أقلام فكرية

الجمال والعلم.. تنافر أم توافق!! (1)

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن رجل العلم لا يدرس الطبيعة لفائدتها فقط ، بل يدرسها لأنها تمده بمتعه، وهذه المتعة منبعها أن الطبيعة جميلة، فإن لم تكن كذلك فإنها لا تستحق أن تعرف وأن يعاش فيها. وبالطبع لو أن الفيزيائيين أخذوا في اعتبارهم جمال النظريات أو الأفكار سيكون من السهولة جعل الكيفية الجمالية مرشداً فعالاً لصياغة نظريات رياضية صحيحة للطبيعة.

بيد أن الجمال في تصور الكثير من العلماء والمفكرين لم يكن مرشدا للصياغات النظرية العلمية ؛ فقد شهد النصف الأول من القرن العشرين بعض الدعوات التي تنكر البعد الجمالي للنظريات العلمية، وأن المعيار الجمالي في الحكم علي النظريات هو معيار غير عقلاني، فنجد مثلا " هيلج كراج ":" يقول إن مبدأ الجمال الرياضي شأنه شأن المبادئ الجمالية يمثل إشكالية.المشكلة الأساسية هي أن الجمال هو موضوع جوهري ومن ثم لا يمكن أن يمثل أداة معرفة علي نحو عام بحيث يرشد أو يقيم العلم. إنه كما يقال علي الأقل من الصعب تبرير الحكم الجمالي بواسطة الأحكام العقلية، وعلي أية فإننا نري بألا نهرب للنتيجة القائلة بأن الحكم الجمالي في العلم يكون متأصلا في عوامل ذاتية واجتماعية.

إن معني المعايير الجمالية هو جزء من نظام اجتماعي أكتسبه العلماء، إلا أن العلماء مثل الجماعات العلمية يمكن أن تكون لديها أفكار مختلفة بشكل واسع لمعرفة الكيفية التي يتم بها الحكم علي القيمة الجمالية لنظرية معينة. ولا نتعجب بأن الفيزيائيين الذين بلغوا القمة في التخصص لم يتفقوا علي أن تلك النظريات قد تكون جميلة وقد تكون قبيحة.

ولم يكتف هؤلاء بذلك، بل وجدنا بعض الفلاسفة استنكر دور البعد الجمالي في العلم، حيث يعولون علي مبدأ أن الجمال يمثل شعور لدي الإنسان ولا يوجد في الشئ الذي نصفه، ففي فلسفة ديكارت واسبينوزا المتحدثتان بلسان فيزياء نيوتن، حيث يقول ديكارت " لا يدل الجميل ولا البهيج علي أكثر من موقفنا في الحكم علي الشئ المتكلم عنه "، ويقول اسبينوزا " الجمال ليس صفة للشئ الذي ندرسه وإنما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان الذي يدرس ذاك الشئ".

وهكذا أحدث هذان الفيلسوفان تيارا قويا تحول إلي ما يشبه العقيدة بالنسبة لكل الأجيال التالية بأن الجمال شعور لدي الإنسان، ولا يوجد في الشئ الذي نصفه، ثم جاء دارون فأكد هذا المعني في نظريته عن التطور فقال من الواضح أن الإحساس بالجمال يتوقف علي العقل بصرف النظر عن أي صفة حقيقية في الشئ محل الإعجاب. وصار فرويد علي نهجه معلنا اعتذاره عن اضطراره لحصر الجمال في دائرة الغريزة. فيقول " من دواعي الأسف أن التحليل النفسي ليس لديه ما يقوله عن الجمال، سوي أنه مستمد من مجال الشعور الجنسي وتترتب علي ذلك نتيجتان : الأولي أن الجمال يمثل متعة شخصية وليس موضوعا للمناقشة العلمية. والثانية : أن الجمال لا يمثل حقيقة واقعية ولا يربطه بالعلم شئ، فعالم الحشرات لا شأن له بجمال الفراشة والإنسان المتذوق لجمال الفراشة لا يهمه أن يعرف شيئا عن جهازها الهضمي.

ومن جهة أخري فقد قدمت الوضعية المنطقية في منتصف القرن العشرين أطروحة تبين أن العلماء يعملون بنجاح في النظرية العلمية بإدخال " سياقين ". الأول هو "سياق الكشف"، وفي هذا السياق ينشئ العلماء النظرية من خلال وسائل الحدوث والتخمينات. وتلك الأفعال قد لا تكون مرشدة من خلال وصايا المنطق والعقلانية، ولذلك لا يمكن تحليلها بدون إطار عقلاني : إذ لا يوجد هناك منطق للكشف العلمي ولكن توجد سيكولوجيا هذا الكشف.

وفيما بعد أدخل العلماء "سياق التبرير"، وفي هذا السياق يقوم العالم وغيره بوضع اختبارات للنظرية تبين أن حدوثها يتمثل في سياق الكشف. وهذا الاختبار يحدث في معيار منطقي – تجريبي يؤكد عقلانية تعاقب النظريات. والوضعيون المنطقيون قد اعترفوا بأن العوامل الجمالية يمكن أن تؤثر علي سلوك العلماء في سياق الكشف، حيث أنهم يعتقدون بأن العالم يمكن أن يستلهم صياغة الفرض من خلال استيعاب أي نوع. بيد أن الوضعيون المناطقة قد رفضوا الاقتراح القائل بأن العوامل الجمالية تلعب أي جزء في سياق التبرير، وذلك لأنهم أدركوا أنه من المفترض أنه لا توجد طريقة للمعيار الجمالي بحيث يكون بإمكانها استيعاب المعيار المنطقي والتجريبي.

وحول هذا الاتجاه نحو العوامل الجمالية في العلم قد عبر عنه " هيربرت فايجل قائلاً "... بضعة كلمات على بَعْض سوءِ الفهم الناجم عن القلقِ السائدِ من خلال التاريخ ولا سيما سيكولوجيا المعرفة العلمية . فمما هو جدير بالثناءِ (وإن كان من المحتمل أن يكون يوتوبي) أن ما يمكن أن يتم الوصول إليه وهو أن نقدم معا أقرب ثقافتين (أَو لتَجسير " الشقّ " في ثقافتِنا) والمفكرون تميل أكثر أذهانهم إلي التشديد علي معرفة كيف أن العلوم والفنون لها سمات مشتركة.

إنّ الجسورَ سالكة فقط فيما يتعلق بالسماتِ النفسيةِ للمعرفة العلمية، الإبداع بالتأكيد هناك ملامح جمالية في العلم لكن الشئ الأساسي في تقييمِ إ المعرفةِ العلميةِ هو القول (في أحسن الأحوال) بأنه ثانوي في تقييمِ أعمال الفن - والعكس بالعكس.

وهنا حاول الوضعيون المناطقة وضع معيار تجريبي للمفاضلة بين النظريات العلمية، وهذا المعيار قائم علي فكرة أن الهدف الاسمي للعلم، هو أنه تقديم وصف كامل وملائم للعالم. والنظريات تقترب من الوصول إلي درجة، هذه الدرجة تجعل النظرية تمتلك خاصية " الكفاية التجريبية".

والقضية هي أن النظرية لها كفاية تجريبية للوسائل الممكنة ذات درجة الأعلى، وهذا هو مطلبها وهو الصدق في كل الظواهر القابلة للملاحظة، بما فيها الظواهر المتضمنة في الماضي والظواهر التي من الصعب أن نصل إليها من جهة أخري.

القضية هي أن النظرية لها كفاية تجريبية للوسائل ذات الدرجة الأقل، وهذا هو مطلبها وهو الصدق في النسبة المعروفة للظواهر القابلة للملاحظة. وأصحاب الواقعية العلمية قد قالوا أن الهدف الأسمي للعلم هو أن تكون النسبة التي نصف بها العالم هي أن تكون صادقة، ومع هذا فإنه يمكن أن تقترب من هذا التحليل ، حيث يرون أن درجة الكفاية التجريبية للنظرية هي أن نتيجة وجودها متوقف علي أن تطابق الدرجة يكون من خلال الاقتراب من الصدق.

وبداية فإنه علي ما يبدو أن المعيار الوحيد لتقييم النظرية هو أن النموذج المنطقي – التجريبي يحتاج في أن يعول علي كفاية المعيار التجريبي ذاته: وأفضل النظرية التي لها درجة أعلي من الكفاية التجريبية عن النظرية التي لها درجة أقل من تلك الكفاية.

ومع ذلك فإن معني الكفاية التجريبية هو أنه من المستحيل استخدام هذا المعيار في الاختيارات التطبيقية بين النظريات. والطريقة الوحيدة التي يمكن أن نشيد بها النظرية، هي تلك النظرية التي لها كفاية تجريبية ذات درجة أعلي بحيث يمكن البرهنة عليها من خلال تطابقها مع كل المعطيات التجريبية التي يمكن أن تكون قد تجمعت من خلال كل المصادر في زمن غير محدد، وبالمثل فإنه يمكننا أن نقيم فقط نظرية لها درجة أقل من الكفاية التجريبية من خلال تطابقها مع النسبة المناظرة لتلك المعطيات.

وللحصول علي القراءة المباشرة لدرجة الكفاية التجريبية للنظرية، فإنه كثيراً ما يكون مفهوم العدد لديه القدرة علي أن يصف ويميز التنبؤات المؤيدة وغير المؤيدة للنظرية التي تم الوصول إليها بدقة، مثل المهمة التي لا يمكن أن تكتمل في وقت محدد عن طريق تعميمات المجال الأوسع من تحصيلات الحاصل والمتناقضات الأخري. ولذا فإن معيار الكفاية التجريبية ذاته لا يقدم أساس تجريبي للمفاضلة بين النظريات المتنافسة.

والعديد ممن تابعوا الاعتقاد بأن حيثية تقييم النظريات علي أساس أن المعيار التجريبي يتصل بالعلم ولا يظهر من خلال الاعتبارات الجمالية. وهذا الاعتقاد هو غالبا ما يعبر عنه في فكرة أن العلماء يلجأؤن إلي المعيار الجمالي علي أنه فقط معيار مدمر وعندما يفاضل العلم بين النظريات، فإن هذه المفاضلة لا تتم إلا من خلال قيمة وأهمية المعيار التجريبي.

وهذا المطلب هو ما تطلع إليه " فريتزر وهليتش" يوجد؛ الجمال الأعظم في النظرية الفيزيائية؛ حيث أن هذا الجمال قد يؤثر علي مصداقية نظريةِ واحدة على آخرِ في غيابِ المعاييرِ الأكثرِ صرامة. فمثلا نظرية النسبية العامة كانت جميلة جدا بحيث تم تفضيلها عن النظريات المنافسةِ طالما تلك النظرياتِ المنافسةِ لا تَستطيعُ وصف الوقائع التجريبية.

وهذه الرسالة تتضمن أن الاعتبارات الجمالية قد تتوقف عن حمل وزنا إذا ما اكتشفت أن نظرية النسبية تبرر وصف الوقائع التجريبية سواء كانت وقائع جيدة أو رديئة ممن تنافسها من النظريات الأخري. وهذه النظرة قد تصل إلي حد إنكار أهمية المعيار الجمالي : فهو يَسْمحُ لهم فقط في النظر في الحالات التي يثبت فيها العلماء المعيار التجريبي والتي سوف لا تكون له نتيجة.

إن النموذج المنطقي التجريبي لتقييم النظرية تكون مهمته هي وصف المبادئ العقلانية لما يقوم به العلماء للمفاضلة بين النظريات. وللانتهاء من هذه المهمة: إن الاختيارات العديدة جدا بين النظريات تتمثل في أن يقوم العلماء بما يمكن تفسيره من خلال افتراض أن النظريات تتمسك بهذا المعيار كما في القوائم الستة السابقة.

ولذلك، فإنه بالنسبة للوضعية المنطقية فإنه لا توجد مثل هذه الظاهرة التي تتعلق بتقييم العلماء لنظرياتهم تقييما جمالياً، وكذلك لا توجد مثل هذه الظاهرة لكونها تمثل مشكلة لفلاسفة العلم، من الممكن أن العلماء قد يتأثروا بالعوامل الجمالية في الكشف. لكن الرسم يمكن أن تصور أن تلك الظاهرة يجب أن تكون مهمة لكتاب السير وعلماء النفس أكثر من فلاسفة العلم.

إن الوضعية المنطقية عموما قد أعتبرت كل ذلك ملغي في داخل فلسفة العلم، ولكن لا تزال المناقشة تلقي بظلالها علي دور العوامل الجمالية في العلم. وتستمر وجهة النظر التي تعول علي أن العوامل الجمالية يمكن أن تكون مهمة في إبداع النظرية، وأن المعيار التجريبي فقط يمكن أن يلعب دور في قبوله، فمثلا " دين ك. سيمونتن كتب قائلاً : "لا يوجد عالم من العلماء بما فيهم ديراك تتوفر لدية الجرأة في أن يبرر النظرية علي أساس غير عقلاني اللهم إلا علم الجمال"... وللحديث يقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل.

....................

المراجع

1- روبرت م. أغروس، جورج ن. ستانسيو : العلم في منظوره الجديدة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 134- جمادي الآخرة 1409هـ - فبراير /شباط 1989م، ص 45.

2- بول ديفيز وجون جريبين : أسطورة المادة – صورة المادة في الفيزياء الحديثة، ترجمة علي يوسف علي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996.

3- ادمون و. ستيورت : حياة الروح في ضوء العلم، ترجمة إسماعيل مظهر، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960.

 

 

في المثقف اليوم