أقلام ثقافية

علي الجنابي: الصَّحَافةُ بِظَرافَة

(النَّصُّ منقولٌ بتَصرّفٍ عن «خربشاتٍ مَسائيةٍ» لأخي أستاذ النحو؛ أحمد الرَّاشدي من بلاد الشام)

أيَّامَ ما كانَ العَاَلمُ كلُّهُ مُنهَمِكاً بتَبَتُّكٍ وتَهَتُّكٍ وبِصَلافة، يَتَقَصَّى عن أسلحةِ دمارٍ في أرضِ العراقِ بكَثافةٍ وكَسافةٍ وسَخافَة، وكأنَّ العالَمَ رَاهبٌ هُمامٌ وديعٌ في دَيْرِ سلامٍ بَديع مُتَنسِّكاً باعتكافِه، كانَ «أبو حذيفَةَ» مهندساً شَغوفاً بعلمِ «المِيكانيك» وبأصنافِه، يعملُ في دائرَةٍ حذوَ دجلةَ جاثمةٍ على ضِفافهِ، فَتَوَجَّهَ صَديقُهُ منَ الشَّامِ الصُّحفيُّ «حُسام» محترفُ الصَّحافة رفقةَ «أبي قيس» مُتَدربٍ في فنِّ الإعلامِ والصَّحافة، الى بغدادَ ليحلّا على «أبي حُذيفةَ» في ضيافة، وبغيةَ إجراء حِوارٍ معهُ إذ هو مُتَوَرِّكٌ حذوَ النَّهر على أردافِه.

قالَ أبو قَيس لحُسامَ؛ دَعْنيَ أكُ المُحاوِرَ، فإن أخطَأتَ فقُمْ بالسّعالِ بلَطافَة، فأجَابهُ الحُسامُ أن نَعم، قدِ اتفَقنا وحذارِ من غَثِّ الحِوارِ أو انحِرافَه، فَوَصَلا إلى بَغدادَ فَاتَّجها صَوبَ شَركَة أبي حُذيفةَ فَطَلبَا لقاءَهُ بِظَرافة، وبعدَ السَّلامِ والتَّحياتِ قدَّمَ لهما أبو حذيفةَ لبنَاً وتمرَاً ثمَّ عصائرَ وشَطائرَ وكُنافة، ثمَّ قالَ حُسامُ لأبي قيس؛ إليكَ بنودُ اللقاءِ فيها حُدودُ الحِوارِ وقيودُ تطوافِه، فردَّ أبو حُذيفةَ؛ ما من داعٍ لقيودٍ في بنودٍ ودعِ اللقاءَ عَفَوياً بارتِشَافهِ وائتِلافِه، فَهَزَّ حسامُ رأسَهُ مُؤيِّداً باصطِفافِه، ثُمَّ انعَطفَ الثَّلاثةُ والتَفُّوا حولَ طاولةٍ بالتفَافة، وَبينَما كانَ حسامُ يضَبَطُ التَّسجيلِ غَمَزَ لأبي قَيس أنِ انطلقْ يا صاحُ في عالَمِ الاعلامِ والصَّحافة، فانطلقَ مُغرِّداً أبو قَيس باستشرافِه؛

نُرحِّبُ بالمُهندسِ أبا حُذيفةَ وخيرُ ما نُبْدَأُ بهِ ذا الحوارِ آيٌّ من قرآنٍ وألطافِه، فَسَعَلَ حسامُ فناوَلَهُ أبو حذيفة كأسَ ماءٍ بودٍّ ورَهَافة، فانتَبَهُ أبو قَيس فأعادَ الكَرَّةَ برَصانةٍ وحصافَة؛ يُسعِدُنا أن نبدأَ حَديثَنا بالنَّشيدِ الوَطنيِّ العِراقيِّ تَبجيلاً لأعرافِه، فَسَعلَ الحُسامُ ثلاثاً مُتَتابِعاتٍ بارتجَافة، فجَفَلَ أبو قَيس فأحضَرَ أبو حذيفةَ الكَأسَ لحسامَ المُتَبَسِّمَةِ أوصافه وهو يقولُ؛ أبو قيس فَتى من فتيانِ الصَّحافةٍ لكنَّهُ ذو ظَرافة، ومجبولٌ على حبِّ المناكفَةِ والطَّرافَة، والتَفتَ إلى أبي قَيس يَهمسُ بِشَنافَة؛ «فَضَحتَنا أبا قيس».

اسْتَأْنَفَ أبو قيس الحِوارَ واستكتِشافَه: هلّا حَدَّثتَنا عنِ العَملِ هنا «كابتنَ» أبو حُذيفة وعن أكنافِه؟ فَسَعلَ حسامُ خمساً وهوَ يَتَلعثَمُ ﻷبي قَيس: أستاذٌ أستاذٌ ﻻ كابتن، ثمَّ كأسُ ماءٍ آخرٍ لحسامَ المُغَلَّفِ بارتِجافِه. فَرَدَّ أبو حذيفة: عَملُنا يا كابتن هو هَندسيٌّ ويتمَحورُ كُلُّهُ حولَ علمِ المُسَنَّناتِ وأطيافِه، فأردفَ أبو قيس: فهَلّا أخبَرتَنا نبزَةً عن آليةٍ المُسنَّنِ والتفافِه؟ فَاحمَرَّ وجهُ حُسامَ فَسَعَلَ سَبعاً وفمُهُ مُرتعِشٌ إذ يهمسُ ﻷبي قيس بارتجافَة؛ هي نبذةٌ وليسَت نبزَةً، وقد بلغتَ بالحِوارِ ذروةَ انحرافِه، وصَيَّرتَ الحِوارَ تَخَرُّصاً وخُرافة، فقَدَّمَ أبو حُذيفةَ كأسَ الماءِ لحُسامَ بتَوَدّدٍ لإسعافِه.

أمسكَ أبو قَيس ورقةَ الأسئلةِ فقالَ؛ هلّا حَدَّثتَنا أبا حُذيفةَ فيما هَهُنا عنِ القنابلَ كما قالَ القائدُ باعترافِه؟ فتَشَرْنَفَ الحسامُ فسَعلَ تسعةَ عَشْرَةَ سَعلةً ولاتَ حينَ ثقافَة، فاسْتَطْرَدَ أبو قيس غَمزاً بحَاجِبَيهِ يَهتفُ بهتافِه؛ أعني هل لنا بنُبذةٍ عن تَصنِيعِ القَنابلَ وما عَنيتُ خِلافَه، فأصابتِ الحَازوقةُ الحسامَ واختَنَقَ منَ سعالِ بكثافة، فأحضرَ أبو حَذيفةَ صنبورَ ماءٍ بأُنْبُوبٍ الى دجلةَ مَمدُودةٌ أطرافِه.

كانَ أبو قيسَ ينظرُ لحسامَ مُدَندِناً يودُّ شرحَ أهدافِه؛ قلتُ نُبذةً نُبذةً وما قلتُ نبزةً واختلافَه، فانتفخَت أوداجُ حسامَ وهوَ يَشيرُ بإصبعِهِ إلى كلمةٍ في ورقةِ أبي قيس وإذ تَهتَزُّ أكتافَه؛ «مَنَاقِل»، فَهرعَ أبو قيس مُحاولاً رتقَ ما انفتقَ وايقافَه؛ هل لنا أن نَرى مَناقلَ قنابلِكمُ الظَّريفةِ بلمحةٍ واختِطافة؟ فَصَكَّ حسامُ الفَكَّ، وحَكَّ أبو قيس رأسَهُ وهوَ لا يَشكُّ باحتِرافِه؛ قُلنا نبذةً لم تُعجِبْ، قُلنا مَناقِلَ لم تُعجِبِ الحسامَ المُحتَرفَ للصَّحافَة.

أدرَكَ أبو حُذيفة إذ ينظرُ بِعينِ عَطفٍ لسعالِ حُسامَ وارتجافِه، أنَّ الحسامَ يبغي نطقَ كلمةٍ عالقَةٍ وتأبى الخروجَ من حِقافِه، رُبَما علقت مِن غَضبٍ على أبي قيس وانجِرافِه، رُبَّما من كثرةِ التقامِهِ للتَّمرِ دونَ الكنافة، فانكَبَّ أبو حذيفةَ لإسعافِه، فَرفعَ يَمينَهُ فدَفعَ بها بقوةٍ على ظَهر حُسامَ وتحتَ وأكتافِه، فخَرجتِ الكلمةُ العالِقةُ بزُعَافَة؛

«فَضَحتَنا».

[ وهكذا فإن كثيراً من الإعلاميين الذين يتصدون لإجراء الحوارات مع ضيوفهم، نراهم يفهمون في كل شيء إلا فن الحوار وأطيافه، فتكونُ محصلةُ الحوار كلمةً يتيمةً خرجت من فمِ الضيفِ في زحمةِ ألفِ كلمةٍ للمحاورِ مُتَعجرفةٍ جهولٍ وبصلافة].

***

علي الجنابي

 

في المثقف اليوم