أقلام ثقافية

أمان السيد: استقالتي والتعبير

امان السيد ست سنوات ونيف قد مرت بهذه الكتابة، وما يزال الأمر يحفر في خاطري، فالأمور المؤلمة، المغيظة، الأمور الإنسانية لو دققنا أكثر لا يمكن أن تنسى بسهولة، ومن أهملها طعن العدالة، وأرخى للظلم أنيابه..

هي أوراق عثرت بها بين قديمي في دبي، حركت النار تحت الرماد حقا.. لقد سجلتها برصاص قلم، وذلك يخالف عادتي مذ تعرفت بالكي بورد والأجهزة الألكترونية، وقد ذيلتها بتاريخ .. وفي الطريق إلى معرض الكتاب في أبوظبي.. أذكر ذلك تماما، في الباص الصغير الذي أقلني مع حشد من الأصدقاء الكتّاب، وغير الكتاب من المهتمين بالثقافة والكتب وشجونهما، ولم يكن يدور في خلدي أني بعد ذلك بشهرين سأنتقل إلى جهة أخرى من الكون نقلة جديدة أثق أني استحققتها لما لحقني من ظلم وإساءة وتشويه لضميري وأخلاقي المهنية، وتجاه من؟! تجاه اللغة العربية التي عشقتها طفلة، واستهلك مني تدريسها سنين عمر نهشت من راحتي وأعصابي، ولكنها أسعدتني في العطاء الذي يلازمني في مطلق أحوالي..

استقالتي، والتعبير.. هو عنوان الكتابة هذه، حيث قدّر لي أن أختتم بالاستقالة رحلة كاملة من تعليم العقول بين سورية والإمارات، وسيدني أيضا.. وأن تجيء خاتمة مرة العلقم، ولكن لحقها حلو العسل في أستراليا وطني الأجمل الذي أعتز به بعد الوطن الذي تجذّرت فيه..

سأضع الكتابة القديمة بين قوسين، وكل ما سبق كان ضروريا لأربط قارئي بحالة ماضية مستمرة، ولكني سأهيل عليها التراب بعد أن أطلق الرصاص في صفحة لاب توبي العزيز، وأغلق القوسين على الفاصلة الأخيرة:

" في كثير من الأحيان يحتاج الكاتب أن يكون أكثر من واقعي، أكثر من ميداني، برغم أنه في أغلب ما يصدر عنه ينتشل بذاره من أرض الواقع ويلبسها تحليقه، فمن ذاك الكائن الذي يقدر حقا أن ينتشل ذاته من كون هو نفسه حلّق فيه نطفة، ثم علقة، ثم..، كائنا مجاهرا به؟!...

قد يتساءل قارئي: لعل نقطتك سقطت سهوا من التغيير فتحولت إلى التعبير، فالعنوان نفسه إن ربط بين الاستقالة والتغيير سيكون أكثر حضورا، وقبولا، إذ كم يحتاج المرء إلى الاستقالة من كثير الدوامات، والسير حثيثا في التجديد، لكن أستميحك عذرا، فهنا يجيء العنوان بحرفية تامة!

نعم، لقد كان الأمر بادئ ذي بدء رغبة في التغيير لغبنٍ أطال تربّصه، بعد تأرجح بين شطين أزرقين، المتوسط، والعربي، وآن للبحّار أن يستكين قليلا من صراعه في ميناء يختاره، لكل إنسان الحق في اقتناص فرصة أفضل، ونشد الفرح وإن تناساه، لكن أن يلحق بي ما لحق، لم أكن لأتخيله يوما في جزء من العالم التربوي، يضحي فيه التعبير والكتابة من ألد خصومي، والجبابرة الذين قصموا ظهري حينها.. يحضرني هنا النازيون وهتلر وما حصل من المحرقة المدعاة، فالمكان الذي استنجدت به كان موازيا لذلك!

كان من أروع الأمور لدي خلال فترة التدريس المُنهِكة أن ألتقط خبرا، أو أقرأ كتابا تومض منه فكرة للكتابة أستغرق فيها فأنسى متاعبي اليومية وقرف المدراء وتجّار العمل، وأوامرهم الجوفاء، وكما المطر أنهمر غزيرا، أكتب وأكتب، فيتحول الفضاء حولي إلى زهراء ابن زيدون وولّادته، ومذ كنت في الطفولة كان ذاك الإرهاص يصيبني ويبللني بالعطر، كفرخ القطا أنتظر معلمة العربية وهي تعود بدفتر تعبيري وقد جال وتجوّل بين الصفوف، وقد انهال الثناء عليه، حتى أنني لم أنس دفتر البكالوريا "الثانوية العامة بمسماها السّوري" الذي استعارته صديقة فاشلة رسبت في الامتحانات معللة نفسها بالتفوق، وضاع، نعم أضاعته.. أنا لم أنسه، كما لم أتمكن من نسيان أن التعبير في هذه المدرسة التي ختمت بها تدريسي النظامي قد غدا مشنقتي!

كان العدد المطلوب من طلابي ستين موضوعا من التعبير، كيف سينجزون الأمر، غير مهم، المهم أن يُقدّم العدد كاملا في الشهر، ليُذرّ الرّماد في وجه مفتشي اللغة العربية كواجهة مزيفة لتفوق طلاب هذه المدرسة الذين ألغيت مهاراتهم الأخرى في المادة تماما. طالب لا يفقه القراءة جيدا، ولا يملك من المهارات النحوية، أو الإملائية إلا الفتات، طالب لا ينفتح على رصيد ثقافي يؤهله للكتابة، يجب أن تأتي منه المعجزة، أن يكمل الثلاثين في عشرين يوما، والباقي في العشرة الباقية.. يكتب ويكتب، تُسحب منه حصص الدين، والتربية الاجتماعية وتسخّر لرتق أحجار الواجهة، سباق يجري منافسا للإنكليزية التي يتقنها الطالب أكثر لأسباب معروفة لا داعي للخوض فيها، والأنكى من ذلك كله، كيف للغة أن يحترمها الطالب أو يقربها وهي تقدم بمثل هذا الجفاف والتشويه، وكيف لمعلمها أن تكون علاقته طيبة بطلابه الذين يؤمر باغتصابهم فكريا وتعليميا؟!

ما أزال أحمل تلك الصور البغيضة لدفاتر التعبير التي كانت تُقذف متتالية أسفل قدميّ حيث الأوامر أنّ وجهي، ووجوه المعلمين الآخرين مطلوب منها أن تتّجه إلى الحائط كي لا تسلو عملها لثانية، الدفاتر تُحشر في كراتين المياه الفارغة، وتلقيها بغضب واستهتار مسؤولة باردة الملامح لم تبتسم لحظة، وقد تقمصت عمل المخبر في البلدان العربية والاستعمارية، تحصي أعداد الموضوعات، وتكتب من التقارير ما ترتئيه بفكرها الضيق عن تقصير يخيل إليها في المعلم، وبين هذا وذاك، فوضى، واجتياحات، ولصوصية، واستخباراتية، والكل مثل الجرذان يتسارعون، يلهثون لإرضاء إدارة مصابة بالمرض النفسي، والانفصام رغم مظاهر الأناقة المحيطة بها.. زيف في كل شيء، في المشاعر، وفي الضمير هشاشة مرعبة، وفي الطلاب كره مقيت للغة العربية، ولمادة التعبير بالذات..

لا يزال يحضرني إشفاقي عليهم، وهم يطلبون مني بتردّد فتح حواسيبهم المحمولة، ليترجموا موضوعات إنكليزية إلى العربية ليستطيعوا الكتابة وملء دفاترهم بما سيلذ ويطيب للمسؤولين لعلهم يفوزون بتقييم "الجيد"!

المضحك في الأمر أن الطالب لا يتعدى احتجاجه المعلم، إذ أن مجمل التّهم ستصب عليه وحده، مما يعظّم من قبضة المشنقة الحمراء على رقبته، بينما ذاك التمثال الأبيض المنتصب في الغرفة الزجاجية الموشورية الأبعاد سينتصب أكثر مستغرقا في دموع خفية متى أراد أظهرها سلاحا، ومتى أراد كتمها تأهبا..

هل سقطت النقطة عن التغيير سهوا؟ بالطبع لا، فقد رفض التعبير أن يرخي القبعة، وآثر الاستقالة والتوالد في زهراء ولّادة ابن زيدون، ومراتع الكنغارو"..

ملاحظة: أعتقد أنني سأحذف التاريخ الذي دونته أعلاه، وأحتفظ به لنفسي..

 

أمان السيد

 

في المثقف اليوم