أقلام ثقافية

أبو الخير الناصري: يومياتٌ أصيلية

ابو الخير الناصريالخميس 26 غشت 2021

عدد الناس في شاطئ سيدي أحمد الزواق هذا اليوم أقلُّ منه منذ ثلاثة أيام.

إنها العَشْر الأواخر من أغسطس الجميل. ودّعَ المدينةَ كثيرٌ من أبنائها وزائريها بعد قضاء أوطار الاستجمام، والراحة، وصلة الرحم...

بضعُ عائلات، وصديقات، ورفاق يشغلون طاولات قليلة من طاولات مقهيين. فيهم من يتناول وجبة غداء، وفيهم من يشرب شايا أو مشروبات غازية..

أجلس وحدي محاطا بذكرياتي في الشاطئ هذا الصيف. أستحضر جلساتي هنا مع الأصدقاء جمال بوليفة، ومحمد البوعناني، وعبد المالك عليوي وما كان بيننا من احاديث عن الشأن المحلي وشؤون الثقافة ببلادنا.

أستحضر الأصدقاء عبد السلام الشويخ، وأسامة الزكاري، وأحمد بومقاصر، ومحمد بنعبود، وأنور الترفاس، وحسام الراجي، وحكيم غيلان وآخرين كثيرين ممن جالستهم أو حادثتهم أو سلمت عليهم وبادلتهم السؤال عن الصحة والأحوال في موضع من هذا الشاطئ الممتد.

لم ألق أحدا منهم اليوم وأنا أمشي من أول الشاطئ البلدي حتى "سيدي أحمد الزواق". مضى أغلبُهم إلى حال سبيله..إلى أعماله وأشغاله والإعداد لبرامج حياته بعد الصيف.

هي الحياة تجمع الناس في مكان واحد، ثم تذهب بكل فرد منهم في طريق! يتكرر هذا كلَّ صيف، بل كلَّ مناسبة يلتئم الناسُ فيها بمكان واحد قبل الفراق.

أهو تذكيرٌ للإنسان بوحدته في عالم مليء بالناس؟

أهو تذكيرٌ له أنه يولد وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده!؟

الوحدة هي المبتدأ والمنتهى. هي الأصل الذي يهرب منه كثير من الناس أغلبَ الوقت فرارا من الحقيقة التي لا تحتملها نفوسُهم الهشة اللاهية اللاهثة.

أرفع بصري عن شاشة الهاتف قليلا. أنقّل عينيَّ بين الناس من حولي. أكفُّ عن ربط الصلة بين فكري وبين يدي التي ترقن "الكلام النفسي" على شاشة الهاتف. أمد يدي إلى كأس الشاي على الطاولة لأغنم بعضا من متعة الصيف قبل انقضائه. وأقول لنفسي: "توقف عن التفكير فيما مضى، وفي وحدة الفرد المحاط بالغير. تمتع بكأس الشاي. تفضل اشرب".

الأربعاء الفاتح من سبتمبر

في السابعة مساء تحلقنا نحن الأبعة حول مائدة في مقهى La Luna: الشاعر العماني أحمد الوهيبي، والكاتب المسرحي مصطفى البعليش، والقاص عبد الصمد مرون، وكاتب هذي الكلمات.

هي مبادرة لطيفة مشكورة للصديق مصطفى من أجل ربط الصلة بيني وبين الشاعر العماني الإنسان الوديع صاحب ديوان "رداء الديك" الذي جاورني في الحي أربعة أعوام دون أن أتشرف بمعرفته!!

وكأنما أجرينا اقتراعا صامتا بيننا نحن الأبعة لانتقاء موضوعات الحديث، فكان الحضور الأبرز للمغرب وأعلامه ما دمنا ثلاثة مغاربة في حضرة عُماني واحد!!

تحدث مصطفى عن قلة احتفاء الأديب المغربي بأخيه المغربي، فاستحضرت قول صاحب "مرآة المحاسن" إن المغاربة وُسِموا بالإهمال ودَفنِهم فُضَلاءهم في قبرَيْ تُراب وإخمال"، ثم استدركت بالقول إن الأمر يتجاوز المغرب إلى كثير من بلاد العرب، وسردتُ حكاية في الموضوع أوردها محمود حمدي زقزوق في كتابه "الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري".

طُرحت قضية موسوعية المثقفين المغاربة المعاصرين، وذُكر اسم عبد الكريم غلاب القاص والروائي والصحافي والمؤرخ وكاتب السيرة الذاتية.....

قال أحمد إن أمثال غلاب لا يَخلفهم خلَفٌ لإيثار الناس التخصصَ في هذا الزمان، ووافقناه الرأي جميعا، آسفين على ندرة أمثال غلاب الموسوعي.

استطردنا للحديث في منجز غلاب، فاستحضرت بالتذاذ بعض ما قرأت له وعنه لإعجابي الكبير بمنجزه المشرّف.

وسررنا جميعا بإحداث حديقة باسمه داخل أصيلا.

لم تَخْلُ مائدة الحديث من انعطافة إلى رفيق غلاب في "العَلَم" الأستاذ عبد الجبار السحيمي رحمه الله. حدثنا مصطفى عن زيارات الراحل للمحروسة وممارسته هواية الصيد بها، كما تحدث عن مجموعته "الممكن من المستحيل"، وأبديت إعجابي بفن المقالة عند الرجل استنادا إلى عموده المتميز "بخط اليد".

أحاديث رائقة جعلت الجلسة ماتعة لم يَشِنها شيءٌ سوى اقتراب التاسعة مساء موعد إغلاق المقاهي والمطاعم.. واضطرار الصديق أحمد للانصراف قبل أن نغادر نحن أيضا بعد وقت قصير آميلن تجديدَ اللقاء، وتعميق النقاش، وتنويع موضوعاته وقضاياه.

الأحد 05 من سبتمبر

-"سأتفرّغ هذا الصباح لكتابة قصة".

بهذا حدثتُ نفسي وأنا أغادر المنزل متجها إلى مقهى الضاية حيث أشرف على طفولتي بحي للا رحمة. في الكيس هاتفي المحمول ودفتر وقلم ورواية لهدى بركات نالت عنها جائزة نجيب محفوظ للرواية.

القراءة والكتابة توأمان. سأكتب ما يفتح الله به عليّ، ثم أقرأ صفحات من هذا العمل الروائي.

أشرت إلي النادل إشارة متفقا عليها بيننا تفيد أن الطلب قهوة بالحليب، وصعدت الدرج في اتجاه مقعدي المعتاد بالطابق العلوي للمقهى.

لا أحد هنا غير رجل وامرأة في أقصى اليسار يتناولان فطورا ونظرات لم أفلح في تبين طبيعتها لبعدهما عن مجلسي في أقصى اليمين. أشرف على الضاية الكبيرة حيث قِلّةٌ من السابحين يصرون على اغتنام ما تبقى من لحظات الصيف الهادئة.

ساحة المقهى في الأسفل غاصة. لا كرسي شاغر في مقدمتها حيث لا حاجز بين الجالس وبين رؤية البحر. إنه يوم الأحد، وهو أحد يومين تعرف فيهما المدينة بعضا من رواج طوال العام.

هل أشرع في الكتابة أم أنتظر ريثما يأتيني النادل بالقهوة؟

سأنتظر قدوم النادل لئلا يقطع عليَّ حبل التفكير والكتابة. أخرجت هاتفي المحمول من الكيس. بسم الله نرى أي جديد في هذه "الصحيفة الزرقاء".

زرت صفحات لأسماء مفضلة عندي. كتاب وأساتذة أجلاء أحرص على النهل من كتاباتهم وملاحظاتهم. ثم انتقلت للصفحة الرئيسة حيث أخلاط من أخبار ومدونات.

سرني خبر صدور كتاب منشورا على صفحة رئيس جمعية قصرية عتيدة. كتاب جديد لعزيزي الأستاذ محمد العربي العسري. هو كتابه الثاني عن صديقه محمد الخمار الكنوني. تساءلت في إعجاب: أي نفس وفية هذه التي بين جنبي هذا الرجل؟ ثلاثون عاما مرت على وفاة صديقه وما زال يفكر فيه ويفرده بالتأليف بعدما كتب عنه ضمن سِفره عن أعلام القصر الكبير في العصر الحديث؟ إنه درس في الصداقة والوفاء والكتابة المنزهة عن الغايات الشخصية والمطامع الذاتية. لله درك أيها الشريف العسري!

انثالت على ذهني صورة غلاف كتاب سابق للرجل عن الشاعر الخمار، فشرعت أبحث عنها في صفحة أحد الأصدقاء.

فكرت قليلا في إخلاص العسري لصديقه، فبَدا لي أن أكتب في هذا الموضوع. لا شك في فائدة ذلك وأهميته.

نقلت الصورتين إلى صفحتي الزرقاء، وشرعت في كتابة كلمات مفتتحا إياها بما قاله صاحب "مرآة المحاسن" عن جحود المغاربة أفضال علمائهم. وانطلقت أدوّن ما عنَّ لي من أفكار، مركزا على وفاء العسري، وإخلاصه، وبرّه ببعض علماء المغرب المعاصرين وأدبائه.

بعد الفراغ من الكتابة على شاشة الهاتف خصصت دقائق للتنقيح والاختصار.

هل أتصل بالعسري وأقرأ له ما كتبته؟ "إذا أحبّ أحدكم أخاه فليُخبره بذلك". فليكن هذا الاتصال طريقة في الإخبار بالمحبة!

حين وضع النادل كوب القهوة على الطاولة كان الشريف العسري يشكرني على ما كتبت. بادلته الشكر، وتوادعنا، ثم عدت للتفكير في القصة التي جئت لكتابتها هذا الصباح.

 

أبو الخير الناصري

 

في المثقف اليوم