أقلام ثقافية

صاحبا "جليفر" و"روبنسون كروزو" وصحافة من نوع جديد!!

يسري عبد الغني"إن غاية طموحي كان في إخراج الفلسفة من الخزائن والمكتبات، والمدارس والكليات، حتى تغشى المنتديات والأندية، ومناضد الشاي، وتتسرب إلى المقاهي"

(أديسون)

عن حرية الكتابة والصحافة:

نالت إنجلترا في عام 1695 م حرية الصحافة والنشر، ولم تصحب ذلك الحدث إثارة كبيرة، بل إن أحدًا لم يبلغ به السرور لذلك مبلغًا كبيرًا آنذاك، لكنه حدث في وقت مبكر جدًا، قبل أن يتم في معظم دول أوربا .

ففي عام 1663 م، بعد أن استعاد شارل الثاني عرش إنجلترا بثلاث سنوات، أقر البرلمان الإنجليزي ما أطلق عليه اسم (مرسوم الرخص)، الذي يقضي بأن يتم إصدار ترخيص رسمي من إدارة النشر في لندن، قبل إمكان طبع أي عمل مكتوب، وهذا في حالة ما إذا كان يتضمن نقدًا موجهًا للحكومة، ويتولى ضابط خاص اسمه (رقيب الطباعة)، العمل على إيقاف كل المطبوعات غير القانونية، أو التي لم تنل ترخيصًا، ووفقًا للسلطة المخولة له يمكن أن يأمر بتدمير المطابع التي أصدرتها .

وكان يتم تجديد مرسوم الرخص هذا من آن لآخر عن طريق البرلمان الإنجليزي، وفي كل مناسبة تحدد فترة من الوقت يسري فيها مفعوله، لكن البرلمان لم يجدده عام 1695 م، ولم يكن ذلك لأن الأعضاء يؤمنون بوجوب حرية الصحافة والنشر، ولكن لأن الرقباء كانوا يزاولون عملهم بسوء بالغ وجهل مطبق، ويتخذون من أنفسهم أضحوكة، لذلك لم يعد من اللازم استخراج ترخيص للكتب، وأصبح في الإمكان طبع أي شيء .

ولكن ثغرة ما كانت هناك، وثغرة كبيرة، فبالرغم من أن الحكومة لم تعد رقيبًا على الكتب، إلا أنها تستطيع أن تقاضي المؤلفين لكتابتهم قذفًا مثيرًا للقلاقل ومهددًا للأمن العام، ويكاد كل ما يوجه للحكومة من نقض أن يعتبر قذفًا مثيرًا للقلاقل، ومن ثم يمكن للمرء أن يظن بأن النشر ظل مقيدًا كما كان من قبل، لكن الأمر كذلك، فقضايا القذف في ساحات المحاكم الإنجليزية، كانت كثيرًا ما تزيد من ذيوع أو شهرة النقاط أو الموضوعات التي يعتمد عليها الكاتب الناقد في نقده، أكثر مما لو أهمل الأمر، لذلك فإن الحكومة لم تكن تلجأ إلى القضاء إلا كل  حين .

ونتج عن ذلك أن سيلاً متدفقًا من الكتيبات السياسية انهال بعد عام 1695 م، وكانت العامة تتلقفها بلهفة بالغة وتطالعها باهتمام كبير، لكن هذه الكتيبات ما كانت لتستهوي المرء قراءتها اليوم، لولا أن العديد منها في الواقع كان بقلم رجلين على جانب من العبقرية الأدبية، هما: جونا ثان سويفت، دانييل ديفو .

جوناثان سويفت صاحب (رحلات جليفر):

ولد سويفت في مدينة دبلن الأيرلندية سنة 1667 م، فتلقى العلم في مدرسة كيلكيني، وفي ترينيتي كولدج (كلية الثالوث) في دبلن، ولم يحصل على الشهادة إلا بصعوبة بالغة، فقد نشبت يبنه وبين إدارة الكلية مشاجرات عديدة، وفي عام 1689 م، جاء إلى إنجلترا ليحاول الحصول على وظيفة في الكنيسة، لكنه وجد ذلك من الصعوبة بمكان.

ولقد قضى سويفت معظم حياته إما في مدينة دبلن، وإما على مقربة من العاصمة الإنجليزية لندن، وفي عام 1713 م، أصبح الكاهن المسئول عن كاثدرائية القديس / باتريك في دبلن، ولقى حتفه في لندن سنة 1745 م، بعد مرض طويل ترك أثره على عقله .

وسويفت واحد من أعظم من كتب نثرًا باللغة الإنجليزية على الإطلاق، فجمله بسيطة سلسة مركزة، لكن قوتها هائلة، وهي أحسن ما تكون عندما يهاجم شيئًا ما، أو إنسانًا ما، الأمر الذي اعتاده، وكان سويفت مشمئزًا من الجنس البشري كله، وبالرغم من أن في مقدوره أن يكون مخلصًا كل الإخلاص لأصدقائه، وكان شأنه شأن دانييل ديفو أو ديفيو في استخدام سلاح السخرية غالبًا في كتابته، أي أنه بدلاً من أنه يعبر عما يريده مباشرة، يبدي عكسه، ولكن بأسلوب يبدو مضحكًا .

وفي كتاب سويفت (رحلات جليفر) الذي نعرفه منذ نعومة أظفارنا، ثمة مثل على ذلك، حيث يصف سويفت على لسان جليفر، المقيم في أرض تقطنها خيل على جانب من الذكاء، يصف بفخر الوسائل الرائعة التي اخترعها الإنسان للقتال في الحروب، ولقتل أقرانه، والنتيجة بالنسبة للقارئ أنه يجعل الحرب تبدو رهيبة، كما يبدو الإنسان دنيئًا خسيسًا لاشتراكه فيها، وإليك مثلاً آخر موجودًا في كتيب اسمه " اقتراح متواضع لمنع أطفال الفقراء من أن يكونوا عبئًا على آبائهم وعلى البلاد !!": "لقد أكد لي أمريكي بالغ العلم من معارفي في لندن، أن الطفل الصغير المعافى المنشأ تنشئة حسنة، يصبح عند بلوغه السنة الأولى من عمره طعامًا شهيًا، وغذاءً صحيًا كاملاً، سواء أكان مسبكًا، أو مشويًا، أو مطهوًا، أو مسلوقًا، ولا ريب لدينا أنه يصلح كذلك لتقديمه مفرومًا، أو محمرًا، أو يخني متبلاً .. وأنا أسلم جدلاً بأن هذا الغذاء سيكون نادرًا إلى حد ما، ولذلك فهو صالح لأصحاب الأراضي الذين ـ كما التهموا من قبل معظم الآباء ـ لا بد أن يكون لهم نفس الوصف بالنسبة للأطفال".

وينمي سويفت هذا الأسلوب بمهارة وحرفية شديدة، ولا بد أنها كانت ضربة قاسمة لبعض الأنانيين الجشعين المستغلين من أغنياء تلك الأيام .

دانييل ديفو صاحب (روبنسون كروزو):

أما دانييل ديفو المولود عام 1660 م، فكان ابنًا لصانع شمع من دهون الحيوان، اسمه / جيمس فو، لكن دانييل آمن بأن وقع اسمه سيكون أفضل لو وضع أمامه " دي "، التي تدل على الارستقراطية، وتزوج دانييل وكانت له أسرة كبيرة وهو فقير لا دخل له، وعليه فقد حاول إعالة أسرته عن طريق الكتابة، ولقد واصل الكتابة في شتى الموضوعات الغريبة، لكنه كان يملك الموهبة الرائعة، التي تمكنه من إحساس القارئ عندما يصف له شيئًا ما، بأنه كان هناك يشاهد المنظر.

وقد كتب ديفو مثلاً "يوميات عن عام الطاعون"، أعلن فيها أنه وصف لشاهد عيان من لندن عام 1665 م، ويكاد يستحيل على المرء أن يصدق، وهو يقرأ هذا الكتاب أن مؤلفه لم يشهد الكوارث التي وصفها وصفًا واقعيًا حيًا، لكن ديفو كان في الخامسة من سني عمره فحسب، في عام الطاعون !! .

واستخدم ديفو السخرية مثل سويفت، لكنه كان يستخدمها أكثر منه، ففي عام 1702 م، كتب كتيبًا سماه "أقصر السبل مع المنشقين على الكنيسة"، نصح فيه بشنق كل من لم يشترك في كنيسة إنجلترا، أو يتم إيداعه السجن على الفور! .

ولقد كان في الواقع يستخدم أسلوب المحاكاة الساخرة لغلاة المؤلفين، التي كانت أراؤهم شديدة القرب من تلك، لكن معظم قراءه الذين أحبوه أخذوه على محمل الجد، ولما اكتشفوا أن الأمر كله خدعة، حكموا عليه بالوقوف في الشهرة (آلة خشبية يتم فيها إدخال يد المجرم ورأسه للتشهير به وسط الناس)، وكان يحسب أن أهالي لندن سيعاملونه بالطريقة المعتادة، ويرشقونه بالبيض الفاسد، لكنهم كانوا كرماء فرشقوه بالزهور !! .

من المقهى يعلن العصر الكلاسيكي:

كان ديفو وسويفت أعظم صحفيين في عصرهما، ولقد ازداد اليوم شهرة لكونهما مؤلفين أول روايتين إنجليزيتين عظيمتين (روبنسون كروزو)، و(رحلات جليفر)، وقراءة هاتين الروايتين فيهما من المتعة ما كان لهما منذ أكثر من 290 عامًا، وكان الإنجاز الرئيسي لديفو وسويفت هو كتابة النثر الإنجليزي واضحًا مباشرًا، يمكن لأعضاء الطبقة المتوسطة تفهمه بسهولة ويسر، ففي القرن التاسع عشر، كان النثر الإنجليزي بلغة المثقفين الأكثر تقعرًا، مليئًا بالاقتباسات التقليدية من التراث، وباللمحات العلمية والفلسفية الصعبة، ويرجع الفضل في الأسلوب الجديد السهل في الكتابة، أكثر ما يرجع، إلى أثر المقاهي التي ازدهرت خلال حكم الملكة آن، حيث نقرأ أن هذه المقاهي في نهاية القرن السابع عشر كانت تعد مراكز مألوفة للحوار السياسي والفكري والأدبي، وكانت الصحف والكتيبات توزع هناك، أو تعلق ليقرأها الجميع .

هذا، ولقد توطدت هذه المقاييس الأدبية الجديدة البسيطة في أواخر القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر في المقاهي، لتغطي ما يعرف باسم العصر الأغسطي في الأدب الإنجليزي، وهو يسمى أيضًا (العصر الكلاسيكي)، أو (عصر المنطق)، لأن العقيدة سادت بأنه لا بد لكل كتابة، شعرًا كانت أو نثرًا، أن تحذو حذو ما كان للكتاب اللاتين القدماء من أسلوب سلس سهل، وكانت كل هذه الأفكار تناقش في المقاهي التي هي بمثابة منتديات ثقافية للجميع .

وكان الشاعر الكبير، والمسرحي، والناقد / جون درا يدين (1631 م ـ 1700 م) أبًا للمقاهي الأدبية، فربما أمضى أمسياته في (مقهى ويل)، يبث أفكاره عن الأدب لشبان مثل (أديسون) و (ستيل)، الذين قدر لهما أخيرًا نشر المعرفة في مجلات مثل: (سبكتاتور) و(تاتلر)، وقد روي عن إديسون قوله: " إن غاية طموحي كان في إخراج الفلسفة من الخزائن والمكتبات، والمدارس والكليات، حتى تغشى المنتديات والأندية، ومناضد الشاي، وتتسرب إلى المقاهي " .

وبموت درا يدين عام 1700 م، احتل أديسون منصب الحكم في التذوق الأدبي في مقهى ويل أولاً، وأخيرًا في مقهى باتون .

كان أدب ذلك العصر محببًا بهيجًا، وقد كانت الطبقات العليا والوسطى قانعة بالحياة، وغاية آمالها أن تصبح الحياة أكثر راحة .

وخلال حكم كل من الملكين: جورج الأول، وجورج الثاني، كان رجال الأدب والفكر والثقافة على جانب من السلطة والقوة كبيرين في المحيطين السياسي والاجتماعي، فالسياسيون القديرون، مثل: جودولفين، وهارلي، بولينجبروك، يستخدمون الكتاب لعرض الحجج السياسية على الجماهير، ولقد استخدم كل من ديفو وسويفت في هذا السبيل .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني 

 

في المثقف اليوم