أقلام ثقافية

راءٍ ومرأى ومرآة

حامد فاضلفي زمن حصار الفكر والقلب والروح والجسد. التجأت إلى صدر أمي الرملي الشاسع، هرباً من الأخطبوط، الذي تشل الصحراء أذرعه.. هناك كنت كأي كائن صحراوي طليق. اتماهى مع كل ما أُثثت به سجادة الرمل الخرافية، التي دحاها الخالق في لحظة خلق. أغذي البصر بكل ما يتمرأى في مرآة الرمل المسفوحة، من سائر، أو كامن، أو طائر، أو زاحف.. أخبئ في جراب البصيرة ما يتلفظ به صديقي البدوي القواف، من مفردات ومعان غير مألوفة أو متداولة، أصرها ذخيرة لقصة أو رواية، ربما تولد من رحم الابتكار.. لا توءمة بين حكايات الصحراء وحكايات المدينة، ولا شبه بين يوم الصحراء ويوم المدينة.. في الصحراء إذا انسلخ الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لكدَ آخرُ حلم في قافلة الأحلام راحلته، ونأى عن واحة أجفاني، فأنهض لاستقبال صباح الصحراء. أسير كأني أعدو خلف القواف، الذي يسير بخطوات ذئب، وفي الظهيرة الناصعة كغرة فرس بلون الحليب، ألوذ عن خزرة عين الشمس بالخباء الذي ينصبه القواف على عصاه، ، وعند المغرب أتساءل والدهشة تفتح عيني على سعة، أية غير يد الله قادرة على أن  تحوّل الشمس السافرة إلى عذراء خجول، تستر وجهها (بوشية) الغروب، وحين ينزل الليل في البادية. وما أدراك ما الليل في البادية، جمر غضا، لحم قطاة، خبز مليل، ماء قراح، دلة قهوة، رشفة فنجان، لفافة تبغ، وحكاية ساحرة..  وإذ يثبّت الليلُ خيمته بأوتاد الآفاق. ترقد كائنات الضياء، وتستيقظ كائنات الظلام، وحين ينعكس ضوء القمر السابح في بحر السماء المقلوب، يحول مرآة الرمل المسفوحة، إلى حلبة صراع بين الآكل والمأكول، وعندما يقوض الليل خيمته ويرحل، و يحل الصباح ضيفاً على البادية. يعود الذي ظل حياً إلى وجره، ويفرغُ وجرُ مَنْ التهمته البطون.. وقد استرجعتُ ما اختزنته ذاكرتي، من سرى ليل الصحراء وسروب نهارها، لأحيك في رواية (بلدة في علبة) محاولة الهروب إلى السعودية عن طريق صحراء السماوة، التي أثارت اهتمام الناقد د. فاضل عبود التميمي، وكانت الحافز الذي دفعه إلى كتابة مقالته، التي نُشرت في جريدة القدس العربي تحت عنوان (بلدة في علبة) الرواية وثقافة الصحراء.

ومما قاله: (إذا كانت رواية العراقي حامد فاضل “بلدة في علبة” قد قدّمت سيرة مدينة السماوة، فإنّها في الوقت نفسه واجهت المتلقي بدءا من صفحتها الأولى بمستوى لغويّ لا يمتّ إلى المدنيّة بصلة، ينفتح على ثقافة الأمكنة الصحراويّة، ليشير إلى طبيعة وظائفيّة تأخذ نسقها من السياق العام للسرد، لتشكل في النهاية مجموعة دلالات تأخذ على عاتقها تقديم المضامين في الرواية وكأنها منفصلةٌ عن غيرها، ومتّصلةٌ بالهيكل العام للمادّة المسرودة، وقد استمدّت صورتها من فضاءات الصحراء، فهي علامة فارقة من علامات تشكيل الرواية الذي يحيل على ثقافة مجلوبة من جغرافية البادية العراقيّة الجنوبيّة التي تحيط بالسماوة من جهاتها الأربع).

 وقد افترشت رمال صحراء السماوة مساحة واسعة من فصول رواية (لقاء الجمعة) المعدة للنشر، من خلال جسور الشوق والهيام، التي ربطت بين ضفة قلب الفتى الحضري السماوي، وضفة قلب الفتاة البدوية البصوية1  في قصة حب ربطت طارف نضال قوى اليسار العراقي بتليده. وفي متوالية فصول الصحراء، ما بين هجير الصيف وسرابه، عري الخريف وعبوسه، برد الشتاء وصقيعه، وزهو الربيع واغرائه، الذي يجذب قوافل القبائل المزنرة لخصر السماوة، فما إن يؤذن مُؤذّن ربيع البادية في الأعراب حتى يأتون على الأفراس. يسوقون قدامهم قطعان الأغنام والماعز، وخلفهم الأباعر المحملة بالهوادج، والحمير المحملة بالخيام، والكلاب التي تشم الأرض، وتتفرس في الوجوه، وربما أدرك الصباح ديكاً ظل جاثماً طوال الليل على ظهر بعير أو حمار، فأطلق العنان لصوته، ليجاوبه ديك قافلة سابقة أو لاحقة.. قوافل الابل القاصدة إلى البر تترى، تمر من قدامي، تبصم بخِفافها على مريا الرمال.. وفي البر الواسع، المفتوح، المفروش بسجاجيد الربيع، تلوح للعين قطعان الأنعام السارحة في حضن الفيضات وقرب الآبار.. لحظة وقفت عند فم البئر الذي حفرته صاعقة نجم هوى من السماء ولدت فكرة (بئر الوجاجة)، التي كتب عنها الأستاذ الباحث ناجح المعموري مقالته التي نُشرت في جريدة المدى تحت عنوان أسطورة الصحراء في  (بئر الوجّاجة).

التي قال فيها: (أسطورة الوجّاجة من إنتاجات المبدعين الذين اكتشفوا أحلام سردياتهم وكيف يجب أن تكون.. هذه الأسطورة الخلاقة استحضرت معها عديداً من الأساطير العراقية والشرقية وعلينا أن نحتفي بمنتجي هذه الأساطير/ السرديات التي فتحت لنا نوافذ على تجربة نستطيع أن نقول بأنها جديدة وعراقية).

 وهناك في نقرة السلمان وعند الطواف في آثار سجنها الشهير ولدت فكرة (ما ترويه الشمس ما يرويه القمر) التي كتب عنها الأستاذ الناقد ياسين النصير مقالة طويلة نسبياً. نشرت في جريدة الزمان.. تحت عنوان ما ترويه الشمس ما يرويه القمر.

 حيث قال: (يعد حامد فاضل من اكثر القاصين دخولا للصحراء، المكان المبهم الكبير، السري الغامض، المكشوف حد التعري، والمدفون حد الأسرار. لغة الصحراء هي الصمت، هذا الصوت الكوني الدال على الوجود، لذا فهي ليست مساحات فارغة، كما تراها العين غير الرائية، بل هي امتلاء مملوء بصخب الموروث ومنزوع من خلاء كوني كبير. ولما كنا في أمكنة مثل هذه، من الطبيعي أن يلجأ القاص إلى راوٍ، خبير، وإلى أدوات بحث مجربة، وإلى حكاية بمكنون. فالصحراء كمكان مكون من ثلاثة مفردات:

1 ــ حكايتها الذاتية.

2 ــ أسماؤها الثابتة وعلاماتها.

3 ــ عراف فهيم هو "العَقّابْ"  الذي يتعقب الهاربين أو الأثر.

 هذه المفردات الثلاث هي ميزات ما فعله حامد فاضل فينا نحن القراء أنه جعلنا نضيف قصصا منا إليها، بالرغم من أننا لم نعش في الصحراء).

 قادني الطواف بين كارات2 الصحراء وظهراتها3 وكهوفها وآبارها وآثارها إلى انجاز كتابي المكاني (مرائي الصحراء المسفوحة) الذي اسماه زميلي الناقد جاسم عاصي بالمكان غير الموطؤ في مقالته التي نشرها في جريدة طريق الشعب.

ومنها: (ما نقصد بالوطء هنا: المكان العراقي "الصحراوي" الذي لم تطأه الكتابة، باستثناء مرائي "حامد فاضل" فأسطورة الصحراء وطقوسها وشعيراتها على مدى حياة قاطنيها، أفرزت رؤى متعددة، هي بمثابة معتقدات وولاء يستنبت بنى مثيولوجية سابقة للدين كمعتقد وسبيل لإدارة الحياة. أما "حامد فاضل" فقد تسلل من بيئة مجاورة للصحراء. تشكّلت بنيتها الأساسية من مجموع المؤثرات الصحراوية عبر مفردات وفعاليات وعادات ومسميات اتخذت لها سبيلاً  للتسلل إلى المدينة الحضرية ضمن كل امتداداتها المدنية. فالصلة بين المدينة هنا وبين البيئة لم تنقطع، بل سرى أثرها، بسبب ما لحق للأمكنة داخلها من ثبات، سواء بتأثير الحراك الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي كسجن نقرة السلمان مثلاً).

 وعن الكتاب نفسه، قال الأستاذ الناقد ياسين النصير في مقالته المنشورة في جريدة الزمان تحت عنوان الصحراء كوناً سماوياً أرضياً مجهولاً:

(سيكون علي منذ الآن أن أعلن أننا بصدد نص مكاني بامتياز، هذه خطوة يحققها المرواتي المكاني حامد فاضل، لتأكيد حضور النص المكاني في ثقافتنا العربية، وأي حضور، من يقرأ هذه النصوص سيكتشف أننا بإزاء كاهن مكاني قرأ عبر خبرته صحراء بدت لنا نحن الجاهلين بها، أنها مسطحة ورملية، بينما هي في رؤيته كونا سماويا أرضيا مجهولا.)

 وعن (آخر المستحمات في حمام زبيدة ) نشرت الناقدة المصرية دينا نبيل في صحيفة المثقف دراسة بعنوان الأسطورة في آخر المستحمات في حمام زبيدة ومنها هذا المقتطف:

(آخر المستحمات في حمام زبيدة، تتمظهر فيها الأسطورة العربية الأصيلة والتي اعتمدها الكاتب في تأصيل فكرة المقابلة بين الماضي المزهر والحاضر المؤلم بكل مفارقاته، وقد نجح الكاتب باقتدار في توظيف الخط الواقعي بمحاذاة الخط الأسطوري بحد يصعب العثور عليه مما أعطى العمل فنية عالية . أضف أنه نجح في خلق أسطورة جديدة والتي كانت هي بطلة هذا النص، ولكن يبقى النص بحاجة إلى دراسات كبيرة ومتنوعة عليه ذلك لثرائه المتميز وتعدد التأويلات فيه، وهذا إبداع من القاصّ الكبير حامد فاضل).

 وأختم هذه الشهادة برأي الأستاذ الناقد فاضل ثامر عن المتوالية الحكائية ألف صباح وصباح والذي أعتمد كتقديم للكتاب الذي صدر عن أتحاد الأدباء تحت عنوان حامد فاضل ولعبة مروياته الصباحية: (يستعيد حامد فاضل الكثير من اللعب السردية التي وظفت في الف ليلة وليلة وهو يلجأ الى ادراج حكاية داخل حكاية كاشفا عن ملمح ميتا سردي. فهو يبتدئ بالسرد لكنه سرعان ما يحيل الحكي الى حكاء آخر يكون اكثر التصاقا وقربا من الحكاية ذاتها ولخلق سرد من الدرجة الأولى بتعبير جيراد جنيت).

 

حامد فاضل

 

في المثقف اليوم