تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

هديل عادل كمال: كسر اغلال الصمت في رواية: عشر نساء.. رواية كل نساء العالم

"اخشي أن تتخلي إحدانا مع مرور السنوات عن محبة الناس. في مرحلة الشباب، يكون نثر العواطف جزءا من كون إحدانا شابة، اللعب بالعاطفة مائة في المائة،والتوسع بها إلى اللانهاية. توزعها إحدانا يميناً وشمالا ببراءة ومن دون انتقائية.و مع مرور السنوات، نبدأ بانسجام أكثر رهافة، وتكون النتيجة أن نبقى منفردين جانبا. في حالتي، صار نظري أكثر ارتياباً، أكثر تحقيقاً، وصارت هاتان العينان أنفسهما تنظران إلى الآخرين بمزيد من الريبة فالأشخاص أكثر حماقة مما يبدو عليهم، وأشد إزعاجا بعضهم أكثر عجرفة، وآخرون أكثر حسداً، الوفاء ليس كاملا على الأطلاق، التقدم في السن يعني ادراك العيوب بصورة أكبر. يبدأ الناس بإشعاركِ بالضجر. أخشى أن أحب في كل مرة أقل. أفكر احيانا في أن هذا هو احد أسباب عزلة المسنين : يعتقد بان المسنين متوحدون لأن لا أحد يحبهم، ربما يكونون متوحدين لأنهم هم أنفسهم لا يحبون احدا لم أعد أكاد أخوض في محادثة بلا هدف، ليس لدي وقت للأحاديث المجانية." ― مارثيلا سيرانو - عشر نساء

الكاتبَة التشيلية مارثيلا سيرانو تكسر صمت النساء كخطوة أساسية وإسعافية ليتجاوزن مفهوم الأنوثة الضيق الذي يصر المجتمع على تكبيلهن به.“عشر نساء” رواية بديعة أسرتني للكاتبة التشيلية مارثيلا سيرانو المولودة سنة 1951 وتعتبر من أهم كاتبات القارة الأميركية الجنوبية.ثمة عبارة أحب أن أبدأ بها وردت في رواية عشر نساء هي: “عندما تقرأ هذه الرواية كأنك تحدق في عيون كل نساء العالم”.بطريقة جذابة وبحيلة روائية طريفة جمعت الكاتبة تسع نساء لا يعرفن بعضهن وكل منهن تنتمي لقومية معينة وبلد مختلف وتركت كل امرأة تحكي قصة حياتها وتجول في أعماقها بحرية وشفافية، أما المرأة العاشرة فهي معالجة نفسية سردت شهادتها أيضا وجمعت شهادات النساء التسع. ويمكن قراءة الرواية بدون ترتيب واختيار المرأة التي نريد معرفة قصتها، إذ يمكن اعتبار الرواية أشبه بقصص قصيرة تحكي كل قصه حياة امرأة، لكن ما يجمع هؤلاء النسوة واحد وهو أنهن كن مدفونات في الصمت وخائفات من التعبير عن أنفسهن.

تتحدث هذه الرواية عن تسع نساء لكل واحد منهن حكاية  نقطت التقائهن عند المرأة العاشرة  وهي معالجتهن النفسية ناتاشا والتي مثلهن لها حكاية تثقل كاهلها، تؤمن ناتاشا أن سرد حكاية كل شخصية امام الأخريات هي أول خطوة للتحرر من هذا الثقل ِ.

فرانيسكا, مهندسة ومتزوجة لديها ابنتان حياتها مستقرة ,حملها الثقيل يتمثل في سؤال لم تجد الاجابة عليه ,هل تحبني امي ام تكرهني,هل هجرتني لانها لا تحبني ؟!! تسرد فرانيسكا حكايتها امام باقي النساء محاولة اعادة قراءت حياتها علها تجد اجابة او علها طرحت السؤال الذي ارقها بطريقة خاطئة.

مانية اجمل النساء دخلت عالم التمثيل معتمدة على جمالها مضى العمر وكبرت وغزا وجهها التجاعيد التفت فايقنت ان قطار العمر قد سبقها وجعلها وحيدة بلا ولد ولاعائلة ولا رفيق.السؤال الذي ارقها هل خسرت جوهر الحياة عندما رفضت ان يكون لي ابناء؟!!

ليلى الفلسطينية الأصل صحافيه ذهبت لفلسطين فتعرضت للإغتصاب من قبل جنود اسرائيلين،انجبت ابناً اسمته أحمد، سؤالها الذي يؤرقها هل ستحب احمد يوماً  الذي يمثل نتاج تجربة مؤلمة بالنسبة لها ؟

أصبحت مدمنة كحول كي تخفف ألم روحها والمهانة التي تعرضت لها، وبدأت تكذب كثيرا من غير أن تلاحظ ذلك، وتشعر أنها أشبه بجرح كبير تداعبه وتقبله والغضب الكامن يغلي في أعماقها لأنها لم تبح بمأساتها، ولأنها دفنت معاناتها في الصمت، وصارت تعتمد على تغذية قدرة النسيان عندها، لكنها مع الزمن اكتشفت أنه لا بد من ملامسة القاع حتى تنجلي الحقيقة، فالحقيقة كالحق تحررنا من عبودية الألم ومن ذل الصمت. بشجاعة تبوح ليلى بقصتها بعد صراع داخلي عنيف، وهي بذلك لا تختلف عن لويسا المسيحية التي عانت من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية والتي تقول عنها بأن الكنيسة الكاثوليكية اخترعت الجحيم كي يظل الفقراء هادئين ويفكروا أن هناك أشياء أسوأ من هذه الحياة.

تقول لويسا: الصمت يقتل، لويسا امرأة من الريف احبت كارلوس العامل والناشط في مجال حقوق العمال، تزوجته وانجبت ابناءاً منه، في عهد العسكرتاريه  اعتقلوا كارلوس من بيته، وانتظرت لويسا 30 عاماً لتعرف مصيره لم تجد اسمه ضمن المعتقلين او المفقودين،سؤالها الذي يؤرقها اين كارلوس وماذا حدث له ؟

سنوات وسنوات وأنا صامته، راح الصمت يشكل عقدة داخلي، وكل شيء يصير قاتما.أهمية الرواية أنها تبين خطورة الصمت الذي تعيش فيه المرأة وتربي عليه الفتيات كما لو أنه أحد مقومات الأنوثة، الصمت يقتل والصمت قبر، والصمت مرض دفين ولا مجال للشفاء منه إلا بالكلام، بالبوح العميق، بالتجول في غرف الروح الباطنية بجرأة وشجاعة وبقراءة الذاكرة المختزنة في تلافيف الدماغ.

اما سوزي فتشعر انها عاطفية ببلاهه,وبان الالم ياتيها من الخارج ويندس في اعماقها ,وهي مولعة باءساءة الكلام عن نفسها وتتحدث عن ماسأة وهي تشعر انها على حافة االبكاء دوما وتشعر انها باسواء حال وتقول بانها عاشت بمفاهيم وساوس اخلاقية لاطائل منها,وكان جيلها في الكلام متيبسا جدا وتتسال : هل اللغة كفن؟ولكن ضربات الحياة علمتها كيف تكبر وتقوى الى ان تقول عبارتها : لست وحيدة حين اكون وحدي ,لان المجتمع يشعر المرأة الوحيدة بانها معاقة او ناقصة.

خوانا أم عزباء تعمل في محل للتجميل تعتني بوالدتها التي كانت ايضاً اما عزباء،خوانا لديها ابنة واحدة اسمها سوزي،الم خوانا هي ابنتها،التي اصيبت فجأة بالاكتئاب وترغب في الانتحار، يضل سؤال خوانا الذي يؤرقها ماذا لو كان تعاملي معها افضل مما كان ماذا لو كان وضعي المالي افضل من هذا ماذا لو....؟

سيمونا مناظلة يسارية  من عائلة ثرية ،احبت اوكتافيو واحبها لكن اكتافيو كان مدمناً على الكُرة وهجرته  لأجل ذلك قررت ان تغير حياتها بعد ان بلغت الخمسين  اشترت شقة في مدينة ساحلية  وقضت اغلب ايامها في الكتابة سؤالها هل ستندم يوماً على التخلي على الزوج؟ هل ستشعر بالوحدة؟.

أندريا ممثلة تلفزيونية شهيرة..تملك كل شيء لكنها تشعر بغيظ كبير كأنها ترغب في الهروب من حياتها وتاريخها من شهرتها و زواجها، ترغب في الغيش في مكان صامت لا تسمع فيه الا نفسها، تحاول اندريا ان تأخذ قسطاً من الراحة في صحراء أتاكاما تكتشف انها تريد الارتباط مع ارض لها تاريخ،تعيش صراعاً بين مغادرة بلادها او العودة إلى زوجها وبناتها..ترغب في البدء من جديد؟.

آنا روسا شابة كاثولكية متدينة،تتعرض للتحرش من قبل جدها، تصارح والدتها فتتجاهلها،يضل السؤال الذي يؤرقها لماذا لم يدافع عنها احد  هل ما يحدث لها بسبب خطيئة  هل يكرهها الرب ضل السؤال يؤرقها،حتى سألت  جدها وهو على فراش الموت بعد وفاة والديها في حادث سير، لماذا لم تحمني امي عني ؟فأجابها لأنني فعلت معها الشيء نفسه.

ناتاشا هي اخر النساء لم تحكي قصتها بل سمحت لصديقتها ان تسردها لباقي النساء، ناتاشا  معالجة نفسية ولدت في بيلا روسيا لأبوين يهوديين اضطرا للهرب من المحارق النازية الى امريكا الجنوبية، كان لوالدها رودي علاقة قبل الزواج مع امرأة ارستقراطية اسمها مارلين حملت منه وانجبت بنت اسمتها حنه، تكتشف ناتاشا هذه الحكاية وعمرها 30 عاماً تقضي حياتها في البحث عن اختها  لتجدها بعد مرور عقود في فيتنام امراة عجوز وضعيفة على حافة الموت، السؤال الذي يؤرقها ماذا لو لم يحصل أي من ذلك لا حروب ولا فرار من الوطن ؟

الرواية تطرح الكثير من الأسئلة تجمع اغلب النساء الخوف الدائم من الوحدة من ضياع حياتهن دون ان يعشنها بالشكل الصحيح.

بنهاية المطاف ندرك وتدرك النساء خاصة أن كسر أغلال الصمت هو المحرر الوحيد من الدونية والوحدة وعدم الأمان والخوف والشك والنظرة السلبية للحياة وعدم القدرة على الفرح، وبأن كسر صمت النساء هو الوسيلة الوحيدة لمعرفتهن كإنسان أولا “وأنثى ثانيا”، كي يكون هناك تكافؤا “وتوازنا” في العلاقة مع الرجل، وفي الرواية دعوة غير مباشرة للرجل كي يحترم إنسانية المرأة وألا يختزلها بمجرد جسد أو رحم، فهي إنسانه مساوية له بالقيمة الإنسانية ولو اختلفا فيزيولوجيا. حين تبوح المرأة عن معاناتها وتكسر الصمت فإنها تحقق إنسانيتها وتتغلب على أعصابها وحزنها وتصبح فاعلة ومعطاءة وسعيدة. تحث الكاتبة النساء على شجاعة المواجهة وأن يتجاوزن رعب القفزة الأولى نحو حرية التعبير.عشر نساء رواية نسوية راقية بامتياز وتتمتع بجاذبية آسرة في الأسلوب.

جدير بالذكر أن الكاتبة مارثيلا سيرانو ولدت في تشيلي واهتمت بالفنون البصرية ونشرت روايتها الأولي "أحببنا كثيرا عام 1991م ولاقت رواجا وحازت على عدة جوائز، وتعد من أبرز الكاتبات في أمريكا اللاتينية.

***

هديل عادل كمال

في المثقف اليوم