أقلام فكرية

الأنسية المسيحية عند إيرازموس

(إن التعليم يجب أن يغذي الرغبة في الوصول إلى الحقيقة .. لا الإيمان بأنّ عقيدة معينة هي الحقيقة). برتراند رسل . 

إن المنطلق الأنسي لمن ينظر بأفق كوني مفتوح متجرد من إكراهات الماضي وعنفه الرمزي، وينظر بانفتاح ديني باتجاه الانسانية من دون أن يتحجر في كهوف الماضي وحزازاته التي سوف تحول من دون معرفة الآخر والتواصل معه انسانيا، فالتحرر باب للتواصل الأنسي .أما الأمر الآخر؛ فهو الانعتاق من المعتقدات المتباينة التي تجعلنا نحب ونتواصل مع ناس ونكره آخرين على أسس الهوية المذهبية أو الدينية أو القومية؛فالدين العقلاني يحتوي الجميع لأن المتدين العقلاني من يشفق على كل الناس .

يأتي هذا المقال كبحث في أواصر الكونية ومعرفة الآخر والتواصل معه انسانيا،فالأنسية المسيحية كانت محاولة مهمة في وقتها للخروج من هيمنة الآخر على الفرد وجعله سجين أحكام مسبقة ضيقة؛ لهذا كان من الضروري البحث عن كل ما هو محذوف ومنفي في الذاكرة والثقافة الغربية المسيحية ومن هنا جاء مشروع الإصلاح الأنسي المسيحي يحاول تجاوز إكراهات المذهبية والعمل على إحياء التراث الإنساني الذي اقصته الكنيسة وعدته وثنياً، ومن اجل ممارسة النقد كان لابد من إحياء هذا الجزء من الذات ألا وهو عقلانية القدماء من اليونان والرومان على صعيد المنهج والرؤية العقلية والجمالية في الأدب والمسرح .وأحد أبرز ملامح هذه النزعة هي تلك التي كان احد رموزها "إيرازموس" .

أولا: النزعه الأنسية:

إن الحفر المعرفي لمصطلح الأنسنة humanistas يفضي بنا إلى تجلي ماهية الإنسان المتمثلة في الصفات التي يتميز بها النوع الإنساني، وهو في الوقت نفسه فرع معرفي يسعى إلى تخطي العصر الوسيط من خلال قطيعة معرفية مع المركزية اللاهوتية وسردياتها الكبرى المتمثلة في: (الأدب المقدس و الفلسفة واللاهوت والفنون المسيحية) مثل: استعمال الحكايات المجازية أو الاسطورية، أو الشعائر والطقوس وخلع التقديس على الأشياء، و الترميز، والتحوير و الأساليب المجازية (1)، ولأجل تحقيق تلك القطيعة جاءت تلك اللحظة في استعادة الخطاب العقلاني الوثني اليوناني والروماني بكل حمولته العقلية من فلسفة وفنون لتكون بمثابة البديل الدنيوي بمقابل الخطابات الدينية المسيحية التيولوجية التي كانت بمثابة مجموعة من الاعتقادات التي أصبحت تمارس سلطة النفوذ، يمكن ان نضع لها ملامح عامة منها الآتي:

من حيث الموضوع فهي تلك الفلسفة أو النزعة الإنسانية Humanistas التي تعني "تعهد الإنسان لنفسه بالعلوم الليبرالية التي بها يكون جلاء حقيقته كإنسان .(2) ومن ثم فهي تضع الإنسان والقيم الإنسانية فوق كل شيء. وهي تعد الإنسان أجمل الكائنات وأفضلها وأرقاها وتثق به وبإمكانياته كل الثقة. والواقع إن الذي يثق بالإنسان ويتفاءل به وبمقدراته. فضلاً عن كون الإنسان يشكل بالنسبة له القيمة العليا التي لا قيمة فوقها. والإنسان بالنسبة له غاية بحد ذاتها وليس وسيلة بأي شكل من الأشكال.(3)

وفيما يخص المكان الذي ظهرت فيه فقد نشأت هذه الحركة الثقافية في إيطاليا أولا وفي القرن الرابع عشر الميلادي. ثم انتشرت من هناك إلى بقية أنحاء أوروبا وبلغت ذروتها في القرن السادس عشر: عصر النهضة بامتياز. فكل معرفة لا تهدف إلى الرفع من شأن الإنسان أو ترقيته لا جدوى لها ولا لزوم. وراحوا يحلمون ببناء مجتمع يختلف عن مجتمع القرون الوسطى المستكين لأقوال الكهنة والمستسلم للمقادير والظروف. راحوا يحلمون بتثقيف الإنسان وتهذيبه؛ لكي يصبح عقلانيا ذكيا معتمدا على نفسه وإمكانياته لا متواكلا ولا كسولا. وقالوا بأنّ التوصل إلى ذلك لا يمكن أن يتم من خلال الاعتماد على الكتب الصفراء لرجال الدين المسيحيين وإنما من خلال كتب كبار شعراء وفلاسفة اليونان والرومان (عدّوا دراسة القدماء كفيلة وحدها بتكوين الإنسان بمعنى الكلمة، فسميّت هذه النزعة بالإنسانية أي المذهب الإنساني، وسميت الآداب بمعنى القديمة بالإنسانية .).(4)

اهم سماتها الجانب الإحيائي للتراث السابق للمسيحية والذي تعرض للنفي والحذف من قبل الكنيسة بوصفه وثنياً فقد عاد المفكرون الأوروبيون إلى النصوص الوثنية اليونانية ـ الرومانية التي كانوا قد نسوها أو أهملوها طيلة العصور الوسطى المظلمة. لقد عادوا لاكتشاف نصوص أفلاطون وأرسطو وهوميروس وفيرجيل وشيشرون وسواهم آخرين.

أما أبرز مفكريها فيأتي مفكرنا " ايراسموس" الذي لقبوه بأمير عصر النهضة، إلى جانب كل من: (بيترارك، وبيك الميراندولي، ومارسيل فيشان).

ما يميز هذه النزعة أنها تبحث عن إحياء الإنسان ومن أجل هذا وجهت نقداً للكنيسه ورجالها وما يمثلوه من أصولية دينية متزمتة .اذ ضاق كل هؤلاء ذرعا برجال الدين ومواعظهم وأفكارهم التقليدية المكررة منذ مئات السنين. وشعروا بالاختناق في ذلك الجو المغلق للعصور الوسطى؛ولذلك راحوا يقفزون على كل العصور الوسطى التي تتجاوز ألف سنة؛ لكي يعودوا إلى أجواء اليونان والرومان إذ كانت الحرية متوافرة. وهكذا راح كبار كتاب اليونان يترجمون إلى اللغة اللاتينية أو اللغات القومية الأوروبية التي كانت في طور الانبثاق حينها: كـ(الإيطالية، والفرنسية، والإنجليزية، والألمانية)، الخ.

حال العلوم الانسانية قبل هذه النزعة: في أثناء العصور الوسطى كانوا يتحدثون عن الآداب الإنسانية والآداب الإلهية. وكانوا يقصدون بالأولى مجمل المعارف الدنيوية التي يدرسونها للطلاب في كليات الفنون والبلاغة في جامعة باريس حيث الفنون الجميلة أو الحرة . وأما الثانية فكانوا يدرسونها في كليات اللاهوت المسيحي إذ يهتمون بالدين والإنجيل وشرحه والتعليق عليه. وكانت الدراسات اللاهوتية تهيمن على الدراسات الإنسانية بشكل واضح طيلة العصور الوسطى؛ وذلك لأن العلوم الإلهية أشرف من العلوم الإنسانية وأجل شأنا .(5)

الا إن (دراسة الفنون كانت تمهيداً و إعداداً للدراسات اللاهوتية أو الفقهية أو الطبية، فيتقدمون فيها إلى الدرجات الثلاث . وكان بوسع كل حاصل على درجة أن يفتح مدرسة، فكانت حرية تامة فاتسع نطاقة .وكان الحد الأدنى في دراسة الفنون ست سنين، وفي دراسة اللاهوت ثمانيا . وكان الحد الأدنى لسن الأستاذ العشرين للفنون، والرابعة والثلاثين للاهوت)(6)

دور الفلسفة في ما قبل النزعة الأنسية:

تعد الفلسفة خادمة لعلم اللاهوت المسيحي. وكان كلام رجال الدين شبه معصوم ولا يمكن أن يناقش وإنما يطاع فقط. ثم ابتدأت الأمور تتغير منذ القرن الرابع عشر الميلادي إذ ظهر بيترارك وتجرأ على إبداء إعجابه بالكتّاب الوثنيين السابقين على المسيحية. ثم تلاه آخرون عديدون وساروا على الخط نفسه . وبرر هؤلاء أخذهم عن فلاسفة اليونان والرومان بأنّ كتبهم تحتوي على الحكمة والعلم والعقلانية الصائبة على الرغم من وثنيتها. وبالآتي فيجوز الأخذ عنهم.

ظهور الطباعة أسهم في انتشار هذه النزعة؛ ففي السابق كان نساخة الكتاب تستغرق أسابيع عديدة أو شهورا. وأما الآن فقد أصبحت طباعته وبمئات النسخ تتم بين عشية وضحاها.. هنا نكتشف أهمية التكنولوجيا.(7)

ثانيا: الأنسية "إيرازموس":

ويمكن أن نعد المفكر الهولندي ايراسموس أكبر مثال على هذا النوع، باللاتينية: Desiderius Erasmus Roterodamus) عاش في (روتردام ح. 1469- بال 11 يوليو 1536 م) هو فيلسوف هولندي، من رواد الحركة الإنسانية في أوروبا، كان يكتب باللغة اللاتينية.

يبدو أن "إيرازموس" كان مولعاً بالجنون فقد عرف عنه طبعه الساخر (مناظرة في مدح الجنون)، وبالإنسان، ومن خلال ذلك حاول أن يضع مبادئ الحركة ويؤسس الى إنسية دينية من خلال كل هذا يظهر أنه كان يتمتع بشخصية مستقلة تظهر في تعليقاته على نصوص العهد الجديد، يبدو لدى النقاد إنه كان ينوي إحداث مقاربة لما كان يبدو حينها متباعداً بين الأنسيين والدين المسيحي ممثلا بالمذهب الكاثوليكي.

يبدو أن اسمه "ديزيدريوس أرازموس" ومعناه "الحبيب المرغوب" فيه معنى انطولوجي عميق بين الايروسية وطابعها الدنيوي والفضيلة الدينية وطابعها المقدس، هكذا كان ابوه بين كونه رجل الدين، وكاتب من الدرجة الثانية، وقد طغت على سلوكه الايروسية وأخرجته من فضيلة (رجل الدين) يوم وقع مع مرجريت ابنة طبيبة وأرملة، فكانت النتيجة ابن غير شرعي وقد وسمت حالته تلك بهذا الاسم "الحبيب المرغوب به"، كتأجج لحظة ايروسية .اذ تربى وتعلم بين الهولندية لغته الوطنية واللاتينية لغة الثقافة الدينية وعلومها، وقد اخذت تنفتح على التراث الأنسي القديم، وقد تمكن منها بصورة مذهلة.

