أقلام فكرية

الفروض المساعدة وميثودلوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في هذا المقال الثالث عن الفروض المساعدة ودورها في ميثودلوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش، وفي هذا يمكن القول: إن إعادة البناء العقلاني للعلم في تصور لاكاتوش قائم علي أن النظرية العلمية المتقدمة هي النظرية التي تنتقل فيها نظرية ما إلي الأمام ومعها محتوي معرفي وتجريب ومنطقي أكبر من نظرية أخري مما يؤدي إلي سلسلة من الاكتشافات لوقائع جديدة . إن ما حاول لاكاتوش أن يقوله هنا هو أن النظرية العلمية التقدمة لم تعد كما كان يؤكد علي ذلك أصحاب الوضعية المنطقية، متقدمة باتفاقها مع الوقائع الملاحظة، بل أصبح المعيار التجريبي لتقدمها يكمن في تقديم النظرية العلمية لوقائع جديدة؛ يقول لاكاتوش:"إذ قدمنا نظرية لحل تناقض بين نظرية سابقة ومثل مناقض بطريقة تجعل النظرية الجديدة تقدم فقط إعادة تفسير مبني علي تناقض المحتويات (لغوياً)، بدلاً من تقديم تفسير مبني علي زيادة في المحتويات (علمياً)، فإن التناقض يحل بطريقة لا تتعدي تفسير معاني الكلمات، غير العلمية . فواقعة معينة تفسر علمياً فقط إذا فسرت واقعة جديدة أخري معها .

ومن هذا المنطلق نود أن نتساءل: ماذا لو كان لدينا سلسلة من النظريات لديها محتوي معرفي أكبر وتتنبأ بوقائع جديدة، ولكن يوجد في هذه السلسلة بعض النظريات المتناقضة؟

يجيب لا كاتوش بأننا لو كان لدينا هذه السلسلة من النظريات ويوجد بينها عدد قليل من النظريات المتناقضة، فإننا لا بد أن نستبعد الواحدة تلو الأخري من تلك النظريات المتناقضة، حتي إذا كان لدينا نظريتان في النهاية نفاضل بينهما عن طريق معرفة أيهما تقدم المحتوي الأكبر المعزز الذي يمدنا بشكل التقدم الذي تتخذه النظرية .. أما سلسلة النظريات المتبقية فإنها تشكل متصلا يستمر ويلتحم ليشكل برامج للبحث .

وهنا يصل لاكاتوش إلي نفس النتيجة التي وصل إليها كلا من بوبر وتوماس كون، ولكن لأسباب مختلفة،  فنحن نعرف أن بوبر ذهب إلي  لا علمية نظريات التنجيم والتحليل النفسي والماركسية لعدم قابليتها للتكذيب، كما أن كون وصل إلي نفس النتيجة ولكن بسبب عجز هذه الأنساق عن تكوين أسلوب لتكوين وحل الألغاز . أما لاكاتوش فيري أن هذه الأنساق لم تنجح في التنبؤ بوقائع ناجحة غير مطروقة أو غير  متوقعة . فهل نجحت الماركسية في ذلك ؟ لم يحدث علي الإطلاق، علي العكس فللماركسية تنبؤات فاشلة معروفة . فقد تنبأ الماركسيون بالفقر المطلق والأكيد للطبقات العاملة، كما تنبؤا بحتمية حدوث الثورة الاشتراكية الأولي في أكثر البلدان الصناعية تقدما، وأن المجتمعات الاشتراكية ستخلو من الثورات والإضرابات العمالية، وبعدم حدوث صراع أو تضارب في المصالح بين الدول الاشتراكية . ونحن لا ننكر بالطبع أن هذه التنبؤات العلمية عند نيوتن وأينشتين، ولكن الفارق الأساسي بينهما هو أن هذه التنبؤات الأخيرة فشلت جميعاً . وكلنا يعرف ما حدث للاتحاد السوفيتي السابق عقب تفكك الجمهوريات السابقة وانهيار النظام الشيوعي في معظم البلدان التي أخذت به . ويبدو الموقف لنا وكأن لاكاتوش كان لا يستقرئ فعلا ما سوف يحدث بعد وفاته بثلاثة عقود . فقد رفض الماركسيون بعد فشل تنبؤاتهم الاعتراف بهذا الفشل، ومن ثم حاولوا تفسير وتبرير هذا الفشل . ففسروا ارتفاع مستوي معيشة الطبقات العاملة في البلدان الصناعية باختراع نظرية الامبريالية العالمية، وفسروا سبب حدوث الثورة الاشتراكية الأولي في روسيا المتخلفة صناعيا آنذاك بدلا من حدوثها في أحد البلدان المتقدمة، كما فسروا حدوث ثورات شعبية في البلدان الاشتراكية كالتي حدثت في برلين عام 1953 وبودابست عام 1956 وبراج عام 1968، وأخيرا فسروا الصراع بين البلدان الاشتراكية ذاتها كالصراع بين روسيا والصين . وقد استعانوا في كل هذه التفسيرات بفروض مساعدة إضافية ثم تلفيقها بعد وقوع الأحداث وليس قبلها كما يحدث في النظريات العلمية .

ومن جهة أخري اعترض لاكاتوش علي بوبر بشأن التقدم العلمي، فقد أكد بوبر  علي اختبار الفرض علي حده وبصورة منفصلة، وأعد ذلك مسألة جوهرية لتقدم العلم وقياس ما يضاف إليه حقيقة، فالذي لا شك فيه أنه لا يمكن أن يقرر أحد إذا كانت نظرية جسورة مهما كانت، وذلك عن طريق اختيارها علي انفصال، لكن فقط عن طريق اختبارها في ضوء سياقها المنهجي التاريخي .

وهذا معناه أنه إذا كان بوبر في محاولته للتقدم العلمي يؤكد عمومية النظرية العلمية، مع وضع في الاعتبار تكذيب النظرية اللاحقة للنظرية السابقة عند تناقضها، فإن لاكاتوش يؤكد علي أن أي نظرية تتمثل وتولد في خضم هائل من التناقضات، ومن ثم يمكن عمل تعديل في النسق النظري العلمي، وطبقا لذلك رأي لاكاتوش أن أي برنامج بحث يتألف من قواعد منهجية ؛ يقول لاكاتوش : " طبقاً للمثيودولوجيا التي أدعو إليها، فإن الإنجازات العلمية العظيمة ليست سوى برامج بحث يمكن تقييمها في حدود مشكلة الدورات المتقدمة والمتفسخة، حيث تشمل الثورات العلمية على برنامج بحث واحد (يتخطى في التقدم آخر) ويحل محله . وتسعى هذه الميثودولوجيا إلى إعادة بناء عقلاني جديد للعلم .

ويؤكد لاكاتوش أن هذه الميثودولوجيا  تقدم برامج البحث صورة عن لعبة العلم تختلف كثيراً عن الصورة التي تقدمها ميثودولوجيا التكذيبي . حيث أن أفضل استهلال افتتاحي ليس افتراضاً يمكن  تكذيبه . (ويكون لذلك متسقاً)، وإنما هو برنامج  بحث .

وهنا يقترح لاكاتوش وحدة جديدة للتقييم، فبدلاً من النظريات المؤيدة التي قدمها بوبر والنماذج الإرشادية التي قدمها كون ، يركز هو علي برامج الأبحاث العلمية . ويرفض لاكاتوش السؤال الأساسي للوضعية المنطقية وهو متي تكون النظرية مقبولة؟ أي متي تكون مبررة بالمعني الذي يوضح أنها صادقة أو علي الأقل محتملة الصدق بدرجة ملائمة؟ كما أنه يرفض السؤال الذي طرحه كون وهو: متي يتحتم علينا قبول نموذج إرشادي في العلم؟ حيث تتمثل الإجابة في إجماع العلماء علي احترام نموذج إرشادي معين، وحيث يتخلي كون عن معيار الإثبات أو التأييد الاستقرائي التجريبي والذي يعد معيارا موضوعيا، ويتخلي أيضا عن المدي المفاهيمي البوبري للتعزيز بوصفه معيارا عرضه للخطأ، والذي يعد أيضاً معياراً موضوعياً، يتخلي كون عن كل ذلك لأجل الاتفاق الذي يتسم بطابع الذاتية . ومثلما فعل كون نجد لاكاتوش أيضا يتخلي عن سائر الأسئلة المطروحة سابقا ويطرح سؤالا جوهريا مؤداه: متي يكون من المعقول أن نقبل أو نرفض برنامج بحث .

لم يغفل لاكاتوش الدلالة التاريخية لنمو النسق العلمي أو الأنساق العلمية، أي لم ينظر إلي النظرية منفردة، بل برنامج متكامل للبحث، وذلك لأن التقدم العلمي عنده يتم بالانتقال من برنامج متدهور إلي آخر تقدمي، وهذا ما جعله علي خلاف مع كثير من فلاسفة العلم المعاصرين وخصوصا كارل بوبر علي الرغم من أنه أخذ منه الكثير من الأفكار تطبيقها ويتألف برنامج البحث العلمي عند لاكاتوش من ثلاثة أشياء:

1- النواة الصلبة .

