أقلام ثقافية

أدهشني.. فيلم الكنز!!

محمود محمد عليأدهشني كلام أحد الحكماء والذي ذهب إليه واحداً من الناس يسأله عن شئ يحيره .. فأجابه قائلاً:" عن ماذا تريد أن تسأل ؟"قلت: "ما هو أكثر شي مدهش في البشر ؟"...فأجابني" البشر يملون الطفولة، يسارعون ليكبروا، ثم يتوقون ليعودوا أطفالاً ثانية، يضيعون صحتهم لجمع المال، ثم يصرفون مالهم ليستعيدوا الصحة، يفكرون بالمستقبل وينسون الحاضر، فلا يعيشون الحاضر ولا المستقبل، يعيشون كما لو أنهم لن يموتوا أبداً، ويموتون كما لو أنهم لم يعيشوا أبداً".

عزيزي القارئ قصدت أن أستهل هذه الدهشة لأبوح لك بهذا السر، وهو أنه عندما ذهبت إلي مدينة القاهرة بجمهورية مصر العربية لقضاء بعض حوائجي، وبينما أسير علي قدمي في أحد  ميادينها، وجدت أحد دور السينما تعرض الفيلم الروائى "الكنز: الحقيقة والخيال" (للمخرج شريف عرفة، بطولة محمد رمضان ومحمد سعد وهند صبرى، كما يضم الفيلم عدداً ضخماً من النجوم فى مقدمتهم، أحمد رزق، روبى، أمينة خليل، سوسن بدر، هانى عادل، أحمد مالك، هيثم أحمد زكى، أحمد حاتم، عباس أبو الحسن، سارة عبد الرحمن، عبد العزيز مخيون، نهى عابدين ومحيى إسماعيل، والفيلم من تأليف عبد الرحيم كمال)... فقلت لا بد أن أشاهده.. كان هذا الفيلم هو الجزء الثاني، والذي كان قد تم عرض الجزء الأول منه عام 2017.. وعندما رجعت إلي أسيوط شاهدته بتمعن علي الانترنت بجزئيه الأول والثاني معاً .

تبدأ أحداث الفيلم عن قصة "الكنز" في فترة سبعينات القرن العشرين، في قصر "بشر باشا الكتاتني" (محمد سعد) الذي ترك وصية لابنه حسن (أحمد حاتم) الذى قرر العودة من أوروبا بعد دراسته لعلوم المصريات لمنزل العائلة، بالأقصر وعند وصوله يموت عمه ويقرر حسن بشر أن يبيع القصر وكل ما يملك في مصر، ويعود من حيث أتى، ولكن يفاجئه الخادم الخاص بوالده بشر باشا أن والده ترك له مجموعة من البرديات ومجموعة من شرائط الفيديو، يجب أن يشاهدها قبل أن يقرر البيع، وبالفعل يقوم حسن بمشاهدة الفيديو الذي يبدأ فيه والده بالتحدث إليه عن الكنز الموجود بهذا القصر، وأنه يجب أن يقرأ هذه البرديات حتى يعلم ماذا يجب عليه أن يفعل.. يقوم حسن بالبدء في القراءة في بردية حتشبسوت (هند صبري) في زمن العصر الفرعوني وبناء المعابد ومدى الصعوبات التي تعرضت لها الملكة الفرعونية قبل أن تمسك مقاليد الحكم عن طريق زواجها من أخيها الغير شرعي "تحتمس الثاني" (رمزي لينر) وكيف تمت السيطرة عليه وعلى ما يقوله على لسانها في ظل صراع بينها وبين رجال الدين من كهنة أمون رع الذين كانوا يرفضون بشدة تولية حتشبسوت لعرش مصر لخوفهم من ذكائها وما يجعلها تسيطر عليهم وتقلل من سلطاتهم ويساعدها في ذلك المهندس المعماري أو العشيق السري لها سننموت (هاني عادل) خلال قراءة حسن لهذه البردية ينتقل لبردية "علي الزيبق" (محمد رمضان) في عصر الدولة العثمانية وزمن الشطار الذين يقفون بالمرصاد للظلم والفساد من الحاكم والوالي والذي توفى والده رأس الغول على يد مقدم الدرك صلاح الكلبي (عباس أبو الحسن) والذي يعلم عن طريق العرافة الذي يتردد عليها أن رأس الغول قد عثر على كنز قديم يعود لآلاف السنين في بيت كان يقطنه بالأقصر مما دفعه لقتله ومحاولة قتل زوجته وابنه الذي ينجح  في الهرب والانضمام لفرقة الشطار على خطى والده، مما جعله يلقب بعلي الزئبق وأثناء تجوله بالسوق يقابل زينب (روبي) والتي يقع بحبها دون أن يعلم أنها ابنة قاتل أبيه، وعندما علم كان عليه الاختيار بينها وبين الانتقام لدم أبيه، وهو ما وصل لحسن الكلبي فقام بمساومته أن يدله على طريق الكنز ويزوجه أبنته ويعفي عنه أو يقتله وهو ما يرفضه علي الزئبق فيأمر بإعدامه، ولكن فرقة الشطار تقوم بإنقاذه أثناء قراءة حسن بشر لهذه القصص، والذي لا يفهم ماذا يريد والده من جعله يقرأها.. يسرد والده له حكايته في زمن الملك فاروق (محمد محمود عبد العزيز) والبوليس السياسي، وكيف كان يحاول المحافظة على منصبه كرئيس البوليس السياسي؛ أي الرجل الثاني بعد الوزير،مما جعله يزج بأخيه مصطفى في السجن لإدمانه المخدرات، وكذلك يحاول منع مشاعره الحنونة تجاه المطربة نعمات (أمينة خليل) والذي أحبها ووفر لها كل سب الراحة، ولكن بأوامر ملكية خاف أن يتزوجها.. كل ذلك بمساعدة مساعده عبد العزيز النشار صدفة (أحمد رزق) وسافر للصعيد بأوامر الملك لمحاربة خط الصعيد في الأقصر؛ حيث اشترى هذا القصر وضم له البيت الذي يحوي الكنز بيت علي الزئبق في الماضي.

والفيلم في جزئه الأول حقق نجاحاً كبيراً وأثار ضجة لدى الجمهور والنقاد لما يحتويه من تجديد على مستوى الدراما التى تناولت ثلاثة عصور مختلفة، وعلى مستوى ظهور ألوان جديدة للممثلين المشاركين فى العمل ... وعن تفاصيل شخصية "بشر باشا" في الجزء الأول، فهو رئيس القلم السياسي وأحد رموز النظام فى العصر الملكي، والتى تتسم شخصيته بالجدية الشديدة، لها أبعاد على أكثر من مستوى فهو الرجل الذى وجد حبه بعد سنوات، وفى الوقت نفسه يتصدى لحالة الاضطراب التى تمر بها مصر قبل ثورة يوليو بفترة قصيرة، ما يجعلها شخصية تحظى بخيوط كثيرة.

أما في الجزء الثاني فإنه يواصل ما انتهى إليه الجزء الأول في حكايات "حتشبثوت" في العصر الفرعوني، و"علي الزيبق" خلال العصر العثماني، و"بشر الكتاتني" رئيس القلم السياسي الذي يواجه تحديات جديدة في العمل وقصص الحب التي عاشها أبطال الفيلم ومصير كل منهم، صراع مستمر بين حب السُلطة وسُلطة الحب، معركة مستمرة بين الخصوم، يتحكم في إيقاعها وتسلسلها صراع القلب مع العقل، كل قرار يتخذه الأبطال يقودهم في اتجاه، وهم دائمًا أمام خيارين لا ثالث لهما، الحب أو السُلطة، والاختيار يتحكم في مصير الأبطال.. وفي نهايته يحاول بشر أن يدل ابنه "حسن" على الطريق إلى كنز يخبره بشأنه من خلال وصيته المسجلة.

ولا شك في أن الفيلم اعتمد على السرد المتوازي للقصص في العصور الثلاثة المختلفة، وتأخذ قصة علي الزيبق "محمد رمضان" المساحة الأكبر على حساب قصة حتشبسوت "هند صبري"، التي تختفي بعد النصف ساعة الأولى من الفيلم ولا تعود، إلا لكي نعرف اختياراتها التي تحسم مصيرها، دون أن ينقص ذلك من مساحة القصة الرئيسية، قصة بشر الكتاتني "محمد سعد" والكنز الذي تركه لابنه حسن "أحمد حاتم".

الفيلم يمثل ملحمة فنية ممتعة، كتب قصتها وأخرجها (كما قلت شريف عرفة، وكتب لها عبد الرحيم كمال السيناريو والحوار، ويثريها صوت إيهاب يونس ونسمة محجوب بأغاني كتبها أمير طعيمة ولحنها هشام نزيه)، وهي أغاني تصف طبيعة أجواء الصراع، سواء كان بين خصمين أو صراع داخلي بين قلب البطل وعقله... أداء أبطال الفيلم اختلف عن الجزء الأول برغم تقديمهم لنفس الشخصيات، حيث نرى الجانب الأخر لهم بعدما فعلته أحداث الفيلم بهم، نراهم أكثر حدة ومباشرة، يتخلون تدريجيًا عن مشاعرهم بإرادتهم أو رغمًا عنهم، لكن الأمر المؤكد هو أن الحب حسم مصيرهم وغير مسار الأحداث لكل خطوط القصة الدرامية... السرد المتوازي للقصص كان جيدًا، لكن ذلك لم يمنع من وجود خلل في إيقاع بعض الأحداث المرتبطة بالخط الدرامي لأسرة بشر الكتاتني، والفيلم ينتهي دون إجابات واضحة، تاركًا للمشاهد بضعة أسئلة حول مصير الكنز ومصير الأبطال ونهايتهم، وهو ما قد يشير إلى وجود جزء ثالث يكمل القطع المفقودة في قصة الكنز وأبطاله، خاصة بشر الكتاتني وأسرته.

كذلك اكتشفت خلال مشاهدتي للفيلم أن الكنز بحد ذاته ليس هو المحور المادي الذي تدور حوله الأحداث، ولكن أحداث فيلم الكنز، تبين مدى الفساد التي تعاني منه البلاد، منذ قديم الأزل والصراع على السلطة والتعاملات المزيفة بين السلطة والشعب وسلطة رجال الدين، ومدى تدخلهم في شئون البلاد بما يعم بالمصلحة عليهم، وكيف تتم عملية التلوين، والتكذيب الذي يقومون بها رجال الدين، مما يحافظ علهم على مناصبهم وكيانهم بالدولة... ينتهي الجزء الأول لفيلم الكنز بجملة محمد سعد:" إن الدنيا عندما تقف بجانب الإنسان وتنصره على أعدائه، يكتسب من خلال ذلك ثقة كبيرة ينسى بعدها أنها ممكن أن تكون هي الفخ الذي يقع به، فتعود الدنيا وتقلب موازين حياته مرة أخرى دون استعداد منه".

وفي نهاية حديثي عن الفيلم لا أملك إلا أن أقول: الفيلم كشف لنا أن الزمن يتغير، ولكن تبقى المعادلات واحدة، فالعلاقة بين رجل الدين والسلطان، وبين القانون والفوضى، وبين الحب وإعلان الحب، والحلال والحرام، كل هذه ليست قيماً مطلقة عابرة للزمن.. وأنا منحاز للسينما القائمة على العمق الفكري والتي تضع أمامها قيمة أبعد من مجرد الحكاية، إلا إن هذا الكنز السينمائي افتقد أحيانا شفرة التواصل بمجدافي الدفء والنعومة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم