أقلام ثقافية

حياة القصب

علي المرهجيملأ القصب أهوار العراق، وهو نبات ينتعش بسُقيا الماء الذي وصفته الكُتب القديمة والفلسفات والديانات على أنه "أصل الحياة"وجعلنا من الماء كُل شيء حيَ" وقال طاليس أبو الفلسفة "أن أصل الوجود هو الماء".

للقصبة عند السومريين صفات عجيبة توحي بالدهشة والمهابة كما يقول هنري فرانكفورت في كتابه (ما قبل الفلسفة)، "ففي نموها المُمرع في الأهوار قوة غامضة، وللقصب قُدرة إتيان العجب، كالموسيقى الصادحة في ناي الراعي، أو العلامات المليئة بالمعاني التي تتركها قصبة الكاتب فتتحول إلى أقاصيص وقصائد"

لذلك اعتقد العراقيون القدامى بـ "آلهة القصب، ورسّمها بشكل إنساني كسيدة مُحترمة، ولأقصاب مرسومة معها: فهي تنمو من كتفيها وتستمد حياتها منها مُباشرة".

القصب بيت ومضيف ولقاءات حميمية بين الأحبة، فالمضيف "كوخ قصبي بالغ السعة يُشاد من أعمدة ضخمة من قصب قوي، وحِصر قَصبية كبيرة من (البواري) وهي أيضاً مصنوعة من القصب، ومن جدارين جانبيين يُقامان من قصب وحِصر أيضاً" كما يروي د.شاكر مُصطفى سليم في كتابه الأهم (الجبايش). لا اعتبار اجتماعي كبير لمن لا قُدرة له على بناء وإدامة المضيف، فمن لا يملك مضيفاً كبيراً مصنوعاً من القصب لا يُعدَ من (الأجاويد).

وكلكامش في ملحمته ينقل كلام الآلهة للكوخ ليقول له مُخاطباً:

"إسمع يا كوخ القصب وافهم يا حائط

أيها الرجل "الشروباكي" يا ابن "أوبار ـ توتو"

قوض البيت وإبنَ لك فلكاً (سفينة)

تخلَ عن مالِك وانشد النجاة

انبذ المُلك وخلص حياتك"

والآلهة لها بيوت من قصب، وسومر من معانيها "أرض سيد القصب" الإله "أنكي" إله الماء.

وقدَ كتب د.زهير صاحب كتاباً بعنوان "أغنية القصب" عن تاريخ الحضارة السومرية وفنونها..

في نمو القصب وطوله بهاءٌ وحياة، فهو ممشوق القوام في خضرته حياته لأهل الأهوار الذين بنوا حضارتهم الأولى من معين القصب والطين.

كان الصابئة في جنوب العراق هُم من يُجيدون منح الحياة للقصب كما يذكر د.شاكر مُصطفى سليم عبر تحويله لأدوات مُصنّعة تُساعد أهل الهور في الإفادة منه، فهُم من يُتقنون صناعة "الفالة" أداة للصيد منه، وهم من يُجيدون "تفشيق القصب" وحياكة "الحصر" كالبساط مصنوع من القصب للجلوس، وحياكة القصب كي يكون بمثابة السقف للمنازل والبيوت.

من القصب تُصنع الآثاث وتُبنى البيوت وتُحاط بالأسيجة المصنوعة من القصب أيضاً، وهو وقود أهل سومر لسهولة اشتعاله بعد تيبسه.

القصبُ إمارة وتجارة وحياة مكسب ليس فيها خسارة، فهو تجارة يُقايض أهله ومالكوه به ما يحتاجونه من مواد مع المناطق المُجاورة، وهو مكسب لأنه نبت ماء يستمر وجوده باستمرار صيرورة الماء، لذا فهو تجارة لا تبور، ومكسب دائم ليس فيه فتور...

كسب السومريون بفضله حياة وحضارة، وكسبنا نحن العراقيين بفضله تباهياً بين الأمم بأننا أمة كلما دار بنا الزمان ودالت الدول نستكين قليلاً ولكننا لا نهجعُ لأننا نستمد من حضارة القصب وشموخه بعض من "أنويتنا" واعجابنا بذواتنا وإن لم يكن لنا اليوم تأثير في حاضر الأمم يُذكر...

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم