أقلام ثقافية

فنانٌ يلاحق ماخفيَ من جمال بغداد

jawadkadom gloomكعادتي حينما يعتريني الشوق الى أصدقائي ممن بقي متعلقا بأذيال بغداد ولم يبرحها وأرى في نفسي بعض قوة توصلني اليهم؛ أقوم صباحا وأيمم وجهى صوب الكرخ عابرا جسر الشهداء مشيا على الأقدام متّجها الى مقهى حديثة فسيحة في الهواء الطلق تقع ضمن شارع المتنبي قبالة مقهى الشابندر العريقة حيث نلتمّ نحن الاصدقاء القريبون الى بعضنا معا لساعات وتأخذنا الاحاديث لجوانب شتى في الادب والسياسة وخصوصا الهمّ العراقيّ الذي لايريد ان ينتهي

غير ان الامر قد اختلف كثيرا في  الجمعة  السالفة وتحديدا صباح يوم  30/ 4/ 2016 فقد لفت نظري -- وأنا أتخطى ساحة الشهداء -- شابٌ مصوّر وقف في منتصف الجسر وقد ثبّت قوائم  كاميرته الثقيلة على رصيف الجسر وراح يقوم بتدوير عدستها الى جهات شتى ويلتقط بعينيه الحاذقتين صورا ينتقيها بعناية المتمرس الماهر

اقتربت منه مُحيّيا تحية الصباح ولشدّ دهشتي انه عرَفني على الفور ولهج باسمي مرحّبا وسعيدا بقدومي ، قال لي

977-jawad1

_ انا يسمونني "مصطفى الصميدعي" أعمل وأمارس هوايتي وحدي ولست مدفوعا او منتميا لايّ حزب او جهة سياسية معيّنة وكما ترى أهوى التصوير الفوتوغرافي الى حدّ الهوس وأتنقل من مكان الى اخر موصلاً الليل بالنهار بحثا عن اية مسحة جمالية شاردة في اجواء بغداد الخانقة والكئيبة وأتلصص كثيرا هنا وهناك لعلي اصطاد بريق ضوء وأظهره عيانا امام الملأ في خضم العتمة الطاغية

واصل كلامه مردفا  انه جاء مبكّرا هذا الفجر وقام بتصوير شروق الشمس من منطقة قناة الجيش في الرصافة مثلما صوّر امس غروبها فهو مقيم شبه دائم هنا وقليلا مايغادر مكانه الاّ لتصوير ظواهر اخرى تلفت نظره ويرى فيها لمسات ابداعية تسرّ الانظار وتريح النفوس ولم ينسَ أصدقاءه النوارس التي تصفق بأجنحتها لمقدمهِ وتكاد تلامس كفّيه الكريمتين وهو يحمل في باطنهما الخبز والعجين المكوّر  لتلتقطها بسهولة وأمان من يديه عرفانا بالجميل لها وهي تعود الى دجلة بعد غياب طويل عن شاطئها

977-jawad2

 

وكثيرا مايجول مصطفى في الاسواق والمناطق المختلفة بعد ان ينجز مايريد ويحصل على مبتغاه من صور ليرى ماتفرزه هذه الحياة القاسية على ابناء جلدته ويُظهر مفارقات وغرائب المآسي والملمات التي لاتنفك تلازم طبقاتنا الفقيرة المظلومة وقد طفحت دمعة من عينه وهو يروي لي كيف انه رأى امرأة عجوزا تحتمي بصندوق من الورق المقوّى مما نطلق عليها  " كرتونة " أخذتها من نفايات أسواق الشورجة وتجلس بداخلها بحيث صارت تلك الكارتونة مأوى وسكنا لها تقيها البرد الشديد ، هذه المرأة فقدت عائلها وحرمت حنان الأسرة والبيت ولم تجد سوى تلك الاضمامة التي لقيتها من المزابل ملاذا لها

ولكي يؤكد مايقول ؛ أظهر من جيبه هاتفه النقال وأراني الفيديو الذي قام بتصويره وقد اتخذت هذه المرأة ركنا فارغا وسط الشارع القريب من تمثال الرصافي المسمّى شارع الأمين المتفرع من شارع الرشيد؛ والسابلة المارون ينظرون اليها بأسى ومنهم من يهزأ بها وآخرون لايعبأون بحالها وكأنّ شيئا لم يكن ، وقد لمست من خلال رؤيته جهدا احترافيا ملموسا بكل وضوح من حيث اختيار الموسيقى التصويرية وحسن انتقاء لوحة القصة او مايسمى " Story board " وانتقاء الموسيقى وكلام " Voice over " المصاحب للفيديو اضافة للدقة المتميزة في التصوير بكل احتراف ومرانٍ مسبق

أطلت الحديث والمكوث مع هذا الفتى الفنان المصوّر الذي أنهكه التعب وسلبه السهر والانتظار بحثا عما يجمل بغدادنا ويمسح عن وجهها وعث التراب المنتشر في سحنتها وطلعتها البهيّة الخافية عن الانظار ونسيت موعدي مع اصدقائي وعليّ ان اعتذر لهم عن تأخري لاني لقيت واحدا يسعى بكل جهده ودون ايّ مقابل مادي ان يظفر بكل مايسعدنا كي نرى عاصمتنا الغالية تغسل جسدها وتزيح شيئا من الادران العالقة في حلّتها ففي كل هذا الظلام الطاغي توجد ومضة لامعة لابدّ من إظهارها حتى لو أنهكَــنا البحث وأرهقنا التعب ووصلنا الليل بالنهار سهرا وانتظارا

 

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم