أقلام ثقافية

باسم يوسف ونديم قطيش

محمد العباسيمنذ الثمانينات حين كنت أدرس في كاليفورنيا.. تكوّن عندي عشق للبرامج الكوميدية وعروض الـ "ستاند أب كوميدي"، حيث يظهر أحد الكوميديين على المسرح ويسخر من كل شيء.. يسخر من نفسه كمادة للضحك.. ويزج بتعليقات عن أسرته أو أصحابه.. وقد لا تكون أغلب تعليقاته حقيقية لكنها من أجل إثراء المواضيع المثيرة للضحك.. وينتقل البعض إلى التعليق على البرامج التلفزيونية والأحداث السياسية أو حتى الرموز السياسية والدينية.. ويعلم المشاهد بأن الهدف ليس الازدراء بل المتعة.. بل قد ينقلب الوضع ويسخر المؤدي من بعض أفراد الجمهور أمامه بالصفوف المتقدمة.. لا "يزعل" منهم أحد ولا يؤخذ الموضوع بشكل شخصي أبداً!!

ربما كان أقرب ما كان لدينا في السابق هو "المنولوجيست" أمثال "محمود شكوكو" أو مقلدي أصوات الممثلين.. ومن ثم كانت بعض الفقرات الفكاهية في بعض المسرحيات حيث يوجه الممثل تعليقاته صوب المشاهدين بشكل مباشر خارجاً عن النص.. ولعلكم تذكرون تعليقات "أحمد بدير" على أهل صعيد مصر في مسرحية "الصعايدة وصلوا" أو المواقف الساخرة في مسرحيات "طارق العلي".. وهكذا.

في خضم الربيع العربي البائس وما انقلبنا إليه من بؤس بزغ نجم جديد وبرنامج لم يعهده العرب.. برنامج اسمه بكل بساطة "البرنامج" للدكتور الجراح "باسم يوسف".. في النسخة العربية من برنامج الكوميدي الأمريكي "جون ستيوارت".. نجح "باسم يوسف" في سخريته من عالم التناقضات والأكاذيب بالذات في عالم الصحافة والفضائيات واللقاءات التلفزيونية والخطب السياسية.. وشاءت الظروف أن يجد في مغالطات فترة حكم "محمد مرسي" والإخوان المسلمين مادة خصبة لا تنضب للسخرية.. ونجح في فترة قصيرة جداً أن يجذب الملايين ممن عشقوا برنامجه لأنهم ربما كانوا مشدوهين بإمكانية السخرية من الرموز الحاكمة ببعض الحرية (و ربما هذه كانت حسنة تُحسب لصالح فترة حكومة الإخوان).. وفي المقابل ظهر في ذات الوقت الآلاف ممن لعنوا "أسلاف أسلافه" ممن تضرروا و"انفضحوا" وانكشفت ألاعيبهم وتمثيلياتهم الملحمية الكاذبة المتناقضة .

ومؤخراً عبر قناة "الحدث" الإخبارية وبالتعاون مع قناة "المستقبل" اللبنانية بات الإعلامي "نديم قطيش" يسخر من الأخبار والقنوات التي تتناقض لديها الأقوال والمواقف.. بالذات المحطات السورية منها وتلك التابعة لـ "حزب الله" و"إيران".. برنامج ساخر اسمه "دي إن إيه (DNA)".. البرنامج يركز على كم الكذب والنفاق واللعب على الذقون و"الدلس الإعلامي" من حولنا.. وربما كان هذا البرنامج الجديد نوع من التعويض لدى محبي ومتابعي برنامج "البرنامج" الذي تم قطعه منذ بداية حكم "السيسي"!!  فبرغم تأييدنا للرئيس "عبدالفتاح السيسي" وتمنياتنا لحبيبتنا "مصر" بالنهوض والنجاح في المستقبل القريب، غير أنه ما كان يجب على الحكومة المصرية أن ترضى بالمجاملة الإعلامية لها عبر محاربة برنامج "البرنامج".. على الأقل حتى لا يؤخذ عليها بأنها تحارب هذه الحرية "الجديدة" في مهدها !!

شخصياً.. أعتقد أن من أحد أسباب التصدي لبرنامج "البرنامج" كانت حلقاته الساخرة من إدعاء القوات المسلحة المصرية أن أحد "علمائها" (المشكوك في تاريخه ورجاحة عقله) أنه اخترع جهازاً "خرافيا" لعلاج أخطر أمراض العصر مثل الإيدز والسرطانات بشكل سحري لا يقبله عقل!!  ومن منطلق كون "باسم يوسف" طبيباً جراحاً تحدى هذه الإدعاءات "السمجة" واعتبرها أكبر "اكذوبة" علمية لم تكن تليق بالقوات المسلحة المصرية المعروفة بانجازاتها العلمية والعسكرية المتعاقبة.

نعم .. أنا ممن عشقت هذه البرامج الساخرة ولعلي أعبر عن الكثيرين ممن يأسفون للمشاكل التي واجهت المحطات التي تجرأت على تبني هذا التحدي وأخيرا نأسف أشد الأسف على منع برنامج "البرنامج".. واليوم أخشى أن تتغير الظروف السياسية وتأتي المصالحات كالعادة بين "الأخوة الأعداء" في منطقتنا ويتم منع برنامج الـ "دي إن إيه" للبناني "نديم قطيش" في ذات السياق.. فهذا حاضر ومتكرر الحدوث في منطقتنا.. فمثلاً تمت محاربة قناتي "صفا" و"وصال" الدينيتين لتصديهما للقنوات المناهضة للسنة والعرب.. واللتين عملتا بخالص النية على كشف عورات وادعاءات المحطات "الصفوية" المدعومة فارسياً ضد دول الخليج العربية وبالذات المملكة العربية السعودية.. والغريب أن مثل هذه القنوات لم تسلم من النقد والإيقاف والمنع بتهم بث التفرقة والطائفية بينما لم يلتفت أحد صوب عشرات القنوات الصفوية الطائفية المقيتة التي تتجاوز الخمسين والمنتشرة عبر العالم بدعم واضح من الحرس الثوري لولاية الفقيه.

لا نزال نجد في عالم الفضائيات العشرات من المحطات والقنوات والبرامج التي تحث على الإرهاب والعنف والطائفية والتطرف.. كثيرٌ منها تعتمد على الكذب والنفاق والهلوسة الإعلامية دون أن تجد من يطالب بمنعها.. بينما تتم محاربة البرامج التي تكشف السوءات الإعلامية وإن كانت ساخرة ترفيهية!!

 نعم .. العرب ليسوا مستعدين ولا يملكون النضوج بعد لتقبل هكذا برامج تفضح أمورهم وأكاذيبهم وخداعهم ولو بطرق ساخرة.. فعلى الأقل كان "باسم يوسف" يخرج علينا بوجهه "الباسم" أمام جمهور "حي" مستمتع ضاحك.. لقد فقدت الأمة جوهرة ظهرت من بين ركام الربيع العربي.. وقضوا على أجمل وأرقى ما يمكن أن ينتج عنه !!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم