أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: انشودة طويلة للطفولة

تعيدنا رواية "شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة"، الى طفولتنا الرائعة بكل ما فيها من افراح صغيرة واحزان كبيرة، وتدفعنا بيدٍ من شوق إلى ايامها العذبة الدافئة الحنون.. التي لا تتكرّر ولا يمكن لها ان تفعل ذلك، بحكم التقدّم في العمر والمضي في دروب العمر المتعرجة، المنطلقة في الان ذاته عبر غاية محدّدة هي.. الحياة الراسخة.

مؤلف هذه الرواية هو الكاتب البرازيلي ورجل السياسة البارز خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس، وهو من مواليد ريو دي جانيرو عام 1920، وقد توفي في ساو باولو عام 1984. عاش مؤلف الرواية طفولة قاسية، صعبة اذ كان مولده في عائلة فقيرة، وهو ما انعكس في كتاباته الروائية والسينمائية، وقد تخصص في الكتابة للأطفال، وانتج في مجالها العديد من الروايات اللافتة، وقفت في مقدمتها روايته هذه "شجرتي.."، واحدة من ابرزها علما انه وضعها عام 1967. وقد ترجمت هذه الرواية الى العديد من اللغات ولاقت الكثير من الحفاوة لما اتصفت به من عودة ذكية، شاعرية وإنسانية، إلى الطفولة وافاقها المسربلة بالغموض حينا وبالوضوح أحيانا.

هذه الرواية حافلة بالمشاعر والاحاسيس وتعيدنا الى أيام عزيزة غالية مذكرة ايانا بما اعتور تلك الأيام من شقاوات بريئة وغير مقصودة.. وعادة ما احتاجت لمن يخلصنا منها ويأخذ بيدنا كي نحافظ على ما حفلت به وجوهنا من ماء الحياة والمحبة لكل ما هو لافت وجميل في مغائرنا واشجارنا العظيمة.

تدور احداث الرواية حول الطفل "زيزا" وهو طفل ذكي وشقي في الان، فطالما أوقع بعضا ممن دفعتهم اقدارهم لان يمضوا في طريقه في هذا المقلب او ذاك، ويبرز مقلب تخويف امرأة تمر من طريقه وايهامه لها بانها تتعرض لهجوم افعى عليها، واحدا من المقالب اللطيفة الطريفة التي لا تنسى. اما قصة الطفل زيزا مع "سرقته"، للزهور من اجل تقديمها لمعلمته المحبوبة وردعها له عن سرقتها بعد مصارحته لها، فإنها تبلغ ذروة عالية من العذوبة التعبيرية لا سيما عندما تقول له معلمته المحبوبة انه من الأفضل ان تبقى الزهور في اماكنها العامة لتمتع الجميع، موضحة ان سرقته لها لا تعدو كونها عملا غير أخلاقي. اما رده عليها وهو: الم يخلق الله الزهور لكل الناس.. فانه يدخل في لب الطفولة ويرتقي الى اعلى ما يمكن ان تصل اليه من ذرى عالية.

بطل الرواية ابن الخامسة، يتعلّم القراءة مبكرا جدا.. في الرابعة ودون معلم، ويلفت انظار المحيطين به بالعديد من الصفات والميزات، فهو فقير جدا، وهو ما يذكّر بمبتكره، صاحب الرواية، كما انه ذكي جدا ما يذكر بالعديد من الشخصيات الأدبية المعروفة عالما مثل الطفل هكلبرى فن في رواية مارك  توين المشهورة، او الطفل في رواية مديح الخالة لماريو فارغاس يوسا. هذا الطفل الذي يناديه الجميع بالشيطان الصغير ويصفونه بقط المزاريب، يروي لنا، نحن قراء الروية، تفاصيل ما واجهه من احداث ومغامرات، ابتداء من احاديثه الطلية الى شجرته.. شجرة البرتقال الرائعة، انتهاء بتفتح تلك الشجرة، مرورا بما واجهته من مخاطر الازالة بيد التغير والتبدل. هو طفل يحمل في قلبه عصفورا وفي راسه شيطانا يهمس له بأفكار مربكة عادة ما توقعه في متاعب الكبار ومشاكلهم المعقدة.

هذا الطفل، كما تذكر مترجمة الرواية الى العربية ايناس العباسي، لا يروي حكاية خرافية ولا أحلام الصغار في البرازيل فحسب بل يروي مغامرات الكاتب صاحب الرواية ذاته في طفولته، وهو ما يمسّ طفولة الكثيرين ممن كبروا في عالمنا هذا.

يلفت الاهتمام ان الرواية انها تروى على لسان الطفل "زيزا" ابن الخامسة، وذلك عبر ما يراه هذا الطفل ومِن وجهة نظره، وفق تعبير الناقد بيرسي لبوك في كتابه الشهير " صنعة الرواية"، الامر الذي يجعل منها/ الرواية، اشبه بمسرحية تتسلل احداثها الى اعماقنا دون طلب او استئذان.

لقد حظيت رواية شجرتي- شجرة البرتقال الرائعة باهتمام عالمي كبير، لما حفلت به من عذوبة تذكر بعذوبة ثمرة برتقال حلوة المذاق، ولما حفلت به من مشاعر إنسانية تصرّ على تذكير قارئها بها وبما انطوت عليه من براءة طفولية. انها رواية الطفولة الخالدة.. رواية شاعرية تحمل دماء أهالي البرازيل الأصليين.. وقد دأبت مدارس برازيلية عديدة منذ سنوات صدورها الأولى على تعليمها لطلابها، كما حض مربون في انحاء مختلفة من العالم، فرنسا مثلا، على قراءتها.. بهدف معايشة تفاصيلها الإنسانية الشاعرية الثرية والمؤثرة.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم