أقلام فكرية

كيف تجلت تجارب الفكر في تاريخ وفلسفة العلم (2)

محمود محمد علي(نماذج من علوم الفيزياء)

نعود ونكمل حديثنا عن تجليات تجارب الفكر في تاريخ العلم، حيث يمكن القول: لقد لعبت تجارب الفكر،ولأكثر من مرة دوراً نقدياً هاماً في تطور العلم الفيزيائي . ويجدر بالمؤرخ، علي أقل تقدير، أن يتعرف عليها بوصفها أداة فعالة في بعض الأحيان لزيادة فهم الإنسان للطبيعة . ومع ذلك، فليس من الواضح تماماً كيف صار لها مثل هذه التأثيرات الهامة . فهي تتعامل غالباً مع مواقف لم تفحص في المعمل.

وهناك العديد من التجارب الفكرية التي قام بها العلماء والفلاسفة علي مر الزمن،منها تجربة سقوط الأجسام عند جاليلو وكذلك تجربته في السفينة Galileo`s ship،وتجربة تفاحة نيوتن Newton Bucket، وتجربة قطار أينشتين Einstein Elevator المنطلق بسرعة الضوء والتي تنعت بتجربة "البرق والقطار"، وتجربة عفريت ماكسويل Maxwell`s Demon ، وتجربة قطة شرودنجر Schrodiner`s cat، والتجربة المتخيلة التي افترضها أينشتين وبودولسكي وروسن والتي تسمي EPR paradox، علاوة علي بعض التجارب الفكرية التي أقامها بعض أصحاب ميكانيكا الكم، مثل تجربة GHZ experiment ، وتجربة Quantum Suicide، وتجربة Wigner`s Friend ، علاوة علي أن هناك تجارب فكرية حدثت في الفلسفة اليونانية مثل تجربة Plato`s Theory of refraction، وتجربة Zeno`s paradoxes، ثم هناك تجارب فكرية أدخلها بعض المتخصصين في فلسفة العقل مثل تجربة Swamp man التي نادي بها دافيدسون، وتجربة كواين عن  " دعوي اللاتحديد في الترجمة "، وتجربة الحجرة الصينية Chinese room التي قال بها جون سيرل، وتجربة Mary`s room"  حجرة ماري"، وتجربة" الأرض التوأئمية Twin Earth thought experiment التي نادي بها هيلاري بوتنام، كذلك تجربة الأخري وهي تجربة العقل في قارورة  Brain-in-a-vat . علاوة علي تجارب أخري لم نذكرها هنا وتوجد في الكتابات الواردة عن تجارب الفكر، ويطول بنا السرد إذا ما تكلمنا عن تلك التجارب، ونقتصر علي ذكر أمثله منها، ونذكر من تلك التجارب الفكرية سبعة تجارب ؛ أربعة في العلوم الفيزيائية مثل تجربة سقوط الأجسام لجاليليو، وتجربة البرق والقطار لأينشتين وتجربة قطة شرودنجر وتجربة عفريت ماكسوي، وفي فلسفة العقل نذكر نسرد أربعة تجارب أيضاً وهي،  تجربة كواين " دعوي اللاتحديد في الترجمة "، وتجربة الحجرة الصينية لسيرل، وتجربة الأرض التوأئمية لبوتنام:-

أ-: أهم تجارب الفكر في العلوم الفيزيائية:

1- تجربة سقوط الأجسام لجاليليو:

ونبدأ بتجربة جاليليو في سقوط الأجسام، فقد حاول جاليليو Galileo Galilei  (1564-1642)، أن يثبت بطلان رأي أرسطو في أن الأجسام تسقط نحو الأرض بسرعة تنتاسب ووزانها . وقد أثبت جاليليو في تجربة فكرية علي أنها جميعاً تسقط في وقت واحد إذا منعت عنها مقاومة الهواء . ولما لم يصدقه معاصروه جمع رجال جامعة "بيزا" وصعد إلي قمة برجها المائل، وأجري أمامهم تجربة دلت علي صدق زعمه.

وهنا قد يتساءل القارئ وما قصة التجربة الشهيرة التي ألقي فيها جاليليو كرتين مختلفتين في القدر والوزن من قمة برج "بيزا "المائل ؟ لعله ألقي فعلاً في مكان ما وفي وقت ما وزنين مختلفين ووجد أن تنبؤات أرسطو القائلة بوجود اختلاف كبير في لحظة وصول كل منهما إلي الأرض، غير حقيقية .

وتصور لنا الفقرات الآتية من كتاب جاليليو " حوارات حول النظامين الرئيسيين للكون النظام البطلميوسي والنظام الكوبرنيقي "، الذي نشر عام 1632، في فلورنسا، الموقف تصويراً واضحاً . وقد اقتفي جاليليو كتاب قدماء الأغريق في إخراج كتابه علي صورة حديث بين ثلاثة أشخاص من فينيسيا مدينة العجائب: سالفياتس الذي يأخذ دور المؤلف نفسه، وساجريدس وهو من العامة الأذكياء، وسمبليسيوس الذي لا يتوافر له الفهم الكافي لمدرسة أرسطو التي يمثلها ؛ وهاك الحديث الذي دار بينهم في الحركة حول دراسة علاقة السرعة التي يكتسبها الجسم إذا تحرك إلي أسفل مستوي مائل، بالسرعة التي يكتسبها إذا هوي رأسياً إلي أسفل  .

وفي بداية اليوم الأول في محاورة جاليليو المتعلقة بنظامين رئيسيين للعالم، إذ يسأل سالفياني الذي يتحدث نيابة عن جاليليو، محاوريه أن يتخيلوا سطحين مستويين، السطح الأول ج ب عمودياً، والسطح ج أ مائلاً، ومقام علي نفس المسافة العمودية سطحاً أفقياً أ ب . وحتي يساعد سالفياني محاوريه علي التخيل رسم رسماً تخطيطياً يفيد ذلك . وعلي إمتداد هذين السطحين تخيل جسمين ينزلقان أو يتدحرجان دون احتكاك من نقطة بداية مشتركة في ج . وأخيراً يسأل سالفياني محاوريه أن يسلما بأنه عندما يصل الجسمان المنزلقان إلي أ أو ب علي التوالي سيكونان قد اكتسبا نفس كمية التحرك، أي السرعة الضرورية لايصالهما مرة أخري إلي الارتفاع العمودي الذي بدأ منه . وبتلبية ذلك الطلب أيضاً، يتقدم سالفياني فيسأل المشاركان في الحوار أياً من الجسمين يتحرك أسرع . ودافعه إلي ذلك هو أن يجعلهما يدركان أنه باستخدام مفهوم السرعة الجارية حينئذ، فبالإمكان ارغامهما علي الاعتراف بأن الحركة علي طول العمود يمكن أن تكون أسرع لحظياً من، ومساوية في السرعة لـ  وأبطأ من الحركة علي الطول المائل . أما دافعه الأبعد فهو أن يجعل محاوريه وقراءه يتحققون من تأثير هذه المحالية، في أن السرعة لا ينبغي أن تعزي إلي الحركة كلها " .

لقد وصل جاليليو إلي آرائه المتعلقة بعلم الفيزياء عن طريق التفكير، عن طريق التدليل السليم والرياضيات لا عن طريق الاستنباط من التجارب . لقد كتب الكلمات التالية في أثناء وجوده في بيزا قبل ذهابه إلي بادوا: " غير أننا كالعهد بنا دائماً، نستخدم أكثر مما نستخدم الأمثلة (ذلك أننا نبحث وراء أسباب الآثار التي نراها، والتجارب لا تكشف هذه الأسباب ) . كان جاليليو يركن إلي استخدام ما يمكن أن نسميه " التجارب الفكرية "، وذلك بأن يتصور النتائج أكثر مما يشاهدها مباشرة .

وهو عندما يصف حركة الكرة الساقطة من قمة قلع المركب المتحرك في " حوار حول النظامين ..." يجعل سمبليسو الأرسطي يسأله هل قام بتجربة ما ليتحقق من ذلك، ويبادر جاليليو بالإجابة التالية: " كلا، لست في حاجة إلي تجربة فإنني أستطيع بدونها أن أؤكد أن الأمر كذلك لأنه لا يمكن أن يكون غير ذلك" .

ويمكن أن نوضح ذلك بتفصيل أكثر من خلال الحوار الذي جري بين سالفياتي وسيمبليسيكو، حيث يقول جاليليو:-

سالفياتي: والآن فلتقولوا لي: لو أن الحجر الساقط من قمة الشراع عندما تكون السفينة مسرعة في الحركة قد وصل إلي نفس الموضع الذي يصل إليه في حالة سكونها،فإي قيمة تأخذها هذه التجربة بالنسبة للسؤال حول سكون أو حركة السفينة ؟

سيمبليسو: لا قيمة إطلاقاً، تماماً مثلما أن دقات النبض لا تقرر ما إذا كان الإنسان نائماً أم مستيقظاً، وذلك لأن النبض يدق بنفس الطريقة في الحالتين .

سالفياتي: تماماً جداً . هل قمتم بإجراء التجربة في حالة السفينة .

سيمبليسيو: إنني لم أقم بها، ولكنني أعتقد أن المؤلفين الذين ذكروهما قد قاموا بها بعناية تامة . وفوق ذلك فإن سبب الاختلاف في الموضع يوجد بوضوح بين أيدينا بحيث لا يكون هناك مجال للشك .

سالفياتي: إنكم أنفسكم تمثلون في الواقع شاهد عيان علي أن هؤلاء المؤلفين قد ذكروا التجربة دون القيام بإجرائها فعلاً . وذلك لأنكم تذكرون أقوالهم بكل ثقة دون أن تقوموا شخصياً بعمل التجربة، وقد اعتمدتم بقلب صاف علي أقوالهم . كذلك فمن المحتمل، بل ومن الضروري أن يكون هؤلاء المؤلفون قد تعرفوا مثلكم، أي أنهم قد اعتمدوا علي أقوالهم علي مؤلفين سابقين دون أن يخطر ببال أحدهم القيام بإجراء التجربة فعلاً، لأن كل من يفعل هذا سيصل إلي نتيجة عكسية تماماً لما كتب . إن المرء سيجد أن الحجر يصل دائما إلي نفس الموضع، سواء أكانت السفينة ساكنة أم متحركة باي سرعة وبما أنه ينبغي علي الرض والسفينة إظهار نفس التصرف، فإن السقوط الراسي للحجر عند قدم البرج لا يمكن أن يؤدي إلي نتيجة محددة بصدد حركة أو سكون الأرض .

سيمبليسيو: لو لم توجهوا نظري إلي طريقة التجربة، فإن حديثنا المتبادل سوف لا ينتهي قريباً، ذلك أن هذه القضية – تبدو لي بعيدة عن التأملات الإنسانية بحيث لا يستطيع أحد هنا التجرؤ علي اعتقاد شئ معين أو تخمينة .

سالفياتي: ومع ذلك فإني أتجرأ علي القيام بهذا .

سيمبلسيو: إنكم لم تقوموا بإجراء التجربة مائة مرة، بل حتي لم تقوموا بإجرائها مرة واحدة . ومع ذلك فأنتم متأكدون من نجاح ما تقولونه، إنني أعود الآن إلي عدم اعتقادي وإلي اقتناعي الابتدائي بأن المؤلفين الرئيسين الذين ذكروا التجربة قد قاموا بها فعلاً، وذلك بالنجاح الذي ذكروه .

سالفياتي: إنني متأكد دون تجربة ان النتيجة ستكون هكذا كما قلت لكم وذلك لأنها لا بد وأن تكون هكذا . بل إنني أزعم أكثر من هذا إنكم أيضاً تعرفون بأنفسكم أن النتيجة لا يمكن أن تكون سوي ذلك حتي لو كنتم تتصرفون – شعورياً أو لا شعورياً – كما لو كنتم لا تعرفون هذا.

وقد تعمدت ذكر هذا النص بالتفصيل لإثبات مدي اهتمام جاليليو بتجربة الفكر حين يتعذر القيام بالتجربة المعملية، وأنه لكي نؤدي تجربة فكر يكون ذلك من خلال عقل، هذا العقل يقوم بسيناريو متخيل يهدف إلي إثبات أو تأكيد فرض ما أو نظرية .

2- تجربة البرق والقطار لأينشتين:

حين أقام أينشتين نظريته في النسبية، أكد أن الحركة النسبية بين جسمين تقتضي في بعض صورها أن يكون أحد الجسمين متحركاً بفعل التحريك، والاخر ليس معرضاً لنفس مقدار فعل التحريك، في حين أن النسبية تجعل المتغيرات جراء الحركة واقعة بمقدار واحد في الجسمين جميعاً في كافة صور الحركة النسبية بينهما .

ولهذا أقام أينشتين نظرية النسبية علي فرضين: -

1- الفرض الأول: وينص علي أنه لا يمكن تحديد حالة الجسم، إن كان ساكناً أو يتحرك حركة مستقيمة منتظمة، من خلال تجارب ميكانيكية أو كهربائية أو ضوئية تجري فيه، لأن قوانين الطبيعة تبقي هي هي في كل المراجع التي يتحرك أحدها بالنسبة لآخر حركة مستقيمة منتظمة .

2- الفرض الثاني: وينص علي أن الأثير فرض لا مبرر لوجوده، وسرعة الضوء ثابتة في الخلاء، سواء أكان المنبع الضوئي ساكناً أم متحركاً، وسواء أكان الراصد ساكناً أم متحركاً .

ونجد أن اجتماع هذين الفرضين لا يمكن أن يتحقق ما لم يحدث تغييرات جذرية لبعض المبادئ الأساسية في المفاهيم العلمية السائدة والمعمول بها، وهذا ما دفع بأينشتين إلي ابتكار تجارب فكرية لتقرير وتثبيت المفاهيم الجديدة التي ينطوي عليها هذان الفرضان مجتمعين . وما كان العلماء آنئذ ليلتقوا إلي شئ من ذلك، لو لم يكن أينشتين منطلقاً في وضع واستنتاج كافة ما جاء به في نظريته من خلال نتائج تجربة ميكلسون مورلي علناً أو ضمناً .

وعندما نظر أينشتين إلي ذلك كله بدا له أنه، لما كانت تجربة ميكلسون مورلي التي أقيمت لإثبات حركة الأرض بدلالة الأثير الساكن، دلت علي أن حركة الضوء لا تصلح لإثبات حركة الأ{ض المنتظمة، فهذا يعني إثبات الفرض الأول للنسبية .كما بدا له،أن حركة الأرض لا تؤثر في حركة الضوء، أي لا يتغير مقدار حركة الضوء بالنسبة للأرض في حركتها بدلالة الشمس، فلو افترضنا عدم وجود الأثير، وهذا يعني عدم وجود التيار الذي يؤثر في حركة الضوء، لحصلنا علي النتيجة نفسها، مع افتراض التقلص بإتجاه الحركة . فلما كانت التجربة التي أقيمت علي الأرض المتحركة، أظهرت عدم تأثر حركة الضوء بحركة الأرض، فإن الأثير فرض لا مبرر له كما أبان الفرض الثاني للنسبي.

وللموائمة بين هذين الفرضين ودمجهما في بوتقة واحدة، وتقرير ما ينتج عنهما من مفاهيم جديدة، وضع أينشتين التجربة الفكرية الشهيرة (ضربتي البرق والقطار ) التي أوجزها في  التالي:

لنتخيل مراقباً يجلس في محطة القطارات في منتصف قطعة مستقيمة (أب) يحمل معه مرآتين تعكسان له ما يحدث في (أ) و (ب) دون أن يحرك رأسه . ولنفرض قطاراً يتحرك يتحرك حركة مستقيمة منتظمة بموازاة القطعة (أب) سرعتها (سر) ويجلس مراقب في منتصفه يحمل مرآتين تعكسان له أيضاً ما يجري في (أ) و(ب) في وقت واحد بالنسبة للمراقب في المحطة، وذلك لحظة وصول المراقب في القطار إلي محاذاة المراقب في المحطة، فهل سيسجل المراقب في المحطة؟ الجواب لا، لن يسجل ذلك، لأنه إذا افترضنا أن القطار كان يتحرك مقترباً من (ب) ومبتعداً عن (أ)، فإن الإشارة القادمة من (ب) تصل إليه قبل القادمة من (أ) فتكون الحادثتان المتواقتتان ( تحدثان في وقت واحد) بالنسبة للمراقب في المحطة، غير متواقتتين (تسبق إحداهما الأخري) بالنسبة للمراقب في القطار .

وكذلك لو افترضنا أن ضربتي البرق وقعتا داخل القطار، احداهما في مقدمته والأخري في مؤخرته، في وقت واحد بالنسبة للمراقب في القطار لحظة محاذاته للمراقب في المحطة، فإن المراقب في القطار سيسجل وقوعهما في وقت واحد، في حين أن المراقب في المحطة لن يسجل وقوع الحادثتين في وقت واحد . فتكون الحادثتان المتواقتتان بالنسبة للمراقب في القطار، غير متواقتتين بالنسبة للمراقب في المحطة .وفي هذا دليل واضح علي أن التواقت نسبي وليس مطلقاً ( أي: أن لكل جملة حركية زمناً خاصاً بها .

ومن هنا يخلص أينشتين من تلك التجربة الفكرية ، إلي  أن الزمن نسبي ويعتمد على محاور إسناد المراقب بالنسبة للحدث كما وان المراقب المتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء بالنسبة للحدث يجد أن الزمن المقاس يتباطأ عنه بالنسبة للمراقب الثابت بالنسبة للحدث. وهذا يعود إلى الفرضية الثانية للنظرية النسبية في ثبات سرعة الضوء في كافة الاتجاهات.

3- تجربة قطة شرودنجر:

هي تجربة فكرية قدمها الفيزيائي النظري النمساوي " إرفين شرودنجر"، ليبين فيها المشاكل التي رآها بتفسير كوبنهاجن وتأثير الوعي الإنساني في عملية الرصد والقياس الفيزيائي خصوصا في الحالات الكمومية. تخيل شرودنجر تجربة فكرية تم فيها حبس قطة داخل صندوق مزود بغطاء, وكان مع القطة عداد " جيجر"، وكمية ضئيلة من مادة مشعة بحيث يكون احتمال تحلل ذرة واحدة خلال ساعة ممكنا. إذا تحللت ذرة فان عداد جيجر سوف يطرق مطرقة تكسر بدورها زجاجة تحتوي حامض الهدروسيانيك الذي يسيل ويقتل القطة فوراً. والآن يقف المشاهد أمام الصندوق المغلق ويريد معرفة هل القطة حية أم ميتة ؟ (من وجهة نظر ميكانيكا الكم، توجد القطة بعد مرور الساعة في حالة مركبة من الحياة والموت). وعندما يفتح المشاهد الصندوق يري القطة إما ميتة أو حية وهذا ما نتوقعه في حياتنا اليومية، ولا نعرف حالة تراكب بين الحياة والموت. تنطبق ميكانيكا الكم فقط على الجسيمات الأولية والذرات، وهي تصف هذا العالم الصغير بدقة لم تستطيعها الميكانيكا الكلاسيكية التي كانت معروفة قبل ابتكار ميكانيكا الكم عام 1923 - 1929. وتعتمد ميكانيكا الكم على وصف الجسيمات وحركتها بدوال موجية. ولدراسة نظام يحتوي على جسمين أو ثلاث، تفترض ميكانيكا الكم دوالا مختلفة لحالات يمكن للنظام أن يتخذها. وتفترض أن تلك الدوال الموجية عبارة عن تراكب مجموع الدوال الموجية لجسيمات النظام. وتعبر عن الحالات التي يمكن للنظام اتخاذها باحتمال تواجد كل منها. وتعرض هذا المنطلق لميكانيكا الكم لنقد كبير وقت ابتكار النظرية، ولا نعرف تماما عما إذا كان شرودنجر يريد بيان انطباق ميكانيكا الكم أيضا على الأجسام الكبيرة (القطة) بفكرته هذه، أم أراد القول بعكس ذلك. فبتطبيق ميكانيكا الكم على نطام يجمع الذرة(جسيم صغير) والقطة (جسم كبير) تفترض ميكانيكا الكم تراكب موجتين: الأولى (الذرة لا تتحلل /القطة حية) والدالة الموجية للحالة الأخرى (الذرة تتحلل /القطة ميتة). وتقول أنه في لحطة فتح الصندوق والمشاهدة تنخزل تلك الحالة المتراكبة فورا، فنري القطة إما حية وإما ميتة. من العلماء الذين رفضوا ميكانيكا الكم وحلولها التي تنتج احتمالات كان أينشتاين الذي أعطى مثالا آخرا في هذا الصدد. وتساءل عن الدالة الموجية التي من المفروض أن تصف منظومة حفنة من البارود بأنها في حالتي تراكب متساويتين، أحداهما البارود السليم والأخرى الإنفجار، وكيف يمكن لهذان أن يجتمعان في تراكب واحد ؟ وظل أينشتاين حتى وفاته يرفض ميكانيكا الكم. ولكن كما قلنا أعلاه لم تستطع الميكانيكا الكلاسيكية حل معضلة تركيب الذرة واستطاعت ميكانيكا الكم ذلك، وفسرت ميكانيكا الكم الطيف الصادر عن الهيدروجين تفسيرا كاملا لم تستطيعه أي نظرية أخرى. ولا يقتصر نجاح ميكانيكا الكم فقط على تفسير الذرة بل أيضا تفسير تركيب الجزيئات والنشاظ الإشعاعي وتحلل ألفا وتحلل بيتا وظاهرة الموصلات الفائقة. ويروى عن ستيفن هوكنج أنه قال:" إذا جاء إليّّ أحد وأراد ذكر قطة شرودنجر فسأرفع عليه بندقيتي !!". موضوع التراكب معروف بالنسبة للذرات، أما بالنسبة للقطة، فإذا نظر ملاحظ خارجي إلى الصندوق بعد انقضاء الساعة فإنه سيجد إحدى النتيجتين: القطة ميتة، أو حية.

لا توجد ملاحظة فيزيائية لجسم كبير معروفة تناظر حالة التراكب، أي أن حالة التراكب ليست حالة مميزة أو ذاتية لأي كمية واقعية يمكن تخيلها ورصدها. ذلك أن الملاحظ لا يستطيع سوى التفريق بين حياة أو موت القطة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم