أقلام ثقافية

الأقل حين يفضي للأكثر

haitham asafلو كنّا نقرأ أكثر ممّا نكتب، لكانت حالتنا الأدبيّة على نحوٍ أفضل.

لو كنّا قرّاءً دائبين، لعرفنا ما لم يُكتَب بعد، ولَكُنّا من أهل التجديد والأصالة.

لو كنّا نقرأ وَ "ننسى" ما قرأنا، لَمَا تحوّلتْ كتابتُنا إلى إعادة صياغة لمقروءاتنا، أو إلى عمليّة "سطو" عليها.

لو كنّا نقرأ بزخم، لَمزّقْنا الكثيرَ من أوراقنا، ولارتاحت أقلامنا من ضغط أناملنا.

لو كنّا نقرأ، لَعرفنا عيوب كتاباتنا، وعزفنا عن نشر كلّ ما توهّمناه إبداعًا.

لو كتبنا بدوافع أكثريّتُها نابعةٌ من دواخل ذواتنا، لَكُنّا أعمق وأصدق.

لو عشنا الحياة بعمق، لكتبنا بعمق، وبصدق.

لو كتبنا بـِ "معاناة"، لَتقلَّصتْ درجة معاناة المتلقّي.

لو كتبنا بلا تصنُّع، لكُنّا أقرب إلى القارئ وأكثر ألفةً.

لو انطوت كتاباتنا على أفكار وظرف ومتعة، لَما نأى الناس عن قراءة ما نكتب.

لو تحرّرنا من سيطرة معجِبينا علينا، لَنَجَوْنا من فخّ المحاكاة، ولَكُنّا مبدعين حقًّا وذوي بصمات خاصّة بنا.

القارئ والمسؤوليّة

ليس القارئ هو المسؤول الأوّل أو الوحيد عن حالتنا الكتابيّة المتردّية. لا ينبغي أن ننحى دومًا باللائمة عليه، وفي المقابل نبرّئ ساحة مَن يحبّون الكتابة ويمارسونها دون أدنى إتقان وإبداع وجمال. ولو كان محرّرو الصحف والمجلاّت والمواقع الإلكترونيّة أكثر جرأة وحزمًا في إقصاء أو رفض نشْر ما يخاله كاتبوه إبداعًا، لَجَنى الجميعُ فائدة... لَكان هذا أرْأفَ بالقارئ... لَعادَ بالفائدة على أصحاب النصوص التي لا تلامس الكتابةَ الإبداعيّةَ (وكذلك تلك النصوص التي قد تلامسها -لكن من بعيدٍ بعيدٍ)، إذ قد يعيدون النظر في ما تخطّه أقلامهم أو في نشره.

 

التشجيع والخداع

ليس من كرم الأخلاق أن نَضِنّ أو نمتنع عن تشجيعِ ذوي المواهب الكتابيّة الحقيقيّة، وتقديمِ أيادي العون لهم بقدر المستطاع وبمدى المُتاح، وحثِّهم على نشر محاولاتهم الكتابيّة المبشِّرة. من الواجب رعايتهم وإرشادهم بتقديم النصْح المُحِبّ إليهم. في الآن ذاته، ليس من اللائق، ولا من المُنْصِف، أن نُوهِمَ معدومي المواهب أو محدوديها أنّهم من فلتات الزمان. تلك عمليّة خداع -وإنْ لم يتعمّد فاعلوها الخِداعَ-. صحيحٌ أنّ الكتابة فعلُ حرّيّة، بيد أنّ هذا لا يكفي كيما تكون الكتابة إبداعيّة. في الكتابة المنشورة مسؤوليّة؛ وعلى مُمارِسها أن يتوقّع النقدَ الصريح غير المُجامِل. ومن المستحسَن أن يأخذ في اعتباره أنّ بعض القرّاء ليسوا بأقلّ منه ثقافةً واطّلاعًا، وأنّ بعضهم يفوقونه في هذا وتلك. من هنا، قد يكون القارئ ناقدًا، وإنْ لم يمارس النقد على هيئة فعل كتابيّ.

 

كتابة النثر... عيب!

من المؤْسف أن يظنّ بعضهم أنّ كتابة الشعر لا تقتضي سوى جملة من المشاعر، وأنّ الشعر المنثور هو أيسر أنواع الشعر كتابةً. ومن المؤسف أنّ الكثيرين من هواة كتابة الشعر (من بين الناشئة وغيرهم من الأكبر سنًّا) يستهلّون محاولاتهم الشعريّة باللجوء فورًا إلى كتابة الشعر المنثور، دون خوض أيّ تجريب في أيّ من الألوان الشعريّة الأخرى؛ بل دون أيّ دراية في هذه الألوان. تُغريهم لفظة "شاعر"، فيصرّون على كتابة كلام يصعب نعته بالشعر، إلاّ من باب التجاوز أو العجز في التوصيف. الشاعريّة سِمَةٌ قد يوصف بها النثر، والنثريّة سِمَةٌ قد يوصف بها الشعر المباشِر التقريريّ. والإحساس بالحبّ لوحده ليس تأشيرةَ دخول إلى دُنى الشاعريّة، ولا ضمانةً لكتابةٍ مبدعة. والشعر المنثور الذي يستحقّ أن يُنعَت بأنّه شِعرٌ حقٌّ ليس بأسهل ضروب الشعر؛ وقد لا أكون مبالغًا إن قلت إنّه أعسرها كتابةً. يحزنني شديدَ حزنٍ هذا الإصرارُ على كتابة الشعر دون النثر، ظنًّا منهم أنّ النثر أدنى منـزلةً منه. النثر الشاعريّ أسمى -بما لا يُقاس- من الشعر النظميّ البعيد عن الكشف والاكتشاف، والدهشة والإدهاش، والانطلاق والإطلاق. الشعر كما الحبّ: جنونٌ مُعَقْلَنٌ، أو عقلٌ يرتدي زيّ الجنون الجميل المنعتق.

 

الكتابة القصصيّة

أمّا الكتابة القصصيّة، فإن لم يكن مُمارِسُها "حَكّاءً" بامتياز، فإنّ جهوده الكتابيّة جهود مضيَّعة مهدورة عبثيّة (أو كما يقول الشبّان من أبناء العمومة في كلامهم المحكيّ، بين الجملة والأخرى، وفي كلّ سياق وسياق، بمناسبة وبغير مناسبة: "خسارة على الوقت!"). الفنّ القصصيّ هو فنّ السرد وما يتخلّله من حوار ووصف وتصوير. القصّة القصيرة التي لا تشدّ قارئها من السطور الأولى عُرضة للسقوط أو الإخفاق (وكذلك الرواية إن لم تأسر القارئ من فقراتها الأولى أو صفحاتها الأولى). الكتابة القصصيّة (والمسرحيّة) الناجحة تستدعي -في ما تستدعي- مقدرة ومهارة في إيقاع القارئ في شِباك الكلام. إن لم يُقرأ الكلام، فأيّ منفعة منه؟! إن لم تقدَّم الأفكار على طبق من الكلام الشائق الرائق الحاذق، فقد تمكث هناك طريحةَ الورق، فيغدو الكتاب مقبرةً لها -وهو الذي يُنتظَر منه أن يكون أجنحةً تطير بفضلها الأفكارُ إلى عناوينها المنتظِرة وغير المنتظِرة.

 

لَـيْـتَـنا...!

ليتنا نمتنع عن الكتابة، إن لم يكن لدينا ما يستحقّ أن يُقال! ليتنا نرأف بالقرّاء، ولا نساهم في تنفيرهم من قراءة الأدب! عدم الكتابة أرحم بكثير من الكتابة الرديئة التي تساهم في تخريب الذائقة العامّة، والتي تجعل القارئ ينأى عن قراءة الأدب والاهتمام به، ويتّخذ حِيـاله موقفًا ينطوي على خليط من النفور والتبرّم والإدانة، فيضيع الإبداع الكتابيّ الحقيقيّ (وهو قليل، بل استثنائيّ) في زحمة العبث الكتابيّ والرداءة الكتابيّة، ولا يحظى بما ينبغي أن يحظى به من الاهتمام والتقدير. الكتابة، إن كانت خِلْوًا من الفكر أو الشعور المرهَف والصياغة الأصيلة اللطيفة المتقنة، لَغْوٌ هي وفعلٌ عابثٌ عبثيٌّ.

لو قرأنا كثيرًا، وفكّرنا عميقًا، ثمّ كتبنا أقلّ... لأبدعْنا أكثر.

 

بقلم : هيثم عساف

 

في المثقف اليوم