أقلام ثقافية

الركود الحضاري!!

sadiq alsamaraiالأرض تدور وتعطينا أياما وأعواما وعقودا وقرونا، والأحداث تحصل ولها أسباب ووقائع، ونتائج تتفاعل مع مفردات الواقع بأبعاده الزمانية والمكانية، لتؤدي إلى صيرورات تدفع نحو وقائع ونتائج أخرى وهلم جرا.

هكذا هي دورة الحياة البشرية والمسيرة فوق الأرض شئنا أم أبينا، دورة بقاء متكاملة بكل حلقاتها الإفنائية والإستيلادية والتدميرية والبنّاءة.

إنها دورة في حلقة مفرغة وعلى بقعة كونية نائية تشعر بالخوف والوحشة والرعب في هذا المحيط الكوني الهائل، وهي لا تدري إلى متى ستستمر في عزلتها، ومتى ستصطدم بجرم سماوي فيقضي عليها، أو وحش كوني هائل يفترسها أو يفتتها، إنها لا تدري حقا.

لكننا أصبحنا ندري أن في الكون دورات إستحالة متفاعلة، فالأكوان تدور في حلقات تفاعلية مفرغة ثابتة تصنع بقاءً وجوديا عاليا، ولولاها لتحققت النهايات وإنعدم البقاء الكوني.

إن الحلقات المفرغة هي جوهر السرمدية وعنوان الأبدية، ولكي تدوم الحلقات المفرغة، لابد من تكرار التفاعلات الكيميائية وتواصل إفرازها للعناصر الوجودية اللازمة، والداخلة في تفاعلات كيميائية لتأسيس مركّبات ستؤدي إلى تفاعلات أخرى حتى ينتهي كل شيئ إلى حيث البدايات، فالعناصر المفردة تختزن طاقات لتفاعل جديد وصيرورة أخرى، ولكن بذات العناصر والذرات والجزيئات.

إنها عملية إستحالة ودورة إبتداء وإنتهاء أبدية.

هكذا نحن ندور مثلما الأرض تدور صانعةً الزمن الأرضي المحسوس، تدور وتحقق فعلها وتأثيرها فينا، ودورتها في أعماق وجودنا الذاتي والتأريخي، وبسبب دورانها نحن نمر بمراحل تأريخية حضارية، ونخرج منها إلى مراحل أخرى أكثر قوة وتجربة ووعيا، وإقتدارا على إنجاب مراحل جديدة.

إن الدوران الأرضي والحركة الفلكية الزمنية، تمنح الوجود والتجدد والصيرورة الأرقى للأشياء، حية أو جامدة كانت.

ولا يمكن للوجود الأرضي أن يتمحور حول مرحلة ماضية داستها عجلات الأرض، وأنجبت غيرها من مراحل الوعي واليقظة والإدراك، والترابط والتفاعل الحار الجديد على سطحها.

هذا التفاعل الذي يتطلب من الأحياء أن تتعامل معه على أنه حالة كائنة ومعاصرة ومنبثقة من زمن آخر، فيها مفردات سابقة ومركبات متجددة من ذات العناصر والمكونات، التي أنتجت وألفت ما ألفت في لحظة من لحظات الزمن الأرضي.

فطبيعة الأشياء الأرضية، تستوجب أن يكون الماضي ماضيا والحاضر ذات يوم ماضيا وأبعاد الزمن الثلاثة، ما هي إلا حركات وجودية ماضية، لا يمكنها أن تتوقف أو تتصنم، لأن الأرض تدور وفي كل دورة من دوراتها هناك جديد، أو هناك قديم يتجدد أو آت يتحقق، أو قل ما شئت، لكن الأشياء لا يمكنها أن تبقى على حالها، بل تستحيل إلى حالة أخرى ذات مفردات وعناصر واحدة لاغير.

وهذا القانون الأرضي المستمد من القانون الكوني الأكبر ينطبق على الموجودات، وعلى كل فعل وسلوك بشري وفي أية لحظة قائمة، حيث لا يملك المخلوق القدرة على إيقاف حركة الأرض، ولا يمكنه أن يسترجع الماضي مثلما كان، ولا يجوز أن يتعامل مع أية مفردة زمنية من خلال مفردة لاحقة أو سابقة لها، لأن في ذلك إجحاف وتضليل وتشويه.

فالأحداث لا يمكن أن توضع تحت منظار زمني مختلف، لأن ذلك يدفع إلى الزوغان البصري وإضطراب البصيرة، ويمكن النظر إليها من خلال تلسكوب إدراكي ذو عدسات زمنية، وأنبوب يتناسب طوله ومدى إبتعاد تلك الأحداث زمنيا عن الزمن الحاضر المتحرك الذي لا يدوم في مكانه.

أي الحركة هي أساس الحياة، وأصل بقائها وقوة تواصلها، وبدون الحركة يتحقق الموت والإنقراض، ولهذا فأن المخلوقات لا يمكنها الإمساك بالماضي، لكنها تستطيع تجاوزه، والنظر إليه من خلال تلسكوب زمني وبعدسات ذات أبعاد بؤرية متناسبة مع المسافة ما بين ذلك الوقت المنتهي والوقت الذي في طريقه إلى الإنتهاء.

وهكذا فأن المراحل الزمنية، برغم دورانها على نفسها وحركتها في ذات الدائرة المفرغة، لكنها لا تتوقف، بل تتطور وتمضي في مسيرة الميلاد والإنتهاء، ومن هنا فأن البشر لكي يتواصل مع الحركة الزمانية، لابد له أن يتجاوز وينتقل إلى مراحل متناسبة والمرحلة الزمنية التي يحقق وجوده فيها، وعليه فأن الإمساك بأقدام الماضي حالة متعارضة ومتناقضة تماما مع طبيعة الوجود وقوانين الكون الفاعلة في أوعية الأبد.

ومن هنا فليس من الصائب لمجموعة من البشر في زمن ما أن تعيد قراءة مرحلة بشرية ماضية ما وتستخلص منها ما تراه بعين مرحلتها، التي هي فيها وليس بعين تلك المرحلة الماضية.

وهنا يحصل خلل تدميري وإضطراب تفكيري وإستنتاجات لا عقلانية، وإنما عاطفية وإنفعالية، لأن العقل لا يمكنه أن يرى ما حصل قبل ألف عام مثلا، إن لم يكن عبدا مسخرا للعاطفة التي تريد أن تحقق شيئا وتستخدم العقل لغاياتها، وتحاول أن تزجه في ما لايطيقه ويقدر عليه، فينتهي إلى رؤى خاطئة وخلاصات مؤذية وأحكام لا تصلح للحياة.

إن قراءة ما يمضي لابد أن يأخذ بنظر الإعتبار المسافة ما بين الحالتين، والتي أثرت على العقول والنفوس البشرية، وحوّلت وجودها إلى غير وجود الآخرين الذين عاشوا على ذات البقعة قبل ألف عام أو يزيد.

فلا يمكن لأبن اليوم أن يتحدث عن السومريين والبابليين والفراعنة وكأنه يعرفهم كمعرفته لنفسه، ويبدأ بتنظير ما يراه بعين الحاضر، وهو جاهل كل الجهل، لمكونات ومفردات حالة الماضي التي أنجبت تلك الصيرورات الحضارية.

وعندما نقترب أكثر إلى ما حصل في زمن الحضارات التي تحققت فوق الأرض في الألفين سنة الماضية، ليس من الإنصاف أن نراها بعين الحاضر ونتعامل معها بعقل وروح ونفس اليوم، ونتصورها وفقا لمرآتنا الإنفعالية وصوتنا العاطفي، وعقلنا المسخر لتأدية واجبات التبرير والتزوير والخداع والتضليل والتلفيق والتغيير من أجل تمرير لعبة رؤيتنا وإتجاه نظرنا.

إن الماضي حالة مضت ولا يمكن إستحضارها إلى الزمن الحاضر وإتخاذ المواقف والإتجاهات على ضوئها.

فالذي يقرأ الماضي عليه أن يقرأه بعيونه لا بعيون الزمن الحاضر، وعليه أن يرحل إلى الماضي لا أن يستحضر الماضي إلى مسرح الحاضر.

هذا الإضطراب يتسبب في كثير من التصورات والإستنتاجات الخادعة المضللة، التي تؤدي إلى الإجحاف والتقصير والتجني وتحميل الماضي ما لايطيقه وزرقه بالملوثات أو المحسنات، وفقا لمنهج الرأي الحاضر والإنفعال الفاعل مما يؤدي للإساءة البشعة إلى الماضي.

إن مَن يريد معرفة الحقائق عليه أن يرحل إليها لا أن يدعوها للحضور، لأن ذلك مستحيل أرضي وبشري، ونحن بشر، وما نجهله أعظم بكثير جدا مما نعلمه.

نحن لا ندري ونتوهم كثيرا بأننا ندري، وتلك أم المآسي البشرية، وستبقى حالة أبدية الطباع والصيرورات حتى تقرر الأرض حكمها بما يجري على ظهرها من التعسف والإجحاف والمغالطات والمكابرات!!

"فقلْ لمن يدّعي في العلم فلسفةً...حفظتَ شيئا وغابتْ عنكَ أشياءُ"

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم