أقلام ثقافية

الثقافة الوطنية!!

صادق السامرائيالثقافة من ثقف بمعنى حذق.

ونقول الثقافة واللقافة: رجل ثقف، لقف، إذا كان ضابطا لما يحويه وقائما به.

والثقف قد تعني سرعة التعلم، وثقف الشيئ أي حذقه وصار حاذقا وفطنا به.

والثقافة تشير إلى المعرفة بأنواعها، فهي سبيكة إدراكية مؤلفة من عناصر متنوعة، مثل العقائد والقوانين والعادات والتقاليد، وغيرها من الموروثات والنشاطات المتكررة والقائمة في المجتمع.

والوطن هو المنزل الذي نقيم به، فهو وطن الإنسان ومحله وجمعه أوطان.

وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها. وأوطنه: إتخذه وطنا.

والوطن: محل الإنسان.

والوطن هو واقع مادي جغرافي الملامح وجزء من الكرة الأرضية، التي يتوطنها البشر منذ ما لا ندري من القرون.

وقد إعتاد أن يعيش في مجموعات متفاعلة ومتماسكة تحقق مصالحها في بقعة أرضية ما تسميها الوطن، مثلما تفعل باقي المخلوقات عندما تتمكن من مقاطعاتها في الغابات فتعرفها جيدا وتدافع عنها بقوة، لأنها تحقق مصلحتها وتحفظ نوعها وإستمرارها.

والوطنية هي السلوك الجمعي لأبناء بقعة أرضية ما والذي يحقق مصلحتهم.

 

والثقافة الوطنية هي المعارف الفعالة التي تؤدي إلى قوة وسلامة وأمن تلك البقعة الجغرافية والبيئية  ببشرها، الذي أصبحت لديه الكثير من القواسم المشتركة بحكم بقائه عليها عبر الأجيال.

ولهذا فالثقافة الوطنية سلوك فردي أو جمعي، وليست تنظيرات وتصورات وطروحات كلامية أو إنشائية.

وعندما نقارن بين الثقافة الوطنية في عالم متقدم وآخر متأخر، نجد في العالم المتقدم سلوكيات واضحة وعادات وتقاليد وأعراف وطنية يمارسها الفرد من غير أن يفكر أو يتردد، وإنما هي من صلب نشاطاته اليومية، التي يحقق بواسطتها دوره وتفاعله الإيجابي مع مجتمعه.

بينما في العالم المتأخر تكون الثقافة الوطنية  نظريات وكتابات نقرأها هنا أو هناك، وفي الكثير من أساليب الإقتراب منها يظهر التنظير المعقد، والبعيد عن التبسيط والتعامل معها على أنها سلوك يومي يقوم به الفرد، فهي عالم آخر عسير المنال.

وكأن الدعوة إليها كالدعوة إلى بناء جمهورية إفلاطون، التي تكون أعمدتها فوق الغيوم ونفاياتها فوق رؤوس الذين يعيشون تحتها.

وفي بلداننا نمزج كثيرا بين الثقافة الوطنية والسلطوية، ونحسب ثقافة السلطة أيا كانت ثقافة وطن، وهذا لا يتطابق، لأن ثقافة السلطة عموما تكون لا وطنية، لأنها ثقافة إحتكارية وتريد كل شيئ  لصالحها وحسب، وتنسى مصالح الوطن حتى تسقط في شِباك أوهامها ونكرانها لواقع الحياة.

والثقافة الوطنية عندنا متباينة لكنها على العموم ضعيفة بالقياس إلى العالم المتقدم.

ودليلنا على ضعف الثقافة الوطنية أن العديد من بلداننا صارت مسارح للتفتت، وأصبح من الحلم أن تحافظ على سلامتها الجغرافية والإجتماعية وإنشغلت في مشاكلها الداخلية، التي تشير إلى غياب المقاييس الوطنية المشتركة، وضعف التربية الوطنية أو قصورها وإنحرافها، وما جرى في العراق برهان ساطع على ذلك الخلل الحضاري.

ولو كانت هناك ثقافة وطنية حقيقية، ولو كان الوطن والراية عقيدة وقيمة لما حصل الذي حصل،  لكن الوطن كان مغيبا بالصورة والشخص، وتم إقران كل شيئ حتى الإنسان بما هو لا وطني، فصار الوطن كلاما ودموعا ومسيرات عزاء خيالية.

وقد قرأنا العديد من المقالات لكتاب ومفكرين، تتناول الثقافة الوطنية وتنحو في منهجها لإخراجها من خانة الممكن وإيداعها في صناديق المستحيل المغلقة، وهي كتابات بحثية ذات منهجية غير معاصرة وتنتهي باستنتاجات غير مجدية، وإنما عبارة عن إعادة استهلاك المستهلك وليس إعادة تصنيعه.

وهذه الكتابات تتكرر وعلى مدى القرن العشرين ولا زالت، وبسببها انعدمت الثقافة الوطنية وتحوّلت إلى شعارات ولافتات وخطابات فارغة ما حققت للأوطان شيئا مفيدا، بل أصابتها بمقتل وذهبت بها إلى ما يعارض سلامتها وقوتها وسيادتها.

وقد إنحرفت الثقافة الوطنية في العديد من البلدان عن معانيها وتم إختصارها وربطها بالبندقية وحمل السلاح والمجابهة الحامية مع الآخر، الذي يفترض أنه يريد أن يستهدف الوطن ويستحوذ عليه، فجسدت التفاعل السلبي الضار، ولذلك فأنها حققت ما كانت تخافه بتحجيمها للثقافة الوطنية الصحيحة، وتجريدها من الفعل الحضاري والسلوك المتطور والمعاصر.

فقد أمضينا في العديد من بلداننا  القرن العشرين، والوطن عندنا عبارة عن صورة أو شخص أو حزب أو نظام حكم متسلط، وثقافتنا الوطنية ترتبط بها ولا تتجاوزها  فلا تعبر عن معاني الوجود الوطني الفعّال والمحقق لإرادة المجموع المتفاعل، ولهذا أصبح الوطن ضحية للمجموع المنفعل والجاهل.

ولو تأملنا العراق، فأن ما حصل فيه يؤكد ثقافة الصورة والكرسي والفرد والفئة، مما دفع  إنعكاس الإنفعال المكبوت نحوها إلى سلوكيات مضطربة ومرعبة.

وبسبب ضعف الثوابت الوطنية والمعرفة الوطنية السلوكية، إهتزت أركان الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وحقق دوره في التفكير والسلوك غيابا تاما وعلى مدى أعوام صعبة.

ومن الغريب أن الكتابات التي تتناول الثقافة الوطنية تجدّ وتجتهد لكي تكرس حصرها في الكلام الخطابي أو المكتوب، وما حاولت الخروج بها من هذه الدوامة المفرغة التي ترعى اليأس وتبث الإحباط وتلغي الأمل، مما دفع إلى تشوش المفاهيم الوطنية.

وفي القرن الجديد لا بد لنا من الخروج من لعبة الكلام وملاعب النظريات، التي نخوض فيها مباراة خاسرة وعقيمة النتائج على الدوام.

وعلينا أن نفكر بمناهج عملية وليست نظرية، لأن النظريات العربية ما تحقق منها شيئ على الإطلاق، بل أنها أسست لما يناهضها ويهزمها وينكرها بل ويجتثها من أصلها.

فنحن عموما لا نفكر بمنهجية عملية مثلما هو الأمر في العالم المتقدم، وإنما بمنهجية نظرية قاصرة، لا تلد جديدا نافعا يمكنه أن يسعى بين الناس أو بهم.

وهذا المنهج النظري يهيمن على الظواهر والموضوعات التي نتناولها في حياتنا.

فنحن ننظّر وحسب، ونبتر النظرية عن مفردات الحياة التطبيقية، ونحلق بها في فضاء الخيال البغيض المشلول، في حين أن النظرية في عالم متقدم تكون المنطوق المنير لفعل صحيح ومثمر.

ومثلما حلقنا بالعديد من الموضوعات في عالم اللاممكن، كذلك حصل لموضوع الوطنية وثقافتها، مما أدّى إلى عدم وضوح المعنى وسرابية المغزى.

وبإختصار معاصر ومتواضع، أن الثقافة الوطنية ليست كلمات وإدعاءات، بل مفردات سلوكية يومية بسيطة وواضحة نقوم بها، لكي نحقق قوة الوطن وتطوره وسلامته وسيادته وأمنه.

فهل عندنا ثقافة وطنية سلوكية؟!!

 

د. صادق السامرائي

2005

 

 

في المثقف اليوم