أقلام ثقافية

التشريح النفسي للاميّة الطغرائي!! (3-3)

صادق السامرائيغالى بنَفْسي عِرْفاني بقيمَتِها

فصُنْتُها عن رَخيصِ القدْرِ مُبتذَلِ

ويعود إلى نفسه التي يشعر بالذنب إزاء ما أوردها، ويذكّرها بأنه صانها عن الإبتذال وعرفها عالية سامقة أبية، فعمل جاهدا على أن يُبعدها عن الهوان، وكأنه يقول لها بأن الذي حلّ به بسبب الذود والمغامرات، التي إقتحمها لمعرفته بعلوِّ نفسه وقيمتها وهمّتها وهيبتها.

42

وعادةُ النَّصْلِ أنْ يُزْهى بجَوْهَرِهِ

وليْسَ يَعْمَلُ إلاّ في يَدَيْ بَطَلِ

ولا يزال مع نفسه يحاورها ويريد إقناعها، لأنه يشعر بأنها تعاتبه وتلومه، فيقول إنها بحاجة إلى جرأة للحفاظ على عزتها وكرمتها، وهو يمتلك الهمة القوية والإقدام الدائب، وقد سخّره لحماية إبائها وشموخها ورفعتها، ويُقارنها بجوهر السيف وكماله وحاجته إلى قبضة بطل وهمته.

43

ما كنتُ أوثِرُ أنْ يَمْتَدَ بي زَمَني

حتّى أرى دولة الأوْغادِ والسَّفَل

وينتقل نحو آلية إسقاطية تبريرية يقول فيها أنه لم يختر أن يعيش حتى يرى دولة يسودها الجهل ويتمكن منها الأوغاد والسفلة، الذين يغمطون حق الكبار وذوي المعارف والخبرات والمآثر والبطولات، لكنه صار مرغما على البقاء في زمن الجاهلين المعادين لأهل العلم والهيبة.

44

تَقدّمَني أناسٌ كان شَوْطُهُم

وراءَ خَطْوي إذْ (لو) أمْشي على مَهَلِ

وتعبيرا عن الزمن المنحط أصبح الذين كان يتقدمهم أمامه بخطوات وأشواط، لأن الزمن الذي صار إليه زمنهم، ينكر الرجال الشجعان، ويحتضن الأوغاد والسفلة، فكأنه يعاتب زمانه الذي صار فيه، ويرى أن لكل حالة زمانها.

45

هذا جزاءُ امْرِئٍ أقْرانَهُ دَرَجوا

مِنْ قبْلِهِ فَتمنّى فُسْحَةَ الأجَلِ

ويمضي في تعليلاته وتفسيراته لما هو عليه، ويقول بأن الرجال من أمثاله قد رحلوا، وبقي بعدهم وقد ساد الذين دونهم بكثير، ولهذا فهم يسومونه سوء المصير، ومع أنه كان مع هؤلاء لكن نفسه كانت تسعى إلى ما هو أعلى، فليلقى ما كان ينكره أو لا يستشعر بقيمته وأهميته، وكأن الذي هو فيه أشبه بالعقوبة على ما جنته يداه.

46

وإنْ عَلاني مَنْ دُوني فلا عَجَبٌ

لي أسْوةٌ بانْحِطاطِ الشَّمْسِ عَنْ زُحَلِ

ويحاول إقناع نفسه ويريدها أن لا تتعجب من تقدم مَن كانوا دونه عليه، فتلك حالة قائمة في الوجود، كما هي العلاقة بين الشمس وزحل، فالدهر لا يقيم حالة على حالها، وإنما التبدل دائم، والسقوط إلى الأسفل ليس بجديد، وتبدل الأحوال من سنن هذا الكون.

47

فاصْبِرْ لها غَيْرَ مُحْتالٍ ولا ضَجِرٍ

في حادِثِ الدَّهْرِ ما يُغني عن الحِيَلِ

ويسعى إلى ترميم نفسه وتأهيلها للقبول بالواقع الذي هي فيه، ويحثها على الصبر بلا قلق ومحايلة، لأن الحوادث تتبدل، والزمان يتغير، والأيام لا تتشابه، فربّ عسر بعده يسر، وكل الملمات إلى زوال، ولا يمكنها أن تقيم وتتراكم بل تتهلهل وتنتهي.

48

أعْدى عدوّكَ أدْنى مَن وثِقتَ بهِ

فَحاذِرِ النّاسَ واصْحَبْهُمْ على دَخَلِ

وما يتمخض عن تجربته من نتائج وتداعيات، أن يلوم نفسه على وثوقها بالناس، وقلة إحترازها من غيلتهم، فحصل الذي حصل بسبب قلة شكه وإطمئنانه لمن لا يستحق ذلك، وكأنه يريد القول بأنه قد غُدِرَ به، وأدرك بعد فوات الأوان أن عليه أن يصاحب الناس بحذر ومكر وربما بخديعة.

49

فإنَّما رجُلُ الدُّنْيا وواحِدُها

مَنْ لا يُعوِّلُ في الدّنيا على رَجُل

ووفقا لما تقدم في البيت السابق فأن النتيجة التي يجب العمل بها، أن لا يستعين الرجل بغير نفسه وأن يكون معتمدا على ذاته، لأن الآخر مهما كان قريبا سيغدر به ويفضل نفسه عليه، وهكذا يحاول أن يجد المعاذير الكافية لإقناع نفسه بأن ما وصل إليه ليس ذنبه.

50

وحُسْنُ ظَنِّك بالأيَّام مُعْجِزةٌ

فَظُنْ شرّا وكُنْ مِنْها على وَجَلِ

ويرى أنه قد تعلم من تجربته بأن حُسْنُ الظن بالأيام مخادعة وسلوك تدميري للذات والموضوع، ويبدو أنه كان كذلك، ولهذا إستخلص من تجربته أن علينا أن نظن السوء بالأيام ونخشاها أو نحذرها، فالذي حصل لأنه كان لا يحذر أيامه ويظن فيها خيرا.

51

غاضَ الوفاءُ وفاضَ الغَدْرُ وانْفَرَجَتْ

مَسافةُ الخُلْفِ بينَ القوْل والعَمَلِ

لازلنا في التفاعل الواعي مع المنلوج الداخلي الذي يحاول فيه فهم ما جرى له، وكيف إنحدر من علياء مكانته وهيبته إلى قيعان المذلة والهوان، ويرى سببه إنعدام الوفاء وزيادة سلوك الغدر وفقدان قيمة الكلام،، فهو لا ينمّ عن عمل ولا سيؤدي إليه.

52

وشانَ صِدقَكَ عِندَ النّاسِ كِذبُهمُ

وهلْ يُطابَقُ مُعْوَجٌ بمُعْتَدِلِ

ويمضي في البحث عن مزيد من الأسباب التي يتعلل بها، فيحسب أن صدقه مع الآخرين لا قيمة له ولا معنى، لأن كذبهم أصبحَ سائدا وفاعلا في الحياة، ومن العسير لصادق أن يتوافق مع كاذب، ومن الصعب أن يتواءم أعوج مع معتدل، وبهذا يعيب زمانه وأهله.

53

إنْ كانَ يَنْجعُ شيئٌ في ثباتِهمُ

على العُهودِ فَسَبْقُ السّيفِ بالعَذَلِ

ويزيد على أن سمتهم الكذب والباطل الذي يشينهم فكيف يمكن مصاحبتهم، فهم لا يمكن الوثوق بعهودهم وكلماتهم، ولا التفاعل معهم لذلك، وهم الذين يستحقون القتل، لكنهم يملكون الدنيا ويقررون مصير الآخرين.

54

يا واردا سُورَ عَيشٍ كُلّهُ كَدَرٌ

أنفَقتَ صَفْوَكَ في أيّامِكَ الأُوَلٍ

ويعود مسائلا ومعاتبا نفسه، يذكرها بأنه قد أفنى ما لديه مبكرا واستقى من الدنيا ما أبهج عمره النضير، فما عاد لديه ما ينفقه في أيام عسرته، ومحنته التي ستأخذه إلى ختام المصير، وعندما وجد نفسه بهذا المصار أخذ يبرر ضجره وسأمه، لأنه لم يكن متوازنا وكأنه يريد الإشارة إلى نزقه وطيشه وتوهمه بأن الدنيا ملك يديه.

55

فيمَ اقْتِحامُكَ (اعتراضك) لُجَّ البَحْر تَرْكَبُهُ

وأنتَ يَكفيكَ مِنْهُ مَصَّةُ الوَشَلِ

ويبدأ بتسفيه مسيرته وما فعله في ماضي أيامه المشحونة بالشراهة وعدم الرضى والإقتناع، بل الإندفاع الأهوج نحو إحتضان ما لايطيقه، وإمتلاك ما لا قدرة له على حمله، وهو في واقع أمره لا يحتاج إلا إلى القليل، فكيف بالبشر يريد البحر وتكفيه رشفة ماء.

إنه تقريع ذاتي مؤثر وصريح.

56

مُلكُ القناعةِ لا يُخشى عليهِ ولا

يُحتاجُ فيه إلى الأنْصارِ والخَوَلِ

ويصل إلى خلاصة التعبير عن جوهر معنى الحياة الهادئة الصحيحة، التي عليها أن تكون متوّجة بالقناعة، فهي القوة والقدرة على صناعة السعادة والأمن والأمان، ويواصل معاتبته لنفسه ويذكرها بأنها لم تكن ذات قناعة ورضى ولهذا إنتهت إلى ما هي عليه.

57

تَرجو البقاءَ بدارٍ لا ثَباتَ لها

فهلْ سَمِعْتَ بظلٍّ غَيْرِ مُنْتَقِلِ

وتمضي خلاصاته الإدراكية ويقظة الوعي التي توهجت فيه، فيدرك أنه في الدنيا الفانية، فلماذا فعل الذي فعل، وأقدم على الذي أقدم، فأن كل ما أنجزه وفاز به سيذهب لغيره مهما تحسب وإجتهد، وبهذا يصل إلى حقيقة وجوهر الحياة التي ما أدركها إلا بعد فوات الأوان.

58

ويا خَبيراً على الأسْرارِ مُطّلِعا

إصْمُتْ ففي الصَّمتِ مَنْجاةٌ من الزَّلَلِ

ويبدو أنه قد تعلم درسا من تجربته التي تشير إلى إطلاعه على الأسرار والخبايا، وربما قد أفشى ببعضها فأوردته موردا صعبا، ولهذا فأنه يُسدي نصائحه للمطلعين على الأسرار أن يلتزموا الصمت ولا يبوحوا بشيئ مما يعرفون، لخطورة ذلك ومآلاته السيئة عليهم وعلى غيرهم.

59

قد رشَّحُوكَ لأمْرٍ لوْ فَطِنْتَ لهُ

فارْبَأ بنَفسِكَ أنْ تَرْعى مَعَ الهَمَلِ

وكأنه في ختام قصيدته يريد القول بأنه قدره الذي عليه أن يمضي فيه إلى نهايته، فهو الذي تم إختياره لولوج هذه الدروب، وربما لم يفطن لذلك في حينه، عندما كانت أيامه مقبلة، وإرادته متدفقة، ويبدو أنه أهمل ذلك الوعي أو الفهم لجوهر ما كان فيه، فتاه في تفاعلاته، وما جنى من وراء ذلك إلا الخسران.

والخلاصة أنه عبّر عن ديناميكية الصعود والنزول في مسيرة الإنسان الفرد أو الجماعة، وما يتصل بها من إنثيالات إدراكية، وإستخلاصات متمخضة عن تجارب قاسية ومريرة، كثفها بابيات شعرية متماسكة، تريد لهذه المعطيات المعرفية التفاعل مع الحياة لتكون أفضل.

وأبان عن مشاعره الإنكسارية الإكتئابية التي حاول جاهدا أن يواجهها بالتمسك بالأمل، وكأني به يعالج نفسه معرفيا أو ذهنيا، فهو الطبيب المداوي لعلله النفسية التي داهمته، بعد أن كان يكظمها ويهرب منها بإنغماسه بالتحديات والمغامرات والسعي الفائق نحو الأعلى.

وكشفت اللامية عن أعراض إكتئابية وفقدانوحزن بليغ، وتأنيب ضمير وندم شديد وتقريع ذاتي، ومحاولات للتمسك يالقوة والثبات وإستحضار الطاقات الإيجابية، ومحاربة اليأس والقنوط، والعمل الجاد على الإلتزام بالتحدي، والإصرار على أن مسيرته كانت مظقرة ومتفقة مع ما فيه من طاقات وقدرات، وقد سلك طريقه بشمم وكبرياء، وما جرى له جرى لغيره، فنواميس الحياة لا إنحراف فيها، وتخضع لها المخلوقات بلا تمييز.

وبهذا تمكن من التفاعل الفكري المعرفي مع تجربته، واختصرها بأبيات ذات قيمة إدراكية عالية، وكأنه يريد أن يرسم ملحمة حياته ويجعلها درسا للأجيال.

 

د. صادق السامرائي

8\5\2020

 

 

في المثقف اليوم