وكانت رحلته في الدير قد بدأت يوم فارقه اباه عام 1484م، فاصبح اليتم رفيقه وحياة الدير عالمه تغلفه بأخلاقيات الزهد والعفة الأخلاقية كونه راهب أوغسطيني، اذ عاش سنيناً عديدة في دير "ديرامأوس"، في ظل تلك الحياة الزاهدة التي خلقت منه فتى مرهق من الصيام وروح متعطشة الى الحرية " على الرغم من قبوله في سنة 1492م أن يرسم قساً؛ولكنه أينما اتجه نازعته نفسه إلى أن يضع قدمه على مكان آخر. كان يحسد الذين التحقوا بالجامعة بعد إنهاء تعليمهم المحلي".(8)

إلا أن انفتاحه على الأنسية جعله يقترب من أجواء أثينا من خلال: (حكمة افلاطون، ومآسي يوروبيد، وحياة زينون وابيقور)، فغدت تلك المدينة المستعادة في مدونات الأنسيين مألوفة، مثلما كان يعيش أجواء روما عبر آداب اللاتينية وحكمتها حيث سيشرون وهوراس وسينيكا فكلا المدينتين كانتا حقيقتين بالنسبة له مثلهما في ذلك مثل شاطئ السين الأيسر. (وكان سينيكا في نظره مسيحياً صالحاً مثل سانت وهكذا، رحل باختياره في غمرات الماضي واكتشف لورنزو فالا، واستطابس طعم اللاتينية الأنيقة) (9)، لقد كانت الأنسية تلك بكل انفتاحها العقلي قد مكنته من أن يدرك أوهام الكهف الذي يعيشه:

فأدرك إن تلك الشرعية التي اختلقتها الكنيسة وأسست عليها شرعيتها المتمثلة بـ "هبة قسطنطين" (10) زائفه لا تصمد أمام النقد التاريخي .

ولقد أدرك بأنّ فحص النص على وفق قواعد العقل قد كشفت له تلك الاخطاء في النسخة اللاتينية (11) من الكتاب المقدس .

ثم من خلال مقاربته بين الحياة الكنسية والحياة التي مثّلتها الأبيقورية، هذا دفعه إلى أن يتساءل أليست الأبيقورية أحكم وسيلة للعيش. وقد تجلت هذه الرؤية النقدية لديه في سعيه الى التوفيق بين أبيقوس والمسيح، والتي هي بمثابة أصداء لأصوات دونس سكوت وأوكام، صاحب الرؤية النقدية والتي اثرت في الاتجاه الأوغسطيني الذي تأثر فيه لوثر وقد كان معاصراً لأرازموس الذي تأثر بكل هذه الأفكار النقدية؛ فقد عصفت بمعتقداته ولم يبقَ منها الا الإعجاب العميق بأخلاقيات المسيح

وكان لتلك الافكار التقدمية اثر طيب في منهجه في التعليم وهو المنهج الذي عرف به،اذ قام بإعطاء دروساً خصوصية لبعض الفتيان من الطلبة لزيادة موارده .

وقد أصابه تحول عميق بعد تجاربه الأنسية في باريس و إنجلترا، فقد أسهمت تلك الخبرات في صقل معارفه وشخصيته فتحول من محب الكلاسيات وفتنة النساء، إلى عالم جاد مدقق تواق لا إلى المال والشهرة فحسب ولكن إلى تحقيق عمل مفيد دائم. وعندما غادر إنجلترا في يناير عام 1500م فقد استقرت علومه على أن يدرس وينشر النص اليوناني للعهد الجديد؛لأنه الجوهر الخالص لتلك المسيحية .

ثالثا: كتابه مديح الحمق:

كُتب عام ١٥٠٩م وطُبع لأول مرة في عام ١٥١١م إراسموس راجع وطوّر العمل، الذي كتبه أصلاً في عطلة أسبوعية قضاها مع صديقه الأقرب "توماس مور "في مكان إقامة الأخير بوكليرزبري . مديح الحمق يعد واحداً من أشهر الأعمال الأدبية لعصر النهضة، وأفكاره مهّدت للإصلاح البروتستانتي.

بنية الكتاب:

الكتاب يعتمد منهجا تهكميا ساخرا يعتمد على التورية في التعبير عن موضوعاته فهو قائم على شخصية مستعارة نسائية منحها الكاتب سمة الحمق، و بحسب ما جاء في الموسوعة الحرة إنه كان تهكمياً ساخراً حتى في اختياره للعنوان الذي بدا وكأنه يشير الى عائلة صديقه المقرب صاحب السرد اليوتوبي إذ ثمة تشابه بين كلمة حمق اليونانية (Morias) وكلمة (More) اسم عائلة صديقه الأعز، السير توماس مور(12)، ويقول إراسموس: بما أن السير توماس مور هو أبعد الناس قاطبة عن الحمق، فلن يربط القرّاء بينه وبين الحمق المقصود في عنوان المقال. ويبدو أن هذه الاشارة ماهي سوى آلية من آليات التمويه على القصد البعيد الذي يحيل عليه كونه يعتمد هناعلى أسلوب السخرية الذي اقتبسه من الكاتب الفكاهي الاغريقي لوسيان Lucian of Samosata (180-125ق م)، يبدو أن هذا الكاتب كان سفسطائي المذهب عرف بأسلوبه التهكمي وقد عرفت بعد المعلومات عنه إذ يصعب التحقق منها بأي درجة من الدقة، على الرغم من أدلة يمكن العثور عليها في الكتابات المنسوبة إليه. في العديد من الأعمال ويدعي إنه قد ولّد في الساموساطي، في المملكة السابقة Commagene، التي تم احتلالها من قبل الإمبراطورية الرومانية وجعلها جزءاً من محافظة سورية؛ لهذا كانت مؤلفاته تتناول تراثه المحلي ولسانه البربري بمقابل اللسان اليوناني ويعالج كل هذا بأسلوب تهكمي ناقد ولاذع (13)، وهذا ما اطلع عليه إراسموس وصديقه توماس مور، إذ كانوا بهذا يمارسون إحياء التراث الأنسي القديم الذي تعرّض للنسيان المتعمد من قبل الكنيسة التي كانت تعده وثنياً، وفي أثناء الترجمة أحاط بأسلوبه وروحه النقديّة في تناول المظاهر الاجتماعية والسياسية والدينية المنحرفة .هذا من حيث الأسلوب أما موضوعة الكتاب فهي تتناول نقداً للواقع الذي اكتشفه إراسموس في أثناء تواجده زائرا الى روما وقد عاد محبطا مثلما عاد مارتن لوثر هو الآخر من روما إذ اكتشف الفساد الأخلاقي والإداري وأخلاق الترف والأبهة التي يعيشها الكهنة الذين كانوا من المفترض أن يعيشوا حياة من التبتل والزهد . من هنا ظهر إصلاح حال الكنيسة مما أحدث قطيعة في نسق سياسي ومعرفي معين استمر عهداً طويلاً، لعل هذا يظهر من خلال الحفر في دلالة المفهوم Larousse التي تعني الإصلاح بوصفه تغييراً عميقاً وجذرياً لشيء ما، سواء كان بخصوص مؤسسة ما قصد تحسين ادائها (14)، والإصلاح هو عودة نظام ديني للنظر في قواعده الأولى على سبيل التحليل، والنقد بقصد المراجعة، و التقويم .وهذا ما يظهر في أصل المفردة الفرنسية reforme ذات الأصل اللاتيني، وتدل على معنى " إعادة البناء و على التشكيل من جديد،(15) وفي هذا اشترك مع لوثر الذي أحدث حركة الإصلاح الديني في أوروبا وعلى وجه التحديد في ألمانيا في القرن السادس عشرالميلادي. وكان لهذه الحركة آثارها البعيدة في تاريخ أوروبا، ومن ثم اتخذ أصحاب هذا الرأي من عام 1517م بداية لتاريخ أوروبا، إذ قامت حركة الإصلاح الديني لمواجهة الفساد الذي كان يسود الكنيسة الكاثوليكية، وقد اعتنق كثير من الأوروبيين المبادئ التي أعلنها مارتن لوثر وغيره من المصلحين، وكانت تمثل تهديداً لشرعية التي تدعيها الكنيسة الغربية وتعتقد أنها تمنحها الحاكمية أو النيابة عن السماء وفي تمثيلها على الأرض هي القائمة على مسلّمات تدعيها الكنيسة وهي ما كثفها ول ديورانت إلى القول: "إن الله أنشأ الكنيسة بأن جعلَ الرسول "بطرس" أولَ رئيسٍ لها. وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسلٍ مستمرٍ متصلٍ، ولذلك فإن البابا ممثلُ الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكاماً كانوا أو محكومين" (16) كان تلك الاحداث قد مهدت الى تحول كبير (وهذا أدى بدوره إلى الغليان والانفجار. وكان كل هذا إيذانا بزوال العصور الوسطى بمثلها وأفكارها, وظهور عصر جديد يقوم على أسس ومبادئ جديدة مغايرة).(17)

اما فيما يتعلق بأرازموس فما أزعجهه في زيارته الى روما تفشي سلوكيات تعري تلك الادعاءات بالقدسية وكان منها: (إصدار الكنيسة لصكوك الغفران.و موقفها من العلم والعلماء وتقييدها للعقل عبر ابتداعها لنظام "محاكم التفتيش"..وما أثار قريحته الادبية في النقد والتهكم، انحراف رجال الدّين ونسيانهم لدورهم الأخلاقي والدّيني.ولعل هذا ما جمعه بصديقه(مور) اذ التقى به في عام 1499م، وكان بارازموس في الحادية والعشرين من عمره، وفتن بارازموس بالمذهب الإنساني. وتعد صداقتهما من أطيب العطور شذى في ذلك العصر. فقد وهب كلاهما مرحاً بقدر ما، وجعلا لدراستهما طعماً مستساغاً بالهجاء الضاحك. وكانا يشتركان في كراهية الفلسفة الكلامية التي قال مور فيها إن ما تنطوي عليه من خبث في التفريق بين الأشياء يعود على المرء بفائدة توازي ما يكسبه من حلب تيس في غربال.

إلا إن القاسم المشترك فضلاً عن حب الأدب الكلاسيكي فهو أنهما كانا يأملان في إصلاح الكنيسة من الداخل وتجنب تفكك أواصر الوحدة الدينية والتواصل التاريخي. هذا يعني أنهما كانا مختلفين عن الاصطلاحين مثل لوثر وأتباعه في مواجهة الكنيسة الرومانية .الا إنهما تمايزا عن بعض في بعض الملامح الشخصية اذ ولم يكن مور نداً لأرازموس في العلم أو التسامح، والحق إن رقته المألوفة وكرمه كان يشوبهما في بعض الأوقات تطرف في الدين، وكان في الجدل ينحني بين آن وآخر مثل كل معاصريه، ليوجه لخصومه طعناً شديداً مريراً. ولكنه كان يفوق أرازموس في الشجاعة والإحساس بالكرامة والإخلاص لقضية. ولا شك أن الرسائل التي تبادلاها تعد شاهداً ثميناً على أفضال عصر فظ. فهناك رسالة لمور يقول في ختامها "وداعاً يا أرازموس الحبيب يا مَن هو أعز علي من عيني" .)(18)

أسهمت تلك العلاقة وقد تعمقت بوجود مشتركات في حب الأدب القديم وانتقاد الأوضاع من أجل إصلاحها وتقويمها وليس إلى خلق قطيعة معها؛ لهذا قام كلٌ من اراسموس وتوماس مور، بترجمة أعمال الكاتب الفكاهي الاغريقي" لوسيان" .

ثم يتطور العمل لدى أرازموس إذ قام بكتابة كتابه فيمتدح المجنون والذي تناول فيه بروح متهكمة ساخرة وناقدة الممارسات الفاسدة التي لوّثت العقيدة الكاثوليكية في زمن أراسموس، والخزعبلات التي سيطرت على ممارسي الطقوس الكاثوليك، والجدير بالذكر أن أراسموس كان وفياً دائماً للعقيدة الكاثوليكية ومؤمناً بها.

