أقلام ثقافية

الجمعية الامبراطورية الارثذوكسية الفلسطينية – الروسية

ضياء نافعتأسست الجمعية الامبراطورية الارثذوكسية الفلسطينية (هكذا كان اسمها الرسمي) في الامبراطورية الروسية العام 1882، وتقدّم هذه الجمعية نفسها على انها منظمة دينية و علمية وانسانية هدفها مساندة وتوسيع وتسهيل حج الارثذوكس الروس الى الاراضي المسيحية المقدسة في فلسطين، وكذلك التعاون مع شعوب الشرق الاوسط في مجالات الاستشراق وتوطيد العلاقات الثقافية والانسانية معها . واستمرت هذه الجمعية  بالعمل النشيط والمتشعب جدا في فلسطين وسوريا ولبنان وافتتحت الكثير من المدارس الاهلية الارثذوكسية (والتي كان التدريس فيها يجري باللغة الروسية) الى العام 1917، اذ توقفت عن العمل بعد  ثورة اكتوبر 1917 في روسيا، وتأسيس دولة الاتحاد السوفيتي وما أعقبها من أحداث هائلة وتغيّرات جذرية في المجتمع الروسي والعالم، وهي احداث معروفة للجميع، وهكذا تحولت الجمعية بعد ثورة اكتوبر1917 الى (جمعية فلسطينية روسية داخل اكاديمية العلوم السوفيتية) ليس الا، ولم تستطع واقعيا القيام بدورها السابق طبعا . لكن بعد انهيار دولة الاتحاد السوفيتي عام 1991، أعادت هذه الجمعية كيانها من جديد، واستعادت اسمها التاريخي الرسمي (الامبراطوري!) العتيد كما كان قبل ثورة اكتوبر1917 بالضبط،

  وعادت الى الحياة  في دولة روسيا الاتحادية، وبدأت بنشاطها مرة اخرى بعد توقف دام حوالي مئة عام تقريبا، ونحاول في هذه المقالة التوقف عند هذه الجمعية (القديمة – الجديدة !) والاطلاع على نشاطاتها، وتسليط الضوء (كما يقول التعبير الشائع) على ما تقوم به هذه الجمعية من أعمال في منطقتنا في الوقت الحاضر، بعد عودتها الى العمل من جديد.

الجمعية كانت تؤدي نفس الادوار التي كانت تؤديها البعثات التبشيرية العديدة في الشرق الاوسط بشكل عام، والتي تعرفها شعوبنا منذ نهاية القرن التاسع عشر، والتي كانت مرتبطة بدول مثل انكلترا وفرنسا والمانيا والولايات المتحدة الامريكية وغيرها، وجاءت روسيا متأخرة عن تلك الدول، وهكذا بدأت بذلك النشاط منذ 1882 فصاعدا، وهي سنة تأسيس الجمعية المذكورة .

 لقد لعبت كل هذه البعثات التبشيرية دورا كبيرا في توسيع المجالات الثقافية في العالم العربي بلا شك، ولكنها لم تكن بعثات تبشيرية بحتة، وانما كانت تساهم (ولو بشكل غير مباشر) في التخطيط  العام لبلدانها في عملية التوغل والتوسع في العالم العربي، وربما يمكن القول، ان طبيعة الاوضاع العامة منذ نهاية القرن التاسع عشر صعودا كان يسمح لهذه البعثات التبشيرية بالعمل في العالم العربي آنذاك، حيث كانت بلداننا في وضع سئ جدا (ضمن اطار الامبراطورية العثمانية)، الا ان الاوضاع قد تغيّرت بشكل جذري، خصوصا منذ النصف الثاني من القرن العشرين صعودا، وان التطور العلمي الهائل، الذي حدث في الوقت الحاضر خصوصا، قد خلق ظروفا جديدة ومختلفة كليّا و جذريا، بحيث انتفت الحاجة  للعودة الى احياء دور مثل هذه الجمعيات التبشيرية، ونضرب على ذلك مثلا واحدا فقط، وهي قضية  الحج  و زيارة الاماكن المسيحية المقدسة في القدس، اذ يستطيع الان كل مواطن يحمل جواز السفر الروسي ان يسافر الى هناك متى يشاء ودون الحصول على تأشيرة الدخول والخروج (الفيزا) وذلك تنفيذا للاتفاقية بين روسيا الاتحادية و اسرائيل، علما ان عدد اليهود الروس الذين هاجروا الى اسرائيل منذ سبعينات القرن العشرين (من الاتحاد السوفيتي آنذاك) ولحد الان  يبلغ حسب الارقام الرسمية سدس عدد السكان في اسرائيل (اكثر من مليون وربع)، وان اللغة الروسية اصبحت اللغة الثالثة هناك، وتوجد الان عشرات الصحف والمجلات ودور النشر والمسارح باللغة الروسية، وهناك عشرات الشركات السياحية بين البلدين، والتي ترتبط بها وسائل النقل المتطورة من طائرات ووكالات خدمية للسياح والدعاية...الخ، بل هناك حتى مستشفيات خاصة لعلاج المرضى الروس، اي ان اهداف الجمعية، والتي تأسست من اجل تحقيقها قد اصبحت حقيقة ماثلة للعيان على الارض فعلا، فما هو اذن دور الجمعية الان؟ علما انه توجد الان في روسيا الاتحادية مؤسسة رسمية غنية وضخمة اسمها (العالم الروسي)، وهي مسؤولة عن موضوع نشر اللغة الروسية في العالم، وقد اسست هذه المنظمة عشرات المراكز الخاصة بتعليم اللغة الروسية، بما فيها في عواصم بعض الدول العربية، وبالتالي، فان مهمة نشر اللغة الروسية، التي كانت تمارسها هذه الجمعية في الماضي لم تعد ايضا مطروحة في عصرنا .

عالمنا العربي لا يحتاج الى الخطاب الديني من قبل جمعيات تبشيرية اجنبية، سواء كانت انكليزية او فرنسية او روسية او مرتبطة باي دولة اوربية او امريكية، اذ ان الشعار الذي رفعه الليبراليون العرب  منذ فترة طويلة، وهو – (الدين لله والوطن للجميع)، هذا الشعار لازال لحد الان صحيحا وضروريا، رغم كل المحاولات البائسة هنا وهناك لتشويهه او لتقليل اهميته، ويمكن (بل ويجب) ان يحل (بدل ذلك الخطاب الذي تقترحه تلك الجمعيات التبشيرية) - الحوار المتكافئ بين تلك البلدان وعالمنا العربي، والتقدم العلمي الحالي يمكن ان يكفل هذه العملية الحضارية ...    

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم