلمية التي يعرفها العالم، خاصة القدرة على إنجاز الخطط والتصاميم الاستراتيجية، وذلك من خلال مأسسة النسق المؤسساتي الدائم الضامن للارتباط الوثيق بين النظرية والواقع. إن حجم الأوراش الكبرى الاستثمارية في المجلات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي أطلقت زمن العهد الجديد تستوجب اليوم خلق الآليات لتقوية مكانة المهندس في كل المجالات الحيوية للبلاد: الأحزاب السياسية، والنقابات، والبرلمان، والحكومة، والجماعات الترابية، والقضاء، والإعلام.

لقد أثبتت التجربة مغربيا أن المهندس، بطبيعة تخصصه وخبرته التقنية العملية، يتواجد بقوة كرائد بتدخلاته التنموية في عمق الفعل العمومي على صعيد كل المستويات والمجالات المنتجة في القطاعين العام والخاص. إلا أن التركيبة المؤسساتية للأجهزة القيادية للمشاريع التنموية العمومية على صعيد التراب الوطني بتمويلاتها الوطنية والجهوية والإقليمية والمحلية، والتي تتداخل فيها تخصصات العلوم الإنسانية والعملية والهندسية وتأثيرات منطق إنتاج النخب، لم تُفْض منذ الاستقلال إلى النجاعة والمردودية المطلوبة التي أقرتها التجارب التي ترسخت في تاريخ الفعل العمومي في الدول المتقدمة (المعروفة بمردودية مشاريعها العالية وأمل حياتها (الديمومة) الطويل). العلاقة التنظيمية القانونية بين الفاعلين في مجالي المالية والمحاسبة (الآمرين بالصرف) والسلطات القيادية الدستورية والأجهزة الإدارية لم يترتب عنها ذلك الترابط المأمول بين الجانبين النظري والعملي. بقي المهندس في نفس الآن المحور الأساسي في التنمية الترابية والحلقة الضعيفة في النسق المؤسساتي المسؤول عن ضمان ديمومة التنسيق والتقييم للمنجزات. إذا استثنينا المشاريع التي يشرف عليها جلالة الملك بشكل مباشر، يمكن القول أنه شاع الانطباع في أذهان المرتفقين أن طبيعة المشاريع العمومية الترابية لم تكن يوما في منأى من الإصابة بداء تآكل المفاصل وتصلب شرايينها وضعف القيام بوظائفها المحددة مسبقا. الحصيلة تؤكد بجلاء عشوائية صفقات إنجاز الاستثمارات التجهيزية الترابية: تجهيزات ومنجزات غير مستغلة ومهجورة (فارغة) متروكة للتعرض للاهتراء، وأخرى مستعملة جزئيا أو ظرفيا، وأخرى ضعيفة المقاومة للشقوق والحفر، وعدد منها تم إنجازه فوق عقارات مهددة بالفيضانات، وكثير منها تم تشييدها في أماكن غير آمنة وبدون حراسة .....الخ. كما أبانت التجارب ضعف التنسيق بين القطاعات العمومية للرفع من نفعية وصلابة التجهيزات المنجزة إلى أعلى المستويات.

والحالة هاته، فإضافة إلى ضعف تحديد المقومات العلمية والتقنية الشاملة والدقيقة للمشاريع المجسدة في دفاتر التحملات، التي تغلب عليها بشكل واضح ولاعتبارات مبهمة المحددات الذاتية أكثر من الموضوعية العلمية، تبقى الهندسة في القطاع العام عاجزة إلى حد كبير عن تتبع التطورات العلمية النظرية العالمية بفعل ضعف التكوين المستمر ومحفزاته وغاياته. تتجدد التقنيات والآليات والقواعد والمناهج التدبيرية في الدول المتقدمة بسرعة فائقة ومربكة، لكن الممارسة الهندسية الوطنية تبقى في مجملها ملتصقة بتقنيات تفعيلية متجاوزة ومكلفة زمنيا وماليا.

في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى التميز الواضح الذي عبرت عنه المشاريع التنموية التي يشرف عليها القصر الملكي. لقد قدمت السلطة الملكية نموذجا راقيا للعلاقة البناءة لارتباط الهندسة بالمشاريع التنموية المهيكلة للتراب الوطني. إنه منطق قيادة حكيمة للمشاريع بشقيها المالي والمسطري. وعليه، فتمديد تفعيل المقاربات التدبيرية الملكية وتعميمها بشكل شامل وكلي على السياسات التنموية الحكومية يجب أن يتحول اليوم إلى أولوية الأولويات الاستراتيجية للدولة. لقد تمت البرهنة أن مستويات البلورة والإعداد والتنفيذ والتقييم وتتبع المردودية والصيانة يمكن أن تضمن تمديد النجاعة والشفافية من الأعلى إلى الأسفل، وبالتالي يمكن أن تتحول إلى مدرسة في العقلانية والحداثة التنموية. إنه السبيل الملائم مغربيا لترسيخ معاني التدبير التنموي الترابي من النواحي المالية والتقنية والقانونية من المحلي مرورا بالإقليمي والجهوي ووصولا إلى الوطني، وضمان جودة تنفيذ مضمون دفاتر التحملات بالضبط الدقيق للجوانب المالية والتقنية والقانونية، واحترام المراحل الزمنية للإنجاز، وملائمة المشاريع المسلمة رسميا لتصاميمها ومتطلبات وأهداف إنجازها المحددة مسبقا.

استحضارا لما سبق، نستنتج أن قيادة المشروع التنموي القطاعي، الهندسي بطبيعته، لا يمكن قيادته وتحقيق الجودة في تنفيذه إلا من طرف المهندس المدعوم بفريق إداري وقانوني ومالي. لقد عاش المغرب في مطلع الألفية الثالثة تجربة مؤسسة العامل المهندس التي اقترحها وسهر على انتقاء مواردها البشرية التي يزخر بها القطاع الهندسي المستشار الملكي مزيان بلفقيه رحمه الله. لقد لاقت هاته التجربة نوعا من الإجماع نظرا لوقعها الإيجابي على الصعيد الوطني. لقد أبرزت أن المهندس القيادي والسياسي له قدرة هائلة على تشخيص الأوضاع وتنويع معارفه القانونية والإدارية والمالية والتدبيرية بالسرعة المطلوبة. لقد تم اعتماد التخطيط الترابي والدقة في إعداد التصاميم الهندسية في التنمية القروية وتأهيل المدن.

إن قدرة المهندس على تملك المعارف وفهم وتتبع التطورات التقنية، وكفاءته في تحويل النظريات العلمية إلى تصاميم تفعيلية وتنزيلها ترابيا، وذكائه في فهم وتأويل القوانين في مختلف المجالات، وخبرته في قيادة التغيير، وإلمامه بأنماط التدبير العصرية، وكونه الفاعل المحوري في الفعل التنموي، تفرض اليوم تعميق التفكير في تجديد بنيات الأجهزة المؤسساتية لتفعيل المشاريع التنموية بتحويله إلى سلطة فعلية لقيادتها وتنفيذها في إطار نسق واضح المعالم تلعب فيه مؤسسات الحكامة والرقابة دورا رياديا مستمرا.

إن أول من اعترف سياسيا بالأدوار الريادية التي لعبها أو يلعبها أو يمكن أن يلعبها المهندس في التنمية المجالية وتهيئة التراب الوطني هو الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله. فإضافة إلى الفرحة التي أدخلها على قلوب الموظفين العموميين بتنفيذه مخرجات الحوار الاجتماعي الاستثنائي في تاريخ الحكومات المغربية، وتدبيره الرفيع للورش الحقوقي للمصالحة السياسية، أصر قائد حكومة التناوب التوافقي بالإمكانيات المالية المتوفرة لديه على إعادة الاعتبار للمهندس كمحور أساسي في تهيئة وتعمير تراب البلاد، بحيث فتح حوارا بناء وجادا مع ممثلي القطاع توج بإعادة الاعتبار للقانون الأساسي للمهندسين. لقد انشغل اليوسفي مطولا بالعلاقة السلسة بين التطورات العلمية النظرية وسرعة ربطها بالواقع المعاش للشعوب المتقدمة، وحرص بكل وزنه السياسي على خلق الآليات المؤسساتية والقانونية الضرورية لمعانقة التقليد التاريخي لمسار توطيد العلاقة بين الكشوفات العلمية وترسيخ مزاياها ومنافعها في الواقع.

أما اليوم، فأمام الثورة العلمية والتكنولوجية الخارقة التي ميزت العقود الأولى من الألفية الثالثة وما أحدثته من تحولات مدوخة ومغرية في العالم في كل المجالات، وتجنبا للحد من نزيف هجرة العقول الهندسية إلى الخارج، يبقى من واجب الدولة اليوم الانكباب الفوري لبلورة مخطط استعجالي لتقوية المعرفة الهندسية في الفعل العمومي، وبالتالي الرفع من جودة انتقاء المشاريع التنموية حسب الأولوية، ومضاعفة منافعها وتعظيم قيمة المصالح العامة المقدمة، وبالتالي تحقيق تصاعد دائم في نسب النمو السنوية والحد من التأثيرات المناخية السلبية والحد من المخاطر السياسية والحقوقية المرتبطة بها.       

***

الحسين بوخرطة

عقب الانتهاء من لقائنا مع عالمنا الجليل "الطهطاوي" تواصل معي أستاذي الجليلان د.عثمان ود. راشد من أجل الذهاب لهما في الغد بمقر الجامعة الجديدة. وقد اتفقت مع "نور الهدى" أن نذهب سويًا. ومع الصباح البارد يولد الجمال.

رنت عليا نور لتوقظني قائلةً: قد ذهب زوجي "رمزي" لإيصال البنات إلى المدرسة وعند قدومه سوف يوصلني إليك وهو في طريقه إلى عمله بالبنك وبالفعل وصلنا في الموعد المحدد.

- د. حليم عثمان: في البداية اطلب منكِ تلميذتي أن تسجلي كل ما دار أمس في لقائنا مع عالمنا الجليل وتحتفظي به، ومع ظهور تعبيرات الاستفهام على وجهي قال لي أستاذي: أنه حاجة في نفس يعقوب فاصبري وتمهلي.

- د. نجيب راشد: أما زلتِ على موقفك يا آمال من نقدك لأطروحة النسوية حول النظام الأبوي؟

- بكل تأكيد فأكثر ما يضايقني د. "راشد" استخدام نسويات الموجة الثانية لمصطلح النظام الأبوي منذ أوائل القرن العشرين، بشكل متكرر في عديد من المجلات والنصوص الكلاسيكية والدوريات (1)، للإشارة إلى النظام الاجتماعي القائم على السيطرة الذكورية على النساء، أصبح مفهومًا مهمًا في دراسات الجندر بشكل أساسيٍّ- وما أدراك وما الجندر د. راشد-، مما ترتب عليه تطوير عدد من النظريات التي تهدف إلى تحديد أسس تبعية المرأة للرجل(2).

- نور الهدي: أفهم من ذلك أنه مع الحركة النسوية بدأ النظر إلى النظام الأبوي بوصفة النظام القاهر النساء ولكن كيف تم ذلك؟

- د. نجيب راشد: سأوضح لكِ الأمر أستاذة "نور الهدى"، لقد استندت الحركة النسوية إلى أن الأم كانت تمثل الدور المسيطر في الاقتصاد، في مرحلة النظام الأمومي والتي تعد مرحلة تاريخية فيتطور المجتمع البدائي، حيث وجد النظام الأمومي لدى جميع الشعوب بلا استثناء، فخلال المراحل الدنيا من التطور الاجتماعي لم يكن معروفا من هو أبو الطفل في حين كانت أم الطفل معروفة، ولهذا كان ينسب النسل للأم وكان الاعتراف فقط بالصلة الأنثوية(3). وبناءً عليه أولاد الرجل لا يستطيعون ورثه، فقد كان الأقارب من ناحية الأم هم الذين يرثون مَنْ يموت من القبيلة حتى تكون الملكية داخل القبيلة؛ والسبب في ذلك يعود إلى انتساب الطفل للأم في ذلك الوقت(4). وبذلك يُلاحظ أن معظم التقدم الذي أصاب الحياة الاقتصادية في المجتمع البدائي يُعزى للمرأة أكثر مما يعزى للرجل(5).

- د. نجيب عثمان: لكن مع تقدم الزراعة انتزع الجنس الأقوى ألا وهم الرجال من أيدي النساء زعامتهن الاقتصادية التي توفرت لهن حقبة من الزمان بسبب الزراعة؛ وكانت المرأة قد استأنست بعض الحيوانات؛ فجاء الرجل واستخدم هذه الحيوانات بنفسه في الزراعة، وبذلك تمكن من أن يحل محلها في الإشراف على زراعة الأرض، ومن ثم فرض سيطرته عليها؛ وكذلك ازدياد ما يملكه الرجال من أملاك عديدة، كالماشية ومنتجات الأرض، مما أدى إلى إخضاع النساء للرجال إخضاعا جنسيا؛ لأن الرجال طالبوهن بالإخلاص لهم ليورثوا ثروتهم إلى أبناء من صلبهم؛ وهكذا تم الاعتراف بأبوة الرجال داخل الأسرة، وبدأت الملكية تهبط في التوريث عن طريق الرجال، واندحر حق الأمومة أمام حق الأبوة، وأصبحت الأسرة الأبوية هي الوحدة الاقتصادية والشرعية والسياسية والخلقية في المجتمع(6).

- د. نجيب راشد: بذلك أصبحت المرأة وأبناؤها ملكا لأبيها أو لأخيها الأكبر، ثم ملكا لزوجها، إنها اُشْتُرِيت في الزواج كما كان يشترى العبد في الأسواق سواء بسواء، وأصبح للوالد الحق في أن يعامل زوجاته وبناته كما يشاء(7)، ففي الأسرة الأبوية، أصبحت الزوجة وأبناؤها بمنزلة العبد لرأس الأسرة وهو الرجل(8). وهذا يعنى أنّ النظام أن الأبوي حرفيًا هو حكم الرجل المسيطر على الوحدة الاجتماعية كالعائلة أو القبيلة. وهو عادة ما يكون الأب الذي يوصف بأنه شيخ كبير في السن داخل المجتمع، والذي يمتلك السلطة الشرعية على الآخرين داخل الوحدة الاجتماعية، بما في ذلك الرجال الآخرين (ولاسيما الأصغر سنًا)، وكذلك يسيطر على الجميع من النساء والأطفال(9). وبإيجاز يعني النظام الأبوي حكم الأب داخل الأسرة التي يسيطر عليها الذكور(10).

- وبناءً على ما سبق يا "نور"استند روادُ الحركة النسوية على النظام الأبوي بوصفه سببًا لاضطهاد النساء وقاموا بطرح العديد من التعريفات، ولكن كان أكثر تعريف تأملت فيه: هو ما قدمته "كارول جيليجان "(ã)CarolGilligan (1939- ؟) حيث رأت أن النظام الأبوي هو نظام حياة يميز بعض الرجال على البعض الآخر والأغنياء على الفقراء والبيض على السود والآباء على الأبناء، وهذا الدين على ذاك وهذه الطبقة على تلك وجميع الرجال على النساء. إن سياسة النظام الأبوي هي سياسة الهيمنة وهى سياسة تبرر عدم المساواة(11). ووفقًا لهذا التعريف أستاذي الجليلين فإنه لم يجعل النظام الأبوي نظامًا قاصرًا على تمييز الذكور عن الإناث من خلال طرحه صورٍ أخرى للاضطهاد داخل المجتمعات. ولدي قناعاتي بأن نظرة النسوية للنظام الأبوي بوصفه نظامًا تتعرض فيه النساء للقهر والقمع من جهة الرجال غير مقبولة لأسباب عدة والتي منها: أن هذه التفسيرات تبدو اتجاهًا نحو التأمل (بمعنى آخر)، إنها أخفقت في الاعتراف بالاختلافات التاريخية لتفسير العلاقات بين الجنسين(12).وبناءً على ذلك لابدّ من أن نُحقّق في الفرضيّة المُسبقة للحركة النسويّة المبنيّة على تعميم الظلم والتمييز بين جنسٍ وجنسٍ آخر، فالدعوة الأساسيّة لهذه الفرضيّات هي أنَّ النساء كنّ يقبعن في موقعٍ أحقر مقارنة بالرجال طوال التاريخ بسبب جنسهنّ، ويمكن ملاحظة بعض أشكال هذا الاحتقار على شكل ظُلمٍ وتمييز.(13)

إنّ إثبات انتشار الظلم طوال التاريخ وبهذه السعة لابد أن يكون عبر تقارير وثائقيّة وتاريخيّة، وأمثال هذه التقارير لا تقتصر على أنّها غير موجودةٍ وحسب، بل من غير المُمكن الحصول عليها عمليًا(14).

- د. نجيب راشد: أتذكر تساؤلك يا "آمال" عن سبب اعتبار الحركة النسوية النظام الأبوي سببًا لقهر النساء؟ ألا يمكن اعتباره مصدرًا جَوْهَرِيًا لحماية المرأة والدفاع عنها؟ و تركيزك على أن أية أطروحة تنم عن المجتمع والعصر الذي نشأت فيه؛ ولكون الحركات النسوية غربية فهي تعبر عن بنية المجتمع الغربي الذي يتسم بالفردية والتفكك الأسري، وكذلك تعبر عن التجارب الشخصية لروادها واللواتي إن صادفن رجالًا قادرين على مشاركتهن في تحمل المسئولية ورعايتهن لتحولن إلى القول بأن النظام هو مصدر الآمان والاستقرار. وأتذكر حينما سألتك: تُرَى ما النظام البديل يا آمال؟

- نعم أتذكر تساؤلك؟ واقترحت باستبداله بالأقواس القهرية؛ لسببين الأول أن مصطلح الأقواس القهرية من وجهة نظري هو نظام قائم على وجود علاقة ثنائية تتسم بالتسلط والخضوع لقهر النساء تتمثل في أنماط متباينة من العلاقات كالقهر الطبقي أو التحيز الديني أو التحيز العرقي أو تحيز المجتمعات ذوات البشرة البيضاء ضد ذوات البشرة الملونة من النساء أو الرجال للنساء...إلخ، ومن ثم لا يمكن حصر التعريف على نمط واحد من أنماط القهر الذي يقع على المرأة ألا وهو قهر الرجال للنساء. ثانيًا إن مفهوم الأقواس القهرية تتشكل مبادؤه وفق الخلفية الدينية والثقافية والطبقية والعرقية والأيديولوجية ...إلخ داخل المجتمع، ومن ثم يختلف ويتغير باختلاف الأزمنة والعصور داخل المجتمعات.

- د. حليم عثمان: ولماذا كلمة أقواس قهرية بالذات تلميذتي النجيبة؟

- لأن العديد من النساء تتأرجح في عالم مظلم بين أقواس قهرية، حيث تقيدهن العادات والتقاليد الظالمة وكذلك الفهم الخاطئ لبعض النصوص الدينية...إلخ، فيصبحن أسيراتٍ لا يُسمح لهن بتحقيق ذواتهن الحقيقة . من خلال احتجازهن بين تلك الأقواس التي تحكم حياتهن وتحدد مصيرهن مما يحرمهن من الحرية والاختيار ويئد طموحاتهن الشخصية. من أجل ذلك يظللن في معركة مستمرة لكسر تلك الأقواس القهرية، فيخضن حربًا صامتة ضد الخلفيات الدينية والثقافية والطبقية والعرقية والأيديولوجية. وحتما د.عثمان إذا عالجنا الأسباب الحقيقة وراء ضعف مكانة المرأة عبرالتاريخ فسنصل إلى تحقيق التكامل بين الرجل والمرأة وفقاً لأطروحتنا الشرقية.

- د .عثمان: صدقتِ تلميذتي.

- د. راشد: أنه لحوار مثمر ولكن معذرةً لابد أن أغادر؛ لأنه موعد خروج ابني "أسلم" من المدرسة.

- نور الهدى: وكذلك أنا يجب علىّ الذهاب إلى مدرسة بناتي فاليوم أخبرت زوجي بأنني سأحضر البنات من المدرسة حتى يُضطر إلى الاستئذان من عمله.

- ونحن في طريقنا للذهاب إلى مدرسة بنات قالت "نور"لي: أنَّ دكتور نجيب متشابه مع زوجي رمزي في حرصهما على المشاركة بتحمل مسئولية الأبناء والأسرة.

- إنهما نموذجان للعديد من الأزواج في مجتمعاتنا الشرقية، والتي يكون فيها الرجال قادرين على تحمل المسئولية وتقديم الرعاية لأسرهم بوصفهم مصدرً الأمان لزوجاتهم وأبنائهم؛ من أجل ذلك "يا نور" إن كلمة "الأبوي" تمثل بداخلي معاني إيجابية من حب وحرص على الأبناء وسعي دائم إلى دعمهم المعنوي وتوفير احتياجاتهم المادية، وإن كنت لا أنكر تواجد أمثالٍ كثرة من نموذج "سي السيد" في تعامله المستبد مع المرأة. وعلى أية حال يا نور إنني أنتظر مجيء رائد حركة تحرير المرآة بمصر في لقائنا القادم لمناقشة أهم معضلات "الست أمينة" على أملٍ أن القادم قد يحمل خيراً كثيرًا بين إيزيس وأزوريس .

***

د. آمال طرزان

........................

(1) Finn Mackay: Radical Feminism Feminist Activism in Movement, op.cit, p.104.

(2)Jane Pilcher and Imelda Whelehan: 50 Key Concepts in Gender ...., op.cit, p.93.

(3)) روزنتال (م.) وب.يودين: الموسوعة الفلسفية، ج1، ط2، ترجمة سمير كرم، مراجعة د.صادق جلال عبد العظيم وجورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2006م، ص 528.

(4)) فردريك إنجلز: من مختارات كارل ماركس وإنجلز أصل العائلة...، مرجع سابق، ص48.

(5)) ول وايريلديورانت: قصة الحضارة "نشأة الحضارة"، ج1، مج1، ط1، ترجمة زكى نجيب محمود، محى الدين صابر، دار الجبل للطبع والنشر والتوزيع، بيروت، د.ت، ص61.

(6)) المرجع السابق، ص61- 62.

(7)) ول وايريلديورانت: قصة الحضارة "نشأة الحضارة"، ج1، مرجع سابق، ص62- 63.

(8)) المرجع السابق، ص71.

(9)Jane Pilcher and Imelda Whelehan: 50 Key Concepts in Gender Studies "Sage Key Concepts Series", Sage Publications Ltd, London, 2004, p.93.

(10) Johanna Martina Wood: Pateriachy Feminism..., op.cit, p.14.

(ã) حصلت على الدرجة العلمية في الأدب الإنجليزي مع مرتبة الشرف الأولى من كلية سوارثمور، ودرجة الماجستير في علم النفس الإكلينيكي من كلية راد كليف ودكتوراه في علم النفس الاجتماعي من جامعة هارفارد.من مؤلفاتها"صوت مختلف" وكذلك شاركت في تأليف أو تحرير خمسة كتب مع طلابها وهم: رسم الخرائط في المجال الأخلاقي 1988م؛ إجراء اتصالات 1990م؛ النساء والفتيات والعلاج النفسي: إعادة صياغة المقاومة 1991م؛ لقاء عند مفترق الطرق: علم نفس المرأة وتنمية الفتيات. كانت عضوًا في هيئة التدريس بجامعة هارفارد لأكثر من 30 عامًا، وأصبحت أول أستاذة لدراسات النوع الاجتماعي في جامعة هارفارد في عام 1997م.

See:https://its.law.nyu.edu/facultyprofiles/index.cfm?fuseaction=profile.biography&personid=19946, In: 6/5/2022, 12:00 AM.

(11)Carol Gilligan, Naomi Snider: Why Does Patriarchy Persist, Polity Press, UK, 2018, p.32.

(12)Carol Gilligan and David A. J. Richards: Darkness Now Visible Patriarchy’s..., op.cit, p.10..

(13) نرجس رودكر: فيمينزم "الحركة النسوية مفهومها وأصولها ..."، مرجع سابق، ص281.

(14) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

بقلم: فرانسوا دي لاروشفوكو

François de La Rochefoucauld

ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

***

سيطول حديثي لو قدّمت بالخصوص هنا، كل المبررات الطبيعية التي تحمل المسنّين  على الانسحاب من الحياة العامّة: تغيّر أمزجتهم وشكلهم وضعف أعضاءهم، يقودهم  دون أن يشعروا، مثل سائر الحيوانات، إلى الابتعاد عن الاختلاط بنظرائهم. إنّ الكبرياء، وهو قرين حبّ الذات، يقوم إذن مقامَ لامعقول: فهم لا يستطيعون أن يُمدَحوا بأشياء  تطري الآخرين؛ فقد عرّفتهم التجربة ثمن ما يرغب فيه الناس في شبابهم، واستحالة الاستمتاع به طويلا ؛ فالسبل التي تبدو متاحة للشباب لبلوغ العظمة واللذة والشهرة ولكلّ ما يرفع البشر، قد أغلقت دونهم، إمّا بموجب الصدفة أو لتصرفهم أو بموجب الشهوة وظلم الآخرين،؛ والطريق إليها طويلة ومضنية، حينما نكون قد تهنا عنها مرّة. وتبدو لهم الصعوبات مُتعذّر تجاوزها، ويحول السنّ دون الزعم بذلك. إنهم يصبحون غير مكترثين بالصداقة، لا لكونهم لم يعثروا ربّما على صداقة حقيقيّة فحسب، بل لأنّهم قد شهدوا موت عدد كبير من أصدقاءهم، ولم يكن لهم من الوقت ولا الفرص للتفويت في الصداقة، ويُقنعنون أنفسهم بسهولة بأنّهم كانوا أكثر وفاء ممّن تبقّى لهم من الأصدقاء. وليس لهم نصيب في أولى الخيرات التي شغلت خيالهم، بل ليس لهم تقريبا أيّ نصيب حتّى في المجد: فما حصلّوه منه قد ذبل مع الزمن، وغالبا ما يفقد الناس من المجد في كبرهم أكثر مما يحصّلوه. يخلع عنهم كلّ يوم يمرّ قطعة من ذواتهم؛ وليس لهم ما يكفي من الحياة للاستماع بما لديهم، ناهيك عن تحقّق ما يرغبون فيه؛ فهم لا يرون أمامهم سوى أحزانا وأمراضا و تصاغرا؛ فقد رأوا كلّ شيء، ولاشيء يمكن أن ينال لديهم فضل الجديد؛ فقد أبعدهم الزمن دون أن يدركوا وجهة النظر التي تلاؤم رؤيتهم للأشياء، والتي يجب أن يُروا منها. فأكثرهم سعادة قد تألموا أيضا، و الآخرون قد لحق بهم كره؛ ولم يبق لهم من حظّ ، سوى أن يخفوا ربمّا عن النّاس ما لم يظهروه كثيرا. إنّ ذوقهم، وقد خدعته رغبات غير مجدية، يلتفت إذن صوب الأشياء الصامتة والجامدة؛ البناءات والفلاحة والاقتصاد، وتخضع دراسة كل هذه الأشياء لإرادتهم؛ يقتربون منها أو يبتعدون كما يشاءون؛ إنّهم مالكون لمصائرهم واهتماماتهم؛ فكل ما يرغبون فيه تحت إمرتهم، ولكونهم تجاوزوا تبعيتهم للعالم حولهم، فهم يفعلون كلّ ما يخلّصهم منه. وأكثرهم حكمة يعرف كيف يستغلّ ما تبقى له من الوقت لخلاصه، وبما أنّه لا يملك سوى نصيبا صغيرا من هذه الحياة، فقد طلب حياة أرفع. أمّا الآخرون فليس لهم سوى أنفسهم شاهدا على بؤسهم، ويروق لهم ضعفهم وقصورهم؛ ويقوم لديهم أقلّ تراخ مقام سعادة؛ والطبيعة الناقصة هي أكثر حكمة منهم ، فهي تنزع عنهم جهد الرغبة ؛ وأخيرا هم ينسون العالم، الذي هو على استعداد كبير لنسيانهم؛ ويجدون في تقاعدهم عزاء في طمعهم، ويحملون، مع كثير من المتاعب واللايقين والضعف، عن عطف أحيانا وبموجب دافع أحيانا أخرى وفي الغالب عن تعوّد، عبء حياة لا طعم لها ومتهالكة".

***

........................

* أعمال"  فرانسوا دي لاروشفوكو "تأملات متنوّعة" الجزء الأول.

خطورة المفاهيم تكمن في أن تكون حقيقتها على خلاف ما نرسمه في أذهاننا، فكم من مفهوم عوّلنا عليه، ولبثنا دهرا ونحن نظن فيه خيرا، وهو لا ينفكّ يقوّض جوانب عدة من حياتنا، ونحسب أننا نحسن صنعا.

والأنْكى أنه كلما تنامى يقيننا بها ازدادت توغّلا واستفحل ضررها، فما نسدل عليه ستار الثقة العمياء أشد خطرا مما نَفْرَق منه من المفاهيم المأبونة التي نحاول جاهدين الابتعاد منها وحتى أن تكون بيننا وبينها صلة سطحية، في حين إننا غارقون إلى الأذقان فيما حقه المجافاة.

ومما يندسّ تحت عباءة اليقين، ما يكون ناتجا من الإدراك المتأخر، وهو ما يُصطلح عليه بتحيّز الإدراك المتأخر (Hindsight Bias) وهو في صورته الأساسية يعني أن نظن أننا كنا نتوقع جزما وندرك حتما مآل حدثٍ ما بعد وقوعه! فلو استحضرنا بعض المشاهد في حياتنا التي يتجلى فيها هذا الانحياز لوجدناها قائمة طويل الذيل، فكم من مرة صرخنا متيقنين: لقد كنتُ أعلم أنّ ذلك سيحدث، قلبي كان يحدثني: إن ذلك آتٍ لا محالة، لقد كانت الدلائل كلها تشير لذلك، إلى آخر تلك العبارات التي تصب في مصب واحد، وهو أن صيرورة الحدث لتلك النهاية لم يكن احتمالا من بين احتمالات شتّى، بل كان حتمية لا محيص عنها، والحقّ أنه ليس كذلك، فوقوعه لا ينفي عنه صفة الاحتمالية فيما سبق، وتوهّم حتميته لم يكن حاصلا من قبل.

تتخذ قرارا مدروسا للاستثمار في مشروع ما، مصطفيًا إياه من بين جملة من الخيارات المتاحة ووفق المعطيات الآنيّة، وبعد أمد تؤول الصفقة لنهاية مأساوية، لتنتصب قائلا: لقد كنت متيقنا من ذلك، لقد كانت القرائن طافحة، ومن ذلك كيت وكيت…إلخ تلك المزاعم التي تدور في فَلك واحد، وهو أن النهاية المأساوية كانت حتمية ولم تكن احتمالا، وأن هذه الحتمية مدرَكة من قِبلك من قبل، والأمر ليس كذلك بالمرّة.

وهُنا يطفح تساؤل مشروع: أين مسوّغ التجنّب في سياق الخطورة الذي استهلّ به الحديث، والحال أنّ الاعتقاد بحتمية حدوث ما حدث بعد أن حدث لا يغير من المعادلة شيئا؟ وهذا التساؤل رغم رصانته إلا أنه ناظرٌ للماضي، ولذلك تكاد تكون الخطورة مجرد زوبعة في فنجان، إلا أن سياق الخطورة الذي نتحدث عنه هُنا مرتبط بالمستقبل! كيف ذلك؟

إن تكرار هذا اليقين بإدراك حتمية حدوث ما حدث بعد أن حدث يبني فينا اتّكالا جازما بأن لدينا القدرة على التنبّؤ بمصير ما نلج فيه من شؤون حياتنا، لتدفعنا هذه الجرعة الزائدة من الثقة لتضخيم إمكانياتنا في توقّع مسار الخيارات المتاحة لموضوع ما آخر؛ الأمر الذي يُحدِث تشويها واسعا في التوقع وتاليا التقييم، ثم ما تؤول إليه تلك القرارات التي بُنيت على وهم اليقين، ولو كان الأمر كما نتوهمه، فلماذا إذن يستمر مسلسل النهايات البائسة لكثير من قراراتنا؟ ببساطة لأن ما اعتقدناه يقينا لم يكن إلا محض وهْم تخفّى في هيئة يقين.

إذن نحن إزاء إشكالية فكرية جسيمة تعززها عملياتنا الذهنية المعتادة، وعدم معالجتها تكلّفنا ثمنا باهظا، لا لشيء سوى أننا وضعنا يقيننا في غير موضعه، وعليه؛ يمكن الزعم بقوة: إن انحياز الإدراك المتأخر هو حرفيا فن صناعة القرارات المدمرة!

هذا لا يقتصر على الحياة الفردية أو الشؤون اليومية بل ينسحب على قرارات المنظمات والحكومات، ويمس جميع الأصعدة كالاقتصادية والسياسية، والقائمة تطول، فتؤدي إلى انتكاسات مالية وتخبّطات إدارية وحروب طاحنة ومشكلات بيئية كبرى، وقس عليها كل ما يمكن أن يتم اتخاذ قرار حياله، وهو حرفيا كل شيء!

وفي هذا الصدد ثمّة العديد من الحلول المطروحة، ولعل أبرزها - مما يمكن اعتباره بداية صلبة لتفكيك هذا الوهم - ما يقترحه البعض من ضرورة تدوين حيثيات القرار الذي تعتزم اتخاذه، مقرونا بالخيارات الأخرى، بالإضافة إلى الأسباب الداعية لاتخاذه دون ما سواه. إنّ من شأن ذلك أن يقِيم سدا منيعا في وجه الانجرار وراء وهم اليقين حينما يؤول الأمر لنتيجة مختلفة، وإن شئت فقل: إنه أشبه بتسجيل يذكرك بما جرى قبل أن يصيبك تحيّز الإدراك المتأخر بالزهايمر! على أن يصحب ذلك التدوين تقييم فاحص ومتأنٍ ومراجعة ذاتية حازمة، مع إشراك أهل البصيرة قدر المستطاع؛ للوقوف على زوايا أخرى للنظر يُحتمل أنها قد عميت عليك من جهة، وللتأكّد من عدم الانسياق وراء تضخيم إمكانياتنا الذاتية في تقييم الخيارات المتاحة وتوقّع مساراتها المستقبلية من جهة أخرى.

وأثناء تلك العملية الحاسمة، ينبغي لنا أن نتصالح مع فكرة أنه ليس بالضرورة أن تؤول الأمور كشبيهاتها من المواقف التي حدثت في الماضي، فملابسات كل موضوع وإن تشابه مع غيره، مختلفة عن أشباهه، وبالتالي فالاحتمالات غير محدودة، وليست مكررة، هذا المنطلق يقينَا من تشوّه توقّعاتنا المستقبلية؛ لفرط ثقتنا بقدرتنا على توقع مجريات الأمور بدقة؛ نتيجةً لتحيّز الإدراك المتأخّر.

قد يُفهم من هذا الطرح أنه يتجنّى على حقيقة الحدس، وهو غير مُراد، خصوصا حين نتكلم عن الحدس قبل أن تستوي الأمور على جوديّ النهايات، أما ما بعد ذلك، فالشبهة كبيرة في أنه ليس إلا فخّ تحيّز الإدراك المتأخر.

وأود أن أترككم مع هذه اللفتة.. لربما يجدر بنا التفريق بين القرارات السيئة وبين النتائج السيئة! فتحمّل مسؤولية القرارات يعني أن نحاول صنعها بما هو متاح لدينا من موارد وإمكانيات، والاستفادة الواعية بأقصى ما يمكن من أخطائنا الماضية، وما ينتج بعدئذ لا يجب أن نتحمّل تبعات وقوعه من حيث المبدأ، فنتاطعى معه بوعي لا بإلقاء اللوم على أنفسنا، فما يحدث خاضع لعوامل شتى، ونحن لا نملك زمام كل الأمور، فضلا عن أنه واردٌ جدا أن تخرج بعض التفاصيل عن السيطرة؛ وعليه فلا داعي للركون لوهم حتمية الوقوع بعد الوقوع!.

***

محمد سيف – كاتب عُماني

ذكرنا في المقالة السابقة أن الأستاذ الدكتور عصمت نصار – أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، كان من المؤمنين بأنه لا سبيل لتفعيل المشروع النهضوي إلا بإحياء العلوم العقلية وإدراجها في المعارف التعليمية، حيث إن وظيفة التعليم في نظره تعد من أهم وأخطر الوظائف في المجتمع، فعملية التعليم فضلا عن دورها في تثقيف الأجيال الصاعدة فهي تساهم في نظر عصمت نصار الوجدان المشترك وترسم صورة مستقبل الأمة بألوان متجانسة .

إن دولتنا العربية اليوم في نظر عصمت نصار تعيش في حالة شيزوفرينيا أو ازدواجية إن صح التعبير فهي مدنية من حيث الشكل وتعريفها لنفسها، لكن في الوقت نفسه لا زال الدين يلعب دورا رئيسا في التشريع والعلاقات والمعاملات بين الناس، وكذلك في التعليم، فالدين ليس حاضرا عبر مادة التربية الدينية فقط، بل في كافة مواد العلوم الإنسانية أيضا، بل حتى في تعليم العلوم الطبيعية هو موجود، فحتى يومنا هذا لازال تناول نظرية التطور علي سبيل المثال في كثير من الدول العربية مسألة شائكة جدا ومحل جدل وممنوع تدريسها في أغلب دولنا العربية.

وعملية تديين التعليم في نظر عصمت نصار في بلادنا تتم عبر مسارين: مسار رسمي تعكسه مناهج التعليم، ومسار غير رسمي عبر ما يلقنه المعلمون لطلابهم شفاهة من خارج المنهج، بل حتى أن بعض المعلمين ينتقدون ويخطئون ما جاء في المنهج إن وجدوا ما يتعارض مع ما يعتقدون أنه الحقيقة الدينية .

وهنا يتساءل عصمت نصار: هل ما نسميه تديين التعليم شيء صحي؟، أم أنه يتعارض مع بنية ومفهوم الدولة المدنية؟

وهنا يجيبنا  قائلا: أنا أرفض مدنية التعليم وذلك لأن الدين بطبيعته مدنيا، فهو يحوي ثوابت شرعية تندرج تحت ما يسمي قطعية ثبوت وقطعية دلالة، وهذا يعد نوعا من السماحة والاتساع اللذين يستوعبان أي نسق فيه خيرية للإنسان وليس المتبع أو المنضوي تحت عباءة أي دين .

وهنا يريد عصمت نصار أن يكون الثابت آمرا بالمعروف القطعي الذي يقبله العقل، وناهيا عن المنكر الذي يأباه الإنسان علي نفسه وعلى غيره، وأن التطبيق فيه بعض العوار ؛ ومن ثم لا يمكن الموافقة على التفرقة في نظر عصمت نصار ما بين مدني وديني لأن التعليم الديني في رأيه مدني بالضرورة، وهذه القضية قد ناقشها أجدادنا تحت مسمى مثل إشكالية النقل والعقل، وإشكالية الشريعة والحكمة، والآن في نظر عصمت نصار تناقش تحت مسميات مثل إشكالية التعليم بين التدين والمدنية.

وفي نظر عصمت نصار أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار كان يعبر عن الاتجاه المحافظ المستنير الذي جمع بين الأصالة والمعاصرة، والعقل، والنقل، والدين، والتعليم، وذلك لتلبية احتياجات الواقع القائم على فكرة عدم الرفض للمدنية الغربية والعلوم العصرية ؛ علاوة على أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار في نظر عصمت نصار خطاب تجديدي ويمثل مشروع مصري حضاري، وهذا المشروع يعبر عن هموم المجتمع المصري وطموحاته وغاية التطوير والتحديث، وآلياته ومعايير نقض الموروث والوافد لانتخاب الأفضل لدرء المفاسد وجلب المصالح، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل في نظر عصمت نصار على أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار الفكري يدعو إلى تجديد الفكر الإسلامي وفتح باب الاجتهاد والفصل بين الثابت العقدي والفكر الموروث وتجديد اللغة العربية وتحديث ميادين إبداعاتها ونقض الراكد من أساليبها واستبعاد الوحشي من مفرداتها، وتطوير تهوج دراستها .

ولا يعني ذلك في نظر عصمت نصار إنكار دور المؤسسات الأجنبية في بناء خطاب التجديد، بل الذي يريد توضيحه في هذا السياق أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار لم ينتحلوا الأغيار ولم يقلدوا مشروعات الأجانب، بل ابتضعوا المعارف العلمية والمناهج الحديثة والأساليب المتطورة من جل الثقافات التي اتصلوا بها عن طريق حركة التجارة، أو البعثات العلمية أو حركة الترجمة ؛ ثم أعملوا فيها النقد، ووظفوا النافع منها لخدمة مشروعهم الحضاري بعد صبغته بالصبغة المصرية، أي أن محمد عبده ومن قبله حسن العطار قد استطاعوا منذ البداية وضع الأسس والخطوط الرئيسة لخطابهم ومشروعهم، ويبدوا ذلك جليا في ربطهم بين النظر والعمل، وفضلهم بين الثابت والمتغير، وتجنبهم الصدام مع السلطات المهيمنة على صناعة القرار والعمل على توجيهها لخدمة مشروعهم، وتقديمهم تحديد الغايات على البحث في الوسائل، وانتخابهم مناهج التطبيق، ذلك فضلا عن براعتهم في صياغة لغة الخطاب وموضوعيتهم وواقعيتهم في مناقشة القضايا والتغلب على المشكلات.

ويعتقد عصمت نصار أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار كان المرشف الذي فك ظمأ كل من " أمين الخولي "، وعبد المتعال الصعيدي"، ومحمد عمارة" - ويبدو ذلك في قراءة الأخير المتأنية لدعوة حسن العطار لابتضاع المعارف الغربية والكشف عن ما من منافع ونقد الموروث لتخليصه من معوقات التقدم وفتح باب الاجتهاد واستنفار طاقات الأنا لتستيقظ من ثباتها وتحييِ مجدها التليد.

وهكذ يكون التجديد في نظر عصمت نصار ليس حراسة الدين بنفي كل دخيل يمس أصوله أو فروعه، ولا ابتضاع المعارف الغربية بحيث تكون مرهونة بقدرة المسلمين على أسلمتها، وإنما التجديد يعني المزج بين الأصالة والمعاصرة حفاظا على الثابت من العقيدة والانفتاح على كل الثقافات لانتقاء النافع من المتغيرات .

وهنا يفرق عصمت نصار بين التجديد والتقليد، فالتجديد عنده عمل عقلي يمكن صاحبه من نقد الموضوع المراد تجديده فيق على صحيحه ثوابته فيستبعد الفاسد من عواضه ويستحدث عوضا عنها ما يتلاءم مع الأصل ويصبح نافعا ملائما للعصر، أما التقليد فهو المسايرة للغير فحسب، دون فحص أو تحليل، أو الإتيان بدليل أو حجة تبرر اتباعه واقتفاءه، ولا يفرق عصمت نصار بين تقليد الموروث وتقليد المستحدث، فكلاهما مذموم، فليس كل الموروث نافع وليس كل المستحدث ضار، ومن ثم ينبغي على المجدد الاجتهاد في فحص كل هذا وذلك .

وهنا يعلن عصمت نصار أنه في هذا وذلك متأثر بخطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار القائم على تحرير العقل من قيد التقليد، وتنقية الأذهان من الفكر الموروث الذي لا أساس له في الأصول الشرعية وهذا لن يتأتى في العملية التعليمية إلا بالتربية الصحيحة بمنأى عن التعصب والعوائد السيئة، والبحث على طلب العلم، وترغيب القلوب في رضاء الخالق وترهيبها مما يغضبه، هذا بالإضافة إلى الرجوع بالدين إلى نقاءه وسذاجته الأولى ؛ أي قبل الفتن وظهور البدع وانقسام الأمة إلى شيع وأحزاب، وذلك لاستنباط الأحكام من القرآن وصحيح السنة، لتيسير عمل المجتهدين للوقوف على مقاصد الشرع .

وعليه يصبح التجديد عند عصمت نصار هو السير على هدي خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار من خلال العمل على إزالة ما طرأ على الأصول والكليات والقسمات الأساسية في الشريعة الإسلامية مما يتعارض مع روحها ومقاصدها للكشف عن نقاء هذه الأصول وإعادتها بالتعقل والاجتهاد لتفعل فعلها في مستحدثات الأمور، وما جد ويستجد في واقع الحياة .

ومن ثم يكون التجديد في  نظر عصمت نصار هو القدرة على الانتقاء والتقويم، فالمجدد هو المصلح الواعي، والحكيم الفطن، والمجاهد الذي لا يكل عن فك القيود المعطلة للأفكار الحرة التي تسعى لانتقاء النافع والمعين على نهوض مجتمعه وتقدم... ( وللحديث بقية)..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي – كاتب مصري

قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة!

قال ذو القُروح، وهو ما يزال يشدُّ شعر رأسه، كما يفعل عادةً عندما يحاورني:

- السؤال الذي يستدعي الإجابة الواقعيَّة والعِلميَّة، لا الحكايات الأُسطوريَّة: أحقًّا تلك الحكاية النوعيَّة، التاريخيَّة الاجتماعيَّة، التي تُبسَّط على ألسنة بعض النِّسويَّات والنِّسويِّين، وكأنها حكاية "أُمِّنا الغُولة" للأطفال قبل النوم؟

- أيُّ حكاية، صدَّعتَ دماغي، يا رجل!

- تلك الحكاية التي يزعمونها- مغمضي العيون ككلِّ المؤدلَجين- وراء التحوُّل من قداسة الأُنثى إلى قداسة الذَّكَر، ومن التاريخ الأُنثوي إلى التاريخ الذُّكوري، بالتحوُّل البَشَري إلى المجتمع الزِّراعي، وأنَّ ذلك هو الأصل التاريخي للهيمنة الذُّكوريَّة! غير متسائلين: أفكان هناك تحوُّلٌ مثيلٌ إلى المجتمع الزِّراعي في عالم الحيوان أيضًا، أفضى إلى الهيمنة الذُّكوريَّة؟!  لأنَّ الظاهرة هي هي في مجتمع الإنسان ومجتمع الحيوان، بما في ذلك السُّلطة الذُّكوريَّة، وتوزيع المهامِّ بين شؤون الأُسرة الداخليَّة ورعاية الصغار، وشؤونها الخارجيَّة من كسب الرزق والدفاع عن البيت. ولا علاقة للموضوع، إذن، بثورة زراعيَّة، ولا صناعيَّة، ولا يفرحون! ثمَّ أتُرى ذلك هو السبب في التباين بين الجِنسَين؟ أم أنَّ الأُنثى- أيَّ أُنثى من مخلوقات الله- مختلفةٌ تكوينًا ووظيفةً عن الذَّكَر أصلًا؟ وهي لأجل هذا تَـمُرُّ بيولوجيًّا وسيكولوجيًّا بدورات...

- دورات؟

- نعم دورات من عدم الاستقرار، في شهرها، وسنتها، وحَملها، ووحامها، ونفاسها، وولادتها، وعُمرها، وسِنِّ يأسها، تختلُّ بها هرمونات جسدها، واتِّزانات أعصابها وذهنها ونفسها؟

- مبالغات لمآرب ذُكوريَّة أخرى!

- هذا ما يُثْبِته العِلم الحديث. ونجد فيه ما يفسِّر معنى الحديث النَّبويِّ بـ"نقص العقل في المرأة"، الذي ظلَّ إشكالًا لا يُراد قبوله، أو قد يُحتال في تفسيره، مع أنَّه حقيقةٌ، يُثْبِتها العِلم.

- يا عيني على العِلم!

- لماذا تُنكِر الحقائق الفِطريَّة والطبيعيَّة؟ أو تُفسِّرها في المقابل تفسيرات تستهدف غمط الأُنثى حقوقها؟

- أ هناك غمطٌ أشدُّ من غمطك، يا ذا القروح؟!

- لا شكَّ أنَّ المرأة تَـمُرُّ بحالات شتَّى، هي جزءٌ من تكوينها الأُنثوي، لا يمرُّ بها الرَّجل، بل لا يعرفها، ومن ثَمَّ فحاجاتها الجسديَّة والجِنسيَّة والنَّفسيَّة وحاجة الرَّجل مختلفتان حتمًا، طاقةً وتكوينًا وعُمرًا، وتترتَّب على ذلك بالضرورة الفروق بينهما.

- سلَّمنا جَدَلًا، ما النتيجة التي تريد الوصول إليها عبر كلِّ هذا المخاض؟

- تترتَّب على هذا ضوابطُ حياة المرأة وعملها، والوظائف التي تناسبها، لا عن ظُلم، بالضرورة، أو تحيُّزٍ مبيَّتٍ ضِدَّ المرأة، ولكن لأنَّ تلك هي الطبيعة التي خلقها الله، وتلك سنَّته في كونه.

- يا سلام!

- إنَّ للأُنثى حالات وحالات، لوظيفتها الحيويَّة في الحياة، فهي اليوم حائض، وغدًا تتوحَّم، وبعده نفساء، وبعده مرضع.. وهكذا.

- كلام الشيخ الشَّعراوي!

- بل كلام الشيخ العقلاوي!  أفمِن العقل والعدل أن يُساوَى الجسد وتساوَى النفس، وهذه أطوار حياتهما، بحياة الرجل وأطوارها؟! إنَّ في هذا ظُلمًا للمرأة، وتكليفًا لها فوق طاقتها، من حيث يتردَّد الزعم بإنصافها.

- وأنت من ستنصفها، يا ذا القُروح والحنان؟

- لا يعني هذا التفضيل المطلَق لأيٍّ من الذَّكَر أو الأُنثى على الآخَر، لا عند الله ولا في الحياة، لكنه يعني أنَّ كلًّا مُيَسَّرٌ لما خُلِق له؛ ولو تساويا لفسدت الأرض وانتهت الحياة.  تلك الحياة القائمة على التكامل لا على التماثل.

- أعرفُ ما تُجَمْجِم للوصول إليه.  وهو أنَّه، بناءً على مقدمتك، يصحُّ القول: إنَّ الأُنثى ناقصةٌ قياسًا إلى كمال الذَّكَر...

- كلَّا!  بل إنَّ الذَّكَر ناقصٌ قياسًا إلى كمال الأُنثى، كما أنَّ الأُنثى ناقصةٌ قياسًا إلى كمال الذَّكَر!

- مَن كمال الذَّكَر؟!  تظلُّ المعادلة صعبة!

- أين المشكل؟ إنَّه الاختلاف الحيويُّ الضروريُّ في كلِّ مخلوقات الله. ولقد ثبت عِلميًّا أنَّ خلايا دماغ المرأة تنقص بنسبة 4% عن خلايا دماغ الرجل، كما ينقص نسيج دماغ المرأة نحو 100 غرام عن نسيج دماغ الرجل. 

- الله أكبر!  هكذا اظهر على حقيقتك!

- هل العِلم أيضًا ذُكوريٌّ حين يقول مثل هذا؟!  على أنَّه بالرغم ممَّا يُثْبِته العِلم من زيادة خلايا الرجل الدماغيَّة،  يبدو بأنَّ النِّساء عندهنَّ ارتباطات شجيريَّة أشدُّ بين خلايا الدماغ.

- أكيد عندهنَّ ارتباطات أشدُّ بين خلايا الدماغ؛ ولذلك هنَّ صابراتٌ عليك وعلى أمثالك!

-وهذا ما يعطي المرأة تفوُّقًا على الرجل في سرعة معالجة المعلومات. أمَّا فيما يتعلَّق باللُّغة، فيبدو أنَّ معظم النِّساء يتفوَّقن على الرجال من حيث إمكانيَّة استخدامهنَّ كِلا فَصَّي الدماغ الأيمن والأيسر في المعالجة اللُّغويَّة، على حين يعتمد الرجل في الغالب على فَصٍّ واحد، عادةً هو الأيسر.

- "فَصّ مِلْح وذاب!"  المهم يبدو أنَّ الفصَّ الآخَر في دماغك ابتدأ يعمل الآن!

- قلت لك: ليس لديَّ ولا لديك إلَّا فَصٌّ واحدٌ للمعالجة اللُّغويَّة غالبًا. على حين أنَّ المرأة تتفوَّق عليَّ وعليك في إمكانيَّة استخدامها كِلا فَصَّي الدماغ الأيمن والأيسر.  وهذا يمثِّل تقدُّمًا للمرأة على الرجل في هذه الخاصيَّة.

- هكذا سيزعل عليك أسلافك وأحفادك من الذُّكوريِّين!

- إنَّ بإمكان المرأة، لو حدث لها عطب في فَصِّ دماغها الأيسر، أن تستمرَّ قُدرتها اللُّغويَّة اعتمادًا على الفَصِّ الأيمن.

- وأنا أقول: لماذا كلام حَرمنا لا ساحل له؟!  كلُّه من الفصَّين!

- فيما لو أصيب الرجل في فَصِّ دماغه الأيسر، لكانت قدرته على تعويض ذلك لُغويًّا أقل كفاءة.(1)

- لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله! لِـمَ، إذن، معظم الشعراء والأدباء والثرثارين، أمثالك، وعبر التاريخ، هم من الرجال؟

- تلك حكاية أخرى، ربما ترتبط بالتعليم، والحُريَّة الاجتماعيَّة. 

- ما الفائدة، إذن، من الفَصَّين؟

- ربما كان هذا التميُّز للمرأة مهمًّا وحيويًّا على نحوٍ خاصٍّ لموقع المكوِّن اللُّغوي في شخصيَّتها الأُسريَّة، من حيث هي أُمٌّ ومُربِّية.

- وزَنَّانة...!  لكن ما تقوله هذا كان قديمًا!

- تظلُّ المرأة مُربِّية، لأولادها أو لغيرهم.

- حتى لزوجها؟!

- حتى لزوجها!  وإنْ كان هذا التميُّز قد يوظَّف، ولاسيما في مجتمعاتنا الشرقيَّة، في مزيدٍ من الثرثرة! على أنَّ الثرثرة في ذاتها قد لا تخلو من فائدةٍ أُسَريَّةٍ أو اجتماعيَّة.  ولولا تلك الميزة لما استطاعت (شهرزاد)، على سبيل الشاهد، ترويض الوحش داخل (شهريار)، من خلال السِّحر اللُّغوي والحكائي! 

***

وانتهيت مع (ذي القروح)، وهو يودِّعني لدَى الباب، إلى وعدٍ بأن أكتم عليه ما باح به من أسرار؛ كيلا تتَّصل أنباؤها بنسائه، لا سمح الله!  ولقد وفيتُ بوعدي له، وإنَّما أبثُّ هنا أسرار ذلك المجلس لعِلمي أنهنَّ لا يقرأن ولا يكتُبن!  فاكتموا عني وعنه ما استطعتم، أثابكم الله!

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 ...............................

(1)  يُنظَر في هذا ما يقرِّره (سايمون بارون-كوهين Simon Baron-Cohen)، مدير مركز بحوث التَّوَحُّد، بجامعة كامبردج، حول "الفرق الأساس بين دماغَي الرجُل والمرأة"، في كتابه تحت عنوان:  The Essential Difference: Men, Women and the Extreme Male Brain، (نُبذة عنه) على صفحة "الإنترنت" ذات الرابط:

http://www.doctorhugo.org/brain4.html

بعد أفول نجم الحضارة العربية الإسلامية وغروب مرحلة الازدهار وتألق الفكر الإسلامي، ظهرت علامات التخلف والانحطاط وكثرت صيحات التكفير والتهويل وفتاوى التحريم  وغيرها مما أدخل الفكر الديني في حالة من الفوضى وعدم التوازن، ومع بزوغ عصر فجر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، ظهرت ثلة من العلماء والمفكرين والمجددين داخل فضاء الفكر الإسلامي .

ومن أبرز هؤلاء الإمام محمد عبده (1849-1905) حيث أخذ على عاتقه مهمة التجديد في أمور الدين من خلال تحرير   العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، ومن أجل هذا وصفه الكاتب الكبير محمود عباس العقاد "بعبقري التنوير،" ووصفه الكاتب السيد يوسف "برائد الاجتهاد والتجديد للفكر الديني،" ووصفه آخرون بباعث الدولة المدنية وإمام المجددين، وقال عنه الكاتب والمفكر محمد عمارة إنه مجدد الدنيا بتجديد الدين.

وفي دراسة قيمة للدكتور جميل صليبا بعنوان " الانتاج الفلسفي – الفلسفة عموما وفلسفة العلوم "، نشرت ضمن كتابه الفكر الفلسفي في مائة عام، أن الوطن العربي شهد عدة اتجاهات رئيسة، ومنها تيار العقلانية كما فهمها مفكرون عرب أمثال محمد عبده والذي كان مؤمنا  بأن المشكلة ليست في الدين، وإنما في الفهم الخاطئ له، وما تراكم على هذا الفهم من أفكار استمرت في الوجود واكتسبت قداسة طمست حقيقة الإسلام التي تدعو للبناء والرقي المادي والروحي، باتساع المكان والزمان ووفق متطلبات كل عصر.

ومشروع  الإمام محمد عبده قد تبناه عدد كبير من مفكرينا المعاصرين، ومن أبرزهم صديقي الأستاذ الدكتور نصار – أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، حيث كان يؤمن بأن الإمام محمد عبده واحدا من كبار المجددين المصرين المعاصرين الذين أمنوا ، بأنه لا سبيل لتفعيل المشروع النهضوي - الذي خطط له وشرع في تنفيذه - إلا بإحياء العلوم العقلية وإدراجها في المعارف التعليمية والترويج لها في الصحف وعقد الحلقات النقاشية لتبسيطها للجمهور وإقناعهم بأنها خير سلاح يمكن للمسلمين الزود به عن دينهم أمام هجمة غلاة المستشرقين الشرسة التي أعدت العدّة للتشكيك في أصول الدين وسنة النبي والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية ونشر الإلحاد بين شبيبة هذا العصر.

وفي نظر عصمت نصار ( مع حفظ الألقاب) أنه قد أرادوا بذلك استكمال الطريق الذي مهّد له حسن العطار في حديثه عن التجديد وتلميذه رفاعة الطهطاوي وما كان يكتبه من الأبحاث الفلسفية في (مجلة روضة المدارس 1870م) وجهود على مبارك في إصلاح التعليم وإنشاء دار الكتب 1870م ودار العلوم 1872م .

ولذلك رأينا أن من أهم القضايا في نظر عصمت نصار والتي كانت تناقش في مجلس محمد عبده قضية ضرورة تبرأة الحكمة العقلية والمصنفات الفلسفية من تهمة الإلحاد التي ذاعت بين الأزهريين إلى درجة تحريمها والارتياب في عقيدة كل من يتحدث عن الفرق الكلامية، ولا سيما المعتزلة والكتابات العقلية مثل فلسفة ابن رشد وابن خلدون وذلك حتى عام 1871م.

ولم تقف دعوته الإصلاحية عند هذا الحد كما يؤكد عصمت نصار؛ بل فتح باب الاجتهاد متخذاً من المنطق والقياس العقلي منهجاً في الاستنباط، ونادى للتوفيق بين المذاهب الطائفية والفقهية والكلامية، وفرّق بين الحكمة العقلية والنظريات الفلسفية من جهة والنظر العقلي وآراء المتفلسفة من جهة أخرى، ومج التعصب بكل أشكاله، وكره أن يوصف بالكفر من يبوح برأيه حتى لو كان مخالفاً للمألوف أو المتفق على صحته، والأصوب في رأيه مجابهة الكتابات الجانحة والمعتقدات الشاذة بالمثاقفات العقلية والحجج العلمية والمنطقية والشرعية من قبل العلماء، وليس من فيهم المتعالمين والأدعياء، ولم يوافق كذلك على مصادرة الكتب أو معاقبة المجترأين؛ بل كان يرى أن الحوار والمحاججة أيسر السبُل لإثبات بطلان ادعاءات الخصوم أو كذب المدلّسين. كما دعا لتشكيل مجلس أعلى للعلوم الإسلامية للحد من خلافات الأقطار الإسلامية من جهة، والصراع الملّي من جهة ثانية، وتجديد فقه المعاملات والأحوال الشخصية تبعاً لثقافة العصر ومقتضيات الواقع من جهة ثالثة؛ ذلك فضلاً عن حثه لأول مرة ضرورة إدراج علم مقارنة الأديان، وتاريخ المذاهب الفلسفية، وكتابات المستشرقين والرد عليها، والفلسفات قديمها وحديثها، والأخلاق والمنطق، والتوسع في علم الكلام، ضمن المناهج الدراسية العالية، ولاسيما للطلاب المتخصصين في علوم الدعوة.

وفي نظر عصمت نصار أن ما توصل إليه محمد عبده في هذا الصدد راجع إلى إيمانه العميق بالخطاب الفلسفي عند ابن رشد، حيث ذهب إلى بعث الفلسفة الرشدية خاصة والمعارف الفلسفية من جديد في الثقافة العربية بعد أفولها، وارتدى بذلك عباءة ابن رشد وراح يدافع عن الحكمة العقلية مؤكدا موافقتها للدين وأن عزوف الأزهريين عنها لا مبرر له إلا الجمود والجهل .

وفي نظر عصمت نصار أن مشروع محمد عبده قد لقي ترحيبا منقطع النظير لدي هو الشيخ مصطفى عبدالرازق (1885م-1947م) الذي نجح في إكمال ما بدأه المراغي والظواهري وجمع حوله عشرات التلاميذ من شبيبة الأزهر المؤمنين برسالة الإمام "محمد عبده"، ومشروع النهضة والاستنارة مثل محمد فريد وجدي (1878م-1954م) الذي أثرى الثقافة الإسلامية بمناظراته العلمية حول قضايا الفكر الإسلامي وذلك منذ توليه تحرير مجلة الأزهر عام 1935م.

كما لقي ترحيبا لدي الدكتور محمد يوسف موسى (1899-1963م) الذي كشف عن أثر فلسفة ابن رشد في الثقافة الأوروبية والفلسفة المسيحية، ونبّه على بعض الأغاليط التي أُلصقت بفكر ابن تيمية، وبين وجهته العقلية في نقد المنطق الأرسطي واجتهاده في ميدان الفتوى وانتصاره للعقل في معالجة الكثير من القضايا. ذلك فضلاً عن مقابلة محمد يوسف موسى بين القوانين الوضعية للشريعة الإسلامية وتبيان حكمة الباري في دستوره والفلسفة الكامنة وراء آيات القرآن الكريم.

ولم يكتف نصار بذلك بل رأيناه يضم الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894م-1966م) حيث يقول عنه بأنه أحيا خطاب التجديد عند محمد عبده، ووضع شروطاً للداعية المجدد، وحدّد المفهوم الحقيقي للأصولية الإسلامية، وفعّل منهج الشيخ "محمد عبده" في تجديد علم أصول الفقه وعلم التوحيد، وناقش العديد من القضايا المعاصرة للمنهج العقلي البرهاني.

والسؤال الآن : ما السمات المميزة لمشروع محمد عبده المستنير في نظر عصمت نصار؟

وهنا يجيبنا نصار بأنها تقع في سبع قواعد:

أولها: الانتصار للعقل.

 وثانيها: نقض الغلو والتطرف والبدع والجمود المذهبي.

وثالثها: العودة بالدين إلى سذاجته الأولى.

ورابعها: إصلاح حال اللغة العربية،

وخامسها: الاحتكام إلى أساس مركزي ثابت يستطيع استيعاب سائر المتغيرات تبعاً للواقع المعيش ويتمثل ذلك الأساس في الفصل التام بين الثابت والمتحول على أن يكون ذلك الثابت مرناً على نحو لا يؤثر في قوة صلابته واستمراره، وذلك لأنه يحوي المشخصات الحاكمة للمجتمع والمقاصد العقدية والولاء والانتماء والعمل الجاد للحفاظ على تماسك البناء الاجتماعي. أمّا المتحول؛ فيتسم بالوعي والوجهة النقدية العملية دون أدنى محاولة منه للخروج عن نطاق الثابت الذي يحويه ويختص به لاستيعاب الوافد من المعارف ونقد المستحدث من النظريات والقوانين والنظم وانتخاب النافع من الوسائل والآليات التي توافق الواقع المعيش والحفاظ دوما على حرية البوح والخلاف.

وسادسها: رفض السلطة الثيوقراطية وحكم الكهنة، ويرجع ذلك إلى وعي مدرسة العطار، ومن بعده محمد عبده وتلاميذه بمفهوم السياسة الشرعية الذي يختلف تماماً عن مصطلحات الحكم الإلهي والحكمة الشرعية والحاكمية الربانيّة وغير ذلك من المصطلحات التي زَجّ بها المتطرفون في ميدان السياسة وأمور الحكم والتأكيد على أن الأمة مصدر السلطات، وأن الإسلام لم يخصّ جماعة أو هيئة أو فئة للحد من حرية العباد.

وسابعها: نقد التعارض بين الدين والعلم والفلسفة والشرع؛ فقد ذهب الأستاذ الإمام وتلاميذه إلى أن الإسلام قد حرص على الإعلاء من شأن العلم وأهله، وبيّنوا ذلك في التفاسير المتواترة للقرآن، وأحاديث النبي صلوات الله وسلامه عليه،  وسيرة صحابته، وسلوك الخلفاء الذين حكموا ديار الإسلام، ويشهد بذلك تاريخ العلم في العصر الوسيط. وقد أهتم رواد مدرسة الإمام بعديد من الأمور ذات الصلة. أولها: التأكيد على أخلاقيات العلم وضوابط سلوك المشتغلين به، والحرص على انتقاء النافع والمفيد من المعارف بغض النظر عن جنسية أو دين أو توجّه منتجيها، وعدم الخلط بين الأحكام الظنيّة والرؤى الاستنباطية، والشائع من الأخبار والأمور المتعلقة بالدين في ميدان البحث العلمي. ومن ثمَّ لا يحق لغير المتخصصين في الأمور العلمية الإدلاء بالفتاوى المُحرضة أو الناهية أو المعطلة لمّا ثبت نفعه بالبرهان العلمي، أو وضع المصنفات التي تربط بين الآيات والأحاديث والنظريات العلمية التي لم يثبت بعدُ القطع بصحتها؛ بل على المفسرين والمألولين تفسيرُ مقاصد الآيات في ضوء الثقافة المطروحة على نحو لا يتعارض مع العقل من جهة، ولا يناقد التجربة والتطبيق من جهة ثانية، ولا ينكر الواقعات المسلم بحدوثها في القرآن وصحيح السنة مع عدم ارتياح العقل لها (وللحديث بقيّة)..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

كاتب مصري

قال أبن خلدون ان عمرالدولة اربعة اجيال سماها دورة العمران، وأعتقد انها قاعدة سياسية ثابتة لأعمار الدول، وعددها باربعة مراحل الأولى الظفر والقوة والسلطان، والثانية دور الفراغ والدعة وفيه تقصير السامع بالشيء عن المعاني له، والثالثة المسالمة والتقليد والهدوء، والرابعة الاسراف والتبذير، وبداية السقوط للدولة ونهاية المجد، لا تتعداها اية دولة، وأعتبرها نظرية ثابتة تسري على كل الدول دون تغيير، فهل كا ن اعتقاده يتوائم مع صواب النظرية الحضارية العالمية، أم يتعارض معها؟ هكذا تعلمنا من منهجنا الدراسي الخطأ،

وليعلم القارىءان قيام دول المسلمين التي اتخذها ابن خلدون قاعدة لنظريته الفاشلة قامت على اسر معينة فقدت شروط دولة القانون، الامويون قاموا على السيف والقوة دون النظر الى صالح الجماعة او احترام القانون، او حتى لدماء الناس واموالهم.فقد قتل حجربن عدي واصحابه دون جريرة تستوجب استحلال الدم لمطالبتهم بتحقيق العدالة بين الناس. وامر يزيد بن معاوية بقتل الحسين بن علي في كربلاء دون حق او اكتراث بمشاعر الامة لمطالبته بالعدالة. وفي العهد المرواني أقترفت جنايات بشعة في العدل والحق والقانون لحماية البيت الحاكم. نظرية سارت عليها دولة الاسلام الفاشلة حتى النهاية، ولم تراعِ الشرعية والقانون، بأعتقادي لو ان الامويين حكموا وفق نظرية القانون لكانوا احسن من حكم المسلمين، لأنهم علمانيون يؤمنون بالتطور الحضاري العام.

وقامت دولة بني العباس بانفرادية السلطة دون استشارة الامة، وهي مثل سابقتها الاموية أقترفت اكبر الجرائم في القتل وحقوق الناس وانتهاك الشرعية الدينية فكانت قوانينها العصبية القبلية والاحقية الدينية وزادت على ذلك اشراك العناصر الفارسية الحاقدة على العرب، حتى سقطت عام 656 للهجرة على يد المغول.وهكذا دولة الفاطميين والصفويين والعثمانيين وغيرهم كثير.

كل الدول الاسلامية التي نشأت بعد وفاة الرسول (ص) لم تحرص على استيفاء الجانب الشرعي من تكوينها، فكان سقوطها حتميا لمخالفتها شرعية القانون، وستسقط كل الدول التي لاتعترف بشرعية القانون.

قبلَ ابن خلدون كتب المؤرخ الروماني توكيديد الذي قال: انه لاجديد في حوادث التاريخ، وان كل مايحدث اليوم حدث مراراً قبل ذلك، وسيحدث مراراً في مُقبل الزمان، والتاريخ كله ليس الا دائرة شريرة لا يزال البشر يدورون فيها، وكلما أتموا الطواف فيها مرة بدأوا من جديد.

وفي فلسفة التاريخ عند الفرس قال: أردشير بن بابك مؤسس دولة آل ساسان الى خلفائه، لا تزال ُتكرر هذه الفكرة وتحذر الملوك من الأغترار بالدنيا والجاه والسلطان، وتؤكد ان الزمان لا جديد فيه، فهل قرأ اصحاب السلطة ما كتبه القدماء من المؤرخين نتيجة تجاربهم العميقة في فلسفة التاريخ ليعدلوا مع العامة قبل نهاية السقوط.

ومن ماخذ نظرية ابن خلدون انها ترى ان الحضارة والتركيز على من يملك اسبابها يضعف فيه النزوع الى القوة والصراع من اجل بناء الدولة القوية، حين يتجه نحو الترف فيفسد ويضمحل تدريجيا.هنا يُخطأ ابن خلدون في هذا الاعتقاد لان التدرج في المراتب الحضارية بعدالة القانون لا يضعف الانسان بل يقويه ويقويها في العلوم والمعارف والخبرة والتجربة، فالدولة لا تنشأ وتقوى بالدين بل بالقانون والاعتراف به كتطبيق، لذا فشلت الدول الدينية عبر التاريخ لعدم ألتزامها بالعدل والقانون ومنها دولة الاسلام التي نشأت معادية للحقوق والقانون.

نقول ان الذي يضعف البشر هو سوء استخدامهم لنعَم الحضارة، والتوجه نحو التنعم والتبطل والدعة عند اسرافهم لما ملكوه من اسباب التمدن، ويزهدون في العمل والجهد ومراعاة القانون، فيحاولون استبدال القانون بالقوة مغطاة بشرعية الدين، فيتجهون نحوالمال والسلطة والجنس، فتضعف قوتهم في قبضتهم على السلطان، فيفلت زمام الامور من ايديهم بالتدريج، فيتمهد الطريق لغيرهم للتغلب عليهم وانتزاع الملك والسيادة منهم، وهذا مايحصل حتى اليوم لمن خانوا الله والقسم واليمين وعدالة القانون.

ان من لا يستطيع السيطرة على ادوات الحضارة سيطرت عليه، فهم كالطفل الذي بيده عود الثقاب ولايسطيع السيطرة عليه فيحرقة ويحرق من حوله جهلا بحقيقة الاستخدام، كالحروب الاعتدائية التي لا يحسب القائمين عليها حسابها، ولا شاربين الخمر الذين يسرفون في شربها مع انها غير محرمة.لكن الايغال فيها يعد منقصة في الاستخدام.وفي هذا الخصوص يقول القرآن: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وأثمهما أكبر من نفعهما، البقرة 219 ". لكن الفقهاء اسرفوا في التحريم وهوليس من حقهم حين قالوا: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"فوضعوا بذلك قاعدة خاطئة بتحريمه دون معرفة النص.

وكذلك في الحروب لم يفرقوا فيها بين الاعتداءوالدفاع عن النفس لمصلحتهم في الكسب والسرقة واستغلال النساء لهم زيادة في الترف دون مراعاة الحقوق كما حصل في الفتوحات الاسلامية الباطلة المجافية لحقوق نشر الدعوة بقناعة المنطق وعدالة التشريع.

ويبقى الموقف الثقافي الملتزم بالعقيدة والقانون هو الذي يعين الانسان على اتخاذ الموقف الصحيح. ويجعله يستطيع اتخاذا موقف سليم من الحضارة وادواتها والترف واشكاله، فالتحجج بالدين والتشريع يرافقه الظلم والفساد والخيانة لا يتفق وشريعة العدالة في الدين،

هذا ما عانينا منه منذ مجيء الاسلام والى اليوم، لذا فأن المسلمين رافقهم الفشل الا قوة السيف وباطل القانون، بعد ان انهارت قيم الحياة المقدسة عندهم حين اشاعوا نظريات الفساد والرشوة واغتصاب النساء بحجة وما ملكت ايمانهم باعتباره شطارة على الاخرين، هنا سقطت قدسية الحضارة واصول الدين فباتوا عرايا اما م القانون كما في دولنا الاسلامية اليوم، وسيسقطون الى الابد بعد ان ابتعدوا عن استقامة الطريق فاصبحوا لغزاً محيرا ملفوفا بالغموض.

ان الحقيقة الدينية التي بها اغتصبوا الحقوق وخانون القيم والاصول خطئاً، هي خالية من التعصب وعليهم ان يعلموا انها حقيقة تتغير وتتطور وليست مطلقة ومنقوشة فؤق حجر، على المسلمين الاصرار على تفسيرالقرآن من جديد وفق مفاهيم التطور اللغوي والتجريدات اللغوية الحقيقية للنص، لا اقوال المفسرين الجهلة الذين اتخنا من تفاسيرهم للنص، دين، والا سنسقط نحن نحن والدين معاً، والسقوط لا يعني الانتهاء، بل يعني الفشل الدائم في التطبيق.

***

د.عبد الجبار العبيدي

في مرحلة التحوّلات التاريخية الكبرى الجارية اليوم في البلاد العربية، المتتابعة بسيروراتٍ مختلفة، وباحتمالات وصيرورات متنوّعة، وإن كانت لا تزال في مراحل انتقالية تفاعلية، ولم تستقر على نتائج بعد، فإنها تتطلب دوراً مركزياً للمثقفين العرب.

إن غياب المثقفين العرب عن المشهد الحالي الذي يقوم فيه الكيان الصهيوني بارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية في عدوانه على قطاع غزة، يعيد من جديد إثارة السؤال المتعلّق بأدوار المثقفين العرب في تاريخهم الراهن، في مجتمعات تتغيّر، ومخاطر مصيرية تتطلب مواقف واضحة، ومجابهة العدوان والقهر، والتصادم مع أنظمة الاستبداد، وقيادة نضال الجماهير لتحقيق أهدافها بالحرية، والعدالة، والكرامة، والمواطنة، والديمقراطية. وكذلك الوقوف إلى جانب الكفاح الذي يخوضه الشعب الفلسطيني لتمكينه من انتزاع حريته وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

منذ القدم كان المثقف صوت المجتمع الصادق وضميره اليقظ، والكثيرون منهم سددوا أثماناً فادحة لمواقفهم بدءاً من سقراط الذي أعدم بسبب أفكاره، عبوراً بقتل الشاعر الشهير الضرير "بشار بن برد العقيلي" ببيتين من الشعر، وفي التاريخ الإسلامي شهدنا ابن الهيثم، وابن رشد، والكندي، وابن سينا، والفارابي، وابن حيان. وعربياً عبد الرحمن الكواكبي، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وإدوارد سعيد، ومحمد عابد الجابري، عبد الوهاب المسيري، عبد الله العروي، محمد أركون، جورج طرابيشي، وسواهم المئات من المثقفين عبر العصور بسبب انشغالهم في قضايا واقعهم.

مثلما أسهم المثقفون التنويريون الغربيون في نهضة أوروبا، وكما فعل روّاد عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر فيما أُطلق عليه حركة التنوير العربية، أو اليقظة العربية، لما تم فيها من مقاربات التجديد الديني، وإنقاذ كبير للهوية العربية، بعد أن كادت أن تتأثر بكل ما حل عليها من ثقافات خارجية. فإن الراهن العربي البائس بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، يفرض تحديات جسيمة، وأسئلة مركبة كبيرة ومعقدة، تتطلب مقاربات وإجابات علمية من عقول متخصصة ومتسلحة بالمعرفة والوعي والبحث العلمي، وهذا دور ومهمة المفكرين والمثقفين العرب الأصليين. ومن أبرز القضايا الكبرى التي تتطلب انخراط المثقفين العرب حالياً التحرك لمواجهة  العدوان الإسرائيليّ الوحشي على قطاع غزّة، والذي اتخذ شكل الإبادة الجماعية بكل أشكالها.

صورة المثقف العربي

منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي ما رسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.

نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضاً كان للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.

إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.

المثقف كما عهدناه

المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة خلال العقود الأخيرة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفراً بعد "البروسترويكا". والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.

إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكاً شديداً في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداثاً لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلاً من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضراً ومؤثراً، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفين الحداثيين فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزء من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.

بعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وما ذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟

ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.

كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.

هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

لغز المثقف العربي

أظهرت الثلاثة عقود الأخيرة أن معظم المثقفين المناضلين العرب الذين غصت بهم شوارع المدن العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهم يهتفون بشعارات العدل والحرية والمساواة، وضد الرجعيات والديكتاتوريات العربية، ليسوا أفضل حالاً من أولئك الذين يمتهنون الأديان ويتاجرون بعذابات الناس، فالثقافة عند بعض اليساريين والقوميين والليبراليين مهنة للترزق وكسب العيش، فهم لا يتورعون عن عرض مواقفهم وأفكارهم سلعاً في الأسواق الإعلامية، ولا يترددون في انخراطهم بالتجاذبات السياسية والطائفية والمذهبية والإقليمية، لمصلحة من يملأ جيوبهم بالمال ويضاعف رصيدهم في البنوك، وهم يعلمون علم اليقين أنهم بفعلهم هذا يساندون القوى التي خرجت من التاريخ، ويقفون في وجه المظلوم والمعتدى عليه والمقهور، إلى جانب الأنظمة الفاسدة والمستبدة.

أثبتت المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية المتسارعة، أن غالبية المثقفين العرب لا يمتلكون وعياً تاريخياً، يمكنهم من قراءة الراهن العربي، وإجراء مقاربات علمية تحليلية تستنهض المقدرات الكامنة التي من شأنها أن تكون مبشرة، في حال توظيفها لترميم الخراب وإعادة الانخراط بالإصلاح البنيوي العربي.

في هذا الشقاء انقسم المثقفين بين من انتقل من جادة اليسار الثوري إلى اليمين الرجعي، فهو الانتهازي الوصولي الذي وضع مصالحه الذاتية فوق مصالح الجماهير. ومن آثر الصمت والانكفاء نتيجة الشعور بالعجز والاغتراب، وهو فعل مدان في التحولات الكبرى وجريرة لن يغفرها التاريخ. والقلة اليسيرة من المثقفين اختارت مقاومة الشقاء والتخلف، ومواجهة بعض الأنظمة التي تسببت بفعل سياساتها، في كل هذه الانهيارات التي يلاحظها المراقب في كل مفصل من جسد العالم العربي.

لم يعد من مهام المثقفين العرب خض جذع المجتمعات، وتحريك المفاصل المتكلسة، عبر أفكارهم التنويرية، ولا من مهامهم الآن الالتحام مع القضايا المطلبية للفقراء، والأهداف المصيرية للناس، ولا الدفاع عن المضطهدين والمظلومين، عبر إعلان المواقف والنضال لتحقيقها، ولم تعد تعني كثيراً المثقفين اليساريين قضية مواجهة الرجعيات والديكتاتوريات في العالم العربي، ولا التصدي للاستبداد الذي تتخذه معظم الأنظمة العربية سياسية معتمدة في علاقتها مع المواطنين.

لقد ولّى الزمن الذي كان فيه المثقفين المناضلين العرب يشكلون الضمير الحي اليقظ، الذي يعكس واقع وهوية المجتمعات، حين لم يكن المثقفين فيه يخشون من الاصطدام بالسلطتين السياسية والدينية، وبكل من يكرس ثقافة التجهيل. عصر مضى كان فيه المثقفين ينحتون الحجر بهدف تطوير المجتمعات العربية وترسيخ مفاهيم تدعو لاستخدام العقل لا إغفاله، والقضاء على النظام الأبوي ومجتمع القبيلة والطائفة، وترسيخ قيم ومفاهيم الحداثة، وبناء دولة المؤسسات والمواطنة.

أضحى الكثير من المثقفين العرب اليساريين شركاء لبعض الأنظمة العربية في محاربة الأفكار التنويرية الليبرالية، وشركاء في فرض سيطرة السلطات السياسية على الناس، وشركاء في تطويع وتليين الأفراد وقيادتهم وتوجيههم مثل القطعان الأنيسة، وهو ما يعزز الاستبداد الذي تشهره تلك الأنظمة، مما يطيل عمرها وعمره.

في اشتباك المثقف

المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع، ولا المنظّر السياسي والفكري. إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية، ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزماً ومشتبكاً مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.

المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئاً ذا قيمة ومعنى حقيقياً في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقياً ملتصق ثقافياً وفكرياً واجتماعياً التصاقاً فعلياً، أو يكون اسماً ولقباً أجوفاً وشيئاً براقاً يلمع دون قيمة تذكر.

المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنباً إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.

معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أية ممارسة ثقافية فكرية اشتباكية اعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.

مهما كان نوع المثقف وإلى أية مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفاً غرامشياً قادماً من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفاً إدواردياً كونياً لا منتمياً يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.

سقوط المثقف

إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي، ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة، والسلام، ونشر المحبة، والتسامح.

وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونوا عبيداً للغرب.

إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحوا ويموتوا في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.

سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.

إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوباً ليرتدوا ثوباً آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.

المثقف الجوكر

ظل بعض المثقفين العرب ردحاً من الوقت يكابدون مقاربة الكثير من القضايا بمفاهيم أيديولوجية عمدت إلى بتر أطراف الواقع العربي كي تلائم مقاس سرير الأفكار الأيديولوجية التي آمن بها المثقفين، وغاب عنهم أن واقع المجتمعات تتداخل فيه الكثير من العناصر والعوامل الشائكة المتعددة المتداخلة، ولا يمكن بحال أن يتم تحديده بالأيديولوجيا.

إن مواقف معظم المثقفين العرب صعدت وهبطت وتبدلت يميناً ويساراً عبر العقود الماضية، فنجد بعض المثقفين من دعموا هذا الزعيم أو ذاك وساندوه ومدحوه، ثم قاموا بالهجوم عليه في فترة مختلفة، ومنهم من تبنى الأيديولوجية الدينية أو اليسارية ثم انقلب عليها، وآخرون كانوا من أشد دعاة التنوير والديمقراطية والدفاع عن حقوق البشر، فأصبحوا يدافعون عن الديكتاتوريات العربية ويبررون استبدادها.

إنهم المثقفون الذين يؤدون دور "الجوكر" المشهور في لعبة الورق، فهو يصلح لكل الأوضاع ويتكيف مع الظروف، وهذا حال بعض المثقفين العرب الزئبقيين الحربائيين، الذين يمتلكون المقدرة على لعب دور الجوكر في الحياة السياسية والثقافية

معلقون في الفراغ

لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين مراجعات فكرية هامة لعدد من المفكرين العرب، الذين أجروا مقاربات ومراجعات تناولت مفهوم المثقف ونقده وأصالة دوره، وأهم هؤلاء المفكرين "إدوارد سعيد، عبد الرحمن منيف، محمد عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز، علي أومليل". وبالرغم من إيماني بأن عصر المثقف الأسطورة، المثقف الخارق القائد قد ولى بغير عودة، إلا أن الموضوعية في مقاربة الانتهازية الثقافية والأمانة المهنية، تفرض الذكر أن هناك القلة القليلة من المثقفين والمفكرين والنقّاد، الصابرين الأوفياء لأنفسهم وأوطانهم، المثقفين الملتصقين بالجماهير والمدافعين عن مصالحهم وحقوقهم، وما زالوا ملتزمين بقضايا الأمة وأهمها القضية الفلسطينية، وهم يستحقون منا كل احترام وتقدير.

ومن أبرز مهام هؤلاء المثقفين الملتزمين التصدي للمثقفين المزيفين، والتنبيه للمخاطر المترتبة عن أفعالهم التي تهدد بتفكيك البنية الثقافية والاجتماعية للأمة العربية. وبظني أن المثقف الحقيقي مطالب بالوضوح والشفافية في أفكاره ومواقفه وانحيازه، ورفض المواقف الملتبسة والتعابير الملتوية.

يقف ما ظل من المثقفين العرب اليوم بلا جدار أيديولوجي، يحصدون فشل المشروع القومي، وتشدد المشروع الإسلامي، وغياب المشروع الإصلاحي التنويري. يقفون دون أي حماية، معلقون في الفراغ، بدون خطاب موضوعي، بدون إطار مجتمعي موضوعي، مذمومون من السلطة السياسية، وهم موضع شك من السلطة الدينية، يشعرون بالاغتراب عن أنفسهم ومحيطهم، حائرون مربكون غير واثقون، يواجهون مجتمعاً مأزوماً مثقلاً بالخيبات، وسلطة منهزمة تسعى إما لتوظيفهم، أو تهميشهم، أو سجنهم، أو تصفيتهم.

***

الدكتورحسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

 

الإسلامُ فى حلِّ عن الأشخاص، مهما كان هؤلاء الأشخاص وأينما كانوا، اعرف الحق تعرف أهله؛ ولا تعرف الحق بالرجال؛ فإن معرفة الحق بالرجال فيها من البطلان ما يؤخِّرها عن رتبة المعرفة الحقة؛ لاختلاف الأهواء والتَصورات ومواطن القوة لديهم ومواطن الضعف.

لا تعرف حقاً قط على ألسنة الرجال، بل اعرف الحق من الحق أولاً تعرف أهله وتمادى فى العرفان!

ومن أجل ذلك قال الإمام عليّ بن أبى طالب رضوان الله عليه: «لا تعرف الحق بالرجال؛ اعرف الحق تعرف أهله». وأهل الحق يأخذون الحق من الحق لا يحيدون عنه، ويأنفون من أخذ الباطل ولا يطيقون استطالته وطغيانه. ومن هنا؛ فينبغى معرفة الشيء فى ذاته بعيداً عن خزعبلات الأشخاص وزعاماتهم الموبوءة.

كشفت أدبيات القدماء عن مثل هذه الزعامات المتسلطة؛ إذ كانوا يتنبَّهون إلى فعل الأهواء والمطامع والأغراض والمصالح فيها جيداً، ربما أكثر ممّا نتنبَّه نحن إليها اليوم، مع تطور الزمن وشدة الادعاءات فيه.

وأفاضوا فى شرح تلك السدود والحواجز والقيود؛ فهناك زعامة «الرياسة»، وهناك زعامة «الجاه»، وهنالك زعامة «المنصب»، وهنالك زعامة «السلطة». هذه الزعامات يشملها جميعاً مفهوم العلو، والتعالى، المجموع فى التقدير القرآنى تعبيراً بقوله :"تلك الدَّارُ الآخِرَةِ نَجْعَلهَا للَّذِيِنَ لا يُرِيدُونَ عُلوَّاً فِى الأرْضِ وَلا فَسَاداً، وَالعَاقِبَة للمُتَقِينَ" (القصص: آية 83).

هذا العلو هو فى بعض التخريجات يعنى: النظر إلى النفس. أما الفساد؛ فيعنى النظر إلى الدنيا، والأمن من المكر والكبر والعجب. وأصل ذلك كله من الجهل.

وليس الجهل هنا بالطبع جهلاً بالعلم، لا .. فقد يكون الإنسان عالماً ولكنه فى هذا الموطن هو من أجهل الجاهلين. الجهل هنا جهلُ بالنفس، ثم جهل بالله، مع كون الجاهلُ هنا عالماً من حملة الشهادات البرَّاقة واللافتات العلمية الكبرى. غير أنه يعدُّ جاهلاً مادام علمه لم يتحوَّل إدراكيًّا إلى علم بالجهل؛ فالعلماء بالله على هذا هم علماء بجهلهم؛ أى هم الذين يدركون جهل أنفسهم عن أن تصل إلى «حقيقة الحقائق»؛ أو حتى تصل إلى ما دونها، ناهيك عن احتكارها أو امتلاكها، فضلاً عن التعبير عنها بعد العلم بها.

فأما الذين يعلمون ويقولون مع شدة الادِّعاء إننا علماء فهم جهلاء على التحقيق؛ وعن الجهل يكون الكبر وطلب العز فى الدنيا، والعلو فى الأرض، والتلهف على السلطة والاستبداد بها.

وطلب العز فى الناس هو الذى يتولد منه العُجْب. فالوصول إلى قرب الله تعالى وإلى مراتب دنوِّه كما نبَّه عليه سبحانه فى الآية الكريمة، لا يكون مطلقاً لمن له حب «الزعامة» : رياسة، وجاهاً، وسلطة، ومنصباً، ونفوذاً. وأترك لك أن تعدِّد أنت أنواع الزعامات التى تلاقيها فى نفوس البشر ممَّن يحيطون بك وألوان الاستبداد بها، وهو كذلك لا يكون مطلقاً لمن تمكن حب هذا كله أو بعضه من قلبه. وإنما يكون لمن حذف هذه الآفات المُمْرضة عن قلبه ولم يباشر حظوظ نفسه وهواه؛ ولم يخضع لمصالحه ومطامعه وأغراضه فيما يتوجَّه به إلى خالقه، هنالك يَخُصُّه الله بالدرجات الشريفة والسعادات الدائمة فلم تعد تأتى منه إذْ ذاك أفعال الخبيثين.

الدين لله لا للأشخاص. والجماهير العريضة، وقطاعات وفيرة منها فى الغالب، تقدِّس الأشخاص الذين يتحدثون فى الدين من حيث لا يشعرون بألوان الخطابات الطاعنة فى الدين نفسه، شعروا بذلك أم لم يشعروا؛ وتُلْبِسَهُم أثواب القداسة لمجرد لأنهم يتكلمون عن الله ورسوله؛ هذا إذا مسَّت دعوة الداعى مشاعرهم، وذلك لأنها جماعات تنزع إلى المحسوس فى كل ما ترى، وفى كل ما تحسّ وتشعر، فتتخذ من الداعين إلى الله مكاناً للتجسيد القبيح؛ ليتسلط الداعى بعدها تسلطاً بغيضاً من حيث لا يشعر فتتحول الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة على يده إلى سُلطة، وتتحول الموعظة الحسنة إلى سياط يعلو قلوب الناس وعقولهم لا إلى رحمة للعالمين.

إنه الإرهاب بكل ما تحمله الكلمة من وقع كريه على المشاعر الإنسانية النبيلة. إرهابُ المشاعر والأفكار، وإرهابُ الضمائر والقلوب، وإرهابُ الطمأنينة النفسية وأمان الاستقرار، وما أكثر الذين يُرْهبون الناس فيرتكبون على شاشات الفضائيات ووسائل التواصل جرائم بشعة فى أبواب الفتاوى تارة، أو تحت ستار الفكر الإسلامى تارة أخرى، وفى عناوين وشارات كلها ترتكبُ باسم الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لتكون سُلطة ما أنزل الله بها من سلطان.

***

د. مجدي إبراهيم

شهدت العقود الأربعة الأخيرة من حياتنا الفكرية والثقافية ظهور عدة مشاريع فكرية وإبداعية ونقدية أنجزها المفكرون والأدباء والنقاد في بلداننا العربية، وفي هذا الخصوص رأينا الدكتور طه حسين يبني مشروعه من خلال إدخال منهج الشك الديكارتي إلى مسرح نقد الأدب والفكر والثقافة والدين في مصر والعالم العربي معا،  بل إنه قد تحول عنده إلى ناظم محوري لكل كتاباته حيث قام بتوظيفه طوال مساره النقدي وطبقه على شتى الظواهر الثقافية والفكرية بما في ذلك حقل التعليم.

وفي مجال الفلسفة رأينا الدكتور حسن حنفي يبني مشروعه على فكرة تحليل ونقد خطاب الاستغراب، في وقت كان فيه محمد أركون يعلن عن مشروعه من خلال تشابك العقلاني والأسطوري في التراث الديني الإسلامي واستمرار تفريخ هذين البعدين في مجتمعاتنا راهنا، وكان أيضا محمد عابد الجابري  صاحب مشروع نقد العقل العربي، الذى يعتمد على العقلانية والتحليل المنطقي لتسليط الضوء على واقع العرب، وذلك من خلال عدد وافر من الدراسات صاحب مشروع نقد العقل العربي، الذى يعتمد على العقلانية والتحليل المنطقي لتسليط الضوء على واقع العرب.

وفي هذا السياق بالذات يلفت انتباهنا مشروع عبدالرحمن بدوي والجهود التي بذلها من أجل فهم الوجودية وتأصيلها في البيئة الفكرية والثقافية بمجتمعاتنا، ويمكن القول مع الأستاذ أزراج عمر أن المغامرة الفلسفية لعبد الرحمن بدوي تقوم على دراسة البعد الثقافي العربي الذاتي وعلى ترجمة وتحليل بعد الفكر الغربي، ولا شك أن جهوده قد توجت بإضافة مقولتين اثنتين إلى مقولات كل من أرسطو وإمانويل كانط، ومما يؤسف له أن هذه الإضافة المهمة للمفكر بدوي وغيرها لم تبرز في النقد الفلسفي العربي ولم تشهد توظيفا لها في الدراسات الفلسفية والنقدية الثقافية.

كذلك رأينا في الفكر الأوروبي المعاصر وبالذات مع هيدجر، احتل المشروع مكانة جوهرية في تاريخ الفكر، حيث بدا كرد على سؤال مركزي في الميتافيزيقا، يتعلق بإمكانية فهم الكائن البشري. وقد طرح هيدجر إشكالية جديدة للكينونة في كتابه “الكينونة والزمن” l’Etre et le Temps، نقلت الفلسفة من التفسير الميتافيزيقي إلى الذهاب إلى الأشياء في حد ذاتها، إذ أضحت الكينونة جوهرا ووجودا، وأضحى جوهر الإنسان يدرك ويفهم ويؤسس داخل سؤال الكينونة، كونه أضحى معنيا بتدبير هذه الكينونة. فكما قال كانط: "ليس الإنسان شيئا بالطبيعة، وبالتالي فإن إنسانية الإنسان تتولد من الإنسان نفسه".

ويرتكز مفهوم المشروع على مرجعيات ذات منظور فلسفي للإنسان حاول من خلاله البحث عن عالم له معنى، غير أنه لا يتخذ كليا بتلك "الوضعية" التي عبر عنها هيدجر بـ "قفزة ذاتية للإنسان إلى الأمام" من خلال ماضيه وحاضره، بل يفترض ذلك قدرته على التموقع داخل هذه "الوضعية" وقدرته على اتخاذ مسافة لملاحظتها وتحليلها وإدراكها بشكل من الأشكال.

وأي مشروع لابد من أن يرتكز على إعادة مساءلة الحاضر ومدى ملاءمته، وذلك بالتساؤل عما نقوم به اليوم، وإلى أي حد نعتبر أن ما ننجزه اليوم يسمح لنا في نفس الوقت بمراجعة ماضينا والانفتاح على مستقبل ممكن.

وإعادة الحاضر تقتضي النظر في مسألة التجديد من خلال إعادة النظـر فـي كـل التجارب الاجتهاديـة فـي فهـم الكتـاب والسـنة والواقـع وفـي كـل أسـاليب العرض والاسـتدلال التـي اسـتهلك ها الـزمن لان التطـور فـي الأسـاليب -مـن حيث الشكل والمضمون- قد أدى إلى ضرورة استحداث أسـاليب جديـدة تنسجم مع الذهنية المعاصرة ومع تطـور المفـردات الثقافيـة، لنسـتطيع - مـن خلالها- الدخول إلى العقـل الإنسـاني المعاصـر وقلبـه.

وفي اعتقادي أن ذلك لن يتم إلا خلال إلغاء فكرة فصل المقال عن المنهج لا المقال عن العلم، وهذا المبدأ الابستمولوجي قد طبقته في كثير من كتاباتي، وأفضل تطبيق له، كان في كتابي " النحو العربي وعلاقته بالمنطق "، حيث كشفت أن الانبثاق المفاجئ للنحو العربي، يعد في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شيء ؛ بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير، فحين نقول إن النحو العربي كان جزءًا من المعجزة العربية يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا، هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور نشأة النحو العربي.

والعجز عن التفسير هنا راجع إلى اختلاط لنشأة وتطور النحو العربي والتي تجسدت في اعتقادنا من خلال ثلاث مراحل حتي اكتملت:

1- المرحلة الوصفية: وهذه المرحلة قد استغرقت نحو قرن أو بالأحرى أكثر من نصف قرن، من عهد أبي الأسود الدؤلي حتى عهد سيبوبه، ولعل أهمية هذه المرحلة في النحو تعود إلى أنها شهدت بدء محاولات استكشاف الظواهر اللغوية بعد أن فرغ أبو الأسود الدؤلي من ضبط المصحف بواسطة طريقة التنقيط التي استعارها من يعقوب الرهاوي بعد تقنينها وتعديلها حسب مستجدات وأبعاد اللغة العربية، كما أنه تم فيها أيضًا المحاولات الأولى لصياغة ما استكشف من الظواهر اللغوية في قواعد، ثم تصوير هذه القواعد في شكل بعض المصنفات الصغيرة التي أتاحت الفرصة لمناقشة الظواهر والقواعد معًا، مما فتح الباب أمام أجيال هذه الفترة لوضع الأسس المنهجية التي كان لها تأثيرها فيما بعد .

كما شهدت هذه المرحلة أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض مضامين النحو اليوناني الذي دون منظومته "ديونيسيوس ثراكس "، وذلك بطريق غير مباشر عن طريق السريان، وتجسد ذلك من خلال عصر " أبو الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه )، وبالتالي فالمرحلة الأولى من النحو العربي شهدت تأثرًا بالنحو اليوناني بواسطة السريان؛ خاصة بعد أن امتلك العرب سوريا، والعراق، ومصر، وبلاد فارس بين سنتي ( 14" هـ" و" 21هـ، 635م- 641م" فاتصل العرب باليونان عن طريق السريان اتصالًا غير مباشر لقرب البصرة والكوفة من مراكز الثقافة ووجود كثير من الناس يتكلمون بلغتين، ووجود أوجه شبه لافتة بين النحو العربي والنحو اليوناني، مما يثبت أن النحاة العرب الأوائل قد استعاروا بعض العناصر من النحو اليوناني حتى يبنوا نظامهم النحوي عن طريق السريان.

2- المرحلة التجريبية: وهذه المرحلة قد استمرت قرابة قرن أو يزيد، وتبدو هذه المرحلة التجريبية للنحو العربي أوضح ما تبدو في كتاب سيبويه، وسبب اختيارنا لسيبويه هو أنه من الناحية التاريخية يعرف الجميع أنه بعد أن أنهى كتابة مؤلَّفه "الكتاب" الذي يعد مرحلة متطورة، وناضجة، من مراحل التفكير النحوي العربي، كان يعتمد في منهجه النحوي علي المنهج التمثيلي. والسبب طريقة سيبويه اعتمدت العمل الاستقرائي المرتبط بالواقع الاستعمالي للغة محاولًا تصنيفها، وتحديد علاقاتها على أساس التماثل الشكلي والوظيفي، وصولًا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة .

ومن هذا المنطلق سنكشف لماذا لم يعتنِ سيبويه بالحدود النحوية؛ خاصة بعد أن رتب موضوعات المادة النحوية في كتابه على أساس ذكر المادة كاملًة دون مصطلح واضح محدد، ثم الدخول إلى الموضوع دون ذكر حد منطقي، وفي أكثر الأحيان يحدد الباب النحوي بالمثال أو ببيان التقسيمات مباشرة، وهذا يؤكد نفي تهمة تأثر كتاب سيبويه بمنطق ارسطو .

3- المرحلة الاستنباطية: وهي المرحلة التي أفضى فيها التراكم المعرفي الذي حققه تطور النحو العربي في المرحلتين الوصفية، والتجريبية، وقد أدى هذا التراكم الكمي إلي تغير كيفي علي ثلاثة مستويات محددة: مستوى الوسائل العقلية المنهجية من جانب، ومستوى مفاهيم العلم ومبادئه من جانب آخر .

أما المستوى الثالث فهو مستوي نظرية العلم، التي تحدد البينة أو الشكل الذي سيجئ عليه العلم في هذه المرحلة . وفي المرحلة الاستنباطية يتم صياغة الحد الأدنى من قواعد العلم ومبادئه التي تمكن المختصين من الانتقال من مبدأ أو أكثر داخل العلم إلي مبدأ جديدًا، كما هو الحال في المنطق والرياضيات، أو تمكنهم من التنبؤ بما سيحدث مستقبلاً – بحسب مبدأ عام مستقر – كما هو الحال في العلوم الطبيعية، أو تؤهلهم أخيرًا لاستنباط أحكام معينة من قواعد عامة لحل مشكلات اجتماعية جزئية معينة، وهذا هو مثلًا شأن علم القانون .

وهذه المرحلة حين نطبقها علي النحو العربي، نجد أنها تبدأ من أبي بكر بن السراج حتى الحقبة الحديثة، وهذه المرحلة قد ظهر فيها تأثير المنطق في الدرس النحوي بصورة واضحة في استعمال النحويين للتعريفات، أو الحدود، والعوامل، والأقيسة، والعلل، وبعض المصطلحات المنطقية كالجنس، والفصل، والخاصة، والماهية، والماصدق، والعهد، والاستغراق، والعموم، والخصوص، المطلق، والعموم، والخصوص الوجهي، والموضوع، والمحمول، واللازم، والملزوم، إلى أخر هذه المباحث المنطقية... وللحديث بقية.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي – كاتب مصري

.......................

المراجع:

1- أزراج عمر: المشاريع الفكرية العربية نزعة فردية متأثرة بالغرب، مثال منشور بجريد العرب، الجمعة 2020/01/24

2-د. محمود محمد علي: ملاحظات أبستمولوجية حول منهج خير الله سعيد، مقال منشور بصحيفة المثقف،  نشر بتاريخ: 08 نيسان/أبريل 2023

3-المختار شغالي: المشروع مفهوم فلسفي، مقال منشور بهسبريس، الأحد 5 يوليوز 2015 - 23:01

غيب الموت منذ أيام احد اشهر فلاسفة التحرير في أمريكا اللاتينية انريكو دوسيل  Enrique Dussel هنا قراءة مختصرة حول سيرته الذاتية والفكرية واهم المحطات التي مرت بها فلسفته خاصة وفلسفة التحرير عامة.

تأويلات دوسيل لماركس

رغم ان ماركس والماركسية لم تكن غريبة على دوسيل، غير ان دوسيل لم يتعامل معها جديا حتى وصوله كلاجيء سياسي الى المكسيك عام 1977. انشغل بدراسة موسعة وعميقة لأعمال كارل ماركس. هذا الانخراط أدى الى اصدار ثلاثة مجلدات (دوسيل 1985, 1988,1990). كانت مساهمة دوسيل تسعى لتطوير تفسير وتأويل جذري للماركسية. وهو ينتقد التأويل والتفسير الغربي السائد للماركسية، وهو تفسير هيجلي الى حد كبير، وهذا التفسير حسب دوسيل مسؤول عن مشاكل واخفاقات الثورات الماركسية من ثورة أكتوبر في روسيا، الى ثورة الساندنيستا في نيكاراجوا.

يرى دوسيل، ان قرنا مضى من تأثير ماركس على المسرح السياسي (1881-1983) . هذا القرن بعد وفاة ماركس تطور أولا تحت سلطة انجلز ثم تحت هيمنة الأممية الثانية (كارل كاوتسكي، لينين، لوكسمبورج) وأخيرا الأممية الثالثة في الفترة اللينينية التي سرعان ما سقطت تحت الستالينية. بعد وفاة ستالين وصلت مرحلة الماركسية الغربية من لوكاش، الى التوسير، وصولا الى هايبرماس. غير ان دوسيل يرى ان تأثير ماركس سيتمر قرنا اخر من (1983-2083)، في هذه الفترة سيكون ماركس ملكا للإنسانية لا لحزب سياسي او نخب معينة. سيكون ملكا للمعارضين للرأسمالية، ولساعون جديا لديمقراطية اجتماعية حقيقية.

نظرة دوسيل الى ماركس تنطلق من منظور تاريخ أمريكا اللاتينية. أي ان دوسيل يتبني منظورا عالميا لاعمال ماركس من منظور إقليمي، إقليمي مثل منظور انجلز، لينين، لوكسمبورج، هايبرماس، او التوسير. ومن هذه النقطة ليس مفاجئا او سرا ان قرأة دوسيل لماركس متأثرة بمفهوم لفيناس لما هو خارجي (الحالة التي تكون فيها خارج المنظومة السائدة ) exteriority، وكذلك العمل. ورغم ان دوسيل لديه تحفظ حول مفهوم لفيناس حول ما هو خارجي، ولكن في نفس الوقت يقبل بهذا المفهوم باعتباره انقساما معرفيا واخلاقيا وسياسيا في التعبير عن المعرفة الغربية. او بصورة أخرى هو يقبل ان تاريخ المعرفة تم بناؤه ذاتيا من الأفكار اليونانية الى العلوم والفلسفة الحديثة. تاريخ المعرفة هذا،  اساسه الابستمولوجي النظر الى المعرفة واللغات الأخرى (كمثال الصينية، الهندية، العربية، والهندو أميركية) كمعرفة خارجية، ومن ثم دمجها كمادة للدراسة او كسلع ثقافية عوضا عن كونها سياقات معرفية.

إن مفهوم "العمل الحي" يجعل من الممكن التقاطع بين الماركسية وفلسفة التحرر بقدر ما تم تعريف فلسفة التحرر منطقيا ؛ "شكل من أشكال التفكير من الخارج الكلية الأوروبية ومجمل الرأسمالية". (التي سيتناولها دوسيل لاحقا في المركزية الأوروبية والحداثة (Dussel 1995، 1998a]). في سبعينيات القرن العشرين، عرف دوسيل الخارجية بأنها ممارسة المضطهدين. صنف المضطهدين في المقام الأول على أنهم "فقراء". ومع ذلك، لم يكن يتحدث فقط عن اضطهاد الفقراء ولكن أيضا عن أنواع أخرى من الاضطهاد، على سبيل المثال، الاضطهاد على أساس الجنس والعمر والعرق. في الآونة الأخيرة، يفضل دوسيل تحديد المضطهدين على أنهم "ضحايا". كيف يصبح "الخارج" بعد ذلك خارج "العمل الحي" ولماذا كان مهما جدا في تأملات دوسيل السياسية والأخلاقية؟ يدفع دوسل هذا التفسير التحليلي في إعادة صياغة ثلاثة فروق رئيسية في كتابات ماركس: التمييز بين  الابداع poiesis / التطبيق العملي، والتمييز بين العمل الحي / قوة العمل، والتمييز بين المركز / المحيط. بعد قراءة المجلدات الأربع من عمل ماركس الأساسي Das Kapital (1857-1880))، يجادل دوسيل بأنه بالنسبة لماركس، كان "الشرط المطلق لإمكانية وجود الرأسمالية هو تحويل المال إلى رأس مال" (يقدم دوسيل الفرضية التفسيرية القوية القائلة بأن بداية رأس المال كانت بالفعل بحثا عن إجابة لهذا السؤال.

الكونويالية، العالم الثالث وفلسفة التحرير

يلخص كتاب دوسيل الأخير، (1988 Etica de la liberación)، مساره الطويل منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين. في المقام الأول، من الواضح أن حجته قد أانتقلت من حقبة الحرب الباردة إلى فترة العولمة (ما بعد الحرب الباردة). التغييرات هي الاعتراف بظهور الجهات الفاعلة الاجتماعية الجديدة وتشكيل مواضيع تاريخية جديدة. لم تعد الطبقة العاملة مهيأة كما وصفها ماركس في البداية، على الرغم من أن عملية استيعاب العمل الحي وتحويل المال إلى رأس مال لا تزال قائمة. يتم وصف "الضحايا" الآن بشكل أفضل بأنهم "أرواح بشرية يمكن الاستغناء عنها" بموجب منطق السوق، المتحررة من كل من المسؤولية الأخلاقية وقيود اليوتوبيا الاشتراكية. هكذا تضع فلسفة التحرير عنوان "التحرر " بدلا من "الإصلاح" (Dussel 1998) . فلسفة التحرير هي نقد موجه للرأسمالية من وجهة نظر العالم الثالث. سيكون البؤس هو إعادة إنتاج ما كشفته فلسفة التحرير في حدودها: الوظيفة الديكتاتورية للأسباب الذرائعية، في نسختيها الليبرالية والاشتراكية على حد سواء.

هناك سياق تاريخي يعزى الى انبثاق فلسفة التحرير، وكذلك لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية. ان مشروع التحديث والتنمية بعد الحرب العالمية الثانية قاد الاقتصاديين الى استنتاج مفاده ان التفكير في التنمية والتحديث في أمريكا اللاتينية يجب ان يبدا بالاعتراف بالطابع التبعي للاقتصاد في هذه البلدان. أدى تقاطع تأثير الثورة الكوبية والمشروع الليبرالي النقدي لتنمية أمريكا اللاتينية الى ظهور نظرية التبعية (كاردوزو وفاليتو 1979) وراؤول بريبش (1980)، وذلك يتبع مبدا "ولراس"  حول النظام العالمي وحول الطبيعة التبعية لاقتصادات الأطراف على المركز الرأسمالي. وهذا يوضح الى حد ما من ناحية، اهتمام دوسيل المبكر وتفاعله مع نظرية النظام العالمي. من ناحية أخرى، ساقت نظرية التبعية الى المقدمة وفي الحوار القلق بشان المهمشين والفقراء والبائسين كضحايا للرأسمالية.

***

علي الرئيسي

الفصل بين الحقائق والقيم، واحد من التقاليد المستقرة في مجامع البحث العلمي. والمقصود به أن يتخفف الباحث أو الناقد من انحيازاته الشخصية والاجتماعية لحظة البحث، فلا يجعلها معياراً في اختيار موضوع البحث أو منهجه، أو في الحكم على نتائجه.

والحق أنَّ الفصل التام بين الموضوع والميول الشخصية، من أصعب الأمور، بل ادّعى بعضهم أنَّه مستحيل. ولا أراه كذلك، لكنّي أعرف صعوبته. وأعلم أنَّه أشدُّ عسراً في ظروف الأزمة والصراعات الداخلية والإقليمية، سيَّما تلك التي تدور حول قضايا الهوية، أو التي تكون الهوية عاملاً في تأجيجها، أو سلاحاً في يد أطرافها.

إنَّ حرصَ الباحث على مسايرة ميوله الخاصة أو ميول مجتمعه، لن يساعد في إنتاج العلم، بل لن يؤدي - على الأرجح - إلى أكثر من «تطييب الخواطر»، أي الوصول إلى نتائج مريحة لنفس الباحث أو «جماعته»؛ لأنَّها - ببساطة - تؤكد ما كانوا يقولونه دائماً وما يرغبون في قوله، في ثوب جديد أو لغة مختلفة.

وقرأت في الأيام الماضية كتاباً يعالج العلاقة بين الدين والأسطورة، خَصّص كاتبُه مساحةً واسعة نسبياً، لشرح رؤية علماء أوروبيين للمسافة بين الواقعي والمتخيل في الدين. وحين وصل إلى الفصل الخاص بمناقشة العلاقة بين الإسلام والأسطورة، ورأي المفكرين المسلمين الذين تحدّثوا في الموضوع، اشتغل محرك الهوية عند الكاتب فيما يظهر، فأغفل مناقشة آراء أولئك المفكرين وأدلتهم؛ كي يركّز على ما قال إنه تطابق بين تلك الآراء ونظائرها الشائعة في أوروبا. وبناءً عليه اعتبرها بعيدة عن المجال الإسلامي، ولا ينبغي التعامل معها كتفكير في الدين.

وأميل إلى الظن بأنَّ الكاتبَ لم يشرع في بحثه ذاك، قاصداً إنتاجَ معرفة جديدة. ذلك أنَّ منهجَ السجال الديني يبدو واضحاً في أكثر من موضع. ومن يتخذ منهج المساجلة، فإنَّه لا يهتم بالتحقق من آراء المخالفين، التي قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة. إنَّ همَّه الوحيد هو تسفيه تلك الآراء وتعزيز موقفه، بغض النظر عن كونه صحيحاً أو خطأً في الواقع. إنه - بعبارة أخرى - لا يسائل موقفه ومعتقداته؛ لأنَّه مشغول في محاكمة الآخرين.

ربما يكون هذا الموقف ناتجاً من الميول الآيديولوجية للكاتب، أو عن ارتباطه بمصالح المحيط الاجتماعي وإراداته. ولا شك عندي أن مسايرة الرأي العام أيسر مؤونة. وقد ذكرت مراراً أنَّ المفكر أو صانع الرأي، ليس مطالباً بمصارعة المجتمع والسير عكس التيار، إلا إذا اختار هذا المسار بنفسه. فهو - مثل غيره - حر في الأخذ بما يستطيع احتمال تبعاته. ومن هنا، فليس من الإنصاف أن نطالبَه أو نطالب غيره بتحمل أعباء اجتماعية، تزيد عمَّا التزم به سائر الناس وأصحاب الحرف الأخرى.

أقول هذا الكلام الذي يبدو محافظاً، وغايتي إنصاف تلك الشريحة من أهل الفكر الذين اضطروا إلى السكوت كلياً، أو اضطروا إلى إغفال قناعاتهم أو مسايرة التيار العام، طمعاً في السلامة. وأعرف العديد ممن اتخذوا هذا المسار بعدما اختبروا ضغط المجتمع، بل قسوته على أهل الرأي الذين اختاروا يوماً أن «يحملوا السلم بالعرض» كما يقال.

بموازاة هذا، فإنّي أعلم أنَّ المجتمعات لا تتقدَّم، إن ذوت فيها روح النقد. بل أستطيع القول إنَّ إنتاج العلم وتطويره مستحيل، إذا كان نقد الأفكار المعتادة والقناعات السائدة، ممنوعاً أو عسيراً. ليس هناك وقت مناسب للنقد ووقت غير مناسب. وليس هناك وقت مناسب لشرح الرؤى والمواقف وآخر غير مناسب. التعبير الحر عن الرأي يجب أن يكون متاحاً في كل وقت وفي كل ظرف، حتى لو كنَّا في أسوأ الظروف. أياً كان الأذى الذي ربَّما يخشاه الناس من النقد في ظرف الأزمة، فإنَّه - بالتأكيد - لن يؤدي إلى ضرر مادي. بل على العكس، فالضرر الأعظم الذي وقع سابقاً ولا زال يتكرَّر في عالم العرب، هو هيمنة الخيارات التي تشير إلى طريق غير التي ألفناها بعدما ورثناها عن الأسلاف.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

اليقينيات هي الأسس التي نبني عليها قناعاتنا وفهمنا للعالم. إنها توفر لنا إحساسًا بالاستقرار وإطارًا للتغلب على تعقيدات الحياة. ومع ذلك، فقد أظهر التاريخ أن ما كنا نعتبره يقينًا بالأمس يمكن أن ينهار في مواجهة المعرفة الجديدة أو الظروف غير المتوقعة.

لقد انقلبت النماذج العلمية، التي كانت تعتبر في زمن سابق حقائق لا تقبل الجدل، رأسا على عقب بفضل الاكتشافات العلمية الرائدة. كان يُعتقد في السابق أن الأرض هي مركز الكون، وأمرا مؤكدا لا جدال فيه حتى قدم كوبرنيكوس وجاليليو نموذج مركزية الشمس. وبالمثل، أفسحت الفيزياء النيوتونية، التي بدت أساسًا لا يتزعزع، المجال أمام نظريات النسبية وميكانيكا الكم الأكثر دقة.

حتى في حياتنا الشخصية، يمكن لليقين أن ينهار. فالعلاقات التي تبدو غير قابلة للكسر يمكن أن تنتهي، والمهن التي كانت تعتبر آمنة في السابق يمكن أن تتعثر، والمعتقدات الراسخة يمكن أن تتطور. وتؤكد هشاشة اليقينيات هاته على عدم الثبات الذي يحدد التجربة الإنسانية.

ومع انهيارها ، يظهر فراغ في أعقاب ذلك - هاوية تظهر فيها العبثية كبطل غير متوقع. إن العبثية، التي غالبًا ما تكون مرادفة للاعقلانية أو التناقض، تتحدى مفاهيمنا المسبقة وتجبرنا على مواجهة طبيعة الوجود الفوضوية وغير المتوقعة.

في الأدب والفلسفة، تم استكشاف مفهوم العبث من قبل مفكرين مثل ألبير كامو. العبث، عند كامو، هو الصراع بين رغبتنا في المعنى واللامعنى الواضح للكون. عندما تختفي اليقينيات، ونواجه العبث، تأخذ الحقيقة شكلاً جديدًا - وهو شكل متناقض يوجد في قبول اللاعقلاني واحتضان السخافات المتأصلة في الحياة.

إن اختفاء اليقينيات وظهور العبثية كحقيقة لهما آثار عميقة على إدراكنا للواقع. في عالم تتغير فيه الأرض تحت أقدامنا باستمرار، يصبح فهمنا للحقيقة نسيجًا ديناميكيًا ومتطورًا.

ويتجلى هذا التصور المتغير في عالم السياسة، حيث تطمس "الحقائق البديلة" وسرديات ما بعد الحقيقة الخط الفاصل بين الواقع والخيال. في مشهد حيث اليقين بعيد المنال، فإن السرد الذي يكتسب قوة قد لا يكون بالضرورة متجذرًا في حقائق يمكن التحقق منها ولكن في القوة المقنعة لسرد القصص.

علاوة على ذلك، أدى العصر الرقمي إلى تضخيم هذه الظاهرة. إن سهولة النشر السريع للمعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت يمكن أن يحول الادعاءات السخيفة إلى حقائق منتشرة، مما يشكل الرأي العام ويغير مسار الأحداث.

إن التناقض بين اهتزاز اليقينيات وتحول السخافة إلى حقيقة يتطلب اتباع منهج دقيق للتعامل مع إشكاليات وجودنا. إنه يدعونا إلى التوازن بين الشك والانفتاح، والرغبة في التشكيك في افتراضاتنا مع الاعتراف بعدم اليقين المتأصل في واقعنا.

إن اعتناق عبثية الحقيقة لا يعني الاستسلام للعدمية أو النسبية. وبدلاً من ذلك، فهو يدعونا إلى إيجاد المعنى في خضم حالة عدم اليقين، لاستخلاص الهدف من فعل التنقل في التضاريس الغامضة للمجهول.

في الختام، فإن التفاعل المتناقض بين اختفاء اليقينيات وصعود السخافة كحقيقة هو شهادة على الطبيعة المعقدة للتجربة الإنسانية. إنه يتحدانا لإعادة تقييم علاقتنا باليقين، مما يدفعنا إلى استكشاف أعمق لرمال الإدراك المتغيرة باستمرار والروح الإنسانية المرنة التي تجد المعنى حتى في زوايا الوجود الأكثر سخافة.

***

عبده حقي

في المثقف اليوم