2- الحزام الواقي .

3- الموجه الإيجابي والسلبي.

أو يتألف من جزئين بنائيين هما:

- النواة الصلبة والحزام الواقي في ضوئهما يقدم نظاما من الاستمرارية لأي سلاسل من النظريات العلمية.

- قاعدتين منهجيتين رئيسيتين : قاعدة الموجه الايجابي وقاعدة الموجه السلبي.

النواة الصلبة (Hard Core ) : بالنسبة لأي برنامج بحث علمي تبدو ثابتة ومحددة وتتألف من معتقدات رئيسية للبرنامج، وهي ليستموضع جدال أو تساؤل . وهذا يعني أنه إذا لم يسلم أي باحث بصحة النواة الصلبة بالنسبة لبرنامج البحث، فإنه في حل في أن يترك برنامج البحث، أي أن النواة الصلبة بمثابة البديهيات والمصادرات النظرية الأساسية بالنسبة لأي برنامج، كما أنها لا تخضع للتكذيب، ولا تقبل التفنيد فهي فرضيات عامة جدا هي اللب أو الصلب الذي علي أساسه ينمو برنامج البحث ويتطور.

رابعاً : دور الفروض المساعدة في قبول أور رفض برنامج بحث:

تتناول منهجية لاكاتوش القرارات التى يتخذها العلماء والاختبارات التى يقدمون بها . هذه القرارات والاختيارات التى يتخذونها عن طريق تبنيهم لنواة صلبة ولمساعد على الكشف الإيجابي . والمساعد على الكشف الإيجابي هو سياسة للبحث أو " تصميم أو خطة تم تصورها مسبقا " يختار المشتغلون بالعلم تبنيها. والمشاكل التى يختارها العلماء المشتغلون على برامج للبحث اختبار عقلانية، هى المشاكل التى يحددها المساعد على الكشف الإيجابي ؛ ويقول لاكاتوش: " طبقا للميثودولوجيا  التى أدعو إليها، فإن الإنجازات العلمية العظيمة ليست سوى برامج بحث يمكن تقييمها فى حدود مشكلة الدورات المتقدمة والمتفسخة، حيث تشتمل الثورات على برنامج بحث واحد (يتخطى فى التقدم آخر) ويحل محله .

وهنا يقول إيان هايكنج :" كان لاكاتوش يولي اهتماما كبيرا بتعيين الحدود الفاصلة لما هو علم، حيث أن الميثودلوجيا التي يدعو إليها معيارية إلي درجة أنها قد تحكم علي بعض الأحداث الماضية في العلم بأنها ما كان ينبغي عليها أن تسير علي هذا المنوال . بيد أن فلسفته لا تيسر أي تقييمات متقدمة لنظريات علمية متنافسة في الوقت الحاضر . وإنما توجد علي الأكثر مؤشرات قليلة بأنها مشتقة من " ميثودولوجيته " فهو يقول أننا ينبغي أن نكون متواضعين في آمالنا المتعلقة بمشروعاتنا الخاصة، لأنه قد يكون للبرنامج المتنافسة الكلمة الأخيرة . وعندما لا يسير برنامج أحد منا في الطريق القويم ينفسح المجال أمام العناد، فيضحي تكاثر النظريات، والتساهل في التقييم، والتقييم المشرف عندئذ هي الطرق المتبعة لرؤية أي برنامج هو الذي يثمر نتائج ويواجه تحديات جديدة .

والسؤال الآن، متي يتم استبعاد برنامج بحث علمي طبقا لميثودولوجيا  لاكاتوش؟ إن استبعاد برنامج بحث علمي يأتي عندما يقدم برنامج البحث العلمي الجديد المنافس تفسيرا لنجاح برنامج البحث العلمي السابق عليه، وتقديم خطوات تجريبية إيجابية، ويتنبأ بوقائع جديدة أكثر من برنامج البحث العلمي السابق . ولكن ليس معني هذا الاستغناء عن برنامج البحث العلمي السابق، يقول لاكاتوش " إن برنامج البحث العلمي الجديد الذي يدخل في منافسة ربما يبدأ بتفسير وقائع قديمة بطريقة جديدة ولكن ربما يأخذ وقتا طويلا قبل أن يري ويقدم وقائع جديدة حقيقية ".

وفي فقرة أخري يقول لاكاتوش:" " لا يوجد هناك تجارب حاسمة إذا عنينا بذلك تجارب تؤدي مباشرة إلي القضاء علي برنامج معرفي معين . وفي الحقيقة فإنه في حال انهزام برنامج بحث معرفي واستبداله ببرنامج معرفي آخر، يمكننا مستفيدين من مرور فترة طويلة من الزمن " تسمية تجربة حاسمة إذا ظهرت جلياً أنها كانت مؤيدة للبرنامج المنتصر وداحضة للبرنامج المهزوم "، " وبعبارة أخري لا يعير العلماء آذانهم بسهولة إلي نتائج التجارب السلبية بادئ الأمر ولابد من مرور فترة طويلة من الأبحاث والاختبارات كي يقبل سوادهم بفشل النظام المعرفي الذي دحضته التجربة، فلا تصبح هذه الأخيرة حاسمة في انهزامه إلا بعد أن تكون قد ترسخت النظرية الجديدة في الأوساط العلمية، فيمكننا فقط عندها القول بأنها تجربة حاسمة .

وقد تأخذ الأمور منحي أكثر تعقيداً حسب لاكاتوش :" فإذا وضع عالم من أنصار المعسكر المهزوم بعد بضع سنوات تفسيراً علمياً لما دعي بـــ "التجربة الحاسمة" يجعلها متفقة مع البرنامج المهزوم، فإن صفة الشرف يمكن نزعها عن تلك التجربة وتتحول بذلك " التجربة الحاسمة " من هزيمة إلي نصر للبرنامج القديم .

وهكذا قد تستمر نظرية ما في مقاومة التغيير لفترات طويلة، وقد تصبح عائقاً أمام أي محاولات جدية لدحضها فتسد آذان العلماء عن صوت البني الطبيعية المناقض لها وتخلق انقطاعاً مرحلياً في المسار العلمي نحو الحقيقة . وقد يطول هذا الانقطاع أو يقصر جاعلاً من مفهوم التقدم نحو البني الموضوعية مفهوماً تاريخياً لا تندرج فيه أية حقبة منعزلة من تطور المعرفة، بل المسار التاريخي برمته .

فعلي سبيل المثال، فإن نظرية الحرارة قد بدت متلكئة وراء نتائج النظرية الفينومينولوجية لعشرات السنين قبل أينشتين – سموكوتشوفسكي للحركة البراونية عام 1905، بعد هذا ما كان قد بدأ علي أنه إعادة لتفسير وقائع جديدة عن الحرارة، علي سبيل المثال قد تحول علي أنه اكتشاف لوقائع جديدة عن الذرات .

وهذا القول يدلنا علي أننا لا نستبعد برنامجا للبحث فقط لأنه قد فشل في أن يلحق بمنافسه القوي . ذلك لأن هذا البرنامج للبحث يمثل تقدما في غياب منافسه القوي، وأننا لا بد أن نعطي لبرنامج البحث الموجود الفرصة طالما كانت لديه القدرة علي ذلك لإعادة بناء نفسه من أجل تحقيق التقدم في العلم .

فالعلم في نظر لاكاتوش يتقدم عن طريق برامج البحث العلمي المتنافسة، فبرنامج البحث المتقدم يكون له نواة صلبة لا تقبل التفنيد، وذلك لوجود حزام واق من الفروض المساعدة، حيث تتجه التفنيدات إلي هذا الحزام الواقي المكون من الفروض المساعدة التي تتحمل صدمة الاختبارات، وتتعدل مرة بعد أخري  حتي أنها يمكن أن تستبدل كلية من أجل حماية النواة الصلبة لبرنامج البحث العلمي . فإذا نجح برنامج بحث علمي ما في هذا الاستبعاد للفروض المساعدة وإحلال فروض أخري تحقق الخطوة الأولي من برنامج بحث متقدم، هي زيادة الفروض المساعدة وزيادة مضمونها التجريبي وقدرته علي التنبؤ بوقائع جديدة . وتأتي خطوة ثانية لتحقيق التقدم في برنامج بحث علمي ما، وهي خطوة إيجابية في هذه المرة والتي تتلخص في " تغيير وتطوير الأشكال المختلفة القابلة للتفنيد لبرنامج البحث، وكذلك كيف تعدل وتطور الحزام الواقي القابل للتفنيد؛ وفي هذا يقول لاكاتوش :" تتميز جميع برامج البحث العلمي "بجوهرها الصلب "  . والمحاولة التجريبية السلبية للبحث تمنعنا من توجيه طريقة التفنيد إلي الجوهر الصلب .وبدلاً من ذلك، علينا أن نستخدم مهارتنا في صياغة أو ابتكار " افتراضات مساعدة"، تشكل حزام الأمان حول ما هو الجوهر الصلب ويجب أن نعيد توجيه طريقة التفنيد إليها . فحزام الأمان من الافتراضات المساعدة هو الذي يجب أن يتحمل حدة صدمة الاختبارات وتتعدل مرة أخري بعد أخري، حتي يمكن أن تستبدل كلية لكي تحمي الجوهر الصلب . فبرنامج البحث يمكن أن ينجح إذا أدي كل هذا إلي تحول إشكالي تقدمي، ويفشل إذا أدي هذا إلي تحول إشكالي تأخري .

