تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام ثقافية

صهيلُ الذاكرةِ.. القلمُ الكونيُّ

محمد الورداشيتفيد كلمة عاطل، من جدر "عَطَلَ"، في اللغة العربية معانٍ عدةً. إذ نقول امرأة عاطل؛ أي أنها لا تتوفر على حلي. وشخص عاطلٌ، بمعنى أنه لا يتوفر على عمل رغم كونه أقدر عليه. ولعل كون كلمة "عاطل" من الصفات التي يشترك فيها المذكر والمؤنثُ، هي ما يجعلنا نقول إن امرأة عاطل من الحلي معناه أنها خالية منه، فتبحث عنه وتسعى إلى الحصول عليه، بل تتمناه كما يتمنى الشخص العاطل الحصول على عمل. فهل يمكننا أن نضيف كلمة "أدب" إلى "المعطلين"؟ وهل هناك أدب عاطلين/معطلين؟ ولئن كان موجودا، وهو كذلك لأننا نقرأه في كتابات عديدة، فهل حظي باهتمام من لدن الدارسين والنقاد، كما بتنا نقرأ، منذ سنوات متأخرة، دراساتٍ نقديةً عن أدب السجون، والأدب النسائي، علما أن هذين الأدبين يشتركان مع "أدب العاطلين" في معاناة النسيان والإهمال والإقحام قسرا وجبرا في قائمة الطابو؟ ما خصائص "أدب العاطلين"؟. هذه أسئلة قليلة تواجه كلَّ من سمع أو قرأ عن أدب المعطلين. نطرحها باحثين راغبين عن/في دراسات نقدية تهتم بهذا اللون من الأدب درسا ونقدا وتحليلا؛ لأنه يحمل بين ثنايا لغته، قيما اجتماعيةً وحضاريةً وجماليةً. ففي هذا المجال، نرى أن نصوص مؤلَّفِ "صهيل الذاكرة" للكاتب والشاعر المغربي عبد السلام فزازي، الغني عن كل تعريف لأننا لا يمكن أن نعرف المعرف أصلا، وإنما نترك المهمة للساحة الفكرية والأدبية التي له قسطٌ وافر فيها نقدا وتأليفا وترجمة، جزءا لا يتجزأ مما يسمى أدب المعطلين. حيث المعطل يعيش غربةً وضياعا في زمن باتت فيه الوظيفةُ وليمةً وقسمةً ضيزى، يتقاسمها ورثة غير شرعيين. على أن المعطل لم يكن دوما شخصا أعزل خاوي الوفاض، بقدر ما أنه كائنٌ مثقف ثقافةً واسعةً في زمن أضحت فيه الثقافة عبئا ثقيلا على المثقف، يتوارى به أحيانا ويشهره سيفا أحيانا أخرى. إن الكلمة رصاصةٌ طائشةٌ، بيد أنها لا تخطئ هدفها بشكل من الأشكال، وإنما تغدو سلاحا لمثقف معطل أفنى زهرة عمره في تقليب الصفحات، بحثا عن التحصيل المعرفي داخل وطنه وخارجه. ليجد نفسه في نهاية المطاف غريبا في وطنه الذي بات غربة. ثم يهتف بقيم كونية؛ كالعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحرية. حاملا همَّ كل المعطلين وأبناء وطنه الجريح الذي باتوا يعصرون زيتا، على حساب زناة الليل، ومصاصي الدماء الذين يخدمون أخا لم تلده أمهم. إذ يتفننون في تنفيذ القرارات على حساب الذين يحملون فكرَ وثقافةَ حضارةٍ يتجاذبها ماض ذهبي، وحاضر سقيم مختل الموازين، وغد مجهول حِيكَ بلغة التسويف والتأجيل. ونحن نقرأ نصوص "صهيل الذاكرة"، نستشف أن المثقفَ العاطلَ أضحى نبيا وشمعةً تحاول بكل ما أوتيت من قوة، ولا قوة لها سوى قلم جريء وصوت مبحوح وثقافة أصيلة، أن تضيءَ ليل المعذبين في الأرض، وتنشرَ الوعيَ والأملَ فيهم. بداية من أبناء مسقط الرأس، مرورا بالمعطلين/حاملي الشهادات العليا، وصولا إلى معطلي العالم. وذلك لأن الكاتب يعي جيدا المهمة الثقيلةَ التي ألقيت على عاتقه؛ لأن الذي يسكت على الجريمة يعدُّ مشاركا الجلاوزة والطغاةَ فيها. في حقيقة الأمر، ونحن نقرأ هذه النصوص، لم نستطع وقف مشاعرنا التي تهتز، وعقولنا التي تغرق في حيرة السؤال في زمن بات يرفض الأسئلة. فضلا عن أن تعبان بن تعبان، ليس ابن لحظة زمنية محددة، بل يتخطى حدود الزمان والمكان لينقلنا عبر ذاكرته الأبية، من جبال الريف وتضاريسه وأشجاره المتجلدة في وجه الشامتين، إلى الطالب المغترب عن وطن أحبه دون وسيط، طلبا للعلم والمعرفة. لتأتي العودة التي يكتشف فيها أن الأرض والإنسان قد تغيرا، بل كل شيء تغير بفعل فاعل. إننا لا نزعم إحاطتَنا بما يحفل به الكتاب كله، وهذا ما لا نستطيعه، ولا نطمح إلى إعادة سرد كلماته العميقة. وإنما نحاول الإشارة إلى الرموز الثقافية والتاريخية، والقضايا الإنسانية الكبرى التي تقض مضجع تعبان بن تعبان في رحلته السندبادية/ المكوكية. ثم الهموم الثقال التي كان مصدرها حبه لوطنه، وخوفه على شبابه وثقافته وحضارته التي باتت بضاعة تباع في سوق النخاسة من قبل ذئاب الفلوات، مصاصي الدماء، متسلقي السلالم؛ هؤلاء الذين لا يخلو منهم زمان ومكان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يطلعنا تعبان بن تعبان عن هموم العربي الذي فقد هويته في مزايدات وأطماع خسيسة. ولعله لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا الانتماءات العرقية الضيقة، بقدر ما يرى نفسه ابنا من أبناء الوطن العربي الذي عانى ولا يزال طعنات الأخ الذي لم تلده أمنا، حتى أثخن جراحا لا نعتقد أن هنالك طبيبا حاذقا يقدر على تضميدها. فهكذا، يأتي "صهيل الذاكرة" صرخات وآهات مثقف معطل خبر مكر أعداء الوطن، وتذوق من علقمه الكثير، ما جعله يكشف عن الوعود الزائفة، ولازمة سياسي البلد وتسويفهم وتأجيلهم الذي لم نسلم منه حتى يومنا هذا، مشهرا قلمه سيفا في وجوههم دون أن يخشى لومة لائم. وماذا يملك المثقف العربي عامة، والمغربي خاصة غير ثقافة عريقة أصيلة، وقيم إنسانية كونية، ومبادئَ لا تساوم. إنه قلم يرفض الخنوع والخضوع، ويفض بكارة الصمت والأفواه المكممة الموشومة بخط أحمر، ليصرخ بالحقيقة شفافة دون مواربة ولا محاباة. "فأن تكون رافضا ومرفوضا، معناه أنك حقيقة". هكذا يعلمنا صاحب "صهيل الذاكرة" القيمَ والمبادئَ النبيلةَ التي لا تُبتذل مهما عصفت بها رياح الواقع المرير؛ لأنها لم تكن وليدةَ الفراغِ، وإنما كان مصدرها قاموسَ الحركة الوطنية التي ينتسب إليها تعبان بن تعبان، فخرا بحبه لوطنه، واستحضارا لمنبع هذا الحب من خلال شخصيات المقاومة البطولية في الريف، والتي حاربت المستعمِر في الجبال والسهول، لا لحاجة ذاتية، وإنما لصيانة وطن متمنع عن اللواط، وعن مطامع أخ لم تلده أمنا. ختاما، نقول إن المثقف هو صاحب رسالة نبيلة، إذ يقف في وجه مطامع الاستبداد ومناهضة الاستعباد مهما كلفه الثمن، ربما لأنه لا يملك ما يخسره غير تلك النتائج التي سيحصل عليها عاجلا أو آجلا. فلا تغيير حقيقيا بدون مثقفين يزرعون بذرة العلم والوعي في العقول، وهذا ما تعلمناه من تعبان بن تعبان الكوني.

 

محمد الورداشي

 

في المثقف اليوم