ويمتد الهجاء الفكاهي في الكتاب إلى الجميع: من ممثلي المسرح والكتـّاب إلى الملوك ورجال الدين. لكن الكنيسة الكاثوليكية كان لها النصيب الأكبر من الهجاء الساخر. طبعا هذه السخرية تأخذ طابعا رمزيا اذ لا تأتي على لسان المؤلف نفسه، بل على لسان شخصية نسائية ابتكرها وأعطاها اسماً مثل: (الجنون أو الحماقة). في الكتاب تُصوَر الحماقة كونها شخصية اسطورية من الميثولوجيا اليونانية وهي هنا بمثابة قناع يستعمله الى جانب اقنعة أخرى فاذا كان القناع الأول متمثل بهذه الشخصية الأسطورية وهي ابنة "لبلوتوس"، فإن بقية الأقنعة - لمجموعة من الصفات السلبية التي يحاول انتقادها في رجال الدين - و صديقاتها المقرّبات هن: (فيلوتيا) حب الذات، (كولاكيا)  المداهنة)، ليثي (النسيان) ميزوبونيا (الكسل) هيدونى (المتع الحسية)آنويا (الجنون) تريفي (الخلاعة) كوموس (الإسراف) وايغريتوس (النوم كالموتى). طبعا هو هنا يستعمل تلك الأقنعة التي تبدو استعارات غير مبينه لمن غير مهتم بالأساطير اليونانية لكنها واضحة وبينه الى الانسانيين وجمهورهم .الذي يمتلك رؤية نقدية للمؤسسة الدينية وهو ما عبر عنها وإراسموس عندما جعل "السيدة-الجنون" تقول: "سأبقى منتمية إلى الكنيسة الكاثوليكية – ثم يعقب ذلك صمت قصير قبل أن تتابع – حتى يأتي بديلٌ أفضل."

البديل، الذي يعني الرؤية الانسانية التي تحاول تجاوز سلفية الكنيسة وشموليتها مثل بقية السلطات الدينية؛ لأنه تعبير عن سمة واحدة هي ادعائها بأنها تمتلك الحقيقة وخطاب النجاة وغيرها غير قادر من الإحاطة بتلك الحقيقة، فهو ضال ومهرطق ومكانه الحتمي السعير .

وهي ظهرت هنا على لسان البطلة القناع المجنونه لما تحمله من صفات نسبية متغيرة. في موضع آخر تقول بطلة الكتاب: "لا يغرنك شخص متفلسف يطيل لحيته ليعطي انطباعاً بالحكمة، تذكّر أن الماعز أيضاً يمتلك ذقناً طويلا .

فهذه الاستعارة التهكمية على رجال المؤسسة وما يعبرون عنه من تقوى تظهر بأشكال خارجية منها اللحية، فهو يحدث مقاربة نمطية مقزمة مع الماعز وهو حيوان يحيلنا الى دلالته الرمزية مع الشيطان فهو يظهر بأشكال تشبه الماعز وهو يرمز الى إله القمر سن البابلي إله الرعي الوثني .

يبدو أنّ الخطاب التهكمي كان صاحب تأثير عميق في نقده الساخر للشخصيات التي تم تنميطها في التوافه كمقاربة رمزية لرجال الدين أصحاب الصفات التافهة التي تشبه تلك الشخصيات المذكورة في الكتاب وأصبح للكتاب جمهور نظراً لحالة النقد ضد المؤسسة الدينية نتيجة الانحرافات الأخلاقية والثورات الزراعية ودعم السلطات المدنية التي تجد في المؤسسة الدينية منافس ونتيجة للانشقاقات التي حدثت مع الاصلاح الديني وجزء من نشر رسالة الانسانيين وخطابهم الاصلاحي الذي اتخذ من الثقافة وسيلة من المواجهة وإصلاح المؤسسة من الداخل وهذا ما سوف يتحقق .

 

د-عامر عبد زيد الوائلي

جامعة الكوفة –العراق

..............................

(1) انظر: محمد اركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ترجمة هشام صالح، دار الساقي، ط1، بيروت، 1997م، ص 33.س

(2) عبد المنعم الحفني، الموسوعة الفلسفية، مكتبة مدبولي، القاهرة،ص17 .

(3) انظر: هشام صالح، مدخل إلى التنوير الأوربي، دار الطليعة، بيروت، 2005م،ص 78.

(4) يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار القلم،بيروت، (د.ت)،ص 6.

(5) بروميثيوس بوكس، مدخل عام إلى النزعة الإنسانية، ـ لندن 2005م: http://www.albayan.ae/books/author-book

(6) يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الاوربية في العصر الوسيط، دار الكاتب المصري، بيروت، 1946م،ص121.

(7) بروميثيوس بوكس، مدخل عام إلى النزعة الإنسانية، ـ لندن 2005م: http://www.albayan.ae/books/author-book

(8) الموسوعة الحرة .

(9) نفس المرجع .

(10) تعني عبارة "هبة قسطنطين" (Constantin's Donation)، منذ القرون الوسطى، الوثيقة المزورة باسم الإمبراطور قسطنطين الأكبر والتي يقال أنه بموجبها قد قدم مميزات وممتلكات لا يتصورها عقل للبابا وللكنيسة . ومخطوطة الوثيقة القديمة المعروفة منذ القرن التاسع موجودة بقسم المخطوطات اللاتينية بالمكتبة القومية فى باريس، تحت رقم 2777، وفقا لما هو وارد فى " الموسوعة الكاثوليكية "، وتحمل الوثيقة عنوان: "وثيقة هبة الإمبراطور قسطنطين "، وهى موجهة من الإمبراطور قسطنطين إلى البابا سيلفستر الأول (314 ـ 335) .انظر: صيد الفوائد: https://saaid.net/daeyat/zainab/81.htm

(11) الترجمات اللاتينية) لقد وجدت ولا شك ترجمة للكتاب المقدس في اللغة اللاتينية القديمة حوالي أواخر القرن الثاني للميلاد لأنها كانت منتشرة كثيرًا في شمالي إفريقيا. ونرى أن ترتليانوس (150-220 م.) كان يُعرف أقسامًا كثيرة منها وقد استعملها أيضًا كبريانوس، اسقف قرطاجنة (200-258 م.) بكثرة. أما العهد القديم فيها فقد ترجم من الترجمة السبعينية اليونانية وليس من العبرانية.). انظر: قاموس الكتاب المقدس | دائرة المعارف الكتابية المسيحية، http://st-takla.org/Full-Free-Coptic-Books

(12) توماس مور Thomas More ويُسمى بالقديس أيضاً (و. 7 فبراير 1478 – م ت. 6 يوليو 1535) م كاتب وفيلسوف سياسي إنكليزي، تسلم عدة مناصب حكومية.

(13) وكان لوسيان أيضا واحدة من أقرب الروائيين في الحضارة الغربية. في قصة حقيقية، والعمل السرد الخيالي كتب في النثر، والمحاكاة الساخرة بعض من حكايات رائعة رواها هوميروس في الأوديسة، وكذلك حكايات من مؤرخ ثيوسيديدز. وتوقع موضوعات خيالية "الحديثة" مثل الرحلات الى القمر والزهرة، حياة خارج كوكب الأرض والحروب بين الكواكب، ما. كما كتب لوسيان هجاء متهكم على الاوضاع التي كان يزدريها وينتقد ممارسيها بلغة رمزية تقوم على استعاراة بالأسماء والأحداث .

(14) نفس المرجع .

(15) نفس المرجع .

(16) ديورانت، ول. قصة الحضارة، الكتاب 14، ص 352، ترجمة عبد الحميد يونس، طبعة الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، الكتاب 14، ص 352.

(17) نور الدين حاطوم , تاريخ العصر الوسيط في أوربة , ص: 50

(18)http://www.marefa.org/index.php/%D8%AA%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B3_%D9%85%D9%88%D8%B1

 

في المثقف اليوم