ويعطينا " لاكاتوش " مثالاً علي ذلك من برنامج البحث النيوتوني ؛ حيث يلاحظ أن النواة الصلبة لهذا البرنامج تتمثل في الجاذبية، وأنه لا شك في أن بين النواة والظواهر الحزام الواقي من الفروض المساعدة التي تحتك بالاختبار والتكذيب . ومن هنا قبل الحزام الواقي التعديل والتطوير ليحمي النواة، وهذا التطوير يتم بناء علي الموجه الإيجابي المساعد علي الكشف؛ أي أننا حين اكتشفنا أن كوكب يورانوس لا يتفق مع التنبؤات الخاصة بنظرية نيوتن لم نستنتج من هذا أن النظرية كاذبة، بل علي العكس، فالنظرية أو برنامج البحث النيوتوني عامة لا يزال تقدمياً . وبعد فترة من الزمن أصبح هذا البرنامج متفسخاً ومتدهوراً لظهور برنامج أخر، وهو لآينشتين الذي فسر حركة الكوكب عطارد التي لم يستطع برنامج نيوتن حلها . هذا فضلاً عن أن برنامج آينشتين قد تنبأ بانحراف الأشعة الآتية من النجوم تحت تأثير مجال الجاذبية ؛ يقول لاكاتوش :" والمثل التقليدي لبرنامج البحث الناجح هو نظرية الجاذبية لنيوتن : ربما يكون أنجح برنامج بحث . عندما قدم في بادئ الأمر غرق في محيط من الشواذ (أو الأمثلة المضادة، إذا أدرت)، وعارضته نظريات الملاحظة التي تدعم هذه الشواذ . لكن أتباع نيوتن حولوا بذكاء وإصرار واضح الأمثلة المضادة واحدا بعد الآخر إلي أمثلة مثبتة، برفض نظريات الملاحظة الأصلية التي بنيت الأدلة المضادة في ضوئها بصورة رئيسية . وفي أثناء هذا الإجراء قدموا أمثلة مضادة جديدة قاموا أيضا بالرد عليها . ولقد حولوا كل صعوبة جديدة إلي نصر جديد لبرنامجهم . في برنامج نيوتن التجريبية السلبية تطلب منا أن نحول طرق تفنيدنا عن قوانين نيوتن الثلاثة عن الديناميكا وقانونه عن الجاذبية . هذا الجوهر الذي لا يفند عن طريق قرار منهجي من الأنصار. فالشواذ يجب أن تقود التغييرات فقط من حزام الأمان المساعدة والافتراضات الملاحظة والظروف الابتدائية . ولقد قدمت مثلا صغيرا جدا مبتكرا للتحول الإشكالي التقدمي انيوتن . إذا حللناه نجد أن وصلة متتابعة في هذا التمرين تتنبأ بحقيقة جديدة معينة، كل خطوة تمثل زيادة في المحتوي الامبريقي: والمثل يشكل تحولا نظريا تقدميا مستمرا . وأيضا كل تنبؤ يتحقق في النهاية علي الرغم من أنه في ثلاث مناسبات متتالية كان يبدو عليها أنها " مفندة" مؤقتا . بينما " التقدم النظري (في المعني المشروح هنا) يمكن أن يتحقق مباشرة، لا يمكن ذلك بالنسبة للتقدم الامبريقي، وفي برنامج البحث يمكن أن يصيبنا الاحباط بسبب سلسلة طويلة من " التفنيدات " قبل أن يحول افتراض مساعد متزايد في المحتوي ساذج محظوظ سلسلة من الهزائم – بالبصيرة إلي قصة نجاح رنانة، إما عن طريق مراجعة بعض الوقائع الخاطئة أو بإضافة افتراض مساعد جديد . ويمكننا أن نقول عند ذلك إننا يحب أن نطلب أن تكون كل خطوة من برنامج البحث تحولا إشكاليا تقدميا بصفة مستمرة . وكل ما نحتاج إليه بالإضافة إلي هذا هو انه علي الأقل من حين لآخر يجب أن يلاحظ أن الزيادة في المحتوي قد تحققت بأثر رجعي : والبرنامج ككل يجب أن يبين تحولا امبريقيا تقدميا  مترددا . وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم