أقلام ثقافية

الأغاني للأصفهاني والإمتاع للتوحيدي

حاتم السرويهل يعرف صديقي المثقف الشاب الذي يدمن وضع السيجارة بين أصبعيه والمسبحة حول رقبته، ويفضل أن يبدو بوهيميًا في مظهره، ما هو كتاب الأغاني، ومن يكون مؤلفه؟ وهل يعرف ما هو " الإمتاع والمؤانسة "وهل سمع ولو لمرة عن أبي حيان التوحيدي؟.

بالطبع لم يسمع ولم يقرأ ، لأنه لا يقرأ غير سطرٍ واحد كل يوم: "التدخين ضار جدًا بالصحة ويسبب الوفاة " ولست أدري حتى الآن كُنْهَ العلاقة بين المثقف والسيجارة، كما أنني لا أعرف على وجه الدقة من الذي أدخل في ذهن الشاب أن المثقف لابد أن يكون مدخنا؟!.

أيها الشاب اترك هذا الادعاء الطفولي ولو مؤقتًا، وتعالَ معي إلى كنف آبائك رواد الشعر والكلمة. انظر.. ها هو أبو الفرج الأصفهاني يسطر أغانيه، سجلٌ حافل يطلعنا فيه على حياتنا العربية قديمًا في جانبها اللاهي، وقصورها العامرة، ولياليها الساهرة، وإلى هذا تجد مُلَح الأشعار وعجائب الأخبار. ثم اخرج من هذا إلى " الإمتاع والمؤانسة "وهو أيضًا ديوان أسمار وقعت في أربعين ليلة، وفيه نقل التوحيدي نبض عصره وأعني به القرن الرابع الهجري، وعَرَّفَنا بهموم المثقفين آنذاك. وإذا كان " الأغاني " كتاب لهو، وكان " ألف ليلة وليلة " كتابًا في حكايات السحر وتحليقٌ في الخيال؛ فإن " الإمتاع والمؤانسة " كتاب فكرٍ وعلم وتأريخ وحكمة، وفيه الحكايات أيضًا.

صديقي الشاب المثقف، أو الذي يريد أن يكون مثقفًا، ما المشكلة في أن تقرأ " الأغاني " على ما فيه من الألفاظ المخجلة والتعبيرات الفاحشة؟! ألست إذا خلوت إلى نفسك تشاهد على النت أفلام الـ.......؟؟ فلماذا لا يردعك ضميرك عن مشاهدة الخنا ثم تدعي أنه يحول بينك وبين كتابٍ في الأدب؟! والحق أن الذي يمنعك من القراءة هو السأم وليس الخلق، عزيزي الشاب اجعل من القراءة مبادرة للخروج من بلاهة المراهقين إلى حصافة الرجال.

ولا تقل أن في " ألف ليلة وليلة " - مثلًا- ما يخدش الحياء، لا تجعل من نفسك أضحوكة، فإن كتابًا تقرؤه - على ما فيه- خيرٌ من التسكع مع البنات، ثم إن هذا الكتاب فيه الأسطورة والعوالم المسحورة، فهو دون شك غذاءٌ للخيال، وانطلاقٌ من قيود المادة وسطوة الحواس، وتعبيرٌ عن شغف الإنسان بالمجهول وتوقه إلى معرفته.

أما " الإمتاع والمؤانسة " فمؤلفه يفكر ويحلل وينتقد ويؤرخ، ويعقد صلحًا بين الفكر والوجدان، ويوفق بين العقل والعاطفة، فالإنسان ليس كله ذهن وليس كله قلب؛ وإنما فيه الاثنان يكملان بعضهما.

والإمتاع اسمٌ على مسمى؛ بيد أن ما فيه من المتعة لا يخاطب الغرائز ولا يروي الشهوات؛ وإنما هي نشوة الروح ولذة الفكر، وما ظنك بسِفْرٍ جليل فيه الفكر الفلسفي والعلم اللغوي والنقد الأدبي والتاريخ الإنساني، ثم أن كاتبه إلى ذلك لا ينصب نفسه أستاذًا على القارئ، ويهمه أيضًا أن يروح عنه بالحكايات والأخبار؛ وبهذا يدخل بنا أبو حيان في نوعٍ من الفن لا تجده تقريبًا إلا عند العرب، هو فن المؤانسة.

ويحدثنا الأستاذ/ محمد الخولي في كتابه المهم " دليل القارئ الذكي إلى عيون التراث العربي " عن لؤلؤة أبي حيان، أعني كتاب " الإمتاع والمؤانسة " فيقول: " يصفه الأستاذ أحمد أمين بأنه كتابٌ ممتع مؤنسٌ كاسمه.. وأنت تكاد بين صفحاته تضع يدك على نبض عصرٍ بأكمله، هو عراق النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وتكاد بين سطوره تسمع أصوات الوزراء وهم يأمرون، والمفكرون وهم يتناقشون، وعلماء الكلام والإلهيات وهم يتجادلون، وأهل النحو والبلاغة وهم يتناظرون، ناهيك عما يحف هذه الليالي والأسمار من خصومات وأفاكيه ونوادر. في الكتاب مثلًا المناظرة الفريدة بين المنطق اليوناني وبين النحو العربي، وقد دارت بين عالمين كبيرين: أبي سعيد السيرافي، ومتى بن يونس، وفيه أيضًا النص الوحيد الذي كشف للمؤرخين عن شخصية واضعي رسائل " إخوان الصفا " الجمعية السياسية الدينية المغلقة التي ظهرت في البصرة في القرن العاشر الميلادي. وعن أبي حيان نقل سائر الدارسين والرواة ".

وبعد هذه الفصول الرائعة والرائدة يضع أبو حيان في ختام صفحات كتابه رسالتين: إحداهما إلى الوزير ابن سعدان، والثانية إلى الشيخ المهندس أبي الوفاء الذي عرفه بالوزير ابن سعدان وطلب منه أن ينقل إليه مسامراته معه مكتوبةً فخرج بذلك " الإمتاع والمؤانسة " إلى النور.. ما فحوى الرسالة؟ إنه يستجدي ويتسول ويطلب المِنَحَ والجوائز، وبهذا صح فيه ما ذكره عنه القفطي في " أخبار الحكماء " إذ يقول عنه: بدأ كتابه صوفيًا، وفي أوسطه كان محدثًا يتكلم بالأخبار، وفي آخره كان شحاذًا! إنه المُنْحَدَر: بداية فلسفية ثم أسمار وأحاديث وأخيرًا تسوُّل!.

وربما أمكن القول أن الفقر والتعاسة التي أحاطت بحياة أبي حيان، والمرارة التي ذاقها منذ طفولته من الدنيا والناس، هي التي وصلت به إلى تلك الهاوية ولا عزاء للعبقرية، بل إنه أصيب أخيرًا بالاكتئاب وتحت وطأة حالة اكتئابية فظيعة عمل على إحراق جميع كتبه، ولا أخفيكم أنني أكتب هذه السطور شاعرًا بالحزن، لكن لم الحزن وقد ترفق بنا القدر فأنقذ لنا من المحرقة الحَيَّانِيَّة أكثر من كتاب، ومنهم أحد أجمل الكتب في تراثنا العربي " الإمتاع والمؤانسة ".

والظاهر يا إخوتي أن حياة الأدباء وأصحاب الفكر كانت ولا تزال ميدان الشهد والدموع، شهد الثقافة ولذة الامتلاء المعرفي والشعور بالغنى (غنى النفس) ودموع الاغتراب حين يشعر الأديب بالوحدة، وحين تنفر منه العامة والخاصة، ويرى نفسه غير مرغوب في صحبته ولا في حديثه ولا حتى في وجوده، ثم يفتش جيوبه فلا يجد إلا قروشًا لا تكفيه.

والأمثلة على فقر العلماء وتعاستهم أكثر من أن تُحْصَر؛ فهذا هو الناقد العظيم أبو هلال العسكري كان يخرج كل يومٍ مع الفجر إلى سوق البزازين ليبيع أقمشة بدراهم يسيرة ولا يملك من الدنيا غير هذا؛ فلما طفح به الكيل أنشد يقول:

جلوسيَ في سوقٍ أبيع وأشتري.. دليلٌ على أن الأنامَ قرودُ

ولا خيرَ في قومٍ يُذَلُّ كرامُهُم.. ويعظُمُ فيهم نذلهم ويسودُ

ويهجوهم عني رثاثةُ كسوتي.. هجاءً قبيحًا ما عليه مزيدُ

فهذا كلام رجلٍ عاش من ألف ومائة عام؛ فكيف بالله لو عاش في أيامنا هذه؟!

بقي أن أعرفكم بأن (التوحيدي) ليس نسبةً إلى التوحيد الذي هو عقيدة المسلمين؛ وإنما هو نسبة إلى نوعٍ من التمور كان والد أبي حيان واسمه محمد بن عباس يبيعه في العراق، وهو المذكور في بيت المتنبي:

يترشفن من فمي قطراتٍ.. هن فيه أحلى من التوحيد

فالتوحيد هو تمر عراقي شغف به المتنبي، والعراق على ما نعرف بلد التمور والنخيل، وقد ذكرت هذه المعلومة لشاعرٍ ملحد فلم يصدق، وليس من الأهمية أن يصدق، وطالما كان همه أن يخترق طابوهات الجنس والدين، وأن يستشهد بأبيات الأولين وأقوالهم على ضلاله، فشأنه وما يختار، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهب أن المتنبي أخطأ فهل أنت إمعة؟ أنت شاعر أو تزعم أنك شاعر فلماذا تقلد المتنبي مع أنك ترى نفسك أفضل منه؟! عجائب...

 

حاتم السروي

 

في المثقف اليوم